مجالس العجمان الرسمي

مجالس العجمان الرسمي (http://www.alajman.ws/vb/index.php)
-   المجلس العــــــام (http://www.alajman.ws/vb/forumdisplay.php?f=6)
-   -   حياة أميرة عثمانية في المنفى : كينيزي مراد"17" (http://www.alajman.ws/vb/showthread.php?t=80506)

محمود المختار الشنقيطي 19-06-2019 07:14 AM

حياة أميرة عثمانية في المنفى : كينيزي مراد"17"
 
حياة أميرة عثمانية في المنفى : كينيزي مراد"17"

مرحبا بكم في الهند .. التي وصلت إليها سلمى .. (أين هو إذن قطار المهراجا؟
ويبدو لسلمى أنها ما تزال تمشي منذ ساعات في هذا العفن المشمس،وفي هذا الصخب من الألوان والأصوات وفي هذه الفوضى الغريبة التي تهدد في كل لحظة أن تودي بها،لولا هذا الحاجز القوي،من حولها،والمؤلف من حوالي عشرة حراس في غاية الضخامة،ومن ذوي الشوارب أيضا.
ونحن في شهر آذار / مارس / والجو حار،ومحطة بومباي تشبه مركز ألعاب فروسية،في حالة الجنون،أكثر منها محطة أولى في شبكة السكة الحديدية التابعة للإمبراطورية البريطانية الفائقة العظمة،فهناك تحت القباب القوطية بين تيجان الصلصال،الرملي،والأعمدة الفكتورية المنحوتة نحتا يملؤها بالأزهار،جمهور صاخب يزدحم،صاما أذنيه عن النداءات الخنّاء للباعة الصغار،باعة الحمص،وغير مبالين بالروائح الكريهة لأطواق الياسمين المخلوطة ببقايا العرق والبول.
وتشعر سلمى بالاختناق،ولكنها لا تريد أن تكون في أي مكان آخر،مهما كان الثمن : هاهو إذن وطنها الجديد،وبعيدا جدا تقوم أبهاء الرخام الأبيض و نوافير الماء في فندق تاج محل (..) لقد شعرت بالاضطراب فالتفتت إلى رشيد خان،الرجل الثقة لدى الراجا،والذي جاء لاستقبالها لدى وصولها من بيروت،كأنما هي تسأله،ولكنه ابتسم مطمئنا،أمام سؤالها الصامت (المضمر) ثم كيف لها أن تصوغ سؤالا مطلقا كهذا؟
وقال :
- لا تخافي شيئا،يا صاحبة السمو،فالهند،صادمة لكل قادم جديد،ستتعودين.
ثم أضاف،كأنما يقول لنفسه :
- بمقدار ما يستطيع الإنسان التعود على ما لا يقبل التفسير .. وفي آخر الرصيف،هنالك حراس مدججون بالسلاح بلباسهم الرسمي الأزرق،الذي يحمل شعار دولة بادلبور،وهم يقومون على حراسة عربة قطار خاصة جاءت من أجلهم،وكان حولها عناقيد بشرية تحاول عبثا أن تأخذها عنوة.
واستولت على سلمى دهشة،كبتتها : فقد كانت تنتظر قطارا كاملا،كقطار ابنتي عمها نيلوفر و دورو شيهفار،زوجتي أميري حيدر آباد،ولم تعد تندهش من أن يخبرها رشيد خان بأن أمامها ثلاثة أيام وليلتين من السفر،ضرورية لاجتياز ثلاثة آلاف كيلو ،(..) وبصورة غامضة بعض الشيء،شعرت بإهانة وُجهت إليها،كما حدث البارحة،عندما لاحظت لدى وصولها أن الراجا لم يكون موجودا. (..) أما داخل العربة،فإنهم يتمايلون،ويترجحون. وها إن الخدم المعممين يندفعون من مرقاة العربة،متطلعين بفقدان صبر إلى رؤية رانتهم {في الهامش : الراني،أو راني : هي زوجة الراجا في لغتهم.} الجديدة. ومن خلفهم تتكاثر الأصوات الحادة لنساء يكدن يختنقن من الأغطية السوداء التي تلفهن وتحجبهن.
- يا صاحبة السمو،هؤلاء هن حشمك. وقد حرص الراجا على أن يأتين ليكن في مرافقتك .. ولكن ليس لهن الحق بالخروج،فلنصعد،أرجوك،إن السفر بادئ عما قريب.
وتتنفس سلمى في ظل العربة،على حين أن القطار يهتز . أما المكان فمريح : ومغطى بخشب الأكاجو الذي رصع بنحاس متألق وما صبيح من الكريستال. أما المقاعد المخملية والستائر الحريرية الكثيفة فتبدو وكأنها مصنوعة لإنكلترا القاتمة أكثر مما رُوعي فيها هذا الطقس الشديد الحرارة. (..) وأما الفتيات فهنالك نصف دزينة من النسوة اللواتي افترشن غطاء أبيض،مُدّ على ظاهر الأرض،وأخذن يتفحصن الراني،ويتبادلن التعليقات بصوت أجش بعض الشيء. (..) وبدت حناجرهن،وآذانهن،والسواعد مغطاة بالذهب. وكن ينظرن بدهشة غير راضية إلى يدي سيدتهن العاريتين،وإلى عنقها المحلى بعقد من دور واحد من اللآليء.
و تبتسم سلمى،المندهشة بعض الشيء : فكيف تشرح لهؤلاء أن مثل هذا التراكم،لديهن ... ولكنهن لا يدعن لها المجال. وبدورة واحدة،خلعن عليها،هذه أساورها،وهذه حلق أذنيها،وهاهي الآن مزينة كوثن معبود.
- روبسرات، روبسرات .. أي هي جميلة وجد جميلة.
وهذه هي الكلمة الوحيدة من اللغة الأردية التي تفهمها لأنها سمعتها تعاد مئة مرة،على طريقها،منذ وصولها. (..) وعلى عتبة العربة،كان رشيد خان واقفا : وكان في عينيه لوائح إعجاب،سرعان من احتجب. وبكل احترام يسأل :
- هل ترغبين بشيء،يا صاحبة السمو. فمرافقتك السيدة غزاوي،و زينل آغا يستريحان في العربة المجاورة. وهما يريدان أن يعرفا ما إذا كنت بحاجة إلى شيء ما،منهما ..
- شكرا خان صاحب.(..) - إني لا أرغب،إن كان هذا ممكنا،إلا في شيء من الهدوء.
ذلك أن غرائب هؤلاء السيدات قد أرهقتها،وهي تطمح إلى أن تبقى وحدها. ولكن أنى لها أن تقول لهن ذلك بدون أن تجرحهن؟ فيبتسم رشيد خان.
- سأقول لهن أنك بحاجة إلى أن تنامي. (..) كم هو مسكين رشيد خان،لقد كان لطيفا،وغريبا إلى حد كبير. وعندما وصلت جاءها محملا بباقة ضخمة من الزهر،ثم أسمعها دفعة واحدة جملة من التمنيات،والمباركة بالوصول بالسلامة،باللغة التركية،وكان واضحا أنه حفظها عن ظهر قلب،لهذه المناسبة. ولكن بدلا من "التحيات والاحترامات"فإن الذي وضعه على قدمي سلمى هو قلبه الملتهب،وعندما لاحظ تعابير الدهشة على الفتاة،أدرك فورا أن أصدقاءه لعبوا معه هذه اللعبة. فاحمرت وجنتاه بقوة جعلتها تضحك،وذاب الثلج بينهما،ومنذ تلك اللحظة أصبحا صديقين. (..) سنصل لو كنوف بعد ساعتين. (..) وقلما ترددت أمام الفساتين المنشورة بمقدار ما ترددت هذه المرة،وكل ذلك لكي تتعجب أخيرا وتقول :
- ولكن أين عقلي،إن الساري هو ما يجب أن ألبسه! (..) وفجأة ثارت ضجة في العربة،أو هو أمير؟ وشعرت بأن قلبها يتوقف. ولكنه لم يكن إلا رشيد.
- لحظات أخرى أيضا،يا صاحبة السمو،ريثما يهيئون البردة {في الهامش : البردة : هي ستارة تفصل النساء عن الرجال. ولكنها أصبحت تعني كون الإنسان محبوسا أو سجينا.}. - ال : ماذا؟
ولا يجيب الرجل،وكأنه مزعوج. والسيدة غزاوي تتمتم بجانبها أن هذا كله غير طبيعي،فتسكتها سلمى.(..) ولكن هاهن النساء الهنديات المرافقات،يظهرن من جديد : أما هنا فإنهن يستعدن كل حقوقهن التي مورين بها بشكل مخجل،خلال هذه الرحلة،وكوجوه الراهبات القديمات اللواتي يستقبلن،بكثير من الطيب،راهبة جديدة،يمددن لسلمى جبة سوداء طويلة (كاغول) شبيهة بتلك التي تغطي أجسامهن من الرأس إلى القدمين .. فاندهشت سلمى مما يفعلن،وسألتهن بنظراتها. ولكنهن يحطن بها،ولا يتركنها.
- وتصرخ هي : لا ،لا!!
ولما كانت صرختها حادة،فقد انطلقت بقوة. فاندفع رشيد خان إليها بسرعة. وكانت سلمى في زاوية العربة،ترتجف،من شدة الاستنكار،وتحاول تمزيق هذا الحجاب إربا إربا. وكانت النسوة اللواتي يُحطن بها يتشاورن في نوع السلوك الذي يجب أن يلجأن إليه. أما السكرتير،فقد وجد أكبر العناء في الاحتفاظ ببرودة دمه أمامهن. لقد تمت الرحلة على ما يرام،إلا أن هؤلاء الغبيات على وشك أن يفسدن كل شيء! فماذا سيظن القصر إذا وصلت الخطيبة باكية!
ومع أن الرجل في العادة مجامل جدا،فقد أمرهن،مع ذلك،بصوت قاطع بالخروج. وبعد شيء من التمرد الشكلي،عدن فخرجن،وفي ذواتهن أنهن جرحن،أو جرحت كرامتهن.(..) - أين هو الراجا؟
ماذا؟ هوزرو{صاحبة الشرف -محمود} – وبدت المرأة القصيرة،وكأنها منزعجة – سيدتي،لن تستطيعي رؤيته قبل الزواج. ولكن اطمئني – ذلك أنها لاحظت على الفتاة سيماء خيبة الأمل – فحفلات الزواج تتم بسرعة كبيرة،خلال أسبوع واحد تماما. وبانتظار ذلك،ستعيشين في القصر لدى الأخت الكبرى لسيدنا،الراني عزيزة.
وفي إحدى زوايا السيارة الضخمة (إيزوتا فراشيني) شعرت سلمى،المجردة من كل قوة،بأنها لم تعد تسيطر على خيبة آمالها. ومن كل السيارة الفخمة البيضاء،حتى العادمات والأضواء المذهبة،لم تلاحظ،بصورة خاصة،إلا الستائر التي تغطي النوافذ،تماما كما كانت الحال في إستانبول المغلقة،أيام طفولتها. وقليلا فقليلا كانت تشعر بأن الغضب يشتد : وهذا الذي كانت تأباه في الثامنة عشرة من عمرها،يجب عليها أن تقبله الآن،بعد سنوات الحرية هذه،ولا مجال للبحث فيه،ولكن هذا كله ليس سوى إنذار كاذب : إذ لقد رأت بنات أعمامها،نيلوفر ودورو شيهفار،في صورهما،كل يوم في الصحف،وهما تدشنان المعارض،أو ترأسان بعض حفلات العشاء،ولم تحلم بهذا حلما. فتحاول أن تطمئن نفسها،وسد المنافذ على الرعب الذي بدأ يستولي عليها. إلا أنها تجد صعوبة في التنفس. ولا تملك أن تمتنع عن تذكر نظرة الإشفاق التي كانت تلمحها في عيني رشيد خان،وصمته المتلجلج،تجاه بعض أسئلتها. فلأول مرة،منذ وصلت إلى الهند،تشعر بأنها أخطأت خطأ فاحشا.){ص 357 -367 }.
بدت لي عبارة (يجب عليها أن تقبله الآن،بعد سنوات الحرية هذه) لا فتة للنظر .. ولعلها تخطر في بال كل من عاشت في الغرب فترة – للدراسة أو غيرها – وحين تعود إلى وطنها .. فتستقبلها العباءة .. ربما تتمتم لنفسها قائلة :
يجب علي أن تقبله الآن،بعد سنوات الحرية!!

إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.
س / محمود المختار الشنقيطي
س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب.


الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 06:23 PM .

مجالس العجمان الرسمي