مجالس العجمان الرسمي

مجالس العجمان الرسمي (http://www.alajman.ws/vb/index.php)
-   مجلس الدراسات والبحوث العلمية (http://www.alajman.ws/vb/forumdisplay.php?f=41)
-   -   الدوله العثمانيه (http://www.alajman.ws/vb/showthread.php?t=14727)

د.فالح العمره 26-09-2006 02:12 PM

الدوله العثمانيه
 
الدولة العثمانية (1) : جذور الأتراك وأصولهم ومواطنهم


في منطقة ما وراء النهر والتي نسميها اليوم ( تركستان ) والتي تمتد من هضبة منغوليا وشمال الصين شرقاً إلى بحر الخزر ( بحر قزوين ) غرباً ، ومن السهول السيبرية شمالاً إلى شبه القارة الهندية وفارس جنوباً ، استوطنت عشائر الغز وقبائلها الكبرى تلك المناطق وعرفوا بالترك أو الأتراك .

ثم تحركت هذه القبائل في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي ، في الانتقال من موطنها الأصلي نحو آسيا الصغرى في هجرات ضخمة ، وذكر المؤرخون مجموعة من الأسباب التي ساهمت في هجرتهم ، فالبعض يرى أن ذلك بسبب عوامل اقتصادية ، فالجدب الشديد وكثرة النسل جعلت هذه القبائل تضيق ذرعاً بمواطنها الأصلية فهاجرت بحثاً عن الكلأ والمراعي والعيش الرغيد ، والبعض الآخر يعزو تلك الهجرات لأسباب سياسية حيث تعرضت تلك القبائل لضغوط كبيرة من قبائل أخرى أكثر منها عدداً وعدة وقوة وهي المغولية فأجبرتها على الرحيل لتبحث عن موطن آخر وتترك أراضيها بحثاً عن نعمة الأمن والاستقرار.

واضطرت تلك القبائل المهاجرة أن تتجه غرباً ، ونزلت بالقرب من شواطئ نهر جيحون ، ثم استقرت بعض الوقت في طبرستان وجرجان ، فأصبحوا بالقرب من الأراضي الإسلامية والتي فتحها المسلمون بعد معركة نهاوند سنة 21 هـ .

في عام 22 هـ تحركت الجيوش الإسلامية إلى بلاد الباب لفتحها وكانت تلك الأراضي يسكنها الأتراك ، وهناك التقى قائد الجيش الإسلامي عبد الرحمن بن ربيعة بملك الترك شهربراز ، فطلب من عبد الرحمن الصلح وأظهر استعداده للمشاركة في الجيش الإسلامي لمحاربة الأرمن ، فأرسله عبد الرحمن إلى القائد العام سراقة بن عمرو ، الذي قبل منه ذلك وكتب يعلم عمر بن الخطاب بذلك فوافقه عليه ، وعقد الصلح ولم يقع بين المسلمين والترك قتال ، بل ساروا جميعاً لفتح بلاد الأرمن . وزالت دولة الفرس وتم الاتصال بالشعوب الإسلامية واعتنق الأتراك الإسلام وانضموا لصفوف المجاهدين .

وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه تم فتح بلاد طبرستان ، ثم عبر المسلمون نهر جيحون سنة 31 هـ ونزلوا بلاد ما وراء النهر ، فدخل كثير من الترك في دين الإسلام .

وواصلت الجيوش الإسلامية تقدمها في تلك الأقاليم ، فتم فتح بلاد بخارى في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وتوغلت تلك الجيوش حتى وصلت سمرقند ، حتى صارت جميع تلك الأقاليم تحت الحكم الإسلامي .

وزاد عدد الترك في بلاط الخلفاء والأمراء العباسيين وشرعوا في تولي المناصب القيادية والإدارية في الدولة ، فكان منهم الجند والقادة والكتاب ، وقد التزموا بالهدوء والطاعة حتى نالوا أعلى المراتب .

ولما تولى المعتصم العباسي الخلافة فتح الأبواب أمام النفوذ التركي وأسند إليهم مناصب الدولة القيادية وأصبحوا يشاركون في تصريف شؤون الدولة ، مما أدى إلى سخط شديد لدى الناس والجند فخشي المعتصم من نقمة الناس فأسس مدينة جديدة هي سامراء وسكنها هو وجنده وأنصاره .

وهكذا ظهر الأتراك وعلا شأنهم حتى أسسوا لهم دولة كبيرة كانت على صلة بخلفاء الدولة العباسية عرفت بالدولة السلجوقية .






الدولة العثمانية لعلي محمد صلابي ، ص25

د.فالح العمره 26-09-2006 02:14 PM

الدولة العثمانية (2) : الأناضول قبل العثمانيين


كانت بلاد الأناضول أو آسيا الصغرى من ضمن أملاك الإمبراطورية البيزنطية قبل الإسلام ، ولما جاء الإسلام قضى على الإمبراطورية الفارسية ، وانتزعت الدولة الإسلامية من الإمبراطورية البيزنطية بلاد الشام ومصر ثم سائر الشمال الإفريقي، أما بلاد الأناضول فقد تمكن المسلمون من انتزاع أجزائها الشرقية من أطراف أرمينيا ، ومن ناحية أخرى حاصر المسلمون القسطنطينية منذ عام 50 هـ في أيام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما غير أنهم عجزوا عن فتحها ، وتكرر الغزو مرات ولكنهم لم يوفقوا فيه ، وبقيت قاعدة للإمبراطورية البيزنطية ، وبقيت ذرا جبال طوروس حداً فاصلاً بين المسلمين والبيزنطيين مدة أيام الدولة الأموية ، وقد أقيمت الثغور على تلك الذرا ، وتتعاقب الصوائف والشواتي على تلك الثغور وعلى أعمال الغزو والجهاد التي ما انقطعت ، واشتهر من القادة مسلمة بن عبد الملك ومروان بن محمد بن عبد الملك الذي أصبح خليفة فيما بعد .

وجاء العباسيون وعملوا على توطين أقسام من جيش خراسان في الأجزاء الأناضولية الخاضعة لهم ، وكان الخليفة المهدي يستقدم الأتراك من فرغانة وبلخ ويسكنهم الثغور وكلها في المنطقة الجبلية الفاصلة بين المسلمين والروم .

وقد زاد عدد الترك في هذه المناطق في عهد المأمون والمعتصم ، وكانت أعمال الجهاد تتجاوز الثغور أحياناً وتدخل إلى الجهات الغربية ، ودخل المعتصم عمورية وهي تبعد عن منطقة الثغور أكثر من خمسمائة كيلومتر ، وخرب المعتصم المدينة ، وأحرقها .

وفي عهد المتوكل أصبح الأتراك هم عماد الجيش في الدولة ، وغدت الثغور الأناضولية تحت إمرتهم ، وكانوا يخضعون للخليفة العباسي في بغداد ، أو للحمدانيين في حلب ، أو للطولونيين في الفسطاط ، ورغم هذا الانقسام فإن القتال لم ينقطع بين المسلمين والروم ، وكانت الحروب سجالاً ، بين مد وجزر.

وضعفت الدولة العباسية وفكر الإمبراطور البيزنطي بالقضاء على الدولة العباسية ، وفي هذا الوقت كان السلاجقة الأتراك قد وصلوا إلى غربي الدولة ، ودخل زعيمهم طغرل بك بغداد ، وأصبح السيد المطاع فيها ، وبدأ صراعه مع الروم ، فاتجه إلى ديار بكر ، وقاتل البيزنطيين وانتصر عليهم ، وعقد معهم هدنة ، واشترط فيها بناء مسجد القسطنطينية ، فأقيم المسجد وأقيمت فيه الصلاة والجمعة ، وخطب لطغرل بك فيه .وتوفي طغرل بك فخلفه ابن أخيه سليمان بن داود ، غير أن أخاه ألب أرسلان قد ثار عليه وتسلم الأمر ، ودخل مع الروم في الحرب وانتصر عليهم انتصاراً حاسماً في معركة ملاذكرت عام 463 ( اقرأ تفاصيل المعركة في قسم منعطفات ، إن شئت ) . وانساح السلاجقة بعد تلك المعركة في الأناضول حتى الجهات الغربية فملؤوها ، وأسسوا أمارات فيها ، ثم قتل ألب أرسلان عام 465 على يد كمين نصب له وهو في طريقه إلى الصين .

وتمكن هؤلاء السلاجقة الذين انتشروا في الأناضول أن يقدموا خدمات للمسلمين في أول أمرهم إذا استردوا من الروم بعض الأجزاء التي سبق لهم أن أخذوها من المسلمين ومنها أنطاكية ومنبج ، وتأسست أمارات سلجوقية في الأناضول وأرمينيا ومن أبرزها التي أسسها سليمان بن قطلمش بن أرسلان بن سلجوق والتي كان مقرها قونية والتي أطلق عليها سلاجقة الروم ، ثم أعقبها قيام إمارات أخرى .

وفي الوقت نفسه قامت دويلات أرمنية في أرمينيا ، وأسس الأرمن الذين فروا من وجه السلاجقة واتجهوا إلى الغرب دويلة في كيليكيا مقرها أضنة ، وبقيت قائمة حتى انهارت على يد المغول ، وزاد توسع السلاجقة وانتشارهم في الأناضول في أيام ملكشاه بن ألب أرسلان .

وجاء الصليبيون عام 489 بدافع صليبي وحقد ، وإن كانوا قد احتجوا بأن السلاجقة يسيئون معاملة النصارى وهم في طريقهم إلى القدس ، واستطاع هؤلاء الصليبيون أن يجتازوا الأناضول التي يعمرها السلاجقة ، وأن يفصلوا المناطق الغربية عن المناطق الداخلية ، وفي الوقت نفسه فقد أسسوا إمارة صليبية في الرها ، ودعمهم الأرمن الذين كانت لهم دويلة في كيليكيا ، واضطر الأمير السلجوقي قليج أرسلان صاحب نيقية أن ينقل مقر أمارته من نيقية إلى قونية ، ثم اختلف الإمبراطور البيزنطي مع الصليبيين فتركهم وشأنهم ، واتجه لاسترداد بعض أملاك السلاجقة فدخل أزمير وأفسوس لانقطاع هذه المناطق عن بقية السلاجقة في الداخل بالصليبيين .

وقامت الحروب الصليبية في بلاد الشام ووقف آل زنكي في وجههم ، وتوفي نور الدين محمود ، وقام صلاح الدين الأيوبي بالجهاد ، وانتصر على الصليبيين ودخل القدس ، وبموته انفرط عقد الدولة الأيوبية وتفرقت كلمة أمرائها ، واستقل كل من أولاده في جزء منها ، ولم تكن هناك دولة أيوبية واحدة ، ولم تجد تدخلات الخليفة العباسي للصلح بينهم .

وفي هذه الأثناء بدأ الهجوم المغولي من الشرق ، فخاف بعض الحكام فانضموا إليه ، وحدث اجتماع لهؤلاء الذين تحالفوا مع المغول عام 634، وتقدم المغول نحو الغرب ، ووقعت بلاد سلاجقة الروم عام 641 هـ تحت سيطرة المغول ، واستسلم أمراؤها لهم ، وصاروا معهم حرباً على المسلمين ، وفتحوا بلادهم لهم ، وهادن أمير الموصل هولاكو ، ويعد الأراتقة في ماردين عمالاً للمغول ، وساهم ملك الأرمن في احتلال بغداد ، ومشى مع المغول نحو القدس ليملكها ، ولم يتعرض المغول فعلاً للنصارى بل كانت بيوتهم آمنة في بغداد ودمشق .
ثم هزم المغول في عين جالوت عام 658 ، وخرجوا من بلاد الشام ، فسار الظاهر بيبرس عام 675 إلى بلاد سلاجقة الروم لينتقم منهم ، والتقى بهم وبحلفائهم المغول والكرج في معركة البستان شمال مرعش ، وانتصر عليهم انتصاراً مبيناً ، ثم سار حتى فتح عاصمتهم قيصرية ، وقد أحسن إلى أهلها ، وأعطاهم الأمان ، وخطب له في مساجدها .

ومع ضعف المغول زالت دولة سلاجقة الروم ، وقامت عدة إمارات في الأناضول التي كانت متنافسة مع بعضها البعض ، وتنتقل المدن من يد إمارة إلى أخرى أو المناطق ثم تعود للإمارة الأولى عندما تتقوى أو تجد لها دعماً ، حتى قضت الدولة العثمانية عليها جميعاً في أوقات متفاوتة .




التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/41

د.فالح العمره 26-09-2006 02:15 PM

الدولة العثمانية (3 ) : قيام الدولة العثمانية


ينتسب العثمانيون إلى قبيلة قاتي التركمانية والتي كانت عند بداية القرن السابع الهجري الموافق الثالث عشر الميلادي تعيش في كردستان ، وتزاول حرفة الرعي ، ونتيجة للغزو المغولي بقيادة جنكيزخان نحو الغرب قاصداً دولة خوارزم بالدرجة الأولى ، ثم توجه بعد ذلك نحو العراق ومناطق شرق آسيا الصغرى ، وكان يرأسهم ( سليمان شاه بن قيا ألب ) جد عثمان ، الذي قرر الهجرة في عام 617 هـ الموافق 1220م مع قبيلته وفيها ألف فارس من كردستان إلى بلاد الأناضول فاستقر في مدينة أخلاط – تقع في شرق تركيا الحالية – .

ولما هدأت موجة المد المغولي رغب في الرجوع إلى موطنه الأول ، وتابع إلى ديار بكر ، واتجه نحو الرقة ، وأراد عبور نهر الفرات فهوى فيه وغرق عام 628 هـ ، فدفن هناك قرب قلعة جعبر .

واختلف أبناؤه الأربعة في الطريق التي يجب أن يسلكوها ، أما ابنه الأكبـر (سنقورتكن ) فقد حقق رغبة أبيه ورجع مع أخيه ( كون طغري ) إلى موطنهـم الأول ، وكان ( سنقورتكن ) هو الذي تولى إمرة القبيلة وزعامتها بعد موت أبيه ، وأما أخواه الآخران وهما ( أرطغرل ) و ( دندان ) فقد عادا أدراجهما ، وكـان ( أرطغرل ) الأوسط وزعيم المجموعة المتبقية من القبيلة ، والذي واصل تحركه نحو الشمال الغربي من الأناضول ، وكان معه حوالي مائة أسرة وأكثر من أربعمائة فارس.

وأرسل أرطغرل ابنه ( ساوجي ) ليطلب من الأمير علاء الدين السلجوقي أمير إمارة قرمان أرضاً تعيش فيها القبيلة كي لا تقع في نزاعات ، غير أن ساوجي لم يعد إلى أبيه إذ توفي الطريق .

وفي هذه الأثناء إذ بأرطغرل يسمع عن بعد جلبة وضوضاء ، فلما دنا منها وجد قتالاً حامياً بين مسلمين ونصارى ، وكانت كفة الغلبة للجيش البيزنطي ، فما كان من أرطغرل إلا أن تقدم بكل حماس وثبات لنجدة إخوانه في الدين والعقيدة ، فكان ذلك التقدم سبباً في نصر المسلمين على النصارى .

وبعد انتهاء المعركة قدر قائد الجيش الإسلامي السلجوقي الأمير علاء الدين السلجوقي هذا الموقف لأرطغرل ومجموعته ، فأقطعهم أرضاً في الحدود الغربية للأناضول بجوار الثغور في الروم ، وأتاحوا لهم بذلك فرصة توسيعها على حساب الروم ، وكانت مساحة هذه الأرض 2000 كيلومتر مربع استطاع أرطغرل أثناء جهاده ضد البيزنطيين توسيعها إلى 4800 كيلو متر مربع .

وحقق السلاجقة بذلك حليفاً قوياً ومشاركاً في الجهاد ضد الروم ، وقد قامت بين هذه الدولة الناشئة وبين سلاجقة الروم علاقة حميمة نتيجة وجود عدو مشترك لهم في العقيدة والدين ، وقد استمرت هذه العلاقة طيلة حياة أرطغرل ، حتى إذا توفي سنة 687 هـ خلفه من بعده في الحكم ابنه عثمان الذي سار على سياسة أبيه السابقة في أراضي الروم ، والذي إليه تنسب الدولة العثمانية فهو مؤسسها وأول حكامها .

وليس صحيحاً ما يقال من أن عثمان هو أول من أسلم من تلك القبيلة ، فإن القبيلة كانت مسلمة بالأصل قبل أن ترحل من مكانها الأول مع جده ، إذ معروف أن هذه القبيلة تركمانية ، وكلمة تركمان تطلق على الترك الذين يعتنقون الإسلام ، واسم زعيمها سليمان دليل على ذلك .



التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/59 ، والدولة العثمانية لعلي الصلابي ، ص 51 ، وتاريخ الدولة العثمانية ، ص 11

د.فالح العمره 26-09-2006 02:16 PM

الدولة العثمانية (4) : عثمان بن أرطغرل المؤسس


لقد تعاقب على إمارة السلطنة العثمانية قبل أن تعلن نفسها خلافة إسلامية سلاطين أقوياء ، ويعتبر عثمان بن أرطغرل هو مؤسس الدولة وبانيها ، فماذا صنع عثمان :

لقد بدأ عثمان يوسع إمارته فتمكن أن يضم إليه عام 688 قلعة قره حصا (القلعة السوداء) أو أفيون قره حصار ، فسر الملك علاء الدين بهذا كثيراً. فمنحه لقب (بيك). والأراضي التي يضمها إليه كافة ، وسمح له بضرب العملة ، وأن يذكر اسمه في خطبة الجمعة.

وفي عام 699 أغارت المغول على إمارة علاء الدين ففر من وجههم ، والتجأ إلى إمبراطور بيزنطية ، وتوفي هناك في العام نفسه ، وإن قيل أن المغول قد تمكنوا من قتله ، وتوليه ابنه غياث الدين مكانه ، ثم إن المغول قد قتلوا غياث الدين ، ففسح المجال لعثمان إذ لم تعد هناك سلطة أعلى منه توجهه أو يرجع إليها في المهمات ، فبدأ يتوسع ، وإن عجز عن فتح أزميد (أزميت) ، وأزنيق (نيقية) رغم محاصرتهما ، واتخذ مدينة (يني شهر) أي المدينة الجديدة قاعدة له ، ولقب نفسه باديشاه آل عثمان.

واتخذ راية له ، وهي علم تركيا اليوم ، ودعا أمراء الروم في آسيا الصغرى إلى الإسلام ، فإن أبوا فعليهم أن يدفعوا الجزية ، فإن رفضوا فالحرب هي التي تحكم بينه وبينهم ، فخشوا على أملاكهم منه ، فاستعانوا بالمغول عليه ، وطلبوا منهم أن ينجدوهم ضده ، غير أن عثمان قد جهز جيش بإمرة ابنه أورخان الذي قارب الثلاثين من العمر ، وسيره لقتال المغول فشتت شملهم .

ثم عاد واتجه إلى بورصة (بروسة) فاستطاع أن يدخلها عام 717 وتعد من الحصون الرومية المهمة في آسيا الصغرى ، وأمن أهلها وأحسن إليهم فدفعوا له ثلاثين ألفاً من عملتهم الذهبية ، وأسلم حاكمها (أفرينوس) ، فمنحه عثمان لقب بيك ، وأصبح من القادة العثمانيين البارزين. وتوفي عثمان عام 726 ، وقد عهد لابنه أورخان بالحكم بعده.

أهم الصفات القيادية في عثمان :

1- الشجاعة : عندما تنادى أمراء النصارى في بورصة ومادانوس وأدره نوس وكته وكستله البيزنطيون في عام 700هـ لتشكيل حلف صليبي لمحاربة عثمان واستجابت النصارى لهذا النداء وتحالفوا تقدم عثمان بجنوده وخاض الحروب بنفسه وشتت الجيوش الصليبية وظهرت منه شجاعة أصبحت مضرب المثل .

2- الحكمة : لقد رأى من الحكمة أن يقف مع السلطان علاء الدين ضد النصارى ، وساعده في افتتاح جملة من مدن منيعة ، وعدة قلاع حصينة ، ولذلك نال رتبة الإمارة من السلطان السلجوقي علاء الدين. وسمح له سك العملة باسمه ، مع الدعاء له في خطبة الجمعة في المناطق التي تحته.

3- الإخلاص : عندما لمس سكان الأرضي القريبة من إمارة عثمان إخلاصه للدين تحركوا لمساندته والوقوف معه لتوطيد دعائم دولة إسلامية تقف سداً منيعاً أمام الدولة المعادية للإسلام والمسلمين.

4- الصبر : وظهرت هذه الصفة في شخصيته عندما شرع في فتح الحصون والبلدان ، ففتح في سنة 707هـ حصن كته ، وحصن لفكة ، وحصن آق حصار ، وحصن قوج حصار. وفي سنة 712هـ فتح صحن كبوه وحصن يكيجه طرا قلوا ، وحصن تكرر بيكاري وغيرها ، وقد توج فتوحاته هذه بفتح مدينة بروسة في عام 717هـ ، وذلك بعد حصار صعب و شديد دام عدة سنوات ، كان من أصعب ما واجهه عثمان في فتوحاته.

5- الجاذبية الإيمانية : وتظهر هذه الصفة عندما احتك به اقرينوس قائد بروسه واعتنق الإسلام أعطاه السلطان عثمان لقب (بك) وأصبح من قادة الدولة العثمانية البارزين فيما بعد ، وقد تأثر كثير من القادة البيزنطيين بشخصية عثمان ومنهجه الذي سار عليه حتى امتلأت صفوف العثمانيين منهم ، بل إن كثيراً من الجماعات الإسلامية انخرطت تحت لواء الدولة العثمانية كجماعة (غزياروم) أي غزاة الروم ، وهي جماعة إسلامية كانت ترابط على حدود الروم وتصد هجماتهم عن المسلمين منذ العصر العباسي ، وجماعة (الإخيان) (أي الإخوان) وهم جماعة من أهل الخير يعينون المسلمين ويستضيفونهم ويصاحبون جيوشهم لخدمة الغزاة ويتولون إقامة المساجد والتكايا و الفنادق، وجماعة (حاجيات روم) أي حجاج أرض الروم ، وكانت جماعة على فقه بالإسلام ومعرفة دقيقة لتشريعاته ، وكان هدفها معاونة المسلمين عموماً والمجاهدين خصوصاً وغير ذلك من الجماعات.

6- عدله : تروى معظم المراجع التركية التي أرخت للعثمانيين أن أرطغرل عهد لابنه عثمان مؤسس الدول العثمانية بولاية القضاء في مدينة قره جه حصار بعد الاستيلاء عليها من البيزنطيين في عام 684هـ ، وأن عثمان حكم لبيزنطي نصراني ضد مسلم تركي ، فاستغرب البيزنطي وسأل عثمان : كيف تحكم لصالحي وأنا على غير دينك ، فأجابه عثمان : بل كيف لا أحكم لصالحك ، والله الذي نعبده ، يقول لنا : ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل )) فاهتدى الرجل وقومه إلى الإسلام. لقد عثمان استخدم العدل مع رعيته وفي البلاد التي فتحها ، فلم يعامل القوم المغلوبين بالظلم أو الجوار أو التعسف أو التجبر ، أو الطغيان ، أو البطش .

7- الوفاء : كان شديد الاهتمام بالوفاء بالعهود ، فعندما اشترط أمير قلعة اولوباد البيزنطية حين استسلم للجيش العثماني ، أن لا يمر من فوق الجسر أي عثماني مسلم إلى داخل القلعة التزم بذلك وكذلك من جاء بعده.

8- التجرد : فلم تكن أعماله وفتوحاته من أجل مصالح اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك ، بل كان فرصة تبليغ دعوة الله ونشر دينه ولذلك وصفه المؤرخ احمد رفيق بأنه (كان عثمان متديناً للغاية ، وكان يعلم أن نشر الإسلام وتعميمه واجب مقدس وكان مالكاً لفكر سياسي واسع متين ، ولم يؤسس عثمان دولته حباً في السلطة وإنما حباً في نشر الإسلام). ويقول مصر أوغلو : " لقد كان عثمان بن أرطغرل يؤمن إيماناً عميقاًً بأن وظيفته الوحيدة في الحياة هي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ، وقد كان مندفعاً بكل حواسه وقواه نحو تحقيق هذا الهدف .

لقد كانت شخصية عثمان متزنة وخلابة بسبب إيمانه العظيم بالله تعالى واليوم الآخر ، ولذلك لم تطغ قوته على عدالته ، ولا سلطانه على رحمته ، ولا غناه على تواضعه ، وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه ، ولذلك أكرمه الله تعالى بالأخذ بأسباب التمكين والغلبة ، فجعل له مكنة وقدرة على التصرف في آسيا الصغرى من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار ، لقد كانت رعاية الله له عظيمة ولذلك فتح له باب التوفيق وحقق ما تطلع إليه من أهداف وغاية سامية .

الدستور الذي سار عليه العثمانيون :

كانت حياة الأمير عثمان جهاداً ودعوة في سبيل الله ، وكان علماء الدين يحيطون بالأمير ويشرفون على التخطيط الإداري والتنفيذ الشرعي في الإمارة، ولقد حفظ لنا التاريخ وصية عثمان لابنه أورخان وهو على فراش الموت وكانت تلك الوصية فيها دلالة حضارية ومنهجية شرعية سارت عليها الدولة العثمانية فيما بعد، يقول عثمان في وصيته : ( يا بني : إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين ، وإذا واجهتك في الحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلاً.. يا بني : أحط من أطاعك بالإعزاز، وأنعم على الجنود ، ولا يغرك الشيطان بجندك وبمالك ، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة.. يا بني : إنك تعلم أن غايتنا هي إرضاء الله رب العالمين ، وأن بالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق ، فتحدث مرضات الله جل جلاله .. يا بنى : لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة الحكم أو سيطرة أفراد ، فنحن بالإسلام نحيا ونموت ، وهذا يا ولدي ما أنت له أهل) .

وفي كتاب (التاريخ السياسي للدولة العلية العثمانية) تجد رواية أخرى للوصية ( اعلم يا بني ، أن نشر الإسلام ، وهداية الناس إليه ، وحماية أعراض المسلمين وأموالهم ، أمانة في عنقك سيسألك الله عز وجل عنها) .

وفي كتاب ( مأساة بني عثمان ) نجد عبارات أخرى من وصية عثمان لابنه أورخان تقول : ( يا بني ، أنني انتقل إلى جوار ربي ، وأنا فخور بك بأنك ستكون عادلاً في الرعية ، مجاهداً في سبيل الله ، لنشر دين الإسلام.. يا بني ، أوصيك بعلماء الأمة ، أدم رعايتهم ، وأكثر من تبجيلهم ، وانزل على مشورتهم ، فانهم لا يأمرون إلا بخير.. يا بني ، إياك أن تفعل أمراً لا يرضى الله عز وجل ، وإذا صعب عليك أمر فاسأل علماء الشريعة ، فانهم سيدلونك على الخير.. واعلم يا بني أن طريقنا الوحيد في هذه الدنيا هو طريق الله ، وأن مقصدنا الوحيد هو نشر دين الله ، وأننا لسنا طلاب جاه ولا دنيا ).

وفي (التاريخ العثماني المصور) عبارات أخرى من وصية عثمان تقول: ( وصيتي لأبنائي وأصدقائي ، أديموا علو الدين الإسلامي الجليل بإدامة الجهاد في سبيل الله . أمسكوا راية الإسلام الشريفة في الأعلى بأكمل جهاد. اخدموا الإسلام دائما ، لأن الله عز وجل قد وظف عبداً ضعيفاً مثلي لفتح البلدان ، اذهبوا بكلمة التوحيد إلى أقصى البلدان بجهادكم في سبيل الله ومن انحرف من سلالتي عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول الأعظم يوم المحشر. يا بني: ليس في الدنيا أحد لا يخضع رقبته للموت ، وقد اقترب أجلي بأمر الله جل جلاله أسلمك هذه الدولة وأستودعك المولى عز وجل ، اعدل في جميع شؤونك ...).

لقد كانت هذه الوصية منهجاً سار عليه العثمانيون، فاهتموا بالعلم وبالمؤسسات العلمية، وبالجيش والمؤسسات العسكرية، وبالعلماء واحترامهم ، وبالجهاد الذي أوصل فتوحاً إلى أقصى مكان وصلت إليه راية جيش مسلم ، وبالإمارة وبالحضارة .

ونستطيع أن نستخرج الدعائم والقواعد والأسس التي قامت الدولةالعثمانية من خلال تلك الوصية.





التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/62 ، والدولة العثمانية لعلي الصلابي ، ص 51 ، وتاريخ الدولة العثمانية ، ص 11

د.فالح العمره 26-09-2006 02:18 PM

الدولة العثمانية (5) : السلطان أورخـان بن عثمان (726-761هـ )


ولد عام 687 في السنة التي تولي أبوه فيها الحكم، وهو ثاني أبناء أبيه من حيث السن، لكن يبدو أنه كان أكثرهم نباهة، وأشجعهم، فنال بذلك الملك ، ولم يخالفه أخوه الأكبر منه علاء الدين ، ولكنه رضي بذلك ، فقدره أخوه أورخان ، وسلمه الوزارة ، فانصرف علاء الدين إلى الأمور الداخلية ، وتوجه أورخان إلى الأعمال الخارجية.

نقل أورخان قاعدته إلى بورصة، وضرب العملة الفضية والذهبية، وأسس الجيش (يني تشري) أي الجيش الجديد من أبناء الأسرى، والصغار الذين يقعون في الأسر ، فيربون في ثكنات عسكرية تربية إسلامية ويدربون تدريباً عسكرياً ، ويتخرجون لا يعرفون إلا القتال والحياة العسكرية والإسلام والجهاد في سبيل الله ، ليس روابط قبلية أو عشائرية إذ لا يعرفون إلا السلطان سيداً لهم ، لذا كانوا قوة كبيرة ساعدت العثمانيين في ضرب خصومهم ، وامتداد الفتوحات العثمانية ، وكان يمكن أن تبقى كذلك لو بقي السلاطين أقوياء لا يسمحون لهم بالتدخل في غير ما اختصوا به ، ولا أن يعطوهم أكثر من قدراهم فتتغير طباعهم ، فما تدخل العسكريون في شؤون الحكم إلا أفسدوه ، ولا تصرفوا في أمور البلاد إلا أضاعوها إلا من عصم ربك ، وهكذا كان شأنهم في النهاية إذ غدوا طريق الهزيمة وسبب المفاسد حتى قضي عليهم عام 1442 في أيام السلطان محمود الثاني.

فتح أزميت، ثم حاصر أزنيق وفتحها ، وعين ابنه الكبير سليمان حاكما عليها ، وأحسن إلى أهلها ، فسمح بالهجرة إلى من يردها ، وسمح لمن بقي بإقامة شعائر دينه ، وبعد مدة توفي أخوه علاء الدين فعين مكانه سلمان بن أورخان.

وفي عام 736 توفي حاكم إمارة (قره سي) الواقعة جنوب بحر مرمرة وإلى الشرق من بحرإيجه، واختلف ولداه فيما بينهما على السلطة، فأسرع أورخان وضمها إلى إمارته كي لا تقع فريسة بيد الروم.

وفي عام 756 طلب إمبراطور بيزنطة يوحنا الخامس (يوحنا باليوج) من أورخان مساعدته ضد إمبراطور الصرب اصطفان دوشان الملقب بالقوي الذي تحالف مع البندقية، والإمارات الصربية للهجوم على القسطنطينية، ووعد بأن يزوجه ابنة الوصي على العرش يوحنا كانتا كوزين التي تزوج هو أختها الأخرى، أي يصبح عديلاً له، وأرسل له أورخان الجند ، غير أن اصطفان دوشان قد أدركه الموت ، وتوقف الاستعداد ، وعاد الجنود العثمانيون إلى بلادهم دون قتال ، وتزوج أورخان ابنة الوصي.

وشعر أورخان بضعف الإمبراطورية البيزنطية بعد أن طلب الإمبراطور منه المساعدة للوقوف في وجه الصرب ، ورأى أن ينتقل إلى الضفة الغربية من مضيق الدردنيل ليتقدم بعدها في أوربا ، ويتمكن من الإحاطة بالقسطنطينية ، والهجوم عليها من الغرب فقد عجز المسلمون من قبل عن فتحها بالهجوم عليها من الشرق ، وإن لم يكن هو فمن يأتي بعده ، فقرر الجهاد ، وأرسل ابنه الكبير سليمان ، ووزير الدولة الأول لدراسة الغزو والتخطيط له ، وفي عام 758 اجتاز سليمان مضيق الدردنيل ليلاً مع أربعين رجلاً من أبطاله ، ولما وصلوا إلى الضفة الغربية استولوا على الزوارق الرومية الراسية هناك ، وعادوا بها إلى الضفة الشرقية ، إذ لم يكن للعثمانيين أسطول حيث لا تزال دولتهم في بداية تأسيسها ، وفي الضفة الشرقية أمر سليمان جنوده أن يركبوا في الزوارق حيث نقلهم إلى الشاطئ الأوربي ، حيث احتلوا قلعة (تزنب) ، وغاليبولي التي فيها قلعة (جنا قلعة) المشهورة ، وابسالا ، ورودستو ، وكلها تقع على مضيق الدردنيل من الجنوب إلى الشمال حتى تصبح رودستو على بحر مرمرة.

وفي عام 760 توفي ولي العهد سليمان ، نتيجة سقوطه عن جواده ، وأصبح ولي العهد مراد ، وفي العام التالي توفي السلطان أورخان فخلفه ابنه مراد.

سياسة أورخان الداخلية والخارجية:

قد كان مما تهدف إليه الدولة العثمانية الناشئة أن ترث دولة سلاجقة الروم في آسيا الصغرى وترث ما كانت تملكه ، واستمر الصراع لذلك بينها وبين الإمارات الأخرى حتى أيام الفاتح حيث تم إخضاع آسيا الصغرى برمتها لسلطانه.

واهتم أورخان بتوطيد أركان دولته وإلى الأعمال الإصلاحية والعمرانية ، ونظم شؤون الإدارة ، وقوى الجيش ، وبنى المساجد، وانشأ المعاهد العلمية ، وأشرف عليها خيرة العلماء والمعلمين ، وكانوا يحظون بقدر كبير من الاحترام في الدولة ، وكانت كل قرية بها مدارسها وكل مدينة بها كليتها التي تعلم النحو والتراكيب اللغوية والمنطق وفقه اللغة وعلم الإبداع اللغوي والبلاغة والهندسة والفلك وبالطبع تحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه والسنة والفقه والعقائد.

وهكذا أمضى أورخان بعد استيلائه على إمارة قره سي سنة627عشرين سنة دون أن يقوم بأي حروب ، بل قضاها في صقل النظم المدنية والعسكرية التي أوجدتها الدولة ، وفي تعزيز الأمن الداخلي ، وبناء المساجد ورصد الأوقاف عليها ، وإقامة المنشآت العامة الشاسعة ، مما يشهد بعظمة أورخان وتقواه ، وحكمته وبعد نظره ، فإنه لم يشن الحرب تلو الحرب طمعاً في التوسع وإنما حرص على تعزيز سلطانه في الأراضي التي يتاح له ضمها. وحرص على طبع كل أرض جديدة بطابع الدولة المدني والعسكري والتربوي والثقافي وبذلك تصبح جزءاً لا يتجزأ من أملاكهم، بحيث أصبحت أملاك الدولة في آسيا الصغرى متماثلة ومستقرة. وهذا يدل على فهم واستيعاب أورخان لسنة التدرج في بناء الدول وإقامة الحضارة وإحياء الشعوب.

العوامل التي ساعدت السلطان أورخان في تحقيق أهدافه:

1- المرحلية التي سار عليها أورخان ، واستفادته من جهود والده عثمان، ووجود الإمكانيات المادية والمعنوية التي ساعدتهم على فتح الأراضي البيزنطية في الأناضول وتدعيم سلتطهم فيها. ولقد تميزت جهودا أورخان بالخطى الوئيدة والحاسمة في توسيع دولته ومد حدودها ، ولم ينتبه العالم المسيحي إلى خطورة الدولة العثمانية إلا بعد أن عبروا البحر واستولوا على غاليبولي .

2- كان العثمانيون – يتميزون – في المواجهة الحربية التي تمت بينهم وبين الشعوب البلقانية – بوحدة الصف و الهدف، ووحدة المذهب الديني وهو المذهب السني.

3- وصول الدولة البيزنطية إلى حالة من الإعياء الشديد ، وكان المجتمع البيزنطي قد أصابه تفكك سياسي وانحلال ديني واجتماعي ، فسهل على العثمانيين ضم أقاليم هذه الدولة.

4- ضعف الجبهة المسيحية نتيجة لعدم الثقة بين السلطات الحاكمة في الدولة البيزنطية وبلغاريا وبلاد الصرب والمجر ، ولذلك تعذر في معظم الأحيان تنسيق الخطط السياسة والعسكرية للوقوف في جبهة واحدة ضد العثمانيين.

5- الخلاف الديني بين روما والقسطنطينة أي بين الكاثوليك والأرثودكسية الذي استحكمت حلقاته وترك آثاراً عميقة الجذور في نفوس الفريقين.

6- ظهور النظام العسكري الجديد على أسس عقدية ، ومنهجية تربوية وأهداف ربانية وأشرف عليه خيرة قادة العثمانيين.






الدولة العثمانية لمحمود شاكر 8/63، والدولةالعثمانية لعلي صلابي ، ص 91

د.فالح العمره 26-09-2006 02:21 PM

الدولة العثمانية (6) : السـلطـان مـراد الأول (761-791هـ )


ولد مراد في عام 726 ، وهو العام الذي تولى فيه والده الحكم ، فكان عمره يوم أصبح سلطاناً ستاً وثلاثين سنة .

وفي هذه الأثناء أثناء انتقال الحكم من سلطان إلى آخر أخذت الحماسة أمير دولة القرمان في انقره فاستنهض همم الأمراء المستقلين في آسيا الصغرى لقتال العثمانيين ، وعمل على تجميعهم ، غير أن هذا الأمير وهو علاء الدين لم ير إلا وجيش مراد الأول يحيط بمدينته أنقره ، ويدخلها فاتحاً ، فاضطر إلى عقد الصلح معه يتنازل فيه عن انقره ، ويعترف السلطان مراد بالأمير علاء الدين أميراً على بقية أملاك دولة القرمان ، وتزوج مراد الأول ابنة علاء الدين.

وفي عام 762 فتح العثمانيون مدينة ( أدرنة ) ، وقد سلمها القائد الرومي بعد أن يئس من المقاومة ، فنقل مراد الأول عاصمته إليها؛ ليكون على مقربة من الجهاد في أوروبا ، وليكون الهجوم على القسطنطينية من جهة الغرب أكثر قوة ، ولاستغلال مناعة استحكاماتها الحربية . وبقيت هذه المدينة عاصمة للعثمانيين حتى فتحوا القسطنطينية عام 857.
كما فتحت مدينة ( فيلبه) قاعدة الرومللي الشرقي ( جنوبي بلغاريا اليوم). وأصبحت القسطنطينية محاطة بالعثمانيين ، وتقدم إمبراطورها فدفع الجزية طواعية ، وقلبه مليء بالأحقاد.

وخاف الأمراء الأوربيون الذين أصبح العثمانيون على حدودهم فكتبوا إلى ملوك أوربا الغربية وإلى البابا يستنجدون بهم ضد المسلمين ، حتى إمبراطور القسطنطينية ذهب إلى البابا وركع أمامه وقبل يديه ورجليه ورجاه الدعم رغم الخلاف المذهبي بينهما. فلبى الباب النداء ، وكتب إلى ملوك أوروبا عامة يطلب منهم الاستعداد للقيام بحرب صليبية جديدة حفاظاً على النصرانية من التقدم الإسلامي الجديد ، غير أن ملك الصرب (أوروك الخامس) الذي خلف ( اصطفان دوشان ) لم يتوقع هذا الدعم السريع من البابا وملوك أوربا ، لذا فقد استنهض همة الأمراء المجاورين له والذين أصبحوا على مقربة من الخطر على حد زعمهم ، فلبى دعوته أمراء البوسنة (غربي يوغوسلافيا) والافلاق (جنوبي رومانيا) ، وأعداد من فرسان المجر المرتزقة ، وسار الجميع نحو أدرنة حاضرة العثمانيين ، مستغلين انشغال مراد الأول ببعض حروبه في آسيا الصغرى ، غير أن الجيش العثماني قد أسرع للقاء أعدائه فاصطـدم بهم على نهـر ( مارتيزا) ، فهزمهم هزيمة منكرة ، وولوا الأدبار .

واضطرت بعد ذلك إمارة نصرانية صغيرة على بحر الإدرياتيك على ساحل يوغسلافيا اليوم ، وهي إمارة (راجوزه) أن ترسل وفداً إلى السلطان ، ويعقد معه صلحاً تدفع الإمارة بموجبه للدولة العثمانية 500 دوكاً ذهباً لجزية سنوية.

وحاول ملك الصرب الجديد (لازار بلينا نوفتش) وأمير البلغار سيسمان الاتفاق على قتال العثمانيين ، وقد وجدوا نفسيهما ضعيفين رغم أنهما لم يخوضا سوى المعارك الجانبية ، فاضطرا إلى دفع جزية سنوية ، وتزوج السلطان ابنة أمير البلغار عام 780 .

ونظمت فرق الخيالة في عهد السلطان مراد الأول ، وهي التي عرفت بـ (سيباه) أو السباهية ويقصد بها الفرسان ، وأصبح لها نظام خاص بحيث يعطى كل فارس جزءاً من الأرض إقطاعاً له ، ويبقي بيد أصحابه سواء أكانوا من المسلمين أم من النصارى يعملون به ، ويدفعون خراجاً معيناً لصاحب الإقطاع الذي يسكن وقت السلم في إقطاعه ، ويعدون وقت الحرب ونفقته ، ويجهز معه جندياً آخر ، وهذا النظام وإن قدم خدمات في بداية الأمر إلا أن هؤلاء السباهية قد أصبحوا في النهاية أصحاب نفوذ يصعب السيطرة عليهم ، ويختلفون مع أصحاب الأرض الأصليين وبيدهم القوة فينفذون ما يريدون ، ويتضايق أصحاب الأرض الأصليين وبيدهم القوة فينفذون ما يريدون ، ويتضايق أصحاب الأرض فينقمون على السباهية وبالتالي على الحكم ، وتكون الفوضى والفجوة بين الحكم والرعية.

ولم ينس السلطان مراد الأول آسيا الصغرى بل بقي دائب التفكير فيها وفي التخلص من تلك الإمارات الصغيرة التي تشكل رقعاً محدودة المساحة ، فهو لا يريد أن يأخذها بالقوة ويشكل نقمة عليه ، ولا يريد أن يتركها تتصارع بينها ، وتجعل مجالاً للتدخل في شؤونها من قبل الغرباء ، وفي الوقت نفسه لا تنفق وتتوحد لتقوم بغزو القسطنطينية يداً واحدة ، وتجاهد كقوة واحدة ، ورأى أن يحل مشكلاتها تدريجياً مع الزمن ، وقد بدأ بإمارة ( كرميان ) أقرب الإمارات إلى أملاكه ، فزوج ابنه بايزيد من ابنة أمير كرميان فقدم الأب لابنته مدينة( كوتاهية ) فضمت إلى الدولة العثمانية ، وفي عام 782 ألزم أمير دويلة الحميد الواقعة بين إمارات ( قرمان ، وتكه ، ومنتشا) بالتنازل عن أملاكه للدولة العثمانية.

وتأخر الصرب والبلغار في دفع الجزية ويبدو أنه على اتفاق بينهما في هذا التأخير ، فتوجهت الجيوش العثمانية إلى بلادهم ففتحت بعض البلاد الصربية التي تقع اليوم في جنوبي يوغوسلافيا ، كما حاصرت عاصمة البلغار ( صوفيا ) وفتحتها عام 784 بعد حصار استمر ثلاث سنوات ، كما فتحت مدينة( سلانيك ) ، المدينة اليونانية المشهورة والواقعة على بحر ايجه.

تمرد ساوجي بن السلطان على أبيه بالاتفاق مع ابن إمبراطور القسطنطينية (اندرونيكوس بن يوحنا باليوج) ، وكان يوحنا قد حرم ابنه هذا من ولاية العهد وأعطاها لابنه الآخر (عمانويل) ، فأرسل السلطان لابنه جيشاً انتصر عليه وقتله ، كما أرسل إلى الإمبراطور البيزنطي فقتل ابنه أيضاً.

وقام أمير دويلة القرمان علاء الدين ، وبعض الأمراء المستقلين بحرب الدولة العثمانية فأرسل لهم جيشاً انتصر عليهم في سهل ( قونية ) ، وأخذ الأمير علاء الدين أسيراً ، غير أن ابنته زوجة السلطان قد توسطت له فأطلق سراحه ، وأبقى له إمارته ، ولكنه فرض عليه دفع مبلغ من المال سنوياً وذلك عام 787 .

واستغل الصرب انشغال الجيوش العثمانية في الأناضول لقتال علاء الدين أمير القرمان ومن معه ، فهاجموا القوات العثمانية في جنوب الصرب وحصلوا على بعض النجاح عام 788 ، وتأهب أمير البلغار سيسمان للقيام بدوره أيضاً غير أن الجيوش العثمانية قد داهمته واحتلت بعض أجزاء من بلاده ففر إلى الشمال ، واعتصم في مدينة( نيكوبلي ) القريبة من الحدود الرومانية ، وجمع فلول جيشه وهاجم بها العثمانيين غير أنه هزم ، ووقع أسيراً ، لكن السلطان أحسن إليه فأبقاه أميراً على نصف بلاده ، وضم الباقي إلى الدولة العثمانية كي لا يعاود الهجوم.

ولما علم ملك الصرب لازار ما تم بأمير البلغار انسحب بجيوشه نحو الغرب للانضمام إلى الألبانيين ومحاربة العثمانيين معه، غير أن الجيوش العثمانية أدركته قبل وصوله إلى مبتغاه ، والتقت معه عام 791 في معركة وسط سهل (قوص اوه) أي ( إقليم كوسوفو) جنوبي يوغسلافيا ، وكان القتال سجالاً بين الطرفين إلا أن صهر لازار قد انحاز إلى جانب المسلمين بفرقته المؤلفة من عشرة آلاف مقاتل ، فانهزم الصربيون ، ووقع ملكهم لازار أسيراً بأيدي العثمانيين ، وهو جريح فقتلوه لما فعل من أفاعيل خسيسة بأسراه من المسلمين .

وإذا كانت الصرب قد فقدت استقلالها غير أن السلطان مراد الأول ذهب في المعركة أيضاً ، وبينما كان يتفقد نتائج المعركة ويتفحص الجثث إذ قام إليه جندي صربي من بين الجثث وطعنه بخنجر فأرداه قتيلاً ، وقتل الجند العثمانيون القاتل الصربي مباشرة.

لقد ورث مراد الأول عن والده إمارة كبيرة بلغت 95000 كيلومتر مربع ، وعند استشهاده تسلم ابنه بايزيد هذه الإمارة العثمانية بعد أن بلغت 500000 كيلو متر مربع بمعنى أنها زادت في مدى حوالي 29 سنة أكثر من خمسة أمثال ما تركها له والده أورخان .



التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/66 ، والدولة العثمانية لعلي الصلابي ، ص101





معركة قوصووه


كان السلطان مراد الأول الذي حكم الدولة العثمانية ثلاثين عاماً ، شغوفاً بالجهاد ، فما إن أصبح السلطان عام 761 للهجرة حتى بدأ الجهاد ، وتوغل في بلاد البلقان فاتحاً بنفسه وعن طريق قواده مما أثار الصرب الذين فشلوا كثيراً في حروبهم ضد العثمانيين ، فتحالف الصرب والبوسنيون والبلغار ، وأعدوا جيشاً أوروبياً صليبياً كثيفاً لحرب السلطان الذي كان قد وصل بجيوشه إلى منطقة كوسوفو في البلقان .

ومن الموافقات العجيبة أن وزير السلطان مراد الذي كان يحمل مصحفاً فتحه على غير قصد ، فوقع نظره على هذه الآية : { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا ..} فاستبشر بالنصر ، واستبشر معه المسلمون ، ولم يلبث أن نشب القتال بين الجمعين ، وحمي وطيسه ، واشتدت المعركة ، وانجلت الحرب عن انتصار المسلمين انتصاراً حاسماً .

وبعد الانتصار في قوصووه أو ( قوص أوه ) وتعني ( إقليم كوسوفو ) قام السلطان مراد يتفقد ساحة المعركة ، ويدور بنفسه بين صفوف القتلى من المسلمين ويدعو لهم ، كما كان يتفقد الجرحى ، وفي أثناء ذلك قام جندي من الصرب كان قد تظاهر بالموت وأسرع نحو السلطان فتمكن الحرس من القبض عليه ، ولكنه تظاهر بأنه جاء يريد محادثة السلطان ويريد أن يعلن إسلامه على يديه ، وعند ذلك أشار السلطان للحرس بأن يطلقوه ، فتظاهر بأنه يريد تقبيل يد السلطان ، وقام في حركة سريعة بإخراج خنجر مسموم طعن به السلطان فاستشهد به رحمه الله تعالى في 15 شعبان سنة 791 هـ ، عن عمر يناهز 65 عاماً ، بعد أن دخل 37 معركة في فترة حكمه لم يخسر منها أي واحدة .

وكانت آخر كلمات السلطان قبل موته : ( لا يسعني حين رحيلي إلا أن أشكر الله ، إنه علام الغيوب المتقبل دعاء الفقير ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وليس يستحق الشكر والثناء إلا هو ، لقد أوشكت حياتي على النهاية ورأيت نصر جند الإسلام .أطيعوا ابني يزيد ، ولا تعذبوا الأسرى ولا تؤذونهم ولا تسلبوهم ، وأودعكم منذ هذه اللحظة وأودع جيشنا الظافر العظيم إلى رحمة الله فهو الذي يحفظ دولتنا من كل سوء ) .

وكان من دعائه قبل المعركة : .. تقبل رجائي ، ولا تجعل المسلمين يبوء بهم الخذلان أمام العدو ، يا الله يا أرحم الراحمين لا تجعلني سبباً في موتهم ، بل اجعلهم المنتصرين ، إن روحي أبذلها فداء لك يارب ، إني وددت ولا زلت دوماً أبغي الاستشهاد من أجل جند الإسلام ، فلا ترني يا إلهي محنتهم ، واسمح لي يا إلهي هذه المرة أن أستشهد في سبيلك ومن أجل مرضاتك .




الدولة العثمانية لعلي محمد صلابي ، ص103

د.فالح العمره 26-09-2006 02:24 PM

الدولة العثمانية (7) : السلطان بايزيد الأول .. الصاعقة (791-805)


ولد بايزيد عام 761 أي في العام الذي تولى فيه أبوه السلطنة ، فكان عمره ثلاثين عاماً عندما تسلم الحكم بعد وفاة والده ، وكان دائم الجهاد ينتقل من أوروبا إلى الأناضول ثم يعود مسرعاً إلى أوروبا يحقق فيها نصراً جديداً أو تنظيماً حديثاً حتى لقب باسم (يلدرم) أي الصاعقة نظراً لتلك الحركة السريعة والانقضاض المفاجئ.

سياسته مع الصرب :
( اصطفان بن لازار) ملكاً على الصرب في عام 792 ، وسمح له بالحكم على مقتضى نظمهم وشرائعهم مقابل دفع جزية سنوية ، وتقديم عدد من المقاتلين ينضمون إلى الجيوش العثمانية وقت الحرب وحينما يطلب السلطان ذلك. كما تزوج السلطان أخت اصطفان وهي (اوليفير) وربما فعل ذلك كي لا يبقى مشغولاً في موضوع الصرب وغاراتهم وحركاتهم ، وحتى يجعلهم حاجزاً بينه وبين المجر، ولشعوره بضرورة اتخاذ حليف له في سياسته العسكرية النشطة التي استهدفت الإمارات السلجوقية التركية في آسيا الصغرى .

ضم أمارات تركية للدولة :
انتقل إلى الأناضــول فضم عـام 793 إمـارة ( منتشا ) ، وإمارة (آيدين) ، وإمـارة ( صاروخان) إلى العثمانيين دون قتال ، ولكن فر أبناء حكامها إلى قسطموني مركز ولاية (اسفنديار) ، كما تنازل أمير دولة القرمان عن جزء من أملاكه إلى السلطان كي يبقي له الجزء الباقي ، كما فتح مدينة الأشهر بقرب أزمير ، وهي آخر مدينة كانت قد بقيت للروم غرب بلا د الأناضول. وبذا يكون قد أمن خلفه ، إذ كان حكام هذه الإمارات يمكن أن يتعاونوا مع أية قوة في سبيل المحافظة على إمارتهم.

حصار القسطنطينية :
اتجه إلى الغرب وحاصر القسطنطينية عام 794 ، وضيق الحصار ، واستطاع أن يفرض على الإمبراطور أن يعين قاضياً في القسطنطينية للفصل في شؤون المسلمين ، وما لبث أن حاصر العاصمة البيزنطية ، وقبل الإمبراطور إيجاد محكمة إسلامية وبناء مسجد وتخصيص 700 منزل داخل المدينة للجالية الإسلامية ، كما تنازل لبايزيد عن نصف حي غلطة الذي وضعت فيه حامية عثمانية قوامها 6000 جندي ، وزيدت الجزية المفروضة على الدولة البزنطية ، وفرضت الخزانة العثمانية رسوماً على الكروم ومزارع الخضروات الواقعة خارج المدينة ، وأخذت الآذان إلى العاصمة البيزنطية .

ثم تركها محاصرة ، وسار بجيش إلى الأفلاق – الجزء الجنوبي من رومانيا اليوم - ، وأجبر حاكمها على توقيع معاهدة يعترف فيها بسيادة العثمانيين على بلاده ، ويدفع جزية سنوياً ، ثم أبقاه حاكماً على بلاده ، يحكم فيها بقوانينهم الخاصة ونظمهم.

إلى الأناضول من جديد :
اضطر السلطان بايزيد إلى العودة إلى الأناضول مسرعاً ، لأن أمير دولة القرمان علاء الدين قد ندم على تنازله عن جزء من أملاكه للعثمانيين ، ووجد السلطان مشغولاً بأوروبا وحربه لحاكم الأفلاق ، فاستغل هذا الظرف ، وعبأ جنده ، وأثار خصوم السلطان مع بعض الأمراء ، وهاجم العثمانيين في الأناضول ، فأسرع السلطان ، وهزمه ، ولاحقه حتى أخذه وولديه أسرى ، وأنهى دولة القرمان ، كما أنهى إمارة( سيواس) ، و( توقات) ، ثم التفت إلى ( اسفنديار) التي كانت ملجأ لأبناء الأمراء الفارين من وجه العثمانيين فطالب السلطان أمير أبناء الأمراء الذين يحتمون عنده فلما أبى هاجمه وضم بلاده إليه ، أما الأمير فقد فر والتجأ إلى تيمورلنك.

إخضاع بلغاريا للسيادة العثمانية :
استمر حصار القسطنطينية، سار السلطان إلى بلاد البلغار عام797هـ، فاستولى عليها وأخضع سكانها ، و قتل أميرها سيسمان ، فجعل تلك البلاد ولاية عثمانية ، وأسلم ابن الأمير مقتول ، فأخذه السلطان وجعل والياً على( صامسون ) .

التكتل المسيحي الصليبي ضد الدولة العثمانية :
قام( سيجسموند) ملك المجر والبابا (بونيفاس التاسع ) بدعوة لتكتل أوروبي صليبي مسيحي ضد الدولة العثمانية، وكان ذلك التكتل من أكبر التكتلات التي واجهتها الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر ، من حيث عدد الدول التي اشتركت فيه ، ثم أسهمت فيه بالسلاح والعتاد والأموال والقوات ،وبلغ العدد الإجمالي لهذه الحملة الصليبية 120.000 مقاتل من مختلف الجنسيات (ألمانيا وفرنسا وإنجلترا واسكتلندا وسويسرا ولوكسمبورج والأراضي المنخفضة الجنوبية وبعض الأمارات الإيطالية).
وتحركت الحملة عام (800 هـ / 1396م) إلى المجر ، ولكن زعماءها وقادتها اختلفوا مع سيجسموند قبل بدء المعركة. فقد كان سيجسموند يؤثر الانتظار حتى يبدأ العثمانيون الهجوم ، ولكن قواد الحملة شرعوا بالهجوم ، وانحدروا مع نهر الدانوب حتى وصلوا إلى نيكوبوليس شمال البلقان وبدؤوا في حصارها وتغلبوا في أول الأمر على القوات العثمانية ، إلا أن يزيد ظهر فجأة ومعه حوالي مئة ألف جندي ، وهو عدد يقل قليلاً عن التكتل الأوروبي الصليبي ، ولكنه يتفوق عليهم نظاماً وسلاحاً ، وكان بقيادة أمير الصرب (اصطفان بن لازار ) ومعه كثير من الشعوب النصرانية الخاضعة للحماية العثمانية ، إضافة إلى الجند العثمانيين ، وكان اللقاء في يوم 23 ذي القعدة 798 ، فانهزم معظم النصارى ولاذوا بالفرار والهروب وقتل وأسر عدد من قادتهم. وخرج العثمانيون من معركة نيكوبوليس بغنائم كثيرة وفيرة واستولوا على ذخائر العدو. وفي نشوة النصر والظفر قال السلطان بايزيد أنه سيفتح ايطاليا ويطعم حصانه الشعير في مذبح القديس بطرس برومة.
لقد وقع كثير من أشراف فرنسا منهم ( الكونت دي نيفر) نفسه في الأسر ، فقبل السلطان بايزيد دفع الفدية وأطلق سراح الأسرى و( الكونت دي ينفر ) وكان قد ألزم بالقسم على أنه لا يعود لمحاربته قال له : إني أجيز لك أن لا تحفظ هذا اليمين فأنت في حل من الرجوع لمحاربتي ؛إذ لا شيء أحب إليّ من محاربة جميع مسيحي أوروبا والانتصار عليهم .
أما سيجموند ملك المجر كان قد بلغ به الغرور والاعتداد بجيشه وقوته أن قال : لو انقضت السماء من عليائها لأمسكناها بحرابنا – فقد ولى هارباً ومعه رئيس فرسان رودس، ولما بلغا في فرارهما شاطئ البحر الأسود وجد هناك الأسطول النصراني فوثبا على إحدى السفن وفرت بهما مسرعة لا تلوي على شيء، وتضاءلت مكانة المجر في عيون المجتمع الأوروبي بعد معركة نيكويوليس ، وتبخر ما كان يحيط بها من هيبة ورهبة.
لقد كان ذلك النصر المظفر له أثر على بايزيد والمجتمع الإسلامي ، فقام بايزيد ببعث رسائل إلى كبار حكام الشرق الإسلامي يبشرهم بالانتصار العظيم على النصارى ، واصطحب الرسل معهم إلى بلاطات ملوك المسلمين مجموعة منتقاة من الأسرى المسيحيين باعتبارهم هدايا من المنتصر ودليلاً مادياً على انتصاره.
واتخذ بايزيد لقب (سلطان الروم) كدليل على وراثته لدولة السلاجقة وسيطرته على كل شبه جزيرة الأناضول. كما أرسل إلى الخليفة العباسي المقيم بالقاهرة يطلب منه أن يقر هذا اللقب حتى يتسنى له بذلك أن يسبغ على السلطة التي مارسها هو وأجداده من قبل طابعاً شرعياً رسمياً فتزداد هيبته في العالم الإسلامي ، وبالطبع وافق السلطان المملوكي برقوق حامي الخليفة العباسي على هذا الطلب لأنه يرى بايزيد حليفه الوحيد ضد قوات تيمورلنك التي كانت تهدد الدولة المملوكية والعثمانية ، وهاجر إلى الأناضول آلاف المسلمين الذين قدموا لخدمة الدولة العثمانية .

وبعد هذا الانتصار عقد السلطان بايزيد صلحاً من إمبراطور بيزنطة فك بموجبه الحصار على القسطنطينية مقابل دفع ما يعادل عشرة آلاف دينار ذهبي ، والسماح للمسلمين ببناء مسجد لهم في القسطنطينية.

وقعة تيمورلنك وضعف السلطنة :
ينتمي تيمورلنك إلى الأسر النبيلة في بلاد ما وراء النهر ، وفي عام 1369م جلس على عرش خراسان وقاعدته سمرقند ، واستطاع أن يتوسع بجيوشه الرهيبة وأن يهيمن على القسم الأكبر من العالم الإسلامي ، فقد انتشرت قواته في آسيا من دلهي إلى دمشق ، ومن بحر آرال إلىالخليج العربي ، واحتل فارس وأرمينيا وأعالي الفرات ودجلة والمناطق الواقعة بين بحر قزوين إلى البحر الأسود ، وفي روسيا سيطر على المناطق الممتدة بين أنهار الفولجا والدون والدنيبر ، وقد اتصف تيمورلنك بالشجاعة والعبقرية الحربية والمهارة السياسية ، وكان مسلماً يطمح في بسط سلطانه على جميع العالم المسكون .
ووصل تيمورلنك في انسياحه الوحشي نحو الغرب إلى بغداد ففر من وجهه أحمد بن أويس الجلائري الذي التجأ إلى السلطان بايزيد ، فأرسل تيمورلنك إلى السلطان يطلب منه أن يسلمه أحمد ابن أويس فرفض ذلك ، فاتجه تيمورلنك إلى آسيا الصغرى ، ودخل مدينة( سيواس ) ، وقبض على الأمير أرطغرل بن السلطان بايزيد وقتله ، وتابع سيره نحو الغرب ، فأسرع السلطان بايزيد إليه وقد حشد له ما يزيد على مائة وخمسة وعشرين ألف مقاتل ، على حين ضم جيش تيمورلنك ما يربو على ثمانمائة ألف مقاتل ، ومعه أمير قسطموني وعدد من أبناء أمراء الدويلات التي ضمها العثمانيون إليهم ، وكانت مستقلة قامت على أنقاض دولة السلاجقة في الأناضول ، والتقى الجيشان في سهل أنقره يوم 19 ذي الحجة عام 804 ، واستمرت المعركة طيلة ذلك اليوم من قبل شروق الشمس إلى ما بعد غروبها ،ولم يحسن السلطان بايزيد - بسبب عجلته - اختيار المكان الذي نزل فيه جيشه ، ومات كثير من جنود بايزيد عطشاً لقلة الماء وكان الوقت صيفاً ، ورغم ما أبداه السلطان من شجاعة إلا أنه هزم بعد أن فرت فرق (آيدين )، و( منتشا ) ، ( وكرميان ) ، و( صارخون ) ، وانضـمت إلى جيش تيمورلنك حيث أبناء أمرائها فيه ، وكانت النتيجة أن وقع السلطان بايزيد نفسه وابنه موسى في الأسر ، حيث وقفا في وجه الخصم ، وصمدا في وسط ميدان المعركة ، واختفى ابنه الآخر مصطفى ، وفر من المعركة أبناؤه سليمان ، وعيسى ، ومحمد.

ورغم أن تيمورلنك لم يسئ إلى السلطان إلا أنه شدد عليه المراقبة حيث حاول الفرار من الأسر ثلاث مرات ، وفشل فيها كلها ، والإهانة النفسية تعد عظيمة إذ كلف بحراسة موسى بايزيد أمير كرميان أي عدوه ، وقد أصاب السلطان ضيق شديد فتوفي في 15 شعبان عام 804 ، وعمره لا يزيد على أربعة وأربعين عاماً ، وسمح تيمورلنك بنقله جثة السلطان لتدفن في بورصة.

تابع تيمورلنك تقدمه نحو الغرب بعد معركة أنقرة فاستولى على ( ازنيق )، و( بورصة ) ، ودك حصون( أزمير) ،و لما وصل إلى أقصى الغرب في الأناضول، وأراد الرجوع أعاد الإمارات التي كانت قائمة قبل أن يضمها العثمانيون إليهم وهي : قسطموني ، وصاروخان ، ومنتشا ، وآيدين ، وكرميان ، وقرمان فعادت التجزئة إلى الأناضول كما كانت من قبل.

ورأت الإمارات الأوروبية التي كانت خاضعة للعثمانيين ما حل للدولة وسلطانها ، فأعلنت استقلالها وهي : البلغار والصرب ، والأفلاق ، فصغرت رقعة الدولة من جديد.

واختلف أبناء السلطان بايزيد على السلطة بعد عودة تيمورلنك عن الأناضول فزاد الأمر ضعفاً ، والدولة تمزقاً ، وشجعهم تيمورلنك أيضاً على هذا الاختلاف ليبقوا في ضعف ، وتبقي له الهيمنة ، واستعان بعضهم به ضد بعض ، كما طلب بعضهم دعم إمبراطور القسطنطينية ضد بعض ، وهذا شأن الدول عندما تكون ضعيفة والحكام عندما يكونون عجزة.

استقل سليمان بن بايزيد في أدرنه وجعله جنده سلطاناً عليهم ، وعلى المناطق العثمانية في أوروبا ، وعقد حلفاً مع إمبراطور بيزنطة عمانويل الثاني ، وتنازل له عن مدينة (سلانيك) ، وعن سواحل البحر الأسود ليساعده على إخوته ، وتزوج من إحدى قريباته.

وأما عيسى فقد كان مختبئاً بجهات بورصة ، فلما علم بوفاة والده أعلن نفسه سلطاناً ، وساعده كبير قادة بني عثمان ( ديمور طاش).

وأما محمد فقد كان مخبؤه في أواسط الأناضول ، فلما وجد الفرصة مناسبة له ، وخف ضغط التتار خرج وجمع حوله الجند ، وانطلق يقاتل التتار ، وتمكن من أخذ مدينة (توقات) ومدينة (أماسيا) منهم ، وقوي أمره ، واستطاع أن يخلص أخاه موسى من يد أمير كرميان المكلف بحراسته من قبل تيمورلنك.
واتجه محمد بن بايزيد لقتال أخيه عيسى ، وجرت بينهما عدة معارك خرج محمد إثرها منتصراً ، وقتل عيسى ، ورجعت الأناضول تحت إمرته ، وأرسل بعدها أخاه موسى على رأس جيش لقتال أخيهما سليمان غير أن موسى قد هزم ، وعاد خائباً من أوروبا ، فأعاد الكرة بعد أن قاد جيشاً آخر للغرض نفسه ، وقد تمكن من قتل سليمان على أبواب أدرنه عام 713. ثم اتجه لمعاقبة الصرب الذين أعلنوا انفصالهم عن الدولة العثمانية في أثناء الأزمة التي وقعت فيها ، فأسرع ملك المجر لقتاله دفاعاً عن الصرب فحاربه وانتصر عليه.

عاد الخلاف بين الأخوين الباقيين من أبناء السلطان بايزيد ، وهما : محمد وموسى إذ اغتر موسى بقوته وانتصاراته في أوروبا ، وأراد الانفصال عن أخيه ، وتأسيس دولة له في أوروبا ، وسار لفتح القسطنطينية ، وألقى عليها الحصار فاستنجد إمبراطورها بالأمير محمد ، فأسرع لنجدته ، ووقع القتال بين الأخوين ، واضطر موسى لرفع الحصار عن المدينة ، وتشكل حلف من الأمير محمد وإمبراطور القسطنطينية وملك الصرب ضد الأمير موسى ، وبدأ الاتصال سراً بقادته حتى تركوه ، ووقع بين يدي أخيه فأمر بقتله عام 816 .

وبقي الأمير محمد وحده من أبناء السلطان بايزيد بعد أن قتل إخوته الثلاثة عيسى وسليمان وموسى ، وتفرد بالأمر من أجل الملك ، والملك عقيم ، وبتفرد الأمير محمد بدأت السلطة العثمانية تقوى من جديد ، وتتابع خمسة سلاطين في الحكم.





التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/71 ، والدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط لعلي محمد الصلابي ص111 ، وتاريخ الدولة العثمانية ص 17

د.فالح العمره 26-09-2006 02:25 PM

الدولة العثمانية (8) : محمد جلبي – محمد الأول ( 816- 824 )


ولد السلطان محمد عام ( 781 1379م ) ، وانفرد بالسلطة عام 816 بعد وفاة والده بايزيد ، وعرف في التاريخ ( بمحمد جلبي).

كان متوسط القامة، مستدير الوجه ، متلاصق الحاجبين ، أبيض البشرة ، أحمر الخدين ، واسع الصدر ، صاحب بدن قوي ، في غاية النشاط ، وجسوراً ، يمارس المصارعة ، ويسحب أقوى أوتار الأقواس. اشتراك أثناء حكمه في 24 حرباً ، وأصيب بأربعين جرحاً .

استطاع السلطان محمد جلبي أن يقضي على الحرب الأهلية بسبب ما أوتي من الحزم والكياسة وبعد النظر، وتغلب على أخوته واحداً واحداً حتى خلص له الأمر وتفرد بالسلطان ، وقضي سني حكمه الثماني في إعادة بناء الدولة وتوطيد أركانها ، ويعتبره بعض المؤرخين المؤسس الثاني للدولة العثمانية.

إلا أن الفتن الداخلية قد تتابعت رغم الخوف من السلطان بسبب قتله إخوته ، فإذا فعل هذا بإخوته فكيف يكون مع الآخرين ؟ يبدو أنه كان مع الآخرين أرحم بكثير مما كان مع إخوته ، لأن الملك عقيم ، فقد انتصر على أمير القرامان ، وأخذه أسيراً ، وعفا عنه ، وأقسم له بالطاعة ، غير أن الأمير قد حنث بيمينه ، وعاد إلى قتال السلطان فانتصر عليه ، وأخذه أسيراً مرة أخرى ، وعفا عنه أيضاً. وانتصر على أمير أزمير (قره جنيد) ، وعفا عنه ، وعينه حاكماً على مدينة ( نيكوبولي) ، وقام بالدعوة إلى الاشتراكية بدر الدين الذي كان قاضي الجيش عند الأمير موسى ، وكثر أتباعه فقاتله ، وانتصر عليه ، وقتله.

وظهر الأمير مصطفى بن بايزيد وأخو السلطان محمد ، وهو الذي كان قد اختفى بعد معركة أنقره ، وطالب أخاه بالحكم ، وانضم إليه ( قره جنيد) ، ودخل إلى بلاد اليونان ، ولكنه هزم أمام جند أخيه ، ففر إلى مدينة (سلانيك) ، وكانت تتبع الدولة البيزنطية منذ هزيمة العثمانيين في أنقره ، فطلب السلطان تسليمه ، فأبى الإمبراطور ولكن وعد بإبقائه تحت الإقامة الجبرية ما دام السلطان على قيد الحياة ، فوافق السلطان على ذلك وخصص لأخيه راتباً شهرياً .

ويبدو أن السلطان بعد أن قتل إخوته السابقين قد خفف من شدة وطأته وقسوته على أقربائه وعلى الآخرين ، أو أحس بجريمة القتل ، وقدوم الموت بعد أن سبقه إخوته إليه على يديه. وكذلك عفا عن ( قره جنيد) عام 822.

وكانت سياسته تهدف إلى إعادة بناء الدولة وتقويتها من الداخل ؛ ولذلك سالم إمبراطور القسطنطينية وحالفه وأعاد إليه بعض المدن على شاطئ البحر الأسود ، وفي تساليا ، وصالح البندقية بعد هزيمة أسطوله أمام ( كليتبولي ) ، وقمع الفتن والثورات في آسيا وأوروبا، وأخضع بعض الأمارات الآسيوية التي أحياها تيمورلنك ودانت له بالطاعة والولاء.

ومات السلطان عام 824 بعد أن أوصى لابنه مراد من بعده ، وقد كان يوم وفاة أبيه في أماسيا ، وكتم وفاة السلطان حتى وصل مراد إلى أدرنة بعد واحد وأربعين يوماً ، ودفن محمد جلبي في بورصة.





التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/79 ، والدولة العثمانية لعلي الصلابي ، ص 123

د.فالح العمره 26-09-2006 02:26 PM

الدولة العثمانية (9) : مراد الثاني(824-855هـ)


ولد في عام 806، وتولى أمر السلطنة بعد وفاة أبيه عام 824، فكان عمره لا يزيد على ثماني عشرة سنة ، رأى أن يعمل قبل كل شيء على إعادة الإمارات في الأناضول إلى حظيرة الدولة العثمانية بعد أن أعادها تيمورلنك عند سيطرته على المنطقة ، ولهذه الغاية فقد عقد هدنة مع ملك المجر لمدة خمس سنوات ، كما صالح أمير القرامان ، وأما إمبراطور القسطنطينية ، فقد طلب من السلطان أن يتعهد له بعدم قتاله ، وكي يكون هذا العهد مضموناً فيجب على السلطان أن يسلمه اثنين من إخوته رهينة ، وإذا ما فكر السلطان بالحرب فإن الإمبراطور على استعداد لأن يطلق سراح عم السلطان وهو مصطفى بن بايزيد المحجوز في سلانيك.

رفض السلطان هذا التعهد فما كان من الإمبراطور إلا أن أطلق سراح مصطفى ودعمه بعشرة مراكب كمساعدة له على حصار مدينة (غاليبولي) على شاطئ مضيق الدردنيل، ولم يتمكن مصطفى من دخول قلعتها رغم دخوله المدينة فترك في المدينة حامية لحصار القلعة كي لا يصل إليها المدد، وسار نحو أدرنة ، فالتقى بالقائد العثماني بايزيد باشا فانتصر عليه وقتله ، وتابع سيره نحو ابن أخيه مراد ، غير أن قواد مصطفى لم يطيعوه وتخلوا عنه مع جنودهم وقت الشدة ففر ، وسار نحو مدينة (غاليبولي) ، فقبض عليه وأعدم.

وسار السلطان مراد نحو القسطنطينية انتقاماً من إمبراطورها وألقى عليه الحصار، وهاجمها في مطلع رمضان من عام 825 كي تكون الروح المعنوية أقوى، غير أنه عجز عن فتحها، واضطر إلى رفع الحصار عنها لأن أخاه مصطفى قد شق عصا الطاعة عليه وساعده أمراء الدويلات في الأناضول، وقد تمكن من هزيمة أخيه مصطفى وقتله، ووجد أن هدفه الأول وهو إعادة الإمارات إلى الدولة يجب أن يعود إليه، وأن يقدمه على غيره، وإن قتال هذه الإمارات فيه كلام لأن كل الطرفين مسلم، وتركها لا يمكنه معها الجهاد فهي مطمع للأعداء أولاً، ودخول إلى المعركة من غير قوة.

وخاف أمير قسطموني على نفسه إذ كان يدعم الأمير مصطفى وقد انتهى أمره، لذا فقد أسرع وتنازل عن نصف إمارته، وزوجه ابنته عام 826.

وقام (قره جنيد) واستولى على إمارة آيدين ، وأعلن انفصاله عن الدولة ، غير أنه هزم وقتل. ثم دخل السلطان إمارات آيدين، ومنتشا، وصاروخان، وقتل أمير القرامان محمد، وعين مكانه ابنه إبراهيم الذي تنازل للعثمانيين عن اقليم الحميد، وتوفي عام 831 أمير دويلة الكرميان ولم يكن له عقب فأوصى أن تلتحق الإمارة بالدولة العثمانية. وانتهى بذلك من كل مشكلة في الأناضول، وأصبح بإمكانه التوجه إلى أوروبا ، لتصفية حسابه مع الحكام الذين أساءوا للعثمانيين في أثناء المحنة التي حلت بهم أيام السلطان بايزيد ، وبعدها يصفو له الجو لفتح القسطنطينية ومعاقبة إمبراطورها الذي حرض عليه.

وكان السلطان مراد الثاني يرى أن القتال في أوروبا أسهل فهو جهاد والروح المعنوية لدى المسلمين تكون عالية ما داموا يقاتلون ضد النصارى ، ويعملون مجاهدين لنشر دينهم على حين كانوا يساقون لقتال أمراء الدويلات في الأناضول دفعاً.

بدأ بقتال ملك المجر وعقد معه معاهدة تنازل فيها للسلطان عن أملاكه التي تقع على الضفة اليمنى لنهر الدانوب الذي سيكون حداً فاصلاً بين الطرفين.

ورأى أمير الصرب (جورج برنكوفتش) عجزه فعقد معاهدة مع السلطان تقضي بدفع الجزية سنوية وقدرها خمسين ألف دوك ذهبي ، وأن يقدم فرقة من جنوده لمساعدة السلطان في حروبه ، وأن يقطع علاقاته مع ملك المجر ، وأن يتنازل عن بعض المواقع للعثمانيين ، كما تزوج السلطان ابنه (جورج برنكوفتش) مارا.

واستعاد مدينة سلانيك عام 833 من البندقية، وكان إمبراطور القسطنطينية قد تنازل عنها لهم ، وقد حاصرها السلطان خمسة عشر يوماً. واعترف أمير الأفلاق بسيادة العثمانيين على بلاده عام 836.

وخضعت له ألبانيا بعد حروب بسيطة ، واشترط أميرها عدم التعرض لعقائد السكان ، وسلم أولاده الأربعة رهينة للسلطان ، وعندما توفي هذا الأمير عام 834 ضم السلطان أملاكه إليه.

ظن السلطان أن وضعه في أوربا قد استقر ، وأن إمبراطور القسطنطينية لم يبق له سند لا في الأناضول ، ولا في أووربا وبإمكانه الآن التوجه إليه وإلزامه على الاستسلام ، ودخول القسطنطينية عسى أن يكون مغفوراً له ، كما بشر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أن بدأ يستعد لمهمته حتى عاد حكام أوروبا المتعاقدين معه على نقض العهد وإعلان العصيان. لقد حرض ملك المجر أمير الأفلاق وأمير الصرب فثارا فأدبهما السلطان ، ثم سار إلى ملك المجر فخرب عدداً من المدن ، وعاد بعدد عظيم من الأسرى.

عاد أمير الصرب (جورج برنكوفتش) فثار، فهاجمه السلطان، وفتح جزءاً من بلاد الصرب، وحاصر العاصمة بلغراد ستة أشهر، وغادرها أميرها متوجهاً إلى ملك المجر ، ثم غادرها ، وأرسل جيشه للهجوم على( ترانسلفانيا) من أملاك المجر - وتقع شمال الأفلاق وإلى الغرب من البغدان ، وتشكل اليوم الجزء الغربي من دولة رومانيا - غير أن جيشه قد هزم وقتل قائده مع عشرين ألفاً من الجند ، وانسحب العثمانيون إلى ما بعد نهر الدانوب ، فأرسل السلطان جيشاً آخر قوامه ثمانون ألفاً غير أنه هزم أيضاً ، وأسر قائده ذلك إلى بلاد الصرب فالتقى عام 846 بالسلطان مراد الثاني نفسه فنشبت بين الفريقين ثلاثة معارك هزم فيها السلطان كلها ، واضطر إلى توقيع معاهدة تنازل فيها السلطان عن الأفلاق للمجر ، ورد للصرب بعض المواقع ، وقامت بين الطرفين هدنة مدتها عشر سنوات.

شعر السلطان بالتعب فرأى أن يخلد إلى الراحة ، ثم إن ابنه الأمير علاء مات ففجع به السلطان واشتد حزنه عليه وزهد في الدنيا والملك ، فترك الحكم لابنه الثاني محمد الذي لم يبلغ من العمر الرابعة عشرة ، وسافر إلى غربي الأناضول في ولاية آيدين حيث الهدوء.

كان البابا يراقب الأحداث ، وكم سره هزيمة السلطان وخاصة أن كان قد اشترك مع المجريين أعداد من الصليبيين من بولنديين ، وفرنسيين ، وألمان، وبنادقة ، وجنوبيين ،إضافة إلى الأفلاق ، والصرب وغيرهم. وأثارت الباب تلك المعاهدة التي وقعها السلطان مع المجريين وأنهت الحرب بين الطرفين لمدة عشر سنوات؛ لذا فقد أرسل مندوباً من قبله وهو (سيزاريني) إلى ملك المجر ، وطلب نقض العهد ، وليس في هذا النقض شيء من الناحية الدينية ، فليس مع الكفار المسلمين نقض لعهد أو حنث بقسم.

تنادى ملوك النصارى لشن حملة صليبية جديدة ، فجمعوا جموعهم ، وهاجموا بلاد البلغار ، وساعدهم على ذلك أن السلطان كان في مكان عزلته في مقاطعة (آيدين) في مدينة (مغنيسيا) ، وأن طفله لم يتمرس بعد على القتال ، ووصل الخبر إلى السلطان فغادر مكانه ، واتجه إلى أوروبا ، فقاد الجيش وسار نحو الأعداء فوجدهم يحاصرون مدينة (فارنا) البلغارية الواقعة على ساحل البحر الأسود ، فنازلهم ، وقتل ملك المجر بنفسه في ساحة المعركة ، وحمل العثمانيون رأسه قائلين : ( أيها الكفار هذا رأس ملككم ) فاختل ترابط الجند ، فهاجم السلطان معسكر الأعداء ، واحتله ، وقتل الكاردينال (سيزاريني) مندوب البابا ، وتم النصر للمسلمين في 28 رجب عام 848، في سهل قوصوه ، بعد أن استمرت ثلاثة أيام ، وقد أخرجت هذه المعركة بلاد المجر لعشر سنوات على الأقل من عداد الدول التي تستطيع النهوض بعمليات حربية هجومية ضد العثمانيين . وعاد السلطان فترك الأمر إلى ابنه ، ورجع إلى( مغنيسيا).

ولم تطل إقامته أكثر من ثلاثة أشهر إذ اضطر للعودة إلى أدرنه قاعدة الدولة حيث استصغر قادة الجيش العثمانيين من الانكشارية السلطان الصغير، إذ عصوا أمره ، ونهبوا المدينة ، ووصل السلطان فأدب القادة وأشغلهم بالقتال في بلاد اليونان ، وذلك أن إمبراطور القسطنطينية قد قسم أملاكه بين أولاده إذ أعطى ابنه حنا مدينة القسطنطينية وابنه قسطنطين بلاد الموره أي جنوب اليونان ، فسار السلطان لحرب اليونان ، واستعمل المدافع لأول مرة ، ولم يتمكن من فتحها بسبب تمرد اسكندر بك.

كان اسكندر أحد أبناء أمير ألبانيا الذين عاشوا رهينة عند السلطان عندما سلم أبوه البلاد للسلطان فأظهر اسكندر الإسلام، ولما وجد السلطان مشغولاً بالحروب فر إلى إلبانيا ، وطرد العثمانيين منها. فسار إليه السلطان بقوة كبيرة وهزمه ، وأخذ منه بعض المواقع عام 851 ، ثم اضطر إلى تركه للتوجه إلى مقابلة الجيش المجري الذي أراد أن يثأر من معركة (فارنا) ، والتقى به في وادي كوسوفو ، وانتصر عليه انتصاراً مؤزراً عام 852 ، ثم عاد فاتجه إلى اسكندر بك ، وحاصر مدينة (آق حصار) ، ولم يتمكن من فتحها لتعب جيوشه ، فأراد أن يتفق مع اسكندر بك بحيث يسلمه حكم ألبانيا مقابل جزية سنوية ، غير أن اسكندر بك لم يقبل ، واضطر السلطان أن يعود إلى أدرنة ليستعد بصورة أفضل ، وبينما هو كذلك إذ وافته المنية مطلع عام 855 (5 محرم) عن عمر يناهز التاسعة والأربعين ، ونقلت جثته إلى بورصة حيث دفن هناك ، وتسلم السلطنة ابنه محمد باسم محمد الثاني ، وهو الفاتح.

وفاته ووصيته:
قال صاحب النجوم الزاهرة في وفيات عام 855هـ في مراد الثاني : ( وكان خير ملوك زمانه شرقاً وغرباً ، مما اشتمل عليه من العقل والحزم والعزم والكرم والشجاعة والسؤدد ، وأفنى عمره في الجهاد في سبيل الله تعالى ، غزا عدة غزوات ، وفتح عدة فتوحات ، وملك الحصون المنيعة ، والقلاع والمدن من العدو المخذول. على أنه كان منهمكاً في اللذات التي تهواها النفوس ، ولعل حاله كقول بعض الأخيار – وقد سئل عن دينه – فقال : أمزقه بالمعاصي وأرقعه بالاستغفار – فهو أحق بعفو الله وكرمه ، فإن له المواقف المشهورة ، وله اليد البيضاء في الإسلام ونكاية العدو ، حتى قيل إنه كان سياجاً للإسلام والمسلمين – عفا الله عنه ، وعوض شبابه الجنة).

وبناء على وصيته رحمه الله دفن في جانب جامع مرادية في بورصة. ووصى بأن لا يبنى على قبره شيء، وأن يعمل أماكن في جوانب القبر يجلس فيها الحفاظ لقراءة القرآن الكريم ،وأن يدفن في يوم الجمعة فنفذت وصيته.

وترك في وصيته شعراً ، بعد أن كان قلقاً يخشى أن يدفن في قبر ضخم ، وكان يريد ألا يبنى شيء على مكان دفنه ، فكتبها شعراً ليقول : فليأت يوم يرى الناس فيه ترابي.

لقد قام السلطان مراد ببناء جوامع ومدارس، وقصوراً وقناطر فمنها جامع أدرنة ذو ثلاثة شرف ،وبنى بجانب هذا الجامع مدرسة وتكية يطعم فيها الفقراء والمساكين.





التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/80، والدولة العثمانية لعلي صلابي ، ص131

د.فالح العمره 26-09-2006 02:29 PM

الدولةالعثمانية (10): محمـد الثاني (الفاتـح) (855هـ - 886)


يعتبر السلطان محمد الثاني العثماني السابع في سلسلة آل عثمان، يلقب بالفاتح وأبي الخيرات. حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً كانت خيراً وعزة للمسلمين.

ولقد امتاز السلطان محمد الفاتح بشخصية فذة جمعت بين القوة والعدل، كما أنه فاق أقرانه منذ حداثته في كثير من العلوم التي كان يتلقاها في مدرسة الأمراء وخاصة معرفته لكثير من لغات عصره وميله الشديد لدراسة كتب التاريخ، مما ساعده فيما بعد على إبراز شخصيته في الإدارة وميادين القتال حتى أنه اشتهر أخيراً في التاريخ بلقب محمد الفاتح، لفتحه القسطنطينية.

وقد انتهج المنهج الذي سار عليه والده وأجداده في الفتوحات، ولقد برز بعد توليه السلطة في الدولة العثمانية بقيامه بإعادة تنظيم إدارات الدولة المختلفة، واهتم كثيراً بالأمور المالية فعمل على تحديد موارد الدولة وطرق الصرف منها بشكل يمنع الإسراف والبذخ أو الترف.

وكذلك ركز على تطوير كتائب الجيش وأعاد تنظيمها ووضع سجلات خاصة بالجند، وزاد من مرتباتهم وأمدهم بأحدث الأسلحة المتوفرة في ذلك العصر.

وعمل على تطوير إدارة الأقاليم، وأقر بعض الولاة السابقين في أقاليمهم، وعزل من ظهر منه تقصير أو إهمال، وطور البلاط السلطاني، وأمدهم بالخبرات الإدارية والعسكرية الجيدة مما ساهم في استقرار الدولة والتقدم إلى الإمام.

وبعد أن قطع أشواطاً مثمرة في الإصلاح الداخلي تطلع إلى المناطق المسيحية في أوروبا لفتحها ونشر الإسلام فيها، ولقد ساعدته عوامل عدة في تحقيق أهدافه، منها الضعف الذي وصلت إليه الإمبراطورية البيزنطية بسبب المنازعات مع الدول الأوروبية الأخرى، وكذلك بسبب الخلافات الداخلية التي عمت جميع مناطقها ومدنها، ولم يكتف السلطان محمد بذلك بل أنه عمل بجد من أجل أن يتوج انتصاراته بفتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والمعقل الاستراتيجي الهام للتحركات الصليبية ضد العالم الإسلامي لفترة طويلة من الزمن، والتي طالما اعتزت بها الإمبراطورية البيزنطية بصورة خاصة والمسيحية بصورة عامة، وجعلها عاصمة للدولة العثمانية وتحقيق ما عجز عن تحقيقه أسلافه من قادة الجيوش الإسلامية.

ولد محمد الثاني عام 833، وتولى السلطنة عام 855، فكان عمره يومذاك اثنين وعشرين سنة، وأراد أن يتمم ما بدأ به أبوه.

وكان أول عمل قام به أن أرجع زوجة أبيه الأميرة الصربية (مارا) إلى أبيها. وقتل أخاً له رضيعاً اسمه أحمد، [ وهذا القتل لا يصح أبدا ً، فالطفل رضيع ولا ذنب له ، ولا يتحمل وزر غيره إن كانت هناك أوزار يريد السلطان أن ينتهي منها ، فهذا القتل مخالفة شرعية وحدها القتل ] .

ثم بنى قلعة على مضيق البوسفور على الشاطئ الأوروبي مقابل القلعة التي بناها السلطان بايزيد على الشاطئ الآسيوي كي يتحكم بالمضيق ، ويمنع وصول الإمدادات إلى القسطنطينية من مملكة طرابزون الروحية الواقعة على ساحل البحر الأسود شمال شرقي الأناضول ، ورأى قسطنطين أن محمد الثاني عازم على دخول مدينته فعرض دفع الجزية التي لم يريد فرفض السلطان ، ورأى أن يتزوج بأرملة السلطان مراد الثاني أم السلطان محمد وكانت لا تزال على نصرانيتها فرفضت واعتكفت في بعض الأديرة.

أراد السلطان الفاتح بعدئذ أن يتوجه إلى بلاد المورة لفتحها، فأرسل ملكها وفداً إليه يعرض عليه دفع جزية سنوية قدرها 12 ألف دوك ذهب.

ثم بدأ الإمبراطور يستنجد الدول النصرانية، وتم حصار القسطنطينية وفتحها بعد عامين فقط من توليه السلطة ، [ سنتحدث قريباً عن هذا الفتح العظيم ] .

وصالح أمير الصرب مقابل جزية قدرها ثمانون ألف دوك عان 857، وفي السنة الثانية دخل السلطان إلى بلاد الصرب، وحاصر بلغراد، ودافع عنها المجر، ولم يتمكن العثمانيون من فتحها، ثم صار الصدر الأعظم محمود باشا ففتحها بين 861 – 863.

وتمكن من فتح بلاد الموره عام 863، وفر ملكها إلى إيطاليا، كما فتح الجزر التي في بحر إيجه قرب مضيق الدردنيل. وعقد صلحاً مع اسكندر بك أمير ألبانيا.

توجه سراً إلى الأناضول ففتح ميناء (اماستريس) الذي يتبع جنوه، وأكثر سكانه من التجار، كما دخل ميناء سينوب ، واحتل مملكة طرابزون دون مقاومة ، وكانت تتبع القسطنطينية.

سار إلى أوروبا لمحاربة أمير الأفلاق لظلمه وتعديه على العثمانيين ، فطلب الأمير صلحاً مقابل جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوك ، فوافق السلطان غير أن هذا الأمير لم يطلب هذا الصلح إلا لتتاح له الفرصة ليتفق مع ملك المجر لمحاربة العثمانيين. فلما اتفقا، وعلم السلطان أرسل إليه رجلين يستوضح الخبر فقتلهما أمير الأفلاق، وسار مغيراً على أملاك الدولة العثمانية في بلغاريا، فأفسد فيها ، واستاق الأسرى. فأرسل إليه السلطان وفداً يطلب منه أن يعيد الأسرى، ويبقى على صلحه ، فمثل بهم شر تمثيل ، فسار إليه السلطان ففر أمير الأفلاق إلى ملك المجر ، فضم السلطان الأفلاق إلى العثمانيين ، وعين أخا أمير الأفلاق والياً عليها من قبله.

وامتنع أمير البوسنة عن دفع الخراج فسار إليه السلطان ، وانتصر عليه ، وضم البوسنة للدولة العثمانية ، وحاول ملك المجر مساعدة أهل البوسنة (البوشناق) لكنه هزم. وأسلم الكثير من البوشناق بعد ذلك.

واصطدم السلطان مع البنادقة الذين يملكون بعض المواقع في بلاد المورة، وجزراً كثيرة في بحر إيجه ، وقد هاجم البنادقة بعض المراكز العثمانية ودخلوها ، فسار إليهم السلطان ففروا من مواقعهم ، ودخلها العثمانيون. وبعد هدنة سنة عاد البنادقة لغيهم إذ أرادوا استعادة ما فقدوه ، وبدؤوا يغيرون على الدولة فكانت النتيجة أن فقدوا بعض مواقعهم المهمة.

بدأ البابا يدعو إلى حرب صليبية فشجع اسكندر بك أمير ألبانيا على نقض عهده مع السلطان، ودعا ملوك أوربا وأمرائها لمساندته، غير أن البابا قد توفي ولم تقم الحرب الصليبية، لكن اسكندر بك نقض العهد، وحارب العثمانيين، وكانت الحرب سجالاً بين الطرفين. وتوفي اسكندر بك عام 870.

اتجه السلطان إلى الأناضول فضم إليه إمارة القرمان نهائياً إذ اختلف أبناء أميرهم إبراهيم الذي أوصى عند وفاته لابنه إسحاق فنازعه إخوته، فأيد السلطان إخوة إسحاق عليه وهزمه ، وعين مكانه أحد إخوته ، فلما رجع السلطان إلى أوروبا ، احتل إسحاق قونية وفرض نفسه ، فرجع إليه السلطان وهزمه ، وضم الإمارة إلى الدولة العثمانية.

وهاجم أوزون حسن أحد خلفاء تيمورلنك شرقي الأناضول، واحتل مدينة توقات، فأرسل إليه السلطان جيشاً هزمه عام 874، ثم سار إليه السلطان بنفسه على رأس جيش وأجهز على ما بقي معه من جنود.

عرض السلطان عام 878 على أمير البغدان اصطفان الرابع الجزية حتى لا يحاربه فلم يقبل الأمير، فأرسل إليه جيشاً وانتصر عليه بعد حروب عنيفة، ولكن لم يستطيع فتح هذا الإقليم ، فعزم السلطان على دخول القرم للإفادة من فرسانها في قتال البغدان ، وتمكن من احتلال أملاك الجنوبيين الممتدة على شواطئ شبه جزيرة القرم ، ولم يقاوم التتار سكان القرم العثمانيين بل دفعوا لهم مبلغاً من المال سنوياً . وأقلعت السفن الحربية العثمانية من القرم إلى مصب نهر الدانوب فدخلت ، وكان السلطان يدخل بلاد البغدان عن طريق البر ، فانهزم اصطفان الرابع ، فتبعه السلطان في طريق مجهولة ، فانقض عليه اصطفان الرابع وانهزم السلطان ، وارتفع اسم اصطفان الرابع وذلك عام 881 .

وصالح السلطان البنادقة ، وانهزم أمام المجر عندما سار لفتح ترانسلفانيا ، ولكنه في البحر فتح الجزر التي بين اليونان وايطاليا ، كما فتح مدينة (اوترانت) في جنوبي شبه جزيرة ايطاليا عام 885 ، وحاصر في العام نفسه جزيرة ( رودوس) ولم يتمكن من فتحها.

وفي أثناء حصار القسطنطينية عرف ضريح أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه، فبنى عنده مسجداً ، وأصبح تنصيب السلاطين يتم بهذا المسجد.

وتوفي السلطان محمد الفاتح يوم 4 ربيع الأول عام 886 عن عمر ينوف على خمس وخمسين سنة بعد أن حكم إحدى وثلاثين سنة.





التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/86 ، و الدولة العثمانية لعلي الصلابي ، ص 139

د.فالح العمره 26-09-2006 02:30 PM

الدولة العثمانية(11) : أهم أعمال السلطان محمد الفاتح [1]


1-اهتمامه بالمدارس والمعاهد:

فقد كان محباً للعلم والعلماء، لذلك اهتم ببناء المدارس والمعاهد في جميع أرجاء دولته، وفاق أجداده في هذا المضمار، وبذل جهوداً كبيرة في نشر العلم وإنشاء المدارس المعاهد، وأدخل بعض الإصلاحات في التعليم وأشرف على تهذيب المناهج وتطويرها، وحرص على نشر المدارس والمعاهد في كافة المدن والقرى وأوقف عليها الأوقاف العظيمة.

ونظم هذه المدارس ورتبها على درجات ومراحل، ووضع لها المناهج، وحدد العلوم والمواد التي تدرس في كل مرحلة، ووضع لها نظام الامتحانات الدقيقة للانتقال للمرحلة التي تليها، وكان ربما يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس ولا يأنف من سماع الدروس التي يلقيها الأساتذة، ولا يبخل بالعطاء للنابغين من الأساتذة والطلبة ، وجعل التعليم في كافة مدارس الدولة بالمجان ، وكانت المواد التي تدرس في تلك المدارس: التفسير والحديث والفقه والأدب والبلاغة وعلوم اللغة والهندسة، وأنشأ بجانب مسجده الذي بناه بالقسطنطينية ثمان مدارس على كل جانب من جوانب المسجد أربعة مساجد يتوسطها صحن فسيح، وفيها يقضي الطالب المرحلة الأخيرة من دراسته وألحقت بهذه المدارس مساكن الطلبة ينامون فيها ويأكلون طعامهم ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وأنشأ بجانبها مكتبة خاصة وكان يشترط في الرجل الذي يتولى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى متبحراً في أسماء الكتب والمؤلفين، وكانت مناهج المدارس يتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسم خاص وللعلوم التطبيقية قسم خاص أيضاً.

2- اهتمامه بالعلماء:

فقد قرب العلماء ورفع قدرهم وشجعهم على العمل والإنتاج وبذل لهم الأموال ووسع لهم في العطايا والمنح والهدايا ويكرمهم غاية الإكرام، ولما هزم أوزون حسن أمر السلطان بقتل جميع الأسرى إلا من كان من العلماء وأصحاب المعارف.

وكان من مكانة الشيخ أحمد الكوراني أنه كان يخاطب السلطان باسمه ولا ينحني له، ولا يقبل يده بل يصافحه مصافحة، وأنه كان لا يأتي إلى السلطان إلا إذا أرسل إليه، وكان يقول له: مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط.


3-اهتمامه بالشعراء والأدباء:

فكان شاعراً مجيداً مهتماً بالأدب عامة والشعر خاصة، وكان يصاحب الشعراء ويصطفيهم، واستوزر الكثير منهم، وكان في بلاطه ثلاثون شاعراً يتناول كل منهم راتباً شهرياً قدره ألف درهم، وكان مع هذا ينكر على الشعراء التبذل والمجون والدعارة ويعاق الذي يخرج عن الآداب بالسجن أو يطرده من بلاده.

4-اهتمامه بالترجمة:

فقد كان متقناً للغة الرومية، وأمر بنقل كثير من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية، ونقل إلى التركية كتاب التصريف في الطب للزهراوي، وعندما وجد كتاب بطليموس في الجغرافيا وخريطة له طلب من العالم الرومي جورج اميروتزوس وابنه أن يقوما بترجمته إلى العربية وإعادة رسم الخريطة بالغتين العربية والرومية و كافأهما على هذا العمل بعطايا واسعة، وقام العلامة القوشجي بتأليف كتاب بالفارسية ونقله للعربية وأهداه للفاتح.

كما كان مهتماً باللغة العربية فقد طلب من المدرسين بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في تدريسهم وبين علم اللغة كالصحاح.. ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالإكثار من نشر المكاتب العامة وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم، وكان بها اثنا عشر ألف مجلد عندما احترقت.





الدولة العثمانية لعلي محمد الصلابي ، ص221

د.فالح العمره 26-09-2006 02:31 PM

الدولة العثمانية(12) : أهم أعمال السلطان محمد الفاتح [2]


5- اهتمامه بالعمران والبناء والمستشفيات:
كان السلطان محمد الفاتح مغرماً ببناء المساجد والمعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة، وشجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات وغيرها من المباني التي تعطى المدن بهاء ورونقاً، واهتم بالعاصمة (استنبول) اهتماماً خاصاً، وكان حريصاً على أن يجعلها (أجمل عواصم العالم) وحاضرة العلوم والفنون.
وكثر العمران في عهد الفاتح وانتشر ، واهتم بدور الشفاء ، ووضع لها نظاماً مثالياً في غاية الروعة والدقة والجمال، فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب – ثم زيد إلى اثنين – من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحال وجراح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين ، ويشترط في جميع المشتغلين بالمستشفي أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ويجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم ، وأن لاتصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفي أن يكون عارفاً بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها ، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان ويغشاها جميع الناس بدون تمييز بين أجناسهم وأديانهم.

6- الاهتمام بالتجارة والصناعة:
اهتم السلطان محمد الفاتح بالتجارة والصناعة وعمل على إنعاشهما بجميع الوسائل والعوامل والأسباب.
وكان العثمانيون على دراية واسعة بالأسواق العالمية ، وبالطرق البحرية والبرية وطوروا الطرق القديمة ، وأنشأوا الكباري الجديدة مما سهل حركة التجارة في جميع أجزاء الدولة ، واضطرت الدول الأجنبية من فتح موانيها لرعايا الدولة العثمانية ليمارسوا حرفة التجارة في ظل الراية العثمانية .
وكان من أثر السياسة العامة للدولة في مجال التجارة والصناعة أن عم الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء الدولة، وأصبحت للدولة عملتها الذهبية المتميزة، ولم تهمل ا لدولة إنشاء دور الصناعة ومصانع الذخيرة والأسلحة ، وأقامت القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية في البلاد.

7- الاهتمام بالتنظيمات الإدارية:
عمل السلطان محمد الفاتح على تطوير دولته ؛ ولذلك قنن قوانين حتى يستطيع أن ينظم شؤون الإدارة المحلية في دولته ، وكانت تلك القوانين مستمدة من الشرع الحكيم .
وشكل السلطان محمد لجنة من خيار العلماء لتشرف على وضع (قانون نامه) المستمد من الشريعة الغراء وجعله أساساً لحكم دولته، وكان هذا القانون مكوناً من ثلاثة أبواب ، يتعلق بمناصب الموظفين وببعض التقاليد وما يجب أن يتخذ من التشريفات والاحتفالات السلطانية وهو يقرر كذلك العقوبات والغرامات ، ونص صراحة على جعل الدولة حكومة إسلامية قائمة على تفوق العنصر الإسلامي أياً كان أصله وجنسه.
واهتم محمد الفاتح بوضع القوانين التي تنظم علاقة السكان من غير المسلمين بالدولة ومع جيرانهم من المسلمين ، ومع الدولة التي تحكمهم وترعاهم ، وأشاع العدل بين رعيته ، وجد في ملاحقة اللصوص وقطاع الطرق ، وأجرى عليهم أحكام الإسلام ، فاستتب الأمن وسادت الطمأنينة في ربوع الدولة العثمانية.
وعندما تعلن الدولة الجهاد وتدعوا أمراء الولايات وأمراء الألوية، كان عليهم أن يلبوا الدعوة ويشتركوا في الحرب بفرسان يجهزونهم تجهيزاً تاماً ، وذلك حسب نسب مبينة، فكانوا يجهزون فارساً كامل السلاح قادراً على القتال عن كل خمسة آلاف آقجه من إيراد اقطاعه ، فإذا كان إيراد إقطاعه خمسمائة ألف آقجة مثلاً كان عليه أن يشترك بمائة فارس ، وكان جنود الإيالات مؤلفة من مشاة وفرسان ، وكان المشاة تحت قيادة وإدارة باشوات الإيالات وبكوات الألوية.
وقام محمد الفاتح بحركة تطهير واسعة لكل الموظفين القدماء غير الأكفاء وجعل مكانهم الأكفاء ، واتخذ الكفاية وحدها أساساً في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته.

8- اهتمامه بالجيش والبحرية:
وقد تميز عصر السلطان محمد الفاتح بجانب قوة الجيش البشرية وتفوقه العددي ، بإنشاءات عسكرية عديدة متنوعة ، فأقام دور الصناعة العسكرية لسد احتياجات الجيش من الملابس والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والأسلحة ، وأقام القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية ، وكانت هناك تشكيلات متنوعة في تمام الدقة وحسن التنظيم من فرسان ومشاة ومدفعية وفرق مساعدة ، تمد القوات المحاربة بما تحتاجه من وقود وغذاء وعلف للحيوان وإعداد صناديق الذخيرة حتى ميدان القتال .
وكان هناك صنف من الجنود يسمى ، " لغمجية" وظيفته الحفر للألغام وحفر الأنفاق تحت الأرض أثناء محاصرة القلعة المراد فتحها وكذلك السقاؤون كان عليهم تزويد الجنود بالماء.
ولقد تطورت الجامعة العسكرية في زمن الفاتح وأصبحت تخرج الدفعات المتتالية من المهندسين والأطباء والبيطريين وعلماء الطبيعيات والمساحات ، وكانت تمد الجيش بالفنيين المختصصين.
استحق معه أن يعده المؤرخون مؤسس الأسطول البحري العثماني ، ولقد استفاد من الدول التي وصلت إلى مستوى رفيع في صناعة الأساطيل مثل الجمهوريات الإيطالية وبخاصة البندقية وجنوا أكبر الدول البحرية في ذلك الوقت.

9- اهتمامه بالعدل :
إن إقامة العدل بين الناس كان من واجبات السلاطين العثمانيين ، وكان السلطان محمد شأنه في ذلك شأن من سلف من آبائه – شديد الحرص على إجراء العدالة في أجزاء دلته، ولكي يتأكد من هذا الأمر كان يرسل بين الحين والحين إلى بعض رجال الدين من النصارى بالتجوال والتطواف في أنحاء الدولة ، ويمنحهم مرسوماً مكتوباً يبين مهمتهم وسلطتهم المطلقة في التنقيب والتحري والاستقصاء لكي يطلعوا كيف تساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل بين الناس في المحاكم ، وقد أعطى هؤلاء المبعوثون الحرية الكاملة في النقد وتسجيل ما يرون ثم يرفعون ذلك كله إلى السلطان.
وقد كانت تقرير هؤلاء المبعوثين النصارى تشيد دائماً بحسن سير المحاكم وإجراء العدل بالحق والدقة بين الناس بدون محاباة أو تمييز ، وكان السلطان الفاتح عند خروجه إلى الغزوات يتوقف في بعض الأقاليم وينصب خيامه ليجلس بنفسه للمظالم ويرفع إليه من شاء من الناس شكواه ومظلمته.
وقد اعتنى الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس ، فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتضلعين في الفقه والشريعة والاتصاف بالنزاهة والاستقامة وحسب بل لا بد إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع محبة وتقدير بين الناس ، وأن تتكفل الدولة بحوائجهم المادية حتى تسد طرق الإغراء والرشوة ، فوسع لهم الفاتح في عيشهم كل التوسعة ، وأحاط منصبهم بحالة مهيبة من الحرمة والجلالة والقداسة والحماية. أما القاضي المرتشي فلم يكن له عند الفاتح من جزاء غير القتل.
وكان السلطان الفاتح - برغم اشتغاله بالجهاد والفتوحات - إلا أنه كان يتتبع كل ما يجري في أرجاء دولته بيقظة واهتمام ، وأعانه على ذلك ما حباه الله من ذكاء قوي وبصيرة نفاذة وذاكرة حافظة وجسم قوي ، وكان كثيراً ما ينزل بالليل إلى الطرقات والدروب ليتعرف على أحوال الناس بنفسه ويستمع إلى شكاواهم بنفسه، كما ساعده على معرفة أحوال الناس جهاز أمن الدولة الذي كان يجمع المعلومات والأخبار التي لها علاقة بالسلطنة وترفع إلى السلطان الذي كان يحرص على دوام المباشرة لأحوال الرعية ، وتفقد أمورها والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها.






الدولة العثمانية ، لعي محم الصلابي ، ص 227

د.فالح العمره 26-09-2006 02:33 PM

الدولة العثمانية(13) : فتح القسطنطينية [1]


أولاً: الإعداد للفتح:
لقد اعتنى السلطان محمد الفاتح بإقامة قلعة (روملي حصار) في الجانب الأوروبي على مضيق البسفور في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي، وقد حاول الإمبراطور البيزنطي ثني السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهد به إلا أن الفاتح أصر على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع ، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة ، وصل ارتفاعها إلى 82 متراً، وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى 660م تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور إلى غربيه وتستطيع نيران مدافعهما منع أي سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة (طرابزون ) وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة.

أ- اهتمام السلطان بجمع الأسلحة اللازمة:
اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماماً خاصاً منه حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى (أوربان) كان بارعاً في صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، وقد تمكن هذا المهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها.

ب- الاهتمام بالأسطول:
ويضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة ،وقد ذكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة.

ج- عقد معاهدات:
كما عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق (القرن الذهبي) ، كما عقد معاهدات مع (المجد) و (البندقية) وهما من الأمارات الأوروبية المجاورة ، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية ، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن القسطنطينية مشاركة لبني عقيدتهم من النصارى متناسين عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين.
في هذه الأثناء التي كان السلطان يعد العدة فيها للفتح استمات الإمبراطور البيزنطي في محاولاته لثنيه عن هدفه ، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه ، بمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنه هذه الأمور عن هدفه ، ولما رأى الإمبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوربية وعلى رأسها البابا زعيم المذهب الكاثوليكي ، في الوقت الذي كانت فيه كنائس الدولة البيزنطية وعلى رأسها القسطنطينية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية وكان بينهما عداء شديد ، وقد اضطر الإمبراطور لمجاملة البابا بأن يتقرب إليه ويظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية لتصبح خاضعة له ، في الوقت الذي لم يكن الأرثوذكس يرغبون في ذلك ، وقد قام البابا بناءً على ذلك بإرسال مندوب منه إلى القسطنطينية ، خطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين ، مما أغضب جمهور الأرثوذكس في المدينة ، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الإمبراطوري الكاثوليكي المشترك ، حتى قال بعض زعماء الأرثوذكس : ( إنني أفضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية).

ثانياً: الهجوم:
كانت القسطنطينية محاطة بالمياه البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم في دخول السفن إليه، وبالإضافة إلى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة إلى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورين فضاء يبلغ عرضه 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدماً وعليه أبراج يصل ارتفاعها إلى 60 قدماً، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمس وعشرين قدماًوعليه أبراج موزعة مليئة بالجند، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة إلى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة إسلامية سابقة.

كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها ، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها ، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها إلى القسطنطينية ، وقد تحركت المدافع من أدرنة إلى قرب القسطنطينية ، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم من الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26 ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م ، فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي ، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة ، وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء ، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك ، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره ، وما في فتحها من عز الإسلام والمسلمين ، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء.

وكان العلماء مبثوثين في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين مما أثر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤدي ما عليه من واجب.

وفي اليوم التالي قام السلطان بتوزيع جيشه البري أمام الأسوار الخارجية للمدينة، مشكلاً ثلاثة أقسام رئيسية تمكنت من إحكام الحصار البري حول مختلف الجهات، كما أقام الفاتح جيوشاً احتياطية خلف الجيوش الرئيسية، وعمل على نصب المدافع أمام الأسوار، ومن أهمها المدفع السلطاني العملاق الذي أقيم أمام باب طب قابي، كما وضع فرقاً للمراقبة في مختلف المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة، وفي نفس الوقت انتشرت السفن العثمانية في المياه المحيطة بالمدينة، إلا أنها لم تستطع الوصول إلى القرن الذهبي بسبب وجود السلسلة الضخمة التي منعت أي سفينة من دخوله بل وتدمر كل سفينة تحاول الدنو والاقتراب، واستطاع الأسطول العثماني أن يستولي على جزر الأمراء في بحر مرمرة.

وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارى جهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على الأسوار، وأحكموا التحصينات، وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة، ولم يخلُ الأمر من وقوع قتال بين العثمانيين المهاجمين والبيزنطيين المدافعيين منذ الأيام الأولى للحصار، وفتحت أبواب الشهادة وفاز عدد كبير من العثمانيين بها خصوصاً من الأفراد الموكلين بالاقتراب من الأبواب.

وكانت المدفعية العثمانية تطلق مدافعها من مواقع مختلفة نحو المدينة، وكان لقذائفها ولصوتها الرهيب دور كبير في إيقاع الرعب في قلوب البيزنطيين، وقد تمكنت من تحطيم بعض الأسوار حول المدينة، ولكن المدافعين كانوا سرعان ما يعيدون بناء الأسوار وترميمها.

ولم تنقطع المساعدات المسيحية من أووربا، ووصلت إمدادات من (جنوة ) مكونة من خمس سفن وكان يقودها القائد الجنوي ( جستنيان) يرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوربية متعددة، واستطاعت سفنهم أن تصل إلى العاصمة البيزنطية العتيقة بعد مواجهة بحرية مع السفن العثمانية المحاصرة للمدينة، وكان لوصول هذه القوات أثر كبير في رفع معنويات البيزنطيين، وعين قائدها ( جستنيان ) قائداً عاماً للقوات المدافعة عن المدينة.

وقد حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلسلة الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الإسلامية إليه ، وأطلقوا سهامهم على السفن الأوروبية والبيزنطية ولكنهم فشلوا في تحقيق مرادهم في البداية وارتفعت الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة.

ولم يكل القس ورجال الدين النصارى، فكانوا يطوفون بشوارع المدينة، وأماكن التحصين ويحرضون المسيحيين على الثبات والصبر، ويشجعون الناس على الذهاب إلى الكنائس ودعاء المسيح والسيدة والعذراء أن يخلصوا المدينة، وأخذ الإمبراطور قسطنطين يتردد بنفسه على كنيسة أيا صوفيا لهذا الهدف.

ثالثاً: مفاوضات بين محمد الفاتح وقسطنطين:
استبسل العثمانيون المهاجمون على المدينة وعلى رأسهم محمد الفاتح، وصمد البيزنطيون بقيادة قسطنطين صموداً بطولياً في الدفاع، وحاول الإمبراطور البيزنطي أن يخلص مدينته وشعبه بكل ما يستطيع من حيلة، فقدم عروضاً مختلفة للسلطان ليغريه بالانسحاب مقابل الأموال أو الطاعة، أو غير ذلك من العروض التي قدمها.

ولكن الفاتح رحمه الله يرد بالمقابل طالباً تسليم المدنية تسليماً، وأنه في هذه الحالة لن يتعرض أحد من أهلها ولا كنائسها للأذى، وكان مضمون الرسالة: ( فليسلم لي إمبراطوركم مدينة القسطنطينية وأقسم بأن جيشي لن يتعرض لأحد في نفسه وماله وعرضه، ومن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلام، ومن شاء رحل عنها حيث أراد في أمن وسلام أيضاً).

كان الحصار لا يزال ناقصاً ببقاء مضيق القرن الذهبي في أيدي البحرية البيزنطية، ومع ذلك فإن الهجوم العثماني كان مستمراً دون هوادة حيث أظهر جنود الانكشارية شجاعة فائقة، وبسالة نادرة، فكانوا يقدمون على الموت دون خوف في أعقاب كل قصف مدفعي، وفي يوم 18 أبريل تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في الأسوار البيزنطية عند (وادي ليكوس) في الجزء الغربي من الأسوار، فاندفع إليها الجنود العثمانيون بكل بسالة محاولين اقتحام المدينة من الثغرة، كما حالوا اقتحام الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقوها عليها، ولكن المدافعين عن المدينة بقيادة (جستنيان) استماتوا في الدفاع عن الثغرة والأسوار، واشتد القتال بين الطرفين، وكانت الثغرة ضيقة وكثرت السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين ، ومع ضيق المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتح أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد أن أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحينين فرصة أخرى للهجوم.

وفي اليوم نفسه حاولت بعض السفن العثمانية اقتحام القرن الذهبي بتحطيم السلسلة الحاجزة عنه، ولكن السفن البيزنطية والأوروبية المشتركة، إضافة إلى الفرق الدفاعية المتمركزة خلف السلسلة الضخمة من المدافعين عن مدخل الخليج، استطاعوا جميعاً من صد السفن الإسلامية وتدمير بعضها، فاضطرت بقية السفن إلى العودة بعد أن فشلت في تحقيق مهمتها.




الدولة العثمانية ، لعلي محمد الصلابي ، ص149

د.فالح العمره 26-09-2006 02:35 PM

الدولة العثمانية(14) : فتح القسطنطينيـة [2]


رابعاً: عزل قائد الأسطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح:
بعد هذه المعركة بيومين وقعت معركة أخرى بين البحرية العثمانية وبعض السفن الأوروبية التي حاولت الوصول إلى الخليج، حيث بذلت السفن الإسلامية جهوداً كبيرة لمنعها، أشرف الفاتح بنفسه على المعركة من على الساحل وكان قد أرسل إلى قائد الأسطول وقال له: (إما أن تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها، إذا لم توفق في ذلك فلا ترجع إلينا حياً) لكن السفن الأوروبية نجحت في الوصول إلى هدفها ولم تتمكن السفن العثمانية من منعها، رغم الجهود العظيمة المبذولة لذلك، وبالتالي غضب السلطان محمد الفاتح غضباً شديداً فعزل قائد الأسطول بعد ما رجع إلى مقر قيادته واستدعاه وعنف محمد الفاتح قائد الأسطول ( بالطه أوغلي ) وعنفه واتهمه بالجبن، وتأثر( بالطة أو غلي ) لهذا قال: (إني استقبل الموت بجنان ثابت، ولكن يؤلمني أن أموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة. لقد قاتلت أنا ورجالي بكل ما كان في وسعنا من حيلة وقوة، ورفع طرف عمامته عن عينه المصابة). أدرك محمد الفاتح عند ذلك أن الرجل قد أعذر، فتركه ينصرف واكتفى بعزله من منصبه، وجعل مكانه حمزة باشا.

خامساً: عبقرية حربية فذة:
لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في (بشكطاش) إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطرق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن ( حي غلطة ) خوفاً على سفنه من الجنوبيين ، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال ، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاً غير ممهدة.

جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته، وحدد لهم مكان معركته القادمة، فتلقى منهم كل تشجيع، وأعربوا عن إعجابهم بها.

بدأ تنفيذ الخطة، وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة ، إلا أنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن.

وجرت السفن من البسفور إلى البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال ، حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي ، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو ، بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك ، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته.

وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة ، واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم 22 أبريل على تكبيرات العثمانيين المدوية ، وهتافاتهم المتصاعدة ، وأناشيدهم الإيمانية العالية ، في القرن الذهبي ، وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي ، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين ، ولقد عبر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال : (ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق ، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج ، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر).ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة.

وكان لوجود السفن الإسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى.

وقد حاول الإمبراطور البيزنطي تنظيم أكثر من عملية لتدمير الأسطول العثماني في القرن الذهبي إلا أن محاولته المستميتة كان العثمانيون لها بالمرصاد حيث أفشلوا كل الخطط والمحاولات.

واستمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع ، وحاولوا تسلق أسوارها ، وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم ما يتهدم من أسوار مدينتهم ورد ا لمحاولات المكثفة لتسلق الأسوار مع استمرار الحصار عليهم مما زاد في مشقتهم وتبعهم وإرهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس.

كما وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفور والمياه المجاورة مما عرقل حركة سفن الأعداء وأصابها بالشلل تماماً.

سادساً: الحرب النفسية العثمانية:
وشرع السلطان محمد الفاتح في نصب المدافع القوية على الهضاب الواقعة خلف (غلطة)، وبدأت هذه المدافع في دفع قذائفها الكثيفة نحو الميناء وأصابت إحدى القذائف سفينة تجارية فأغرقتها في الحال ، فخافت السفن الأخرى واضطرت للفرار ، واتخذت من أسوار (غلطة) ملجأ لها ، وظل الهجوم العثماني البري في موجات خاطفة وسريعة هجمة تلوى الأخرى، وكان السلطان محمد الفاتح يوالي الهجمات وإطلاق القذائف في البر والبحر دون انقطاع ليلاً ونهاراً من أجل إنهاك قوى المحاصرين ، وعدم تمكينهم من أن ينالوا أي قسط من راحة وهدوء بال ، وهكذا أصبحت عزائمهم ضعيفة ونفوسهم مرهقة كليلة ، وأعصابهم متوترة مجهدة تثور لأي سبب.

واضطر الإمبراطور ( قسطنطين )إلى عقد مؤتمر ثاني، اقترح فيه أحد القادة مباغتة العثمانيين بهجوم شديد عنيف لفتح ثغرة توصلهم بالعالم الخارجي وبينما هو في مجلسهم يتدارسون هذا الاقتراح، قطع عليهم أحد الجنود اجتماعهم وأعلمهم بأن العثمانيين شنوا هجوماً شديداً مكثفاً على وادي( ليكونس )، فترك قسطنطين الاجتماع ووثب على فرسه، واستدعى الجند الاحتياطي ودفع بهم إلى مكان القتال ، واستمر القتال إلى آخر الليل حتى انسحب العثمانيون.

لجأ العثمانيون إلى طريقة عجيبة في محاولة دخول المدينة حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفة إلى داخل المدينة وسمع سكانها ضربات شديدة تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتدريج، فأسرع الإمبراطور بنفسه ومعه قواده ومستشاروه إلى ناحية الصوت وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض، للوصول إلى داخل المدينة، فقرر المدافعون الإعداد لمواجهتها بحفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين دون أن يعلموا، حتى إذا وصل العثمانيون إلى الأنفاق التي أعدت لهم ظنوا أنهم وصلوا إلى سراديب خاصة وسرية تؤدي إلى داخل المدينة ففرحوا بهذا، ولكن الفرحة لم تطل إذا فاجأهم الروم، فصبوا عليهم ألسنة النيران والنفط المحترق والمواد الملتهبة، فاختنق كثير منهم واحترق قسم آخر وعاد الناجون منهم أدراجهم من حيت أتوا.

لكن هذا الفشل لم يفت في عضد العثمانيين، فعاودوا حفر أنفاق أخرى، وفي مواضع مختلفة، من المنطقة الممتدة بين (أكرى فبو) وشاطئ القرن الذهبي وكانت مكاناً ملائماً للقيام بمثل هذا العمل، وظلوا على ذلك حتى أواخر أيام الحصار، وقد أصاب أهل القسطنطينية من جراء ذلك خوف عظيم وفزع لا يوصف حتى صاروا يتوهمون أن أصوات أقدامهم وهو يمشون إن هي أصوات خفية لحفر يقوم به العثمانيون ويملئون المدينة ، فكانوا يتلفتون يمنة ويسرة ، ويشيرون هنا وهناك في فزع ويقولون : (هذا تركي ، … هذا تركي) ويجرون هرباً من أشباح يحسبونها أنها تطاردهم.

سابعاً: مفاجأة عسكرية عثمانية:
لجأ العثمانيون إلى أسلوب جديد في محاولة الاقتحام وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة شامخة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وأعدت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها، وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار، وقد وقع الرعب في قلوب المدافعين عن المدينة حينما زحف العثمانيون بهذه القلعة واقتربوا بها من الأسوار عن باب( رومانوس)، فاتجه الإمبراطور بنفسه ومعه قواده ليتابع صد تلك القلعة ودفعها عن الأسوار، وقد تمكن العثمانيون من لصقها بالأسوار ودار بين من فيها وبين النصارى عند الأسوار قتل شديد، واستطاع بعض المسلمين ممن في القلعة تسلق الأسوار ونجحوا في ذلك، وقد ظن قسطنطين أن الهزيمة حلت به، إلا أن المدافعين كثفوا من قذف القلعة بالنيران حتى أثرت فيها وتمكنت منها النيران فاحترقت، ووقعت على الأبراج البيزنطية المجاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين، وامتلأ الخندق المجاور لها بالحجارة والتراب.

ثامناً: المفاوضات الأخيرة بين محمد الفاتح وقسطنطين:
أيقن محمد الفاتح أن المدينة على وشك السقوط، ومع ذلك حاول أن يكون دخولها بسلام، فكتب إلى الإمبراطور رسالة دعاه فيه إلى تسليم المدينة دون إراقة دماء ، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة إلى حيث يشاؤون بأمان ، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو الرحيل عنها ، ولما وصلت الرسالة إلى الإمبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر ، فمال بعضهم إلى التسليم وأصر آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت ، فمال الإمبراطور إلى رأي القائلين بالقتال حتى آخر لحظة ، فرد الإمبراطور رسول الفاتح برسالة قال فيها : (إنه يشكر الله إذ جنح السلطان إلى السلم وأنه يرضى أن يدفع له الجزية أما القسطنطينية فإنه أقسم أن يدافع عنها إلى آخر نفس في حياته فإما أن يحفظ عرشه أو يدفن تحت أسوارها) ، فلما وصلت الرسالة إلى الفاتح قال : (حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر).

وعمد السلطان بعد اليأس من تسليم المدينة صلحاً إلى تكثيف الهجوم وخصوصاً القصف المدفعي على المدينة، حتى أن المدافع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الاستخدام، وقتل المشتغلين له وعلى رأسهم المهندس المجري( أوربان )الذي تولى الإشراف على تصميم المدفع، ومع ذلك فقد وجه السلطان بإجراء عمليات التبريد للمدافع بزيت الزيتون، وقد نجح الفنيون في ذلك، وواصلت المدافع قصفها للمدينة مرة أخرى، بل تمكنت من توجيه القذائف بحيث تسقط وسط المدينة بالإضافة إلى ضربها للأسوار والقلاع.

تاسعاً: محمد الفاتح يوجه تعليماته ويتابع جنوده بنفسه:
في يوم الأحد 18 جمادى الأول 27 من مايو وجه السلطان محمد الفاتح الجنود إلى الخشوع وتطهير النفوس والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة وعموم الطاعات والتذلل والدعاء بين يديه ، لعل الله أن ييسر لهم الفتح ، وانتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين ، كما قام الفاتح بنفسه ذلك اليوم بتفقد أسوار المدينة ومعرفة آخر أحوالها ، وما وصلت إليه وأوضاع المدافعين عنها في النقاط المختلفة ، وحدد مواقع معينة يتم فيها تركيز القصف العثماني ، تفقد فيها أحوالهم وحثهم على الجد والتضحية في قتال الأعداء.

وفي مساء اليوم نفسه أوقد العثمانيون ناراً كثيفة حول معسكرهم وتعالت صيحاتهم وأصواتهم وبالتهليل والتكبير، حتى خيل للروم أن النار قد اندلعت في معسكر العثمانية، فإذا بهم يكتشفون أن العثمانيين يحتفلون بالنصر مقدماً، مما أوقع الرعب في قلوب الروم، وفي اليوم التالي 28 مايو كانت الاستعدادات العثمانية على أشدها والمدافع ترمي البيزنط بنيرانها ، والسلطان يدور بنفسه على المواقع العسكرية المختلفة متفقداً موجهاً ومذكراً بالإخلاص والدعاء والتضحية والجهاد.

وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته ودعا إليه كبار رجال جيشه أصدر إليهم التعليمات الأخيرة، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية: "إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التمجيد والتقدير فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً، أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لا يقاتلون.

وتوجه قسطنطين نحو صورة (يزعمون أنها صورة المسيح) معلقة في أحد الغرف فركع تحتها وهمهم بعض الدعوات ثم نهض ولبس المغفر على رأسه وخرج من القصر نحو منتصف الليل مع زميله ورفيقه وأمينه المؤرخ( فرانتزتس) ثم قاما برحلة تفقدية لقوات النصارى المدافعة ولا حظوا حركة الجيش العثماني النشطة المتوثبة للهجوم البري والبحري.



الدولة العثمانية لعلي محمد صلابي ، ص156، والدولة العثمانية لعلي حسون ، ص31

د.فالح العمره 26-09-2006 02:36 PM

الدولة العثمانية(15) : فتح القسطنطينيـة [3]


عاشراً: فتح من الله ونصر قريب:
عند الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار ، وخاف البيزنطيون خوفا عظيما ، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير من النصارى ، وكان الهجوم النهائي متزامنا بريا وبحرياً في وقت واحد حسب خطة دقيقة أعدت بإحكام ، وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة ، ولذلك تقدموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء ونال الكثير من المجاهدين الشهادة ، وكان الهجوم موزعا على كثير من المناطق ، ولكنه مركز بالدرجة الأولى في منطقة وادي ليكوس ، بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه ، وكانت الكتائب الأولى من العثمانيين تمطر الأسوار والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين ، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة .

وبعد أن انهكت الفرقة الأولى الهجومية كان السلطان قد أعد فرقة أخرى فسحب الأولى ووجه الفرقة الثانية ، وكان المدافعون قد أصابهم الإعياء ، وتمكنت الفرقة الجديدة ، من الوصول إلى الأسوار وأقاموا عليها مئات السلالم في محاولة جادة للاقتحام ، ولكن النصارى استطاعوا قلب السلالم واستمرت تلك المحاولات المستميتة من المهاجمين ، والبيزنطيون يبذلون قصارى جهودهم للتصدي لمحاولات التسلق ، وبعد ساعتين من تلك المحاولات أصدر الفاتح أوامره للجنود لأخذ قسط من الراحة ، بعد أن أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة ، وفي الوقت نفسه أصدر أمرا إلى قسم ثالث من المهاجمين بالهجوم على الأسوار من نفس المنطقة ، وفوجئ المدافعون بتلك الموجة الجديدة بعد أن ظنوا أن الأمر قد هدأ وكانوا قد أرهقوا ، في الوقت الذي كان المهاجمون دماء جديدة معدة ومستريحة وفي رغبة شديدة لأخذ نصيبهم من القتال .

كما كان القتال يجري على قدم وساق في المنطقة البحرية مما شتت قوات المدافعين وأشغلهم في أكثر من جبهة في وقت واحد ، ومع بزوغ نور الصباح أصبح المهاجمون يستطيعون أن يحددوا مواقع العدو بدقة أكثر ، وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم ، وكان المسلمون في حماسة شديدة وحريصين على إنجاح الهجوم ، ومع ذلك أصدر السلطان محمد الأوامر إلى جنوده بالانسحاب لكي يتيحوا الفرصة للمدافع لتقوم بعملها مرة أخرى حيث أمطرت الأسوار والمدافعين عنها بوابل من القذائف ، واتبعتهم بعد سهرهم طوال الليل ، وبعد أن هدأت المدفعية جاء قسم جديد من شجعان الإنكشارية يقودهم السلطان نفسه تغطيهم نبال وسهام المهاجمين التي لا تنفك عن محاولة منع المدافعين عنها ، وأظهر جنود الإنكشارية شجاعة فائقة وبسالة نادرة في الهجوم واستطاع ثلاثون منهم تسلق السور أمام دهشة الأعداء ، ورغم استشهاد مجموعة منهم بمن فيهم قائدهم فقد تمكنوا من تمهيد الطريق لدخول المدينة عند ( طوب قابي ) ورفعوا الأعلام العثمانية مما زاد في حماس بقية الجيش للاقتحام كما فتوا في عضد الأعضاء .

وفي نفس الوقت أصيب قائد المدافعين( جستنيان ) بجراح بليغة دفعته إلى الانسحاب من ساحة المعركة مما أثر في بقية المدافعين ، وقد تولى الإمبراطور قسطنطين قيادة المدافعين بنفسه محل جستنيان الذي ركب أحد السفن فاراً من أرض المعركة ، وقد بذل الإمبراطور جهودا كبيرة في تثبيت المدافعين الذين دب اليأس في قلوبهم من جدوى المقاومة ، في الوقت الذي كان فيه الهجوم بقيادة السلطان شخصياً على أشده، محاولاً استغلال ضعف الروح المعنوية لدى المدافعين.

وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية أخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسوار والاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعين في باب أدرنة ورفعت الأعلام العثمانية عليها ، وتدفق الجنود العثمانيون نحو المدينة من تلك المنطقة ، ولما رأى قسطنطين الأعلام العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة ، أيقن بعدم جدوى الدفاع وخلع ملابسه حتى لا يعرف ، ونزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة.

وكان لانتشار خبر موته دور كبير في زيادة حماس المجاهدين العثمانيين وسقوط عزائم النصارى المدافعين ، وتمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة من مناطق مختلفة وفر المدافعون بعد انتهاء قيادتهم ، وهكذا تمكن المسلمون من الاستيلاء على المدينة ، وكان الفاتح رحمه الله مع جنده في تلك اللحظات يشاركهم فرحة النصر ، ولذة الفوز بالغلبة على الأعداء من فوق صهوة جواده ، وكان قواده يهنئونه وهو يقول : (الحمد لله ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر).

كانت هناك بعض الجيوب الدفاعية داخل المدينة التي تسببت في استشهاد عدد من المجاهدين ، وقد هرب أغلب أهل المدينة إلى الكنائس ولم يأت ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857هـ الموافق 29 من مايو 1453م ، إلا والسلطان الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهو يرددون ما شاء الله ، فالتفت إليهم وقال : لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية الذي أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنأهم بالنصر ونهاهم عن القتل والنهب والسلب، وأمرهم بالرفق بالناس والإحسان إليهم ، ثم ترجل عن فرسه واستقبل القبلة وسجد لله على الأرض شكراً وحمداً وتواضعاً لله تعالى.

حادي عشر : معاملة محمد الفاتح للنصارى المغلوبين :
توجه محمد الفاتح إلى كنيسة( آيا صوفية ) وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم ، وعندما اقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفاً عظيماً ، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان ، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة ، فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم ، وصلى فيها الفاتح صلاة العصر ، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة إلى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة ، وقد أخذ العمال يعدون لهذا الأمر ، فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبراً للخطيب ، وقد يجوز تحويل الكنسية إلى المسجد لأن البلد فتحت عنوة والعنوة لها حكمها في الشريعة الإسلامية.

ثم أمر بدفن الإمبراطور بما يليق بمكانته ، وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدينة ، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.

لقد حاول المؤرخ الإنجليزي ( ادوارد شيبرد كريسي ) في كتابة (تاريخ العثمانيين الأتراك ) أن يشوه صوره الفتح العثمانية للقسطنطينية، ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الإسلامي المجيد ، وسارت الموسوعة الأمريكية المطبوعة في عام 1980م في حمأة الحقد الصليبي ضد الإسلام ، فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينية ، وساقهم إلى اسواق الرقيق في مدينة دارنة حيث تم بيعهم هناك.

إن الحقيقة التاريخية الناصعة تقول : إن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى و الرفق بهم ، وافتدى عدداً كبيراً من الأسرى من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان ، ورجال الدين ، واجتمع مع الأساقفة وهدأ من روعهم ، وطمأنهم إلى المحافظة على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم ، وأمرهم بتنصيب بطريرك جديد فانتخبوا ( أجناديوس) بطريكا ، وتوجه هذا بعد انتخابه في موكب حافل من الأساقفة إلى مقر السلطان ، فاستقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم ، وتناول معه الطعام وتحدث معه في موضوعات شتى ، دينية وسياسية واجتماعية ، وخرج البطريريك من لقاء السلطان ، وقد تغيرت فكرته تماماً على السلاطين العثمانيين وعن الأتراك ، بل والمسلمين عامة ، وشعر أنه أمام سلطان مثقف صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة وإنسانية رفيعة ، ورجولة مكتملة ، ولم يكن الروم أنفسهم أقل تأثراً ودهشة من بطريقهم ، فقد كانوا يتصورون أن القتل العام لا بد لاحقهم ، فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في اطمئنان وسلام.

وهكذا فتحت مدينة الروم ، وكان عمر الفاتح آنذاك الخامسة والعشرين عاماً ، وبعد حصار دام خمسين يوماً ، وهي المدينة التي حوصرت تسعاً وعشرين مرة ، وكان بها من السكان آنذاك أزيد من 300 ألف نسمة .


الدولة العثمانية لعلي محمد صلابي ، ص174 ، وتاريخ الدولة العثمانية لعلي حسون ، ص36

د.فالح العمره 26-09-2006 02:38 PM

الدولة العثمانية(16) : بايزيد الثاني ( 886-918 هـ)


كان بايزيد أكبر أولاد السلطان محمد الفاتح ، وكان حاكماً في عهد أبيه مقاطعة القرمان ، وكان الولد الثاني للسلطان محمد الفاتح يُدعى (جم) ، ويحكم مقاطعة القرمان ، والأمير بايزيد هو الذي سيتولى السلطنة بعد وفاة أبيه ، وكلا الوالدين كان بعيداً عن استانبول ، وكانت رغية الصدر الأعظم قرماني محمد باشا في تولية الأمير جم ، لذا فقد أرسل من يخبره بوفاة والده كي يأتي وربما استطاع تسلم الأمر ، غير أن حاكم الأناضول سنان باشا أردك اللعبة فتقل رسول الصدر الأعظم إلى الأمير جم قبل أن ينقل له الخير ، وكانت رغبة الأنكشارية وعطافتهم مع الأمير بايزيد فلما أخبروا بما فعل الصدر الأعظم قاموا عليه وقتلوه ونهبوا المدينة ، وأقاموا (كركود) نائباً عن أبيه حتى يصل إلى عاصمته.

وصل الأمير بايزيد فاستقبله الانكشاريون ، وطلبوا منه العفو على ما فعلوا كما طلبوا منه طلبات نفذها لهم كلها ، وبويع بايزيد سلطاناً ، وتسلم الأمر ، ومع أنه كان محباً للسلم وللاشتغال بالعلم إلا أن أحوال البلد اقتضت أن يترك ما عرف ويتسلم الأمر بشدة.

عندما وصل خبر وفاة السلطان محمد الفاتح إلى ابنه جم سار إلى بورصة ، واحتلها عنوة ، ودعا أخاه السلطان بايزيد لتقسيم البلاد بينهما بحيث يستقل جم بآسيا ، ويستقبل بايزيد بأوربا ، فلم يوافقه السلطان وحاربه ، ودخل بورصة ففر جم ، والتجأ إلى المماليك عام 886 حيث بقي عاماً كاملاً عند السلطان قايتباي في القاهرة ، وبعدها انتقل إلى حلب ، وبدأ يراسل الأمير قاسم حفيد أمراء القرمان ، ووعده بإعادة إمارة القرمان إن تمكن الأمير جم أن يحكم الدولة العثمانية ، فسارا معاً للهجوم على قونية لكنهما فشلا فشلاً ذريعاً.

وحاول الأمير جم المصالحة مع أخيه السلطان أن يعطيه مقاطعة ، فرفض ذلك السلطان حيث فهم تقسيم الدولة ، وانطلق الأمير جم إلى رهبان جزيرة رودوس فاستقبلوه ، غير أن السلطان اتصل بهم ، وطلب منهم إبقاء الأمير جم عندهم تحت الإقامة الجبرية مقابل دفع مبلغ من المال من السلطان للرهبان ، وعدم التعرض للجزيرة ما دام حياً فوافق الرهبان على ذلك ، ورفضوا تسليمه إلى ملك المجر ، ثم رفضوا تسليمه إلى إمبراطور ألمانيا ليتخذوه سيفاً يقاتلون به الدولة العثمانية ، ولكنه سلم بعدئذ إلى فرنسا ، ومنها إلى البابا والمهم أنه مات عام 900 وهو بهذه الصورة وقد استراح منه السلطان سواء أكان تحت الإقامة الجبرية أم عندما فارق الحياة.

وحصلت خلافات مع مصر التي كان لها نفوذ على بعض الإمارات في جنوب الأناضول ، ووقع قتال بين الطرفين غير أن باي تونس قد أصلح بينهما ، خوفاً من زيادة القتال بين المسلمين على حين أن النصارى يتربصون الدوائر بالمسلمين ، ويسرون للخلافات التي تحدث بينهم.

وفشل العثمانيون في فتح بلغراد ، وتوطدت الصلات مع بولونيا عام 895 ثم حدث الخلاف بينهما إذ كان كل من الجانبين يدعي الحماية على البغدان ، وقد اعترف أمير البغدان بالحماية العثمانية ، وقاتل معهم البولونيين.

وبدأت الدول تقترب من الدولة العثمانية ، وتطلب عقد الحلف معها للإفادة منها في قتال خصومها ، وخاصة الإمارات الإيطالية ، وقد حارب العثمانيون دولة البندقية ، وانتصروا عليها ، فاستنجدت بملك فرنسا والبابا ، وكانت حرباً صليبية بين الطرفين.

وظهرت دولة روسيا عام 886 حيث استطاع دوق موسكو ايفان الثالث من تخليص موسكو من أيدي التتار ، وبدأ بالتوسع ، وفي عام 897 وصل أول سفير روسي لاستانبول ، ويحمل معه الهدايا ، وكان وصول السفير الثاني عام 901 وقد حصل على بعض الامتيازات للتجار الروس.

كان السلطان بايزيد الثاني قد عين أولاده الثلاثة بقوا أحياء على الولايات ، فكان كركود والياً على شرقي الأناضول ، وأحمد على أماسيا ، وسليم على طرابزون كما عين حفيده سليمان بن سليم على مدينة (كافا) في شبه جزيرة القرم.

وكان سليم محارباً طموحاً فأراد أن يكون والياً على بعض المقاطعات في أوربا ليمارس الجهاد ، ويؤيده في ذلك الانكشارية والعسكريون عامة ، ولكن السلطان قد رفض من ابنه ذلك كما رفض الولد ولاية طرابزون ، وانتقل إلى ابنه سليمان في كافا ، ثم جمع جيشاً ، وسار إلى أوروبا وحاول السلطان تهديد ولده الذي أصر على القتال ، ونتيجة حبه للسلم تراجع عن قراره وعينه على بعض المقاطعات الأوروبية عام 916 ، فطمع سليم وسار إلى أدرنه ، وأعلن نفسه سلطاناً عليها ، فحاربه أبوه وهزمه ، وفر إلى القرم ، ثم تدخلت الانكشارية فعفا السلطان عنه ، وأعاده إلى أوروبا ، فسار به الانكشارية إلى استانبول ، وطلبوا من السلطان التنازل للأمير سليم عن الحكم فوافق واستقل عام 918 ، وانتقل السلطان ليعيش بعيداً عن الحكم فتوفي في الطريق.

أما الأمير كركود ، وهو الولد الكبير للسلطان فقد رأى أخاه سليماً يفرض رأيه لذا اتجه إلى مقاطعة صاروخان ، واستلمها دون أمر أبيه ، فحاربه وهزمه قبيل وفاته بقليل.


ثالثاً : السلطان بايزيد الثاني والدبلوماسية الغربية :

استمرت راية الجهاد مرفوعة طيلة عهد السلطان بايزيد وأدرك الأعداء ، أنه لا يستطيعون مواجهة القوات الجهادية في حرب نظامية يحققون فيها أطماعهم لهذا لجأوا إلى أسلوب خبيث تستروا به تحت مسمى العلاقات الدبلوماسية لكي ينخروا في عظام الأمة ويدمروا المجتمع المسلم من الداخل ، ففي عهد السلطان بايزيد وصل أول سفير روسي إلى (إسلامبول) عام (898هـ/1492م).

إن وصول السفير الروسي عام (1492م) على عهد دوق موسكو (إيفان) وما تابع ذلك ، وما أعطى له ولغيره من حصانة وامتيازات ، فتح الباب أمام أعداء الأمة الإسلامية لكشف ضعفها ومعرفة عوراتها ، والعمل على إفسادها والتآمر عليها بعد تدميرها وإضعاف سلطان العقيدة في نفوس أبنائها.

وفي عهد بايزيد الثاني في عام (886هـ) استطاع دوق موسكو (إيفان الثالث) أن ينتزع إمارة (موسكو) من أيدي المسلمين العثمانيين ، وبدأ التوسع على حساب الولايات الإسلامية.

ولا يعني ذلك أن السلطان (بايزيد) وقف موقفاً ضعيفاً أمام هذه الظروف ولكن الدولة كانت تمر بظروف صعبة في محاربتها لأعداء الإسلام على امتداد شبه جزيرة الأناضول، وأوروبا الشرقية كلها ، فانشغلت بها.



التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/92 ، والدولة العثمانية لعلي الصلابي ، ص267

د.فالح العمره 26-09-2006 02:39 PM

الدولة العثمانية(17) : موقف السلطـان بايزيـد الثاني من مسلمي الأندلس


رابعاً: وقوفه مع مسلمي الأندلس :

تطورت الأحداث في شبه الجزيرة الأيبرية في مطلع العصور الحديثة ، فأصبح اهتمام الأسبان ينحصر في توحيد أراضيهم ، وانتزاع ما تبقى للمسلمين بها خصوصاً بعد ما خضعت لسلطة واحدة بعد زواج إيزابيلا ملكة قشتالة وفريدناند ملك أراغون ، فاندفعت الممالك الأسبانية المتحدة قبيل سقوط غرناطة في تصفية الوجود الإسلامي في كل أسبانيا ، حتى يفرغوا أنفسهم ويركزوا اهتمامهم على المملكة الإسلامية الوحيدة غرناطة ، التي كانت رمز للمملكة الإسلامية الذاهبة.

وفرضت أسبانيا أقسى الإجراءات التعسفية على المسلمين في محاولة لتنصيرهم وتضييق الخناق عليهم حتى يرحلوا عن شبه الجزيرة الأيبرية.

نتيجة لذلك لجأ المسلمون المورسكيون إلى القيام بثورات وانتفاضات في أغلب المدن الأسبانية التي يوجد بها أقلية مسلمة وخاصة غرناطة وبلنسية ، وأخمدت تلك الثورات بدون رحمة ولا شفقة من قبل السلطات الأسبانية التي اتخذت وسيلة تعميق الكره والحقد للمسلمين ، ومن جهة أخرى كان من الطبيعي أن يرنوا المورسكيون بأنظارهم إلى ملوك المسلمين في المشرق والمغرب لإنقاذهم ، وتكررت دعوات وفودهم ورسائلهم إليهم للعمل على إنقاذهم مما يعانوه من ظلم ، وخاصة من قبل رجال الكنيسة ودواوين التحقيق التي عاثت في الأرض فساداً وأحلت لنفسها كل أنواع العقوبات وتسليطها عليهم.

وكانت أخبار الأندلس قد وصلت إلى المشرق فارتج لها العالم الإسلامي. وبعث الملك الأشرف في مصربوفود إلى البابا وملوك النصرانية يذكرهم بأن النصارى الذين هم تحت حمايته يتمتعون بالحرية ، في حين أن أبناء دينه في المدن الأسبانية يعانون أشد أنواع الظلم ، وقد هدد باتباع سياسة التنكيل والقصاص تجاه رعايا المسيحين ، إذا لم يكن يكف ملك قشتالة وأرغون عن هذا الاعتداء وترحيل المسلمين عن أراضيهم وعدم التعرض لهم ورد ما أخذ من أراضيهم ، ولم يستجيب البابا والملكان الكاثوليكيان لهذا التهديد من قبل الملك الأشرف ومارسوا خطتهم في تصفية الوجود الإسلام في الأندلس .

وجددت رسائل الاستنجاد لدى السلطان العثماني بايزيد الثاني ، فوصلته هذه الرسالة : ( الحضرة العلية ، وصل الله سعادتها ، وأعلى كلمتها ، ومهد أقطارها ، وأعز أنصارها ، وأذل عداتها ، حضرة مولانا وعمدة ديننا ودنيانا ، السلطان الملك الناصر ، ناصر الدنيا ، والدين ، وسلطان الإسلام والمسلمين ، قامع أعداء الله الكافرين ، كهف الإسلام ، وناصر دين نبينا محمد عليه السلام ، محي العدل ، ومنصف المظلوم ممن ظلم ، ملك العرب ، والعجم ، والترك والديلم ، ظل الله في أرضه ، القائم بسنته وفرضه ، ملك البرين وسلطان البحرين ، حامي الذمار ، وقامع الكفار ، مولانا وعمدتنا ، وكهفنا وغيثنا ، لا زال ملكه موفور الأنصار ، مقرونا بالانتصار ، مخلد المآثر والآثار ، مشهور المعالي والفخار ، مستأثراً من الحسنات بما يضاعف به الأجر الجزيل ، في الدار الآخرة والثناء الجميل ، والنصر في هذه الدار ، ولا برحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد ومجرد على أعداء الدين من بأسها ، ما يروي صدور السحر والصفاح ، وألسنه السلاح بأذلة نفائس الذخائر في المواطن التي تألف فيها الأخاير مفارقة الأرواح للأجساد ، سالكة سبيل السابقين الفائزين برضا الله وطاعته يقوم الأشهاد .

وكانت ضمن الرسالة أبيات القصيدة يمدح صاحبها فيها الدولة العثمانية والسلطان بايزيد ، ويدعو للدولة بدوام البقاء ‘ ثم وصفت القصيدة الحالة التي يعاني منها المسلمون وما تعرض له الشيوخ والنساء من هتك للإعراض وما يتعرض له المسلمين في دينهم حيث استطر قائلاً :

ســـلام عليكم من عبيد تخلفوا**** بــــأندلس بالغرب في أرض غربة
أحــاط بهم بحر من الردم زاخر*** وبــــــــحر عميق ذو ظلام ولجة
ســلام عليكم من عبيد أصابهـم**** مـصاب عــــظيم يالها من مصيبة
ســلام عليكم من شيوخ تمزقت**** شـــــيوخهم بالنتف من بعد عـــزة
ســلام عليكم من وجوه تكشفت **** على جملة الأعلاج من بعدة سترة
ســــلام عليكم من بنات عوائق**** يـسوقهم اللباط قهراً لخــــــلوة
سـلام عليكم من عجائز أكرهت **** عـــــــلى أكل خنزير ولحم جيـــفة

ثم تعود القصيدة في شرح المأساة ، وتغيير الدين ما إلى ذلك ، فاستطردت بقولها :

غـــــــدرنا ونصرنا وبدل دينـــنا*** ظـــــلمنا وعوملنا بكل قبيحـة
وكـــــــنا على دين النبي محمـــد*** نقاتـــــل عمال الصليب بنيــة
وتلقي أموراً في الجهاد عظـــيمة *** بقتل وأسر ثم جوع وقلــــــــة
فجاءت علينا الروم من كل جـانب *** بسيل عظيم جملة بعد جملــــــة
ومالوا علينا كالجراد بجمعــــهم *** بجد وعزم من خيول وعـــــــدة
فكنا بطول الدهر نلقي جموعـهم *** فنقتل فيها فرقة بعد فرقـــة وفرسانها تزداد في كل ساعـــــة *** وفرساننا في حال نقص وقلـــة
فلما ضعفنا خيموا في بلانــــــا*** ومالوا علينا بلدة بعد بلـدة
وجاؤوا بأنفاظ عظام كثـــــــــيـرة *** تهدم أسوار البلاد المنيعــــة
وشدوا عليها الحصار بــــــــــقوة *** شهوراً وأياماً بجد وعزمـــــــة
غـــــــــدرنا ونصرنا بدل دينـــنا*** ظلمنا وعوملنا بكل قبيحــــــة
وكنا علــــــى دين النبي محـــــمد*** نقاتل عمال الصليب بنيــــــة
وتلقى أموراً في الجهاد عظـــيمة*** بقتل وأسر ثم جوع وقلـــــة
فجاءت علينا الروم من كل جانب*** بسيل عظيم جملة بعد جملــــــة
ومالوا علينا كالجراد بجمعـــهم*** فنقتل فيها فرقة بعد فرقـــــة
وفرسانها تزداد في كل ساعـــــة *** وفرساننا في حال نقص وقلـــــة
فلما ضعفنا خيموا في بلادنـــــــا*** ومالوا علينا بلدة بعد بلــدة
وجاءوا بأنفاظ عظام كثــــــــيرة*** تهدم أسوار البلاد المنيعة وشدوا عليها الحصار بقـــــــوة*** شهوراً وأياماً بجد وعزمـــــة
فلما تفانت خلينا ورجالــــــنا*** ولم نر من إخوننا من إغاثــــــــــة
وقلت لنا الأقوات وأشتد حالنــا *** أحطناهم بالكره خوف الفضيـــحة
وخوفاً على أبنائنا وبناتـــــنا*** من أن يؤسروا أو يقتلوا شر قتلة
على أن نكون مثل من كان قبلنا *** من الدجن من أهل بلاد القديمــــة

ثم تحدثت القصيدة عن الخيار في مثل هذه الحالة ، فإما القبول بالوضع السابق أو الإرتحال ، إذ استطردت قائلة :

ونبقى على آذاننا وصلاتــــنا*** ولا نتركن شيئاً من أمر الشريعــة
ومن شاء منا الجر جاز مؤمناً*** بما شاء من مال إلى أرض عدوة
إلى غير ذلك من شروط كثيرة*** تزيد على الخمسين شرطاً بخمسة
فقال لنا سلطانهم وكبيرهــــــم*** لكم ما شرطتم كاملاً بالزيـــــــــادة
فكونوا على أموالكم ودياركــم*** كما كنتم من قبل دون أذيـــــة

إلا أن الملكين الكاثوليكيين لم يفيا بتلك المواثيق إذ بدأ غدرهما على المسلمين فقال :

فلما دخلنا تحت عقد ذمامهـــــــم*** فينا بنقص العزيمة
وخان عهوداً كان قد غرنا بــــها*** ونصرنا كرهاً بعنف وسطــــــوة
وأحرق ما كانت لنا من مصاحف *** وخلطها بالزبل أو بالنجاســـــــة
وكل كتاب كان في أمر ديننـــــــا *** ففي النار ألقوه بهزءة وحـــقرة
ولم يتركوا فيها كتاباً لمســــــــلم *** ولا مصحفاً يخلى به للقـــــراءة
ومن صام أو صلى يعلم حالـــــــه*** ففي النار يلقوه كل حالــــــة
ومن لم يجئ منا لموضع كفرهم*** يعاقبه اللباط شر العقوبـــــــــــة
ويلطم خديه ويأخذ مالـــــــــــه*** ويجعله في السجن في سوء حالة
وفي رمضان يفسدون صيامنـــا*** بأكل وشرب مرة بعد مــــــــــــــرة

وهكذا مضت المسيحية في هتك الإسلام ، وذل المسلمين ، فمن تدخل في عبادة المسلم إلى شتم الإسلام فقالت القصيدة في ذلك :

وقد أمرونا أن نسب نبيـــــنا*** ولا نذكرنه في رخاء وشـــــــدة
وقد سمعوا قوماً يغنون باسمـــــــه*** فأدركهم منهم أليم المـــــضرة
وعاقبهم حكامهم وولاتهــــــــــــــم*** بضرب وتغريم وسجن وذلــــــة
ومن جاءه الموت ولم يحضر الذي*** يذكرهم لم يدفنوه بحيلـــــة
ويترك في زبل طريحاً مجـــــــــــدلاً*** كمثل حمار ميت أو بهيمـــــــة
إلى غير هذا من أمور كثيــــــــــرة*** قباح وأفعال غزار رديــــــــة


بعد ذلك أخذ الملوك الكاثوليك في إذابة المجتمع المسلم وذلك بتغيير الهوية الإسلامية إذ قالت القصيدة :

وقد بدلت أسماءنا وتـــحولت *** بغير رضا منا وغــــــير إرداة
فآها على تبديل دين محــــــــــــمد*** بدين كلاب الروم شر الـــــبرية
وآها على أسمائنا حين بــــــــدلت*** بأسماء علاج من أهل القــيادة
وآها على أبنائنا وبناتنــــــــــا*** يرحون للباط في كل غـــــــدوة
يعلمهم كفراً وزوراً وفريـــــــــــة*** ولا يقدروا أن يمنعوهم بحيلة
وآها على تلك المساجد ســــورت *** مزابل للكفار بعد الطهــــــــارة
وآها على تلك الصموامع عـقلت*** نواقيسهم فيها نظير الشهادة
وآها على تلك البلاد وحسنـــــها *** لقد أظلمت بالكفر أعظم ظـلمة
وصارت لعباد الصليب معاقــــلاً*** وقد أمنوا فيها وقوع الاغـارة
صرنا عبيداً ولا أسارة فنفتدي *** ولا مسلمين منطقهم بالشهادة

ثم تتوجه القصيدة باستجداء السلطان لإنجادهم ، وإنقاذهم من تلك المحنة فتقول :

فلوا أبصرت عيناك ما صار حالــنا*** إليه لجادت بالدموع العزيــــزة
فيا ويلنا يا بؤس ما قد أصابــــــنا*** من الضر والبلوى وثوب المذلة
سألناك يا مولاي والله ربـــــــــــنا*** وبالمصطفي المختار خير البرية
عسى تنظروا فينا وفيما أصابــــــنا*** لعل إله العرش يأتي برحـــــمة
فقولك مسموع وأمرك نافــــــــــــذ*** وما قلت من شيء يكون بسرعة
ودين النصارى أصله تحت حكمكـم*** ومن ثم يأتيهم إلى كل كــــورة
فبا لله يا مولاي منوا بفضلكــــــــم *** علينا برأي أو كلام بحجـــــــة
فأنتم أولوا الأفضال والمجد والعلا *** وغوث عباد الله في كل آفــــــــــة


ويشير المسلمون أن توسط ملوك مصر لدى المسيحيين لم تجد شيئاً ، بل زادوا تعنتاً فقالوا :
وقد بلغت ارسال مصر إليهــــــــــم*** وما نالهم غدر ولا هتك حرمــــة
وقالوا لتلك الرسال عنا بأننـــــــا*** رضينا بدين الكفر من غير قهرة
وساقوا عقود الزور ممن أطاعهم*** ووالله ما نرضى بتلك الشهــــادة
لقد كذبوا في قولهم وكلامــــــــــهم*** علينا بهذا القول أكبر فريـــة
ولكن خوف القتل والحرق رونـــــا *** نقول كما قالوه من غير نــــية
ودين رسول ما زال عندنـــــــــــــا*** وتوحيدنا لله في كل لحظــــــــة

بعد ذلك أوضح المسلمون للسلطان بايزيد أنه مع كل ذلك فإنهم متمسكون بالدين الإسلامي ويؤكدون ذلك بقولهم :

ووالله ما نرضى بتبديل ديننــــــــــا*** ولا بالذي قالوا من أمر الثلاثـة
إن زعموا أنا رضينا بدينهــــــــــم*** بغير اذى منهم لنا ومـــــساءة
فسل وحرا عن أهلها كيف أصبحوا*** أسارى وقتلى تحت ذل ومهــــــنة
وسل بلفيقاً عن قضية أمرهــــــــا*** لقد مزقوا بالسيف من بعد حسرة
وضيافة بالسيف مزق أهلهـــــــــا*** كذا فعلوا أيضاُ بأهل البـــشرة
وأندرش بالنار أحرق أهلهــــــــا*** بجامعهم صاروا جميعاً كفحــــمة

ويكرر المسلون ويجددوا الاستغاثة بالدولة العثمانية بعد تقديم هذه الشكوى :

فها نحن يا مولاي نشكو إليهـــــــم*** فهذا الذي نلناه من شر فرقــة
عسى ديننا يبقى لنا وصلاتنــــــــــا*** كما عاهدونا قبل نقض العزيمة
وإلا فيجلونا جميعاً عن أرضهــــــم*** بأموالنا للغرب دار الأحبـــــة
فأجلاؤنا جميعاً عن أرضهــــــــــم*** على الكفر في عز على غير ملة
فهذا الذي نرجوه من عز جاهكـــــم*** ومن عندكم تقضي لنا كل حاجة
ومن عندكم نوجو زوال كروبنـــــــا*** وما نالنا من سوء حال وذلــــة
فأنتم بحمد الله خير ملوكنـــــــــــــا*** وعزتكم تعلو على كل عزة
فنسأل مولانا دوام حياتكــــــــــــم*** بملك وعز في سرور ونعــــــمة
وتهدين أوطان ونصر على العـــــدا*** وكثرة أجناد وما وثـــــــروة
وثم سلام الله قلته ورحمــــــــــــــة*** عليكم مدى الأيام في كل ساعة

كانت هذه هي رسالة الاستنصار التي بعث بها المسلمون في الأندلس ، لإنقاذ الموقف هناك ، وكان السلطان بايزيد يعاني من العوائق التي تمنعه من إرسال المجاهدين ، بالإضافة إلى مشكلة النزاع على العرش مع الأمير جم ، وما أثار ذلك من مشاكل مع البابوية في روما وبعض الدول الأوروبية وهجوم البولنديين على مولدافيا والحروب في ترانسلفانيا والمجر والبندقية وتكوين التحالف الصليبي الجديد ضد الدولة العثمانية من البابا جويلس الثاني وجمهورية البندقية والمجر وفرنسا ، وما أسفر عنه هذا التحالف من توجيه القوة العثمانية لتلك المناطق .

ومع ذلك قام السلطان بايزيد بتقديم المساعدة وتهادن مع السلطان المملوكي الأشراف لتوحيد الجهود من أجل مساعدة غرناطة ووقعا اتفاقاً بموجبه يرسل السلطان بايزيد أسطولاً على سواحل صقلية باعتبارها تابعة لمملكة أسبانيا ، وأن يجهز السلطان المملوكي حملات أخرى من ناحية أفريقيا وبالفعل أرسل السلطان بايزيد أسطولاً عثمانياً تحول إلى الشواطئ الأسبانية ، وقد أعطى قيادته إلى كمال رايس الذي أدخل الفزع والخوف والرعب في الأساطيل النصرانية في أواخر القرن الخامس عشر ، كما شجع السلطان بايزيد المجاهدين في البحر بإبداء اهتمامه وعطفه عليهم ، وكان المجاهدون العثمانيون قد بدأوا في التحرك لنجدة إخوانهم المسلمين ، وفي نفس الوقت كانوا يغنمون الكثير من الغنائم السهلة الحصول من النصارى ، كذلك وصل عدد كبير من هؤلاء المجاهدين المسلمين أثناء تشييد الأسطول العثماني ، ودخلوا في خدمته بعد ذلك أخذ العثمانيون يستخدمون قوتهم البحرية الجدية في غرب المتوسط بتشجيع من هؤلاء المجاهدين وهذا الذي كان في وسع السلطان بايزيد الثاني فعله.




الدولة العثمانية ، لعلي محمد الصلابي ، ص270

د.فالح العمره 26-09-2006 02:41 PM

الـدولة العثـمـانيـة (18) : ملاحظـات على السلطنة العثمانية


امتدت سلطنة بني عثمان ما يقرب من مائتين وإحدى وثلاثين سنة ، ومرت بمرحلتين تجاوزت كل مرحلة مائة سنة ، وبينهما مدة من الخلاف بين أبناء السلطان بايزيد الأول تجاوزت أحد عشر عاماً ، وحكم في كل مرحلة أربعة سلاطين ، انتهت أولاهما بأيام بايزيد الأول ، وانتهت الثانية بعهد بايزيد الثاني ، وهاتين المرحلتان هما :

أولاً :
1- عثمان 687 – 726
2- أورخان 726 – 761
3- مراد الأول 761 - 791
4- بايزيد الأول 791 – 805

وإن كانت سلطنة عثمان الحقيقية أو التي حملت لقب سلطان قد بدأت عام 699 عندما زالت دولت سلاجقة الأناضول ، وتفرد بعدها ، وأعلن نفسه سلطاناً ، أما قبل ذلك فقد كان أميراً عادياً.

ثانياً :
1- محمد جلبي 816 – 824
2- مراد الثاني 824 – 855
3- محمد الثاني (الفاتح) 855 – 886
4- بايزيد الثاني 886 – 918

وبين هاتين المرحلتين كان خلاف بين أبناء السلطان بايزيد الأول الذي قتل في معركة أنقرة عام 805 ، والتي دارت بينه وبين تيمورلنك ، واستمرت مدة الخلاف أحد عشر عاماً 805 – 816 حيث تفرد السلطان محمد جلبي بالسلطنة.

ويمكن أن نلاحظ في مرحلة السلطنة العثمانية الملاحظات التالية :

- أن همها الأول كان محصوراً في فتح القسطنطينية ، ويبدو تذليل الصعاب في سبيل هذه المهمة هو القضاء على الإمارات التركمانية التي كانت قائمة في الأناضول لتوحيد جهود المسلمين أولاً ، وكي لا يبقى سند للروم فيما إذا أرادوا الاعتماد على بعض الرجال الذين يفضلون مصالحهم على مصلحة الأمة ، واستمرت هذه المهمة مدة طويلة بل شغلت عهد السلطنة الأول كله ، وربما تجاوزت قليلاً حتى قضى السلطان سليم على إمارة أبناء رمضان ، وإمارة ذي القادر عام 922 .

- وكانت مهمة السلطان الثانية هي التوسع في أوروبا للغاية نفسها وإسقاط كل دعم يفكر فيه الروم ، واستمر هذا أيضاً في عهد السلطنة الثاني كله.

- ونرى أيضاً أن اهتمام السلاطين العثمانيين بالأمة المسلمة كان ضعيفاً رغم فكرة الجهاد التي حملوها ، ورغم أن أوربا قد وقفت في وجههم باسم الصليبية ، وكان البابا المحرك الرئيسي لقتال العثمانيين لحماية النصرانية على حد زعمه فكان يرسل النداءات لملوك أوروبا وأمرائها للوقوف أمام الدولة العثمانية.

- وإن عدم اهتمام العثمانيين بالأمة المسلمة لأنهم كانوا يشعرون أن سلطنتهم ضعيفة وصغيرة ولا تشكل ثقلاً عظيماً في الأوساط العالمية ، أو بين الدول القائمة آنذاك فيرون أن دولة المماليك أقوى منهم ، وهي مركز الخلافة وعليها المسؤولية الأولى في هذا المجال ، مع أن العثمانيين كانوا يتصورون في أن الضغط على أوروبا من جهة الشرق يخفف عن مسلمي الأندلس مما يعانونه من حرب صليبية ، مع أن مسلمي الأندلس قد وصلوا آنذاك إلى مرحلة من الضعف لا يجدي معها دعم ، ولا ينفع معها مد ، فقد كانوا يعيشون في البذخ والترف ، ويصرفون وقتهم في الفن وتزيين القصور ، وزراعة الحدائق وفي الوقت نفسه يستجدون بطغاة نصارى الإسبان بعضهم على بعض ، وعندما سقطت الأندلس بيد نصارى الإسبان مع مطلع عام 898 كان سلطان العثمانيين بايزيد الثاني محباً إلى الدعة والسلم.

- كما نلحظ أن روسيا لم تدخل ميدان الصراع في أثناء السلطنة العثمانية وذلك لأن الروس كانوا تحت حكم التتار المسلمين ، وأول مرة استطاع دوق موسكو ايفان الثالث أن يخلص مدينته من حكم التتار هي عام 886 أي في العام الذي توفي فيه السلطان محمد الفاتح ، أو أن عهد السلطنة كان في آخره ، وقد أرسل الروس السفراء إلى استانبول في تلك المدة.

- ونلاحظ أن الصراع لم يحدث بين العثمانيين وبين الدول المسلمة المحيطة بهم من الجنوب والشرق بشكل عنيف ؛ وذلك لانصراف العثمانيين إلى مهمتهم التي تكلمنا عنهم ، أو لانصرافهم إلى شؤونهم الخاصة ، وعندما كاد النزاع يقع بينهم وبين المماليك تدخل( باي تونس ) في الأمر ، وحال دون وقوع قتال بين المسلمين ، هذا مع العلم أن العثمانيين كانوا يهتمون بالجانب الإسلامي كثيراً. وكانوا أصحاب عاطفة إسلامية فاهتمامهم كان نحو الجهاد لا إلى قتال المسلمين.




التاريخ الإسلامي ، لمحمود شاكر ، 8/ 96

د.فالح العمره 26-09-2006 02:42 PM

الـدولـة العثـمانيـة (19) : عصـور الخلافة العثمانية


مرت الخلافة العثمانية بأربعة أدوار هي على التوالي : عصر القوة ، وعصر الضعف ، وعصر الانحطاط والتراجع ، وعصر حكم الاتحاديين .

أولاً : عصر القوة :

اختلف عهد الخلافة العثمانية عن عهد السلطنة إذ بدأ الاهتمام بالأمة المسلمة ، والعمل على توحيدها ، ثم الوقوف أمام الصليبية صفاً واحداً ، وقد عمل الخلفاء على هذا حتى ضعف أمرهم فأصبح تفكيرهم ينحصر بالمحافظة على ما تحت أيديهم ، حتى إذا زاد الضعف بدأت الدول النصرانية تقتطع من الدولة جزءاً بعد آخر حتى أنهت عليها ، واصطنعت لنفسها أعواناً بين المسلمين ، حتى قضت على الخلافة الإسلامية نهائياً ، وتشتت أمر المسلمين ، وانقسموا فرقاً وشيعاً وعصبية .

لذا فقد توالى على الخلافة العثمانية أربعة عصور كان أولها عصر القوة ، وتعاقب عليه خليفتان فقط هما : سليم الأول ( 923- 926 ) ، وابنه سليمان الأول ( القانوني ) ( 926- 974 ) ، ولم يطل عصر القوة ؛ إذ لم يزد كثيراً عن النصف قرن .

ثانياً : عصر الضعف :

ثم جاء عصر الضعف بعدهما مباشرة ، وبدأ الخط البياني للخلافة العثمانية بالهبوط باستمرار ، وإن كان يتوقف عن الهبوط ، ويسير مستوياً في بعض المراح للقوة بعض الخلفاء النسبية أو لهمة حاشيتهم وخاصة الصدر الأعظم ، وتولى في هذه المرحلة خمسة عشر خليفة ، ويعد أكثرهم مغموراً ، إلا من حدثت في أيامه أحداث جسام فسلطت الأضواء عله وعرف بسببها ، وأولهم هو سليم الثاني ، وتعود معرفته لتوليه الحكم بعد أبيه الذي طارت شهرته ،وبصفته أول الخلفاء الضعفاء ، وقد توقف الخط البياني عن الارتفاع ثم هبط فجأة وبدأت الدولة تتراجع عن أجزاء من أملاكها تدريجياً حتى لم يبق لها إلا القليل ثم انهارت.

وإذا كانت هذه المرحلة قد طالت إذ زادت على ثلاثة قرون ونصف ( 974 – 1327 ) فذلك يعود لهيبة الدولة السابقة ،واتساع رقعتها ، والعاطفة الإسلامية الباقية نسبياً ، واختلاف الدول الأوروبية فيما بينها على التقسيم ،وقيام بعض الخلفاء الأقوياء نسبيا ، وخلفاء هذه المرحلة هم :
1- سليم الثاني ( 974- 982 ) .
2- مراد الثالث ( 982- 1003) .
3- محمد الثالث ( 1003 – 1012 ) .
4- أحمد الأول ( 1012 – 1026 ) .
5- مصطفى الأول ( 1026 – 1027 ) و ( 1031 – 1032 ) .
6- عثمان الثاني ( 1027 – 1031 ) .
7- مراد الرابع ( 1032 – 1049 ) .
8- إبراهيم الأول ( 1049 – 1058) .
9 – محمد الرابع ( 1058- 1099 ) .
10- سليمان الثاني ( 1099 – 1102 ) .
11- أحمد الثاني ( 1102 – 1106 ) .
12 – مصطفى الثاني ( 1106 – 1115 ) .
13- أحمد الثالث (1115 – 1143 ) .
14- محمود الأول ( 1143 – 1168 ) .
15- عثمان الثالث ( 1168 – 1171 ) .

ثالثاً : عصر الانحطاط والتراجع :

وبدأ هذا العصر بعد الضعف الكبير الذي آلت إليه الدولة العثمانية ، وبعد النهضة التي تمت في الدول الأوروبية ، وبعد اتفاق الدول النصرانية كلها مع خلافها بعضها مع بعض على الدولة العثمانية والتفاهم على حربها وتقسيمها ، تحركها في ذلك الروح الصليبية ، وقد عرف هذا الاتفاق ضد المسلمين في الكتب الأوروبية باسم المسألة الشرقية أي مشكلة الدول الواقعة في الشرق من أوروبا .

وكانت مدة الخلفاء طويلة نسبياً ، وقد توالى من الخلفاء في هذا العصر الممتد من عام ( 1171 – 1327 ) أي أكثر من قرن ونصف تسعة خلفاء هم :
1- مصطفى الثالث ( 1171 – 1187 ) .
2- عبد الحميد الأول ( 1187 – 1203 ) .
3- سليم الثالث ( 1203 – 1222 ) .
4- مصطفى الرابع ( 1222 – 1223 ) .
5- محمود الثاني ( 1223 – 1255 ) .
6- عبد المجيد ( 1255 – 1277 ) .
7- عبد العزيز ( 1277 – 1293 ) .
8- مراد الخامس ( 1293 – 1293 ) .
9- عبد الحميد الثاني ( 1293 – 1328 ) .


رابعاً : عصر حكم الاتحاديين :

بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني أصبح كل شيء في الخلافة بيد الاتحاديين ، أما الخليفة فكان صورة ، غير أن الأمر لم يطل إذ لم يتعاقب على الخلافة سوى ثلاثة خلفاء، وكانت الدولة قد اشتركت في الحرب العالمية الأولى بجانب ألمانيا ، فهزمت وتجزأت ، وغادر البلاد رجال الاتحاد البارزين أو الذين كانت بيدهم الأوامر والنواهي ، وجاء إلى الحكم من جديد مصطفى كمال الذي كان منصرفاً إلى شهواته وبناء مجده فألغى الخلافة حسب دور مخطط له ، وزالت الخلافة الإسلامية التي دامت أكثر من أربعة قرون ،وبزوالها لم يعد للمسلمين خلافة فانقسمت بلادهم ، وظهرت النعرات القومية ، وتصارع بعضها مع بعض حتى وهن أمر المسلمين.

أما الخلفاء الذين تعاقبوا أيام حكم الاتحاديين فهم :
1- محمد رشاد ( محمد الخامس ) ( 1328 – 1337 ) .
2- محمد السادس ( وحيد الدين ) ( 1337 – 1340 ) .
3- عبد المجيد الثاني ( 1340 – 1324 ) .



التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر

د.فالح العمره 26-09-2006 02:43 PM

الـدولة العثـمـانيـة ( 20 ) : سـليـم الأول ( 918 - 926هـ )


بعد أن تنازل بايزيد لابنه سليم عن الحكم بدعم الانكشارية ، أرضى السلطان سليم الانكشارية وتوجه إلى آسيا للتخلص من إخوته الذين ينازعونه السلطة أو لا يرضون به سلطاناً ، فتعقب أخاه أحمد إلى أنقره ، وقبض عليه بعد جهد ، وقتله ، ثم سار إلى ولاية صاروخان وتتبع أخاه الآخر كركود ففر منه ، وبعد البحث عليه تمكن منه وقتله ، وأخذ خمسة من أولاد إخوته في بورصة وأمر بقتلهم ، واطمأن بعدها - حسب قناعته - من المنافسة الأسرية. وكان قد عين ابنه سليمان حاكماً على استانبول ليتفرغ لأموره التي في رأسه.

انتقل بعد ذلك إلى أدرنة فوجد سفراء البندقية ، والمجر ، وموسكو ، وسلطنة مصر ينتظرونه ، فعقد معهم معاهدات حيث يريد أن يتفرغ إلى ما يخطط له.

إن السلطان سليم ذو شخصية قوية ، وهو عسكري بفطرته ، لذا كانت نظرته إلى القضايا كلها من وجهة نظر عسكرية ، فيرى أن الأمور المستعصية لا تحلها إلا القوة ، وهذا ما جعل العسكريين يحبونه ، ويعملون على تسلمه السلطة.

إن سياسة الدولة العثمانية في زمن السلطان سليم الأول سارت على هذه الأسس ألا وهي القضاء على الدولة الصفوية الشيعية ، وضم الدولة المملوكية ، وحماية الأراضي المقدسة ، وملاحقة الأساطيل البرتغالية ، ودعم حركة الجهاد البحري في الشمال الأفريقي للقضاء على الأسبان ، ومواصلة الدولة جهادها في شرق أوروبا . وهذا تفصيل هذه الخطة :

رأى السلطان سليم أن دولته قد أصبحت أقوى الدول الإسلامية آنذاك ؛ لذا عليه أن يقوم بالمهمة الملقاة على عائقه في توحيد أبناء الأمة المسلمة. ورأى أن الأندلس قد سقطت بيد النصارى الأسبان ، ولم تعد هناك فائدة للضغط على أوربا من جهة الشرق للتخفيف عن المسلمين في الغرب.

ورأى أن أوربا النصرانية لا يمكن مواجهتها إلا بالمسلمين كافة ؛ لذا يجب أن يخضع المسلمون لدولة واحدة ، ولا شك أن يفكر في أن هذا الخضوع يجب أن يكون للعثمانيين بصفة أن دولتهم أقوى الدول الإسلامية القائمة يومذاك ، ورأى أن دولة المماليك قد ضعف أمرها ، ولم تتمكن من تأدية دورها في مواجهة البرتغاليين الذين قدموا على المسلمين من الجنوب ، وأن الخلافة العباسية في مصر ليست سوى خلافة صورية يتصرف بها المماليك كيف يشاءون.

ورأى أن البرتغاليين يهددن العالم الإسلامي من جهة الجنوب ، ويهددون باحتلال المدينة المنورة ، وأخذ رفات النبي الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وعدم تسليمها حتى يتخلوا عن القدس للنصارى ، وقد عجز المماليك عن مقاومتهم ، وفوق هذا فإن هؤلاء البرتغاليين قد وجدوا لهم أعواناً بين المسلمين أنفسهم إذ طلب الصفويون من البرتغاليين أن يشكلوا حلفاً ضد العثمانيين بل ضد أهل السنة من المسلمين ، ورأى أيضاً أن موقف الصفويين في الخليج ضد البرتغاليين كان موقفاً فيه كثير من الميوعة.

ورأى أن الصفويين بعامل الخلاف المذهبي بينهم وبين العثمانيين قد بدؤوا يتحرشون بالعثمانيين من جهة الشرق ، ويحاولون التوسع ، كما يعملون على نشر المذهب الشيعي ، فقد دخل الشاه إسماعيل الصفوي ديار بكر ، وجعل عاصمته تبريز القريبة ، وطلب من المماليك التحالف معهم ضد العثمانيين للوقوف في وجه توسعهم. كما ساعد الأمير أحمد ضد والده السلطان بايزيد الثاني ، ثم ضد أخيه السلطان سليم ، فلما تمكن السلطان من أخيه كان لا بد من ضرب من كان يعاونه.

أولاً : محاربة الدولة الصفوية الشيعية :
أمام هذه المرئيات وحسب طبيعته العسكرية ، وجد أن يحسم الأمور بالعمل العسكري ، وقرر أن يسير نحو الصفويين ليأدبهم ويبعدهم عن البرتغاليين ، ثم يتحالف مع المماليك ليقفوا معاً في وجه البرتغاليين ، فإن أبي المماليك التفاهم احتل بلادهم ، ووقف أمام البرتغاليين يجاهدهم وخاصة أنها حرب صليبية واضحة ، يتابع البرتغاليون من خلالها المسلمين بعد أن أخرجوهم من الأندلس. في الوقت نفسه يكون قد قطع مرحلة في توحيد المسلمين بضم أجزاء واسعة إلى دولته ، وكلها أقسام من بلاد المسلمين ، وربما شجعه على ذلك ضعف دولة المماليك ، وخوف السكان من البرتغاليين ، وسمعة العثمانيين التي ارتفعت في نفوس الأهالي ، وأمل المسلمين في قدوم السلطان العثماني لمنازلة البرتغاليين.

اتجه السلطان سليم من أدرنه على رأس جيش عظيم باتجاه الصفويين ، وكان قد أحصى الشيعة الذين في شرقي الدولة لأنهم سيكونون أنصاراً للصفويين ، وأمر بقتلهم في شرقي الدولة لأنهم سيكونون أنصاراً للصفويين ، وأمر بقتلهم جميعاً ، ثم تقدم نحو تبريز عاصمة الصفويين الذين أرادوا خديعته بالتراجع المخطط حتى إذا أنهك الجيش العثماني انقضوا عليه ، وبقي السلطان في تقدمه حتى التقى بالجيش الصفوي في ( جالديران ) جنوب مدينة قارص في شرقي الأناضول وكانت معركة عنيفة بين الطرفين في الثاني من رجب عام 920 ، انتصر فيها العثمانيون ، وفر من الميدان الشاه إسماعيل الصفوي ، وبعد عشرة أيام دخل السلطان تبريز ، واستولى على الخزائن ، ونقلها إلى استانبول ، وتتبع الشاه ، ولكن لم يتمكن من القبض عليه ، وأقبل فصل الشتاء ببرده في تلك المرتفعات فاشتد الأمر على الجنود العثمانيين ، وبدا تذمرهم ، فترك السلطان المنطقة ، وسار نحو مدينة أماسيا حتى انتهى فصل الشتاء ، رجع السلطان إلى أذربيجان ففتح بعض القلاع ، ودخل إمارة ذي القادر ، وترك الجيوش العثمانية تنفذ المهمة التي أعطاها لها ، وعاد إلى استانبول ، فقتل كبار الضباط من الانكشارية الذين أبدوا تذمرا من التقدم بسبب البرد كي لا تتكرر الحادثة. وكانت الجيوش العثمانية قد دخلت أورفة ، والرقة ، وماردين ، والموصل.

ثانياً : ضم دولة المماليك :
بعد الحرب التي شنها السلطان سليم على الصفويين بدأ يستعد لحرب المماليك الذين تحالفوا مع الصفويين على العثمانيين ، والذين يختلف معهم بشأن إمارة ذي القادر على الحدود بين الطرفين ، والتي قاعدتها مرعش ، كما أن المماليك وقفوا مع بعض الأمراء العثمانيين الفارين من وجه السلطان سليم ، كما كان الموقف السلبي للدولة المملوكية في وقوفها المعنوي مع الشاه إسماعيل الصفوي ، وشجعه على هذه الحرب وجهاء الشام الذين خافوا البرتغاليين ، ولم يجدوا في المماليك القدرة على المقاومة ، مع الظلم الذي كان يمارسه الممالك ضد أهل الشام ، وبروز العثمانيين كقوة ضخمة اكتسحت أجزاء من أوربا .

ولما علم سلطان المماليك( قانصوه الغوري ) الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين استعداد السلطان سليم لغزو بلاد المماليك أرسل إليه رسولاً يعرض عليه وساطته للصلح بين العثمانيين والصفويين ، غير أن السلطان سليم بطبيعته العسكرية طرد الرسول وأهانه ، لأنه قرر الحسم العسكري.

سار السلطان سليم بجيشه نحو بلاد الشام ، واستعد للسلطان الأشرف قانصوه الغوري ، واتجه نحو الأناضول ، والتقى الطرفان في مرج دابق شمال غربي مدينة حلب ، وكان السلطان العثماني قد اتصل بولاة الشام ومناهم ، أو التقوا به ، وتقربوا إليه ، وعندما التحم الجيشان يوم 25 رجب من عام 1922 ، انفصل ولاة الشام بمن معهم وانضموا إلى العثمانيون فانتصروا ، وهزم المماليك رغم شجاعة السلطان الأشرف والجهد الذي قدمه ، وثباته في المعركة حتى قتل.

دخل السلطان سليم حلب ، وحماه ، وحمص ، ودمشق دون مقاومة بل بالترحيب في أغلب الأحيان ، وأبقى ولاة الشام على ولاياتهم حسبما وعدهم ، بل زاد في مناطق نفوذ بعضهم حسبما بذلوا في ميدان مرج دابق ، واتجه إلى مصر ، بعد أن قابل العلماء وأكرمهم ، وأمر بترميم مسجد بني أمية بدمشق ، وقد عين جانبرد الغزالي على دمشق ، وفخر الدين المعني على جبل لبنان ، وهو من الدروز ، وقد ساعد السلطان سليم ، ووقف إلى جانبه بعد أن ترك المماليك ليحصل على الولاية ، وهو من ألد أعداء العثمانيين وما يحملونه من أفكار إسلامية.

كان المماليك في مصر قد اختاروا سلطاناً جديداً هو خليفة قانصوه الغوري ويدعى ( طومان باي ) ، وقد أرسل إليه السلطان سليم يعرض عليه الصلح مقابل الاعتراف بالسيادة العثمانية على مصر ، غير أن طومان باي رفض ذلك ، واستعد للقتال ، وكان السلطان سليم بيكي في مسجد الصخرة بالقدس بكاء حاراً وصلى صلاة الحاجة داعياً الله أن يفتح عليه مصر ، وتحرك نحو مصر وقطع صحراء فلسطين ، والتقى الطرفان عند حدود بلاد الشام فهزم المماليك ، ودخل العثمانيون غزة ، وفي اليوم الأخير من عام 922 التقى الطرفان في معركة ( الريدانية ) على أبواب القاهرة ، وانطلق طومان باي مع كوكبة من فرسانه إلى مقر السلطان سليم ، وقتلوا من حوله ، وأسروا الوزير سنان باشا ، وقتله طومان باي بيده ظناً منه أنه السلطان سليم ، ورغم الشجاعة التي أبداها المماليك ، والمقاومة التي أظهرها المقاتلون فإن العثمانيين قد انتصروا عليهم لتفوقهم بالمدفعية ، وفي 8 محرم 923 دخل العثمانيون القاهرة. وانطلق طومان باي إلى جهات الجيزة يقاتل العثمانيين ، غير أنه قد سقط أسيراً بأيديهم ، وقتل في 21 ربيع الأول 923.

ثالثاً : انتقال الخلافة :
بقي سليم في القاهرة ما يقرب من شهر وزع خلالها الأعطيات، وحضر الاحتفالات ، ويقال أنه قد تنازل له الخليفة العباسي محمد المتوكل على الله عن الخلافة ، وسلمه مفاتيح الحرمين الشريفين ، فأصبح السلطان العثماني منذ ذلك اليوم خليفة للمسلمين ، ولكن الواقع التاريخي يقول : إن السلطان سليم الأول أطلق على نفسه لقب ( خليفة الله في طول الأرض وعرضها ) منذ عام 920هـ 1514م ، أي قبل فتحه للشام ومصر وإعلان الحجاز خضوعه لأل عثمان. والحق أن صدق العثمانيين وجهادهم وكونهم مقصد المسلمين الذين يتطلعون لمساعدتهم من هجوم البرتغال هو الذي أكسبهم هذه المكانة ، ولم يكن السلطان سليم مهتماً بلقب الخلافة وكذلك سلاطين آل عثمان من بعده وأن الاهتمام قد عاد بعد ضعف الدولة العثمانية .

رابعاً : خضوع الحجاز للعثمانيين :
كما جاءه محمد أبو نمي بن الشريف بركات شريف مكة، وأعلن له الطاعة.

وسافر الخليفة العثماني من مصر متجهاً نحو الأناضول عن طريق الشام ، وقد عين حاكماً على مصر خير بك ، وترك عنده حامية من الانكشارية ، واصطحب معه الخليفة العباسي المتنازل أو المخلوع ، ومر على دمشق ، وأقام فيها مدة ، بنى خلالها الجامع على ضريح محيي الدين بن العربي ، ومر على حلب وأقام بها شهرين ، ثم سافر إلى أدرنه ، وهناك جاءه سفير أسبانيا من أجل السماح لنصارى الأسبان بزيارة بيت المقدس مقابل مبلغ بدفع له سنوياً ، كما كان الأمر مع المماليك ، وبدأ يستعد لمحاربة الصفويين غير أنه توفي في 9 شوال عام 926.



التاريخ الإٍسلامي لمحمود شاكر 8/99 ، والدولة العثمانية لعلي الصلابي 291

د.فالح العمره 26-09-2006 04:27 PM

السلطان سليم الأول وشيخ الإسلام!


علم السلطان (سليم الأول) أن الأقليات غير المسلمة الموجودة في (اسطنبول) من الأرمن والروم واليهود ، بدأت تتسبب في بعض المشاكل للدولة العثمانية ، وفي إثارة بعض القلاقل ، فغضب لذلك غضباً شديداً ، وأعطى قراراه بأن على هذه الأقليات غير المسلمة اعتناق الدين الإسلامي ، ومن يرفض ذلك ضرب عنقه.

وبلغ هذا الخبر شيخ الإسلام ( زمبيلي علي مالي أفندي) ، وكان من كبار علماء عصره ، فساءه ذلك جداً ، ذلك لأن إكراه غير المسلمين على اعتناق الإسلام يخالف تعاليم الإسلام ، الذي يرفع شعار { لا إكراه في الدين }. ولا يجوز أن يخالف أحد هذه القاعدة الشرعية ، وإن كان السلطان نفسه.

ولكن من يستطيع أن يقف أمام هذا السلطان ، الذي يرتجف أمامه الجميع ؟ من يستطيع أن يقف أمام هذا السلطان ، ذي الطبع الحاد فيبلغه بأن ما يفعله ليس صحيحاً ، وأنه لا يوافق الدين الإسلامي ويعد حراساً في شرعه ؟

ليس من أحد سواه يستطيع ذلك ، فهو الذي يشغل منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية ، وعليه تقع مهمة إزالة هذا المنكر الذي يوشك أن يقع.

لبس جبته وتوجه إلى قصر السلطان ، واستأذن في الدخول عليه ، فأذن له ، فقال للسلطان : سمعت أيها السلطان أنك تريد أن تكره جميع الأقليات غير المسلمة على اعتناق الدين الإسلامي.

كان السلطان لا يزال محتداً فقال: أجل .. إن ما سمعته صحيح .. وماذا في ذلك ؟

لم يكن شيخ الإسلام من الذين يترددون عن قوله الحق : أيها السلطان إن هذا مخالف للشرع ، إذ لا إكراه في الدين ، ثم إن جدكم (محمد الفاتح) عندما فتح مدينة (اسطنبول) اتبع الشرع الإسلامي فلم يكره أحداً على اعتناق الإسلام ، بل أعطي للجميع حرية العقيدة ، فعليك باتباع الشرع الحنيف ، واتباع عهد جدكم (محمد الفاتح).

قال السلطان سليم وحدته تتصاعد : يا علي أفندي … يا علي أفندي : لقد بدأت تتدخل في أمور الدولة … ألا تخبرني إلى متى سينتهي تدخلك هذا ؟

- إنني أيها السلطان أقوم بوظيفتي في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وليس لي من غرض آخر ، وإذا لم ينته أجلي ، فلن يستطيع أحد أن يسلبني روحي.

- دع هذه الأمور لي يا شيخ الإسلام.

- كلا أيها السلطان … إن من واجبي أن أرعى شؤون آخرتك أيضاً ، وأن أجنبك كل ما يفسد حياتك الأخروية ، وإن اضطررت إلى سلوك طريق آخر.

- ماذا تعني ؟

- سأضطر إلى إصدار فتوى بخلعك أيها السلطان ، بسبب مخالفتك للشرع الحنيف إن أقدمت على هذا الأمر.

وأذعن السلطان (سليم) لرغبة شيخ الإسلام ، فقد كان يحترم العلماء ، ويجلهم ، وبقيت الأقليات غير المسلمة حرة في عقائدها ، وفي عباداتها ، وفي محاكمها ، ولم يمد أحد أصبع سوء إليهم.




روئع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي ، ص57

د.فالح العمره 26-09-2006 04:29 PM

السلطان الذي لم يقض فرضاً طيلة حياته


يعد جامع (يزيد) من أكبر وأفخم وأجمل الجوامع الموجودة في (اسطنبول) والساحة القريبة. أخذت اسمها منه فهي (ساحة بايزيد) وتقع جامعة اسطنبول بالقرب من هذا الجامع.

باني هذا الجامع هو : السلطان (بايزيد الثاني) (1447م – 1512م) ابن السلطان (محمد الفاتح) ، وهو والد السلطان (سليم الأول) الملقب بـ (ياووز) ، أي هو جد السلطان سليمان القانوني.

كان هذا السلطان تقياً ورعاً ، والقصتان التاليتان تشيران إلى ذلك :

1- عندما أكمل بناء جامع بايزيد وتم فرشه ، جاء يوم افتتاحه بالصلاة فيه ، ولكن من سيقوم بإمامة المصلين في هذه الصلاة ؟ أيؤم الناس الإمام المعين لهذا الجامع ؟ أم شيخ الإسلام ؟ أم أحد العلماء المعروفين ؟ لم يكن أحد يعلم ذلك ، وكان الجميع في انتظار من يتقدم إلى الإمامة.

عندما اصطفت الصفوف وقف إمام الجامع وتوجه إلى المصلين قائلاً لهم : ليتقدم للإمامة من لم يضطر طوال حياته لقضاء صلاة فرض ، أي : من صلى الصلوات الفرض في أوقاتها طوال حياته.

دهش الحاضرون من هذا الشرط ، وبدأ بعضهم يتطلع لبعض ، وبعد انتظار دقيقة ، أو دقيقتين شاهد المصلون السلطان (بايزيد الثاني) وهو يتقدم للإمامة بكل هدوء ، ثم يكبر لصلاة الجماعة بكل خشوع.

أجل … كان السلطان هو الشخص الوحيد من بين الحاضرين الذي لم تفته أبداً أي صلاة من صلوات الفرض ، ثم يكبر لصلاة من صلوات الفرض ، لذا لقبه الشعب بـ (السلطان الولي).



روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي ، ص54

د.فالح العمره 26-09-2006 04:32 PM

هواية جمع غبار الجهاد


كان من عادة السلطان ( بايزيد الثاني) أن يجمع في قارورة ما علق بثيابه من غبار ، وهو راجع من أية غزوة من غزوات جهاده في سبيل الله.

وفي إحدى المرات عندما كان السلطان يقوم بجمع هذا الغبار من على ملابسه لوضعه في القارورة ، قالت له زوجته (كولبهار): أرجو أن تسمح لي يا مولاي بسؤال.

- اسألي يا (كولبهار).

- لم تفعل هذا مولاي ؟ وما فائدة هذا الغبار الذي تجمعه في هذه القارورة ؟
- إنني سأوصي يا (كولبهار) بعمل طابوقة من هذا الغبار ، وأن توضع تحت رأسي في قبري عند وفاتي … ألا تعلمين يا (كولبهار) أن الله سيصون من النار يوم القيامة جسد من جاهد في سبيله ؟

- ونفذت فعلاً وصيته ، إذ عمل من هذا الغبار المتجمع في تلك القارورة … غبار الجهاد في سبيل الله … عمل منه طابوقة ، وضعت تحت رأس هذا السلطان الورع عندما توفي سنة 1512م … وقبره موجود حتى الآن بجانب الجامع الذي بناه (جامع بايزيد) ، رحمه الله تعالى.




روائع من التاريخ العثماني ، أورخان محمد علي ، ص54

د.فالح العمره 26-09-2006 04:34 PM

بين السلطان الفاتح وأستـاذه (آق شمس الدين)


كان السلطان (محمد الفاتح) يكن لأستاذه الشيخ (آق شمس الدين) مشاعر الحب ، والإجلال ، والتوقير ، ويزوره على الدوام ، حيث يستمع لأحاديثه ونصائحه ، ويستفيد من علمه الغزير.

وكان أستاذه هذا مهيباً لا يخشي سوى الله ، لذا فإنه عند قدوم السلطان (محمد الفاتح) لزيارته ، لا يقوم له من مجلسه ، ولا يقف له. أما عند زيارته للسلطان (محمد الفاتح) فقد كان السلطان يقوم له من مجلسه توقيراً له ، واحتراماً ويجلسه بجانبه.

وقد لاحظ ذلك وزار السلطان وحاشيته ، لذا لم يملك الصدر الأعظم (محمود باشا) من إبداء دهشته للسلطان فقال له : لا أدري يا سلطاني العظيم ، لم تقوم للشيخ (آق شمس الدين ) عند زيارته لك ، من دون سائر العلماء والشيوخ ، في الوقت الذي لا يقوم لك تعظيماً عند زيارتك له ؟!.

فأجابه السلطان : أنا أيضاً لا أدري السبب … ولكني عندما أراه مقبلاً علي ، لا أملك نفسي من القيام له … أما سائر العلماء والشيوخ ، فإني أراهم يرتجفون من حضوري ، وتتلعثم ألسنتهم عندما يتحدثون معي ، في الوقت الذي أجد نفسي أتلعثم عند محادثتي الشيخ (آق شمس الدين).

وفي فتح القسطنطينية أراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه، لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد الخيمة ومنع حراس الخيمة رسول السلطان من الدخول، وغضب محمد الفاتح وذهب بنفسه إلى خيمة الشيخ ليستدعيه ، فمنع الحراس السلطان من دخول الخيمة بناءً على أمر الشيخ ، فأخذ الفتح خنجره وشق جدار الخيمة في جانب من جوانبها ونظر إلى الداخل فإذا شيخه ساجداً لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض ، ولحيته البيضاء تنعكس مع شعره كالنور ، ثم رأى السلطان شيخه يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه ، فقد كان يناجي ربه ويدعوه بإنزال النصر ويسأله النصر ويسأله الفتح القريب.

وعاد السلطان محمد (الفاتح) عقب ذلك إلى مقر قيادته ونظر إلى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين وقد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود إلى القسطنطينية ، ففرح السلطان بذلك وقال: ليس فرحي لفتح المدينة إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني.

وذكر الإمام الشوكاني صاحب البدر الطالع أن ( ثم بعد يوم – من الفتح - جاء السلطان إلى خيمة ( آق شمس الدين) وهو مضطجع فلم يقم له ، فقبل السلطان يده وقال له : جئتك لحاجة، قال : وما هي ؟ قال: أن ادخل الخلوة عندك، فأبى، فأبرم عليه السلطان مراراً وهو يقول: لا. فغضب السلطان وقال: إنه يأتي إليك واحد من الأتراك فتدخله الخلوة بكلمة واحدة وأنا تأبى علي ، فقال الشيخ : إنك إذا دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها فيمقت الله علينا ذلك ، والغرض من الخلوة تحصيل العدالة ، فعليك أن تفعل كذا وكذا - وذكر له شيئاً من النصائح - ثم أرسل إليه ألف دينار فلم يقبل ، ولما خرج السلطان محمد خان قال لبعض من معه : ما قام الشيخ لي. فقال له: لعله شاهد فيك من الزهو بسبب هذا الفتح الذي لم يتيسر مثله للسلاطين العظام، فأراد بذلك أن يدفع عنك بعض الزهو).



روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي ، ص 47، والدولة العثمانية لعلي الصلابي ، ص185

د.فالح العمره 26-09-2006 04:35 PM

عدالة القضاء


أمر السلطان (محمد الفاتح) ببناء أحد الجوامع في مدينة (اسطنبول)، وكلف أحد المعمارين الروم واسمه (إبسلانتي) بالإشراف على بناء هذا الجامع، إذ كان هذا الرومي معمارياً بارعاً. وكان من بين أوامر السلطان: أن تكون أعمدة هذا الجامع من المرمر، وأن تكون هذه الأعمدة مرتفعة ليبدو الجامع فخماً، وحدد هذا الارتفاع لهذا المعماري.

ولكن هذا المعماري الرومي – لسبب من الأسباب – أمر بقص هذه الأعمدة ، وتقصير طولها دون أن يخبر السلطان ، أو يستشيره في ذلك ، وعندما سمع السلطان (محمد الفاتح) بذلك ، استشاط غضباً ، إذ أن هذه الأعمدة التي جلبت من مكان بعيد ، لم تعد ذات فائدة في نظره ، وفي ثورة غضبه هذا ، أمر بقطع يد هذا المعماري. ومع أنه ندم على ذلك إلا أنه كان ندماً بعد فوات الأوان.

ولم يسكت المعماري عن الظلم الذي لحقه ، بل راجع قاضي اسطنبول الشيخ ( صاري خضر جلبي) الذي كان صيت عدالته قد ذاع وانتشر في جميع أنحاء الإمبراطورية ، واشتكى إليه ما لحقه من ظلم من قبل السلطان (محمد الفاتح).

ولم يتردد القاضي في قبول هذه الشكوى ، بل أرسل من فوره رسولاً إلى السلطان يستدعيه للمثول أمامه في المحكمة ، لوجود شكوى ضده من أحد الرعايا.

ولم يتردد السلطان كذلك في قبول دعوة القاضي ، فالحق والعدل يجب أن يكون فوق كل سلطان.

وفي اليوم المحدد حضر السلطان إلى المحكمة ، وتوجه للجلوس على المقعد قال له القاضي : لا يجوز لك الجلوس يا سيدي … بل عليك الوقوف بجانب خصمك.

وقف السلطان (محمد الفاتح) بجانب خصمه الرومي، الذي شرح مظلمته للقاضي، وعندما جاء دور السلطان في الكلام، أيد ما قاله الرومي.

وبعد انتهاء كلامه وقف ينتظر حكم القاضي، الذي فكر برهة ثم توجه إليه قائلاًَ: حسب الأوامر الشرعية ، يجب قطع يدك أيها السلطان قصاصاً لك !!

ذهل المعماري الرومي ، وارتجف دهشة من هذا الحكم الذي نطق به القاضي ، والذي ما كان يدور بخلده ، أو بخياله لا من قريب ولا من بعيد ، فقد كان أقصى ما يتوقعه أن يحكم له القاضي بتعويض مالي. أما أن يحكم له القاضي بقطع يد السلطان (محمد الفاتح) فاتح (القسطنطينية) الذي كانت دول أوروبا كلها ترتجف منه رعباً، فكان أمراً وراء الخيال … وبصوت ذاهل ، وبعبارات متعثرة قال الرومي للقاضي ، بأنه يتنازل عن دعواه ، وأن ما يرجوه منه هو الحكم له بتعويض مالي فقط ، لأن قطع يد السلطان لن يفيده شيئاً ، فحكم له القاضي بعشر قطع نقدية ، لكل يوم طوال حياته ، تعويضاً له عن الضرر البالغ الذي لحق به.

ولكن السلطان (محمد الفاتح) قرر أن يعطيه عشرين قطعة نقدية ، كل يوم تعبيراً عن فرحه لخلاصه من حكم القصاص ، وتعبيراً عن ندمه كذلك.



روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي ، ص48

د.فالح العمره 26-09-2006 04:37 PM

سنان باشا والسلطان محمد الفاتح


بعد أن تم فتح مدينة (اسطنبول) ، وضع السلطان (محمد الفاتح) تعليمات معينة حول القلاع ، والأسوار المحيطة بالمدينة ، ومن هذه التعليمات ، أوامر مشددة على وجوب سد وغلق جميع أبواب أسوار هذه القلاع بعد أذان المغرب ، وتبقي هذه الأبواب مغلقة حتى أذان الفجر. وعينت مفارز عديدة على هذه القلاع ، لتطبيق هذه الأوامر ، وذلك لدواعي الأمن ، وبذلك كان يمنع أي شخص من دخول المدينة ، أو الخروج منها ضمن هذه الفترة.

كان (سنان جلبي باشا) على رأس إحدى هذه المفارز في القلعة الموجودة في منطقة (أون قباني).

في أحد الأيام ، والسلطان (محمد الفاتح) مع كوكبة من حرسه خارج أسوار مدينة (اسطنبول) ، وتأخر في الرجوع إلى المدينة ، إذ عندما وصل إلى باب السور منطقة (أون قباني) رأى أن الباب مغلق ، إذ كان أذان المغرب قد أذن قبل مدة.

صاح أحد حراس السلطان : سنان باشا … سنان باشا … افتح الباب.

قام (سنان باشا) من مكانه ، وتطلع إلى تحت … لم يستطع أن يتعرف على أحد ، فقد كان الظلام مخيماً … نزل إلى تحت وصاح من خلف السور :

- من أنتم ؟

قال السلطان (محمد الفاتح) : افتح الباب (يا سنان جلبي).

- من أنتم ؟ ولماذا تأخرتم حتى الآن ؟

لم يستطع أن يميز صوت السلطان ، ولم يكن السلطان يعلن عن هويته.

قال السلطان : لا تسأل من نحن … افتح الباب.

احتد ( سنان باشا) : كيف لا أسألكم ؟ ألم تسمعوا بأمر السلطان ؟ كيف أستطيع أن أفتح باب القلعة في هذه الساعة المتأخرة ؟ اذهبوا من هنا ، أو انتظروا حتى أذان الفجر … لا أستطيع مخالفة أمر السلطان ، أم تريدون أن أسمع منه تقريعاً بسببكم ؟

ضحك السلطان : كلا (يا سنان جلبي) … لن تسمع تقريعاً من السلطان … إنني أتكفل بهذا لك.

- لكن من أنت حتى تستطيع أن تكفلني لدى السلطان ؟ أم تحسب نفسك سلطاناً ؟

- أنا السلطان يا (سنان جلبي) … ألم تعرفني ؟

فوجئ (سنان باشا) عند سماعه هذا ، وأسرع بفتح الباب وهو يدمدم :

- أعذرني يا مولاي … لم أعرفكم … لم أكن أتوقع أن تخالفوا التعليمات التي وضعتموها بأنفسكم يا مولاي.

دخل السلطان من باب السور ، ثم ترجل عن جواده ووضع يده على كتف (سنان باشا) وقال له :

- أنت عسكري جيد يا (سنان باشا) … لقد سررت جداً من التزامك بتعليماتي ، لذا فتمن منى ما تشاء.

ذهل (سنان باشا) من كلام السلطان ، فها هي كل الأبواب مفتوحة أمامه.. يستطيع أن يطلب أي مبلغ ، وأي منصب … كان السلطان ينظر إليه مبتسماً ، منتظراً الجواب منه … لم يتردد (سنان باشا) طويلاً … كلا لن يطلب من السلطان لا مالاً ولا جاهاً سيطلب منه تحقيق أمله الذي كان يحلم به منذ سنوات :

- ابن لي يا سلطاني جامعاً باسمي … لا أريد منك شيئاً آخر … جامعاً بأسمي.

قبل السلطان هذا الرجاء ، وأمر ببناء جامع باسمه.

فإذا قدر لك أن تزور (اسطنبول) فاسأل عن (جامع سنان باشا) وزر هذا الجامع التاريخي الجميل ، فقد عرفت قصة بنائه ، وبعد انتهاء صلاتك ، ادع لروح (سنان باشا).



روائع من التاريخ العثماني ، للأورخان محمد علي ، ص 43

د.فالح العمره 26-09-2006 04:41 PM

الولي والسلطان مراد الثاني


كان السلطان (مراد الثاني) (1403 – 1451م) والد السلطان (محمد الفاتح) يحب الوالي (حاجي بيرام)، ويحترمه، ويوقره كثيراً، ذلك لأنه كان من أكبر زهاد ومتصوفي وعلماء عصره، وبلغ من حبه وتوقيره له، أن أصدر أمره بعدم أخذ الضريبة من مريدي هذا الوالي الذي كان يسكن في مدينة (أنقرة) التي كانت آنذاك مدينة صغيرة.

ولكن ما إن انتشر هذا الخبر، (أي خبر إعفاء مريدي ((حاجي بيرام)) من كل الضرائب) بين أهالي (أنقرة)، حتى بدأ الجميع يدعون أنهم من مريدي هذا الولي، مما أوقع موظفي الضرائب، وجباتها في حرج وفي حيرة شديدة.
ما العمل ؟ لم يكن من المعقول أن تكون أهلي المدينة كلهم من المريدين ، ولكن كيف يمكن فرز الصادقين عن المدعين الكاذبين ، ولم يكن هناك إلا حل واحد ، وهو مراجعة السلطان وإحاطته علماً بالموضوع ، وانتظار ما يأمر به.

طلب كبير محصلي الضرائب المثول بين يدي السلطان ، وعندما أذن له بذلك قال للسلطان :

- يا مولاي … نحن لا نستطيع أن نجبي الضرائب من مدينة (أنقرة) .

- وما السبب في ذلك ؟ أيمتنعون عن دفعها ؟

- كلا يا مولاي ، ولكن أوامرك تقضي بعدم جبايتها من مريدي هذا الولي (حاجي بيرام).

- أجل … ولكن ما علاقة ذلك بموضوعك ؟

- يا مولاي إن أهالي (أنقرة) كلهم يدعون أنهم من مريدي هذا الولي.

- جميع الأهالي ؟

- نعم يا مولاي.

- وهل صدقتم ذلك ؟

- لم نصدق ذلك يا مولاي … ولكن كيف نستطيع فرز الصادقين عن غير الصادقين ؟

- صحيح … يصعب ذلك … ولكني سأكتب إلى (حاجي بيرام) وأساله عن عدد مريديه.

أرسل السلطان (مراد الثاني) رسولاً يحمل رسالة منه إلى الولي (حاجي بيرام) في (أنقرة).

قرأ (حاجي بيرام) رسالة السلطان ، ثم التفت إلى يمينه إلى أحد المريدين في مجلسه وقال له :

- أريد من جميع المريدين أن يجتمعوا الأسبوع المقبل في الميدان الكبير ، وألا يتخلف منهم أحد.

وحدد اليوم و ساعة الاجتماع. وقام المريد بمهمة الإبلاغ هذه.

وفي اليوم والمكان المحددين، اجتمع جميع أهلي (أنقرة) تقريباً، ولم يكن في الميدان إلا خيمة كبيرة، وخرج منها الولي (حاجي بيرام) وتوجه إلى الناس المجتمعين، والمتلهفين لمعرفة سبب هذا الاجتماع وقال لهم:

- من كان مريداً لي ويعدني شيخاً له فليتقدم، وليدخل إلى هذه الخيمة فإني سأقدمه ضحية في سبيل الله تعالى، وسأسكب دمه خارج الخيمة.

تقدم إليه شاب من مريديه: أنا يا شيخي.

أخذ (حاجي بيرام) هذا الشاب ، (وأدخله الخيمة) ، وهناك أمر بذبح شاة ، وسكب دمها ، أمام أنظار الناس خارج الخيمة.

عقدت الدهشة والذهول ألسنة الناس المجتمعين ، فقد اعتقدوا أن الشاب ذبح وسكب دمه.

ثم خرج الولي من الخيمة ، وكرر طلبه السابق : هل من متقدم آخر ؟ أريد مريداً آخر:

- أنا يا شيخي.

وكان هذا شاب آخر من أخلص مريديه ، وجرى له ما جرى للأول … وبدأ الناس ينفضون شيئاً فشيئاً ويتركون الميدان.

- هل من مريد آخر ؟

- قالت له ذلك إحدى النساء المجتمعات.

وفي المرة الرابعة سكت الجميع ، ولم ينبس أحد ببنت شفة ، ولم يتقدم أحد إذ كانت الأنظار مصوبة إلى بقع الدماء القريبة من خيمة الولي.

في اليوم نفسه كتب (حاجي ببرام) رسالة جواب إلى السلطان مراد الثاني قال فيها: إن عدد مريديه في (أنقرة) يبلغ ثلاثة فقط … رجلان وامرأة واحدة فقط.



روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي، ص36

د.فالح العمره 26-09-2006 04:44 PM

الدرويش والسلطـان محمـد الفاتـح


تم تحقيق حلم المسلمين، وهزم البيزنطيون، وفتحت مدينة القسطنطينية - أي: مدينة اسطنبول أو إسلامبول -، موكب السلطان (محمد الفاتح)، وهو يدخل المدينة من جهة (طوب قابي) ممتطياً جواده الأبيض، يحف به الوزراء والعلماء والقواد والفرسان.

كان الآلاف من أهالي المدينة قد التجؤوا إلى كنيسة (أيا صوفيا) ينتظرون الفرصة الأخيرة للخلاص ، فقد أوهمهم بعض رجال الدين ، بأن ملاكاً سينزل من السماء ويحرق المسلمين ، وأن المسلمين لن يستطيعوا الوصول إلى كنيسة (أيا صوفيا) ، لأن الملاك لن يسمح لهم بتجاوز المنطقة التي تسمى الآن : (جامبرلي طاش) ، وهي لا تبعد إلا مسافة 300 متر تقريباً عن الكنيسة. أما باقي الأهالي ، فقد دفعهم الفضول لرؤية هذا الفاتح الجديد ، فتجمعوا على الطريق الواصل بين ( طوب قابي) وكنيسة (أيا صوفيا).

وفجأة اندفع من بين هذه الجماهير، درويش من دراويش الجيش العثماني، وتقدم إلى الأمام وأمسك بعرف جواد السلطان مستوقفاً السلطان، والموكب كله، ومخاطباً السلطان:

- لا تنسى أيها السلطان … لا تنسى أنه بفضل دعائنا نحن الدراويش فتحت هذه المدينة.

ابتسم السلطان (محمد الفاتح) ابتسامة خفيفة ، ثم مد يد على سيفه وسله من غمده حتى نصفه قائلاً :

- صدقت يا درويش ! … ولكن لا تنسى حق هذا السيف أيضاً.




روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي ، ص 42

د.فالح العمره 26-09-2006 04:46 PM

وفد نصراني بين يدي السلطان


لما فتح السلطان العثماني مراد الثاني مدينة سلانيك عام 1431 م وهزم البندقيين شر هزيمة ودخل المدينة منتصراً- أعلم الحاجب السلطان أن وفداً من مدينة (يانيا) قد حضر، وهم يرجون المثول بين يديه لأمر هام.. تعجب السلطان من هذا الخبر، إذ لم تكن له أي علاقة بهذه المدينة التي كانت آنذاك تحت حكم إيطاليا.

كانت مدينة (يانيا ) تحت حكم عائلة ( توكو )الإيطالية ، وعندما مات ( كارلو توكو الأول ) عام 1430م ، ولي الحكم بعده ابن أخيه (كارلو توكو الثاني ) ولكن أبناء ( توكو الأول ) غير الشرعيين ثاروا وطالبوا بالحكم ، فبدأ عهد من الاضطراب والفوضى والقتال عانى منه الشعب الأمرين ، وعندما سمعوا بأن السلطان ( مراد الثاني ) بالقرب منهم في مدينة (سلانيك) ، قرروا إرسال وفد عنهم .

أمر السلطان مراد رئيس حجابه بالسماح للوفد بالدخول عليه ، ثم قال لرئيس الوفد بواسطة الترجمان : أهلاً بكم ، ماذا أتى بكم إلى هنا ؟ وماذا تبغون ؟

قال رئيس الوفد : أيها السلطان العظيم ، جئنا نلتمس منكم العون ، فلا تخيب رجاءنا .

- وكيف أستطيع معاونتكم ؟

- يا مولاي، إن أمراءنا يظلموننا، ويستخدموننا كالعبيد، ويغتصبون أموالنا ثم يسوقوننا للحرب.

- وماذا أستطيع أن أفعل لكم ؟ إن هذه مشكلة بينكم وبين أمرائكم.

- نحن أيها السلطان لسنا بمسلمين، بل نحن نصارى، ولكننا سمعنا كثيراً عن عدالة المسلمين، وأنهم لا يظلمون الرعية، ولا يكرهون أحداً على اعتناق دينهم، وإن لكل ذي حق حقه لديهم.. لقد سمعنا هذا من السياح، ومن التجار الذين زاروا مملكتكم، لذا فإننا نرجو أن تشملنا برعايتكم وبعطفكم، وأن تحكموا بلدنا لتخلصونا من حكامنا الظالمين.

ثم قدموا له مفتاح المدينة الذهبي.. واستجاب السلطان لرجاء أهل مدينة (يانيا)، وأرسل أحد قواده على رأس جيش إلى هذه المدينة، وتم فتحها فعلاً في السنة نفسها، أي في سنة 1431 م.

هذه ليست قصة خيالية.. ومع أنها قصة غريبة، إلا أنها حقيقة وتاريخية.. لقد كان المسلمون رمزاً للعدل والإنصاف.






روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي ، ص 32

د.فالح العمره 26-09-2006 04:49 PM

صمونجي بابا


هذه قصة ولي من أولياء الله ، اسمه ( حامد آقصر ايلي ) ولكنه عرف بين أهالي مدينة (بورصة) باسم ( صمونجي بابا ) لأنه كان يبيع (الصمون) لهم.

ولد في مدينة ( قيصري) ، وسافر في طلب العلم إلى بلاد ( الشام) و ( تبريز) ووصل إلى (أدربيل) وهي : مدينة في شمالي غرب إيران اشتهرت بمكتبتها الكبيرة ، وعاشت فترة من الازدهار الثقافي. وهناك التقى الولي والعالم الكبير ( علاء الدين الأردبيلي) ولازمه ، وبقي في خدمته سنوات عديدة ، فنهل من علمه ودرج مثله في مدارج التصوف والزهد.

ثم رجع وسكن في مدينة (بورصة) ، وكانت آنذاك عاصمة الدولة العثمانية ، فقد كان ذلك في عهد السلطان (بايزيد الأول) (1360 – 1403م).

قضى ( صمونجي بابا) سنوات عديدة من عمره في مدينة (بورصة) يخبز الخبز في فرنه المتواضع في البيت ، ثم يضعه في سلة كبيرة يحملها على ظهره ، ويمشي في الأسواق وفي الأزقة ، وما إن يراه الصبيان حتى يهتفوا: جاء ( صمونجي بابا) … جاء (صمونجي بابا) ، وسرعان ما يجتمعون حوله ، ويبتاعون منه الخبز … كان جميع أطفال وصبيان وأهالي (بورصة) يحبونه ، فوجهه نوراني ، وهو بشوش يحب الأطفال ويلاطفهم ، وخبزه حار ، ولذيذ ، ونظيف.

وعندما بدأ السلطان (بايزيد) ببناء جامع (ألو جامع) (أي الجامع الكبير، أو الجامع العظيم) اعتاد عمال البناء شراء الخبز من (صمونجي بابا) .

اكتمل بناء هذا الجامع الذي يعد آية من آيات العمارة الإسلامية ، وتعد الآيات الكريمة التي تزينه آية في فن الخط ، وتقرر افتتاحه بصلاة الجمعة.

وفي يوم الجمعة : حضر السلطان (بايزيد الأول) إلى الجامع مع الوزراء والعلماء ، وجمع وفير من أهالي (بورصة) حتى امتلأ هذا الجامع الكبير على سعته ، وعندما حان وقت الخطبة ، التفت السلطان إلى العالم الكبير (أمير سلطان) وكلفه بإلقاء الخطبة.

وقف (أمير سلطان) قرب المنبر ، وبدأ يجول ببصره في الحضور ، وكأنه يفتش عن أحدهم … أجل كان يفتش عن (صمونجي بابا) فهو يعرف قدره وعلمه ، وإن جهله الناس ، اعتقدوا أنه ليس إلا رجلاً طيباً يبيع الخبز … وأخيراً وقع بصره عليه … ثم قال بصوت سمعه كل الحضور ، وهو يشير بيده إليه : ليس في هذا الجامع من هو أحق من هذا الرجل من إلقاء هذه الخطبة.

دهش الحاضرون من هذا الكلام ، وبدؤوا يتطلعون إلى الجهة التي أشار إليها العالم (أمير سلطان) وأحس (صمونجي بابا) بحرج شديد ، فقد كتم أمره عن الناس طوال هذه السنوات ، فلا يعرفون عنه إلا أنه بائع خبز ، وها هو (أمير سلطان) يفاجئه فيكشف أمره للناس.

قام من مكانه مضطراً واتجه إلى المنبر ، والأنظار مصوبة إليه ، وقبل أن يصعد إلى المنبر ، مال على أذن (أمير سلطان) وهمس له معاتباً : ماذا فعلت يا أخي ؟ لقد كشفتني أمام الناس جميعاً. فأجابه (أمير السلطان) بالهمس نفسه : أنت الأجدر بإلقاء هذه الخطبة يا أخي.

صعد الولي المتخفي على المنبر ، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه ، قرأ سورة (الفاتحة) ، وبدأ بتفسير معانيها الكبيرة من سبعة أوجه ، وكانت خطبة ، وتفسيراً رائعاً ، أخذ بمجامع قلوب الحاضرين.

ولم يخف العالم الكبير ، والمعروف (ملا فناري) الذي كان حاضراً ، وسمع الخطبة التي حيرته ودهشته وأعجبته ، فقال فيما بعد لأصدقائه : لقد شاهدنا عظمة هذا الرجل ، وتبحره في العلم وفي التفسير ، فالتفسير الأول للفاتحة فهمه الجميع ، والتفسير الثاني فهمه البعض ، والتفسير الثالث فهمه القلة ، والخواص فقط ، أما التفسير الرابع والخامس والسادس والسابع ، فقد كان فوق طاقة إدراكنا.

وانتشر الخبر في أرجاء العاصمة (بورصة) بسرعة ، وعرف الجميع حقيقة هذا الرجل المتواضع الفقير ، الذي يحمل سلة الخبز على ظهره ، ويتجول في الأسواق وفي الأزقة ، ويتلاطف مع الأطفال والصبيان … عرفوا أنه عالم كبير ، وولي من أولياء الله ، وانتظروا رؤيته ، لكي يقبلوا يديه ويسألوه الدعاء ، ولكنهم لم يروه … أجل لم يروه بعد تلك الخطبة ، لقد رحل هذا الولي عن (بورصة) بعد أن تكشف أمره … ورحل إلى مدينة أخرى لا يعرفه الناس فيها.. مات رحمه الله في مدينة (آق صراي) ودفن فيها.






روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي ، ص 28

د.فالح العمره 26-09-2006 04:52 PM

السلطان الذي رفضت شهادته


نحن الآن في مدينة (بورصة) في عهد السلطان العثماني (بايزيد) ,الملقب بـ (الصاعقة) … الفاتح الكبير … فاتح بلاد (البلغار) و (البوسنة) و (سلانيك) و (ألبانيا) … السلطان الذي سجل انتصاراً ساحقاً على الجيوش الصليبية ، التي دعا إلى حشدها البابا (بونيغا جيوش الرابع) ، لطرد المسلمين من أوروبا ، والتي اشتركت فيها خمس عشرة دولة أوروبية كانت (انجلترا) و (فرنسا) و (المجر) من بينها ، وذلك في المعركة التاريخية المشهورة ، والدامية … معركة (نيغبولي) سنة 1396م.

هذا السلطان الفاتح اقتضى حضوره للإدلاء بشهادة في أمر من الأمور أمام القاضي والعالم المعروف (شمس الدين فناري).

دخل السلطان المحكمة … ووقف أمام القاضي ، وقد عقد يديه أمامه كأي شاهد اعتيادي.

رفع القاضي بصره إلى السلطان ، وأخذ يتطلع إليه بنظرات محتدة ، قبل أن يقول له : (إن شهادتك لا يمكن قبولها ، ذلك لأنك لا تؤدي صلواتك جماعة ، والشخص الذي لا يؤدي صلاته جماعة ، دون عذر شرعي يمكن أن يكذب في شهادته).

نزلت كلمات القاضي نزول الصاعقة على رؤوس الحاضرين في المحكمة … كان هذا اتهاماً كبيراً ، بل إهانة كبيرة للسلطان (بايزيد) ، تسمر الحاضرون في أماكنهم ، وقد أمسكوا بأنفاسهم ينتظرون أن يطير رأس القاضي بإشارة واحدة من السلطان .. لكن السلطان لم يقل شيئاً ، بل استدار وخرج من المحكمة بكل هدوء.

أصدر السلطان في اليوم نفسه أمراً ببناء جامع ملاصق لقصره ، وعندما تم تشييد الجامع ، بدأ السلطان يؤدي صلواته في جماعة.

هذا ما سجله المؤرخ التركي (عثمان نزار) في كتابه : (حديقة السلاطين) المؤلف قبل مئات السنين.. عندما كان المسلمون يملكون أمثال هؤلاء العلماء ، ملكوا أمثال هؤلاء السلاطين.



روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي ، ص 25

ضيدان بن مترك 26-09-2006 05:03 PM

[الدولة العثمانية]

ألأخ..فالح ألعمره..
مشكور وكلأمك وأفي معلومات مفيده لمن يرغب ألأستفاده
ألله يوفقكم أمين.............

د.فالح العمره 26-09-2006 09:48 PM

معركة ملاذكرت


لقد قامت الدولة السلجوقية التركية في القرن الخامس للهجرة لتشمل خراسان وما وراء النهر وإيران والعراق وبلاد الشام وآسيا الصغرى ، وأسسها طغرل بك السلجوقي الذي استطاع أن يسقط الدولة البويهية التي كانت مسيطرة على الخلافة العباسية ببغداد عام 447 هـ ، وأن يؤسس دولته السنية ، ثم توفي سنة 455 هـ وتولى السلطنة من بعده ابن أخيه ألب أرسلان الذي كان قائدا ًماهراً وشجاعاً كعمه ، فنشر الأمن في سلطنته الواسعة ، ثم التفت نحو توحيد العالم الإسلامي تحت راية الخلافة العباسية ونفوذ السلاجقة .

وأغضبت فتوحاته هذه ( دومانوس ديوجينس ) إمبراطور الروم ، فصمم على القيام بمعركة مضادة للدفاع عن إمبراطوريته ، ودخلت قواته في مناوشات ومعارك كان أهمها ملاذكرت عام 463 هـ ، فماذا جرى في هذه المعركة ؟

قال ابن كثير : ( وفيها أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والرخ والفرنج ، وعدد عظيم وعُدد ، ومعه خمسة وثلاثون ألفاً من البطارقة ، مع كل بطريق مائتا ألف فارس ، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفاً ، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة عشر ألفاً ، ومعه مائة ألف نقّاب وخفار .. ومعه أربعمائة عجلة تحمل النعال والمسامير ، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والمناجيق، منها منجنيق عدة ألف ومائتا رجل ، ومن عزمه قبحه الله أن يبيد الإسلام وأهله ، وقد أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد ، واستوصى نائبها بالخليفة خيراً ، فقال له : ارفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا ، ثم إذا استوثقت لهم ممالك العراق وخراسان لهم مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة ..

فالتقاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من عشرين ألفاً ، بمكان يقال له الزهوة ، في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة ، وخاف السلطان من كثرة جند الروم ، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن يكون من وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين ، فلما كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان وتواجه الفئتان نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز وجل ، ومرغ وجهه في التراب ودعا الله واستنصره ، فأنزل نصره على المسلمين ، ومنحهم أكتافهم فقتلوا منهم خلقاً كثيراً ، وأسر ملكهم أرمانوس ، أسره غلام رومي ، فلما أوقف بين يدي الملك أرسلان ضربه بيده ثلاثة مقارع وقال : لو كنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل ؟ قال : كل قبيح ، قال : فما ظنك بي ؟ فقال : إما أن تقتل وتشهرني في بلادك ، وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني ، قال : ما عزمت على غير العفو والفداء ، فافتدى منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار ، فقام بين يدي الملك وسقاه شربة من ماء وقبل الأرض بين يديه ، وقبل الأرض إلى جهة الخليفة إجلالاً وإكراماً ، وأطلق له الملك عشرة ألف دينار ليتجهز بها ، وأطلق معه جماعة من البطارقة وشيعه فرسخاً ، وأرسل معه جيشاً يحفظونه إلى بلاده ، ومعهم راية مكتوب عليها : لا إله إلا الله محمد رسول الله ) .

لم يكن جيش ألب أرسلان يعادل إلا 1/10 من جيش البيزنطيين ، ولقد أطلق سراح الإمبراطور البيزنطي مع جماعة من أمرائه مقابل أن يطلق الإمبراطور سراح كل مسلم أسير ، وأن يرسل إليه عساكر الروم لتقاتل معه في أي وقت يطلبها .

ويا لله ما أروع نصيحة العالم الرباني أبي نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي في المعركة عندما قال للسلطان : إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان ، وأرجو أن يكون الخطباء على المنابر ، فإنهم يدعون للمجاهدين . فلما كان تلك الساعة صلى بهم ، وبكى السلطان ، فبكى الناس لبكائه ، ودعا فأمنوا ، فقال لهم : من أراد الانصراف فلينصرف فما هاهنا سلطان يأمر ولا ينهى . وألقى القوس والنشاب وأخذ السيف ، وعقد ذنب فرسه بيده ، وفعل عسكره مثله ، ولبس البياض وتحنط ، وقال : إن قتلت فهذا كفني .




الدولة العثمانية لعلي محمد الصلابي ، ص33 ، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/44

د.فالح العمره 26-09-2006 09:49 PM

معركة مارتيزا


تولى السلطان مراد الأول السلطة في الدولة العثمانية سنة 761 هـ وعمره ستة وثلاثون عاماً ، فكان بذلك ثالث سلاطين الدولة العثمانية ، وكان شجاعاً مجاهداً ، فتح مدينة أدرنة عام 762 هـ ، وجعلها عاصمة الدولة ليكون على مقربة من الجهاد في أوروبا ، ومضى في حركة الجهاد والدعوة وفتح الأقاليم .

وخاف الأمراء الأوروبيون الذين أصبح العثمانيون على حدودهم فكتبوا إلى ملوك أوروبا الغربية وإلى البابا يستنجدون بهم ضد المسلمين ، حتى إمبراطور القسطنطينية ذهب إلى البابا وركع أمامه وقبل يديه ورجليه ورجاه الدعم رغم الخلاف المذهبي بينهما ، فلبى البابا النداء وكتب إلى ملوك أوروبا عامة يطلب منهم الاستعداد للقيام بحرب صليبية جديدة حفاظاً عل النصرانية من التقدم الإسلامي الجديد .

ولكن السلطان مراد انطلق يفتح مقدونيا ، فتكون تحالف أوروبي بلقاني صليبي سريع باركه البابا ، وضم الصربيين والبلغاريين والمجريين والبوسنيين ، وسكان إقليم والاشيا .

وقد استطاعت الدول الأعضاء في التحالف الصليبي أن تحشد جيشاً بلغ عدده ستين ألف جندي وسـار الجميع نحو أدرنـة ، غير أنه قد تصـدى لهم القائـد العثمـاني ( لالاشاهين ) بقوة تقل عدداً عن القوات المتحالفة ، وقابلهم على نهر مارتيزا – نهر صغير ينبع من غربي بلغاريا ويمر على أدرنة ثم يصب في بحر إيجه - ، حيث وقعت معركة مروعة وانهزم الجيش المتحالف ، وهرب الأميران الصربيان ، ولكنهما غرقا في نهر مارتيزا ، ونجا ملك المجر بأعجوبة من الموت ، أما السلطان مراد الأول فكان في هذه الأثناء مشتغلاً بالقتال في فتح آسيا الصغرى .

وكان من نتائج انتصار العثمانيين على نهر مارتيزا أمور مهمة منها :
1. تم لهم فتح تراقيا ومقدونيا ووصلوا إلى جنوب بلغارا وإلى شرقي صربيا .
2. أصبحت مدن وأملاك الدولة البيزنطية وبلغاريا وصربيا تتساقط في أيديهم كأوراق الخريف .




التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 8/68 ، والدولة العثماية لعلي محمد الصلابي ، ص 102

د.فالح العمره 26-09-2006 10:02 PM

محمد الفاتح

وملحمة القسطنطينية الخالدة

بقلم: خليل حسن فخر الدين


مولده وحكمه وشخصيته [1]

ولد محمد الثاني بن مراد الثاني بن محمد الأول في 26 رجب سنة 833 هـ (20 نيسان/أبريل 1429م)، وتولى الحكم في سنة 1451م وهو شاب لم يتجاوز عمره اثنتين وعشرين سنة وحكم لمدة ثلاثين سنة (1451-1481م). واشتهر في التاريخ بلقب محمد الفاتح لفتحه القسطنطينية، وهو من بين الفاتحين في التاريخ العالمي في هذه السن المبكرة، ومن بناة الحضارة الراقية والمجد الرفيع.

ورث محمد الفاتح دولة قوية واسعة، ولكنها لم ترض نفسه الطموح بأن يكتفي بأمجاد أسلافه، ويعيش في رفاهية ونعيم بل صمم على أن يزيد أمجاداً جديدة إلى أمجادهم الإسلامية بفتوحه في أوروبا وآسيا الصغرى، ويتوج تلك الأمجاد وأمجاد الإسلام عامة بتحقيق حلم راود المسلمين مدة ثمانمائة عام[2]، وهو فتح القسطنطينية، عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، العدوّة القديمة للإسلام والمسلمين منذ عهدهم الأول. وكان هذا الفتح أقسى ضربة سددها الإسلام في وجه أوروبا النصرانية في تاريخها الطويل على يد هذا الفاتح، ومن ثم نرى معظم المؤرخين الغربيين ينالون من محمد الفاتح وينعتونه بأبشع الصفات، ولم يشذ عنهم حتى المستشرق الإنجليزي المعتدل (لين بول Lane Poole)، وهو محض افتراء وبهتان، لم يدفعهم إليه إلا الحنق والغيظ لمحو اسم الدولة البيزنطية وريثة الإمبراطورية الرومانية من خريطة التاريخ إلى الأبد.

كان السلطان محمد الفاتح عبقرية فذة من عبقريات الإسلام، فلم يكن مجرد فاتح مغوار وقائد عسكري مظفّر، بل كان يجمع بين صفات القيادة العسكرية الموفقة وبين الثقافة العلمية الرفيعة [3]، يقود الجيوش، ويفتح المدن والدول، ويتذوق العلوم والآداب والفنون بمختلف أنواعها ويقدرها ويرعاها وينشئ ويعمر. ولقد أشاد بذكره المؤرخون المسلمون المعاصرون له كابن تغري بردين وابن إياس، والسخاوي، والسيوطي، وابن العمادالحنبلي، فيما كتبوه من ترجمته في مؤلفاتهم التاريخية العامة، وأثنوا عليه ثناء عاطراً، ونوهوا بفتوحه وعلمه. فمن ذلك ما قاله المؤرخ ابن إياس عندما بلغه نبأ وفاته: »وفي ربيع الأول جاءت الأخبار بوفاة السلطان المجاهد الغازي صاحب القسطنطينية وهو محمد بن مراد بن محمد.. وانتشر ذكره بالعدل في سائر الآفاق، وحاز الفضل والعلم والعدل والكرم الزائد وسعة المال وكثرة الجيوش والاستيلاء على الأقاليم الكفرية وفتح الكثير من حصونها وقلاعها..«.[4]

فتح القسطنطينية
قبل التعرض لفتح القسطنطينية أراد السلطان محمد الثاني أن يحصن مضيق البوسفور حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون [5] وذلك بأن يقيم قلعة على شاطئ المضيق من جهة أوروبا تكون مقابلة للحصن الذي أنشأه السلطان بايزيد ببرّ آسيا. ولما بلغ ملك الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيراً يعرض عليه دفع الجزية التي يقررها فرفض راداً ذلك للتعديات التي كانت تحدث من قبل الروم على الجنود العثمانيين وتقتل بعضاً منهم، فحاصر السلطان المدينةفي أوائل نيسان/أبريل 1453م من جهة البر بجيش يبلغ المائتين وخمسين ألف جندي، ومن جهة البحر بعمارة مؤلفة من مائة وثمانين سفينة، وأقام حول المدينة أربعة وعشرين بطارية مدفعية كانت تقذف كرات من الحجر إلى مسافة ميل. وفي أثناء الحصار اكتشف قبر أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي استشهد في حصار القسطنطينية في سنة 52 هـ في خلافة معاوية بن أبي سفيان. وبعد الفتح بنى له مسجداً جامعاً وما يزال قائماً، وجرت العادة بعد ذلك أن كل سلطان يتولى الحكم يتقلد سيف عثمان الأول الغازي بهذا المسجد.

ولما شاهد قسطنطين آخر ملوك الروم هذه الاستعدادات استنجد بأهل جنوة [6] فأرسلوا له عمارة بحرية تحت إمرة جوستنياني ، فأتى بمراكبه، وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فلقي معارضة شديدة، انتهت بفوزه ودخوله الميناء بعد أن رفع جنوده السلاسل الحديدية التي وضعت لمنع المراكب العثمانية من الوصول إليها، ثم أعيدت بعد مروره كما كانت.

بعدها أخذ محمد الفاتح يفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار براً وبحراً، فخطر بباله أن ينقل المراكب إلى البر ليجتازواالسلاسل الموضوعة لمنعه،وتم هذا الأمر بأن مهد طريقاً إلى البر رصّت فوقه ألواح من الخشب صبت عليها كميات من الزيت والدهن لسهولة زلق المراكب عليها، وبهذه الطريقة أمكن نقل سبعين سفينة في ليلة واحدة حتى أصبح النهار، ونظرها الروم، أيقنوا أن لا مناص من نصر العثمانيين عليهم.

أرسل السلطان محمد إلى قسطنطين يخبره أنه لو سلم البلد إليه طوعاً يتعهد له بعدم مس حرية الأهالي أو أملاكهم، وإن يعطيه جزيرة موره، فلم يقبل قسطنطين بذلك.

أمر الفاتح جنوده بالصيام قبل الهجوم بيوم لتطهير نفوسهم وتزكيتها، ثم قام بزيارة للسور وتفقد الأسطول، وفي تلك الليلة تعالت أصوات التكبير والتهليل، ورتلت آيات الجهاد على مسامع الجند، ودوت الأناشيد الإسلامية الحماسية.. ودعا الفاتح قادة جيشه، ثم خاطبهم قائلاً:

»إذا ثم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التقدير.. فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم ديننا الحنيف نصب عينيه، فلا يصدر عن واحد منهم ما ينافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد، ولا يمسوها بسوء بأذى، وليدعوا القساوسة والضعفاء الذين لا يقاتلون..« [7]

وظل الجند المسلمون طوال الليل يهللون ويكبرون حتى إذا لاح الفجر صدرت إليهم الأوامر بالهجوم، فتسلقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل فج، وأعملوا السيف فيمن عارضهم، ودخلوا كنيسة آيا صوفيا حيث كان يصلي فيها البطريق وحوله عدد من الأهالي، أما قسطنطين فقاتل حتى قتل، فدخل عندئذ محمد الفاتح إلى قصر الإمبراطور، وعمت بشائر الفتح في جميع العالم الإسلامي، إذ كتب الفاتح إلى السلطان المملوكي الأشرف إينال وإلى شريف مكة، كما أرسل إليه بعض الهدايا من الغنائم والأسرى، وأقيمت في مصر الزينات والاحتفالات لمدة ثلاثة أيام ابتهاجاً بهذا الفتح حسب كلام المؤرخ ابن تغري بردي.

بعد ذلك زار السلطان محمد كنيسة آيا صوفيا، وأمر بأن يؤذن فيها بالصلاة إعلاناً بجعلها مسجداً للمسلمين[8]، وأصدر أوامره بمنع كل اعتداء، وبأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة النصارى، بل يضمن لهم حرية عقيدتهم، وحفظ أملاكهم فرجع من هاجر منهم وأعطاهم نصف الكنائس وجمع أئمة دينهم لينتخبوا بطريقاً يكون رئيساً لطائفتهم.

محاولات العرب لفتح القسطنطينية
ولنذكر هنا أن المسلمين حاصروا القسطنطينية إحدى عشرة مرة قبل هذه المرة الأخيرة التي تم فيها فتحها، منها سبعة في القرنين الأولين للإسلام، فحاصرها معاوية بن أبي سفيان في خلافة الإمام علي بين أبي طالب رضي الله عنه سنة 34 هـ (654م)، وحاصرها يزيد بن أبي معاوية سنة 47 هـ (667م)، وحاصرها سفيان بن أوس في خلافة معاوية سنة 52 هـ (672م)، وفي سنة 97 هـ (715م) حاصرها مسلمة بن عبد الملك في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفي المرة السابعة حاصرها أحد قواد الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 182 هـ (798م).

نتائج هذا الفتح
لم يكن فتح القسطنطينية أمراً سهلاً كما يحلو لبعض المؤرخين أن يصوروه بسبب ضعف الدولة البيزنطية، والانشقاق الكنسي في الشرق والغرب، بل الحق يقال: إن الجنود الإسلاميين بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل ذلك، وقاموا بالتضحية والفداء حتى تم لهم النصر المبين، كما أن السلطان محمداً أعدّ كل ما يمكن من الوسائل العسكرية الناجحة، ولم يشك لحظة في ثقته بنصر الله عز وجل حتى تم له ذلك، وصدق المؤرخ الفرنسي الشهير (كارادي فو Carra De Vaux) في قوله بهذا الصدد: »إن هذا الفتح لم يتيسر لمحمد الفاتح اتفاقاً، ولا تيسر بمجرد ضعف الدولة البيزنطية، بل كان هذا السلطان يدبر التدابير الللازمة له من قبل ويستخدم له ما كان في عصره من العلم.« [9]

وكان من آثار هذا الفتح أن اتحد كلا القسمين الجنوبي والشمالي، الآسيوي والأوروبي للدولة الإسلامية العثمانية، وتحولت العاصمة من أدرنة إلى القسطنطينية التي سميت بأسماء عدة: إسلام بول (أي مدينة الإسلام)، ودار السعادة، واسمها الرسمي الآستانة، وفي العهد الكمالي قرر اسمها رسمياً إستنبول ولا تزال.

وأصبحت القسطنطينية بعد ذلك قاعدة للأعمال العسكرية في الشرق والغرب، وامتد النفوذ الإسلامي إلى شواطئ البحر الأسود الشمالي وكييف (حالياً في روسيا) [10] وإلى المجر واليونان وسواحل البحر الأدرياتيكي الشرقية، وإلى شرقي البحر الأبيض المتوسط.

وفاة محمد الفاتح
هكذا وبعد ثلاثين سنة من الحروب المتواصلة للفتح وتقوية الدولة وتعميرها، فاجأ الموتُ السطانَ محمد الفاتح في 4 ربيع الأول 886 هـ/3 مايو 1481م في أُسكُدار في معسكره وبين جنوده، إذ كان قد أعد في هذه السنة إعداداً قوياً لحملة لا يعرف اتجاهها لأنه كان شديد الحرص على عدم كشف مخططاته العسكرية حتى لأقرب وأعز قواده. وقد قال في هذا الصدد عندما سئل مرة: »لو عرفته شعرة من لحيتي لقلعتها.«

وهذه السرّية العسكرية التامة، مع الإيمان الصادق، كانت سر نجاحه في كثير من حملاته وفتوحه، ودفن في الضريح الذي شيده في جامعه بالقسطنطينية المعروف بجامع الفاتح، بينما غلبت روح الكآبة والحزن على الأتراك لفقدهم سلطانهم الحبيب وعمّ العزاء والرثاء في العالم الإسلامي لموت هذا المجاهد المسلم.



مجلة الأمة، العدد 21، رمضان 1402 هـ




[1] أفاض المؤلفون الغربيون في الكلام عن حياته وألفوا في سيرته، من أقدم هذه المؤلفات كتاب المؤلف الفرنسي في القرن السابع عشر الميلادي (جوييه)، وفي اللغة العربية كتابان عنه: »أبو الفتح السلطان محمد الفاتح وحياته« للقاضي التركي علي همت الأفسكي، ترجمة محمد إحسان بن عبد العزيز – القاهرة 1953م ، و»محمد الفاتح« للدكتور سالم الرشيدي.

[2] في الأصل »ألف عام« ولعله غلط في الطباعة. (الفسطاط)

[3] كان مولعاً بقراءة كتب التاريخ والسير ومكرماً للعلماء – انظر كتاب علي همت الأفسكي، وكتاب الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية لطاشكبري زادة.

[4] بدائع الزهور في وقائع الدهور أو تاريخ مصر ج2 ص204. ومثل ذلك ما كتبه ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة ج7 ص 357-437، وكتابه الآخر حوادث الدهور ج2 ص 298-299، ج3 ص 448-449، السخاوي في الضوء اللامع ج10 ص47، والشوكاني في البدر الطالع ج2 ص 269، وابن العماد الحنبلي ج7 ص 344-345.

[5] مدينة قديمة بآسيا على البحر الأسود تبعد 140 كلم عن مدينة أرضروم، ويظن أنها معاصرة لمدينة طروادة الشهيرة.

[6] جنوة مدينة قديمة جداً يقال أنها أنشئت سنة 707 قبل الميلاد واستولى عليها الرومانيون. فتحها شارلمان الفرنسي. نافست جمهوريتي بيزا والبندقية. تقهقرت شيئاً فشيئاً فدخلت تارة في حمى إسبانيا وطوراً في حمى فرنسا. بعد سقوط نابليون الأول سنة 1815م ضمت إلى لومبارديا، وهي الآن تابعة لإيطاليا.

[7]الدكتور علي حسون في كتابه تاريخ الدولة العثمانية ص 300 وما بعدها. ألا يذكرنا هذا بوصية سيدنا الصديق رضي الله عنه لجيوش الفتح الإسلامي التي وجهها؟

[8] الأمير شكيب أرسلان: حاضر العالم الإسلامي ج 1، ص 220، نقلاً عن كتاب : مفكرو الإسلام، تأليف كارا دي فو الفرنسي.

[9] المصدر السابق.

[10] وهي الآن في جمهورية أوكرانيا. (الفسطاط)

د.فالح العمره 26-09-2006 10:06 PM

حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني (1517-1524م)

والنتائج المترتبة عليها



د. أسامة محمد أبو نحل
الأستاذ المساعد في التاريخ الحديث ورئيس قسم التاريخ
كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الأزهر ـ غزة


1424هـ/2003م



--------------------------------------------------------------------------------


ملخص


تؤرّخ هذه الدراسة مرحلةٍ مهمة من تاريخ مصر العثمانية، التي شهِدت مرحلة التمرد في مصر في بداية العهد العثماني (1517 ـ1524م) والنتائج المترتبة عليها. فقد أفاض كثيرٌ من المؤرخين والباحثين في التأريخ لاستيلاء العثمانيين على مصر، غير إن قلة منهم تحدّثت باقتضاب عن حركات التمرد التي اشتعلت ضد الوجود العثماني فيها في بداية عهدهم بها، بينما تجاهلها الآخرون تجاهلاً يكاد يكون تاماً رغم أهميتها على قِصر مدتها الزمنية.

لم يبيّن هؤلاء المؤرخون الدوافع الرئيسة لتلك الحركات، مثل حركة تمرد المماليك عام 928هـ/1522م بزعامة جانم السيفي وأينال السيفي، وحركة تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن عام 930هـ/1524م.

أما النتائج التي ترتبت على تلك الحركات، فقد أسهبت الروايات التاريخية في سردها، وكان أهمها على الإطلاق ما أصدره السلطان سليمان القانوني من مجموعة تنظيمات إدارية، أو ما أُطلق عليه اسم "قانون نامه مصر".



المقدمة
أفاض الكثير من المؤرخين والباحثين في التأريخ لاستيلاء العثمانيين على مصر، وأفاضوا في سرد تفاصيل التنظيمات الإدارية التي اتبعوها في هذه الولاية المهمة، غير إن قلة منهم اهتمت ببحث حركات التمرد التي اشتعل أوارها ضد الوجود العثماني في مصر، بينما لم يولِها الكثير أدنى اهتمام، بل تجاهلوها تماماً رغم أهميتها على قِصر مدتها الزمنية.

وأهم ما ترتّب على تلك الحركات اهتمام العثمانيين من جديد بأهمية مصر وموقعها وخشيتهم من فقدانها، فقرر السلطان العثماني سليمان القانوني إصدار ما سُمي "بقانون نامه مصر"، في محاولةٍ للحد من نفوذ السلطات الإدارية المختلفة في الولاية المصرية، خاصة سلطة المماليك.

وأولى الاضطرابات التي برزت في مصر مع مطلع الحكم العثماني لها، قادها الشيخ عبد الدايم بن أحمد بن بقر، شيخ العرب في إقليم الشرقية، وذلك في عام 924هـ/1518م، بعدما خرج عن طاعة والي مصر خاير بك. وكان من قبل قد خرج عن طاعة السلطان المملوكي قانصوه الغوري من قبل.

ومما يلفت النظر أن حركة التمرد التي قادها المماليك بزعامة جانم السيفي وأينال السيفي عام 928هـ/1522م، لم يوضّح المؤرخون الذين أرّخوا لها الدوافع التي من أجلها قام المماليك بها، ويأتي على رأسها عداء الأمراء المماليك للسلطة الحاكمة الجديدة، وإحساسهم بفقدان امتيازاتهم، وأنهم أصبحوا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين.

وفيما يخص حركة التمرد التي قادها والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن، فقد أهمل المؤرخون السبب الذي دعاه للقيام بها، وهو حقده على الصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي سلبه هذا المنصب من وجهة نظره، فقرر الانتقام منه ومن الدولة بإعلان استقلاله بمصر وتحالفه مع شيخ العرب في إقليم الشرقية عبد الدايم بن بقر.

أما النتائج التي ترتّبت على تلك الحركات فقد أسهبت الروايات التاريخية في سردها، وكان أهمها إصدار السلطان العثماني سليمان القانوني مجموعة من التنظيمات الإدارية والقوانين ما سُمى "بقانون نامه مصر".

منهج الدراسة:

اعتمدت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي للروايات التاريخية الخاصة بموضوع البحث على قلتها مع عدم إغفال المنهج السردي للأحداث التاريخية لِما لذلك من أهمية. وقد اعتمدت الدراسة على عددٍ من المصادر الأوّلية مثل: أخبار الأُول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول لمحمد ابن عبد المعطي الإسحاقي، والنزهة الزهية في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية، والمنح الرحمانية في الدولة العثمانية، مخطوطين لمحمد بن أبي السرور البكري الصديقي، ونزهة الناظرين فيمن ولي مصر من الخلفاء والسلاطين، مخطوط لمرعي بن يوسف الحنبلي، وأوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات، مخطوط لأحمد شلبي عبد الغني.

وكذلك المراجع الثانوية، مثل: العرب والعثمانيون لعبد الكريم رافق، وجذور مصر الحديثة لدانيال كريسيليوس، والحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر لإستيف.

إرهاصات حركات التمرد في مصر العثمانية:

بات من الأدبيات التاريخية ما يمكن اعتباره أن الفتح العثماني للأقاليم العربية التي كانت خاضعة من قبل لسيطرة السلطنة المملوكية، قد أصبح بداية عهد لأوج الدولة العثمانية، غير أن الباحث لتلك الفترة التاريخية المهمة في تاريخ المنطقة يجد أن العثمانيين قد ارتكبوا أخطاءً إداريةً كان أهمها في الإقليم المصري ما جعل نفوذهم فيه في مهب الريح لفترةٍ من الزمن.

صحيح أن الفتح العثماني للأقاليم العربية 922-923هـ (1516-1517م)، قد وضع نهايةً مؤلمة للسلطنة المملوكية في الشام ومصر، وبالتالي أعاد تشكيل شخصية واهتمامات الدولة العثمانية ذاتها، غير أن الاعتبارات والمصالح العثمانية تقدّمت على المصالح الطبيعية لمصر في الأقاليم المجاورة لمدةٍ طويلةٍ من الزمن، ومع ذلك فقد ظلت مصر هي القاعدة التي يشع منها النفوذ العثماني على أغلب هذه المناطق ذات الأهمية التاريخية بالنسبة لمصر(1).

ومما يجدر ذكره أن استيلاء العثمانيين على مصر وغيرها من الأقاليم العربية، قد حدث عندما وصلت دولتهم ذروة مجدها، وكادت تصل إلى أقصى حدود اتساعها، أي أن الاهتمام العثماني بالمنطقة العربية إنما حدث عندما اجتازت دولتهم عهد الشباب الدافق، ودخلت في طور الكهولة المكتملة، فوصلت إلى حدود التوسع والاعتلاء من الوجهتين المادية والمعنوية(2)، وهذا ما يؤكّد صحة ما ذكرناه آنفاً.

ولمّا استولى العثمانيون على مصر وغيرها من الأقاليم العربية لم يحاولوا صِبغة أهالي هذه الأقاليم بالصِبغة العثمانية أو يربطوهم برباط الحضارة العثمانية أو حتى أن يوجدوا بينهم شيئاً من التعاون المتبادل أو لوناً من النشاط المشترك، بل اتبعوا المبدأ نفسه الذي ساروا عليه في كل أملاكهم تقريباً، وذلك بأن تركوا العناصر الأصليّة في حكم البلاد المفتوحة بعد إجراء بعض التعديلات التي تضمن لهم بقاء السيادة والسيطرة، بحيث سارت شعوبها على ما ألِفته من عادات وتقاليد لا يضيرها إلاَّ تعسف ولاتها في بعض الأحيان ومفاسد الحكم والإدارة، وكانت عناصر هذا الفساد في أغلبها موروثة عن فترة الحكم المملوكي وليست كلها مستحدثة في العصر العثماني(3).

إن ما تميّز به الحكم العثماني في بداية عهده لمصر؛ أنه كان حكماً غير مباشر رغم مركزيته، لكنّه غير شامل، فالنظام الذي أسسه العثمانيون في مصر كان في حقيقته خليطاً من عناصر عثمانية ومملوكية، فالقوات المملوكية التي بقيت بعد هزائمها في مرج دابق في الشام والريدانية في مصر أُعطيت لها واجبات وتم دمجها في الوحدات العسكرية العثمانية أو شُكّلت في وحدات منفصلة خاصة واُستعين بها كقواتٍ احتياطية بمعرفة القادة العسكريين العثمانيين. ونجح النظام الإداري العثماني الجديد في امتصاص كل الموظفين العاملين في النظام المملوكي المهزوم، ويبدو أن الهدف من وراء هذا الدمج والامتصاص كان توفير الخبرة والاستمرار للنظام العثماني الجديد(4).

لقد منحت الإدارة العثمانية في مصر حكومات الأقاليم المصرية أو ما يُطلق عليه اسم السنجقيات والكاشفيات لبكواتٍ من المماليك، رغم أن العنصر المملوكي لم يكن عنصراً أصيلاً في حكم مصر، لكنه على أية حال أقدم من العنصر العثماني، والسيادة المملوكية على مصر كانت أسبق من السيادة العثمانية. وقد ظلت مصر تحيا الحياة التي كانت تحياها في عصر سلاطين المماليك فيما عدا الخزنة السنوية والخطبة والسكّة وملكية السلطان نظرياً للأرض(5). ومن أهم البكوات المماليك الذين تسلّموا منصب الكشوفية في بداية العهد العثماني لمصر، أينال السيفي وجانم السيفي(6).

يتضح لنا مما سبق ذكره أن تعيين البكوات المماليك في تلك المناصب المهمة؛ إنما كان تمشّياً مع مبدأ العثمانيين في إيجاد نوعٍ من التوازن بين القوى الحاكمة في مصر، لبقائها دوماً تحت سيطرتهم.

استمر السلطان سليم الأول في إدارة شؤون مصر وضبط خراجها في أثناء وجوده بها، رغم تعيينه لأحد وزرائه وهو يونس باشا كنائبٍ عنه في حكم الإقليم المصري، وكان يُلقّب بنائب السلطنة طيلة وجود سليم في مصر؛ لكن الأخير قُبيل مغادرته الأراضي المصرية عام 923هـ/1517م، عزل يونس باشا وعيّن عِوضاً عنه الأمير خاير بك أحد أمراء السلطان المملوكي قانصوه الغوري، بعدما أثبت له إخلاصه وأبقى على لقبه الذي كان يُلقّب به من قبل وهو "ملك الأمراء"(7). ويبدو أن سليماً وافق على جعل مصر تحت حكم خاير بك طيلة حياته(8) بعدما ترك له بها من القوات العثمانية نحو خمسة آلاف فارس، إضافةً إلى نحو خمسمائة من الرماة(9).

نجح خاير بك إبان ولايته على مصر في استتباب الأمن فيها بعدما أطلق سراح عدد كبير من المماليك الجراكسة ومنحهم الأمان، وفي هذا يقول المؤرخ ابن إياس: "… وفي يوم السبت خامس عشرينه (أي شهر شعبان 923هـ) نادى خاير بك في القاهرة بأن المماليك الجراكسة تظهر وعليهم أمان الله تعالى. فظهر منهم الجمّ الغفير وهم في سوء حال"(10).

ويبدو أن خاير بك جابه خلال فترة ولايته اضطراباً أمنياً محدوداً من جانب القبائل العربية في إقليم الشرقية قادها شيخ العرب عبد الدايم بن بقر، وقد فشل خاير بك في استمالته، مما اضطره إلى تعيين والده الشيخ أحمد بن بقر في مشيخة جهات الشرقية، فازدادت الاضطرابات بعدما نهب الشيخ عبد الدايم وأعوانه منية غمر وأحرقها وغيرها من القرى في الشرقية، ويؤكّد ابن إياس ذلك بقوله: "وفي يوم السبت تاسعه (أي شهر صفر 924هـ) قويت الإشاعات بعصيان عبد الدايم؛ وأن قد التفّ عليه عربان كثيرة من الشرقية والغربية، وطرد أباه الأمير أحمد من الشرقية، واضطربت أحوال الشرقية إلى الغاية"(11).

وبعدما توفى خاير بك عام 928هـ/1522م، تعاقب على حكم مصر عدة ولاة منهم مصطفى باشا زوج أخت السلطان سليمان القانوني الذي نعته البعض بأنه عنجهيٌ، متعاظم على المصريين، ومترفّعٌ عن التعرّف بهم(12). بينما نعته آخرون بأنه متديّنٌ، محبٌ لعمله، وحسن السيرة(13)، وفي عهد هذا الوالي حدث أول تمرد مملوكي في مصر، وهو ما سنأتي على تفاصيله.

تمرد أينال السيفي وجانم السيفي على الحكم العثماني:

يحق للمرء التساؤل عن الدوافع التي دعت اثنين من قادة المماليك للتمرد والثورة على الحكم العثماني في مصر. فالدافع الأول لهذا التمرد هو أن بعضاً من الأمراء المماليك رغم انهيار سلطنتهم تماماً عام 923هـ/1517م، فإنهم ظلوا يكنّون العداء والضغينة للعثمانيين؛ ومما يدلّل على ذلك انضمام الكثيرين منهم لحركة التمرد التي قادها والي الشام جان بردي الغزالي، الأمير المملوكي الذي عيّنه السلطان سليم الأول في أثناء عودته للآستانة، وهؤلاء كانوا من المماليك الناقمين على والي مصر خاير بك، الذي بطش بهم فيما بعد(14).

أما الدافع الثاني أن بعضاً من المماليك قد أحسّوا؛ أنهم في ظل العهد الجديد قد فقدوا امتيازاتهم وجاههم، بينما قبِل البعض الآخر سياسة الأمر الواقع بالخضوع للحكم العثماني(15). ويتمثّل الدافع الثالث وهو الأهم؛ أن متزعمي التمرد كانوا من المخلصين لآخر سلاطينهم طومان باي حتى بعد إعدامه حيث عمد أحدهم وهو أينال السيفي لقتل الشيخ حسن بن مرعي وأخيه شُكر وهما اللذان سلما السلطان طومان باي للسلطات العثمانية لتقوم بدورها بإعدامه(16).

نستنتج مما سبق ذكره أن ولاء المماليك المهزومين للحكام الجدد لم يكن قد ترسّخ بعد، مما دعاهم للقيام بحركات تمرد ضدهم في محاولةٍ لإعادة مجدهم الذي داسه العثمانيون، فأصبحوا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين، لهم الصولة والجولة.

ومهما يكن من أمر، فإنه طيلة فترة ولاية خاير بك على مصر لم تأخذ أية ثورة على السيادة العثمانية مكانها، لكن بعد وفاته أصبحت سلطة السلطان الجديد سليمان القانوني على المحك، حيث بدأ بمجابهة حركات التمرد التي لم تظهر في عهد أبيه سليم، فقضى في عام 927هـ/1521م على حركة والي الشام الأمير جان بردي الغزالي، وبعدها بعام جوبه بحركة جديدة في مصر تزعمها اثنان من قادة المماليك هما أينال السيفي كاشف الغربية التي تقع في الجزء الغربي من الدلتا على الضفة اليمنى لفرع رشيد من النيل، وجانم السيفي كاشف البهنسا والفيوم في مصر الوسطى(17). وكان تعيين السلطان سليمان لمصطفى باشا والياًَ على مصر بعد خاير بك في محله، فقد كان ذا شأنٍ بما فيه الكفاية؛ إذ لم يكن من نخبة المماليك وإنما عثمانياً ذا مكانة سامية مرموقة وصهراً للسلطان وكفواً لمواجهة الخطر المحدق بأهم الولايات العثمانية في الشرق(18).

ويبدو أن قادة التمرد قد استحسنوا التعبير عن رؤيتهم للنخبة العسكرية لقدامى المماليك وذلك بتباهيهم بشجاعتهم وبسالتهم وازدرائهم للأسلحة النارية الحديثة التي بواسطتها تمكّن العثمانيون من قهر سلطنتهم، وتقليلهم من شأن السلطان سليمان الذي كان صغير في السن، وذلك بقولهم أنه لو قدِم بنفسه لمحاربتنا فسوف نهزمه، فنحن لن نترك هذه البلاد لهؤلاء التركمان الذين لا يعرفون قتال الفروسية(19).

وجاهر الثائرون بعدم طاعتهم للسلطان العثماني وتوجهوا نحو إقليم الشرقية الواقع إلى الشرق من دلتا النيل وهي منطقة استراتيجية حيث يكون في مقدورهم قطع المواصلات بين مصر وبلاد الشام، كما أنهم تحكموا بطريق المواصلات والمؤن بين الصعيد والقاهرة(20).

وكان أينال السيفي قد وصل إلى الشرقية قبل جانم السيفي، وقد انضم إليه بعض المماليك وبعض القبائل العربية بالشرقية، فصمم الوالي مصطفى باشا على قمع هذا التمرد قبل أن يتفاقم أمره ويخرج عن السيطرة والتوجه بنفسه لمقاتلتهم، غير أن القاضي موسى بن بركات والمعروف في المصادر التاريخية باسم الزيني بركات(21) ألحّ على الباشا بالتريث في شأن القتال، وطلب منه أن يكتب لزعماء التمرّد كتاباً بالأمان والعفو ووعده بإحضارهم إليه، فاستجاب الباشا لطلبه، وتوجه إلى معسكر المتمردين لإقناعهم بالتسليم، غير أن فصاحته فشلت في إغراء أينال السيفي، الذي قطع رأسه كخائنٍ للقضية المملوكية(22).

وفي اليوم التالي انضم جانم السيفي إلى حليفه أينال وبقيا معاً في الشرقية في انتظار وصول أعيان المماليك الذين كانوا على علمٍ مسبق بالمؤامرة وتخلّفوا عنهم، ولمّا سمع مصطفى باشا بمقتل الزيني بركات اشتاط غضباً وأمر بتشكيل حملة مسلحة مؤلفة بالكامل من الفرق العثمانية وجعل قيادتها لموسى أغا الإنكشارية وسليمان أغا التفكنجية، وفي الشرقية دارت رحى معركة انتهت بمقتل جانم بعدما تعثّر عن فرسه ووقع فقطع العثمانيون رأسه، بينما تمكن أينال من الفرار باتجاه غزة واختفى نهائياً ولم يعُدْ له ذكر، وادّعى البعض من الجهلة السذّج، أنه ارتدى طاقية غير مرئية لا يراه أحد إذا لبسها(23).

أمر مصطفى باشا بتعليق رأس جانم السيفي على باب زويلة في القاهرة لإرهاب من تسوّل له نفسه من المماليك في الخروج عن طاعة السلطة العثمانية، ثم أرسلها فيما بعد إلى السلطان سليمان في الآستانة، الذي شكره بدوره على صنيعه وأرسل له قفطاناً هديةً وأمر بترقية جميع العساكر الذين أسهموا في القضاء على التمرد(24).

تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن

بعد أن تمكن مصطفى باشا من إنهاء حركة التمرد التي قادها المماليك هدأت الأمور في مصر؛ لكنه هدوءاً مؤقتاً؛ إذ سرعان ما تفاقمت حركة تمرد جديدة بعد ما يزيد عن العام، فبعد عام وعشرة أشهر من تولي مصطفى باشا الولاية في مصر تم عزله في 16 ذي الحجة 928هـ، وحلّ محله قاسم جزل باشا الذي بقي والياً على مصر لمدة عام واحد فقط ثم عُزل وتولى منصبه أحمد باشا في صفر 930هـ(25).

وثمة سببٌ أدّى إلى تولي أحمد باشا ولاية مصر، فقد أسهم المذكور في الفتوحات العثمانية في أوروبا، خاصةً في البلقان، وطمِع في تولي منصب الصدارة العظمى بسبب المرض العضال الذي ألمّ بالصدر الأعظم محمد باشا الصدّيقي، فأعجزه عن الحركة وطلب إعفائه من الخدمة، وعيّن مكانه "أود باشا"، وكان أحمد باشا أقدم منه وكان يتوقع أن يتولى هو المنصب، غير أن منافسه إبراهيم باشا نجح في الحصول على هذا المنصب؛ ولكي يُبعِد أحمد باشا عن الآستانة، عيّنه والياً على مصر بعد موافقة السلطان تعزيةً له عن المنصب الأهم ـ الصدارة العظمى، ويبدو أن هذا التعيين لم يمنع حالة العداء المستحكم بين الرجلين لفارق الأهمية بين منصبيهما(26).

ومهما يكن من أمر؛ فقد استمر أحمد باشا فور توليه حكم مصر في إلحاق الموظفين والقوات المملوكية في جهازه(27) لأمرٍ دبّر له على ما يبدو هو الانتقام لذاته من الخيبة في الحصول على منصب الصدارة العظمى.

ويبدو أن أحمد باشا كان من الرعونة بمكان، أنه تعجّل إعلان تمرده على السلطان العثماني قبل أن يُكمل استعداداته بفعل قوة الحقد والعداء الذي يكنّه للصدر الأعظم إبراهيم باشا فانفجر في أعماقه الضغط النفسي الدفين وتذرّع بذريعةٍ واهيةٍ لإعلان تمرده لكسب الأنصار من حوله؛ بادّعائه أن السلطان سليمان أرسل تعليماتٍ لقائد الإنكشارية في القاهرة باغتياله وقتل أمراء المماليك، كما ادّعى أنه ألقى القبض على حامل الكتاب الذي به تلك التعليمات، ومن ثمّ أصبح ذا مزاجٍ حاد ومستبد، وقام بمصادرة ثروات أعيان مصر وأمر بقتل كبار الضباط العسكريين(28).

وقد توفر لأحمد باشا في مصر العديد من عناصر الثورة والتمرد الضرورية، في مقدمتها بُعد مصر الجغرافي عن مركز الدولة العثمانية، ثم يلي ذلك ما تتمتع به مصر من غنىً وكِبر مساحتها، ووجود المماليك الناقمين فيها على الحكم العثماني، والذين يجمع بينهم وبينه النسب الجركسي القوقازي(29)، متوهماً أن تلك العناصر كفيلة بتحقيق نجاحٍ باهرٍ في تهديد الوجود العثماني في مصر.

ومن بين الذين استهدفهم غضب أحمد باشا، الأمير جانم الحمزاوي(30) ذو الأصل المملوكي ومن كبار الأمراء في مصر ومحمود بك، وعندما حاول قائد الإنكشارية التوسّط لديه من أجل إطلاق سراح جانم الحمزاوي، اعتقله بدوره ثم قتله(31). والواقع إن تخلص أحمد باشا من قائد الإنكشارية لم يكن حادثاً عرضياً بل متعمداً لسببين اثنين هما: اعتقاده أولاً بأن هذا القائد هو الذي رشحه السلطان سليمان لتولي نيابة مصر عوضاً عنه بعد التخلص منه. وثانياً أن فرق الإنكشارية كانت موالية للسلطان العثماني وتمكنت من كسب ثقته بصورةٍ مطلقة، ويبدو أن أحمد باشا أراد تحطيم الروح المعنوية لتلك الفرق العسكرية عن طريق قتل قائدهم(32).

إن الإجراءات السالف ذكرها أقنعت أحمد باشا أن علاقته بالسلطة المركزية العثمانية قد وصلت إلى نقطةٍ لا يجوز له العودة عنها، وأن قانون المرحلة يقتضي منه الاندفاع قُدماً في مخططه إلى آخر الشوط مهما كلفه الأمر، معتمداً على أعوانه الذين ربما منّوا أنفسهم بإمكانية تحقيق الانفصال عن الدولة العثمانية، وأن يُصبح لهم شأوٌ ذو أهمية في الدولة المنتظرة.

انتقل أحمد باشا فيما بعد للشروع في الثورة، في مطالبته بحقه في سلطنة مصر وإصراره على امتيازاته الملكية في ذكر اسمه في خطبة الجمعة وسك اسمه على العملة. وفي تلك الأثناء ابتنى جيشاً خاصاً به غالبيته إلى حدٍ بعيد من المماليك، وطلب من الإنكشارية التي تحصّنت في قلعة القاهرة بالانصياع له، فلما رفضت فرض عليها الحصار، وأمام قسوة الحصار اضطر هؤلاء من شق طريقهم عن طريق نفقٍ سري تحت الأرض داخل الحصن، فسقطت القلعة بيد أحمد باشا في 7 شباط (فبراير) 1524م، ثم أعلن نفسه سلطاناً في الثاني عشر من الشهر نفسه، وذكر اسمه في الخطبة وعلى السكّة(33).

بعدما تغلّب أحمد باشا على مناوئيه الخطيرين، حاول فعل أي شيء لإضفاء الشرعية على مركزه ومنصبه الجديد؛ بأن طلب من فقهاء المذاهب الأربعة في مصر ومن سليل البيت العباسي ابن آخر خليفة عباسي مهمش حلف اليمين له. ولم تذكر المصادر التاريخية إطلاقاً كم كان عدد المؤيدين لحركته والذين وثِقوا به؛ لكن الواضح أنه أكثر من مصادرة الأملاك وممارسة الابتزاز ضد اليهود والمسيحيين، كما عمد لكسب حلفاء جدد له من خارج القاهرة فمنح حق ضرائب الأراضي الزراعية لمنطقة الشرقية لشيخ العرب عبد الدايم بن بقر، الذي كان قد ثار من قبل على حكومة خاير بك، وقد أدّى هذا التحالف إلى تهديد الحدود المصريةـ الشامية(34).

وأمام تفاقم الأوضاع في مصر وتدهورها وخشية السلطة المركزية العثمانية من فقدان أهم ولاياتها في الشرق الإسلامي عمدت إلى استخدام سلاح لا يقل خطورة عن السلاح الذي يُستخدم في المعارك الحربية؛ إن لم يضاهه أهميةً ويفوقه وهو سلاح الدعاية (أو ما يُطلق عليه في أيامنا باسم حرب الشائعات). ويبدو أن العثمانيين نجحوا في استخدامه إلى حدٍّ بعيد، حيث أشاع العثمانيون في القاهرة أن أحمد باشا الذي تم تلقيبه بالخائن على علاقةٍ وطيدة بالصفويين الذين يحكمون في بلاد فارس ويعتنقون المذهب الشيعي، وأنه تحت إغراء ظهير الدين الأردبيلي تحوّل عن المذهب السّنّي، وأصبح من أتباع الشاه إسماعيل الصفوي. وكان ظهير الدين الأردبيلي قد استقر في إحدى المقاطعات العثمانية وتظاهر بولائه للمذهب السُنّي وقد رأى الأردبيلي أن من المناسب الكشف عن سرّه وماهيته وإظهار حقيقة أمره لكي يُحوّل أحمد باشا إلى اعتناق المذهب الشيعي، وليؤكّد بأن أملاك السّنّة قد أصبحت غنائم شرعية(35).

ويبدو أن العثمانيين استخدموا تلك الوسيلة الدعائية بمهارة لتشويه سمعة أحمد باشا بين أتباعه من ناحية والأهلين في مصر من ناحية أخرى؛ ذلك لخشيتهم من قيام تحالفٍ فعلي بين والي مصر والشاه إسماعيل الصفوي(36). ونجحت الدعاية بالفعل واتت أُكلها رغم افتقارها إلى الدليل المادي في إثارة الأهلين ضد أحمد باشا، وأعلن قضاة المذاهب الأربعة كفره وأوصوا بالجهاد ضده(37).

وكان من النتائج التي ترتبت على هذه الدعاية انهيار قوة أحمد باشا بشكلٍ فُجائي وعلى نحوٍ دراماتيكي؛ إذ حدث انقلابٌ مضاد تم تخطيطه من جانب الأمير جانم الحمزاوي الذي نجح في فك أسره مع أحد المسئولين العثمانيين إضافةً لأحد الأعيان المماليك، فنصبا صنجقاً (رايةً) سلطانياً، وناديا من أطاع الله ورسوله والسلطان فليقف تحت هذا الصنجق، وتمكنا من جمع الكثير من الأهلين وفاجأوا أحمد باشا في 23 شباط (فبراير) 1524م/930هـ، وهو في الحمّام. وبينما كانت قواتهم تشتبك مع مؤيديه نجح في الفرار من خلال الأسطح ولم يكن بعد قد أتمّ حلاقة رأسه، وتمكن من الوصول إلى الشرقية والتجأ عند الشيخ عبد الدايم بن بقر، ونهب أعداؤه كل ما يملكه من عتادٍ وسلاح(38).

تمكن أحمد باشا خلال وجوده في الشرقية من تأسيس قوة عسكرية قوامها في الغالب من العربان والجراكسة وبعض العثمانيين، وتعهّد لهم باسترداد القاهرة ونهبها، كما كفل للقبائل العربية الإعفاء التام من الضرائب لمدة ثلاث سنوات، وفي تلك الأثناء كان المجلس السياسي الموالي للعثمانيين في القاهرة قد تولّى الإدارة، وعيّن مجلسُ الأعيان العسكريُّ الأمير جانم الحمزاوي لقيادة الإنكشارية وزملاءهُ المماليك لقيادة قوات الخيالة الجراكسة، كما تم تعيين القائد العثماني كحاكمٍ للقلعة، وأُعلنت في القاهرة التعبئة العامة للجيش للمشاركة في التخلص من أحمد باشا الذي تم وصمه بالخيانة والكُفر لموالاته الشاه إسماعيل الصفوي(39).

تسارعت الأحداث فيما بعد بصورةٍ حثيثة وأرسلت الحكومة الجديدة التي تم تعيينها في القاهرة حملة صغيرة لإلقاء القبض على أحمد باشا، لكنها باءت بالفشل، مما اضطر الأمير جانم الحمزاوي لقيادة حملة عسكرية مؤلفة من ألف مقاتل مع تسعة مدافع لمواجهة المتمردين. ويبدو أن تلك الحملة ساعدها الحظ في النجاح بسبب الانشقاق الذي دبّ بين الجماعات العربية المنشقة المنافسة التي ترامى لمسامعها أن نحو ألف من الجند الإنكشارية قد نزلوا إلى الإسكندرية، فحثّ كلاً من والد الشيخ عبد الدايم وأحد أبنائه، عبد الدايم عن التخلي عن أحمد باشا لكي يحفظوا أنفسهم من الدمار والقتل الذي سيلحقه بهم العثمانيون.

وأمام إلحاح أقاربه اضطر الشيخ عبد الدايم للإذعان، فأخذت قوات أحمد باشا بالتلاشي تدريجياً، مما أدّى إلى إلقاء القبض عليه في أثناء القتال وقطع رأسه في 6 آذار 1524م/930هـ، وحُملت رأسه إلى القاهرة وتم تعليقها على باب زويلة، وبعد فترة تم إرسالها إلى الآستانة ليتأكد السلطان من الإجهاز على تمرده، ويعتبر أحمد باشا الأول من عدة ولاة حمل لقب ثابت وبارز هو الخائن(40).

وقد شاءت الصدفة أن يُلاقي أحمد باشا مصيره بالقتل بعد أسبوع فقط من مقتل ظهير الدين الأردبيلي، الذي قُتل في 20 ربيع الأول 93هـ/26 شباط (فبراير) 1524م(41).

النتائج المترتبة على حركات التمرد:

أدّى القضاء على حركات التمرد السالفة الذكر إلى نتائجَ غايةً في الأهمية؛ فقد أحسّت السلطة المركزية في الآستانة بضرورة إجراء تعديلات إدارية في أنماط الحكم في مصر خشيةً من فقدانها للأبد، أو استهانة المماليك والولاة ذوي النزعة الانفصالية في مقدرة الدولة العثمانية على إبقاء مصر تحت سيطرتها، فاستلزم الأمر من العثمانيين إعادة فتح مصر مرة أخرى، لكن هذه المرة ليس فتحاً عسكرياً بل إدارياً، فأرسلت الدولة جيشاً عثمانياً تحت قيادة الصدر الأعظم "إبراهيم باشا" الذي حمل لقب والي مصر أيضاً، كما منحته الدولة أيضاً حق إجراء تنظيم البلاد من جديد بواسطة مجموعة التنظيمات الصادرة تحت رعاية السلطان سليمان القانوني والمُسماة "قانون نامه مصر" عام 1524م(42).

بقي إبراهيم باشا في مصر أسابيع عدّة فقط (شهرين وأربعة وعشرين يوماً)، لكنه ترك فيها ذكرى طيبة لولايته من خلال قانون نامه مصر، هذا المرسوم الذي جمع القوانين الإدارية ونسّقها وعمل على تطبيقها(43). وقد أكّد محمد بن أبي السرور البكري الصديقي بقوله: "وقد أحاط (أي إبراهيم باشا) بأحوال مصر ورتّب الديوان والعساكر والجيوش وكتب قانوناً لطيفاً وارتفاع الأقاليم وضبط مقاطعاتها وطينها من السلطاني والأوقاف، وجعل لها قطايع معلومة بموجب دفاتر الجراكسة القديمة (السلطنة المملوكية السابقة) وأودعها ديوان مصر"(44).

وبناءً على ما سبق، فالدولة العثمانية قررت بذلك وضع نظام معقّد من التوازنات والاختبارات العسكرية والبيروقراطية في محاولةٍ منها لتقليل فرص طموحات ولاتها في مصر في المستقبل(45).

ويتكوّن قانون نامه مصر من جزء ين رئيسين: الأول ـ يتناول المؤسسة العسكرية في مصر، وتألّف من ست فرق من الجنود أو ما سُمي بالأوجاقات(46)، وبيانها كالتالي:

1ـ أوجاق الإنكشارية (المستحفظان): ووظيفته حراسة القاهرة ومداخلها، إضافةً إلى تولي مهام الشرطة في العاصمة وبعض المدن المصرية الكبرى.

2ـ أوجاق العزبان: ومهامه كثيرة ومماثلة لمهام المستحفظان. وهذا الأوجاق يتولى حراسة أعمال الدورية في النيل بالقوارب، لكن هذا الأوجاق أقل عدداً ورواتبَ من المستحفظان.

3ـ أوجاق الجاووشان (الجاويشية): ويعمل كحرسٍ خاص للوالي ويؤدي وظيفة حمل الأوامر الصادرة عن الوالي إلى الجهات المُرسلة إليها.

4ـ أوجاق التفنكجيان (التفقنجية): وهم عبارة عن رماة.

5ـ أوجاق الجوكلليان (الهجّانة): وينطقها المصريون "الجموليان" بمعنى راكبي الجمال، وهم من المتطوعين الذين عملوا في الأقاليم.

6ـ أوجاق الجراكسة: وهم الخيّالة من بقايا النظام المملوكي ومهمتها مشابهة لمهام أوجاقي الخيّالة التفنكجيان والجوكلليان.

وقد أُضيفت فيما بعد لتلك الأوجاقات، أوجاق آخر في عام 1554م هو المتفرّقة وهو الحرس الخاص للوالي أيضاً بحيث مكّنه من المحافظة على سلطته بين الأوجاقات العسكرية حتى القرن السابع عشر الميلادي(47).

والواضح أن السلطان سليمان إنما أراد بتأسيس تلك الأوجاقات ودعمها، أن تكون بمثابة جيشٍ احتياطي(48) يمكن الاستعانة به وقت الحاجة إليه في حروب الدولة العثمانية الخارجية.

أما الجزء الآخر من هذا القانون فهو وصف للإدارة المدنية التي ورثت بعض السمات من السلطنة المملوكية السابقة(49)، وهي مختصة بإدارة البلاد. ويكون على رأس هرم هذه الإدارة والٍ يقيم في قلعة القاهرة وهو الموظف التنفيذي الأول وممثل السلطان العثماني في ولاية مصر، ويحمل لقب باشا، وله القيادة الاسمية لقوات الحامية العثمانية فيها؛ لأن سلطته على هذه القوات كانت غامضة وضعيفة. وكان يتم اختياره وتعيينه بواسطة الديوان السلطاني في الآستانة من بين الوزراء الكبار في الدولة، ومن المهام الصعبة المُلقاة على كاهله في مصر المحافظة على النظام والانضباط بين قوات الحامية العسكرية، وكشف أية مطامح عسكرية لدى الزعامات المملوكية(50).

كان الوالي بناءً على قانون نامه يباشر مهامه ويُصدر أوامره من خلال الديوان(51) في مصر، وهو مجلس مكوّن من كبار الموظفين الدينيين والإداريين والعسكريين في الجهاز العثماني في ولاية مصر(52)، وسلطة الوالي (الباشا) متمثلة في رئاسته للديوان والتصديق على قراراته وإعطاء الأوامر لوضعها موضع التنفيذ، وكان الهدف من إنشاء هذا الديوان الحد من سلطة الباشا(53)، الذي كان يساعده في الحكم الكيخيا (الكتخدا)(54) والدفتردار(55) حيث كانا يتلقيان منه الأوامر قبل المداولات ثم يحيطانه علماً بالقرارات التي أعقبت أوامره(56).

لم يكتفِ السلطان بوضع والٍ على مصر يحكمها نيابةً عنه؛ لذا أنشأ سلطات عدّة أخرى للحد من نفوذه، فكان قاضي القضاة هو الموظف القانوني الأول في الولاية ويتم انتخابه من بين طائفة العلماء بواسطة السلطات في الآستانة، ثم يتم إرساله إلى مصر لإدارة النظام في المحاكم العثمانية، وكان من بين واجبات قاضي القضاة مراقبة أعمال الوالي والتأكّد من صحة تنفيذه الأوامر السلطانية وإحاطة الديوان السلطاني علماً بسلوك هذا الوالي، وكان احتجاج قاضي القضاة إلى الديوان السلطاني بشأن تصرفات الوالي كفيلاً بإقالة الأخير من منصبه وإعادته إلى الآستانة(57).

وهنالك الروزنامجي(58) الذي كان رئيس الديوان المختص بجمع الأموال الأميرية التي يتم تحصيلها من الأرض والجمارك، ويُسمى هذا الديوان ديوان الروزنامة. ويُشار إلى أن الروزنامجي كان يتم تعيينه من الآستانة مباشرةً حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر، عندما تدهورت الإدارة العثمانية في مصر، فوقع المنصب تحت سيطرة البيوت المملوكية خلال القرن الثامن عشر(59).

كما أنشأ السلطان سليمان مناصب إدارية جديدة قوامها 24 رتبة "بك طبلخانة" ـ أي يكون لأصحابها الحق في أن تصحبهم فرقة موسيقية. وقد أُسندت لاثني عشر منهم مهام خاصة ومحددة ، بينما أُوكلت للآخرين مهامٌّ استثنائيةٌ أو أن يحلّوا محل زملائهم الذين كانت تزول عنهم وظائفهم بعد مضي عام من ممارستهم لها. والإثنا عشر بكاً الأوائل فهم الذين تتشكّل منهم الإدارة المحلية لمصر وهم: كيخيا الباشا ـ أي نائبه، وأمير الحج ووظيفته مراقبة شؤون الحج ومرافقة الحجاج وتوزيع الهبات على فقراء المدن المقدسة في الحجاز، والخازندار ومهمته حمل الخراج سنوياً إلى الآستانة ويُسمى أمير الخزنة، والقبودانات وعددهم ثلاثة يحكمون ثغور الإسكندرية ودمياط والسويس، إضافةً إلى الروزنامجي كما سبق الإشارة(60).

ولم يكن كل البكوات الكبار وعددهم 24 بكاً والذين رُفّعوا إلى هذه الرتبة من جانب الدولة العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي من طبقة المماليك، فقد كان البعض كالدفتردار والقبودانات الثلاثة قادة الأساطيل في المدن المذكورة آنفاً يتم تعيينهم من بين أصحاب الرُّتب العثمانيين(61).

ويبدو أن المماليك رغم حركة التمرد التي قادها جانم السيفي وأينال السيفي لم تهتز مكانتهم كثيراً، ولم يتأثروا بنتائج تلك الحركة، فقانون نامه مصر قد يوحي للوهلةِ الأولى بهيمنة النظام العثماني وسيطرته على البناء المملوكي المهزوم، إلاَّ أن هذا النظام كان في حقيقته نوعاً من الحكم العثماني ـ المملوكي الثنائي؛ لأن المماليك تم منحهم مناصب سلطوية رفيعة في هذا النظام الجديد، بل اندمجت السلطة العثمانية واقعياً مع القوة العسكرية والإدارية المملوكية، ورغم أن تقدماً ملموساً وملحوظاً قد تم في أعقاب إعلان قانون نامه مصر فيما يتعلق بعثمنة الإدارة في مصر وخاصةً في شأن إجراءات جمع الإيرادات فإن عدم قدرة النظام العثماني الجديد على كبح جماح المطامح السياسية المملوكية أدّى فيما بعد إلى فقدان الدولة العثمانية السيطرة الفعّالة على مصر بشكلٍ عام مع مطلع القرن السابع عشر(62).

والحقيقة التي لا يختلف بشأنها اثنان أن السلطة التنفيذية بقيت في أيدي البكوات المماليك، فأسند إليهم السلطان حكم مديريات الولاية المصرية، لكنه حرمهم من التعيين في الديوان. وما كان ذلك من جانب السلطان إلاَّ لخلق عدة قوى متنافسة أحياناً ومتصارعة أحياناً أخرى، ولكي يصعُب عليها الاتفاق فيما بينها على سياسةٍ واحدةٍ تتعارض مع سياسة الدولة العليا(63).

وقد استمر هؤلاء البكوات المماليك الذين أصبحوا يحكمون مديريات الولاية المصرية يُسمون بنفس ألقابهم القديمة زمن السلطنة المملوكية ـ أي كُشّافاً وتُسمى مديرياتهم سناجق، وكانت واجباتهم الرئيسية تتعلق بصيانة أعمال الري التي يعتمد عليه رخاء البلد، وجمع الضرائب التي يدفعها الفلاحون، وإقامة الترع والمصارف والجسور، لِما لذلك من أهميةٍ تتعلق بنمو الحاصلات الزراعية التي تُعتبر عماد ثروة البلاد(64).

وشملت قوائم قانون نامه مصر أسماء أربعة عشر من نواب الولايات باسم كُشّاف. ثلاثة عشر منهم حكموا في مصر السفلى ومصر الوسطى وآخر حكم في واحة الخارجة النائية في الصحراء الغربية، بينما بقيت مصر العليا من أسيوط جنوباً تُحكم إدارياً بواسطة شيوخ العرب من بني عُمر الذين وُصفوا في قانون نامه بأنهم يؤدون مهاماً شبيهةً بوظائف الكُشّاف. ورغم أنه كان يقع بين الفينة والأخرى اصطدامٌ بين الإدارة العثمانية ومشايخ القبيلة، فإنهم لم يُجرّدوا من نفوذهم إلاَّ عام 1576م، عندما تم تعيين أحد البكوات كحاكمٍ على مصر العليا(65).

وبناء على سياسة العثمانيين تجاه المماليك وعدم القضاء عليهم وعلى نفوذهم، بل عدم الممانعة في جلب الكثير منهم إلى مصر ستتكرّر ثوراتهم ضد الوجود العثماني في المستقبل(66) وسيزداد نفوذ البيوت المملوكية مما أدّى إلى حركات تمرد واسعة النطاق بعد منتصف القرن الثامن عشر، كحركة شيخ البلد المملوكي علي بك الكبير، وازدياد نفوذ كلٍّ من إبراهيم بك ومراد بك حتى وصول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م.

وتبقى الإشارة إلى أنه قامت في مصر في أعقاب الفتح العثماني لها عدة ثورات للقبائل البدوية، لكنها لا تتساوى من حيث الأهمية مع ثورات المماليك، لكونها مألوفة في تاريخ المنطقة التي شهدت باستمرار الصراع الأزلي بين سلطات المدن والقوى البدوية. ويكون رجحان طرفٍ على الآخر بمقدار ما يكون عليه كلٌّ منهما من قوةٍ وضعف، كما أنه من الطبيعي أن تكثُر ثورات البدو عندما تنتقل السلطة من دولةٍ إلى أخرى، بغُية الحصول على ما يمكنها من امتيازات. وكان من الطبيعي ألاَّ تقف الدولة العثمانية موقف المتفرج إزاء تلك الثورات كي لا تتطور الأمور إلى الأسوأ، وقد لعبت القبائل العربية في مناطق الشرقية والغربية والبحيرة حيث سيطر على التوالي بنو بقر وبنو بغداد وبنو مرعي دوراً مهماً في تأييد أو تقويض قوة الثائرين على سلطة الدولة العثمانية، كما كان الحال في حركة تمرد المماليك بزعامة أينال السيفي وجانم السيفي أولاً وحركة تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن ثانياً(67).



خاتمة الدراسة

بالإمكان استنتاج نتائج عدّة ترتبت على هذه الدراسة منها:

أن الاضطرابات التي جابهت والي مصر العثماني خاير بك مع بداية حكمه والتي قادها الشيخ عبد الدايم بن بقر كانت محدودة، لكونها لم تخرج عن نطاق مناطق إقليم الشرقية.

أن سياسة العثمانيين في تعيينهم للبكوات المماليك في المناصب المهمة؛ إنما كان تمشياً مع مبدأهم في إيجاد نوعٍ من التوازن بين القوى الحاكمة في مصر، لبقائها دوماً تحت سيطرتهم.

وفيما يخص حركة تمرد المماليك بزعامة أينال السيفي وجانم السيفي، فثمة دوافع عدة أدّت إلى هذا التمرد منها أن الكثيرين من الأمراء المماليك بعد انهيار سلطنتهم ظلّوا يكنّون العداء للعثمانيين، وأن بعضهم أحسّ في ظل العهد العثماني الجديد بفقدان الامتيازات التي كان قد اكتسبها من قبل، إضافةً إلى أن متزعمي حركة التمرد كانوا من أشد المخلصين لآخر سلاطينهم طومان باي المملوكي حتى بعد وفاته، وقد اشمأزوا من كونهم قد صاروا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين لهم الصولة والجولة.

أما حركة التمرد الأخرى التي قادها والي مصر العثماني أحمد باشا الذي لُقّب بالخائن، فيبدو أن فشله في الحصول على منصب الصدارة العظمى في الآستانة، فقرر الانتقام لذاته بعدما انفجرت في أعماقه قوة الضغط النفسي الدفين للتنفيس عن حقده وعداءه للصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي سلبه هذا المنصب من وجهة نظره.

وكان السبب الرئيس لفشل حركة أحمد باشا الخائن، استخدام الدولة العثمانية سلاح الدعاية أو الشائعات ضده، وهو سلاح لا يقل خطورةً عن السلاح الذي يُستخدم في المعارك الحربية؛ إن لم يوازه أهميةً ويفوقه. ذلك أن العثمانيين أشاعوا في مصر اعتناق أحمد باشا للمذهب الشيعي، وأنه أصبح من أتباع الشاه إسماعيل الصفوي، العدو اللدود والمركزي للدولة العثمانية.

وقد أدّى القضاء على تلك الحركات إلى نتائج غاية في الأهمية، فالسلطة المركزية العثمانية في الآستانة شعرت بضرورة إجراء تعديلات إدارية في أنماط الحكم في مصر خشيةً من فقدانها مرة أخرى، لذلك أصدرت مجموعةً من القوانين الإدارية سُميت "بقانون نامه مصر" عام 1524م، تم تقسيمه إلى جزأين. الأول ـ خاص بالتنظيمات العسكرية. والآخر خاص بالإدارة المدنية.

والنتيجة المهمة التي لا يجب تجاهلها، أن العثمانيين رغم محاولاتهم الدؤوبة للحد من نفوذ المماليك، فإنهم فشلوا في القضاء عليهم تماماً، بل بقيت أعداد كبيرة من المماليك الجدد تفِد إلى مصر عن طريق الشراء، مما أدّى إلى تكرار ثوراتهم في المستقبل ضد الوجود العثماني خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر.




--------------------------------------------------------------------------------



الحواشي

(1) كريسيليوس، دانيال: جذور مصر الحديثة. ترجمة: د.عبد الوهاب بكر، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة 1985، ص42-43.

(2) الحصري، ساطع: البلاد العربية والدولة العثمانية. ط2، دار العلم للملايين، بيروت 1960، ص11-12.

(3) رمضان، محمد رفعت: علي بك الكبير. دار الفكر العربي، القاهرة 1950، ص6.

(4) كريسيليوس: المرجع السابق، ص46.

(5) رمضان: المرجع السابق، ص8-9، أنيس، محمد: الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914). مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1985، ص142.

(6) رافق، عبد الكريم: العرب والعثمانيون 1516-1916. ط1، دمشق 1974، ص64.

(7) ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور. تحقيق: د. محمد مصطفى، 5 أجزاء، ج5، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1404هـ (1984م)، ص202-203، ونخلة، محمد عرابي: تاريخ العرب الحديث. ط1، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمّان 1998، ص53.

(8) الإسحاقي، محمد بن عبد المعطي: أخبار الأُول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول. القاهرة 1315هـ، ص164.

(9) الصديقي، محمد بن أبي السرور البكري: النزهة الزهية في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية. مخطوط في دار الكتب المصرية، رقم 2266، ورقة 21أ.

(10) ابن إياس: المرجع السابق، ص205، 208، الإسحاقي: المرجع السابق، ص158، وبكر، عبد الوهاب: الدولة العثمانية ومصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ط1، دار المعارف، القاهرة 1982، ص11.

(11) ابن إياس: المرجع السابق، ص221، 240.

ومما يجدُر ذكره أن الشيخ عبد الدايم بن بقر هذا كان قد استغل فرصة انشغال السلطنة المملوكية بالتصدي للتوسع العثماني، سواء في الشام أم في مصر، فقام بتخريب أغلب مناطق إقليم الشرقية ونهب أموالها وأموال التجار، كما عمل على قتل الكثير من جنود المماليك واستولى على ما يملكونه من خيولٍ وسلاح. ويُضاف إلى ذلك أنه استغلَّ فرصة هزيمة الجيش المملوكي في الريدانية وتشتت أمرائه في مناطق إقليم الشرقية، فصار حسب ما ذكره ابن إياس: "يأخذ ما عليهم من الثياب والسلاح والخيول وغير ذلك، وفرح بأموال وتحف ما لا فرح به آباؤه ولا أجداده، وقد غنم أموال التجار وأموال العسكر من المماليك الجراكسة وغيرها من أموال المقطعين من البلاد، وعمل من المفاسد في الشرقية ما لا يُسمع بمثلها".

المرجع السابق، ص221.

(12) شلبي، أحمد: موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، ج5، ط4، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1979، ص269.

(13) الصديقي: المرجع السابق، ورقة 22أ.

(14) ابن إياس: المرجع السابق، ص319، ورافق: المرجع السابق، ص85.

(15) بكر: المرجع السابق، والصفحة نفسها.

(16) ابن إياس: ص295-296 (بتصرف).

(17) كان خاير بك قد عيّن جانم السيفي في عام 928هـ/1522م أميراً لقافلة الحج المصري للمرة الثالثة.

المرجع السابق، ص443.

(18) Holt (P.M.), Egypt and The Fertile Crescent, 1516-1922, Cornell University Press, New York 1966, pp.47-48.

وابن زنبل، أحمد: تاريخ مصر. مخطوط في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم cod. Arab 4111 ، ورقة 137ب.

(19) Op.Cit, p. 48.

(20) رافق، المرجع السابق، ص85، وابن زنبل: الورقة نفسها، و Ibid. .

(21) الزيني بركات: كان موظفاً بيروقراطياً رفيع الشأن في أثناء فترتي حكم المماليك والعثمانيين، وكان قد تولى قيادة قافلة الحج عام 1518م.

Ibid.

(22) لمزيد من التفاصيل. أنظر: ابن زنبل: ورقة 137ب – 138أ، ونخلة: المرجع السابق، ص54.

(23) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

ابن زنبل: ورقة 138أ، عبد الغني، أحمد شلبي: أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات. مخطوط في The Beinecke Rare and Manuscript Library بجامعة Yale بالولايات المتحدة الأمريكية، رقم Land berg. 3 ، ورقة 3ب.

يذكر محمد بن أبي السرور البكري الصديقي أن أينال السيفي قد قُتل في المعركة نفسها، ويبدو أنه الوحيد الذي ذكر هذه الرواية.

المنح الرحمانية في الدولة العثمانية. مخطوط في دار الكتب المصرية ، رقم 1926 ، ورقة 37ب.

(24) ابن زنبل: ورقة 138أ-138ب.

(25) الإسحاقي: المرجع السابق، ص164. بينما يذكر أحمد شلبي عبد الغني، أن أحمد باشا تولى حكم مصر في 4 شوال 930هـ.

أوضح الإشارات، ورقة 3ب.

(26) الإسحاقي، المرجع السابق، والصفحة نفسها، ورافق، المرجع السابق، ص85-86، والشهابي، حيدر: تاريخ الأمير حيدر الشهابي. علّق على حواشيه: د. مارون رعد، 4 أجزاء، ج3، دار نظير عبود، بيروت 1993، ص789.

(27) كريسيليوس: المرجع السابق، ص46، عبد اللطيف، ليلي: الإدارة في مصر في العهد العثماني. مطبعة جامعة عين شمس، القاهرة 1978، ص431.

(28) الحنبلي، مرعي بن يوسف: نزهة الناظرين فيمن تولى مصر من الخلفاء والسلاطين. مخطوط في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab. 889 ، ورقة 206أ ، والإسحاقي: المرجع السابق، ص164-165، وعبد الغني، أحمد شلبي: المرجع السابق، ورقة 3ب، والشهابي: المرجع السابق ، ص790 ، Holt, Op. Cit. Pp. 48-49.

(29) رافق: المرجع السابق، ص86، و Op. Cit. P. 48.

(30) الأمير جانم الحمزاوي: هو جانم بن يوسف بن أركماس السيفي قاني باي الحمزاوي، الذي تولى نيابة الشام من قبل، وقيل أنه وُلد بمدينة حلب. وقد أرتفع شأنه في أثناء فترة حكم خاير بك على مصر وصار من أصحاب الحل والعقد بها، كما أنه لعب دور مهم في السنوات الأولى من الحكم العثماني لمصر حيث اشتغل على ما يبدو كضابط اتصال بين السلاطين وحاشية الوالي في مصر.

ابن إياس: المرجع السابق، ص352، و Op. Cit. P. 49.

(31) الإسحاقي: المرجع السابق، 165، و Ibid. .

(32) Ibid.

(33) رافق: المرجع السابق، والصفحة نفسها، و Ibid. .

(34) Op.Cit. Pp.49-50.

(35) Op.Cit. p.50.

(36) Ibid.

(37) رافق: الصفحة نفسها، والشهالي، علي بن حسن: نزهة الناظرين فيمن تولى مصر من البشوات والسلاطين. مخطوط في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 8376، ورقة 13ب.

(38) الحنبلي: المرجع السابق، ورقة 207أ، والإسحاقي: المرجع السابق، ص165، والشهابي: المرجع السابق، ص790، والصديقي: النزهة الزهية، ورقة 22أ-22ب.

(39) Ibid.

(40) الحنبلي: الورقة نفسها، وعبد الغني، أحمد شلبي: المرجع السابق، ورقة 3أ، الصديقي: النزهة الزهية، ورقة 22أ، والصديقي: المنح الرحمانية، ورقة 41أ، و Ibid. .

(41) رافق: ص86.

(42) كريسيليوس: المرجع السابق، ص46.

(43) الصديقي: النزهة الزهية، ورقة 22ب.

(44) نفسه.

(45) كريسيليوس: الصفحة نفسها.

(46) الأوجاقات (جمع أوجاق): أقسام عسكرية، والأوجاق كمصطلح يعني وعاء النار بالتركية.

بكر: المرجع السابق، ص11.

(47) كريسيليوس: ص51-53. ولمزيد من التفاصيل عن الإدارة العثمانية في مصر في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي. أنظر: عبد اللطيف، ليلى: المرجع السابق، ص37-49.

(48) يحيى، جلال: المُجمل في تاريخ مصر الحديثة. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، بدون تاريخ، ص59.

(49) Ibid.

(50) بكر: ص12، وكريسيليوس: ص47.

(51) استبدل السلطان سليمان القانوني الديوان بديوانين. الأول هو الديوان الكبير الذي يتشكّل من كبار ضباط الحامية وكبار الموظفين وله الحق المطلق في البت في شؤون البلاد العامة. والثاني هو الديوان الصغير الذي ينعقد يومياً في القلعة ويساعد الوالي في النظر في الأمور العادية ويتألّف من رؤساء فرق الجيش ونائب الوالي، ومهمته تسيير الشؤون الجارية بحيث تدخل كافة نواحي الإدارة ضمن اختصاصاته فيما عدا الأمور التي لا بد من معالجتها بمعرفة الديوان الكبير.

يحيى: المرجع السابق، ص59، واستيف: الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر (النظام المالي والإداري في مصر العثمانية) من مجموعة كتب وصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية. ترجمة: زهير الشايب، ج2، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة 1979، ص52.

(52) كريسيليوس: الصفحة نفسها.

(53) استيف: المرجع السابق، ص51-52.

(54) الكيخيا أو الكتخدا: وظيفته الأساسية أنه يكون بمثابة نائباً أو وكيلاً عن الوالي.

المرجع السابق، ص53.

(55) الدفتردار: هو ناظر الأموال والمسؤول الأول عن مالية الولاية، وهو أحد المناصب العثمانية المهمة في البناء الإداري العثماني. أي أن الدفتردار وظيفته ضبط الحسابات وحفظ الدفاتر والسجلات، ولا يُنفّذ أمر بيع عقار إلاَّ بعد توقيعه عليه، إشارة إلى تسجيله في دفاتره.

كريسيليوس: ص78، وعوض، أحمد حافظ: فتح مصر الحديث. القاهرة 1926، ص23.

(56) استيف: الصفحة نفسها.

(57) كريسيليوس: ص47.

(58) الروزنامجي: مهمته إدارة الخراج وضرائب الأطيان. والروزنامة مصطلح فارسي مركّب (روز بمعنى يوم ونامة بمعنى كتاب)، أي كتاب اليوم أو دفتر اليومية. وكان للروزنامجي عدة مساعدين هم المباشرين أو الخلفا أو القلفا وأهم هؤلاء الباش مباشر، وهو وكيل الروزنامجي الأول ويحل محله عند إقالته، وهؤلاء يشرفون على أعمال موظفين يُسمون الأفندية. وهناك مساعدون آخرون يُسمون صبيان شاكردية وكيسه دار.

أنظر: استيف: ص54، وعبد اللطيف، ليلى: ص196، وسليمان، أحمد السعيد: تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل. دار المعارف، القاهرة 1979، ص117-118.

(59) كريسيليوس: ص48.

(60) استيف: ص53-54.

(61) كريسيليوس: ص56.

(62) نفس المرجع، ص55-56.

(63) يحيى: ص59.

(64) نفس المرجع، ص60، ونخلة: ص54، و Op. Cit. P.51.

(65) Ibid.

(66) رافق: ص85.

(67) نفس المرجع، ص86-88.




--------------------------------------------------------------------------------



ثبت المصادر والمراجع



أولاً ـ المخطوطات:

1ـ الحنبلي، مرعي بن يوسف: نزهة الناظرين فيمن ولى مصر من الخلفاء والسلاطين. موجود في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab.889.

2ـ ابن زنبل، أحمد: تاريخ مصر. موجود في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab. 411 .

3ـ الشهالي، علي بن حسن: نزهة الناظرين فيمن تولى مصر من البشوات والسلاطين. موجود في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 8376.

4ـ الصديقي، محمد بن أبي السرور البكري: النزهة الزهيّة في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية. موجود في دار الكتب المصرية، رقم 2266.

5ـ ــــــ : المنح الرحمانية في الدولة العثمانية. موجود في دار الكتب المصرية، رقم 1926.

6ـ عبد الغني، أحمد شلبي: أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات. موجود في The Beinecke Rare and Manuscript Library بجامعة Yale بالولايات المتحدة الأمريكية، رقم Land berg.3 .

ثانياً ـ المصادر الأوليّة:

1ـ الإسحاقي، محمد بن عبد المعطي: أخبار الأُول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول. القاهرة 1315هـ.

2ـ ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور. تحقيق: د. محمد مصطفى، 5 أجزاء، ج5، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1404هـ (1984م).

3ـ الشهابي، حيدر: تاريخ الأمير حيدر الشهابي. علّق على حواشيه: د. مارون رعد، 4 أجزاء، ج3، دار نظير عبود، بيروت 1993.

ثالثاُ ـ المراجع العربية والمترجمة:

1ـ استيف: الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر (النظام المالي والإداري في مصر العثمانية). من مجموعة كتب وصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية. ترجمة : زهير الشايب ، ج2 ، ط1 ، مكتبة الخانجي ، القاهرة 1979.

2ـ أنيس، محمد (الدكتور): الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914). مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1985.

3ـ بكر، عبد الوهاب (الدكتور): الدولة العثمانية ومصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ط1، دار المعارف، القاهرة 1982.

4ـ الحصري، ساطع: البلاد العربية والدولة العثمانية. ط2، دار العلم للملايين، بيروت 1960.

5ـ رافق، عبد الكريم (الدكتور): العرب والعثمانيون 1516-1916. ط1، دمشق 1974.

6ـ رمضان، محمد رفعت: علي بك الكبير. دار الفكر العربي، القاهرة 1950.

7ـ سليمان، أحمد السعيد (الدكتور): تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل. دار المعارف، القاهرة 1979.

8ـ عبد اللطيف، ليلى (الدكتورة): الإدارة في مصر في العهد العثماني. مطبعة جامعة عين شمس، القاهرة 1978.

9ـ عوض، أحمد حافظ: فتح مصر الحديث. القاهرة 1926.

10ـ كريسيليوس، دانيال (الدكتور): جذور مصر الحديثة. ترجمة: د. عبد الوهاب بكر، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة 1985.

11ـ نخلة، محمد عرابي (الدكتور): تاريخ العرب الحديث. ط1، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمّان 1998.

12ـ يحيى، جلال (الدكتور): المُجمل في تاريخ مصر الحديثة. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، بدون تاريخ.

رابعاً ـ المراجع الأجنبية:

1- Holt (P.M.), Egypt and the Fertile Crescent, 1516-1922, Cornell University Press, New York 1966.
__________________

د.فالح العمره 26-09-2006 10:18 PM



أيها المؤرخون: لا تظلموا العثمانيين المسلمين!

بقلم: زياد محمود أبو غنيمة



قبل أن يدخل الأتراك العثمانيون في الإسلام، لم يكونوا موضع اهتمام جاد من المؤرخين لم يكونوا موضع اهتمام جاد من المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، فلم يردْ ذكرهم إلا من خلال إشارات عابرة.

وحين دخل الأتراك العثمانيون في الإسلام انقلبت الصورة وأصبحوا محط أنظار المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، بيد أن المؤرخين من غير المسلمين أبدوا اهتماماً ملحوظاً بدراسة تاريخ الأتراك العثمانيين المسلمين.

ولأول وهلة يخيل للمرء أن اندفاع المؤرخين من غير المسلمين في دراسة تاريخ العثمانيين المسلمين كان ينطلق من منطلق علمي سليم، هدفه تتبع العثمانيين المسلمين بأمانة علمية منصفة، ولكن ما أن يطلع المرء على ما أفرزته جهود المؤرخين من غير المسلمين من دراسات عن تاريخ العثمانيين المسلمين، حتى يكتشف أن الغالبية العظمى منهم قد تجاهلوا، وتناسوا مقتضيات الأمانة العلمية والإنصاف، بل أطلقوا العنان لأحقادهم الظاهرة والباطنة، لتكون هي المنطلق الذي ينطلقون من خلاله في تشويه تاريخ العثمانيين المسلمين وإلصاق عشرات الافتراءات التي لا تسندها أية بينات تاريخية بالأتراك العثمانيين المسلمين.

ولئن كنا لا نستغرب أن تصدر مثل تلك الافتراءات عن أقوام فضح الله عز وجل نواياهم تجاه الإسلام والمسلمين في قوله تعالى جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتُّم قد بدتِ البغضاءُ من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآياتِ إن كنتم تعقلونَ) [آل عمران: 118].

***

ولئن كنا لا نستغرب أن يحمل الحقد الأسود أولئك المؤرخين على تجاهل وتناسي أبسط قواعد مقتضيات الأمانة العلمية في عملية التاريخ للأتراك العثمانيين المسلمين، فإن الذي نستغربه أشد الاستغراب، بل ونستهجنه بشدة أن ينزلق الكثير من المؤرخين المسلمين، في حمأة عملية التزوير والتشويه والبهتان التي ألصقت بتاريخ العثمانيين المسلمين..

من ذلك مثلاً، تلك الفرية اللئيمة التي لا يكاد يخلو منها إلا النذر اليسير من الكتب التي تؤرخ للعثمانيين المسلمين، والتي تزعم أن السلاطين العثمانيين كانوا يملكون الحق، بموجب فتوى شرعية إسلامية، في قتل من يشاؤون من إخوانهم أو بني رحمهم، أو أقاربهم، بحجة الحفاظ على وحدة المسلمين، ولقطع الطريق على أية فتنة يمكن أن تبرز إذا حاول أحدهم المطالبة بالسلطة لنفسه.

وكان آخر ما وقع عليه نظري من ترديد لهذه الفرية ما جاء في مقال للأستاذ إبراهيم محمد الفحام في عدد المحرم 1402 هـ تشرين الثاني (نوفمبر) 1981م من مجلة العربي التي تصدر في الكويت، حيث ذهب إلى القول بأن السلاطين العثمانيين الجدد اعتادوا عند توليهم مقاليد السلطة أن يقتلوا إخوانهم جميعاً، ليأمنوا محاولات اغتصاب الملك، وأن هذه الظاهرة تكررت مراراً في تاريخ الدولة العثمانية حتى شمل القتل الإخوة الأصاغر سناً.

وإن كنتُ لا أنفي ولا أنكر وقوع العديد من حوادث التصارع بين بعض السلاطين العثمانيين وبين بعض إخوانهم، بل وأحياناً بينهم وبين أبنائهم، وأن بعض هذه الصراعات كانت تنتهي بمقتل أحد الأطراف المتصارعة، إلا أنني أنفي، وبكل شدة، وبإصرار، ما يزعمه الزاعمون من وجود فتوى شرعية إسلامية تبيح لكل سلطان عثماني جديد أن يقتل من يشاء من إخوانه، أو بني رحمه، بحجة المحافظة على وحدة المسلمين منعاً لوقوع الفتنة.

أقول هذا.. وأتساءل:

أليس من مقتضيات أمانة التوثيق العلمي والتاريخي أن يقدَّم بين يدي أية رواية تاريخية بالبينات التي تدعم صحتها، من تحديد للأسماء والأمكنة والأزمنة، وتبيين سلسلة الرواة الذين تناقلوا الرواية، إلى أن وصلت إلى راويها الأخير؟

ثم أليس من مقتضيات أمانة التوثيق العلمي والتاريخي، أن لا يُكتَفى بالتعميم المبهم، بعبارات مبهمة، في رواية تحمل تهمة خطيرة لشعب بأسره هو الشعب التركي المسلم، بل الأمة بأسرها، هي أمة الإسلام، بل للإسلام ذاته الذي كان العثمانيون يحملون لواءة ويمثلونه آنذاك..؟

أين نص الفتوى الشرعية التي يزعم الزاعمون أنها تبيح للسلاطين العثمانيين قتْل بني رحمهم من غير أي مسوغ شرعي؟

أين أسماء العلماء المسلمين الذين أفتوا الفتوى المزعومة هذه؟

وفي زمن أي من سلاطين بني عثمان على التحديد صدرت؟

لقد قرأت بضعة وعشرين مرجعاً، عربياً وتركياً وإنجليزياً، تؤرخ للعثمانيين المسلمين، فما وجدت من بينها مرجعاً واحداً يذكر نص الفتوى المزعومة، أو يذكر اسماً لعالم واحد تنسب الفتوى إليه، بل لقد اكتفى كل مرجع عند ذكر هذه الفرية بسردها وكأنها يقين لا يرقى إليه شك، فلا يحتاج إلى توثيق.

وقبل أن أتحدث بشيء من التفصيل عن تلك الأحداث التي تشبث بها الزاعمون ليرفدوا بها فريتهم، يجدر بي أن أؤكد أن الإسلام يرفض رفضاً قاطعاً هذا الهراء، ولا يقبل مطلقاً أن تهون حياة المسلم، أي مسلم، إلى درجة تباح فيها حياته لمجرد شبهة، أو من أجل وساوس وأوهام تتستر وراء الزعم بالغيرة على جماعة المسلمين من أن تقع فتنة مزعومة لم يقم على وقوعها، أو على مجرد الشك بوقوعها دليل شرعي.

إن طبيعة الإسلام، وأخلاق الإسلام، وإنسانية الإسلام، ترفض رفضاً قاطعاً أن تصدر باسم الإسلام فتوى تبيح لأي إنسان مهما بلغ شأنه، أن يقتل مسلماً إلا في الحالات التي نصّ عليها الشرع : الثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة (المرتد)، والقاتل عمداً (النفس بالنفس).

ألا، وإن كل مسلم مهما كان مستوى علم، يعلم أن قتل النفس، أي نفس، محرّم في شرع الله عز وجل إلا ضمن الحدود التي حددها الله عز وجل.

ولقد ندد الله عز وجل أيما تنديد، بتلك الجريمة التي اقترفها قابيل ابن سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام، يوم طوّعت له نفسُه قتلَ أخيه هابيل فقتله:

(واتل عليهم نبأَ ابنيْ آدمَ إذْ قرّبا قرباناً فتقبِّل من أحدهما ولم يُتَقَبَّلْ من الآخر قال لأقتلنكَ قال إنما يتقبّلُ اللهُ من المتقين. لئنْ بسطتَ يديَ لأقتلكَ ما أنا بباسطٍ يديَ إليكَ لأقتلكَ إني أخافُ اللهَ ربَّ العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمكَ فتكونَ من أصحابِ النار وذلك جزاء الظالمين. فطوّعتْ له نفسُه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. فبعثَ اللهُ غراباً يبحثُ في الأرض لِيُريَهُ كيف يواري سوأةَ أخيه قال يا ويلتا أعجزتُ أن أكونَ مثلَ هذا الغرابِ فأواريَ سوأةَ أخي فأصبح من النادمين) [المائدة: 27-31].

بل إن الله عز وجل لم يكتفِ بالتنديد بجريمة قابيل، بل جعلها منطلقاً لحكم رباني يؤكد حرمة النفس البشرية تأكيداً قاطعاً لا لبس فيه ولا غموض:

(من أجل ذلكَ كتبنا على بني إسرائيلَ أنه مَن قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتلَ الناسَ جميعاً) [المائدة: 32].

تلك هي الحقيقة، حقيقة تؤكد براءة الإسلام من تلك الفتوى المزعومة، وتؤكد رفض الإسلام لهذا الهراء.

فمن أين جاءت هذه الفرية إذن؟

وما هي دوافعها، وماذا يقصد مروجوها من ورائها..؟

أما الدوافع التي تكمن وراء ترويج هذه الفريةة، فلا أملك إلا أن أقول: إنها نابعة من الحقد الأسود الذي تمتلئ به قلوب العديد من المؤرخين الصليبيين من أعداء الإسلام، ضد الإسلام والمسلمين..

فلقد انتهز بعض المؤرخين الصليبيين الحاقدين، وقلدهم في ذلك عن قصد أو عن غير قصد، بعضُ المؤرخين الذي يحملون أسماء إسلامية، وقوع بعض حوادث الصراع الدموي على السلطة في الدولة العثمانية، وهو أمر لم تسلم منه أمة ن الأمم على مدار التاريخ، فوجدوا في تلك الأحداث متنفساً لينفثوا من خلاله أحقادهم الدفينة ضد الإسلام والمسلمين، فوجهوا سهام افتراءاتهم ضد العثمانيين المسلمين، وهم في حقيقة الأمر يوجهونها إلى الإسلام الذي كان العثمانيون يمثلونه آنذاك.

أقول هذا، وبين يدي أكثر من دليل.

أبدأ بحادثة مقتل الأمير «دوندار» عمّ السلطان «عثمان»، وهي حادثة أرودها المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني»، الذي ألفه عام 1945م، أي في الوقت الذي كانت فيه أنواء الردة الأتاتوركية في أصخب حالات هبوبها على تركيا، بكل ما تحمله من مشاعر العداء للعثمانيين المسلمين، وزعم فيها أن عثمان بن أرطغرل استشار عمه دوندار البالغ من العمر تسعين عاماً في أمر عزمه على محاربة البيزنطيين، فعارضه عمه في الرأي، فلم يتحمل عثمان معارضة عمه فقام بإعدامه بيده برميه بسهم انتقاماً منه بسبب هذه المعارضة.

ولئن كانت هذه الرواية بنصها هذا من الضعف بحيث خلت منها معظم المراجع التي تؤرخ لعثمان بن أرطغرل، ولئن كان من أجلة ضعفها أن إسماعيل حامي دنشمند لم يؤثق روايته لهذه الحادثة بإيراد اسم المرجع، أو اسم المؤرخ الذي نقل عنه الرواية، فإن الحاقدين على العثمانيين المسلمين، بل على الإسلام الذي يمثله العثمانيون، تلقفوا هذه الحادثة، ونسجوا من حولها من سواد حقدهم ما لا تحتمل، فزعموا، وبئس ما زعموا، أن عثمان قتل عمه دوندار بناءً على فتوى شرعية تبيح له قتله خشية أن يزاحمه على السلطنة، مما قد يؤدي إلى وقوع الفتنة بين المسلمين.

ولئن كان من الإنصاف أن نشير إلى أن ما نقلته معظم المراجع الموثوقة التي أرّخت لعثمان بن أرطغرل، عن شدة تعلّق عثمان بأحكام الشريعة الإسلامية، وعن التزامه الصادق بالإسلام، عبادةً، وخلقاً، وتواضعاً، وما نقلته عن توقيره الشديد لعمه الشيخ الكبير دوندار، يجلعنا نستبعد تصديق مقولة أن عثمان قتل عمه لمجرد معارضته له في الرأي، ويجعلنا نستبعد تصديق مقولة أن عثمان قتل عمه لمجرد معارضته له في الرأي، ويجعلنا على يقين أنه ما فعل ذلك إلا لسبب جلل، أكبر من مجرد الاختلاف في الرأي.

ويرسخ قناعتنا ما أورده المؤرخ التركي المعاصر قادر مصر أوغلو في كتابه «مأساة بني عثمان» المطبوع في إستانبول عام 1979م، في وقت كانت المشاعر الإسلامية في تركيا تشهد فيه شيئاً من أشكال الحرية التي تستطيع معها أن تعبر عن حقيقة رفضها لمشاعر العداء التي حاولت الردة الأتاتوركية ترسيخها ضد العثمانيين المسلمين في نفوس الأتراك.

ففي كتابه ذلك ينقل قادر مصر أوغلو، عن المؤرخ التركي خير الله الهندي الذي عاصر عثمان بن أرطغرل، أن دوندار كان طرفاً في مؤامرة اتفق على تدبيرها بالتعاون مع حاكم مدينة «بيله جك» البيزنطي، تستهدف اغتيال عثمان، تمهيداً لوثوب دوندار إلى الزعامةخلفاً لعثمان، فلما انفضح أمر المؤامرة أصرّ عثمان، وهو الحريص علىتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، على تنفيذ حكم الله في عمه جزاء افترافه لجريمةموالاة أعداء الإسلام، والتآمر معهم ضد جماعة المسلمين.

وتلك لعمري نقطة بيضاء ووقفة شماء شامخة تسجَّل في حسنات عثمان بن أرطغرل، إذ أكّد من خلال حرصه على تطبيق شرع الله في عمه على صدق التزامه بالإسلام، وصدق خضوعه لحكمه، وصدق تفضيله لوشيجة العقيدة وارتباطه بها فوق وشيجة الدم والقرابة.

تلك هي حقيقة السلطان عثمان بن أرطغرل مع عمه دوندار تتهاوى أمامها أباطيل الحاقدين وأراجيف المرجفين.

أما قصة السطان مراد بن أورخان مع ولده الأمير «ساجي» فهي أيضاً علامة بارزة تؤكد صدق التزام مراد بالإسلام، وصدق خضوعه لأحكام شريعته.

ففي الوقت الذي كان السلطان مراد يواجه أشرس الحملات المتلاحقة التي تمثلت في العديد من الأحلاف الصليبية التي تجمع تحت ألويتها ملوك وأمراء المجر والصرب والبلغار والأرناؤوط (ألبانيا)، بمباركة من بابا روما أوربيان الخامس، وبتحريض سافر منه [766هـ/1365م].

وفي الوقت الذي كان فيه السلطان مراد يواجه فيه خطراً تمثل في قيام الأمير الإيطالي آميديو بتجميع جيش من الإيطاليين تحت شعار الانتقام للصليب من العثمانيين المسلمين [770هـ/1368م].

وفي الوقت الذي ازداد فيه الخطر ضد الدولة العثمانية المسلمة، بقيام إمبراطور بيزنطة يوانيس الخامس بزيارة روما عام [771هـ/1369م] مستنجداً بالبابا ضد العثمانيين المسلمين، ومعلناً تحوله عن مذهبه الأرثوذكسي إلى المذهب الكاثوليكي في محاولة لاسترضاء بابا روما لإقناعه بعده بالنجدة التي يطلبها ضد العثمانيين المسلمين.

وفي الوقت الذي كان السلطان مراد يواجه خطراً داهماً جديداً تمثّل في نجاح البابا بتجنيد أكثر من ستين ألف مقاتل صليبي بقيادة ملك بلاد الصرب الجديد ووقاشتين [773هـ/1370م].

وفي الوقت الذي كان السلطان مراد لا يكاد ينجح في التغلب على إحدى مكائد الأعداء، حتى يواجه مكيدة أخرى، كان ولده الأمير ساوجي يتآمر سراً مع الأمير البيزنطي أندرونيقوس، الابن الثاني للإمبراطور يوانيس، لتدبير مؤامرة للإطاحة بالسلطان مراد، وتسليم السلطة للأمير ساوجي، وسرعان ما انتقلت المؤامرة من مرحلة التدبير إلى مرحلة التنفيذ، فسار الأميران ساوجي وأندرونيقوس على رأس جيش كانت غالبية جنوده من البيزنطيين، وتمركزا بجيشهما في منطقة لا تبعد كثيراً عن القسطنطينية، فسارع السلطان مراد لملاقاتهما، فما كاد يقترب منهما حتى خارت معنويات المتآمرين ففر الجنود البيزنطيون من أنصار أندرونيقوس، ولجأ الجنود العثمانيون من أنصار الأمير ساوجي إلى جيش أبيه السلطان مراد، فأصبح ساوجي وأندرونيقوس من غير جيش، فلم يجدا أمامهما مفراً من الهرب، ففرا إلى مدينة »ديمومة«، فلحق بهما السلطان مراد واضطرهما إلى الاستسلام.

وجمع السلطان نخبة من القادة والعلماء والقضاة لمحاكمة ولده ساوجي، فحكوا عليه بالموت جزاء خروجه على طاعة ولي الأمر وجزاء موالاته للكفار أعداء الإسلام والتحالف معهم قولاً وفعلاً في محاربة المسلمين.

وأمر السلطان مراد بتنفيذ حكم الشرع في ولده مسجلاً في ذلك صدق ولائه لحكم الشريعة، وصدق التزامه بالإسلام، ولكأني به وهو يفعل ذلك، كان يستشعر قوله تعالى عز وجل: (لا تجدُ قوماً يؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخر يوادّون من حادّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئكَ كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألاَ إنّ حزبَ الله هم الغالبون) [المجادلة: 22].

ولقد كان من الطبيعي أن يستغل الحاقدون حادثة مقتل ساوجي، فتلقفوها وطفقوا ينسجون من حولها الأقاويل والافتراءات ليرفدوا من خلالها فريتهم عن الفتوى الشرعية المزعومة التي تبيح للسطان العثماني المسلم قتل من يشاء من بني رحمه.

وكان من الطبيعي أن يشتط الحقد بأعداء الإسلام، فينفثوا حقدهم ضد السلطان مراد ويتهمونه بالوحشية، وتحجُّر عاطفة الأبوة في قلبه، وما دروا أن صدق الالتزام بالإسلام يجعل وشيجة العقيدة فوق كل وشيجة. وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد الذي علّم المسلمين هذه الحقيقة الإيمانية حين قال: »واللهِ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها.«

وأنتقلُ إلى حادثة قتل السلطان بايزيد بن مراد (الصاعقة) لأخيه الصغير يعقوب، فلا أجد غضاضة في تأكيد وقوعها، ولا أجد حاجة إلى محاولة تبريرها. فقد استهل يايزيد عهده فعلاً بارتكاب جريمة بشعة حيث أقدم على قتل أخيه الصغير يعقوب بتحريض من بعض أنصاره الذين طفقوا يوغرون صدره ضد أخيه، الذي كان شجاعاً، قوي الشخصية، ووجدتْ وشايةُ المغرضين هوى في نفس بايزيد الذي خشي أن يزاحمه يعقوب على السلطنة، واشتطت به وساوسه حين أخذ الوشاةُ يذكرونه بأن جده أورخان بن عثمان ولي السلطنة رغم كونه الأصغر سناً من أخيه الأمير علاء الدين.

ولئن كنت أنكر أن بايزيد قد ارتكب جريمته البشعة فعلاً، بعد أن غلبه هواه، وزينت له وساوسه أن يقترف تلك الجريمة، وطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. فالجريمة يتحمل وزرها بايزيد وحده، وليس من العدل ولا من المنطق أن يزجّ بالإسلام في عملية تبريرها.

وينبغي أن أشير هنا إلى أن الجفاء كان مستحكماً بين العلماء والسلطان بايزيد، لدرجة أستبعد معها أن يجد بايزيد عالماً واحداً يستجيب له فيصدر تلك الفتوى التي ينسب استصدارها في بعض المراجع إلى بايزيد.

ولقد بلغ من حدة ذلك الجفاء أن العالم المؤمن القاضي شمس الدين محمد حمزة الفناري ردّ شهادة السلطان بايزيد في إحدى القضايا، فلما راجعه بايزيد في ذلك، أجابه القاضي المؤمن بأنه ردّ شهادته لأنه تارك لصلاة الجماعة.

بل لقد بلغ الجفاء بين العلماء والسلطان بايزيد إلى حد أقرب ما يكون إلى القطيعة بسبب استنكارهم لوقوعه تحت سيطرة وتأثير زوجته النصرانية الأميرة أوليفيرا شقيقة ملك الصرب لازار، ونماديه بتحريض منه على إدمان شرب الخمر، وإقامة حفلات اللهو، ويذكر المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه »موسوعة التاريخ العثماني« أن بايزيد ذهب ليتفقد العمل في بناء مسجد »أولو جامع« في بورصة، وكان قد أوشك بناؤه على الانتهاء، فالتقى خلال تجواله في المسجد بالعالم المؤمن محمد شمس الدين البخاري، فسأله على مسمع من الناس عن رأيه في نابء المسجد، وهل يرى في البناء أي نقص..؟ فأجابه العالم المؤمن بجواب ساخر يحمل بين طياته مشاعر عدم الرضى عن سيرة بايزيد المنافية للإسلام، فقال له: بالنسبة لنا نحن المسلمين، فإننا لا نجد أي نقص في بناء المسجد، أما بالنسبة إليك يا بايزيد، فإني أخشى أن تكون قد نسيت أن تضع خزانة تحفظ بها خمورك بجانب المحراب.

أفيعقل بعد هذا أن يجد بايزيد عالماً واحداً يفتي بقتل أخيه من غير مسوّغ شرعي؟

ولقد وجد الحاقدون رافداً جديداً يدعمون به فريتهم فيما وقع من صراع دموي بين أبناء بايزيد الصاعقة، حين قتل محمد بن بايزيد إخوته عيسى ثم سليمان ثم موسى ليتفرد بحكم السلطنة.

ولئن اشتط المغرضون في حقدهم فزعموا أن محمد بن بايزيد قد قتل إخوته بموجب تلك الفتوى الشرعية المزعومة، فإن الحقائق التاريخية تؤكد أن ما جرى بين أبناء بايزيد من اقتتال دموي كان اقتتالاً مصلحياً من أجل الطموحات الشخصية بكل واحد منهم للجلوس على عرش السلطنة، وليس من العدل والإنصاف إن يزج بالإسلام في هذا المقام.

وينبغي أن أشير إلى أن شهوة الجلوس على عرش السلطنة قد اشتطت بأبناء بايزيد لدرجة لم يجدوا معها غضاضة في الاستعانة بأعداء الإسلام من البيزنطيين ضد بعضهم بعضاً، كما فعل سليمان بن بايزيد حين تنازل لملك الروم »إيمانويل الثاني« عن مدينة سلانيك وسواحل البحر الأسود مقابل الوقوف إلى جانبه ضد أخويه الآخرين عيسى ومحمد.

هذا، وينبغي أن أشير إلى أن بعض المؤرخين المغرضي زعموا أن الفتوى الشرعية المزعومة التي تبيح للسلطان قتل بني رحمه من غير مسوغ شرعي هي تلك الفتوى التي أصدرها الشيخ سعيد أحد تلاميذ الشيخ التفتازاني، والتي ورد نصّها على النحو التالي: »من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جمعكم، فاقتلوه.«

والحقيقة أن هذه الفتوى قد صدرت عام [823هـ/1420م] كما يورد المؤرخ التركي عبد القادر داده أوغلو في كتابه »التاريخ العثماني المصوّر« ضد أحد قضاة العسكر وهو الشيخ بدر الدين الذي ثار على السلطان وتزعم حركة تنادي بإلغاء التفرقة بين الأديان، وبتوزيع الأموال سواسية بين الناس، وقد اندس في حركة الشيخ بدر الين، كما يروي الأستاذ محمد فريد في كتابه «تاريخ الدولة العلية العثمانية»عدد من اليهود والنصارى، وعندما وقع بدر الدين في الأسر بعد معركة حامية الوطيس، حوكم أمام هيئة من كبار العلماء والقضاة، فصدرت بحقه الفتوى بنصها الذي أوردته آنفاً، وبتوقيع الشيخ شعيد، ويروي المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني» أن الشيخ بدر الدين قد وقع بنفسه أيضاً على الفتوى اعترافاً بذنبه، وتم إعدامه شنقاً على ملأ من الناس في السوق الرئيسي في مدينة سراز.

ولقد وجد المغرضون مبرراً آخر لرفد بهتانهم بخصوص الفتوى المزعومة في حادثة إعدام السلطان مراد الثاني لعمه مصطفى بن بايزيد.

وحقيقة الأمر أن مصطفى بن بايزيد كان قد اختفى وانقطعت أخباره بعد هزيمة بايزيد (الصاعقة) في معركة أنقرة أمام تيمورلنك، ثم ظهر فجأة في زمن أخيه السلطان محمد جلبي بن بايزيد مطالباً بالسلطنة لنفسه، واستنجد بأعداء الإسلام من البيزنطيين فأمدوه المساعدات، وأوعزوا لأمير بلاد الفلاخ بإمداده بجيش كبير، ولكن مصطفى فشل في تحقيق أي نجاح، واضطر إلى اللجوء إلى سلانيك التي كان الأمير سليمان بن بايزيد قد أعادها إلى السيطرة البيزنطية مقابل وعدهم له بمساعدته ضد إخوته، كما أسلفت قبل قليل، واتفق السلطان محمد جلبي مع إمبراطور بيزنطة على إبقاء أخيه مصطفى في سلانيك تحت مراقبة الإمبراطور، مقابل مبلغ من المالن استمر الأمر على هذا النحو إلى أن ولي السلطنةمراد الثاني بن جلبي فتحرش به الإمبراطور «إيمانويل الثاني» في محاولة منه لإعادة هيبة الإمبراطورية، وطلب منه عقد معاهدة يتعهد مراد بموجبها بعدم القيام بأية محاولة لغزو القسطنطينية، فلما وقف السلطان مراد موقفاً حازماً في وجه إيمانويل ورفض مطالبه عمد عمانويل إلى استدعاء الأمير مصطفى وأمده بعشر سفن حربية مدججة بالجنود والسلاح، فتمكن مصطفى من الإستيلاء على مدينة وميناء غاليبولي، ثم تمكن من التغلب على الجيش العثماني الذي أرسله السلطان مراد لمحاربته بقيادة وزيره بايزيد باشا، فسار السلطان مراد الثاني بنفسه لملاقاة عمه مصطفى الذي لم يلبث أن وقع في أسر مراد، ليواجه عقوبة الإعدام شنقاً، جزاء خيانته لله ولرسوله وللمؤمنين، وهل من خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين أعظم من موالاة في جماعة المسلمين، ينبري هؤلاء ليزعموا أن الإسلام يبيح للسلطان قتل بني رحمه كيفما يشاء..؟

فرية باطلة ... وبهتان عظيم..

وأجدني هنا مضطراً للتوقف وقفة أردّ بها فرية خبيثة ألصقت بالسلطان محمد الفاتح، فقد درج بعض المؤرخين، وهم يؤرخون لحياته، على الزعم بأنه قام بقتل أخيه الرضيع أحمد جلبي بعد أيام قليلة من تسلمه مسؤولية السلطنة بعد وفاة أبيه السلطان مراد، خشية أن يزاحمه على السلطنة، ومن المؤسف أن هذا الزعم لم يقتصر على المؤرخين غير المسلمين، وإنما وقع في أحبولته عدد من المؤرخين المسلمين.

ولئن كانت هذه الفرية التي ألصقت بالسلطان محمد الفاتح تكون أوهمن من بيت العنكبوت، إلا أنني أجد من الواجب التوقف عندما وتفنيدها، لكي لا يبقى بعد ذلك عذر لأي مؤرخ يحترم نفسه، ويحترم شرف الكلمة التي يؤرخ بها، أن يستمر في ترديد هذا البهتان العظيم ضد السلطان محمد الفاتح.

هل يعقل أن سلطاناً ولي السلطنة في عهد أبيه، وتحت كنفه، ثم وليها من بعد وفاة أبيه، وقد اشتدّ ساعده، ونضجت خبرته، والتفت الأمة من حوله تحوطه بالحب والطاعة، هل يعقل أن هذا السلطان يغار من أخ له رضيع، فيخشى أن ينازعه على السلطة..؟ وكيف يتسنّى لطفل رضيع، وأنى له، أن ينازع على السلطنة، وهو الرضيع الذي إن تأخرت أمه عليه بالحليب يوماً مات جوعاً.

ثم هل يصدق إنسان عاقل، أن محمداً الفاتح، الذي تربى على مائدة القرآن، على يد خيرة علماء عصره، أمثال الشيخ أحمد بن إسماعيل الكوراني الذي كان الفاتح يسميه «أبا حنيفة زمانه»، والشيخ تمجيد أوغلو، والشيخ محمد جلبي زاده، والشيخ مولا إياش، والشيخ الغوراني، والشيخ سراج الدين الحلبي، والشيخ آق شمس الدين، ويمكن أن يفكر بمثل هذا الأمر الفظيع..؟

بل، لنفرض جدلاً أن محمداً الفاتح كان يوجس خيفة أن ينازعه أخوه الرضيع على السلطنة، أفما كان يستطيع أن يحتويه تحت كنفه، ويربيه على الإخلاص له، بدل أن يقتله؟

ولماذ يستبق محمد الفاتح الأمور فيقتل أخاه الرضيع، وقد كان بإمكانه أن ينتظر وهو مطمئن البال بضعة عشر عاماً حتى يكبر أخوه، فيتحقق من نوازعه ونواياه؟

من هنا نستطيع أن نتبين انتفاء المصلحة الشخصية للسلطان محمد الفاتح من قتل أخيه الرضيع.

ولننتقل الآن إلى مناقشة الطريقة التي تمت بها عملية القتل المزعومة، فقد زعم مروّجو هذه الفرية أن السلطان محمداً الفاتح أرسل أحد قواده، واسمه علي بك، إلى جناح النساء لقتل أخيه الرضيع، فلما علم علي بك أن الطفل موجود في حمام النساء حيث تقوم مربيته بغسله، اقتحم الحمام وأمسك بالطفل الرضيع وغطسه تحت الماء حتى مات مختنقاً غرقاً..

هل يصدق عاقل أن محمد الفاتح، وهو الذكي المحنك، يقدم على قتل أخيه الرضيع بهذه الصورة المكشوفة الساذجة؟ وهل كان عاجزاً عن تكليف إحدى النساء، كزوجته، أو إحدى خادماتها، بتنفيذ عملية القتل دون إثارة انتباه أحد، بدل من أن يرسل رجلاً إلى جناح النساء، وهو أمر غير مألوف، بله أن يسمح له بأن يقتحم هذا الرجل حمام النساء، حيث يكنّ فيه متحللات من حجابهن، ومتخففات من كثير من ملابسهن، وفي ذلك ما فيه من خروج مستهجن عن المألوف، من شأنه لو تحقق فعلاً أن يثير من هياج النساء، وضجيجهن، وصخبهن، ما يضطر ذلك الرجل إلى الفرار قبل أن ينفذ مأربه، مهما بلغت به الجرأة والنذالة؟

إذن، ما هي حقيقة هذه الفرية؟

الحقيقة أن المربية التي كان موكلاً إليها أمر العناية بالطفل الرضيع أحمد، انشغلت عنه لبعض شأنها بينما كانت تغسله، فوقع في حوض الماء، فمات مختنقاً غرقاً قبل أن تتداركه الأيدي التي امتدت لإنقاذه بعد فوات الأوان.

وتصادف بعد غرق الطفل بأيام قليلة أن أحد ضباط الجيش، واسمه علي بك، ارتكب جريمة عقابها الإعدام، فلما أعدم، وجد الحاقدون مادة جديدة خيّل إليهم أنهاتدعم بهتانهم، فطفقوا يزعمون أن علي بك هو الذي أغرق الطفل الرضيع أحمد، وأن السلطان محمد الفاتح خشي أن يفشي هذا الرجل سره فقتله، ومن هنا جاءت الفرية على النحو الذي أشرت إليه، وينبغي الإشارة إلى أن «إدوارد سي كريسي» يتبنى هذا الزعم في كتابه «تاريخ العثمانيين الأتراك» المطبوع بالإنجليزية في بيروت في عام 1961م، ويدّعي أن السطان الفاتح أقدم على قتل الضابط علي بك متهماً إياه بقتل أخيه الرضيع دون أن يكون للسلطان علم بذلك.

ولو أنهم توقفوا عند هذه الفرية وحدها لهانَ الأمر، ولكنهم ما برحوا أن بدأوا ينسجون من حولها المزيد من الافتراءات، فزعموا أن محمداً الفاتح، لم يكتف بقتل أخيه، بل أصدر قانوناً أعطى للسلطان الحق في قتل من يشاء من إخوته وأبنائه وأبناء عمومته وخؤولته، لقطع الطريق على أي منهم أن ينافسه على السلطة.

ولقد أوضح المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني» الدافع الذي جعل السلطان محمد الفاتح يصدر هذا القانون فقال:

«حين وجد السلطان محمد الفاتح أن أكبر خطر يهدد الدولة العثمانية في الفترة التي سبقت توليه مقاليد السلطنة، نجم عن تكرار حوادث الانشقاق التي كانت تقع بين الأمراء العثمانيين، والتي كانت تصل في أكثر الأحيان إلى درجة الاقتتال، وتؤدي إلى انقسام الدولة إلى فريقين أو أكثر، مما كان يؤثر على وحدة الدولة، ويغري خصوم الإسلام بها، فقد رأى السلطان محمد الفاتح أن يضع قانوناً أسماه «قانون حفظ النظام للرعية» أكد بموجبه أن الموت سيكون مصير كل من يعلن العصيان المسلح ضد السلطان، ويتعاون مع أعداء الإسلام ضد المسلمين.»

ويردف إسماعيل حامي دنشمند أن هذا القانون كان سبباً في انحسار، أو على الأقل، في تقليص حوادث العصيان المسلح، التي كادت أن تصبح أمراً شائعاً في الدولة العثمانية قبل صدور هذا القانون.

وإن المرء لتتملكه الدهشة، حين يرى أن كل دول الدنيا، قديمها وحديثها، لا تخلو قوانينها من مثل هذا القانون، ومع ذلك لا تجد أحداً يعترض عليها أو يشوه مقاصدها، كما كان يفعل المغرضون تجاه الدولة العثمانية!

وبعد:

فإني أحسب أن القارئ الفطن، يدرك من خلال ما أوردتُ من حقائق، أن الحاقدين إنما يهدفون من وراء التركيز على تحريف تاريخ الأتراك العثمانيين المسلمين إلى الإساءة إلى الإسلام ذاته، ومن خلال الإساءة إلى الأتراك العثمانيين المسلمين، حين يظهرونهم بمظهر القوم المتوحشين الذين انعدمت الرحمة من قلوبهم، ومن خلال الإيحاء بأن مسألة قتل السلاطين لإخوانهم كانت أمراً عادياً مألوفاً عندهم.

أقول هذا، ولا أنفي أن يكون في تاريخ بني عثمان، وخاصة في عصورهم المتأخرة، بعض الأمور التي لا تنسجم مع الإسلام، وتتعارض مع أحكامه، وليس الذنب في ذلك ذنب الإسلام، وإنما ذنب المسيء نفسه.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 53، جمادى الأولى، 1405 هـ
__________________

د.فالح العمره 27-09-2006 05:58 AM

التاريخ الإسـلامي
دولة الخلافة العثمانية
لقد كان القرن السابع الهجري، (الثالث عشر الميلادي) فترة سوداء في تاريخ العالم الإسلامي بأسره، ففي الوقت الذي تقدمت فيه جحافل المغول الوثنيين من الشرق، وقضت على الخلافة العباسية في بغداد كانت بقايا الجيوش الصليبية لا تزال تحتل أجزاء من شواطئ فلسطين! ومما زاد الحالة سوءًا أن الدولة الأيوبية التي تولت حماية العالم الإسلامي من هجمات الصليبيين أخذت تضعف بعد وفاة منشئها صلاح الدين. وقد ترتب على هذا أن أخذت مناطق المسلمين تتقلص بين ضربات الوثنيين من الشرق، وحملات المسيحيين من الغرب. وراح بعض الناس يعتقد أن الإسلام لن تقوم له قائمة مرة أخري، إلا أن الكارثة لم تقع. تُرى ما سبب ذلك؟ يقول المؤرخون: هناك سببان:
أولهما: أنه بالرغم من انتصار المغول على المسلمين في ميدان الحرب فإن الإسلام انتصر عليهم في ميدان العقيدة، ففي أقل من نصف قرن دخل المغول الإسلام، فأصبحوا يدافعون عنه، وينشرونه بين أهليهم في أواسط آسيا.
أما ثانيهما فهو أن دولة المماليك التي خلفت الأيوبيين على مصر في سنة 648هـ/1250م، كانت دولة عسكرية قوية يرأسها قواد الجيش من المماليك.
وكان هؤلاء المماليك، وهم من الأتراك والأرمن وغيرهما، قد وصلوا إلى المناصب العالية في الجيش أثناء حكم الأيوبيين.
وأخيرًا، تولوا الحكم، وعينوا من بينهم السلاطين للدولة، وقد كان لهؤلاء المماليك الفضل في إيقاف زحف المغول عند "عين جالوت" سنة 658/1260 م، كما انتزعوا من الصليبيين "عكا" وكانت آخر معقل لهم في الشرق سنة 692هـ/1292م.
أصل العثمانيين:
يقول المؤرخون : إن الدولة العثمانية كانت أكبر وأبقى دولة أنشأها قوم يتكلمون اللغة التركية في العهود الإسلامية. وهي إلى جانب ذلك أكبر دولة قامت في قرون التاريخ الإسلامي المتأخرة. لقد كان مركزها الأصلي "آسيا الصغري" في أقصي الركن الشمالي الغربي من العالم الإسلامي، ثم امتدَّت فتوحاتها إلى ثلاث قارات هي : آسيا وأوربا وإفريقية. وتركت بصمات قوية في تاريخ العالم عامة والإسلام خاصة، فكيف تم للأتراك العثمانيين ذلك؟ ومَنْ هم؟ ومن أين جاءوا؟
أسئلة كثيرة تخطر بالبال حين يذكر أولئك الأتراك العثمانيون، ويتساءل الكثيرون عن أصلهم، ولابد من طرح هذه الأسئلة قبل الحديث عن حكمهم وفتوحاتهم.
يعتقد الكثيرون أن أصلهم من أواسط آسيا، وقد هاجروا في جماعات نحو الغرب، حتي استقروا أخيرًا في القرن السادس الميلادي بالقرب من منطقة بحر قزوين والجهات الواقعة شمال وشرق بلاد فارس .
وفي أيام الدولة الأموية، تمكنت الجيوش الإسلامية من الوصول إلى منطقة سكناهم، إلا أنهم لم يعتنقوا الإسلام جديّا إلا في أوائل العصر العباسي. وقد قربهم الخليفة المعتصم -كما عرفت- حين أراد أن يقضي علي سيطرة الفرس الذين كانوا يتمتعون بنفوذ كبير في الدولة العباسية وبخاصة في عهد المأمون.
وفي أواخر القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي جاءت موجة أخري من الأتراك (المعروفين بالسلاجقة) وعلي رأسهم "طغرل بك"، وقضوا علي نفوذ البويهيين في بغداد، وخلصوا الخليفة العباسي من استبدادهم، وتقدموا حتى هددوا القسطنطينية، فتكتل المسيحيون في أوربا، وكان ذلك بسبب هزيمتهم أمام السلاجقة في ملاذكرد، وقاموا بتلك الحروب الصليبية التي أمدَّت في عمر القسطنطينية أربعة قرون.
كيف تكونت دولة الأتراك العثمانيين؟
في حوالي سنة 622هـ/1224م كانت جيوش التتار بقيادة جنكيز خان تتقدم إلي الغرب في اتجاه الدولة العباسية.
ومن بين الذين فروا أمام الزحف التتري مجموعة من الترك كانت تسكن منطقة "خُوارزم"، فتحركوا غربًا حتي وصلوا إلي آسيا الصغري بالقرب من دولة "سلاجقة الروم" سنة 1250م تقريبًا. وهناك اتصل قائدهم "أرطغرل" بالسلطان علاء الدين زعيم دولة سلاجقة الروم (وهم فرع آخر من نفس الجنس التركي)، فوافق علاء الدين علي وجودهم، ومنحهم منطقة حول أنقرة ليستقروا فيها علي الحدود بين دولته ودولة البيزنطيين. فلما وصلت جيوش المغول إلى "دولة السلاجقة" وقف "أرطغرل" إلي جانب "علاء الدين"، حيث تمكنا من هزيمة المغول وإنقاذ دولة السلاجقة.
بعد وفاة "أرطغرل" سنة 688هـ/1288م، عُيّن ابنه "عثمان" خلفًا له، فكان قويّا محبوبًا بين أهله، ذا مكانة في بلاط السلطان علاء الدين؛ مما أثار حسد وزرائه.
فلما مات علاء الدين كثرت المؤامرات، وضعفت الدولة، فاغتنم عثمان الفرصة، واستقل عن السلاجقة، وأخذ يضيف بعض أجزاء دولتهم إلى سلطانه، وهكذا تأسست الدولة العثمانية، وكان ذلك في سنة 700 هـ/1300م.
وبذا فقد نسبت تلك المجموعة من الأتراك إلى هذا الرجل العظيم "عثمان" فسموا الأتراك العثمانيين؟ وكان الإسلام هدف العثمانيين وشعارهم، له يعملون، وفي سبيله يجاهدون ويحاربون.
فتوحاتهم المباركة:
كان الطريق مفتوحًا أمام هذه الدولة الناشئة ؛ فلم يكن هناك ما يقف في طريق توسعها؛ حيث إن الإمبراطورية البيزنطية خرجت بعد الحروب الصليبية وهي أسوأ حالا مما كانت عليه من قبل.
ويذكر المؤرخون أَنَّ حملة من الحملات الصليبية قد احتلت القسطنطينية نفسها سنة 602هـ/1204م ، ولم تتخلص عاصمة البيزنطيين منهم إلا بعد أكثر من ستين عامًا، فلما شرع عثمان في التقدم نحو الأقاليم التابعة للدولة البيزنطية وجد الطريق مفتوحًا أمامه.
وقد واصل ابنه "أورخان" هذه الفتوحات حتى بلغ "نيقية" وخضعت له آسيا الصغرى (تركيا)، كما تمكن من عبور "الدردنيل"، والوصول إلى "مقدونيا" غير أنه لم يتقدم نحو أوربا.
وكان لابد أن يتفرغ بعد هذا لتنظيم دولته، فأنشأ جيشًا نظاميّا عُرف بالانكشارية (أى الجنود الجدد) .وكان هذا الجيش مكونًا من أبناء البلاد المفتوحة.
فتم تدريبهم منذ الصغر على الإسلام والعسكرية، وأعدت لهم معسكرات وثكنات يعيشون فيها حتى لا يختلطون بغيرهم، مهمتهم التي أعدوا لها هي الدفاع عن الإسلام مع الفرسان من العثمانيين، فيشبون أقوياء الجسم، مطيعين لقوادهم الذين لايعرفون غير الطاعة الكاملة.. أتدري مَنْ أول من استخدم هذا الجيش استخدامًا فعالا؟
السلطان مراد الأول:
إنه السلطان "مراد الأول" ابن "أورخان" وكان مراد نفسه جنديّا شجاعًا قرر أن يشن حربًا على أوربا بأسرها.
لقد أراد أن ينتقم من الأوربيين لاعتدائهم على الإسلام والشرق أثناء الحروب الصليبية.هذا بالإضافة إلى حماسه للإسلام، وحبه له وللدفاع عنه ضد أعدائه، ورغبته في نشر الإسلام في بلاد الكفر، وتبليغ دعوة الله إلى العالمين، فمن المعروف أن الأتراك من أقوى الشعوب حماسة، ومن أقواهم عاطفة تجاه الإسلام والمسلمين، وكان سمتهم في تعاملهم مع الأسرى سمتًا إسلاميّا يدل على فهمهم للإسلام ولمبادئ الحرب والقتال في الإسلام، وهذا ما شهد به أعداؤهم.
لقد عبرت جيوشه الدردنيل (كما فعل والده من قبل)، واحتل مدينة "أدرنة"، وجعلها عاصمته سنة 765هـ/1362م بدلا من العاصمة القديمة "بروسّة"، وبذلك يكون قد نقل مقر قيادته إلى أوربا استعدادًا لتأديب وإخضاع تلك القارة المعتدية!
شملت فتوحات "مراد": مقدونيا، وبلغاريا، وجزءًا من اليونان والصرب، كما هدد القسطنطينية، وأجبر إمبراطورها على دفع الجزية.
لكن واأسفاه، قتل مراد في ميدان القتال سنة 793هـ/1389م، في الوقت الذي كانت فيه جيوش المسلمين الظافرة تحتل صوفيا عاصمة بلغاريا.
السلطان بايزيد:
فمن يا تُرى يخلفه؟ لقد خلفه ابنه "بايزيد" ومن شابه أباه فما ظلم.كانوا يلقبونه (بالصاعقة)، وذلك لسرعة تحركاته في ميادين القتال وانتصاراته الخاطفة.أتدري ماذا حقق من انتصارات بعد أبيه؟ لقد أتم فتح اليونان. أما الدولة البيزنطية فقد جردها من كل ممتلكاتها ماعدا القسطنطينية وحدها.
لقد بلغ "بايزيد" من القوة ما جعله يمنع إمبراطور القسطنطينية من إصلاح أحد حصون المدينة فيذعن الإمبراطور لأمره، وينزل عند رأيه. وكانت نتيجة هذا الجهاد المقدس انتشار الذعر في جميع أنحاء أوربا، فقام البابوات في روما ينادون بالجهاد ضد المسلمين كما فعلوا سنة 489هـ/1095م، وتجمعت فرق المتطوعين من فرنسا وألمانيا وبولندا وغيرها وقادهم سِجِسْمُنْد المجري.
وفي سنة 799هـ/1396م اشتبك معهم "بايزيد" في معركة "نيقوبولس" وهزمهم هزيمة نكراء، فدقَّت أجراس الكنائس في جميع أوربا حدادًا على تلك الكارثة، وانتابها الذعر والقلق. وراحت أوربا تخشى مصيرها الأسود القاتم إذا تقدم ذلك القائد المظفر نحو الغرب.
أما القسطنطينية فقد أوشكت على السقوط أمام جيوش بايزيد!
هجوم التتار:
في هذه اللحظات التاريخية يتعرض جنوب الدولة العثمانية إلى هجمات التتار، وكانت هذه هي الموجة الثانية (بعد تلك التي قام بها هولاكو) جاء على رأسها تيمورلنك، فغزا بلاد فارس والعراق وأجزاء من سوريا، ثم اتجه شمالا نحو الدولة العثمانية.
ولما شعر بايزيد بذلك الخطر أوقف تقدمه في أوربا كما رفع الحصار عن القسطنطينية، واتجه جنوبًا لملاقاة العدو.
وفي سنة 805هـ/1402م تقابل بايزيد مع تيمورلنك بالقرب من أنقرة، ودارت الحرب بينهما زمنًا طويلا كان النصر فيها حليفًا لقوات التتر! ووقع "بايزيد" في أسر عدوه تيمورلنك الذي عذبه عذابًا شديدًا. ويقال: إنه سجنه في قفص، وطاف به أجزاء مختلفة من الدولة حتى مات من شدة التعذيب.
ترى هل كانت هذه الهزيمة نهايةً للأتراك العثمانيين؟ لا؛ فقد انتعشوا مرة ثانية، وقاموا بأعمال تفوق تلك التي قام بها "عثمان" و"مراد" و"بايزيد".
سقوط القسطنطينية:
مرت على الدولة العثمانية فترتان بين إنشائها واستيلائها على القسطنطينية.كانت الفترة الأولى واقعة بين استقلال عثمان بالدولة سنة 700هـ/1300م وبين هزيمة "بايزيد" في موقعة أنقرة سنة 805هـ/1402م.
أما الفترة الثانية، فتبدأ من إعادة إنشاء الدولة سنة 816هـ/1412م حتى فتح القسطنطينية سنة 858هـ/1453م.
وكانت المدة الواقعة بين هاتين الفترتين -وهي عشر سنوات- مدة قلاقل واضطرابات.
ولكن ماذا فعل تيمورلنك بعد موقعة أنقرة وأسر بايزيد؟
عودة تيمورلنك إلى بلاده:
بعد موقعة أنقرة تراجع تيمورلنك، فلم يكن قصده احتلال آسيا الصغري، بل كان كل همه وأمله أسر بايزيد، أمَا وقد تحقق له ما أراد، فليرجع إلى بلاده، لقد ترك البلاد مهزومة مفككة، وترك أولاد بايزيد يتحاربون فيما بينهم من أجل الملك.
واستمرت فترة حكمه حوالي ثماني سنوات، أخذ يعمل فيها بحكمة وتعقل؛لكي يدعم سلطانه داخل الدولة، فاتبع سياسة المهادنة والصداقة مع كل الأعداء.
لقد عقد هدنة مع إمبراطور القسطنطينية، وقد رحب الإمبراطور بتلك الهدنة؛ لأنه هو الآخر كان في حالة ضعف شديد نتيجة ضربات بايزيد المتوالية على دولته.
أما السلاجقة، فقد ترك لهم "السلطان محمد" كل الأراضي التي تحت أيديهم، وتفادي أي اشتباكات معهم، وركز كل همه في توطيد سلطانه في الداخل، وكان له ما أراد.
السلطان مراد الثاني:
فلما توفي "محمد" وخلفه ابنه "مراد الثاني" سنة 825هـ/1421م، كانت حالة الدولة العثمانية تمكنها من اتخاذ بعض الخطوات الهجومية وقد كان.
فلقد استردّ "مراد الثاني" ما أخذه السلاجقة من أراضي العثمانيين، واستعاد العثمانيون ثقتهم وقوتهم في عهد مراد الثاني، فاتجهوا إلى أوربا.
ولكن أوربا لم تنسَ هزيمتها في "نيقوبولس" وما لحق بها من عار، فراحت تكون جيشًا كبيرًا من المجريين والبولنديين والصرب والبيزنطيين، وهاجمت ممتلكات الدولة العثمانية في "البلقان".
وفي البدء تمكن المسيحيون من إحراز عدة انتصارات على جيوش مراد، إلا أن السلطان "مرادًا" جمع قواته، وأعاد إعدادها وتشكيلها حتى التقى مع أعدائه سنة 849هـ/1444م، فأوقع بهم الهزيمة، وعلى رأسهم ملك المجر "فلادسلاق" وصدهم حتى نهر الدانوب.
رعاك الله يا مراد، لقد أعدت الدولة العثمانية إلى ما كانت عليه أيام جدك بايزيد.
وهكذا لما توفي "مراد الثاني" في "أدرنة" سنة 856هـ/ 1451ترك لابنه محمد الثاني المعروف "بالفاتح" دولة قوية الأركان، عالية البنيان، رافعة أعلامها، متحدة ظافرة منتصرة.
فتح القسطنطينية :
كان أول هدف لمحمد الفاتح القضاء علي القسطنطينية، تلك المدينة التي صمدت أمام كل الهجمات الإسلامية من عهد معاوية ابن أبي سفيان في منتصف القرن السابع الميلادي حتى منتصف القرن الخامس عشر.
لقد كان الاستيلاء عليها أملا يراود الكثيرين من قادة الإمبراطورية الإسلامية وخلفائها، وفخرًا حاول الكثيرون أن ينالوه ويحظوا به، ولم لا وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش". [أحمد والحاكم].
السلطان محمد الفاتح:
جاء محمد الثاني (محمد الفاتح) وكان مع الفتح على موعد، فعقد العزم على فتحها، وإضافتها إلى العالم الإسلامي الكبير، ولم يكن هذا هو هدفه الوحيد، بل كانت هناك عوامل كثيرة تحركه وتدفعه إلى تحقيق هذا النصر وذلك الفتح العظيم، أيقال: إنه فتح الفتوح؟! أم أيقال: إنه فتح باركته ملائكة السماء؟!
وكيف لا، والإمبراطورية البيزنطية كانت العدو الأول للإسلام بعد أن سقطت دولة الفرس في القرن السابع الميلادي، وظلت تصطدم مع المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين، وفي خلافة الأمويين والعباسيين وما بعدها!
وكثيرًا ما كانت تتحين فرص ضعف الدولة الإسلامية فتغير عليها، وتنتزع بعض أراضيها.
ولا يخفى أن بعد موقعة "ملاذكرد" في القرن الحادي عشر أصبحت القسطنطينية نفسها محورًا تتمركز فيه كل قوى الصليبيين المتجمعة من أطراف القارة الأوربية؛ لتشن الغارة تلو الغارة على الأراضي المقدسة، ومناطق نفوذ المسلمين الأخري.
ولا ينسى أحد للقسطنطينية أنها في سنة 768هـ/1366م، تحالفت مع روما ودول أوربا الأخرى إلا أن بايزيد هزمهم في "نيقوبولس".
ولم يَنْسَ خلفاء الدولة العثمانية للقسطنطينية أنَّها في سنة 846هـ/1441م تآمرت مرة أخرى مع ملوك البلقان ضد مراد الثاني، إلا أن الله نصر مرادًا عليهم فقضى على تحالفهم، وشتت شملهم، وَفرَّق جموعهم.
فلْيقضِ محمد الفاتح على تلك القلعة الحصينة التي كثيرًا ما ضربتهم من الخلف، إن هو أراد أن يستمر في فتوحاته الأوربية.
وراح محمد الفاتح يضع الخطة بإحكام، عقد هدنة مع ملوك المسيحيين في البلقان لمدة ثلاث سنوات. واستغل هذه الفترة الآمنة الهادئة في تحصين حدوده الشمالية وتأمينها. ثم ماذا؟ ثم جهز جيشًا قوامه 60 ألف جندي نظامي، واتجه بهم نحو القسطنطينية وحاصرها، ومع أن حامية القسطنطينية لم تكن تزيد على 8000 جندي إلا أنها كانت محصنة جدّا، فالبحر يحيط بها من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة فقد أحيطت بأسوار منيعة، وهذا هو السبب الرئيسي في صمودها طوال هذه القرون واستعصائها على بني أمية وبني العباس.
وقد كان تأخر سقوط القسطنطينية في أيدي المسلمين هو السبب في تأخر انهيار الدولة البيزنطية، فسقوط العاصمة يتسبب عنه سقوط الدولة بأكملها، ولعل ذلك يرجع إلى أن قدرًا من الحضارة المادية كان عند البيزنطيين؛ بحيث يستطيعون تحصين عاصمتهم والدفاع عنها، وقد تأخر سقوط الدولة البيزنطية لمدة ثمانية قرون كاملة، على عكس الدولة الفارسية التي سقطت وزالت مبكرًا نتيجة سقوط "المدائن" عاصمتها في وقت قصير.
إلا أن الأحوال قد تغيرت كثيرًا في سنة 858هـ/1453م عندما حاصرها محمد الفاتح.
وكان العالم قد توصل في ذلك الوقت إلى اكتشاف البارود-الذي يرجع الفضل في اكتشافه إلى العلماء المسلمين-مما جعل الأسوار كوسيلة للدفاع قليلة الفائدة.
وإلى جانب هذا وذاك، فإن الأسطول الإسلامي أصبح أقوى بكثير من أسطول البيزنطيين، فحاصر المدينة من جهة البحر، وأغلق مضيق البسفور في وجه أية مساعدة بحرية.
واستمر الحصار ستة أسابيع، هجمت بعدها الجيوش الإسلامية، وتمكنت من فتح ثغرة في أحد الأسوار، ولكن الحامية المسيحية- برغم قلتها- دافعت دفاعًا مريرًا، ومع ذلك فقد دخل محمد الفاتح القسطنطينية، وغير اسم القسطنطينية إلى "إسلام بول" (أي عاصمة الإسلام)، ولكنها حرفت إلى إستامبول، كما جعل أكبر كنائس المدينة (أيا صوفيا) مسجدًًا بعد أن صلى فيه الجيش الفاتح بعد النصر، أما المسيحيون فلم يعاملهم بما كانوا يعاملون به المسلمين، لقد ترك لهم حرية العبادة، وترك لهم بطريقَهُم يشرف على أمورهم الدينية.
تسامح المنتصر:
وقد وصف فولتير الفيلسوف الفرنسي الشهير موقف المنتصر المسلم من المهزوم المسيحي بقوله : إن الأتراك لم يسيئوا معاملة المسيحيين كما نعتقد نحن، والذي يجب ملاحظته أن أمة من الأمم المسيحية لا تسمح أن يكون للمسلمين مسجد في بلادها بخلاف الأتراك، فإنهم سمحوا لليونان المقهورين بأن تكون لهم كنائسهم، ومما يدل على أن السلطان محمد الفاتح كان عاقلا حكيمًا تركه للنصارى المقهورين الحرية في انتخاب البطريق، ولما انتخبوه ثبته السلطان وسلمه عصا البطارقة، وألبسه الخاتم حتى صرح البطريق عند ذلك بقوله : إني أخجل مما لقيته من التبجيل والحفاوة، الأمر الذي لم يعمله ملوك النصارى مع أسلافي.
هذه هي حضارة الإسلام ومبادئه في ميدان الحرب والتسامح مع أهل الأديان الأخري، على خلاف النصارى في حروبهم مع المسلمين سواء في الحروب الصليبية أو في الأندلس أو في العصر الحديث في كل مكان، فإنهم يقتلون الأبرياء، ويحرقون الأخضر واليابس، ويخربون بيوت الله، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
ولم يكتف "محمد الثاني" بهذا النصر، بل سار إلى أعدائه في الغرب، وأخضع معظم دول البلقان، إلى أن وصل إلى بحر الأدرياتيك، وفي آسيا امتدت سلطة العثمانيين حتى نهر الفرات فهزموا السلاجقة، واستولوا على جميع أراضيهم.
آخر خليفة عباسي:
وجاء "السلطان سليم" بعد محمد الفاتح، فدخلت الجيوش الإسلامية الجزيرة العربية بأسرها، وعَرَّجوا على مصر فقضوا علىحكم المماليك فيها، وضموها لممتلكاتهم.
وفي مصر، وجد السلطانُ سليم آخرَ سلالة الخلفاء العباسيين واسمه "المتوكل على الله الثالث"، وطلب منه أن يتنازل له عن الخلافة فقبل، وقد يتساءل: كيف يكون هناك خليفة عباسي مع أن التتار قضوا على الخلافة العباسية في بغداد سنة 656هـ.
الواقع أنه بعد مقتل الخليفة المستعصم في بغداد تمكن بعض أفراد أسرته من الهروب إلى مصر، فآواهم سلاطين المماليك، ولقبوا أحدهم خليفة، وكانت خلافة رمزية، الغرض منها إكساب دولة الخلافة سمعة كبيرة بوجود الخليفة فيها.
واستمرت سلالة هؤلاء الخلفاء حتى سنة 924هـ/1518م، عندما دخل السلطان سليم مصر وهزم المماليك، ولما أراد العودة إلى العاصمة إسلام بول أخذ معه الخليفة المتوكل على الله الثالث الذي تخلى للسلطان سليم عن الخلافة، وسلمه الراية والسيف والبردة سنة 925هـ/1518م.
سقوط الخلافة العثمانية:
وهكذا انتقلت الخلافة إلى الدولة العثمانية، واستمرت فيها حتى سنة 1342هـ/1923م، حتى ألغاها مصطفى كمال أتاتورك ونقل العاصمة إلى أنقرة عاصمة تركيا الحديثة، وألغى اللغة العربية في 1342هـ/3 مارس 1924م.
وكان اليهود قد حاولوا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني التأثير عليه بشتى الوسائل، وإغرائه بالمال، ليسمح بتأسيس وطن قومي لليهود، فأبي، وقال : تقطع يدي ولا أوقع قرارًا بهذا، لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلن أسود صحائف المسلمين من آبائي وأجدادي السلاطين والخلفاء العثمانيين. وتجمعت كل القوى المعادية للإسلام لتقضي على الخلافة، فكان لهم ما أرادوا، وتفرق شمل المسلمين، واستبيحت ديارهم، فإنما يأكل الذئب من الغنم الشاردة، وها نحن أولاء نشهد حربًا تدور في الخفاء والعلن ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان، ولا خلافة لهم تجمع كلمتهم وتدافع عنهم.
منجزات الخلافة العثمانية:
1- فتح القسطنطينية، وتحقيق حلم وأمل المسلمين.
2- وقوف السلطان عبد الحميد في وجه اليهود بقوة، ومنعهم من إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. فيروى أنه بعد عقد مؤتمر بال بسويسرا 1336هـ/1897م والذي قرر اتخاذ فلسطين وطنًا قوميّا لليهود، ذهب (قره صو) إلى الخليفة عبد الحميد، وذكر له أن الحركة الصهيونية مستعدة أن تقدم قرضًا للدولة، قدره خمسون مليونًا من الجنيهات، وأن تقدم هدية لخزانة السلطان الخاصة قدرها خمسة ملايين من الجنيهات، نظير السماح لليهود بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فصرخ الخليفة في حاشيته قائلا:من أدخل على هذا الخنزير. وطرده من بلاده، وأصدر أمرًا بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين.
3- من أبرز خدماتها للمسلمين أنها أخرت وقوع العالم الإسلامي تحت الاحتلال الأوربي، فما إن زالت الخلافة الإسلامية حتى أتى الغرب على دول المسلمين يبتلعها دولة بعد الأخرى، وقد وقف السلطان سليم الأول ومن بعده ابنه بقوة إلى جانب دولة الجزائر ودول شمال إفريقية وساعدهم في مقاومة الاحتلال الأوربي في بداية الأمر عندما استغاث خير الدين بالسلطان سليم فأمده بالعدة والعتاد.
4- دفاعهم عن الأماكن المقدسة، فعندما حاولت قوات الأسطول البرتغالي (مرتين) أن تحتل جدة وتنفذ منها إلى الأماكن المقدسة في الجزيرة، وقفت في وجهها الأساطيل العثمانية، فارتدت على أعقابها خاسرة، بل إن القوات البحرية أغلقت مضيق عدن في وجه الأساطيل البرتغالية، فكان عليها أن تأتي بالشحنات التجارية وتفرغها في مضيق عدن، ويقوم الأسطول الإسلامي العثماني بتوصيلها إلى عدن والموانئ الإسلامية.
5- ويكفي أن الخلافة العثمانية كانت رمزًا لوحدة المسلمين، وقوة تدافع عن المسلمين وقضاياهم وأراضيهم، بالإضافة إلى الفتوحات الإسلامية، وحرصهم على الإسلام وحبهم له، كيف لا، وقد قامت دولتهم على حب الإسلام بغرض الدفاع عنه.
هذا وقد ظلم التاريخ هذه الخلافة الإسلامية خلافة العثمانيين؛ لأن تاريخها كتب بأيدي أعدائها سواء من الأوربيين أو من العرب الذين تربوا على مناهج الغرب، وظنوا أنها احتلال للبلاد العربية، ولذلك فتاريخ هذه الخلافة يحتاج إلى إعادة كتابة من جديد.
***

جميع الحقوق محفوظة لصالح اغادير
www.agadeer.com

د.فالح العمره 28-09-2006 05:04 AM

محمد الفاتح

وملحمة القسطنطينية الخالدة

بقلم: خليل حسن فخر الدين


--------------------------------------------------------------------------------

مولده وحكمه وشخصيته [1]

ولد محمد الثاني بن مراد الثاني بن محمد الأول في 26 رجب سنة 833 هـ (20 نيسان/أبريل 1429م)، وتولى الحكم في سنة 1451م وهو شاب لم يتجاوز عمره اثنتين وعشرين سنة وحكم لمدة ثلاثين سنة (1451-1481م). واشتهر في التاريخ بلقب محمد الفاتح لفتحه القسطنطينية، وهو من بين الفاتحين في التاريخ العالمي في هذه السن المبكرة، ومن بناة الحضارة الراقية والمجد الرفيع.

ورث محمد الفاتح دولة قوية واسعة، ولكنها لم ترض نفسه الطموح بأن يكتفي بأمجاد أسلافه، ويعيش في رفاهية ونعيم بل صمم على أن يزيد أمجاداً جديدة إلى أمجادهم الإسلامية بفتوحه في أوروبا وآسيا الصغرى، ويتوج تلك الأمجاد وأمجاد الإسلام عامة بتحقيق حلم راود المسلمين مدة ثمانمائة عام[2]، وهو فتح القسطنطينية، عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، العدوّة القديمة للإسلام والمسلمين منذ عهدهم الأول. وكان هذا الفتح أقسى ضربة سددها الإسلام في وجه أوروبا النصرانية في تاريخها الطويل على يد هذا الفاتح، ومن ثم نرى معظم المؤرخين الغربيين ينالون من محمد الفاتح وينعتونه بأبشع الصفات، ولم يشذ عنهم حتى المستشرق الإنجليزي المعتدل (لين بول Lane Poole)، وهو محض افتراء وبهتان، لم يدفعهم إليه إلا الحنق والغيظ لمحو اسم الدولة البيزنطية وريثة الإمبراطورية الرومانية من خريطة التاريخ إلى الأبد.

كان السلطان محمد الفاتح عبقرية فذة من عبقريات الإسلام، فلم يكن مجرد فاتح مغوار وقائد عسكري مظفّر، بل كان يجمع بين صفات القيادة العسكرية الموفقة وبين الثقافة العلمية الرفيعة [3]، يقود الجيوش، ويفتح المدن والدول، ويتذوق العلوم والآداب والفنون بمختلف أنواعها ويقدرها ويرعاها وينشئ ويعمر. ولقد أشاد بذكره المؤرخون المسلمون المعاصرون له كابن تغري بردين وابن إياس، والسخاوي، والسيوطي، وابن العمادالحنبلي، فيما كتبوه من ترجمته في مؤلفاتهم التاريخية العامة، وأثنوا عليه ثناء عاطراً، ونوهوا بفتوحه وعلمه. فمن ذلك ما قاله المؤرخ ابن إياس عندما بلغه نبأ وفاته: »وفي ربيع الأول جاءت الأخبار بوفاة السلطان المجاهد الغازي صاحب القسطنطينية وهو محمد بن مراد بن محمد.. وانتشر ذكره بالعدل في سائر الآفاق، وحاز الفضل والعلم والعدل والكرم الزائد وسعة المال وكثرة الجيوش والاستيلاء على الأقاليم الكفرية وفتح الكثير من حصونها وقلاعها..«.[4]

فتح القسطنطينية
قبل التعرض لفتح القسطنطينية أراد السلطان محمد الثاني أن يحصن مضيق البوسفور حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون [5] وذلك بأن يقيم قلعة على شاطئ المضيق من جهة أوروبا تكون مقابلة للحصن الذي أنشأه السلطان بايزيد ببرّ آسيا. ولما بلغ ملك الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيراً يعرض عليه دفع الجزية التي يقررها فرفض راداً ذلك للتعديات التي كانت تحدث من قبل الروم على الجنود العثمانيين وتقتل بعضاً منهم، فحاصر السلطان المدينةفي أوائل نيسان/أبريل 1453م من جهة البر بجيش يبلغ المائتين وخمسين ألف جندي، ومن جهة البحر بعمارة مؤلفة من مائة وثمانين سفينة، وأقام حول المدينة أربعة وعشرين بطارية مدفعية كانت تقذف كرات من الحجر إلى مسافة ميل. وفي أثناء الحصار اكتشف قبر أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي استشهد في حصار القسطنطينية في سنة 52 هـ في خلافة معاوية بن أبي سفيان. وبعد الفتح بنى له مسجداً جامعاً وما يزال قائماً، وجرت العادة بعد ذلك أن كل سلطان يتولى الحكم يتقلد سيف عثمان الأول الغازي بهذا المسجد.

ولما شاهد قسطنطين آخر ملوك الروم هذه الاستعدادات استنجد بأهل جنوة [6] فأرسلوا له عمارة بحرية تحت إمرة جوستنياني ، فأتى بمراكبه، وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فلقي معارضة شديدة، انتهت بفوزه ودخوله الميناء بعد أن رفع جنوده السلاسل الحديدية التي وضعت لمنع المراكب العثمانية من الوصول إليها، ثم أعيدت بعد مروره كما كانت.

بعدها أخذ محمد الفاتح يفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار براً وبحراً، فخطر بباله أن ينقل المراكب إلى البر ليجتازواالسلاسل الموضوعة لمنعه،وتم هذا الأمر بأن مهد طريقاً إلى البر رصّت فوقه ألواح من الخشب صبت عليها كميات من الزيت والدهن لسهولة زلق المراكب عليها، وبهذه الطريقة أمكن نقل سبعين سفينة في ليلة واحدة حتى أصبح النهار، ونظرها الروم، أيقنوا أن لا مناص من نصر العثمانيين عليهم.

أرسل السلطان محمد إلى قسطنطين يخبره أنه لو سلم البلد إليه طوعاً يتعهد له بعدم مس حرية الأهالي أو أملاكهم، وإن يعطيه جزيرة موره، فلم يقبل قسطنطين بذلك.

أمر الفاتح جنوده بالصيام قبل الهجوم بيوم لتطهير نفوسهم وتزكيتها، ثم قام بزيارة للسور وتفقد الأسطول، وفي تلك الليلة تعالت أصوات التكبير والتهليل، ورتلت آيات الجهاد على مسامع الجند، ودوت الأناشيد الإسلامية الحماسية.. ودعا الفاتح قادة جيشه، ثم خاطبهم قائلاً:

»إذا ثم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التقدير.. فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم ديننا الحنيف نصب عينيه، فلا يصدر عن واحد منهم ما ينافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد، ولا يمسوها بسوء بأذى، وليدعوا القساوسة والضعفاء الذين لا يقاتلون..« [7]

وظل الجند المسلمون طوال الليل يهللون ويكبرون حتى إذا لاح الفجر صدرت إليهم الأوامر بالهجوم، فتسلقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل فج، وأعملوا السيف فيمن عارضهم، ودخلوا كنيسة آيا صوفيا حيث كان يصلي فيها البطريق وحوله عدد من الأهالي، أما قسطنطين فقاتل حتى قتل، فدخل عندئذ محمد الفاتح إلى قصر الإمبراطور، وعمت بشائر الفتح في جميع العالم الإسلامي، إذ كتب الفاتح إلى السلطان المملوكي الأشرف إينال وإلى شريف مكة، كما أرسل إليه بعض الهدايا من الغنائم والأسرى، وأقيمت في مصر الزينات والاحتفالات لمدة ثلاثة أيام ابتهاجاً بهذا الفتح حسب كلام المؤرخ ابن تغري بردي.

بعد ذلك زار السلطان محمد كنيسة آيا صوفيا، وأمر بأن يؤذن فيها بالصلاة إعلاناً بجعلها مسجداً للمسلمين[8]، وأصدر أوامره بمنع كل اعتداء، وبأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة النصارى، بل يضمن لهم حرية عقيدتهم، وحفظ أملاكهم فرجع من هاجر منهم وأعطاهم نصف الكنائس وجمع أئمة دينهم لينتخبوا بطريقاً يكون رئيساً لطائفتهم.

محاولات العرب لفتح القسطنطينية
ولنذكر هنا أن المسلمين حاصروا القسطنطينية إحدى عشرة مرة قبل هذه المرة الأخيرة التي تم فيها فتحها، منها سبعة في القرنين الأولين للإسلام، فحاصرها معاوية بن أبي سفيان في خلافة الإمام علي بين أبي طالب رضي الله عنه سنة 34 هـ (654م)، وحاصرها يزيد بن أبي معاوية سنة 47 هـ (667م)، وحاصرها سفيان بن أوس في خلافة معاوية سنة 52 هـ (672م)، وفي سنة 97 هـ (715م) حاصرها مسلمة بن عبد الملك في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفي المرة السابعة حاصرها أحد قواد الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 182 هـ (798م).

نتائج هذا الفتح
لم يكن فتح القسطنطينية أمراً سهلاً كما يحلو لبعض المؤرخين أن يصوروه بسبب ضعف الدولة البيزنطية، والانشقاق الكنسي في الشرق والغرب، بل الحق يقال: إن الجنود الإسلاميين بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل ذلك، وقاموا بالتضحية والفداء حتى تم لهم النصر المبين، كما أن السلطان محمداً أعدّ كل ما يمكن من الوسائل العسكرية الناجحة، ولم يشك لحظة في ثقته بنصر الله عز وجل حتى تم له ذلك، وصدق المؤرخ الفرنسي الشهير (كارادي فو Carra De Vaux) في قوله بهذا الصدد: »إن هذا الفتح لم يتيسر لمحمد الفاتح اتفاقاً، ولا تيسر بمجرد ضعف الدولة البيزنطية، بل كان هذا السلطان يدبر التدابير الللازمة له من قبل ويستخدم له ما كان في عصره من العلم.« [9]

وكان من آثار هذا الفتح أن اتحد كلا القسمين الجنوبي والشمالي، الآسيوي والأوروبي للدولة الإسلامية العثمانية، وتحولت العاصمة من أدرنة إلى القسطنطينية التي سميت بأسماء عدة: إسلام بول (أي مدينة الإسلام)، ودار السعادة، واسمها الرسمي الآستانة، وفي العهد الكمالي قرر اسمها رسمياً إستنبول ولا تزال.

وأصبحت القسطنطينية بعد ذلك قاعدة للأعمال العسكرية في الشرق والغرب، وامتد النفوذ الإسلامي إلى شواطئ البحر الأسود الشمالي وكييف (حالياً في روسيا) [10] وإلى المجر واليونان وسواحل البحر الأدرياتيكي الشرقية، وإلى شرقي البحر الأبيض المتوسط.

وفاة محمد الفاتح
هكذا وبعد ثلاثين سنة من الحروب المتواصلة للفتح وتقوية الدولة وتعميرها، فاجأ الموتُ السطانَ محمد الفاتح في 4 ربيع الأول 886 هـ/3 مايو 1481م في أُسكُدار في معسكره وبين جنوده، إذ كان قد أعد في هذه السنة إعداداً قوياً لحملة لا يعرف اتجاهها لأنه كان شديد الحرص على عدم كشف مخططاته العسكرية حتى لأقرب وأعز قواده. وقد قال في هذا الصدد عندما سئل مرة: »لو عرفته شعرة من لحيتي لقلعتها.«

وهذه السرّية العسكرية التامة، مع الإيمان الصادق، كانت سر نجاحه في كثير من حملاته وفتوحه، ودفن في الضريح الذي شيده في جامعه بالقسطنطينية المعروف بجامع الفاتح، بينما غلبت روح الكآبة والحزن على الأتراك لفقدهم سلطانهم الحبيب وعمّ العزاء والرثاء في العالم الإسلامي لموت هذا المجاهد المسلم.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 21، رمضان 1402 هـ


--------------------------------------------------------------------------------

[1] أفاض المؤلفون الغربيون في الكلام عن حياته وألفوا في سيرته، من أقدم هذه المؤلفات كتاب المؤلف الفرنسي في القرن السابع عشر الميلادي (جوييه)، وفي اللغة العربية كتابان عنه: »أبو الفتح السلطان محمد الفاتح وحياته« للقاضي التركي علي همت الأفسكي، ترجمة محمد إحسان بن عبد العزيز – القاهرة 1953م ، و»محمد الفاتح« للدكتور سالم الرشيدي.

[2] في الأصل »ألف عام« ولعله غلط في الطباعة. (الفسطاط)

[3] كان مولعاً بقراءة كتب التاريخ والسير ومكرماً للعلماء – انظر كتاب علي همت الأفسكي، وكتاب الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية لطاشكبري زادة.

[4] بدائع الزهور في وقائع الدهور أو تاريخ مصر ج2 ص204. ومثل ذلك ما كتبه ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة ج7 ص 357-437، وكتابه الآخر حوادث الدهور ج2 ص 298-299، ج3 ص 448-449، السخاوي في الضوء اللامع ج10 ص47، والشوكاني في البدر الطالع ج2 ص 269، وابن العماد الحنبلي ج7 ص 344-345.

[5] مدينة قديمة بآسيا على البحر الأسود تبعد 140 كلم عن مدينة أرضروم، ويظن أنها معاصرة لمدينة طروادة الشهيرة.

[6] جنوة مدينة قديمة جداً يقال أنها أنشئت سنة 707 قبل الميلاد واستولى عليها الرومانيون. فتحها شارلمان الفرنسي. نافست جمهوريتي بيزا والبندقية. تقهقرت شيئاً فشيئاً فدخلت تارة في حمى إسبانيا وطوراً في حمى فرنسا. بعد سقوط نابليون الأول سنة 1815م ضمت إلى لومبارديا، وهي الآن تابعة لإيطاليا.

[7]الدكتور علي حسون في كتابه تاريخ الدولة العثمانية ص 300 وما بعدها. ألا يذكرنا هذا بوصية سيدنا الصديق رضي الله عنه لجيوش الفتح الإسلامي التي وجهها؟

[8] الأمير شكيب أرسلان: حاضر العالم الإسلامي ج 1، ص 220، نقلاً عن كتاب : مفكرو الإسلام، تأليف كارا دي فو الفرنسي.

[9] المصدر السابق.

[10] وهي الآن في جمهورية أوكرانيا. (الفسطاط)

د.فالح العمره 28-09-2006 05:12 AM

أمير البحر العثماني بيري رئيس: حياته وأعماله

الجزء الثاني

إعداد: عبد الرحمن كيلاني


--------------------------------------------------------------------------------
ذكرنا في الحلقة السابقة عن بيري رئيس (رحمه الله): حياته وأعماله، وفي هذه الحلقة سنتعرض ما كتبه على طرف خريطته للعالم.

رسم بيري رئيس خريطة العالم عام 1513م بما فيها القارة الأمريكية المكتشفة في وقته، ولكن للأسف الشديد لم يبق من تلك الخريطة سوى الجزء الذي يحوي المحيط الأطلسي وطرفيه الشرقي والغربي. لكن هذا الجزء المتبقى من الخريطة أثار ضجة بين العلماء، فقد ذكر بيري معلومات لم يذكرها أحد ممن زار تلك المناطق الجديدة في ذلك الوقت.

وقد ترجمتُ هنا (عن الإنجليزية) ما قد كتبه بيري على طرف خريطة أمريكا الجنوبية وقد أشرت إلى النص على الخريطة وحصرته في مربع أحمر، مع العلم أن النص العثماني غير متوفر لدي الآن. وما كان بين معقوفتين فهو من وضعي زيادة للتوضيح.

ونتمنى من بعض العلماء العرب المتخصصين في تاريخ الاكتشافات الحديثة أن يكتبوا عن حياة وتجربة وأعمال هذا الرجل العظيم الذي خدم دينه وأمته وقدم للحضارة العالمية تراثاً خالداً.

يقول بيري رئيس رحمه الله:

(هذه الفقرة تتحدث عن كيقية اكتشاف هذه السواحل والجزر.

هذه السواحل تسمى سواحل الآنتيل (آنتيليا)، وقد اكتشفت في سنة 896 هـ. وقصتها على النحو التالي:

كان هناك رجل جنوي يدعى كولومبو هو الذي اكتشف هذه الأماكن. وقد وقع كتاب في يد هذا المدعو كولومبو مذكور فيه أن في نهاية البحر الغربي [الأطلسي] يعني في الناحية الغربية منه، يوجد سواحل وجزر فيها كل أنواع المعادن والأحجار الكريمة.

وكولومبو هذا كان قد درس هذا الكتاب بدقة، وقد حدث الكبار من أهل جنوة بهذه الأمور قائلاً لهم: »تعالوا، أعطوني سفينتين ودعوني أذهب لأجد هذه الأماكن.« فقالوا: »يا للرجل الخاسر! وهل توجد نهاية للبحر الغربي؟ فبخاره كله ظلمات.« وأيقن كولومبو أنه لن تأتيه أية مساعدة من هؤلاء الجنويين.

بعدها انطلق كولومبو مسرعاً إلى ملك إسبانيا وأخبره قصته بالتفصيل، ولكن هؤلاء [الإسبان] أيضاً أخبروه مثل خبر الجنويين. وباختصار فقد ألح كولومبو على هؤلاء [الإسبان] كثيراً، فأعطاه ملك إسبانيا سفينتين مجهزتين بشكل جيد، وقال له: »يا كولومبو، إذا كان الأمر كما تدعي فسنجعلك أميراً لتلك البلاد.«

وكان للغازي كمال [رئيس] عبد إسباني وقد ذكر مرة لكمال رئيس أنه ذهب مع كولومبو إلى تلك البلاد ثلاث مرات. وقال له: »وصلنا أولاً إلى جبل طارق، ومن هناك أبحرنا جنوباً وغرباً ما بين [.. هنا يوجد كلام غير مفهوم في المخطوطة..] وبعد إبحارنا مسافة 4000 ميل رأينا جزيرة أمامنا، ولكن تدريجياً أصبحت أمواج البحر بلا زبد، يعني أن البحر أصبح هادئاً، وحتى نجم القطب الشمالي بقي يقرأ بوصلات البحارة حتى اختفى شيئاً فشيئاً ثم أصبح لا يرى.« وذكر أيضاً: »إن شكل ترتيب الجوم في تلك المناطق يختلف عما هو عليه هنا، ويبدو أنها منسقة بشكل مختلف.« [ويستأنف قائلاً]: »إنهم أرفؤا في الجزيرة التي رأوها من قبل خلال الطريق. وقد جاءهم سكان الجزيرة ورموهم بالنبال ولم يسمحوا لهم بالإرساء وطلبوا منهم معلومات. لقد رماهم بالنبال كلا الجنسين الرجال والنساء، وكانت رؤوس هذه النبال مصنوعة من عظام الأسماك. وكل هؤلاء السكان كانوا يخرجون عراة و [.. كلام غير مفهوم في الأصل..] جداً أيضاً. وبالتالي لم يستطع [كولومبو وأصحابه] أن ينزلوا إلى تلك الجزيرة، ولكن عبروا إلى الجهة الثانية منها، ولقد رأوا زورقاً، وفي الحال هرب ذلك الزورق وتفرق من كان فيه على اليابسة.

أخذ الإسبان الزورق فوجدوا فيه لحم بشر، وقد ظهر أن هؤلاء الناس كانوا من الأمة التي تذهب من جزيرة إلى أخرى تصطاد البشر وتأكلهم. ويقول [العبد الإسباني] أيضاً أن كولومبو رأى بعدُ جزيرة أخرى، فاقتربوا منها، وذكروا أنهم رأوا فيها أفاعٍ ضخمة. وقد أعرضوا عن النزول إلى تلك الجزيرة وبقوا هناك [في سفنهم] لمدة 17 يوماً. وعندما رأى أهل الجزيرة أنهم لا يأتيهم أذى من ذلك القارب [قارب كولومبو] اصطادوا سمكة وأحضروها لهم. لقد شعر الإسبان بالسرور وأعطوا هؤلاء القوم خرزات من زجاج. [يقول بيري]: ويبدو أن كولومبو قد قرأ في الكتاب أن الخرز الزجاجي ذو قيمة في هذه المنطقة. وذات يوم رأى كولومبو وأصحابه ذهباً يحلق معصم امرأة [من أهل الجزيرة] فأخذوا [منها] الذهب وأعطوها الخرز، وطلبوا منهم أن يأتوا بمزيد من الذهب وسوف يأتوهم بمزيد من الخزر. فذهب القوم وأحضروا مزيداً من الذهب. يبدو أن في جبالهم مناجم ذهب. وفي يوم آخر رآى [كولومبو ورجاله] لؤلؤاً في أيدي رجل، فأعطوه خرزاً وسألوهم أن يأتوا بمزيد من اللؤلؤ. يوجد اللؤلؤ على شواطئ هذه الجزيرة في موقع على عمق قامة أو قامتين.

[وفي طريق عودته] حمل كولومبو في تلك السنة على متن سفينته إلى ملك إسبانيا اثنين من السكان الأصليين مع كثير من جذوع الشجر.

وبما أن كولومبو لا يعرف لغة هؤلاء القوم فقد كان يتكلم معهم بالإشارة. وبعد هذه الرحلة الأولى أرسل ملك إسبانيا إلى [أهل الجزيرة المكتشفة] شعيراً وقسيسين علّموا أهل هذه الناحية كيف يزرعون ويحصدون وحولوهم إلى دينهم [الكاثوليكي]. لم يكن [لهؤلاء القوم] أي دين من أي نوع. كانوا يمشون عراة، ويبيتون هنا كالدواب.

والآن أصبحت هذه الأماكن مفتوحة ومشهورة للجميع، وإن أسماء الأماكن هنا التي تعرف بها في تلك الجزيرة هي الأسماء التي أطلقها عليها كولومبو، [مع العلم] أن كولومبو كان أيضاً فلكياً عظيماً.

إن السواحل والجزر الموجودة في هذه الخريطة [يقصد خريطته] مقتبسة من خريطة كولومبو.) انتهى كلام بيري رئيس رحمه الله.

http://www.fustat.com/images/piri_map.jpg

جزء من خريطة بيري رئيس


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 12:02 AM .

مجالس العجمان الرسمي