ثق بالذي سواك من عدم
قال محدث: قصدت منزل ابن بكار المرواني في أشبونة ونقرت الباب، فنادى: من هذا؟ فقلت: رجل ممن يتوسل لرؤياك بقرابة، فقال: لا قرابة إلا بالتقى، فإن كنت من أهله فادخل، وإلا فتنح عني.
فقلت: أرجو في الاجتماع بك والاقتباس منك أن أكون من أهل التقى، فقال: ادخل، فدخلت عليه، فإذا به في مصلاه، وسبحه أمامه، وهو يعد حبوبها ويسبح، فقال لي:أمهلني حتى اتمم وظيفتي من هذا التسبيح، ثم أقضي حقك، فقعدت إلى أن فرغ. فلما قضى شغله عطف علي، وقال: ما القرابة التي بيني وبينك؟ فانتسبت له، فعرف أبي، وترحم عليه، وقال لي: لقد كان نعم الرجل، وكان لديه أدب ومعرفة، فهل لديك أنت مما كان لديه شيء؟ فقلت له؟ إنه كان يأخذني بالقراءة، وتعلم الأدب، وقد تعلقت من ذلك بما أتميز به؟ فقال لي: هل تنظم شيئاً؟ قلت: نعم وقد ألجأني الدهر إلى ان أرتزق به فقال: ياولدي، إنه بئسما يرتزق به، ونعم ما يتحلى به إذا كان على غير هذا الوجه، ولكن تحل الميتة عند الضرورة! فأنشدني- أصلحك الله- مما على ذكرك من شعرك. فطلبت بخاطري شيئاً أقابله به مما يوافق حاله، فما وقع لي إلا فيما لا يوافقه من مجون ووصف خمر وما أشبه ذلك. فأطرقت قليلاً، فقال: لعلك تنظم، فقلت: لا، ولكني أفكر فيما أقابلك به، فقولي أكثره فيما حملني عليه الصبا والسخف، وهو غير لائق بمجلسك. فقال: أنشدني ما وقع لك غير متكلف، فلم يمدني خاطري إلا بشعر أمجن فيه فقال: أما كان في نظمك أطهر من هذا؟ فقلت له: ما وقفت لغيره فقال: لا بأس عليك، فأنشدني غيره، ففكرت الى ان انشدته قولي:
ولما وقفت على ربعهم= وأرسل دمعي شرار الدموع= فقام عدولي لما رأى= فقلت له:هذه سنة= فرأيت الشيخ قد اختلط، وجعل يجيء ويذهب، ثم أفاق، وقال: أعد بحق آبائك الكرام فأعدت فأعاد ماكان فيه، وجعل يردد فقلت له لو علمت ان هذا يحركك ما أنشدتك إياه فقال: وهل حرك مني إلا خيراً وعظة يا بني: إن هذه القلوب المخلاة لله كالأوراق التي جفت، وهي مستعدة لهبوب الرياح، فإن هب عليها أقل ريح لعب بها كيف يشاء، وصادف منها طوعه. فأعجبني منزعه، وتأنست به؟ ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء من الانكماش، بل مازال يحدثني بأخبار فيها هزل، ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له، ولا أعلم أكثره. فلما كثر تأنسى به، أهوت إلى يده كي اقبلها فضمها بسرعة، وقال: ما شأنك؟ فقلت: أرغب في أن تنشدني شيئاً من نطمك، فقال: أما نظمي في زمان الصبا فكان له وقت ذهب، ويجب للنظم أن يذهب معه، وأما نظمي في هذا الوقت فهو فيما أنا بسبيله، وهو يثقل عليك، فقلت له: إن انصف سيدي انشدني من نظم صباه، ومن نظم شيخوخته، فيأخذ كلانا بحظة فضحك، وقال: ما أعصيك وأنت ضيف، ولك حرمة أدب، ووسيلة قصد، ثم أنشدني وقد بدا عليه الخشوع وخنقته العبرة:
ثق بالذي سواك من= وانظر لنفسك قبل قرع= واحذر- وقيت- من الورى= قد كنت في تيه إلى= فاقتدت نحو ضيائه = لكن قناديل الهوى= فو الله لقد أدركني فوق ما أدركه، وغلب على خاطري بما سمعت من هذه الأبيات، وفعلت بي من الموعظة غاية لم أجد منها التخلص إلا بعد حين، فقال لي الشيخ: إن هذه يقظة يرجى معها خيرك والله مرشدك ومنقذك، ثم قال لي: يابني، هذا ما نحن بسبيله الآن، فاسمع ماقلته فيما مضى، والله ولي المغفرة، وانشد:
أطل عذار على خده= وقالوا: غراب لوشك النوى= وناديت قلبي أين المسير= فقال: ولو رمت عن حبه= فسمعت منه ما يقصر عنه صدور الشعراء، وشهدت له بالتقدم، وقلت له: لم أر أحسن من نظمك في جد ولا هزل. ثم قلت له: أأرويه عنك؟ فقال: نعم ما أرى فيه بأساً بعد اطلاع من يعلم السرائر على مافي الضمائر، فقلت له: فإن اسبغت على النعمة بزيادة شيء من هذا الفن فعلت ما تملك به قلبي اخر الدهر. فقال يابني، لا ملك قلبك غير حب الله تعالى، ثم قال: ولا أجمع عليك رد قول ومنعاً، ثم أنشد:
أيها الشادن الذي= لحظ ذاك الجمال يط= وعليه احوم دهري= كلما رمت زورة= فمازج قلبي من الرقة والطاقة لهذا الشعر ما أعجز من التعبير عنه، فقلت له: زدني زادك الله خيراً، فأنشدني:
ما كان قلبي يدري قدر حبكم= وكنت أحسب أني لا أضيق به= ثم استمرت على كره مريرته= عساكم أن تلافوا باللقاء رمقي= ثم قال:حسبك، وإن كلفتني زيادة، فالله حسبك، فقلت له: قد وكلتني إلى كريم غفور، فبالله إلا مازدتني، وأكببت لاقبل رجليه، فضمها وانشدني شعراً رقيقاً، ملأ سمعي عجائب، وبسط أنسي، وكتبت كل ما أنشدني، ثم قلت له: لولا خوفي من التثقيل عليك لم أزل استدعى منك الإنشاد حتى لا تجد ما تنشده. فقال: إن عدت إلى هنا تذكرت وأنشدتك، فما عندي مما أضيفك به غير ما سمعته وما تراه. ثم قام وجاء من بيت اخر في داره بصحفة فيها حساً من دقيق وكسور باردة، فجعل يفت فيها، ثم أشار إلى أن أشرب، فشربت، ثم شرب إلى أن اتينا على اخرها، ثم قال: هذا غداء عمك نهاره، وإنه لنعمة من الله تعالى، استديم بشكرها انصالها. فقلت له: ياعم، ومن أين عيشك؟ فقال، عيشتي بتلك الشبكة أصطاد بها في سواحل البحر ما أقتاب به، ولي زوجة وبنت يعود من غزلها مع ذلك ما نجد به معونة، وهذا مع العافية والاستغناء عن الناس خير كثير. فتركته، وفي نيتي أن أعود إلى زيارته بعد أيام خوف التثقيل، فعدت إليه بعد ثلاثة أيام، فنقرت الباب، فكلمتني المرأة بلسان عليه أثر الحزن، وقالت: إن الشيخ قد خرج إلى الغزو، وذلك بعد انفصالك عنه بيوم، ناله كالجنون، فقلت له: ما شأنك؟ فقال: إني اريد ان اموت شهيداً وهؤلاء جيران لي قد عزموا على الغزو، وأنا ماض معهم! ثم احتال في سيف ورمح، وتوجه معهم، وقال: نفسي هي التي قتلتني بهواها، أفلا أقتص منها فأقتلها! فقلت لها: من خلف للنظر في شأنكم؟ فقالت: ليس ذلك لك، فالذي خلفنا له لانحتاج معه إلى غيره، فأدركني من جوابها روعة، وعلمت أنها مثله زهداً وصلاحاً. فقلت: إني قريبه، ويجب على أن أنظر في حالكم بعده، فقالت: ياهذا، إنك لست بذي محرم، ولنا من العجائز من ينظر لنا، ويبيع غزلنا، ويتفقد احوالنا، فجزاك الله عنا خيراً. انصرف عنا مشكوراً! فقلت لها: هذه دراهم خذوها لتستعينوا بها، فقالت: ما اعتدنا أن نأخذ من غير الله، وما كان لنا أن نخل بالعادة. فانصرفت نادماً على ما فاتني من الاستكثار من شعر الشيخ. ثم عدت بعد ذلك لداره سائلاً عنه، فقالت لي المرأة: انه قد قبله الله تعالى، فعلمت أنه قتل فقلت لها: أقتل؟ فقرأت: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل احياء عند ربهم يرزقون}. فانصرفت معتبراً من حاله. |
تسلم يا اخوي فزاع على الموضوع الاكثر من رائع
|
ومن قال سالم أخوي منصور
لا هنت على المرور والتعليق الطيب يالسنافي. |
موضوع قيم تسلم يا القرم
|
ومن قال يسلم أخي أبو منيف
لا هنت على المرور الكريم والرد الطيب. |
موضوع رائع اخي الفاضل فزاع جزيت خيرا على ما قدمت
|
وجزاك الله بالمثل أخي العزيز
سهيل لا هنت على المرور والرد الطيب. |
لاهنت يافزاع وبيض الله وجهك
على الاختيار الجميل والرائع تحياتي لك |
الله لا هان طاريك يا ابو محسن
لا هنت على المرور والرد الطيب. |
الله يعطييك العافيه يابو ساري على هذا الموضووع الجميييل الله يوفقك لما فيه الخيير تحيياتي لك يالسنافي |
الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 08:57 PM . |
مجالس العجمان الرسمي