مجالس العجمان الرسمي

مجالس العجمان الرسمي (http://www.alajman.ws/vb/index.php)
-   مجلس الدراسات والبحوث العلمية (http://www.alajman.ws/vb/forumdisplay.php?f=41)
-   -   التجربة الإبداعية دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع. ( دراسة ) (http://www.alajman.ws/vb/showthread.php?t=2171)

ابومحمد الشامري 01-04-2005 03:16 PM

التجربة الإبداعية دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع. ( دراسة )
 

( التجربة الإبداعية دراسة في سيكولوجية الاتصال والإبداع ــــ إسماعيل الملحم )

( تمهيد )

ليس ما يجمع هذه الأبحاث ما يمت إلى النقد بقدر ما يحاول الولوج إلى العملية الإبداعية في مجالات فنية متنوعة. وإذ تقترب أحياناً من مثال أو حادثة تتعلق بميدان من ميادين العلوم الأساسية يكون القصد توسيع في فضاء الإفصاح عن عمليتي الإبداع والاتصال وهما العمليتان اللتان تأخذان القسط الكبير من اهتمام الباحثين في مجالات العلوم الإنسانية والسلوكية، كونهما تستأثران في زمننا هذا، زمن التفجر المعرفي، بعمليات التجريب ويعدهما المهتمون بالقضايا العامة الاجتماعية والسياسية المجال الأهم لمواكبة التغيرات المذهلة في مختلف جوانب المعرفة البشرية.‏

وليس –ما سبق- فحسب، وإنما الاهتمام بهذين الموضوعين يتعلق بجوانب وجدانية وأخلاقية.. فالإنسان الذي تستهلك طاقاته اهتمامات العيش في مجتمعات إنسانية تنساق، بشكل أو بآخر نحو نزعات استهلاكية، ليس كالفن ما يعيد لـه إنسانيته التي يكاد التطور التكنولوجي يأتي عليها. كما أن حمى الاستهلاك وخضوع المجتمعات البشرية على نحو من الأنحاء لما بات يعرف باقتصاد السوق قد أخذ برقاب البشر نحو جعلهم سلعاً ويعامل الإنسان في هذا النظام معاملة السلعة.. والأدلة على ذلك ليست قليلة فبحسب سوق العمل يتلون الإنسان الذي يعرض نفسه سلعة.‏

فالفن إنتاجاً وتواصلاً بين ذوات إنسانية هو صمام أمان يقي الشخصية من الهبوط إلى مستوى الحيوان بل مستوى الأشياء. فما كان يسمى تشيؤ البشر صار واقعاً يقرع الأجراس لإنذار من لديه أذنان ليسمع بأن هاوية من التردي الأخلاقي تنزلق نحوها البشرية.‏

فممارسة الفن إنتاجاً وتقبلاً قد تحمي البقية الباقية من إنسان عوالم التكنولوجيا وقيادة منظومات الهيمنة على مستوى المعلومة والسلعة والسيطرة المالية.‏

ابومحمد الشامري 01-04-2005 03:17 PM



( الإبداع والاتصال )

(1) ما الإبداع؟‏


يصدر الإبداع –كما يقول روجرز – عن ميل في الإنسان ليحقق ذاته ويستغل أقصى إمكاناته. وعندما يتفتح ذهن الإنسان أمام خبراته كافة يصبح سلوكه سلوكاً إبداعياً، ويصبح بناءً. هل نستطيع وصف الإبداع وصفاً مقنعاً مهما امتلكنا من القدرات المعرفية؟ يجيب (ويليامز): الإبداع أمر يعزّ وصفه.. ففي لحظات ما يشعر المرء خلالها أن الفعل الإبداعي صار طوع بنانه وقد هبطت على ذهنه أو شعّ ذهنه بشرارة أو قبس منه.. وفجأة يخبو كل شيء.. وفي أحيان يبدو له أن اقتناص الإبداع سهل وفي المتناول، لكن هذه السهولة لا تلبث أن تصبح أثراً بعد عين فتتبدد على نحو يعصى على الفهم.‏

إن الاهتمام بالإبداع كقدرة عقلية عالية إن في مجالات العلم والتكنولوجيا وإن على المستوى الفني والجمالي مطلب إنساني وضرورة ملحة في عالم سريع التغير. وتسعى باستمرار مراكز البحث والدراسات وأشكال التدريب والتمرين لاكتشاف الطاقات الإبداعية وتربيتها. لكن ما يمكن بوساطته أن نضع تحديداً للإبداع والفعل المبدع يبقى سراباً فسرُّ العبقرية يبقى غامضاً.‏

يفترض في المبدع أن يمتلك نوعاً من التفكير المنطلق المتشعب، وبناء على هذه الفرضية فإن العديد من الدراسات ينفي الارتباط العالي بين الإبداع والذكاء كما يمكن أن يظن كثير من الناس الذين يخلطون بين هاتين القدرتين المعرفيتين.‏

لهذا فإن نتائج روائز الذكاء لا تعطي إجابات مفيدة في هذا الشأن. لأن المبدع عامة قلما يلتزم في إجاباته ببنود الرائز.. فإجاباته تجنح نحو الجدّة والابتكار وتبتعد عن المنوالية التي تفترضها مقاييس الذكاء.. فالإبداع ليس مشروطاً بنسبة الذكاء العالية. كما يقول (فرانك بارون) عالم النفس الشهير:‏

"ليس شرطاً أن تكون نسبة ذكائك مرتفعة كي تكون ثاقب الحدس. إذ أن الحدس يعتمد على الإحساس والمجاز أكثر من اعتماده على قدرة الاستدلال والقدرة على الفهم اللفظي وهما مما تعتمده بشكل رئيسي مقاييس الذكاء"(1).‏

(2) سمات المبدع:‏

يركّز الدارسون في محاولاتهم لتحديد شخصية المبدع على عدد من السمات النفسية، لكنهم في تركيزهم هذا لا يقيمون حدوداً فاصلة بين سمة وأخرى، فهذه السمات مترابطة مع بعضها وغير متمايزة، على أنه ليس شرطاً ليكون الشخص مبدعاً أن يحوز عليها جميعها.‏

إلا أنه كلَّما زاد نصيبه منها كان أكثر إبداعاً وتميزاً. وتتمثل هذه السمات في النزوع القوي إلى الجماليات الشخصية، ولب التحدي غالباً ما يكون في التعامل مع متاهة الغوامض في سبيل صياغة هوية جديدة أو كيان جديد، هذا ما يمكن أن نعدّه سمة أولى من سمات المبدع.‏

أما السمة الثانية فتتمثل في القدرة العالية على اكتشاف المشكلات.‏

ومن جهة ثالثة فالحراك العقلي سمة من سمات المبدع يتمثل بالميل القوي إلى التفكير بمنطق المتضادات والمتناقضات عندما يفكر المبدع بالبحث عن مركب جديد للأفكار.‏

والسمة الرابعة تكون في الاستعداد للمخاطر وفي البحث الدؤوب عن الإثارة، ويرتبط بهذه السمة ما يسمى بتقبّل الفشل، وكلما ازداد إنتاج المبدع ازدادت لديه الفرص لإبداع شيء جديد.‏

السمة الخامسة تكون في إشادة المبدع في عمله عالماً خاصاً، لا حقيقة فيه ويشارك في النشاط لذاته وليس من أجل التقدير.‏

ويبقى السؤال قائماً هل استطعنا بما ذكر أعلاه أن نصف المبدع وصفاً على درجة عالية من الدقة وأحطنا بسمات شخصيته إحاطة وافية؟‏

إن عملية الإبداع من أكثر العمليات المعرفية والنفسية تعقيداً، وليس من اليسير أن يصل البحث فيها إلى تعريف محدد جامع مانع..!‏

وسيظل الإبداع ذا طبيعة خلافية مفتوحاً كعملية للدراسة والبحث. فهو من حيث المكانة يمثل أعمق وأوسع وأعقد نوع من أنواع التفكير البشري.‏

(3) عمليات الاتصال‏:

لخّص (لا سويل) عملية الاتصال بالعبارات التالية:‏

"من يقول؟ ماذا يقول؟ لمن يقول؟ لماذا يقول؟‏

ليست عملية الاتصال بالعملية البسيطة مهما بسطناها، وإنما هي عملية مركّبة ومعقدة. فهي من حيث المبدأ علاقة أو حدث تنطوي أو ينطوي على عناصر، إن صحّ القول، المرسل، الرسالة، المرسل إليه. وأي رسالة تتضمن هدفاً أو ترمي إلى غاية وتحقيق غرض. وهكذا تكون هذه العلاقة مكوّنة من أربعة أركان وليس من ثلاثة.. ثم إن ما بين هذه الأركان ليس بالعامل الثابت وإنما هي وما بينها تتحركان في بيئة محددة تمثل الثقافة إحدى سماتها أي أن هذه الأركان تشترك مع بعضها بخصائص معينة أهم سماتها التغيّر وهي ذات طبيعة ديناميكية تؤثر وتتأثر ببعضها في سياق اجتماعي وفي ظروف محددة، أي أنها لا تحدث في فراغ.‏

ويتوقف فهم عملية الاتصال على فهم مادتها أي على فهم الرسالة من حيث محتواها وأهدافها وهي تتكون من فكرة أو أفكار، أو صورة.. وهي تتأثر بطريقة صوغها. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد فالمرسل هو إنسان أو آلة أو برنامج أو مبرمج ومن حيث هو كذلك فإن طبيعته تؤثر في الرسالة ذاتها فإن كان إنساناً محدداً أو قائماً على برنامج ما فإن لبنيته الشخصية (العقلية والنفسية والجسدية، حالة النطق مثلاً) أثرها في الرسالة وبالتالي بالعملية ذاتها.. وكذلك الأمر بالنسبة للمتلقي أو المرسل إليه.‏

هذه الأمور تتفاعل مع بعضها فتنتقل بالعملية الاتصالية من مستوى إلى مستوى آخر أعلى أو أدنى..‏

وفي عملية الاتصال نميز عمليات أخرى تشكل كل منهما عملية اتصالية تتداخل مع غيرها من العمليات حيناً وتستقل عنها أحياناً، من ذلك:‏

1-الاتصال عملية بيولوجية: يتطلب استقبال الرسالة وإرسالها عملية بيولوجية لدى كل من المرسل والمتلقي. وهي تتصل بأنظمة الجسد المتداخلة والمتفاعلة. وتتعلق إلى حدٍ كبير وأساسي بالجهاز العصبي وبالحواس فكل عملية اتصالية تتضمن أو يمكن تحليلها إلى ميزات واستجابات، هذا من ناحية،‏

ومن ناحية أخرى تتجلى عمليات الاتصال من الناحية البيولوجية فيما يسمى تواصل الأجيال، (جيل يتواصل مع ما يليه أو ما سبق عن طريق عملية التكاثر) والذي يحدث عند الإنسان كما غيره من مخلوقات أخرى باتصال الذكر والأنثى في عملية جنسية ينتج عنها اندماج الخلية الذكرية بالخلية الأنثوية.‏

ومن أشكال الاتصال البيولوجي الأخرى ما يتجلى في اتصال بين أفراد النوع الواحد من الحيوانات أو الاتصال بين أنواع مختلفة عن طريق الرائحة أو الصوت أو الرؤية.. إلخ.‏

2-الاتصال عملية سيكولوجية: ما العلاقات القائمة بين الأفراد أو الجماعات إلا شكل من أشكال الاتصالات وترمي هذه العلاقات إلى إحداث تغيرات في سلوك المتلقي، كما أنها تضطر المرسل أيضاً إلى إحداث تغيرات في سلوكه. وعلى هذا يكون الاتصال الناجح –أي القادر على تحقيق أهدافه- هو الذي يستطيع أن يجعل المثيرات قادرة على إحداث الاستجابات المرغوب فيها. وهذا لا يتم إلاَّ إذا روعي في العملية الاتصالية ما عند المتلقي من دوافع وحاجات.‏

ويلتقي الاتصال من حيث الهدف بالتعلم، فكلاهما يرمي إلى إحداث تغير في سلوك المتلقي، ويتمان من خلال عمليات التفاعل بين جهتين (مرسل متلقٍ في حالة الاتصال، معلم –متعلم في حالة التعلم).‏

وهكذا ينظر إلى التعلم نفسه على أنه شكل من أشكال الاتصال، أو أنه عملية اتصالية.‏

3-الاتصال عملية اجتماعية: تبرز نظريات الاتصال المختلفة دور الظروف الاجتماعية التي يتحقق فيها صوغ الرسالة وتحديد أهدافها وكذلك قبولها أو رفضها.‏

ويتعلق الأمر بأهمية الاتصال في حياة الجماعة وتعبيره عن اتجاهاتها والقيم السائدة عند المتلقي.‏

ولا تخفى الأهمية التي للاتصال من الناحية التربوية بخاصة وقد تنوعت وسائله واتسع دورها ليشمل جوانب الحياة المختلفة.‏

(4) الاتصال والإبداع:‏

إذا كانت الرسالة تشكل العنصر أو الركن الأساسي من العملية الاتصالية، فإن صوغها يشكل أهم شروط نجاحها.. والرسالة ليست نصاً مجرداً ولكنها أيضاً موضوعاً وبقدر ما تملك الرسالة من عناصر الجدّة والأصالة بقدر ما تؤدي وظيفة ذات فعالية أفضل خلال العملية الاتصالية.. فبين الإبداع والاتصال تقوم علاقات لا يمكن إغفالها..‏

الرسالة التي تحوز على رضا المتلقي والتي يبحث عنها هذا الأخير تكتسب قيمتها من جملة شروط أو خصائص تتصف بها وأهمها أن تكون حائزة على درجة من المصداقية تساعدها على أن تكون مقنعة. ويتطلب الإقناع في أدنى حدوده، أن تكتسب الرسالة مظهراً مقبولاً من الصدق، وأن تكون البساطة أحد أهم صفاتها.. وإلى ذلك فلا بد من تدعيمها بالأمثلة واستخدام الرموز التي تحمل المتلقي على الاهتمام بها والبحث عن حلول لها فلا يبقى المتلقي مجرد مستقبل وإنما تحرك فيه رغبة الاكتشاف وتحفز فيه دافع الفضول لمشاركة المرسل في فك رموز الرسالة وقراءة ما تنطوي عليه من معان.‏

معد الرسالة قد يكون أديباً أو فناناً وقد يكون إعلامياً أو معلناً وما إلى ذلك وهو لا يعدم الموهبة وإلا ضاعت رسالته في الهواء.. أي كما يُقال تدخل من الأذن اليمنى لتخرج من اليسرى.‏

وأقل ما يوصف بها معد الرسالة أو مبدعها حيازته على قدرة عالية من المعرفة وامتلاكه تفكيراً خلاقاً.. وهي صفات تقربه من المبدع.‏

لكن كثيراً ما تلجأ الوسائط الإعلامية إلى إثارة السلوك الاتصالي عند المتلقي بدبلجة رسالتها مع وسائل وأساليب متنوعة تجذب المتلقي فلا تقتصر في مادتها على نقل المعلومة بل تقدم معها التسلية ومداعبة الخيال واستثارة الشهوات.. فتبتعد في مهمتها عن الموضوعية. إذ أن المشكلة الأخلاقية أو الفكرية لا تثيرها أداة الاتصال وإنما مصدر الإثارة فيها (مضمون الرسالة التي تحملها الأداة)(2).‏

وتكمن خطورة عملية الاتصال، بخاصة في عصرنا، تحول وسائل الاتصال الحديثة إلى قوة مهيمنة في العلاقات الدولية وفي العلاقات بين الجماعات والأفراد.‏

وهو ما يدفع إلى استثارة القدرة الإبداعية عند الأفراد والجماعات إلى أن يصبح بالمقدور الوصول بالوعي إلى مستوى من القدرة على مقاومة الغواية والإغراء وهما من أكثر العوامل تزييفاً للوعي ومن أكثر الأساليب ضرراً بالأفراد والجماعات تمارسها –مع الأسف- مراكز الهيمنة العالمية وتستقبلها المؤسسات التي لا تحرم ولا تحلل في سبيل جني ثمار وأرباح على حساب عقول البشر بأية وسيلة كانت فلا قيم لديها غير قيم الإثراء والسوق والاستهلاك..‏

ولا يستطيع المرء ضبط مدخلات الوسائط الاتصالية المختلفة إذا لم يكن مسلحاً بضوابط معرفية تمكنه من انتقاء المعلومات الملائمة ومن اليقظة في تفاعله واستجاباته لكل المثيرات التي يتعرّض لها. وإذ تكمن وراء عمليات الاتصال محركات وموجهات تتمثل بالدوافع التي تنشط سلوك الأخذ والعطاء بين أطراف هذه العمليات وتدعمها وترتقي بها –كما يقول ليندسلي- وذلك بإقرار سلوك اتصالي على أساس قوى دافعية تحقق فيها وظيفتين متكاملتين: الأولى تنشيطية تحريكية. والثانية توجيهية تنظيمية(3).‏

والاتصال الناجح تنجزه قدرات إبداعية وهي تنطوي على إمكانات النماء والارتقاء. ففيه خبرات تعليمية وتقويم للسلوك وإحساس بالذات وبالآخرين. أي أنه ذو قوام قائم على التمكن الفعال للفرد من نفسه ومن تفاعله مع الآخرين..‏

(5) الإبداع في العلم والفن:‏

الخصائص العامة لعملية الإبداع تكاد تكون متشابهة في أي نشاط بشري فالخصائص العامة في مجال العلم التي أبدع فيها العلماء مقارباتهم الأهم في تاريخ العلم، والخصائص العامة للفنان التشكيلي أو الشاعر أو الروائي لا تختلفان حيث أن العوامل والعمليات التي تؤدي إلى الإبداع في هذه المجالات كافة وإن اختلفت أساليبها وطرائق البحث فيها والمعنى الذي تكشفه. العملية الإبداعية أي كانت تكون مصحوبة بتوتر وقلق يشعر معهما المبدع أنه قد فقد توازنه المعتاد، وأن رغبة شديدة تدفعه لخفض التوتر وإعادة الاتزان.‏

فالتجربة الإبداعية لدى العلماء والفنانين والأدباء والتقنيين وإن حملت سمات متشابهة إلا أنها في كل مجال منها لها خصوصيتها التي تتمايز فيها عن غيرها. لكنها جميعاً تعود إلى نقطة واحدة أو مركز واحد في الإنسان حيث تتمثل الوحدة من خلال الكثرة والتعدد. فثمة ما يربط الكون والإنسان في نظام موحد عام تتخلق داخله نظم فرعية تتداخل فيما بينها وتعود في نهاية المطاف إلى مقرّها الممتد عبر العصور والمسافات.‏

وإن كان ميدان التجربة الإبداعية واسعاً شاسعاً والطرق المؤدية إليه متنوعة ومتعددة.. فإن بحثاً مهما كان القائم عليه أو القائمون عليه ملمين بجوانبه ويمتلكون الرؤية العامة الشاملة لعناصره ومكوناته يعجز عن الإحاطة به الإحاطة النهائية فليس من جواب نهائي في أي بحث إنساني فثّمة نهايات مفتوحة على غيرها.. أي أن النهاية ليست أكثر من افتراض أو مصطلح يعتمد للوقوف عن الاستمرار وقوفاً مؤقتاً قد تتبعه خطوات نحو المزيد إن من قِبل المتنطع لهذا البحث أو من قِبل آخرين يعملون في موازاته أو يتمون ما قام به.‏

ولأن الأمر كذلك فسيكون المجال في هذا الكتاب مفتوحاً على التجربة الإبداعية في مجال الفن عامة والأدب خاصة. وسيكون ما يقدم يتمحور حول علاقة لا تنفصم عراها بين مبدع منتج ومتلق هاو أو محترف.‏

(6) بين يدي التجربة الإبداعية:‏

التجربة الإبداعية تؤكد أن الحياة لا تطلق مخزونها دفعة واحدة، لأنه غني ثري أولاً وهو في طور الاكتمال ثانياً.. فليس من جواب نهائي لإمكانات الحياة التي تبرز لنا في كل آونة جديداً لا عهد لنا به.‏

ولا يقنع الإنسان –كما أنه لم يقنع من قبل- بلعب دور المتفرج المأخوذ بعظمة الكون وجلاله والذي هو لا ينقطع عن الدهشة أمام الجمال وأسرار الوجود التي تتكشف كل يوم عن واحد أو أكثر منها. والكشف الذي يحرزه المرء رهن سعيه ودأبه واجتهاده وامتلاكه أدوات التعبير والحفر على المعاني. والمبدع من تكشفت له آفاق قد يتيسر لغيره الاتصال بها لكنه يشعر بما لا يشعرون به وتكون لديه القدرة على الإفصاح بما يخامره في لحظات يكون فيها في حالة من الكشف والوجد والدهشة.‏

ومن فاته أن ينعم بمثل هذه الحالة لن تفته –إن أراد- حالة يقتنص فيها ما فاض على المبدع في تلك اللحظات لأنه على أي حال يمتلك القدرة على التلقي فتصله الرسالة ويتفاعل معها على قدر جهده.. ويغوص في بحر ما أعطاه ذلك المرسل أو بحر الرسالة التي يبعث بها إليه فيكتشف بدوره ما اكتشف الأول ولربما تحصل لـه ما لم يكن قد رآه المبدع فيما أبدع فتتراءى له من بحر الإبداع لآلئ ودرر قد يتفاجأ صاحب النص أن قد رآها غيره في نصه. وحالة النشوى التي يشعر بها المبدع بعد فيض ما كان مستغرقاً فيه تتصل بالمتلقي في عملية اتصالية لا حاجة فيها لاستخدام الأسلاك التي تربط بين المرسل والمستقبل ودون أن يتحدث هذان الأخيران بصوت عالٍ وجهاً لوجه أو بأية لغة مما تعرفه الأبجديات.‏

حالة الخلق هذه بظواهرها المختلفة الوجوه المتعددة الأشكال كانت باستمرار محط تساؤل الناس على مختلف مستوياتهم المعرفية. إذ خلق الإنسان على الفضول وحب الاطلاع فاجتذبته هذه الظواهر منذ بدء النشاط البشري على ظهر المعمورة وتفاوتت النظرة بين إنسان وآخر نحو المبدعين.‏

فهناك من ميزهم عن غيرهم من المخلوقات فمنهم من ادعى أن هؤلاء مسكونين بالأشباح أو بالأرواح الطيبة أو الشريرة.. أو أنهم تحركهم الشياطين فتمنحهم قدرات مختلفة عن غير ما لدى أبناء جلدتهم من البشر العاديين.‏

وقديماً قيل إن الشاعر إنما تحركه شياطين الشعر فلكل شيطانه.. وقد عرف العرب مثل هذه التهيؤات حين قالوا بموطن لهؤلاء الشياطين من وادي عبقر.‏

وليس غريباً مثل هذه التصورات لأن المبدع عندما يأتي بالمبتكر والجديد يبدو كأنه حطم مألوفاً لأنه يتجاوز المألوف وإلا فهو غير مبدع. وعلى يديه تتكسر الجمل والخطوط والمفردات لتنهض بدلاً منها وفوقها صور وبنى ما لا قبل للإنسان بها من قبل ولا خطرت على ذهنه.‏

وكلما بدا أن الصورة -شعرية كانت أم نثرية، حروفاً أم أشكالاً، خطوطاً أم أحجاماً، نغمات أم ألحاناً- قد جنحت نحو الرتابة أو السكون يأتي المبدع على جناح طائر سري خفي لا تراه عين ولا تسمع لخفقات جناحيه نأمة فيخترق السكون ويفتعل الضجيج وما أن تنقشع حالة المعاناة والقلق ويتبدد السراب والضباب حتى تتألق صور جديدة.. يضج السكون ويخرج عن كونه سكوناً فتكون القصيدة أو الرواية أو اللوحة التشكيلية منها أو الراقصة.. وترتفع نقرات المطرقة على الإزميل فتكون المنحوتة ويكون اللحن..‏

ولا يتأتى إدراك الجمال لمتكاسل أو جاهل أو عابر طريق، بل أن ذلك يحتاج فيما يحتاجه الدربة والمران والممارسة.‏

نحس الجمال فيغدو الإحساس شعوراً ويصير إدراكاً يتذوقه المرء أو يقدّره، وذلك جزء من وظيفة الدوافع في الإنسان. فثمة علاقة بين الشعور بالجمال وتذوقه من جهة وابتكاره، أو خلقه من جهة أخرى. وأولئك الذين لم يروا في الجمال سوى أنه قيمة عليا لم يتسن لهم معرفة أساس هذه القيمة في الحياة العضوية وفي دوافعها الأولية فاتهم أن يروا تلك الدلالات التي تشير إلى أن ابتكار المقطوعة الموسيقية أو الشعرية وتذوقها إنما يرتبط أساساً بوظيفة عضوية (حاسة السمع)، أما فنون الرسم والنحت والتصوير والحفر وما إليها فترتبط بحاسة البصر، كما يرتبط فن الرقص بأشكاله المختلفة وصوره المتعددة بدافع الحركة الذي هو أحد الدوافع الأولية في الكائنات الحية.‏

فالأشياء الجميلة التي ذكرنا والجمال الذي تشتاق إليه هذه الفنون ما هما إلا تعبير لإرضاء حاجات أساسية في حياة البشر. وليست ظاهرة إنتاج الأشياء الجميلة محصورة فيما ينتجه الإنسان. وإنما نلحظه أحياناً عند بعض أنواع من الحيوان فبعض الطيور تزين أعشاشها وتزخرفها، كما أن بعض أصناف من الحيوان تبدي ضروباً من الانجذاب نحو لحن عذب أو أغنية جميلة.‏

ويرتبط إنتاج الفنون بصوره المتنوعة بجملة مؤثرات وعوامل تشكل الحياة الاجتماعية وتوجهها نحو الأفضل. وهو ما يفسر تطور القيم الجمالية وتنوعها. فقد تتغير النظرة إلى الأثر الفني بتغير المتلقي له وبتغير الأزمنة والأمكنة.. لكنه لا بد محتفظ بقيمة فنية جمالية على مرّ السنين.‏

فالحياة جافة إذا لم يبللها طلل من الفن. والفنون جزء من فعل بشري يهدف إلى تطور حياة الإنسان ويحاول استشراف آفاق مستقبله. ومن تآزر ريشة الفنان وكلماته مع قراءة المتلقي وتأويلاته يكشف المجهول عن أسراره. فالفن –كما يقول زكريا إبراهيم- هو بعامة دعوة حارة إلى تكوين إنسان جديد وإبداع مخلوق مبدع.‏

فالفعل الإبداعي إسهام من أجل الإنسان.. نعت (إيلوار) زميله (بيكاسو) بوصفه له أنه أستاذ الحرية الطيب، بعد أن قال له:‏

أنت لا تعلمهم أن المرور بالخيالات السعيدة والحلم بإجازة لا نهائية أمر جميل، لكنك تمنحهم الرغبة في رؤية كل شيء، والشجاعة اليومية لرفض الخضوع للمظاهر الفانية.‏

لو استطاع أحدهم أن ينتزع من قلوبنا حب الجمال لما بقي في عيوننا –كما يقول روسو- أي سحر.‏

فأي ألق هذا الذي نراه في عيني متلق ينظر إلى اللوحة، أو يقرأ المقطوعة الشعرية أو النثرية أو تشنف أذنيه مقطوعة موسيقية أو أغنية جميلة.‏

وأية تربية تستطيع أن تمنحنا القدرة على تذوق الجمال، وأية نشوة هي التي يتيحها عمل خلاق أبدعته مخيلة شاعر أو ريشة رسام. فالعمل الإبداعي يضن بأسراره على المتأمل العابر أو الناظر المتعجل.. الفن إبداعاً كان، أم تذوقاً يظل جهداً وتأملاً أكثر من كونه حلماً وتخيلاً، إنه متعة العقل وفرحة الذكاء. ولا ينفصل توليد النص أو اللوحة وتذوقهما من المتلقي عن الحياة.‏

فحين عرّف (سان جون بيرس) الشاعر، قال:‏

"من يروم التغني بقصيدة شعب لا يكون وحده، بل يكون مع الجموع وتدفعه الجموع"‏

وستنطلق قصائدنا في طريق الإنسان تحمل البذرة والثمرة إلى سلالات إنسان ينتمي إلى عصر آخر.. حتى الشطآن البعيدة حيث يهرب الموت.. الشاعر معكم وأفكاره كأبراج المراقبة معكم، فليواظب على المراقبة حتى المساء، وليثبت نظره على حظ الإنسان وستحولون الأحلام التي تجاسر عليها إلى أعمال".‏

"الفن مسلك للارتقاء وترقية الآخرين، وليس بضاعة ينتجها أصحابها قصد الإثارة والوصف –كما قال كمال جنبلاط- لأجل بيعها والاتجار بها في الأسواق".‏

في جدل الإبداع والتلقي، في خصائص المبدع وتمايز سلوكه وجنوحه للخروج على السائد والمألوف، في عدم فهم تصرفاته ووصفه بالشذوذ تارة وبالجنوح أخرى وبنعته في بعض الأحيان بالجنون تتحدث الصفحات التالية، وهي تعمل على كشف شروط التذوق الجمالي التي يشارك فيها المتلقي المبدع فيكتسب النص نبضاً يحيل سطوره وخطوطه حياة تنفض الغبار عمّا سكن أو بدا ثابتاً فإذا هو دائب الحركة ديدنه النمو، فتكون القراءة إنتاجاً للمعاني ويكون إقفال النص انتهاء للمعنى.‏

فما آية التقاء المبدع بالمتلقي وما هي أسرار الرحلة من مباشرة الإحساسات وإغراء الحواس إلى كشف الأعماق عبر اختبار حالات من الملاحظة والتأمل؟‏

أيكون سر هذا وذاك فيما كشفه (يونغ) بقوله:‏

الأثر الفني هو ولادة الحياة، والإحضار الفاعل للاوعي الجماعي، وأن الشاعر أو الفنان يقوم بمهمة الأم في حمل هذا اللاوعي جنيناً.. ثم ولادته بعد أن يتكامل نموه ويسعى إلى النضج في رحمه، بعد أن طافت همسات غائمة فيها الشيء الكثير من الضباب على كل شفة..‏

فهل تتكشف أمامنا بعض صور التجربة الإبداعية؟ هيهات أن يكتمل العرس سيظل حلماً.. وإلا تكسرت الأحلام وسدت نوافذ الأمل.‏

(1) الثقافة العالمية – ع49-ص 89.‏

(2) فيليب تايلور: قصف العقول –ترجمة سامي خشبة – سلسلة عالم المعرفة 256 ص9.‏

(3) طلعت منصور: سيكولوجية الاتصال ص 147 – عالم الفكر 2/11.‏

ابومحمد الشامري 01-04-2005 03:18 PM



من المبدع إلى المتلقي

(1) الإبداع والانفتاح على الواقع والناس:‏


ستبقى الظاهرة الإبداعية تمثّل لغزاً في تاريخ العلوم الإنسانية. فهي القدرة الأكثر تعقيداً بين قدرات الإنسان العقلية والمعرفية. في مقدمة كتبها عالم النفس البريطاني (سيريل بيرت) لكتاب (نعمة الإبداع) لمؤلفه (آرثر كسلر) وصف الظاهرة الإبداعية من خلال نظرة تاريخية بقوله:‏

نعمة الإبداع كانت معروفة منذ أزمان بعيدة جداً وكان ينظر إليها بكثير من الإجلال والإكبار كما لو كانت هبة إلهية مقدسة، كما أن الأساطير اليونانية كانت تلحق قوى الإبداع والموهبة الإبداعية إلى بعض الأبطال الأسطوريين العباقرة من أمثال (برومثيوس) مؤسس أقدم مدرسة للطب. فهؤلاء جميعاً يظهرون في الثقافة اليونانية القديمة على أن فيهم نفحة من الآلهة، ويتميزون بوجود عنصر إلهي في تكوينهم أو على الأقل عنصر إعجازي يفوق قدرات البشر الآخرين(1).‏

جرت العادة، ردحاً من الزمن، أن يقرن الإبداع بالذكاء، وقد وصفه بعضهم بأنه نوع من الذكاء العالي، أو أنه الذكاء في أعلى مستوياته. لكن الإبداع يجاوز الذكاء ويبدو للباحث من طبيعة أخرى قد لا تكون مغايرة كثيراً لطبيعة الذكاء الذي يعرف تعريفات عدة، من مثل القدرة على التكيف أو القدرة على حل المشكلات. إلا أن الإبداع في تجاوزه لمفهوم الذكاء فإنه يشق دروباً جديدة ولا يحل المشكلات حلاً تقليدياً أو معروفاً بل يخلق عوامل مبتكرة مخالفة للمألوف. وغالباً ما تكون الاستجابة في حالة الإبداع مفتوحة على شتى الاحتمالات، وليس ذلك فحسب فالعقل الخلاّق لا يقتصر دوره على خلق المبتكر والجديد وإنما يمتلك القدرة على تقبل الجديد المبتكر.‏

فليس الإبداع صفة المبدع للجديد فحسب، وإنما صفة للمتلقي القادر بحدسه ونفاذ بصيرته أن يكتشف الجديد ويتقبله.‏

والعمل الإبداعي (نصاً كان أم لوحة أم مشهداً..) الذي لا يستثير في المتلقي ردوداً متنوعة ويفتح ذهنه على أكثر من احتمال يفقد الكثير من عناصر الإبداع. أما النص أو العمل الذي لا يعطي أكثر من إجابة مهما كانت دقيقة فهو لا يمتلك سمات إبداعية كافية. العمل الإبداعي يضع المتلقي داخله فيشارك في صنع الصور واقتراح الحلول والمسارات ويفسح لـه في المجال للتنبؤ والاستشراف.. لذلك فإن النص المفتوح يظل نصاً محرضاً للقدرات العقلية ومنشطاً لها ومحفزاً.‏

مهما كانت نتيجة الإبداع (شعر) قصة، رواية، مسرح، عمل تشكيلي، اختراع علمي، مقاربة علمية، فالعمل الإبداعي يشكل منظومة مشرعة الأبواب والنوافذ على منظومات أخرى، وإلا، فسيكون محكوماً عليه بالموت. وهذا ما تدل عليه مقاربة النظم التي ترى في الكون سلسلة منظومات متشابكة يتداخل بعضها بالبعض الآخر في عمليات استغراقية كلية أحياناً وأحياناً جزئية تؤثر وتتأثر ببعضها. لذا فمقولة (الفن أكبر من شراحه) تظل قابلة للتصديق. فمهما علا كعب الناقد، ومهما كان النقد يحمل من صفات الموضوعية والدقة فالطريق إلى أغوار النص ليست بالسهلة وقلما تصل بسالكها إلى النهاية أو تستنفذ النص، إلا إذا كان النص مغلقاً على ذاته غير قابل للتأويل والشرح والتفسير وآنئذ يفقد الكثير من مواصفاته الإبداعية.‏

وتبقى نظريات النقد –كما يقول أحمد أبو زيد- نظريات جزئية، متحزبة متميزة، وذاتية، وقابلة للحوار والمناقشة. أما الأحكام التي تصدر عن الناقد فينبغي لها أن تكون تقريبية فلا تدعي الإحاطة بجوانب العمل وجوهره. ذلك أن العمل الفني الذي يستحق هذه التسمية هو (مجموعة من الأفكار والآراء والأحاسيس المتشابكة والعواطف والتجارب المعقدة التي خضع لها المبدع(2).‏

لكن السعي لتفسير الخاصية العمومية والكلية للعمل الإبداعي التي لا يحدها زمان أو مكان تظل مشروعة، على ألا يعطي أي كان لتفسيره صفة اليقين أو أن يجعله مسك الختام في عصر انهيار اليقين حتى في ميادين العلوم الأساسية.‏

لنصغ إلى صدى قراءة هذا النص في دواخلنا لجلال الدين الرومي:‏

"استمع إلى الناي كيف يقص حكايته، إنه يشكو ألم الفراق.. ويقول: إنني منذ قُطِعتُ من منبت الغاب والناس رجالاً ونساء يبكون لبكائي، فكل إنسان أقام بعيداً عن أصله يظل يبحث عن زمان وصله، إن صوت الناي هذا نار لا هواء، فلا كان من لا تضطرم في قلبه مثل هذه النار".‏

فعملية الإبداع لا تجري بعيداً وفي اتجاه واحد، ومن أجل هدف محدد الإطار ثابت إنما هي تتحرك وتتخذ أشكالها المختلفة بتأثير من تفاعلات نوعيةّ، يشكل كل من التواصل والاتصال والتفاعل بعض أهم جوانبها. فالمبدع ليست بينه وبين المتلقي حواجز أو موانع. ولا يتصورن مبدعاً لا يضع في اعتباره أولئك الذين يتلقون نتاجه. فالمتلقي قابع في ذات المبدع في أشد لحظات إشراق الفكرة ومكابدة ولادتها لتصير وجوداً حاضراً بالفعل بعد أن كانت مجرد إمكانية.‏

(2)-المبدع والمتلقي (حالات من سوء العلاقة والانسجام):‏

يقول الناقد الأمريكي (واين بوث) في كتابه (بلاغة القصة) الكاتب (يخلق في نصه صورة عن نفسه وصورة أخرى عن قارئه... فهو يصنع قارئه كما يصنع نفسه".‏

بعملية تبسيطية يمكن اكتشاف بعدين للفعل الإبداعي لا ينفصلان، ولا حدود فاصلة بينهما فهما متكاملان متفاعلان يعانق أحدهما الآخر –هذان البعدان هما: بعد ذاتي يتعلق بالمبدع نفسه، وبعد خارجي يتعلق بالأخر، وهو هنا المتلقي المفترض، عناصره حالات فردية وجماعية، وربما رأي عام، وعناصر بيئية متنوعة ومختلفة.. وفي الوقت الذي تختل في أثنائه العلاقة بين المبدع والمتلقي بحيث تتخذ شكل الإحجام أو التنافر، يحدث ما يمكن أن نسميه أزمة في عملية التواصل التي ينبغي أن تكون في اتجاهين متمازجين (من المبدع إلى المتلقي ومن المتلقي إلى المبدع) بحيث تشكل الحركة الثانية عملية تغذية راجعة تدعم الجوانب التي كانت فيها استجابة المتلقي إيجابية، وتبلغ الفاعل بالنواقص الأخرى فيسعى إلى تلافيها في عمل مقبل أو في كتابة ملحق أو توضيح أو استدراك. والإحجام أو التنافر إن استمر في حد القطيعة، فإنه يقود إلى إحباط المبدع والحكم على نتاجه بالعقوبة التي تتناسب شدتها عكساً مع وعي المتلقي لها..‏

لكن العلاقة بين المبدع والمتلقي لا تسير –كما يبدو للوهلة الأولى- حسب هذا الظن الظاهري، وقد يأخذ حدوث الاستجابة من المتلقين زمناً يطول أو يقصر.. وفي كل الأحوال إن المبدع لا يؤخذ بردات الفعل السريعة والآنية وإن كان ذلك يحفزه إلى تعديل المسار، والتوقف للمراجعة وإعادة النظر، أو تغيير المسار نهائياً.. أو تكون المكابرة التي قد تؤدي بالمبدع إلى المخاطر.. كما حصل لـ (غاليله وكوبرنيكوس وغيرهما). لكن القطيعة قد لا تطول وتكون مجرد حالة عرضية.. ويعاني المبدع في أحيان كثيرة من جحود الأقربين وحسدهم فيحسب أنه قد صار وحيداً بلا أصحاب يؤازرونه ويستطيعون إسداء المعونة لمواصلة إبداعه. وقد يصبح عمله سلاحاً يُشهر ضده، فتستنفر في الآخرين الأهواء المرضية من مورثات عقدية متكلسة أو ثارات قبلية وطائفية، ويتلقى اتهامات جاهزة، وقد يجرد من وسائل الدفاع عن نفسه ولا تُتاح له الفرصة ليتلقى محاكمة عادلة وفق معايير عقلية ومنطقية ذات مقدمات سليمة.‏

ومن الأعمال الإبداعية مالا تجد المتلقي القادر على الارتفاع إلى مستواها لسبب أو لآخر، فتفقد هذه الأعمال الفرصة التي تؤهلها لأن تبلغ حقها من التقدير والاستيعاب والفهم. ولحسن الحظ أن ذلك لا يستمر فسرعان ما يأتي الوقت الذي فيه تنصف وتعطى ما تستحقه من اهتمام.. وإن كان ذلك قد يحدث بعد زمن طويل.‏

ومن الصيغ التي تتخذها العلاقة بين المبدع والمتلقي، التنكر للمبدع ونتاجه أو التنكر لـه شخصياً حين يوصم بالجنون أو الانحراف. فتصبح حياته الشخصية هدفاً للتشنيع.. الذي يكون لـه أساس في حياة المبدع وسلوكه أو لا أساس لـه. ولكن المبدع الأصيل يمضي في طريقه ويترك للزمن مصير أعماله.. فهل تأثر جان جينيه كمبدع بما كان عليه سلوكه الشخصي؟‏

ورمي المبدعين بالجنون ليس بالشيء الجديد في علاقة المتلقي بالمبدع وهو ما سنفرد له بحثاً خاصاً. إلا أن ذلك ليس بالغريب كون المبدع –كما يفسّر بعضهم سلوكه ويحلل شخصيته- يتصف في الغالب بكثير من خصائص الطفولة من حيث ميله للانطلاق وعدم مبالاته بالعادات والتقاليد، مما يجد فيه بعض المتربصين به سبباً للنيل من شخصيته بخاصة وأنه يتصرف تصرفات لا تنسجم مع ما يراه الناس تصرفاً سليماً. دعي (لامبير) عالم الطبيعة المشهور لتناول طعام الغداء على مائدة الإمبراطور الفرنسي (نابليون). وقد رأى ذلك العالم في تلك الدعوة شرفاً عظيماً أغدقه عليه الإمبراطور، وعلى الرغم من ذلك نسي لامبير الذهاب في الموعد المحدد. مثل هذا السلوك يستهجنه الناس العاديون وقد ينعتون صاحبه بالجنون والاستهتار. وقد يعامل من الآخرين أنه مجنون فعلاً.‏

هذا لا يعني براءة جميع المبدعين من الجنون والهوس. وتاريخ الأدب والعلم والفن ينبئنا عن من أدت حالات عدم تقبل نتاجاته أو ما قوبلت به من الاستهجان والإعراض إلى حافة الجنون أوالانتحار. لكن حالات أخرى –لحسن الحظ- نرى فيه المبدعين يقومون بعمليات تكييفية أو تكيفية يدرؤون بها الصدمة مثل تبديل البيئة.. وليس غريباً عنا ما يدعى بهجرة الأدمغة.‏

حتى الآن تبدو العلاقة السيئة بين المبدع والمتلقي وكأن أسبابها موجودة عند الثاني مما يثبت براءة المبدع.. مع أنه في كثير من الحالات يسهم بعض المبدعين في تطوير العلاقة إلى حد التنافر عندما يصاب المبدع بالغرور والتعالي. وفي أحايين كثيرة تقوم وسائل الإعلام بدور سلبي حينما تكيل المديح جزافاً لهذا المبدع أو ذاك، أو حين يتطوع بعض النقاد، لسبب أو لآخر في تدبيج الأوصاف بحق أو بغير حق، فيصل الأمر بالمبدع إلى حد الاعتقاد بأنه قد وصل القمة بسبب ما زين له هؤلاء، فيلجأ إلى الإسراف في النتاج إلى مدى يستهلك فيه الكمُّ الكيفَ، فيحكم المبدع على نفسه بموت مؤكد، فلا يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان. وهو موت لا يرتقي بصاحبه إلى مرحلة فقد التوازن بين العمل في ذاته وبين تلقيه.‏

هذه حالات من عدم الانسجام بين الإبداع، كنتاج ومنتج، وبين التلقي وهي حالات لا تشكل قاعدة عامة وتظل في حدود الاستثناء غير المخل.‏

(3)-التناغم بين المبدع والمتلقي:‏

لحسن حظ البشرية لا تكون العلاقة بين المبدع ومجتمعه دائماً علاقة سلبية وغير منسجمة. فقد أتيح للبشرية مبدعون في مجالات الحياة المتعددة والمتنوعة أسهم في تجميل الحياة، بحيث أن المتتبع لتاريخ البشرية ووجودها فوق كوكب الأرض يكتشف أن حياة الإنسان كانت سلسلة من العمليات الإبداعية التي أطلقت يده وعقله في هذا الكون، فأسهمت في تنامي الوحدة بينه وبين ناسه في الوقت الذي يسهم الإبداع في جعل الإنسان –فرداً- يبلغ تحقيق شكل من الوحدة مع نفسه. فكأنه بوساطة الإبداع تمكن من إدراك الوحدة داخل التنوع، فلا تناقض ولا تعارض، وهذا هو سر جنوح العلاقة إلى نوع من التوازن ما أن يلم به بعض الخلل حتى يعود إلى حالة الانسجام في تناغم كوني لا يملك المرء معه إلا التسبيح بقدرة مدبر الأكوان. وهذا أحد نتائج العلاقة الإيجابية بين المبدع ومجتمعه. فالإحساس بالرضا والبهجة عند إنجاز العمل الإبداعي، وبعد ذلك عند تذوقه هو مربط الفرس في هذه العلاقة المنسجمة والمتناغمة. هذا الإحساس بالتوهج المشترك هو ما عناه الروائي (س.ب.سنو) في حالة ذلك الشاب الذي تأكد له صحة ما وصل إليه من جراء عمله الذي كان يجربه على التركيب الذري للبلورات حيث قال:‏

"انتصاري وبهجتي ونجاحي كلها تحيط بي، بيد أنها بدت تافهة بجانب هذه النشوة الصافية، لقد بدا الأمر كما لو كنت أسعى للعثور على حقيقة ما خارج ذاتي، وأصبح العثور عليها للحظة واحدة جزءاً من الحقيقة التي كنت أبحث عنها وكأن العالم كله، الذرات والنجوم، كانت مشرقة بصورة رائعة وقريبة مني وأنا قريب منها حتى أصبحت جزءاً من نورانية أنصع وأروع من أي سر مقدس"(3).‏

(4)-في الإبداع عودة الذات إلى موضوعها:‏

نشوة المبدع الصافية كيف تنتقل إلى المتلقي. وبكلمة أخرى كيف تنبجس من داخل هذا الأخير تلك البهجة؟‏

يتعامل المبدع مع الأشياء من حيث ما تمثله لأناه، ومن حيث تبدو مقدرته على إمتاع المتلقي وجذبه نحو موضوع، ومن حيث قدرته على أن يجعل لموضوعه لدى المتلقي الوظيفة نفسها أو قريباً مما يراه هو أو يخلعه عليها.‏

فالنوع البشري الذي تباعد الأهواء والشهوات والرغبات المادية بين أعضائه يعيده الفن بأية صورة كان إلى صفائه، ويمهد الطريق إلى وحدة الذات مع موضوعها ودخول الجزء في كله.. إنها اللحظات التي تعود فيها الحركة إلى نقطة انطلاقها، إلى نقطة البيكار، حيث تتلاقى النفوس الجزئية عند سدرة المنتهى، عند النقطة التي كشفت عنها العبقرية الغطاء الذي كانت تلوذ به..‏

هذا التناغم بين الذات وموضوعها، بين العمل الإبداعي الذي يتوسط العلاقة بين المبدع والمتلقي يشرحه يونغ بقوله:‏

"فاوست هو الذي خلق غوته وليس العكس، فاوست موجود في أعماق كل ألماني". وفي مقالة بعنوان (الشعر وعلم النفس) يقول (يونغ):‏

"الشعر العظيم يستمد قوته من حياة الإنسان كنوع، وسنخطئ معناه بشكل تام، إذا حاولنا استلال ذلك المعنى من عوامل شخصية".‏

فالأثر الإبداعي ولادة حية وإحضار فاعل للاوعي الجماعي. والمبدع يقوم بدور الأم في حمل هذا اللاوعي جنيناً ثم ولادته بعد أن يكون قد تكامل نمواً ونضجاً في رحمه، وطاف همسات غائمة فيها الكثير من الضباب وعدم التوضيح على كل شفة"(4) الحاجة إلى التعبير عن النفس ، إلى الإفصاح عما يختلج في الأعماق، إلى توضيح المشاعر هي الأجوبة التي تكاد تكون جاهزة لدى كل مبدع حين يُواجه بالسؤال عن مقومات عمله وعلله.. ومشروع دائماً السؤال عن الآلة النفسية في عملية الإبداع وعن سر التناغم بين مشاعر المبدع ومشاعر المتلقي. يقول علي حرب في كتابه (نقد الحقيقة):‏

يبقى النص فضاء دلالياً وإمكاناً تأويلياً، لا يحمل دلالة جاهزة ونهائية والنص الذي يستهوي القارئ يشكل بالنسبة له –على حد قول رولان بارت- موضوع اشتهاء... فهو كالجسد يغري قارئه، ويفتح شهية الكلام لديه، ويحرّك رغبته في المعرفة"(5).‏

(5)-الاتصال الإنساني والدوافع:‏

تعتمد فعالية الاتصال الإنساني على عدد من الدوافع النفسية. ويتمايز المبدعون في قدراتهم على إثارة هذه الدوافع وإشباعها، وذلك بسلوك قادر على الاختيار بين قناتين هما:‏

1-إثارة الشهوات الرخيصة لدى المتلقي ودغدغتها وإتباع الوسائل والطرائق التي تلبي رغبات آنية وضيعة لديه.‏

2-إثارة دوافع تدعم نشاط الأخذ والعطاء بين طرفي المعادلة والعمل على تصعيده. ويتمايز المتلقون في تأثرهم وتفاعلهم مع الرسالة الاتصالية من حيث الضبط المعرفي حسب ما يقول (كلاين)، أي ما يتحقق للسلوك من تنظيم وتكامل بواسطة الانتباه الذي تعمل ميكانيزمياته بطريقة انتقائية. فنظام المعارف والآراء والمعتقدات الذي يتخذه الفرد نحو البيئة ونحو نفسه وسلوكه يمثل ضوابط معرفية تمكنه من انتقاء المعلومات الملائمة، ومن اليقظة في تفاعله واستجاباته لكل المثيرات التي يتعرض لها(6).‏

لكن ذلك لا يعني انقطاع الصلة بين المبدع والمتلقي أو قسر العلاقة بينهما على خصائص كل منهما. فالصورة التي تساعد في رؤية التفاعل جلية بينهما أكثر ما تُرى في الشعر: إذ أن الشاعر دوماً يحس أنه يفتقد الآخر الذي يتصل به، وليس ذلك فحسب فهو "لا يرضيه حال، ولا يقنع بشيء، إنما يريد أن يهجر ذاته، ويطفر صوب الأشياء كلها.. من أجل أن يتوحد في كل الأشياء ويتمرأى في كل الذوات ويرى العيون منعكسة في كل العيون"(7).‏

(6)-بذور العملية الإبداعية:‏

الإبداع عملية تفاعلية قوامها الاحتكاك المباشر والإيجابي بين الفرد والجماعة. فهو لا يتم في فراغ.. يندفع المبدع بنشاط غايته خفض حالات التوتر التي تنتابه وإعادة التوازن.. ومع انغماس المبدع في عمله يتزايد التوتر الدافع..‏

وهذا النشاط الذي تحركه الدوافع وتؤججه العاطفة يبقى نشاطاً عقلياً تنتج عنه صور واستبصارات جديدة. ويعبر (بيكاسو) عن حالة التوتر في الخيال الإبداعي بقوله: يصور المصور كما لو كانت هناك حاجة ملحة تدفعه إلى أن يخفض من إحساساته ورؤاه(8).‏

فالنشاط الإبداعي وقوده خبرات متراكمة منها ما هو شعوري ومنها ما هو غير ذلك، وادعاء المبدع أن له طريقة أو طرائق يتفرد بها من حيث الخلق والإبداع وأنها تعبير عن استقلاله في النظرة والتفكير ما هو إلا زعم (ولا يجد أساساً له من الصحة غالباً، لأن الإسهام هذا لابد أن يكون له مكان بالضرورة داخل نسق منظم متكامل)(9).‏

فأي نص إبداعي "مبني على غياب، ويستعصي على الحضور لأنه يحمل أثر الآخر الذي يسكننا، أو يهجس بالآخر الذي لا يحضر"(10).‏

يفسر المتعاطون بالتحليل النفسي الإبداع كونه تعبيراً راقياً مموهاً ومكشوفاً للخبرات المكبوتة دون أن يشعر المبدع أو المتلقي أنها كذلك. تخرج الخبرات المكبوتة من سجنها في أعماق النفس حين تخف الرقابة الشعورية عليها أو تضعف فتظهر أحلاماً في أثناء النوم أو أحلام يقظة أو زلات لسان أو شطحات قلم، وقد تتطور نصاً إبداعياً..‏

إلا أن الخبرات المكبوتة سواء كانت خبرات مبكرة منذ عهد الطفولة –كما يقول فرويد- أم كانت خبرات موروثة من الأسلاف فيما دعاه يونغ باللاشعور الجمعي، تبقى أهم بذور ومنطلقات العملية الإبداعية ومرتكزات تلقيها وتذوقها.‏

يقول (فرويد):‏

أن عدم حصول الإشباع، وتجربة خيبة الأمل المترتبة عليه هي التي أدت إلى التخلي عن الانغماس في محاولة الإشباع هذه عن طريق الهلوسة، وبدلاً من ذلك اضطر الجهاز النفسي إلى اتخاذ قرار بتكوين تصور الظروف التي في العالم الخارجي، ومحاولة إحداث تغيير حقيقي في هذه الظروف(11).‏

(7)-في الفن والأدب علاج وتطهير للنفس:‏

يكون الإبداع سبيلاً للعلاج، أو لتحقيق التوازن الذي يهدده الكبت، وقد يقود صاحبه إلى المرض النفسي. وتكون العملية الإبداعية قفزة إيجابية يتجاوز بوساطتها صاحبها كل أشكال الخوف المتأصل في الموقف الإنساني كتب غراهام غرين في سيرته الذاتية:‏

"الكتابة أسلوب من أساليب العلاج، وإني لأتساءل في بعض الأحيان كيف يتسنى لمن لا يكتب أو يؤلف الموسيقى أو يرسم أن ينجو من الجنون أو الملانخوليا".‏

ويكون تلقي الأعمال الإبداعية، تذوقاً أو قراءة أو مشاهدة أو استماعاً بدوره أسلوباً من أساليب العلاج والتطهر النفسيين.‏

وبحسب (يونغ) تتبدى عملية العلاج في انسحاب الليبيدو من رموزه الاجتماعية التي كان متعلقاً بها في الخارج. لأن هذه الرموز لم تصلح لأداء مهامها لما أحدثه التطور في تغير الثقافة. وهذا الانسحاب إلى أعماق الشخص يثيرها لتبرز كوامن اللاشعور الجمعي. يرى الناس العاديون هذه الكوامن في أحلام النوم بينما يراها المبدعون في اليقظة عملاً فنياً ناجزاً، يرى فيه المحللون كثيراً من الرموز ا لتي تدل على أساطير الأولين وتجارب الأجيال القديمة. ودليل ذلك عودة فنانين كبار من أمثال (بيكاسو) و(ماتيس)، وكاتب كبير مثل (أندريه مالرو) إلى ذلك المعين الكامن في الفن البدائي، وقبول المتلقين له. فما ذلك إلا تعبير لا تخطئه ذائقة عن تلك الجذور التي لم تمت حيث يتلاقى المبدع والمتلقي عند نقاط مشتركة تلتغي عندها، إلى حد ما، الحدود بين الثقافات. فالمهم –كما يقول ليفي ستراوس- أنّ المرء لا يسير وحده أبداً على دروب الخلق والإبداع.‏

(1) أحمد أبو زيد: الظاهرة الإبداعية –ص 9 عالم الفكر 4/15-1985م‏

(2) أحمد أبو زيد: الاتجاهات الحديثة في النقد الأدبي ص 5- عالم الفكر 9/2. 1978.‏

(3) أنطوني ستور: العبقرية والتحليل النفسي ص38-39 في كتاب العبقرية –عالم المعرفة.‏

(4) محمد المبارك: الآداب –أيلول- 1970، ص77.‏

(5) علي حرب: نقد الحقيقة ص9.‏

(6) عالم الفكر 11/2، ص147.‏

(7) علي حرب، ص19.‏

(8) ؟ : العملية الإبداعية في الفن والتصوير ص128، عالم المعرفة.‏

(9) أحمد أبو زيد: عالم الفكر 62/15، ص‏

(10) علي حرب: ص19.‏

(11) أنطوني ستور، ص318.‏


ابومحمد الشامري 01-04-2005 03:19 PM



الإبداع والجنون

(1)-لمحة عامة:‏


في مراحل تاريخية سابقة سادت أفكار متشابهة إلى حد ما بين العديد من المجتمعات. فحين ساد في المجتمع العربي ما قبل الإسلام تفكير مفاده أن الشاعر حين تأتيه حالة الدفق الإبداعي يكون مسكوناً بشيطانه الخاص ولشياطين الشعر العربي، كما تكلمنا سابقاً، موطن خاص به هو وادي عبقر. وخلال القرن السادس عشر مال الأطباء في إنكلترا بشكل عام اعتماداً على سلطة الكتاب المقدس إلى القول بأن التلبس الشيطاني هو المسؤول عن الجنون عند الأشخاص العاديين كما عند المتفوقين والمبدعين.‏

واستمر هذا الاتجاه الذي يربط العبقرية بالجنون حتى أيامنا هذه . وقد تم النظر عند الإغريق للجنون على أنه ظاهرة مقدسة مع أنهم عدوه أيضاً مرضاً عقلياً. لكن مصطلح الجنون لم يثبت على حال واحدة.. فقد ارتبط بشكل ما في تعريفه بالعقل غير المنظم وبأنه يمثل أنواعاً وتجليات عديدة للسلوك اللاعقلاني.‏

"وظل هناك تفاعل وتداخل بين المعاني الخاصة بالجنون باعتباره يشكل نوعاً معيناً من المرض العقلي وبين الإطار المعرفي المميز المرتبط بالسلوك اللاعقلاني. وربما كان هذا هو أحد الأسباب الكبيرة التي وقفت وراء عمليات الربط بين سلوك المبدع الغريب الشاذ في بعض الأحيان وسلوك المجنون الغريب الشاذ أيضاً(1).‏

والمجنون ليس من كانت سويته العقلية متدنية. فثمة فرق شاسع بين الجنون والبله. وقد ميز (جون لوك) بين الأبله (ضعيف العقل) وبين المجنون، الأبله محروم من العقل أو غير قادر على استخدام قدراته العقلية بشكل ناضج، بينما المجنون مضطرب لكن قدراته العقلية تكون نشطة. والمجانين في رأي لوك يبدو أنهم يعانون نقيض ما يعاني منه البلهاء لأنهم يبدون قد فقدوا قدرتهم على الاستدلال مع أنهم يقومون بالربط بين الأفكار بشكل خاطئ أنهم يضلون طريقهم، ويخطئون مثل البشر الذين يدافعون عن الحق استناداً إلى مبادئ خاطئة(2).‏

المجنون تتداخل سماته السلوكية مع سمات العاشق من حيث المخيلات القوية فهما صاحبا خيال أكثر تأثيراً.. من هنا قد يرى البعض في الشاعر أنه الذي تستبد به الخيالات والأحلام فما الحلم إلا حالة جنون عابر يشفى منه المرء حين يستيقظ وكذلك يشفى الشاعر من جنونه حالما تهدأ نفسه وترتاح مخيلته بعد ولادة القصيدة.. وكذلك الحال مع الرسام والنحات وغيرهم من المبدعين.‏

لكن الأحلام كما تحدثنا الأساطير، ويؤكد علماء التحليل النفسي وإن كانت تبدو شكلاً من أشكال الجنون، بحسب ما ذكرنا، فإنها كانت عبر العصور تعدّ سبيلاً للشفاء ففي ملحمة جلجامش ما يدلنا على ذلك الوعي العميق الذي ساد في الأساطير السومرية وفي مملكتي آشور وبابل، بالفعل الشفائي للأحلام، جلجامش يطالب الجبل أن يأتي لصديقه أنكيدو بحلم مطمئن فيقول لـه: أيها الجبل، يا موطن الآلهة، أرسل حلماً لأنكيدو، ابعث إليه بحلم مطمئن(3).‏

إن فكرة ارتباط العبقرية بالجنون قد تجد ما يؤيدها في أن بعض المبدعين تكون لديهم أعراض عصابية أو ذهانية وقد تبدو قوية أكثر مما هي عند الناس العاديين. وأن كلاً منهما تتميز بخبرات عقلية يجد الفرد العادي أنه غير قادر على فهمها.. لكن هل كل مبدع مجنون؟‏

(2)-العبقرية والجنون:‏

سواء كانت العبقرية قريبة من حالة الجنون، أو بعيدة عن ذلك، أو مساوية له أو أنها أحد وجوهه. فإن حالة المبدع في لحظة إشراق الفكرة أو المعنى هي حالة خاصة متميزة ليست مما يعرف الناس من الحالة السوية للشخص أو لسلوكه.‏

ففي محاورة ايون ينسب (أفلاطون) العبقرية إلى الإلهام، فيقول: "الشاعر كائن أثيري مقدس ذو جناحين، لا يمكن أن يبتكر قبل أن يُلهم فيفقد صوابه وعقله، وما دام الإنسان يحتفظ بعقله فإنه لا يستطيع أن ينظم الشعر".‏

وبعض الشعراء لا يستغرب أن ينعت بالجنون ولا يرفض ذلك بل يذهب، بحسب (ترلنغ) إلى حد القبول بأن مرضه ملازم لقدرته على قول الصدق. وإن ملاحظة المبدع وهو في حالة إشراق الفكرة لا تخفي ما يعانيه من عذاب نفسي بل وجسدي أيضاً، لكنه عذاب مستحب، يشبه عذاب المرأة خلال المخاض، فهو يعاني عذاباً وألماً يقربانه من (الماسوشي) الذي يستمتع بإيذاء نفسه(4).‏

أما (مصطفى سويف) فإنه يرى في عملية الإبداع الشعري ما يقربها من وصف الجنون، إذا أنها كما يقول تتم عادة في مرحلة تقع بين اختلال الأنا واتزانها، وهذا أحد أسباب إطلاق وصف الجنون كصفة ملازمة في غالب الأحيان للإبداع. ففي حالة الجنون –وقد ذكرنا بعض سماته فيما سبق- وهو مفهوم فضفاض يتضمن حالات مرضية متعددة، تكثر فيها عمليات تتميز بحرية التفكير وانطلاق العقل وجموحه وإذكاء الخيال وفيضانه وحضوره، وهو حالة يتوق إليها كثير من الأدباء والفنانين. وليس غريباً على الذهن العربي وصف الشاعر على أن به مساً أو أنه مسكون بالشياطين، كما أسلفنا.‏

هذه النظرة التي تربط العبقرية بالجنون أو تقربها منه تدفعه مع نتائج الدراسات القائمة على استخدام الروائز والاستبيانات. ففي دراسة أجراها (جيز وجاكسون) وهما من علماء النفس المشهورين وجدا أن المبدعين يجنحون في إجاباتهم إلى الريبة التي يوحون بها إلى الفاحص أو المعلم، وهي ريبة غير معترف بها وينفيها المعنيّ بشدّة، وأنهم يصنفون حب الدعابة تماماً في عداد الصفات التي يتمنون أن يوصفوا بها، وتتجلى إبداعاتهم في النتاجات الخيالية، ولكن بعض الدعابات التي ظهرت في إجاباتهم غير خالية من الذوق الرديء وغرابات الخيال(5).‏

وتضيف نتائج الدراسة أن المبدعين تميّزوا بنتائج غير متوقعة، وبالدعابة، وعدم اللباقة والمخيلة، ويتميزون أيضاً بأمر يصعب شرحه يتمثل بالعنف الأكبر الذي ينتشر في قصصهم الصغيرة.‏

(3)-الإبداع والجنون من خلال بعض الشهادات:‏

تحدثت الرسامة (ميلي) عن زوجها (راسكين) قائلة:‏

"إنه عملاق في كل ما يخص الموهبة الأدبية، ولكنه بالنسبة إلى كل ما تبقى موجود مسكين ضعيف لا لون له، ولا قلب ولا شجاعة".‏

وسيرة حياة (راسكين) لا تكذب شهادة زوجته فيه. فقد انتهى هذا الأديب إلى المعاناة من نوبات من الجنون، وغرق في السنوات الإحدى عشرة الأخيرة من حياته في الجنون نهائياً.‏

ويضرب (كريشمنر) أمثلة كثيرة على متاخمة العبقرية للجنون من خلال ذكره لعدد من المبدعين الذين انتهوا إلى حالات منه: ستيورات ميل، دوستوفيسكي، غالتون، موباسان، نيوتن، نيتشه، روسو، شوبان، وفان غوخ. خلال جزء من حياتهم على الأقل.‏

يقول (جان بول سارتر) في ترجمته الذاتية، (الكلمات)، الصادر 1963:‏

ها أنذا أرى بوضوح، لقد خاب أملي منذ عشر سنوات تقريباً، وأنا إنسان يستيقظ بعد أن شفي من جنون طويل مر عذب معاً، ولا يستطيع الخلاص من ذلك، ولا يملك أن يذكر دون ضحك ضلالاته القديمة، ولا يعرف ماذا يصنع بالحياة(6).‏

ومما يوصف به (غوغول)، أنه كان طفلاً وديعاً ومتسامحاً تارة، وطوراً متحذلقاً لا يطاق، ويعتقد أنه أسمى من الجميع.‏

وفي رواية ما قاله جدّ نيتشه لأمه مصداقاً لما سبق:‏

"قد يصبح ذكر البط القبيح الصغير ذكرنا ذكر بجع، إنه طفل موهوب بصورة غريبة، وينبغي ألا نتوقع منه أن يلتزم بقواعد الناس العاديين"(7).‏

وهل ما آلت إليه حالة كل من خليل حاوي، وتيسير سبول إلا ضرب من الجنون؟ وفي (مي زيادة) ألم تودع مستشفى الأمراض العقلية؟‏

وفي وصف لحياة الروائية الإنكليزية (فيرجينيا وولف) نرى أنها عاشت حياتها في خوف دائم من أن تسقط فريسة الجنون، إذ كانت تنتابها أحياناً حالات من الكآبة والقنوط تهدد بانهيار قواها العقلية. وقد سبق أن أصابتها إحدى النوبات وكادت أن تذهب بعقلها فعلاً قبيل الحرب العالمية الأولى بقليل. وظلت تقاوم هذه النوبات حتى عام 1942 حين انتهت من روايتها الأخيرة وأصبحت منهوكة القوى بسبب الإرهاق في العمل والخوف الدائم إضافة إلى التوتر العصبي الذي أصابها جراء الحرب. فخرجت ذات صباح متجهة صوب شاطئ النهر كعادتها.. وحين خرج زوجها وأختها يبحثان عنها، لم يجدا سوى عصاها ملقاة على الشاطئ.‏

(4)-الأدب والخروج عن المألوف:‏

ينطلق الاتجاه الذي يربط بين العبقرية والجنون من سمة رئيسة تجمعهما تتمثل في ابتعاد من يوصف بهما عن المألوف. وكونهما يسعيان إلى صورة ما من صور الفكر، فلا يخلو فكر معقول من الجنون، فالعقل والجنون متلازمان. ويرى (باسكال) أن الناس مجانين بالضرورة، أما كونهم غير مجانين فصورة أخرى من الجنون. أما عن علاقة الأدب بالجنون فتتمثل بأن كلاً منهما يقوم على الخيال ويعمل على كشف الوهم في قلب الواقع وإبراز قيمة الإنسان.‏

يبدو سلوك المبدع أحياناً، إن لم يكن في غالب الأحيان، شاذاً عن القواعد المألوفة، لأن الإبداع يقتضي جهداً متواصلاً ليس عادياً، وصبراً ومثابرة. ويتطلب من صاحبه مرونة عقلية من جهة، بينما يكون هو ذا حساسية غير عادية من جهة أخرى. تستحوذ الفكرة عليه وهو في حالة يصبح فيها موجهاً قواه نحوها، فيبدو سلوكه شاذاً عن القاعدة أو عن المألوف، ويكون حينئذ أشبه ما يكون بمن ينتابه مرض مما يمر بالشاعر أو الفنان.‏

ومن حالات المخالفة للمألوف عند معظم المبدعين رفضهم ما يسعى إليه العموم من الثراء المادي، وعزوفهم عن السعي لتبوؤ ما يتزاحم الناس عليه من مراكز توصف بالمرموقة. فيحتقرون المناصب والمظاهر الأرستقراطية، ويرفضون بعناد أن يرتدوا عن قناعاتهم أو التنازل عنها حتى لو كانت في رأي من حولهم أفكاراً مجنونة أو منحرفة(8).‏

لكن (فوكو) يميز في الجنون ما هو في حدود المرض العقلي الذي ينتهي في غيابه كل إبداع، وبين ما هو ذو سمات إيجابية كبرى يناط بالأدب الرفيع والفكر الفذ استغلاله في إنتاج ضروب من المعارف والحقائق الباهرة التي لا تفطن إليها العقول الأليفة والسوية(9).‏

وتختلف الرؤية الأدبية للجنون جذرياً عن الرؤية العلمية، إذ ترفض الأخيرة الجنون على أنه انحراف غير مقبول، تقوم الرؤية الأولى على الذاتية الخالصة وعلى محاولة التفهم لدوافع الجنون وبواعثه، وفي حالات قصوى على تقمص شخصية المجنون أو اللجوء إلى تجارب غير عادية يقصد بها اختراق حدود العقل المألوف وكسر قوانينه وأعرافه المتوارثة(10).‏

كتب (جان لوي بودري) في مقالة له عنوانها (فرويد والإبداع الأدبي):‏

"المبدعون على صلة من نوع خاص بالجنون (...) والأثر الفني هو مظهر من مظاهر الهذيان التي يتملك المبدعين (...) الجنون، التملك، الهذيان، الإبداع هي ألفاظ، الواحدة منها قابلة لأن تحل محل الأخرى"(11).‏

في عام 1621 أعلن الكاتب والعالم ورجل الدين الإنكليزي (روبرت بروتوث) أن كل الشعراء مجانين، وأضاف إليهم فيما بعد الفنانين والفلاسفة، أما (درايدن) فيقول بالمعنى ذاته شعراً:‏

"العقول العظيمة مرتبطة يقيناً بالجنون على نحو وثيق‏

وهي الحواجز الرقيقة التي تفصل بعضها عن بعض‏

أما الشاعر الرومانسي الفرنسي المعروف (لامارتين) فهو يقول في المعنى ذاته:‏

"تحمل العبقرية في ذاتها مبدأ الهدم والموت والجنون كما تحمل الثمرة في باطنها الدود".‏

وقاد الخروج عن المألوف العديد من المبدعين إلى حتوفهم، فقدموا حياتهم ضريبة لموهبة رأى فيها الآخرون انحرافاً لم يحتملوه. فقد قتل (طرفة بن العبد) بأمر من ملك لم يتحمل خروجه عن المألوف ولم يستسغ سلوكه. ودفع المتنبي حياته ثمناً لخياله الشعري الذي صاغ فيه طموحه، فهجا من هجا، وفخر بنفسه ما رأى فيه الآخرون تجاوزاً عن حدود ألفوها، وكانت نهايته بحسب ما ترويه بعض الروايات، بسبب أحد أبيات من قصيدة له:‏

الخيل والليل والبيداء تعرفني .... والسيف والرمح والقرطاس والقلم‏

ومن المبدعين مَنْ كان ثمن إبداعاته صحته وأمنه واستقراره، خاصة حين لا يجد المبدع التقدير والتقبل من الآخرين فيتعرض للاضطراب والقلق. فهذا (نيتشه) فيلسوف القوة الكبير كان اضطراب الأعصاب ملازماً للحيّز الأكبر من حياته، عاش وهو يعاني الأرق المزمن والفساد في المعدة وكانت حياته حياة شقاء، إلى جانب أن المبدع في عناده وتشبثه بقناعاته واندفاعه في البحث والعمل يلاقي ما يلاقيه من عذاب يضع نفسه في أتونه وهو في معظم الأحيان في حالة إرادية لا قسرية، لذلك فهو يوصف في الغالب بأنه ذو شخصية (مازوشية)، كما ذكرنا سابقاً، وتبلغ به حالة الاضطراب النفسي تلك إلى العصاب أو إلى ما يشبهه.‏

هذا الخروج عن المألوف في سلوك المبدعين سهّل على الآخرين وصفهم بالجنون، وليس الأمر بدعة عصر من العصور، وإنما هو جارٍ في كل العصور. ألم يربط (أرسطو) بين الشعر والجنون؟ أما هوراس فقد فعل الشيء ذاته.‏

لكن ما يهوّن في الأمر أن أولئك الذين ينعتون المبدعين بالجنون، يعترفون في مواقف كثيرة بملازمة الجنون لتصرفات البشر، وهناك من يطلق هذه الصفة على حيوانات أخرى أيضاً.‏

والجنون، كما قلنا، درجات، وهو أمر نسبي. فما يعد اليوم جنوناً قد يغدو في يوم آخر سلوكاً مقبولاً وقد يوصف بالعقلانية أو التعقل.‏

وإذا راجع المرء سلوكه وحاول تفحص ما يطرأ على أحواله النفسية وسلوكه من تغيرات، يدرك أنه لا يستطيع التخلص من جنونه تخلصاً كاملاً، فكم يخفي مظهر الرزانة الذي يتزيا به من قلق قريب مما يتصف به الجنون، وكم من حكم يصدره على سلوكه فيصفه بالسلوك غير العاقل ويخاطب نفسه (لو كنت في عقلي الساعة لما حدث ما حدث). فكأن الحدود بين التعقل والجنون ليست واضحة..!‏

وقد ربطت بعض الدراسات السريالية بالجنون حين اعتبرت الجنون نقيض العقل.‏

وقد كان مؤسس السريالية (أندريه بريتون) يؤمن بأن الجنون يمثل الوضع الطبيعي للإنسان، واستعان بعلم النفس المرضي ومختلف ظواهر الهلوسة العصابية والفصامية من أجل تعريف الشعرية(12) .‏

(5)المبدع على حافّة الجنون:‏

للملاحظ العادي يتبدى الجنون في اضطراب الخيال الذي يقربه من حالة الهذيان، حيث يكون خيال المريض شديد الحيوية، وهي حالة تشبه إلى حد بعيد الصورة المثالية للشاعر حيث يكون أقرب إلى الجنون من أي شخص عبقري أو ينتمي إلى زمرة المبدعين.‏

(المجنون والعاشق والشاعر هم أصحاب الخيال الأكثر تأثيراً).‏

فيطلق المبدعون رؤياهم التي قد تؤذي الفئات المتسلطة أو الأعراف السائدة، (حتى الأنبياء وصفوا من مخالفيهم بالجنون..). وقد صنف (نيتشه من معاصريه ومواطنيه في زمرة المجانين وقد انتهى فعلاً إلى هاوية الجنون، لأنه كان يعد اليقين الحقيقي الطريق إلى الجنون. وكان الجنون بالنسبة له أحد المتطلبات الضرورية لإحداث التحول الجذري في وجدان الفنان وإطلاق طاقاته الكامنة. ومن نبوءاته التي كانت سبب رميه بالجنون والانحراف والشذوذ إعلانه أن الإنسان الجرماني يسير نحو الكارثة، وقال بتعريته من الأقنعة الحضارية والأخلاقية والفكرية الزائفة:‏

"ويل لهذه المدينة العظيمة، أنا الذي تمنيت، أن أشاهد أعمدة النار التي تحترق فيها، لأن هذه الأعمدة النارية يجب أن تسبق الظهر العظيم، ومع ذلك فلهذا أوانه وقدره الخاص".‏

ليس خروج المبدعين عن المألوف هو الغالب في سلوكهم. وإنما يظهر ذلك في لحظات معينة خاصة قبل توليد الفكرة أو القصيدة أو الخطوط العامة للوحة أو الكشف عن حقيقة علمية. (خروج أرخميدس عارياً من الحمام، وهو يصيح: وجدتها وجدتها). ومن الحالات التي تبدو فيها على المبدع أشكال سلوكية تقربه من الحد الذي يوصف به الإنسان بالجنون. يحدثنا (حنا مينة) عن حالة مما ذكرنا في وصفه للشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري) في موقف محدد، موقف تولد فيه عنده قصيدة جديدة، إن غرابة ما شاهده في سلوك الشاعر وهو الذي يغلب على السلوك الذي يصدر عنه ما هو رزين، فيقول:‏

"رؤيتي الأولى له –يعني الجواهري- كانت في أواسط الخمسينات، حين جاء دمشق مخلفاً (غاشية الخنوع وراءه)، دخلت غرفته في الفندق الذي نزل فيه، في الظهيرة، كانت النوافذ مغلقة، والكهرباء ضعيفة، وكان يدور في الغرفة في حالة من الغضب الغضوب، وهو يتمتم بما لا أدري من الكلمات، كان الدخان منعقداً، وأعقاب السجائر في كل مكان، في المنفضة، على حديد مشعاع التدفئة على الأرض، وكان قد كتب على ظهر علبة سجائره، وعلى أوراق صغيرة، وعلى الجدران. وقال لي إنه يدون مطلع المورد في القصيدة فقط. وبعد ذلك في الملعب البلدي –الذي كان في موقع معرض دمشق الدولي الحالي –ألقى قصيدته في تأبين الشهيد عدنان المالكي، والتي مطلعها:‏

خلفت غاشية الخنوع ورائي وجئت أقبس جمرة الشهداء‏

هذه الحالة يرى فيها (أندريه جيد) بعداً جمالياً وفكرياً ما كان ليكون لولا هذه الحالة من الجنون، حيث يقول:‏

"إن أجمل الأشياء هي التي يقترحها الجنون ويكتبها العقل. ينبغي التموقع بينهما بالقرب من الجنون حين نحلم، وبالقرب من العقل حين نكتب".‏

هذا البعد الجمالي على حافة الجنون، حدثنا عنه (جبرا إبراهيم جبرا) في صورة بهية بدت في سلوك فدائية فلسطينية شاعرة، بقوله:‏

"إنني لا أنسى مطلقاً لقائي مع شابة فلسطينية جذابة قرأت لي قصيدة، أو بالأحرى عدة قصائد، سلسلة من القصائد القصيرة، كانت قد كتبتها في دفترها الصغير خلال ليلة من ليالي القتال في عمان (أيلول 1970)، وكانت إحدى المقاتلات في المقاومة وكانت تقوم بواجبها في ليلة رعب، وهي مسلحة برشاش (كلاشينكوف) تدافع مع عدد قليل من رفاقها عن أحد الأحياء... وكانت في فترة الهدوء الطارئ بين نيران المدافع والانفجارات، تضع دفترها على رشاشها وتكتب في الظلام أبياتاً ملتاعة، لم تفكر قط بأنها ستحيا لتقرأها... إن شعراً كهذا لهو صوت من الجحيم".‏

قوة الإبداع في الأمثلة التي سقناها حين تستغرق سلوك صاحبها فإنها ترهنه للاوعي الذي يشكل في لحظاته تلك سلوكه وحياته أكثر مما تشكلهما إرادته الواعية.‏

وما يقرؤه علماء النفس في مثل هذه الأمثلة، يعدونه دليلاً على ما يتفرد به المبدع من سلوك بخلاف الآخرين من بني البشر، وهو نتيجة لسعة خياله وانطلاقه ولما يمتلكه من حدس ثاقب بحيث أنه يرى ما لا يراه الآخرون فيكون عرضة للاتهام في كونه شخصاً سوياً. وبسبب من ظهور البادرة الإبداعية أو الإرهاص بولادتها يكون شارد الذهن، غير قادر على توزيع انتباهه بين ما يعتمل في داخله وما يجري حوله كونه في حالة من الانتباه المركّز، فيغدو أمام الآخرين وكأنه يعيش في عالم غير عالمه فهو يعيش حلمه أو ما يشبه الحلم وفي حالة ما يسمى (تغير الوعي)(13).‏

ومع هذا فلا مسوغ لإطلاق صفة الجنون على المبدع، لأنه ثمة حدود ما زالت تفصله عن المرض العقلي. فيما يلي مثال عن (ك. غ. يونغ) يميز فيه بين سلوك الشخص العادي وسلوك المبدع.‏

طلب الروائي "جيمس جويس" نصيحة (يونغ) كمحلل نفسي بما يتعلق بسلوك ابنة الروائي التي تسبب له القلق. بعد الفحوصات الكثيرة استنتج (يونغ) أن الابنة مصابة بالانفصام لأن تفكيرها وكلامها يتسمان بالتشويه والانحراف الشديدين.‏

احتج (جويس) على هذا التشخيص قائلاً:‏

حاول يونغ أن يمدّ حدود اللغة الإنكليزية بحيث تغدو بنتي منحرفة ومشوهة.‏

فأجاب يونغ: إن جويس وابنته مثلهما كمثل شخصين ذهبا إلى قاع النهر، فبينما استطاع جويس أن يغوص إلى الأعماق النفسية للحياة ويعود منها، فإن ابنته قد غرقت فيها".‏

المريض العادي إذاً لا يستطيع أن يساعد نفسه في التفكير والكلام، بينما استطاع (جويس) أن يطور ذلك من خلال كتاباته الإبداعية.‏

فأنا المبدع تقوم على أساس من الوعي والتوجه والاستبصار ووجود إمكانات لديه للتنمية. ويتزايد الشعور بالذات عنده ويكون مطلوباً في حالات كثيرة. إلا أن هذه الأمور تكون غائبة في حالة المريض عقلياً.‏

وفي عمل المبدع ما يتوجه أساساً للتواصل مع الآخرين، ولا يكتمل عمله في ذهنه إلا بتوقع أو حدوث عمليات التلقي والاستقبال المناسبة لهذا العمل. فالإبداع في النهاية هو عملية تفاعلية قوامها الاحتكاك الإيجابي النشط بين المبدع والمتلقي بينما يتصف المريض عقلياً بالانعزال والانفصال الاجتماعيين والاجترار الداخلي.‏

لكن ذاكرة المبدع الناشطة قد تؤدي أحياناً إلى آثار سلبية تظهر عندما يحطم المبدع ما أبدع، حيث يتمثل نشاط الدافع لديه بدور الذاكرة التي تبدو على شكل حلم تغويه وتجذبه إليها مسحوراً بها مما يؤدي إلى تحطيم فنه وهلاكه، ويمثل (جبرا إبراهيم جبرا) ذلك بعروس البحر في الأساطير الإغريقية التي تغوي البحارة فينجذبون نحوها مما يؤدي إلى تحطم سفنهم وهلاكهم.‏

المبدع إذ يوصف بالجنون فذلك تجن عليه في غالب الأحيان وما ذلك –كما ذكرنا من قبل- إلا إحدى نتائج الحلم الذي –كما يقول مصطفى زيور- يجمع في أفق واحد بين العقل والجنون من حيث أنه خبرة من خبرات الإنسان العاقل ولكن طبيعته الهلوسية لا تختلف عن هلوسة المجنون.‏

وما من إنسان وخاصة المبدع إلا وحاصرته أشكال من أشكال التوتر والقلق وإن بدرجات متفاوتة من شخص لآخر. وبذا نفهم (سر غربة الراعي والسيرة الذاتية) التي كتبها (إحسان عباس) ووصفها أنها غربة نفسية، فيها نرى كيف كان هذا الكاتب الكبير المبدع يحاول نسيان نفسه من خلال عمله المتواصل، وفيها يستشف القارئ عمق المعاناة النفسية والمعرفية التي خاض غمارها إذ أنه "يرى فيما رأى النائم أن الماء قد غمر الطريق وأخذ يرتفع مع ارتفاع الجبل، لكنه أمعن في التسلق دون أن يلتفت إلى والده الذي كان يرجوه أن يعود(14).‏

وأخيراً مهما اختلفت التنظيرات المتعلقة بالعملية الإبداعية، فإن الإبداع يبقى قوة فريدة من نوعها في هذا الكون ويبقى هبة الحياة للنوع البشري. وقدرة الإنسان على استخدام خياله في الإبداع هي قدرة موجودة دائماً وهي بحاجة إلى رعاية واهتمام مستمرين.‏

ويتمتع الشخص المبدع بقدرة على استشعار الحاضر واستشراف المستقبل لأنه على اتصال دائم بعوامل لا شعورية لم تصبح بعد "موضع تقدير الرجل العادي وإن كانت مبشرة بحدوث تغييرات في المواقف الاجتماعية، لأن المبدع هو طليعة زمانه.. وهو أداة الحياة النفسية اللا واعية والقائم على تشكيلها، وهي أحياناً حمل ثقيل جداً، تحتم عليه التضحية بالسعادة وبكل شيء يجعل الحياة في نظر الإنسان العادي، جديرة بأن يحياها"(15).‏

(1) شاكر عبد الحميد: المرض العقلي والإبداع الأدبي ص45- في عالم الفكر (الجنون في الأدب)‏ 18/1، 1987.‏

(2) السابق، ص46.‏

(3) السابق، ص51.‏

(4) سامي قدوح: عملية الإبداع –ص137- الفكر العربي المعاصر، ع 13 ,‏

(5) رومي شوفان: المبدعون ص124، منشورات وزارة الثقافة، ترجمة وجيه أسعد.‏

(6) عبد الرحمن بدوي: التيارات الفكرية في فرنسا اليوم، ص29، عالم الفكر 15/2، 1984.‏

(7) رومي شوفان: س.ذ. ص164.‏

(8) عالم الفكر 15/1، ص70.‏

(9) عالم الفكر 18/1، ص19.‏

(10) السابق، ص21.‏

(11) الفكر العربي المعاصر: ع 23- ص130.‏

(12) الفكر العربي المعاصر- ع11- ص129.‏

(13)الثقافة العالمية –ع49- ص61.‏

(14) إحسان عباس: غربة الراعي- دار الشروق- عمان 1996- ص 174.‏

(15) أنطوني ستور: فرويد ويونغ ومفهوم الشخصية- في العبقرية (م. س.ذ).

ابومحمد الشامري 01-04-2005 03:20 PM



القراءة إنتاج المعاني

(1) وظيفة القراءة‏


فعل القراءة من أرقى الأنشطة التي يمارسها بنو البشر، فعلى الرغم من التنوع الواسع في وسائل الاتصال والتثقيف والمعرفة وطرائقها، وما ابتكرته من أسباب الجذب والتشويق، فإن ما يوليه المهتمون بشؤون التربية من مربين وأولي أمور لتعليم القراءة وتشجيع النشء على اعتيادها يندرج في إطار الأهمية التي ستبقى القراءة تحتلها في مختلف شؤون الحياة، من تثقيف ومعرفة واستمتاع.‏

فلم تزل المادة المطبوعة ذات قيمة عالية في اكتساب المعرفة، وأن الوسائل السمعية والبصرية التي تتنوع أشكالها في وسائط الإعلام لا تقلل منها على الرغم من كل ما في هذه الوسائط (مذياع، تلفاز، سينما، انترنيت...) من أسباب المتعة والسهولة واليسر وتوفير الجهد والوقت.. لكنها على أهميتها تبقى وسائل مكملة للكتاب ولا تتعارض معه، ومن شأنها أن تؤدي إلى تزايد الطلب على القراءة.‏

ومنذ العصور القديمة كان اهتمام الإنسان بالقراءة. فقد ورد في تعاليم أحد الحكماء المصريين القدامى قول موجه منه إلى ولده:‏

"ليتني أستطيع أن أجعلك تحب الكتب أكثر من حبك لأمك، وليت في استطاعتي أن أبرز لك ما في الكتب من روعة وجمال، فالكتابة أشرف مهنة في الوجود".‏

وللقراءة وظائف جمة، قد لا يدرك البحث جميعها. منها:‏

1- إنها توسع في أفق الإنسان من النواحي المعرفية والوجدانية وتساعد على انطلاق الخيال وتنشيط التفكير فيرود الإنسان بوساطتها عوالم لا متناهية.. فتنمو المعارف أفقياً وعمودياً. وعبّر المخترع الشهير (أديسون) عن هذه الوظيفة الهامة بقوله: "بالقراءة تعلمت كل شيء".‏

2- إنها واسطة تعلمية هامة تفسح في المجال لتعلم ذاتي ومستديم ما دامت الحياة.‏

3- بالقراءة يمكن أن تتم بعض المعالجات للمشكلات النفسية فهي تخفف من التوتر والضيق النفسيين، وبممارستها رياضة للنفس وراحة للفكر إضافة لما فيها من متعة.‏

4- للقراءة وظيفة تشخيصية تساعد المربي والأخصائي في مجال العلوم النفسية والتربوية والاجتماعية في اكتشاف عاهات ما لدى القارئ كما تكشف كثيراً من أسباب عدم التلاؤم النفسي والاجتماعي مما يساعد على تفهم حالات كثيرة من حالات عدم التكيف أو التكيف السيء مما يساعد على العلاج في حينه ووقته المناسبين.‏

5- للقراءة آداب وطقوس بحيث يمكن تصنيف القراء تبعاً لها في مستويات مختلفة وفقاً لها وبالاستناد إلى أهداف القارئ التي تستقرأ من خلال العلاقة بالمادة المقروءة.‏

(2)القراءة والإبداع:‏

كما نصف كاتباً بالمبدع ونصف النص الذي ينتجه بالعمل الإبداعي ونصف الفعل بالفعل الإبداعي كذلك يمكن أن نتحدث عن قارئ مبدع وقراءة إبداعية. فالنص –كما يقول (دي مان) -لا يقرأ نفسه مهما كان نوعه، وإنما يحتاج إلى قارئ يكشف عنه ويحركه ويجعله نابضاً بالحياة. فالنص لا يكون كذلك إلا بفعل عيني قارئ وعقله.‏

القراءة تجربة تفتح النص أمام التفسير، إنها حوار جدلي بين القارئ والنص، وبين الأسئلة التي يثيرها القارئ والأجوبة التي يقدمها النص، وبين الأسئلة التي يطرحها النص والأجوبة التي يحاول القارئ الإجابة عليها. وإضافة لذلك وبين الإجابات التي لا يقدمها النص والأسئلة التي يثيرها الكاتب الجديد للنص، وهو القارئ في محاولة كتابة نص جديد(1) يكون المتلقي في أثناء فعل القراءة أكثر من مجرد نفسه، وهو يتخيل بغير خياله، ويشعر بقلب غير قلبه- على حد تعبير (ج. س. لويس)- الذي يضيف إلى ذلك قوله: "عندما أقرأ الأدب العظيم أصبح ألوف الرجال ومع ذلك أبقى أنا نفسي، إني أرى بملايين العيون، ولكن الذي يرى لا أزال أنا... وكما هو الحال في العبادة والحب والفعل الأخلاقي، وفي المعرفة فإني أسمو على نفسي، ولكنني أكون حقيقة نفسي أكثر منه في أي وقت من الأوقات".‏

قد يتبادر للوهلة الأولى أن المتلقي في حالة القراءة، سواء كانت قراءة لوحة أو نص أدبي أو غير ذلك من ضروب الفنون يكون منفعلاً أو بحالة من حالات الانفعال أو ردود الأفعال البسيطة، لكن الواقع ليس كذلك، فليس القارئ –كما يظن- مجرد جهاز استقبال أو مستقبل، أو أنه واقع تحت وضع لا يسمح له إلا باستجابات بسيطة كالاستحسان أو النفور، أو أن ما يتعرض له من تغيرات وتحولات نفسية أو عقلية إن مثل هذا التخمين أو الظن لا يتعدى الانطباعات الأولية الذاتية ليس أكثر. فالقراءة فعل وليست انفعالاً، والنتيجة السابقة فيها الكثير من التسرع والسطحية في تقويم عمل القارئ، ولا أقول هنا الناقد، فليست القراءة مجرد عمل يقصد به التسلية واستهلاك وقت الفراغ واللهو أو النسج على وهم يهدف إلى التلاؤم مع وطأة الحياة وثقل الزمن. إن القراءة فعل ذو صلة بميادين ومجالات اجتماعية وأخلاقية متنوعة. وتتضمن فعاليات حسية حركية من ضمنها عمليات النطق والإبصار وحركة الشفتين والعينين ووضعية الجلوس وحركة الحبال الصوتية وغير ذلك مما تتطلبه القراءة جهرية كانت أم صامتة، لكن القراءة الجهرية تتطلب وضعاً اتصالياً مركباً يكون القارئ في أثنائها على صلة بنص يستجيب له فيكون معه متلقياً، يحركه ويبعث الحياة في كيانه بعامة، وبعقله بخاصة، وباتجاهين أو مسارين يتفرع أحدهما عن الآخر. مسار من النص إلى القارئ، ومسار من القارئ الذي يصبح مرسلاً إلى متلق ثانٍ (مستمع) أو أكثر. وقد تتخذ العلاقة أشكالاً متنوعة من مسارات خطية إلى أخرى متشعبة أو لولببة أو أنها تتخذ شكل شبكة متعددة الصلات والتقاطعات.‏

(3)فعاليات القراءة:‏

قد تكون القراءة صامتة وهي الأكثر شيوعاً في علاقة القارئ بالنص أو المشاهد باللوحة أو المجسم.. فلا تبدو العلاقة البيولوجية حركة أو جهداً ظاهراً.. وتتخذ شكل مسار خفي لا تمكن ملاحظته ولكن بالإمكان استقراءه بعملية تقويمية مقارنة بين حالة سابقة على الاتصال بالنص وبين مخرجات الاتصال به، كما يحدث في تقويم أي امتحان أو اختبار معرفي آخر.‏

وإضافة لما ذكر تتضمن فعالية القراءة فعاليات مكونة لها، عقلية ونفسية، وتفاعلات عاطفية وعمليات إدراكية وتذكرية يتآزر فيها فعل التصور والفهم والاستيعاب والتمثل والتطبيق والنقد والتقويم والتحليل والتركيب. وتبدو خلالها استجابات يقرأها الملاحظ في سلوك المتلقي (إقدام، إحجام، أو فيما يبدر عنه من ملاحظات أو التعليقات تتم عن الرغبة بـ، أو الرغبة عن.. الخ‏

وتختلف هذه الأفعال والاستجابة من حيث المستوى والدرجة من شخص لآخر، ومن زمن لآخر حتى بالنسبة للمتلقي نفسه.‏

ولا تستبعد من ذلك عملية التأثر بالنص وما يحمله من مضامين وما يشي به من معاني وما يحيله إلى خارج ذلك.‏

وقد تبلغ العلاقة بالنص حداً يتوحد فيه القارئ بالمادة أو النص أو الموضوع.. وإن في مستويات متنوعة. ويحدد الهدف من قراءة النص أحياناً مستوى أقل من القراءة الفعلية إذا اعتمد الفعل في البداية على مقدمات تهدف إلى كشف العلاقة وتحديدها أو استخدام النص في عمل من خارجه.‏

قد تكون القراءة هواية، وقد تكون وظيفة، وقد تكون ذات هدف يحدده القارئ مسبقاً وتتنوع بتنوع وظيفة القارئ وعمله (طالب، هاو، باحث، ناقد..) وخارج هذا القوس يكون القارئ الذي يستغل القراءة لتزجية فراغ عابر أو استجلاب النوم أو التخلص من ملل أو كسر حدة انتظار موعد.‏

تتباين الوظائف كما تتباين الهوايات، وبداية يكون التمايز مطلوباً بوضوح بين قراءة يقوم بها متلقون يقولبون تفكيرهم مع النص، أو يقسرونه للتطابق مع النص. وبين قراء ذوي عقل نقدي دون أن يكونوا من الباحثين أو النقاد أو المسؤولين والمحترفين.‏

ومما يتعلق بهذا الموضوع (الفعل، الفن، الانفعال) وكل المداورات والتفاصيل والعناوين والجزئيات وما يتكون منها ومن تفاعلها من كليات وتعميمات مهارة القراءة.. هل هذه المهارة معرض عنها في الزمن الثقيل والمثقل أم أنها في حالة تمدد أفقي أو شاقولي أو كليهما في وقت يتزايد فيه حملة الشهادات والحاصلون على الدرجات والألقاب العلمية المتكاثرة؟ هل هذا التكاثر تكاثر صحي أم أنه تكاثر سرطاني يشوه الثقافة ويسطحها ويدخلها في النفق المظلم؟‏

ومع هذا –الذي يشكو منه المهتمون ولا يرون فيه ظاهرة صحية –هل يبلغ الوجع حداً يدفع إلى التفكير والتفكر والتأمل والفحص والبحث والاستكشاف؟ أين يكمن السبب في العزوف عن القراءة؟ هل هو في المادة المقروءة؟ أم في الاكتفاء بالألقاب والأوسمة والزحف نحو المناصب وتقاسم الغنيمة وتعاطي شهادات الزور في المحافل والمؤتمرات والندوات التي يُقرأ في معظمها حال التردي..‏

قد تكون الصورة قاتمة حين يرى المرء أصنافاً من حملة الاختصاصات فقدوا صلتهم بالكتاب وبالقراءة واكتفوا بحمل الحقائب المحشوة بالأوراق الثبوتية التي تؤكد حيازتهم على الألقاب.. وتصبح هذه الأوراق كربابة البدوي الذي يتنقل بين مضارب القبائل يدعي الشعر بأشعار للآخرين لا ينقلها كما هي بل يشوهها وقد يدعيها لنفسه.‏

المجتمع المبعد عن القراءة، أو المجتمع الذي يعيش حالة الارتحال حيث السمة الأساسية له الاستهلاك والانغماس فيه...‏

يفرز الإهمال في تعلم القراءة وتعليمها متعلمين لم يتعلموا و (مثقفين) لم يتثقفوا، وما أكثر هؤلاء في مفاصل المجتمع الحساسة اقتصادية واجتماعية وثقافية و... في خضم هذا التردي والعطالة يجد الشامتون والحالمون من ذوي النوايا السيئة وغيرهم ممن تستهويهم الشعارات الفضفافة وأولئك الذين يقولون ما لا يضمرون فيعيدون كل شيء إلى أسباب يحيلونها إلى اللغة (العلة والمرض فيها، في حركات الفتح والضم والكسر والسكون) ويتكاثر المنظرون والمتفكرون من دعاة هجر العربية وغيرهم ممن لهم أهداف لا يخفونها، تهشيم اللغة، تخريبها، إلغاء التذكير والتأنيث، التثنية امتداداً إلى جمع المذكر السالم جمع المؤنث السالم وجمع التكسير.. اللهجة المحكية حل طرح وهناك من ينفذه بإصرار عبر وسائل اتصال لها اتجاهاتها وغاياتها إضافة لجاذبيتها وعناصر التشويق التي تذروها وتعطرها.. الكتابة باللاتينية بموازاة ذلك، وتتسلسل الحلول والاقتراحات تحت لافتات متنوعة تستخدم كلمات ومفاهيماً تخرج عن الحدود التي رسمها أصحابها (تقدم، عصرنة، تربية شاملة، تنمية شاملة).‏

كيف يتسنى للقارئ ضمن هذه اللوحة المزدوجة بالزيف والتزييف أن ينمي مهاراته ويسهم في إنتاج معاني النصوص التي دبلجها القادرون أن يؤمنوا لأنفسهم زوايا وصفحات وإصدارات يحشون بها الذهن فيسهمون في وأد الإبداع وتنحيته... وليس ذلك فحسب في عملية التزاحم على النشر والتكسب من الكتابة يصبح خط المبدع في أدنى الدرجات لأن الغث صار قاعدة والسمين شاذاً. ونتيجة صرعات التطوير وولوج الحداثة لا تتعدى الشعارات والنتيجة (أطباء لا يتقنون كتابة الوصفة الطبية، يكتبون ما لا يُقرأ، استهتار بالمريض وتواطؤ مع المرض، إيهام بعظمة المختص واختصاصه، جسور معلقة وأخرى محمولة صالحة للتصوير وليست صالحة للاستعمال).‏

هذه الصورة لا تلغي تنمية المهارات القرائية التي تنمي الذكاء وتكون القادرة على كشف الخلل وإعطاء الأجوبة ذات المصداقية العالية، إضافة لدورها في تنمية لغوية ومهارات في توظيف اللغة وتوسيع أفق القارئ بما سيمتلكه من معلومات أكبر قيمة مما يحصل عليه العازفون عن القراءة.‏

تنمية مهارة القراءة مسؤولية اجتماعية ليس الآباء من يستطيع الإسهام فيها في عصر تردي التعليم وتراجع دور المدرسة والمؤسسات التعليمية.‏

والآباء اليوم هم النماذج التي يمكن أن تكون قدوة للأبناء، ولا يتم إلى ذلك في الاستسلام لسلطان الشاشة الصغيرة استسلاماً مطلقاً.‏

(4) النص والتلقي:‏

نعود للعلاقة الجدلية بين النص والمتلقي. يقول (جاك لينهاردت): "ليس النص مجهولاً جهلاً تاماً من القارئ، فهو ليس مسبوقاً بمعرفة تهمّه بالذات، وإنما كل نص سبقت قراءته هو جزء من تجربة القراءة لنص جديد"(2).‏

تفرض بعض النصوص نفسها على ذهن القارئ، تدعوه، وقد تلح في الدعوة، إلى إعادة القراءة، إلى التفكير، تستثير خياله، بعضها يجلب للقارئ دفعاً للقوى الروحية وتكون ممتعة بلا حدود ومدهشة، كما يقول جيمس.‏

وكل قراءة، مهما كانت الدوافع إليها، هي محاولة اكتشاف وفهم، بشكل ما، وعندما تستنفر قدرات المتلقي تصبح جزءاً من حالاته الإدراكية.‏

وليست عملية الإدراك، كما يظن، عملية سلبية انفعالية أي أن القارئ لا يقوم بدور سوى استقبال المدركات دون القيام بفعل ما، وإنما يعمد إلى الانتقاء والتنظيم فتشكل القراءة بالنسبة له خبرة ذات سمة خاصة تتعلق به.‏

ومحددة في إدراك العالم الخارجي وتلوينه بخبرات سابقة. وتنطوي العملية الإدراكية على أنشطة متنوعة في التعامل مع عالم مركب متشعب يمد النفس بكم من المدركات ومن لحظات الوعي(3).‏

لكون القراءة عملية إدراكية، لا يكون إدراكنا لما تنقله حواسنا صورة فوتوغرافية للواقع الخارجي، كذلك فإن مخرجات القراءة ليست مطابقة للمادة المقروءة، حتى لو تساوت الظروف (ظروف النص، وظروف التلقي). فالمخرجات تتلون بمعارف المتلقي وبحالته الوجدانية وبمعتقداته وتوجهاته لكون فعل القراءة ينطوي على عمليات عقلية متعددة ويشتمل على عنصر الإرادة دون إغفال الحالات اللا شعورية والخبرات المكتوبة التي ينكأها النص... يكوّن النص والحالة هذه دلالات تستثير دلالات أخرى. فوجود النص يكون في هذا الإطار وجود قوة أو كمون ينتقل بفعل عمليات داخلية لدى القارئ تتفاعل مع بنيته إلى حالة من حالات الوجود بالفعل هو نتيجة لما سبق تسهم القراءة في تفجره وإخراجه إلى ساحة الشعور فيتنفس من هواء النص ويكتسبان معاً حياة موحدة. هذا إلى أن العمليات الداخلية تتفاعل مع الكلمات والعبارات والجمل وهي كائنات قابلة للتأويل وإعادة التفسير بحسب الموقف، والأشخاص وتنوع التجارب.‏

يوسع النص في المجال الإدراكي، الذي هو مجال شخصي بامتياز وفردي لوعي الشخص. لكن هذا لا يعني أن الإنسان قادر على وعي كل ما في مجاله أو أنه يستطيع أن يكون واعياً بكل أجزائه على حد سواء(4).‏

وبسبب مما ذكر وما لم يذكر ينطوي فعل القراءة على عملية إبداعية على عكس ما يظن البعض- بخلاف القول إن المعنى يصنعه الكاتب أو المؤلف. هذا الاعتقاد لا يجد مصداقية في الواقع. لأن المعنى قضية تتعلق بالوعي وليس بالأشياء والعلاقات الخارجية –كما يقول كروسمان- فالكلمات تتميز بشكل ما بالغموض وبما أنه ما من كلمة تعني شيئاً محدداً فإن فهم المعنى عند المتكلم يتطلب تخميناً لقصده.‏

أي عمل فني لا يكشف عن مكنوناته دفعة واحدة ومن المرة الأولى، وإلا فإنه يتحول إلى وثيقة جامدة مكانها الأرشيف، وتبرز في حالة محددة فحسب. وما يدعى بالنظريات العلمية كثيراً ما يُكشف بعد مدة تطول أو تقصر أنها لا تنطبق مع تسميتها أو تصنيفها. فإذا كانت الطبيعة قابلة للتأويل وإعادة التفسير فكيف بالعمل الإبداعي أو النص المقروء، كما يقول وايتهد.‏

كم من أديب وفنان تشكيلي ومؤلف موسيقي حين يعود لقراءة ما أبدعه يصاب بالدهشة وأحياناً بالذهول غير مصدق أن ما يتلقاه الآن هو من إنتاجه.‏

لا تكون سيطرة المبدع على المادة التي أنتجها سيطرة مكتملة. حين سئل (نجيب محفوظ) مرة عن سر تشابه روايته (حضرة المحترم) مع قصة قصيرة له، اعترته الدهشة وعبّر في رده على السؤال بالأسف لعجزه عن تفسير الأسباب. أما (عبد الرحمن منيف) فقد أثار دهشته أحد قرائه حين تحدث عن شخصية السائق الأرمني (أكوب) في روايته المشهورة (مدن الملح) قائلاً:‏

"يسرني أنك وجدت في شخصية أكوب هذا الذي قلته". واعترف (منيف) قائلاً: إني لم أفكر بشيء منه حين كتبت الرواية. (5)‏

القراءة المبدعة تنتج المعنى وتكشف في النص وتقوله بما لم يخطر على ذهن مبدعه.‏

وليس شرطاً أن يكون المعنى ذاته الذي هدفه المبدع حين كتابة نصه أو بعدها. ويخترق القارئ النص بخصوصية تختلف من قارئ لآخر بقدرة تأويلية تتناسب مع مستواه الثقافي وخبراته السابقة وحالاته النفسية والجسدية. إذ لكل ذهن خصوصيته. يقول (أدونيس) إذا كانت كتابة القصيدة قراءة للعالم فإن قراءتها هي كتابة للعالم".‏

يتمايز المتلقون ويتجلى نشاطهم الإبداعي في عدم الاكتفاء بظاهر النص وإنما أيضاً في الغوص في أعماقه وبتجاوزه للكشف عما وراءه وما بعده (ماضيه ومستقبله).‏

ولا تكون معرفة دوافع المبدع، في الحالة الطبيعية، أو إدراك الفكرة التي توجهه أو العقيدة التي يصدر عنها مهمة إلا بقدر ما تكشف عن الهدف الذي يكتشفه القارئ في النص دالاً عليه.‏

تقول (هيلين غاردنر):‏

"يجد القارئ في القراءة الأمل والشجاعة لكي يلقن الأدبُ درساً في الأخلاق ويسجل التجربة الإنسانية، فلا بد أن يكون مشحوناً بالأفكار والمشاعر الأخلاقية".‏

يبقى النص العنصر الأبرز في القراءة إذ تتمحور التأويلات حوله وتنطّقه بما تحصل عند القارئ من التواصل معه.. وتلعب النصوص الأدبية والأعمال الفنية دوراً مهماً في حياة المتلقين في أثناء القراءة اليقظة، ذلك أن المعرفة وزيادة البهجة الدائمة من الطبيعة العظيمة التي تكمن في مؤلفات المبدعين –كما يقول ورد ذورث).‏

فالقراءة تخلق البهجة كما أن جاذبية النص تمد الإنسان بالمتعة حتى في بدايات تعلم القراءة.‏

عبرت عن ذلك (نادين. ج. غرانغون) بقولها: لكي يتعلّم الدارس القراءة لا بد أن يشاهد شخصاً يقرأ، وأن تتوافر لديه الرغبة في القراءة، والقدرة عليها، وأن يتقنها وهذه ملاحظة ذات قيمة كبيرة بالنسبة للمربين، إن اهتموا بها أثّروا في تنشئة أبنائهم وتلاميذهم بما يحقق لديهم تلك المهارة الجميلة، القراءة المبدعة.‏

(5) القراءة (متعة الإبداع):‏

تحدثنا (فرانسواز دولتو) عن تجربتها في تعلّم القراءة وعن شعورها وهي مستغرقة بالقراءة مستمتعة بنشاطها وبالنص الذي تتواصل معه بقولها:‏

"كنت أنصت إلى قراءتي، وكانت الجملة تتخذ معنى جديداً بالنسبة لي، وبدا الأمر رائعاً، كنت أشعر أني لا أريد أن أتوقف أبداً، لولا أنهم أعلنوا عن موعد تناول الغداء" وتتساءل:‏

هل هذا هو معنى القراءة؟ إن للجمل والفقرات معنى، نعم. ولكن. (6)‏

حين يكتشف المتلقي المعنى وهو يقرأ فإنه طفلاً أم راشداً يشعر بمتعة تملأ جوانحه بخاصة وهو يكتشف ما وراء السطور. فالقراءة وإن اتخذت طابع الاستقلال والاستهلاك ظاهرياً، فإنها في الواقع نشاط يهدف إلى إنتاج المعاني، وكما هي الحال في استراتيجيات الإدراك فإنها تتلخص في التقاء الخيارات واتخاذ القرارات. (7)‏

يعبّر (أوكتافيوباث) عن حالة الإبداع في القراءة مستشهداً بقراءة الشعر قائلاً:‏

"وكما نرى عبر جسد الحبيب حياة غنية بالمعاني، نرى كذلك عظمة الشعر عبر القصيدة في لحظة تحتوي كل اللحظات وكل الزمان. يتوقف الوقت حينها، لكنه لا يكفّ عن المرور.‏

باستطاعتنا الوصول إلى التجربة الشعرية عن طريق القصيدة التي هي إمكانية مفتوحة لكل إنسان أياً كانت قدراته ونفسيته. وفي كل مرة يعيش القارئ القصيدة يصل إلى درجة أو حالة نسميها بالشاعرية.. تشبه قراءة الشعر الخلق الشعري إلى حد بعيد. يولّد للشاعر الصور أو القصائد. والقصيدة تعيد إلى القارئ صوراً وشعراً –فهو –أي القارئ يقاتل مع (هكتور) ويتعرف مع (أوليس) إلى أرض مولده. إنه يعيش صورة، وينكر التتابع، إنه يستبعد الوقت"(8)‏

وتحتفظ القراءة بدورها في كونها الأداة الاتصالية الأفضل التي تحتكر الامتياز الثقافي. فيبقى القارئ هو المسيطر على الموقف. وهو ما لا تمتلكه أية وسيلة اتصالية أخرى، لأنه يستمر ممتلكاً القدرة على توجيه فعل التلقي. والقراءة المبدعة قادرة على صنع فهمها الخاص للنص، مهما بلغت فصاحته وقدرات مبدعه. فالقارئ ليس مجرد أداة استقبال إلا إذا كان غير قادر على امتلاك قدراته العقلية خاضعاً لأحلام اليقظة غير ممسك بعملية التداعي الداخلية منقاداً بها تتحرك عيناه فوق السطور ولا تنقلان ما تريانه إلى دماغه. القارئ مؤول قادر على الحالات الطبيعية على توليد صور يوحي بها النص، أو أن النص يوقظ عنده معاني وصوراً ليست في حسبان المبدع ولا أي ملاحظ أو قارئ آخر.‏

في المعنى ذاته يجيب (جاك لينهاردت) على سائله قائلاً:‏

"إذا لاحظنا عن كثب في القراءة فإن البنية المقترحة، البنية الأيديولوجية أو السياسية، رؤية العالم المطروحة على القارئ يعاد تأويلها وتفسيرها حسب أيديولوجية القارئ ورؤيته الخاصة للعالم. ولكي نفهم السيرورة الثقافية للأدب والقراءة، نلاحظ أن سيرورة القراءة جدّ حركية، ولا ينبغي الاعتقاد بسلبية من طرف القارئ إزاء البنية النصية المقترحة عليه، بل على خلاف ذلك هناك إعادة تأويل لا بد من التعرف عليها" (9)‏

وبعد. أتوجد وسيلة أقدر على الجمع بين كونها أداة معرفة وثقافة، وبين أنها مصدر متعة عقلية على درجة من السمو؟ وأنها رياضة عقلية توسع في قدرات المرء وتكشف مواهبه وقد تفجرّ عنده نشاطاً إبداعياً يتصف بالجمال ويبعث على الارتياح، وربما يدفع إلى نشاطات متتابعة ؟‏

ولعل أعظم دليل وأفضل برهان على ميزة القراءة هذه أن رسالة الإسلام كانت فاتحتها كلمة (اقرأ). بـ (اقرأ) تنفتح آفاق ويُعلم مجهول، وتتفجر طاقات.‏

(1)عن عبد الكريم درويش: فاعلية القارئ في إنتاج النص- ص109- الكرمل ربيع 2000.‏

(2) الفكر العربي المعاصر، ع 13 ص149.‏

(3) سيزا قاسم، عالم الفكر 3-4 / 23 ص45.‏

(4) عالم الفكر 1-2/21 ص133.‏

(5)-عن فؤاد مرعي في عالم الفكر 2-1/ 23 ص 354‏

(6) -دومنياك: الثقافة العالمية. تعلم القراءة –ع52 ص 59‏

(7) -السابق: ص 65‏

(8) -أحمد المديني: مقابلة مع جاك لينهاردت –الفكر العربي المعاصر ع13 ص 156‏

(9) -السابق –ص 147‏

ابومحمد الشامري 01-04-2005 03:22 PM



( إقفال النص انتهاء المعنى )

(1) النص والمعنى:‏


فرّق الجرجاني بين المعنى ومعنى الكلمة، فالأول عنده يكون عند كتابة النص، لكن النص لا ينتهي عند كتابته. فتداول النص يفسح في المجال للتأويل أي للبحث عن معنى المعنى.‏

فكأن معنى العمل الأدبي يثبت لكن التأويل هو الذي يتغير من قارئ إلى آخر كما من زمن إلى زمن مختلف وبيئة إلى بيئة مغايرة.‏

وهذا التعبير المتغير، لا مندوحة لنا –من وصفه بالمعنى من حيث هو موضوع مثالي يمكن التعبير عنه بعدة طرق، وهو هنا لا يعني الثبات (كما عرفه الجرجاني)، لأن القصد منه اختلف. فكأن الكاتب المبدع لا يرمي في نصه إلى دلالة معينة، بحسب (مالارمييه) الذي يقول:‏

لا يتكون البيت الشعري من ألفاظ ذات معنى، بل من ألفاظ ذات نوايا. فما ينتجه المبدع إنما هو مشروع معنى.. وفتح النص أمام احتمالاته الدلالية ثراء له وتخلق بدلاً من غلقه على دلالة واحدة تؤدي به إلى الانقراض، وتحوّل قراءة النص إلى عمل رتيب. (1)‏

(2)القراءة والمعنى:‏

يتولد النص –بحسب ما يعرف في سوسيولوجية القراءة –في القراءة وبها. والقراءة كما هو معروف نشاط يوظف كل مستويات الثقافة، لأنه بالقراءة تستثار المعرفة السابقة والخبرات المكتسبة، وهي جزء من اهتمامات القارئ ومن حياته الشخصية والاجتماعية. (2)‏

والقارئ خلال ما يقوم به من نشاط يحاول أن يصل إلى الحدود النهائية في تفسير العمل الفني.‏

وقد يصل في لحظة ما إلى النقطة التي يظن أنها نقطة النهاية، وأن لا شيء بعدها. لكن معاودة القراءة مرة أخرى تكشف له وهم النهاية. ذلك أنه من الناحية الواقعية يحدث ما هو مختلف عن ذلك، لأن النص نادراً ما يغلق نفسه، وبالتالي فهو لا ينغلق عند المتلقي عند الانتهاء منه، أو عندما يغدو خارج الإثارة الحسية المباشرة.‏

ففي نشاط القراءة تتجلى عمليات معرفية نشطة ومتنوعة تتعلق بعمليات التفكير والتخيّل ناهيك عن عمليات الانتباه والتذكر والإدراك.. كون هذه العمليات فعاليات عقلية تسير في اتجاهين أو مسارين بينهما كثير من نقاط التقاطع والالتقاء. أولاهما يكون تمثلاً داخلياً للوقائع والصور ورموزهما. وثانيهما يكون إعادة، لفك الرموز وتأويلها بغية فهم الواقع الخارجي لاستدخاله في عملية التلقي. وبوساطة هذه العمليات المعرفية ينشئ الذهن المعاني التي تتوالد منها معاني أخرى، وهكذا في سلسلة يصعب التنبؤ عن نهايتها.‏

حيث ينشط الإنسان ويمارس الفعل القرائي –في الحالة العادية، وبشكل أولي –فهو يبحث عن معارف، أو عما يمتع، أو للتزود بصورة أو صور، ويرمي من وراء ذلك أن يصل إلى يقين افتقده في مسألة أو حكاية أو حدث أو تاريخ أو ما شابه ذلك.. ولكن هل يصل المرء إلى يقين مهما كانت المادة التي بين يديه؟‏

يقلق الإنسان فيبحث عما يبدد توتره ويدفع عنه الحيرة التي تتملكه بشكل ما أو تسيطر على زاوية ما من زوايا حياته العقلية.. هل تحقق القراءة له ذلك؟‏

(3)هل يحيل النص إلى اليقين؟‏

الركون إلى يقين يتوقف عنده القارئ يحيل إلى حالة من السكون لا ينتج عنها غير الموت أو إحدى حالاته. توارث الناس دعاء يرددونه في خوف ظاهر أو ملتبس على شخص يحقق نجاحات ما في حياته، يقولون فيه:‏

"الله، لا يكمل له سعداً"، فاكتمال السعد يعني بالنسبة لهم الموت فلا حياة بعد هذا الاكتمال الذي إن حدث فهو نقطة ما بعدها نقطة إنه نقطة النهاية.‏

حين يركن المرء (فرداً أو جماعة) إلى يقين في جانب ما من جوانب الحياة، ينغلق العقل عليه حيث يغدو ثابتاً، فإن استمرأ المرء هذه الحالة سكن، واستحالت حالته سداً يمنعه من أية انطلاقة في هذا الباب.‏

فالقراءة المبدعة -التي كما ذكرنا من قبل وهي التي تفتح أمام ذهن القارئ فضاءات جديدة يعي بعضها ويتحرك بعضها الآخر في مساحات أخرى تخلق مساربها وقنواتها لتظهر في نشاطات أخرى في مرات لاحقة. لذا فأشد ما يسيء إلى الناقد ويمنعه من الانفتاح على النص، هو وقوعه في وهم اليقين الذي يعتقد أنه قد وصل إليه.. وهو بهذا يسد على النص النوافذ التي يتنفس منها، وينشغل في لي عنق النص أو تفصيله وفق قوالب جاهزة نحتها بالاستناد إلى نظرية نقدية جاهزة أو متداولة، وقد يدفع هذا الشعور باليقين لدى الناقد بجمهرة من القراء والكتاب إلى الهاوية التي وقع هو بها.‏

فهذا الشعور يصبح في مجالنا هذا وفي محاولات أخرى، حتى في ميادين العلوم الأساسية وهماً. ومازال بعض العاملين في مجالات العلوم السلوكية والسياسية والثقافية أسرى هذا الوهم، وهم اليقين.‏

شرح (بروكس) هذه المشكلة التي أصبحت مصدر قلق الأوساط العلمية والأدبية والفكرية والعامة من الناس، قائلاً:‏

"تكمن المشكلة اليوم في أنه لم يعد لدى العلماء وعامة الناس ذلك اليقين.‏

إنّ كل أنواع المعارف هي –في التحليل النهائي –في صالح البشر، فقد ظهرت وتطورت خلال العقود الأخيرة الكثير من التطورات التكنولوجية، أقل ما يقال فيها، أن لها من المخاطر مثل ما لها من الفوائد. وسرعان ما ينبه أصحاب النظرة النقدية إلى أن العلم قد لا يكون المتسبب في خلق هذا النوع من المستحدثات التكنولوجية.‏

وعلى الرغم من ذلك، فإنه ما كان لهذه المستحدثات أن تحدث دون التقدم المذهل الذي حققته المعرفة العلمية في القرن العشرين.. وأصبح التشاؤم من النتائج المترتبة على تعاظم المعارف جزءاً من المناخ العام في زماننا. وعلى الرغم من أن العلماء أكثر تفاؤلاً عن ذي قبل، فإن فئة كبيرة منهم تسهم في إحداث جو من التشاؤم العام. ومن ثم لا يوجد مجال متعاظم للبحث يمكن أن يقال أن له مصلحة مؤكدة في إبراز الجانب الضار، كما وجد دائماً، ولا يزال لعدد كبير منهم مصلحة في إبراز الفوائد المرجوة" (3)‏

تقيم تكنولوجيا المعلومات قنطرة الوصل بين المادي وغير المادي لتدل على مفاهيم مشتركة تنطبق على الظواهر المادية والمعنوية. لكن هل تستطيع هذه المفاهيم أن تثبت على حال؟ سرعان ما يتبدد ما ظهر كأنه مشترك ليغدو حالات فردية متمايزة ومتباعدة، ما تلبث من جديد أن تعيد البحث عن القواسم المشتركة من جديد. سواء كانت أرقى من الأولى أو أدنى منها، وهذا هو مسار المفاهيم الذي لا ينتهي ينقلها من الوحدة إلى التنوع، ومن التنوع إلى الوحدة.‏

(4) لا نهائية النص:‏

أوضح (جاك دريدا) من خلال مقارباته في تفكيك النص أنّ لكل نص عدداً لا نهائياً من القراءات الممكنة، وفقاً لخلفية وهدف قراءته، والعلاقات التي تربط بينه وبين النصوص الأخرى. أو فيما يسمى بعلاقات التناص بأشكالها‏

المختلفة.‏

غالباً النصوص التي تفضح بواطنها من القراءة الأولى، ليست نصوصاً على درجة عالية من الأهمية. لذلك كثيراً ما يجد القارئ والناقد في غموض النص ما يثير وما يجذب نحو قراءته. وقديماً قال (الصابي) في (المثل السائر) أفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه. إلا بعد مماطلة منه. وذمّ (طه حسين) الوضوح داعياً إلى الارتفاع عنه لأنه يفسد الفن إفساداً ويقربه من الابتذال. وربما يكون هو ما قصده (راندل جاريل) حين قال: "أعظم خيانة يرتكبها الكاتب صوغ الحقيقة الصعبة في عبارة رخيصة.‏

لكن الغموض المطلوب لا يقصد منه التعمية وكتابة الطلاسم التي لا تفك أسرارها. ويوضح (خليل هنداوي) الغموض المطلوب بقوله:‏

" في الوقت الذي نرتد فيه عن بعض الآثار الفنية الواضحة كل الوضوح ضيقي الصدور، مظلمي القلوب، تملأ نفوسنا بعض الآثار الغامضة روعة وجلالاً. على ألا يقصد بالغموض الغموض لذاته، لأن ذلك يؤدي إلى فوضى تقوّض الفن".‏

هذا القدر من الغموض يتحدى فيه النص ذهن القارئ وتبرز من خلاله علاقة الكاتب بالمتلقي اللذان يمتحا من النص مالا ينتهي من المعاني.‏

ظل (غوته) يعلن حتى النهاية أن العبقرية تثير الدهشة، تثيرها بالوحدة في التنوع، بالدينامية التي تستوعبها التقاليد، والتي تبقى كذلك على التقاليد حية، بالتعبير الذاتي والاكتشاف الذاتي اللذين يشتركان معاً في صناعة نسيج للثقافة البشرية عبر التاريخ. (4)‏

(5) الكتابة وتحولات المعنى:‏


تظل الكتابة أحد أهم الإنجازات التي حققتها البشرية خلال تاريخها المديد. وفعل الكتابة يتعلق بنشاط التعلم الذي يعمل على تميّز العنصر البشري وفرض بقائه كجنس. فقد استطاعت الكائنات البشرية في الأعشار الأخيرة من المئة من وجودنا أن تبتكر لا المعرفة الموروثة فقط، بل والمعرفة الخارجية عن الجسم أيضاً أي تلك المعلومات المخزنة خارج الجسم والتي تشكل الكتابة ذاتها أهم نموذج لها. (5)‏

قبل اختراع الكتابة كانت المعرفة البشرية مقتصرة على ما يمكن للشخص أو للجماعة الصغيرة أن تتذكر، وفي بعض الأحيان، على غرار ما حدث في كتب الهندوس الدينية الأربعة، وفي ملحمتي هوميروسِ، أمكن المحافظة على جزء هام من المعلومات، ولكن لم يوجد حسب معرفتي –يقول ساغان –سوى القليل من أمثال هوميروس. أما بعد اختراع الكتابة، فقد أصبح ممكناً جمع وتوحيد واستخدام مصادر الحكمة المتراكمة عبر كل العصور، ولكل الناس.... إن الثقافة مدخل إلى أعظم العقول البشرية وأكثرها تأثيراً في التاريخ البشري، فسقراط، ونيوتن على سبيل المثال، لهما من القراء أكثر بكثير من كل الناس الذي أمكن لأي منهما أن يجتمع به في أثناء حياته. (6)‏

خلود الكتابة من ثراء المعنى وقدرة الفكرة أن تتسلل عبر العصور وإن كانت في تحول دائم من خلال نمو المفاهيم التي تحملها ونمو قدرات المتلقي على إنتاج معان تتناسب مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية وتتطور معها. قد يتأثر فعل التلقي بالمعتقدات السائدة وبالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وما يتعلق بالعادات والقيم، فتحدث قطيعة بين القارئ والمبدع وإن إلى حين. وهو ما يفسر حتى على المستوى النقدي عدم تقبل التجديد مما دفع بعض المبدعين أن يتطوعوا لأداء دور النقاد. لكن النص المتميز يفرض نفسه مهما بعدت المسافة الزمنية بين زمن كتابته وزمن قراءته.‏

وهو ما تصدقه مقولة (هيراقليطس) لا شيء ساكن، كل شيء يتحرك.‏

من هنا يمكن لنا أن نفسر غنى الحياة وجاذبيتها في الفن وأثر الفن في الحياة... فالنص إما أن يكون مفتوحاً على الحياة يتزود منها، باستمرار، بالطاقة اللازمة لبقائه واستمراره، ويضفي عليها الجدة بما يكون محملاً به من المعنى الذي يسبغ عليه سمات تميزه وقدرته على التطور الداخلي.‏

وإما أن يكون النص مغلقاً مغرقاً في ذاتية صاحبه فيغدو غير موجود عملياً إلا من جانب نظري بحت، فيصح فيه وبكاتبه قول طرفه بن العبد:‏

كريم يروي نفسه في حياته ستعلم إن متنا غداً أينا الصدي‏

فهل انتهى طرفة حين مات جسدياً، أم أن موته كان مجازاً، وإلا فلم بقيت آثاره موضع اهتمام وبحث لم ينته ولن ينتهي..؟‏

في علاقة المتلقي مع الفن يتداخل مباشرة مع المبدع من وراء النص الفهم مع التفسير والتأويل مع التخيل. فالكشف عن بنية العمل الفني سواء كان من ناقد متخصص أم من متلق متذوق منفتح الذهن، يشير إلى بيئته ويكشف عما وراءه أي أنه يكشف ما يخفيه وما يضمره. فكل من الإلياذة والأوديسة سيظل موضع اهتمام. كما أنهما سيستهويان القراء والمبدعين في استلهام معان وأفكار تشكل أساساً لإبداعات جديدة في مجالات مختلفة (شعر، قصة، رواية، مسرحية، تشكيل فني –موسيقي..)‏

وهذا شأن النصوص والأعمال الإبداعية المتميزة. ففي كل مرة تجري قراءة مثل هذه الأعمال فإنها تخلق مناخاً خاصاً يتأثر به المتلقي، مما جعل بعض المهتمين يعتقدون بأن المتلقي يذعن مع مثل هذه الأعمال لقاعدة في القراءة، تتمثل فيما يخلفه النص ويتضمنه ويثيره من "طقوس وشعائر.. وثم فإن المعنى معنى العمل يكون معنى تفاعلياً، وأن روايته رهن إطاره. فليس للنص معنى واحد وإنما معان متعددة متواكبة مع فيض الحياة" (7)‏

ويتردد أمام الإنسان سؤال مفاده –وهو سؤال مكرر –هل يكتمل المعنى في زمان ومكان معنيين؟‏

الجواب على ذلك: نعم ولا.‏

نعم في لحظة يتراءى فيها أن المعنى اكتمل.. لكن الأمر لا يستقيم مع هذا اليقين –كما بينا سابقاً –ويكون الجواب آنئذ: لا، لن يكتمل المعنى ما دامت الحياة، والحياة في تطور مستمر.‏

فالنص أو أي عمل ينتمي إلى عالم الفن يخلق لنفسه قيمة تتجلى في قدرته على تحدي القدر كما يقول (أندريه مالرو). فكل إبداع فني يكشف عن إمكانية بشرية في تخطي العصور وتجاوز الأمكنة حتى لو كان منتمياً تاريخياً لحضارة اختفت أو ماتت، إذ أن فنها لا يموت. "لا نعرف شيئاً –يضيف مالرو –عن الفلاح المصري القديم أو عن الفراعنة، لكنا نعلم الكثير عن الفن الفرعوني ونتجاوب معه، فنجد التماثيل المصرية في فرنسة..." (8)‏

هكذا يتيح العمل الفني للمتلقي أن ينفتح ذهنه على فضاءاته فيتوهج الفكر وينطلق، إلا أن ذلك لا يعفينا من توضيح أمر هام يتعلق بأوهام الكاتب أو المبدع ووقوع المتلقي في مصيدتها.‏

كما أن العمل الفني نفسه قد يقع في مطب مصدره تعسف المتلقي. وفي الحالين يكون السبب كامن في الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة التي تقصي المعنى من وعائه أو تختصره أو تشوهه، أو أن تتعسف على النص فتسبغ عليه من الأحكام والمعاني ما ليس فيه إن سلباً، وإن إيجاباً.‏

وكثيراً ما يقع العمل الفني والمتلقي معاً في مصيدة أحد النقاد الذي يحاول إثارة زوابع حول عمل ما أو حول صاحبه متسلحاً بنظرية فيفصّل العمل على النظرية فيفقده وحدته وتوهجه. فكم من إبداعات شوهها النقد وجار على أصحابها إن قدحاً وإن مدحاً)، فأثر ذلك على المتلقي بما استقر في ذهنه من حكم يفتقد المصداقية. فيتخذ المتلقي موقفاً من العمل الفني منسجماً مع أحكام مجافية للصواب. وكثيراً ما كشفت الأيام الموقف من هذا العمل أو ذاك ومن هذا المبدع وغيره من المبدعين.‏

في ندوة عن كاتب متوفى، كان أحد المنتدين يقارن بين قصيدتين للكاتب نفسه، نقدهما بلهجة منبرية، فاستجرّ تصفيق الحضور على إحداهما باعتقاد أنها الأصدق شعرية. بينما رأى زملاؤه على المنصة أنه تعسّف على الكاتب وعلى النص فيما افتعله من لهجة منبرية.‏

وهذا ما يفسر كيف يصنع بعض النقاد وأجهزة الإعلام من لا شيء شيئاً ومن أشياء رماداً.‏

فالمتلقي تحت تأثير مواقف مما تقدم أو ما شابه ذلك قد يعزف عن نتاج هذا المبدع أو ذاك متأثراً بتقييمات الآخرين. أو أنه قد يقوم بعملية تقويمية لما تركه هذا السلوك لديه، أو ما حققه مقارناً إياه بما سمع أو قرأ عن هذا العمل أو عن صاحبه، وقد تنتابه الحيرة أهو موافق على الأحكام التي تلقاها، أم أن ذائقته ليست في المستوى الذي يؤهله لأن يكون متلقياً موضوعياً.‏

فالمعنى الذي تنتجه القراءة يتأثر بالآراء المتداولة والأفكار المسبقة عن العمل أو صاحبه.‏

ويتحدث (هاري ستون) في كتابه (ديكنز والعالم الخفي) عن إقبال القراء والنقاد على أدب ديكنز وتحول هذا الإقبال إلى عزوف بسبب بعض الآراء المعادية لهذا الكاتب المشهور الذي تجاوز صيته الحدود الجغرافية فقرأ أدبه الناس في قارات العالم الخمس وبلغات مختلفة..‏

يقول صاحب الكتاب: من يستطع أن ينكر عبقرية (تشارلز ديكنز) الذي تربع على الرواية الإنكليزية، فقد شغف البريطانيون بقراءة رواياته، وفي مقدمتهم الملكة (فكتوريا) لكن ما حدث بعد وفاته، فقد خفت شهرته بسبب ما استقر في أذهان الناس من تقولات مصدرها (هنري جورج لويس) الذي نشط في التحدث عن (ديكنز) أنه مجرد كاتب ميلودرامي كاريكاتوري تتسم رواياته بالطرافة والإضحاك والتهريج، وأن قيمتها الترفيهية تعلو على أي قيمة أخرى، وأنه تنقصه النظرة الجادّة والعمق الفلسفي والإتقان الفني".‏

ومن الذين تأثروا بهذه التقييم المجحف لأدب ديكنز الروائية (فيرجينيا وولف) و(فوستر) وغيرهما... واستمر المتلقون متأثرين بهذه النظرة التي سادت عن الكاتب حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، حتى أنصف من ناقدين شهيرين هما: الأمريكي (ادموندويلسن) والروائي البريطاني (جورج اورويل) اللذين أعادا تقييم فن (ديكنز) الروائي، وأكدا جديته كما أبرزا‏

الجانب المأساوي من رواياته، وكشفا عن حسه الاجتماعي والنفسي الصادق.(9)‏

فكم من مرة وقع القارئ العربي تحت تأثير أحكام أطلقها بعض البارزين على الساحة الثقافية مباينة للصواب بعيدة عن كل صدق في القياس والحكم.. وكم من كتاب رمي زوراً بما ليس فيه ومن كاتب اتهم بالزندقة والكفر وغير ذلك من اتهامات ليس لها أساس مادي لها في سلوك هذا الكاتب أو نتاجه.. وكم من كاتب هوجم بتهمة لا يستحقها.‏

وبالمقابل من ذلك فإن كتاباً تصدروا الواجهة الثقافية لا على أنهم من المبدعين والمبرزين، بل لأنهم ينتمون إلى هذا الفريق دون ذاك...‏

في يوم كانت الموضة قراءة الماركسية، فلا كاتب ولا متلق جيد إلا من قرأها... وفي يوم آخر كانت قراءة سارتر ودوبوفوار، وفي أيام أخرى عزف عنهما... وينطبق القول على كثير من الكتاب والمبدعين عرباً وأجانب.‏

فهل يقاس عمل ما من حيث ما يمتلكه من خصائص إبداعية، بما نقرأه أو نسمعه من شهادات عن هذا الكاتب أو ذاك؟ وهل أن النصوص التي غلفها الغبار في مستودعات مؤسسات النشر، أدنى قيمة من أعمال تحقق أرقاماً عالية بالقياس لما هو سائد، على الرغم من الكساد في سوق الكتب الثقافية.‏

الحكم على ذلك ليس جاهزاً، وقد لا يكون متاحاً في المدى المنظور.‏

(1) -عبد الرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة –ص 326 –عالم المعرفة 279 -2002‏

(2) -جاك لينهارت" م. س ص 154‏

(3) -الثقافة العالمية –ع46 –ص8‏

(4) -مايكل بدو: غوته والعبقرية –في العبقرية –ص 159‏

(5) -كارل ساغان: تنانين عدن –ترجمة نافع أيوب –ص 82 –اتحاد الكتاب العرب‏

(6) -السابق ص 242 /243‏

(7) -شوقي جلال: مقدمة كتاب لماذا ينفرد الإنسان بالثقافة –ص 14 –عالم المعرفة‏

(8) -جوزين عثمان: مالرو –سنغور وحضارة الإنسان في عالم الفكر 13/ 2 ص 83‏

(9) -هادي سنو: ديكنز والعالم الخفي –عن عالم الفكر 13/3 –ص 315 –316‏


ابومحمد الشامري 01-04-2005 03:23 PM



( التذوق والتقدير الجمالي )

(1) التذوق من المبدع إلى المتلقي:‏


مهما كان جنس العمل الفني وانتماؤه، لا يمكن تحريره –إلا من ناحية فرضية بحتة –من تعلقه بمبدعه أولاً ثم بمتلقيه ثانياً.‏

فليس العمل الفني مقطوع الصلة عن المبدع وخصائصه النفسية والبنية الاجتماعية والثقافية التي ينتمي إليها. ولربما كان الاتكاء على النص أو العمل مفيداً في تحليل الأعماق اللاشعورية للمبدع، لذا فالانتقال من العمل إلى مبدعه أو منتجه أفضل من إقصائه لأنه يفسح في المجال لاكتشاف ما يجمع المبدع بالمتلقي، أو ما يجعل المنتج الفني وتذوقه قابلين للفهم.‏

ويجد المرء نفسه في كل محاولة لفهم عملية التلقي بحاجة ماسة إلى فهم ديناميكية الاستجابة وعلاقتها بالمثير من جهة وبعملية الاتصال من جهة أخرى وليس بعيداً عن علاقة ذلك بالقيم التي تجعل من عمل ما على درجة معقولة من القبول لدى هذا المتلقي أو غيره.‏

وخضعت عملية التذوق لعديد من التفسيرات أكد بعضها على العوامل التي يتكون منها العمل، كما أن بعضها الآخر شدد على العوامل الذاتية لدى المتلقي. لكن هذه التفسيرات على اختلافها لم تمنع تفسير عملية التذوق بمجموعتي العوامل معاً. وهذا ما يدخل أثر المثير ودوره (وهو في مجال الاتصال والعلاقة بين المبدع والمتلقي يتمثل في العمل الفني) ودور الخصائص التي تميزه والأشكال التي يظهر بها (من البساطة أو التعقيد) وقدرته على إحداث استجابات متنوعة في معادلة العلاقة في التذوق بين المبدع والمتلقي بحيث يشكل العمل الفني في البداية نوعاً من المخرجات عند المبدع ليصير مدخلات لدى المتلقي.. لكن العمليات النفسية والعقلية المتفاعلة مع هذه المدخلات هي التي تمنح مخرجات عملية التلقي خصائصها وسماتها لتعود هذه المخرجات فتؤثر في المبدع من خلال عملية تغذية راجعة تدعم ما استحسنه المتلقي وتعطي الإشارة للمبدع للمراجعة فيما لم يلق استجابة حسنة عند المتلقي.‏

وقد تناولت الدراسات القديمة والحديثة عملية التذوق بالبحث والتفسير. ففي كتاب (الهوامل والشوامل) يتساءل أبو حيان التوحيدي عن طبيعة الإدراك الجمالي فيقول: "ما سبب استحسان الصور الحسنة؟ وما هذا الولوع الظاهر والنظر والعشق الواقع من القلب والصبابة المتيحة للنفس والفكر الطارد للنوم والخيال الماثل للإنسان. أهذا كله آثار الطبيعة؟ أم من عوارض النفس؟ أم هي من دواعي العقل؟ أم من سهام الروح؟ (1)‏

فالتلقي لا يتم في حالة استرخاء وإنما هو بحاجة إلى الاهتمام والانتباه. إذ يشتمل الاتجاه الجمالي على نوع من الابتعاد النسبي عن الانشغالات الذهنية والاهتمامات العملية –كما يقول اوسبورن –ويكو ن الاهتمام بالموضوع الجمالي ليس من خلال كونه ذي فائدة أو نفع، وإنما من خلال تفهم الجوانب الانفعالية والمميزة لها.‏

ولربما كان التذوق كأي نشاط ذهني غير بعيد عن العاطفة بحاجة بالإضافة إلى الدربة إلى مستوى أرقى من التركيز يقوم على التمهل والتروي والتحكم بعيداً عن التسرع في إطلاق الأحكام والذوبان والاندماج. ولا بدمن إضاءة الموضوع بالانفعال والشعور والمعرفة والاستدلال والتحليل والمقارنة والتصنيف وتكوين المفاهيم...‏

وهكذا يكون التذوق "ممكناً من خلال نوع من الاكتشاف العقلي الذي يتطلب بدوره ذاكرة متطورة والارتقاء بها، بحيث يمكنها الاحتفاظ بخبراتها لمدة أطول، كما يتطلب ذلك قدرات إدراكية وتحليلية ومعرفية" (2)‏

ولا يمكن فصل عملية التذوق عن عمليات التأمل وإتقان الاستماع والمقارنة والتحليل وهو ما يرى فيه علماء النفس أساساً مهماً في التفاعل بين الانفعال والعقل، وبين الحساسية الوجدانية وعمليات التفكير والتحليل والمقارنة المعرفية.‏

وتمتد هذه العملية من إغراء الحواس وإغوائها إلى كشف الأعماق، حيث تستمد قوتها أو مشروعيتها من كون الخيال هو الذي يستطيع أن يعيد للبشرية المهددة فكرة الحرية، ولعل هذا كان أحد أهم المبادئ الأولية في انطلاقة الحركة السريالية، كما يقول جبرا إبراهيم جبرا. (3)‏

وهو ما نجده واضحاً فيما قاله (أراغون):‏

"إنها مسألة التوصل إلى إعلان جديد لحقوق الإنسان" بينما عدّها (بريتون) وهو السريالي المعروف الخلق التلقائي الذي يتعدى الواقع المحجوب. فوراء الواقع أي في اللاوعي الحقيقة الشاملة التي ينطوي تحتها كل شعر، كل مجاز، كل شهوة، كل حلم.‏

فعملية التذوق التي تشد عملية الاتصال بين المبدع والمتلقي هي جزء من لغة النفس التي وهي في الأعماق لا تنطق إلا بالرموز المغلقة.(4)‏

وهو- أي التذوق- يلبي حاجة هامة تطلبها الحواس بعلاقته بالسحر. فلو (انتزع من قلوب البشر حب الجمال، لما بقي في أعينهم أي سحر). بهذه العبارة الدالة عبّر (روسو) عن عملية التذوق التي تقول عنها الروائية عالية ممدوح بها نجرؤ على استحقاق الجمال.‏

لكن هل تستطيع العلاقة بين المبدع والمتلقي أن تمنح التذوق بمعناه الأوسع الفني والجمالي تعريفاً محدداً؟ أم أن التذوق بحاجة إلى مزيد من الفحص حتى يمكن فهمه بصورة أوضح وأكثر صراحة؟‏

(2)التذوق والمعنى:‏

يتصل التذوق بالمعنى في العمل الفني، وبمعنى العمل بعامة والنص بخاصة الذي هو هذا الشيء الذي ينتجه القارئ حين يقرأ وليس ذاك الشيء الدفين أساساً في النص بمعزل عن القارئ.(5)‏

فكل شيء في الوجود- بحسب أرسطو- هو محاكاة لمثال. وهذا المثال لا تراه العين أو لا تقع عليه، وهو محاكاة لعمل جميل موجود أو متصور يجلوه الفكر أو يصوره الخيال.‏

فالمعنى إذاً غير مطروح في السوق كما يقولون، وإنما هو ما ينتجه القارئ أو المتلقي بعامة. سواء كان العمل لوحة تشكيلية أم نصاً أدبياً أو لحناً، أو حركة.. الذات المتلقية هي التي تصنع له معنى. ويبقى العمل الفني مطروحاً ومفتوحاً على المزيد من التأويلات بحسب الانطباعات التي يتركها والتي تتأثر بدورها بقناعات المتلقي. ويفرض العمل الفني اتباع "منظومة هادية إلى القراءة وبالتالي إلى المعنى، ولكنها في الآن نفسه منظومة لا نهائية مفتوحة، وتحتاج إلى استكمال وتجسيد.. وحقيقة النص تقع في العلاقة بين القارئ والعمل، وهي نتيجة الوشيجة الجدلية بينهما"(6).‏

ويستند المعنى في علاقته بعملية التذوق والإدراك الجمالي إلى تربية الحواس حيث تجد الحواس في العمل الفني ما يشبع حاجاتها. (لا يقتصر دور الأذن على سماع الأصوات، وإنما هي بحاجة لأن تسمع- ولا تقتصر وظيفة العين على رؤية الأشياء وإنما هي بحاجة إلى أن ترى. فكأن الجمال تعبير ووسيلة في الوقت نفسه لإرضاء حاجات عضوية لدى الكائن البشري. فالحاجة إلى الجمال والانسجام- تقول جوكوفسكايا- مغروسة في طبيعة الإنسان ذاتها. وينجذب الأطفال منذ الصغر إلى ما يبدو لهم جميلاً ساطعاً بشكله أو لونه.(7) كل إنسان، بشكل ما، ذواقة.. يتذوق شيئاً يستهويه أو يجذبه نحوه. ويعتمد التذوق على الحواس أولاً، لكنه يتطور من مجرد انفعال يقوم على الإعجاب والدهشة اللذين يسترعيان الانتباه إلى تقدير شخصي للعوامل المعنوية الدفينة في العمل.‏

تنبعث الانفعالات الخاصة بالجمال بالسمع والبصر.. ويكون التذوق بهذا المعنى تفاعلاً ضمنياً بين الشيء الجميل والمتلقي، وهو يعرض للحالة الشعورية عند الإنسان. وبالتالي يكون التذوق بهذا المعنى شعوراً بالتوافق الوجداني بين حالاتنا الانفعالية وإيحاءات الوحدة الجمالية، وهو يتعلق بالعواطف التي كلما كانت رقيقة إيجابية ساعدت بدورها على الارتقاء بالذائقة الجمالية.‏

ويمكن إجمال ما سبق في كشف العلاقة بين المعنى والتذوق في أن الأخير يتمثل في قدرة الشخص على الاستجابة الانفعالية لما يحسه ويشعره، وهو موجود لدى الناس كافة، ولكن بدرجات متفاوتة.. ويكاد يكون واحداً بين المنتمين لبيئة واحدة بفعل الثقافة المشتركة والعيش المشترك، وكما يقول (ماكدوغال) هو حالة وجدانية صرفة. ولأنه كذلك فهو يتصل بعاطفة الحب الذي يعود التخلف في التذوق الجمالي إلى إهمالها. وكشف عالم النفس الفرنسي المعروف (الفريد بينه) أن أطفال السنة الرابعة قادرون على تذوق الجمال، وإن في أبسط أشكاله لأنهم مفعمون بالحب الوالدي.. وكل ما ذكر يشكل الضرورات في عملية التذوق ولكنه لا يكون كافياً إذا لم يستند إلى خلفية معرفية عقلية..‏

(3)التذوق والاستمتاع:‏

لا ينفصل التذوق عن الاستمتاع بالجمال الذي يحتاج إلى مكابدة وممارسة ودربة. وهو بالتالي يخضع لعمليتي الاكتساب والتعلم. فما يساعدنا على اكتشاف الجمال لا يكون خارج خبراتنا التي بوساطتها نتذوق الجمال فيما حولنا، وبها ندرك ما يتمتع به العمل الفني من الجدة والأصالة. وكلما كان المتلقي قادراً على الاستمتاع بألوان مختلفة من الفنون كلما كانت لديه القابلية لتذوق ضروب فنية متنوعة.‏

(4)التذوق والخبرة والإدراك:‏

من كل ما سبق يمكن أن نلج إلى مفهوم الخبرة الجمالية والإدراك الجمالي. فالخبرة الجمالية ظاهرة بشرية- وإن وجدنا لها أساساً في سلوك بعض الأصناف والأنواع الحيوانية- وهي تعود في أصولها إلى نواح فطرية أولية، لكنها لا تظل كما هي عليه لدى الإنسان الذي لا يقاس ما يتعلمه ويكتسبه بما هو غريزي لديه.‏

وتبدأ الخبرة الجمالية عند الإنسان منذ إحساسه بالطبيعة واكتشافه ما فيها من نظام وتوافق. وهو إحساس خصب وفير. وتتداخل هذه الخبرة مع عملية الإدراك وتتفاعل معه. والإدراك في تجليه الجمالي لا يرى في الموضوعات أشياء ينتفع بها، وإنما يراها ظواهر جمالية يتذوقها، ويقف عندها لذاتها، ويستمتع بها.‏

فالتذوق يكون متحرراً من سر المنفعة ومن طلب الموضوع لذاته.(8)‏

وفي جانب من الخبرة الجمالية نكتشف خبرة تأملية بعيدة عن الاصطناع كونها- أي الخبرة الجمالية- تحتاج إلى مزاج خاص بها.‏

ولاكتشاف عنصري الرشاقة والإبداع ونقيضهما (كلام مهذب، كلام ناب) يجد المرء أين اتجه أن الحياة تنبض وتفيض بصنوف من الفنون الإبداعية والإنشائية كالنقش والنسيج والتطريز والعمارة وصناعة الأواني والنماذج الحيوانية والنباتية بحيث يستمتع المرء بالجميل ويحس به.(9)‏

إذ أن الفن بمختلف ألوانه ما هو إلا أداة تشكيلية تستند إلى تنسيق الواقع وتنظيمه وتحويله إلى صورة تجسيمية مبتكرة.‏

وكما يعلمنا التذوق رؤية الأشياء بنشاط، يعلمنا التفكير والإحساس بعيوننا وآذاننا وببقية حواسنا واستيعاب الخصائص الجمالية.‏

وكلما كانت القراءة (أو فعل التلقي) النشطة مقترنة بالنقد والتفكير كلما كانت القدرة في السيطرة على ما ينطوي عليه العمل من معنى أكبر وأفضل.‏

فما يثيره فينا الشيء الجميل أو (الجمال) هو معادل أخلاقي للفضيلة هذا ما رواه أفلاطون عن لسان أستاذه سقراط. إذ أن اللهجة الحلوة والرشاقة والانتظام لا تتأتى إلا من عقل نبيل مرتب منظم.‏

وفي المعنى ذاته يقول (رامبراندت):‏

"لن تكون الحياة لدى الناس عادلة إلا إذا كانت طافحة بالجمال"‏

فللتذوق مداخله المعرفية والأخلاقية والعاطفية والاجتماعية، يلخصه فرويد بقولـه: الانفعال الفني هو أعمق شيء في أعماقنا وهو أحد أشكال الاندماج الاجتماعي بل أقواها. فالإعجاز في الفن يتمثل في أنه يرد إلى أنفسنا عن طريق مزجنا بالآخرين كلياً، وكنا نجهلهم جهلاً تاماً.‏

وفي عملية التذوق الفني يهدأ روع الإنسان ففي اللحظة التي يحس فيها بالاغتراب والنفي يؤكد له الفن ذلك الرباط الروحي بالآخرين يجمعه وإياهم وحدة شعورية لا تنفصم.(10)‏

(5)التذوق والتقدير:‏


يبقى أن نشير إلى ما يميز التقدير الجمالي عن التذوق. فإذ يكاد التذوق أن يكون متشابهاً لدى أبناء الثقافة الواحدة باختلاف في الدرجة فإن التقدير يختلف عن ذلك، إذ يكاد لكل شخص حكمه وتقديره تبعاً لثقافة الشخص وكيفية تفاعله مع البيئة. وهو- أي التقدير- يتناول القيمة الإدراكية للشيء على أساس من إدراك العلاقات بين عناصر الموضوع ومعرفة تركيبه. إلا أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى أن تقدير الجميل والحكم عليه يتأثران بالعوامل الذاتية للشخص (حالته النفسية، قدرته على النظر إلى الموضوع بمنظار منتجه، قدرته على المقارنة). وهنا تختلف نظرة الشاعر مثلاً للقصيدة التي يتلقاها مع نظرة القاص أو الفنان التشكيلي.. وتتعلق النظرة بالمادة وعناصرها وشكلها. وبلغة المتلقي وقدرته على التحليل والتركيب والنقد وبخبراته السابقة. فالرؤيا الجمالية في علاقاتنا بالمحيط والمؤثرات المختلفة فيه تكتشف علاقات منها ما هو مطمئن، ومنها ما هو منفر. لكن الإنسان المتذوق يحاول أن يغير من موقع الأشياء أو يتلاعب بالعناصر يبرز بعضها يخفي البعض الآخر حتى يتحول ما هو داخل مدى إحساسه إلى مظهر جمالي ماتع، لكن هذه الرؤيا لا تأتي سهواً رهواً بل نتيجة تربية وتعود.‏

(6)التذوق والتربية الجمالية:‏

واهتمت التربية الحديثة منذ بدايات عصر النهضة في أوروبا بالتربية الجمالية يقول (جان جاك روسو):‏

الغرض من تربية إميل أن أثبت عواطفه وأذواقه، وأن أمنع شهواته من النزول إلى الخبيث والرذيل. فإذا تم ذلك وجد إميل طريقه إلى السعادة ممهداً وأملي الوحيد أن يجد ذلك في المنزل.(11)‏

وتنطلق التربية الجمالية من كون الميل إلى الجمال واحد من ميول الإنسان الفطرية. وهو ميل يعود إلى جملة دوافع أولية، بل إن بعضهم يعده دافعاً من دوافع الإنسان العليا أو الراقية (حق، خير، جمال). لكنه لا ينفصل عن الحياة العضوية للإنسان وما تنطوي عليه من إحساسات وحركات وما تتطلبه من حاجات.‏

يرتبط ابتكار الموسيقا والشعر والغناء، وتذوقها بحاسة السمع. كما ترتبط فنون الرسم والنحت والتصوير والحفر وما إليها بحاسة البصر. أما الرقص فإنه يعود إلى الدافع الحركي.‏

لكن الإنسان بما يتميز به نموه العقلي والاجتماعي والانفعالي يصعّد دوافعه الأولية فتتجاوز دوافعه الأولية تلك مظاهرها البدائية إلى مظاهر أكثر تنوعاً وأعظم رقياً. حيث ترتفع الحركة عند الإنسان من حركات عشوائية محدودة إلى أشكال من الرقص الجميل والألعاب الممتعة.‏

تقول (جوكوفسكايا): الحاجة إلى الجمال والانسجام مغروسة في طبيعة الإنسان ذاتها. والأطفال منذ الصغر ينجذبون إلى ما يبدو لهم جميلاً ساطعاً جذاباً بشكله وألوانه.‏

كما أن المعرفة- بحسب بياجيه- ليست معطىً نهائياً بل تتشكل باستمرار، فالعلاقة بين الذات والموضوع هي سلسلة من عمليات التكيف التي تستمر مدى الحياة من خلال عمليتي التمثل والمطابقة.‏

وبالنسبة للشعور بالجمال والانجذاب إليه فيمكن ملاحظته من خلال ما يظهر من استجابة الطفل وهو في المهد نحو الأشياء الجميلة والأصوات الشجية..‏

أما ما يخص التعبيرات الفنية فتظل محكومة بالنمو الجسمي والحركي والنفسي.. ولكن ذلك الشرط الضروري لن يكون شرطاً كافياً فللتربية الدور الأهم في تربية الطفل على حب الجمال وتذوقه وتقديره بالإضافة إلى تدريبه ورعاية ما لديه من مواهب ليعبر عما يشعره وينتج الأشياء الجميلة..‏

إن في رعاية الطفل ومساعدته على الابتكار وتذوق الأشياء الجميلة دعوة حارة إلى تنمية الإبداع وتقديره. وإن إيقاظ إحساس الطفل لتذوق الجمال في شتى مظاهر الحياة هو إحدى مسؤوليات التربية في سن مبكرة من الحياة. ويراعى في ذلك:‏

1- تنمية القدرة على التعجب عند الطفل كخطوة أولى تتيح للطفل فرص تذوق الجمال من خلال إدراك الموضوع الجميل والشعور به وهو ما يمكن من أن يصبح الطفل قادراً على الانفعال بضروب الثراء الكامن في الوجود، وأرهف إحساساً بصنوف الجمال والانسجام الباطنين في الحياة.(12)‏

2-منح الطفل فرصة أن يرى ويسمع روائع الفن والأعمال الإبداعية لأن الاحتكاك المباشر بمثل هذه الأعمال دون اللجوء إلى التفاصيل الفنية الدقيقة أولاً يساعد على تدريب الذوق ونموه.‏

3-لا يقيد الكبار الصغار بوجهات نظرهم في تقدير الجمال الكامن فيما يعرض لهم، وألا يعارضوهم في آرائهم وترك الحرية لهم في تذوق الجمال دون قسر.‏

4-إتاحة الفرص للطفل لإصدار الأحكام على الأعمال التي يتصل بها. فليس ثمة تعارض بين "التفهم والتذوق، وبين التفكير والوجدان، بل لا بد من تشجيع حماسة الأطفال للنواحي الجمالية وتعبئة الطاقات النفسية، لما فيها من الدهشة العقلية والتفكير النقدي من أجل تذوق الجمال على النحو الأكمل".‏

5-اختيار الأعمال والنصوص التي تعرض على الأطفال منذ سني الحياة الأولى. على أن يضع المربي في اهتمامه أنه لا يوجد جمال بحت في أي من ضروب الفن والأدب. بل أنه في كل فن شكل وظيفي يقوم بأداء وظائف معينة من أجل هدف أو أهداف على ألا يكون في ما يقدم دغدغة للعواطف وإثارة للغرائز بل أن يكون الهدف الأهم المساعدة في نمو شخصية متكاملة متوازنة.‏

6-يراعى فيما يقدم للطفل من أعمال فنية وأدبية ما يتناسب مع درجة نمو الطفل من الناحيتين النفسية والعقلية.. وأن يكون فيما يقدم ما يذكي الخيال.‏

7-والخلاصة: يعلّم الفن بعامة والأدب بخاصة المتذوق إدراك الأشياء بنشاط ويعلمه التفكير والإحساس بعينيه وأذنيه وخياله واستيعاب الخصائص المتطورة والجمالية لما يقع في دائرة حواسه. ولا ينفصل الإدراك الحسي عن الإدراك المعرفي وهذا ما عبر عنه سيزان بقوله:‏

الطبيعة هي ما داخل نفوسنا، كما أن ليونار دافنشي قد رأى أن المعرفة تستمد جذورها من إدراك المحسوسات.‏

تشارك عملية التذوق العملية الإبداعية في كون كل منهما سلسلة من شطحات الخيال، حيث يخلع المبدع عليها الشكل المرغوب بتكوينات المادة المطابقة لما يريد.‏

تأتي الإبداعات جاهزة ناجزة للمتذوق، لكنه يمارس عملية غريبة وجريئة عندما يستغرقه العمل الفني، فلا غرابة أن يأخذ طريقة المبدع في صوغ ما أبدع دور المقاومة الشديدة إزاء أية مجموعة من القواعد الثابتة.‏

(1) -عن الطريق العدد 2/61 ص 54‏

(2) -شاكر عبد الحميد: التفضيل الجمالي ص 413 –عالم المعرفة –ع 267 -‏

(3)-كتاب العربي – 29 –ص 23‏

(4) السابق- ص 25.‏

(5) صبحي الحديدي: الكرمل- ربيع 2000- ص 127.‏

(6) السابق: ص 130.‏

(7) جوكوفسكايا: أحاديث في تريبة الأطفال- دار التقدم- موسكو.‏

(8) زكريا إبراهيم: الفنان والإنسان- ص 7-8.‏

(9) صالح عبد العزيز: التربية وطرق التدريس- ص 356- دار المعارف- القاهرة.‏

(10) الفكر المعاصر- العد 78- ص 53.‏

(11) صالح عبد العزيز: السابق- ص 371.‏

(12) زكريا إبراهيم: مصدر سابق- ص 147.‏

ابومحمد الشامري 01-04-2005 03:24 PM



( استشراف التجربة الإبداعية "حالات من الاستبطان والملاحظة" )

(1)مكابدة الإبداع:‏

يشعر المبدع- ربما أكثر من غيره- بثقل المسؤولية التي يؤمن أنها أحد أهم جوانب شخصيته، وقد يذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن ذلك مسوغ وجوده.. ويصل الأمر لدى بعض المبدعين إلى حد أنه يعد نفسه رسول مهمة اختير لها. والمبدع يجد نفسه باستمرار بعيداً عن العيش بسعادة، لأنه، على حد تعبير (يونغ) أداة الحياة النفسية اللاواعية للإنسانية القائم على تشكيلها حيث هي وظيفته. وهذا ما يجعله يشعر بصورة دائمة تقريباً بأنه يرفع فوق كتفيه وفي عقله حملاً ثقيلاً جداً يحتم عليه التضحية بالسعادة، وبكل ما يجعل الحياة في نظر الإنسان العادي جديرة بأن يحياها، خاصة وأن دروب التعبير الفني ليست واضحة المسالك دائماً وإنما هي دروب مزالقها كثيرة، وهي متشعبة يسير عليها المبدع وكأنه في متاهة من المتاهات التي قد يقوده أحد تفرعاتها إلى أبواب جديدة، أو جدران يصعب تجاوزها. وقد وقف (أبو حيان التوحيدي عند هذه المسألة وبيّن صعوبة التعبير الفني بقوله:‏

"الكلام صلف تياه لا يستجيب لكل إنسان، ولا يصحب كل لسان وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرن كأرن المهر، وإباء كإباء الحرون، وزهو كزهو الملك، وخفق كخفق البرق، وهو يتسهّل مرة ويتعسّر مراراً ويذل طوراً، ويعز أطواراً، ومادته من العقل والعقل سريع الحؤول، خفي الخداع، وطريقه على الوهم والوهم شديد السيلان، ومجراه على اللسان واللسان كثير الطغيان وهو مركب من اللفظ اللغوي والصوغ الطباعي والتأليف الصناعي والاستعمال الاصطلاحي ومستمده من الحجا، ودربه بالتمييز ونسجه بالرقة والحجا في غاية النشاط". وعل ما تقدم أوضح عبقرية الجاحظ بقوله:‏

"ألا يعلم أبو الفضل- يقصد ابن العميد- أن مذهب الجاحظ مدبر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان ولا تجتمع في صدر كل أحد".(1)‏

إذا كان فيما ورد في الاستشهاد دليلاً على طبيعة الإبداع وصعوبته وفيه توضيح للعوامل التي تساعد المبدع على إنجاز عمل يتصف بالجدة والأصالة، فإن ذلك جانب مما يوجه فعلنا في استكشاف جوانب المعاناة، كما وصفها الأقدمون، وفيما يلي محاولة لقراءة ما يتفوه به المبدعون والكشف عن حالات أو جوانب أخرى للحالة الإبداعية من خلال تجارب مختلفة.‏

وإذا كان العمل الإبداعي تشترك فيه قدرات مختلفة (إذ يشترك الطبع والرواية والذكاء) ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل سبب من أسبابه، كما أفصح عن ذلك القاضي الجرجاني. لا تسير عملية الإبداع في مسار خطي ولا يسير العمل خلالها يسيراً سهلاً، وليس الإبداع عملية تحت الطلب. إذ أنه كثيراً ما يصاب الكاتب والفنان بحالة من الإحباط قد تصل بصاحبها إلى حالة من اليأس.. والشعور بالإحباط واليأس كثيراً ما يسبق مرحلة إشراق الفكرة أو الصورة، وتأتي أحياناً بعد إنجاز العمل الإبداعي، وعندئذ يردد المبدع سؤالاً- ربما لا يشذ عنه أي مبدع في أي مجال- وماذا بعد؟‏

ففي اللحظة التي تصمت فيها العملية الإبداعية، بعد أن أنجزت موضوعها. يبدأ شعور اللذة وانفعال الفرح بالتسلل خارج الشخص بعد أن كانت نوافذهما مشرعة في اللحظات الأخيرة من الإنجاز.. وتبدأ النوافذ والأبواب بالانغلاق.. فيشعر المبدع من جديد وكأنه قد عاد إلى وحدته داخل جدران يظن أنها قد أطبقت عليه وأن ما أنجزه كان آخر ما يمكن أن يفعله.. ولكن تلك الحالة- لحسن الحظ- لا تكون نهائية.. فسرعان ما تبدأ حالة الصمت بالتبدد ويعود إلى ذهن المبدع النشاط.‏

وليست حالة الإحباط- المؤقتة- هي الوحيدة- فيما يعانيه المبدع من مكابدات، إذ كثيراً ما تتملكه مشاعر أخرى يحس معها أنه قريب من الجنون، أو أنه على جرف هاوية، فإن ما يجب أن يجلب له إعادة التوازن المفقود قبيل الاشتغال بالعمل وفي أثنائه سرعان ما يجد نفسه وقد عاد إلى حالة القلق والتوتر.. من قمة النشوة حيث يشعر المبدع بتحقيق الذات والإنجاز إلى حضيض الواقع الذي تراءى له خلال فترات قصية وبالتماعات بسيطة أنه قد أسهم في تحريك الواقع نحو الأحسن.. فإذا الواقع عنيد لم يتزحزح من مكانه.‏

(2)في طبيعة العملية الإبداعية:‏

العملية الإبداعية- كما سبق- حادثة عقلية نفسية نلمس نتائجها ونقرأ بعض جوانب السلوك التي تبرز على تصرفات المبدع وفي بعض التغيرات التي نلمحها على وجهه ونشاهدها في حركاته. لكن أي دخول إلى عملية الإبداع بقصد تفسيرها والكشف عن طبيعتها والتعريف بالمراحل التي تمر بها ليس أكثر من وشي على سطح مادة سائلة..‏

فليس لحدوث العملية توقيت يمكن تحديده، ولا يمكن التنبؤ به من خلال ظهور علامات تدل على قرب حدوثها، ولا يمكن قراءتها في طقس يصدق على كل حالة من حالاتها.‏

فهي قد تأتي بعد حالة من الضيق أو التوتر تبلغ أحياناً ما يشبه المخاض الذي تعاني منه الحامل قبيل ولادتها. وقد تحدث دون أية محاولة من شحذ الهمة، واستدرار الطاقة واستنفارها، وحينئذ تبدأ العملية وتتم على نحو مفاجأة مفتوحة على الدهشة وكأنها والرغبة على موعد دقيق.‏

من هنا تأتي الصعوبة في مقاربة العملية الإبداعية وتفسيرها.. وكأن أي محاولة تستهدف دراستها والبحث عن خصائصها والوصول إلى اليقين في النتائج التي تتولد عنها محكومة إلى حد ما بالفشل. إذ أن الذاكرة تختزن الخبرات والأفكار بقصد أو بلا قصد. وتتجاوز الذاكرة مخزوناتها التي قد يساكن بعضها بعضها الآخر فتتآلف معاً وتتداخل الصور والخبرات وتتمازج وتتفاعل.. وهذه جميعاً تعد مدخلات، وما يجري بينها من عمليات التفاعل والانتقاء والحذف والتعديل التي تتم داخل الذهن البشري. لكن هذا لا يفسح في المجال للتنبؤ عن مخرجات هذه العملية أو العمليات، أيكون منتجاً إبداعياً أو عادياً، ولا تجد مناهج البحث ما هو مقنع لإعطاء أجوبة أو الوصول إلى أجوبة تريح الباحث وترتاح المخيلة إلى أحكامها. إذ أن الآلية التي تسير بمقتضاها عمليات الإدخال والعمليات الداخلية وبروز المخرجات ما زالت ملتبسة وتخضع لتأويلات علماء النفس وعلماء الفيزيولوجيا... فلا يرتاح العقل لما قد تخرج به هذه التأويلات من تفسير أو إدراج عملية الإبداع في مراحل متتالية..‏

فقد خلعت دراسات متنوعة لعلوم مختلفة على الإبداع وتجلياته وطبيعته تسميات ومصطلحات ستظل موضوع بحث قد لا ينتهي، لأن عالم الإبداع عالم رحب وشاسع ومعقد وهو عالم كثير الغنى بما تفاجئنا به عمليات الدرس والاكتشاف. فكل عمليات الاستيطان والاستنطاق والتأمل والملاحظة على غنى ما تمد به المتابع إلا أن القائمين عليها وممارسيها ما زالوا يجدون أمامهم الكثير من أجل الوصول إلى نتائج من المعلومات ومعارف عن التفاعلات بين الخبرات والمعارف التي تنتج عملاً مما يمكن أن نسميه إبداعاً، أكان اختراعاً أو فناً أو أدباً أو غير ذلك من ضروب الإبداع البشري. لكن تحليل المنتج الإبداعي، بخاصة في ميدان الأدب والفن، ينبئ عن وجود مسبق لعناصره هي جزء من مكنونات النفس الإنسانية ومخزوناتها التي يعود تاريخ حفظها في أعماق النفس الإنسانية إلى عهد الطفولة المبكر، وإلى تلك "الكوكبة من الذكريات أو الأفكار المشحونة جداً من الناحية الانفعالية". وهي مكونات أو خبرات بعيدة عن الشعور الراهن للمبدع. لكنها تسبغ على العمل الإبداعي بعض خصائصها وسماتها. فكأن العمل في هذه الحالة هو ضرب من ضروب التعويض تحدث بفعل جهود تهدف إلى "إعلاء الشأن الشخصي في مجال آخر".‏

(3)الخبرة في العملية الإبداعية:‏

في كتابه الذي ابتكر نظاماً سياسياً (كتاب العالم الصناعي الجديد)، يقول (شارل فورييه): "كشف الحجاب عن مكايد البورصة والسماسرة يتصف بأنه مباشرة عمل من أعمال (هرقل) وأشك في أن هذا النصف إله أحسّ وهو ينظف اصطبلات (أوغياس) بقدر ما أحسست به من التقزز الذي أعانيه وأنا أنبش هذه البالوعة من القاذورات الأخلاقية التي نسميها بيت البورصة والسمسرة المشبوه، وهو موضوع لم يمسسه العلم... ولا بد لمعالجته من ممارس شاخ وهو يمارس هذه الفاعلية وتربى مثلي في الحظائر التجارية منذ سن السادسة. ومنذ هذا العمر لاحظت التضاد بين التجارة والحقيقة، فقد كانوا يعلمونني في كتاب التعليم الديني وفي المدرسة أنه ينبغي للمرء ألا يكذب أبداً، ثم كانوا يقودونني إلى المخزن ليعودوني فيه في وقت مبكر على مهنة الكذب النبيلة أو فن البيع. وإذا صدمتني ضروب الغش والمكر التي كنت أراها، فإني كنت على انفراد أجذب التجار الذين تراءى لي أنهم مخدوعون بها وأكشف لهم.. وكان أحدهم أرعن حين كشف لي خلال شكواه أمراً بقوله هذا الطفل لا يصلح للتجارة أبداً، وقد مقته كثيراً وأقسمت بما أقسم به هانيبال ضد روما:‏

"ألتزم بالكره الأبدي للتجارة.. فإن كنت لا أصلح لها، فإني أصلح لأكشف القناع عنها".(2)‏

هذه الخبرات البعيدة الكامنة في أغوار النفس التي يعي المرء بعضها ويلتبس عليه الكثير منها ويغيب عنه معظمها، يمكن تسميتها بالحالة الخامة للناتج، ويكون كمونها موجوداً وجود قوة عند الشخص بينما يصبح وجودها وجوداً بالفعل بعد بروزها وتشخيصها في نتاجات سلوكية منها الإبداعي ومنها ما هو غير ذلك.. وقد تبرز في كلام مسموع أو في أثر منظور أو مقروء.‏

لكن كون هذه الخبرات مخبوءة تنتظر الوقت والظرف المناسبين لتبرز في أفعال الشخص وأقواله، ليست مجرد التاريخ الفردي كما يمكن أن يرسمه الشهود (الوالدين على سبيل المثال) مجدداً، بل المقصود أحداث الماضي كما كانت تعيشها الأنا بوسائلها الخاصة، وفي الحالة العامة التي كانت توجد فيها هذه الأنا خلال العهود المعنية. فالمقصود إذن في هذه الخبرات الواقع النفسي لا الواقع التاريخي.(3)‏

وحالة الإبداع التي لا يمكن أن تصنف نتاجاتها مجردة من خبرات الأنا، لا تساعدنا محاولات تلمسها واستقرائها في القبض عليها. وإن ما لخصه علماء النفس والفيزيولوجيا لها من قوانين، مهما حاولوا أن يأتوا بالبراهين على صحتها والتدليل على مصداقيتها فإنهم لا يفلحون في تقريبها إلى حقيقة هذه العملية العقلية والنفسية الشائكة والمعقدة، كما جرى وصفها من قبل.‏

فما صنفته كتب علم النفس ورتبته على أنه يشكل مراحل عملية الإبداع من (إعداد وتخمر، فكمون، فإشراق، وأخيراً تحقق) ما هو إلا نتيجة عملية مقايسات افتراضية لا تمتلك نتائجها الخصائص التي تقربنا من اليقين. وهي لم تمنح الدارسين أو تقربهم من الاقتناع بها.‏

لذا يظل السؤال مطروحاً: ما الإبداع؟ ما طبيعته؟‏

(4)السمة المشتركة للمقاربات العلمية:‏
ما سبق لا يعني أن ما أحرزه البحث في الإبداع يفتقر إلى الحقيقة العلمية أو أن نغفل نتائجه أو ننتقص من قيمتها.‏

فما سبق ليس بالأمر الغريب عن مسيرة العلوم كافة، وبالأخص العلوم الإنسانية التي ما زال الفكر البشري غير قادر على الركون إلى نتائجها.. لكن ذلك هو من باب ثان مصدر ثراء ومجال للمنافسة للبحث والباحثين وأن تنوع النتائج التي تزخر بها الدراسات في هذا المضمار لتفسح في المجال إلى المزيد من البحث وإلى تفجر طاقات إبداعية فيه.. فكأن البحث في الإبداع إنما لم يصل إلى القرار النهائي في التعريف به والإلمام بجوانبه فهو يحث أو يسبب على بروز الإبداع البشري في جوانب مختلفة من جوانب المعرفة الإنسانية منها الجانب البحثي نفسه. وهذا لا يشكل عيباً في بابنا هذا ولا في مجال العلوم الإنسانية لأن ذلك ليس محصوراً بها، ولكن هذه سمة العلم الحديث بمختلف أبوابه وميادينه فلا نظرية قارة في أي مجال وإنما هي مقاربات وما زالت الحياة تطلب المزيد من البحث وسيستمر الأمر هكذا إلى ما لا نهاية.‏

وهذا الذي نسميه تجاوزاً، نقصاً في نتاج الدراسة في الإبداع مسوغ في كل عمل علمي وهو سر تنامي العلوم وتفجرها بالمعارف المتزايدة وتسارع الاكتشافات وما يرافق ذلك من تطور تقني مذهل وزخ للمعارف والمعلومات مدهش. وهذه هي إحدى سمات العقل البشري الذي من أهم خصائصه الديناميكية والفضول، فما أن يستريح ويصل إلى حدود القناعة ويكاد يحصل على الاطمئنان لما حققه من نتائج وابتكره من تقنيات ترتكز إلى المقاربات العلمية التي وصل إليها ويكاد يحصل على عطلة له من خلال البراهين المحسوسة على صحة ما أنجز حتى تنفتح أمامه الأسئلة من جديد وهي أسئلة تتكاثر باستمرار وقد تطرح شكوكاً فيما أنجز أو تبحث عن تعديل له أو تغير في مسار البحث. وهذا هو أحد ملامح السر فيما نلاحظه في سلوك المبدعين من انفعالات عنيفة تصل أحيانا حدود الغضب.‏

ويمكن استقراء ذلك فيما يقوله المبدعون في مجالسهم ومسامراتهم وفيما يبوحون به خلال الحوارات التي تجري معهم، وفيما يكتبونه بصراحة أو ما يستشف في كتاباتهم خلال بعض السير الذاتية أو شرح مراحل عمل أنجزوه أو توقفوا عنه قبل استكماله أو عزوفهم عن الاستمرار به.. الخ.‏

ووجوه المعاناة متنوعة وكثيرة، والانفعالات التي يتعرض لها المبدع متنوعة وتبدو أحياناً متناقضة. فتنتقل عنده بين حديها النهائيين- إذا صح التعبير.. إذ لا نهاية في أي فعل بشري أو انفعال- من حدود الفرح القصوى إلى حدود الغضب الأبعد، ومن النشوة إلى الألم ومن الشعور بتحقيق الذات إلى الشعور بالإحباط والفشل وربما إلى الشعور بالإثم.‏

(5)من شهادات بعض المبدعين:‏

يسبح المبدع دائماً في محيط من الانفعالات المتلاطمة تستغرقه حيناً استغراقاً كلياً، وأحياناً استغراقاً جزئياً. يتحاور داخله الخوف مع الأمل، الحب مع الكراهية، الحزن مع السرور، البكاء مع الضحك، وقد عبر (فولك فريجيل) عن هذا الوضع في مرثيته لسيدني، حيث يقول:‏

"الصمت يفاقم الحزن، في حين تؤجج الكتابة الغضب".‏

فردود الفعل على الإنجاز مهما كانت درجته وكان مستواه والشروط التي يتمتع بها فيها الكثير من الاستجابات العنيفة للحالة النفسية الفريدة والمتميزة من حالات النفس البشرية في تلاؤمها، وفي حالات شعورها بالحاجة إلى التوازن الذي تطمح في الوصول إليه أن تنعم بالراحة والأمان ولو إلى حين. ولعل أشد حالات العنف التي يتعرض لها المبدع تتمثل بالغضب.. وليس غريباً عن ذاكرة القارئ، ما فعله ذلك النحات بعد أن أنجز عمله.. إذ هاجمه بالمطرقة وبدأ في تكسيره إذ لم يعد يحتمل روعة ما أنجزت يداه.‏

ألا يسأل كثير من المبدعين أنفسهم عن ذلك العنف الذي يتملكهم في حالات من حالات القيام بإنجاز بعض أعمالهم؟ ألا يتحدثون إلى أنفسهم وإلى الآخرين عما فعلوه وسيفعلونه وكأنهم في معركة حربية.. لنقرأ ما يلي:‏

"ماذا أفعل.. لقد أجهزت بالفأس والسكين لا بالقلم على جسد اللغة قطعته أشلاء، أعدت صوغه، ركبته من جديد مخلوقاً سوياً، لا ليس مخلوقاً سوياً، بلى صار مخلوقاً سوياً. جمعت الأجزاء المبعثرة خلقتها خلقاً جديداً رائعاً غير مسبوق في شيء من ملامحه وأجزائه.. لكن!‏

آه.. أين تلك النشوة التي خلت أنها ملأت عليّ كياني؟.. أين هربت؟ ما شعرت به كان وهماً.. لا. هذا الذي فعلته لم يكن كما تصورته.. انقلبت سحنته تغيرت ملامحه.. خُدعت به..‏

هذا العجين الذي عركته وصيرته خبزاً شهياً، أو خلت أنه خبز شهي.. ما عدت أرغبه.. أخشى أن يتآكل كل لونه، أن يفسد طعمه وهو لما يزل تحت ناظري.. فكيف إذا تناقله المتلقون وتداولوه؟"‏

بين العمل الإبداعي والزواج أكثر من وجه للتشابه والتطابق. فحيث يبدأ الزواج تأخذ البهجة بالزوال.. كلاهما الإبداع والزواج تكونهما الدهشة.. لكنها سرعان ما تغدو سراباً ويفتقدان لما تصورته الرغبة ويصوره الحب بريقاً لا يزول.‏

يتساءل المبدع:‏
أحقاً ما أنجز يستحق الإعجاب؟ وهل يعبر هؤلاء المتلقين بصدق عما يشعرون به في اتصالهم بالعمل المنجز؟ أيكون ما يسمع ويقرأ عن هذا العمل شكلاً من أشكال المجاملة.. أو أن المقصود به الخدعة؟ ألا يبوح بعض الناس بأحكام عن أعمال سمعوا بعناوينها ولم يقوموا بعملية تواصل معها؟‏

شكوك كثيرة تراود المبدع وقد تدفعه إلى نقطة يفقد عندها كل ما يربطه بالحياة.‏

ومن المبدعين من إذا أدركه شعور اليقظة تأخذه الدهشة إلى حين.. ومنهم من يستبد به الغضب.. وأحياناً قد يدرك صمت عمله.. فيتبرأ منه أو يحكم عليه بالإعدام قد يكون هذا الذي ذكرنا حالات نادرة إذا أخذنا بالحد الأعلى الذي وصفناه، لكنه حاصل عند من كان الإبداع هاجسه ومحركه وإن بدرجات متفاوتة. إذ ليست طباع المبدعين على صورة واحدة، فمنهم الانطوائي، ومنهم المنبسط، ومنهم العنيد ومنهم المتسامح.. كما أن فيهم من كان ذا ترجيع بعيد ومن هو على العكس من ذلك ذو ترجيع قريب.‏

لكن أبرز ما يجمع المبدعين في علاقاتهم بما أنتجوه هو الشك وهو إحدى سمات الصحة في العمل الإبداعي.‏

فالسؤال المحيّر دائماً هو: هل الكلمات والجمل والصور التي جرى التعبير بها كافية لتوصيل الهدف إلى المتلقي؟ وهل هي قابلة لإقناع المتلقي وأنه يمكن أن يشعر بحاجته إليها.. أما أنها دون مستواه أو أعلى من ذلك بحيث يعزف عنها في الحالتين؟‏

عبّرت الروائية المعروفة (ليلى عسيران) في إحدى المقابلات معها عن هذا الشعور بقولها:‏

"كثيراً ما يحار الكاتب بالكلمة، فهي أحياناً أكبر من شعوره، وأحياناً أصغر. وكثيراً ما يغرق الكاتب في التفتيش عن الكلمة المناسبة حتى يكاد ينسى المعنى، ولذلك قلت يحار بالكلمة التي هي رئة الكاتب وهي أنفاسه وهي ألوانه".‏

الأسئلة المحيرة قد تسبق العمل، وقد يطرحها الكاتب على نفسه أثناءه، وفي أحيان كثيرة بعد إنجازه. وهذا ما يضيّع عليه معنى أو يفقده فكرة أو صورة كان على وشك التقاطها.‏

وكثيراً ما يتوقف الكاتب مثلاً عن الإفصاح بالكلمة أو الجملة ليرسم على الورق خطوطاً أو أشكالاً يحاول من خلالها إعادة نشاطه إلى مساره بعد أن كاد يضيع في متاهات الأسئلة. وقد ينتابه شعور آخر كما فيما تعبر عنه (ليلى عسيران) فيما يأتي:‏

"أنا من الكتاب الذين بدؤوا يشعرون أن الصورة قادرة أحياناً أن تلتقط أكثر من الكلمة لأنها تستوعب اللحظة بكل تفصيلها في الوقت ذاته. وبما أني من اللواتي يهتممن باللحظات المكثفة والمشاعر والحوادث، فإني كثيراً ما تمنيت أن أكون مصورة فوتوغرافية".‏

قد تضيق العبارة بالفكرة. أليس هذا شعور معظم المتعاملين بالإبداع وبالكتابات الإبداعية؟‏

وإذ يتوقف المبدع عند عقدة ما، أو يستوقفه حدث أو فكرة.. لا يعني- كما قد يخيل له- أنه قد رفع علم الاستسلام.. وفي هروبه من شكل إبداعي إلى آخر قد يكون فيه إغناء لما يبدعه وللأدب والفن، ولكن هذا الهروب لا يكون نهائياً فقد يستمر فترة تطول أو تقصر.. لكنه سرعان ما يعود إلى مساره. ومن الحوار المذكور مع ليلى عسيران نقرأ:‏

"هناك شعور بالنسبة لي هو شعوري بالحاجة إلى اللون، إلى التعبير عن حوادث معينة، ولا سيما فيما يختص بالمشاعر. فإني أشعر أحياناً أني عندما أفتت المشاعر إلى كلمات يزول الكثير من رونقها، وكثيراً ما يفي اللون بالحس. بل وكثيراً ما يختصر اللون مختلف أنواع المواقف. ولكن ليس هناك أمام الكاتب إلا الكلمة يلبسها مشاعره، ويلون بها حوادثه. تصبح اللغة مع الوقت، بالنسبة للكاتب، كالعجينة بيد الإنسان، تدخل اللغة مشاعري، تختلط بحركتها، وأتعذب كثيراً إلى أن ألتقط الخط القادر على ربط الأحداث والمشاعر في لحظة واحدة..!!‏

إن عملية الإبداع عملية مضنية ولا يغادر القلق الإنسان المبدع ولا ينجو من التوتر إلا ليعود ليه. أليس ذلك من مقتضيات عملية الولادة؟‏

(1) التوحيدي: الإمتاع والمؤانسة ج1 ص 10- عن محمد بركات مراد: نظرية الفن والجمال عند التوحيدي- الطريق- ص 44- 2/61.‏

(2) روجر موشلي: العقد النفسية- ترجمة وجيه الأسعد ص 88- وزارة الثقافة 1988.‏

(3) السابق- ص 51.‏


ابومحمد الشامري 01-04-2005 03:26 PM



من إغواء الحواس إلى كشف الأعماق

(1)الحواس والطريق إلى الإبداع:‏


يطل الكائن الحي على الحياة والبيئة من خلال الحواس، والحواس، هي أحد أهم وسائل التكيف مع المحيط والتأثر به والتأثير فيه عبر عمليتي المواءمة والتمثل، وهما عمليتان نفسيتان رئيستان تنموان بنمو الإنسان. ففي المواءمة يقوم الكائن الحي في التأثير على نفسه والتغيير في آلياتها ليتطابق مع الظروف والخبرات الجديدة. فهي بالنسبة للإنسان عملية الانتباه التي تختص كلية بالتجربة الجديدة وبصورة مستقلة عن الخبرات السابقة.‏

أما التمثل فهو العملية التي يعمل من خلالها الكائن الحي في التغيير من وسطه أو بيئته ليجعل منهما وسطاً على مثاله أي يتمثل البيئة. فعندما يتعرض الكائن البشري لخبرات جديدة يحاول أن يغيرها إلى خبرات كانت مألوفة لديه.‏

فبالحواس ينفتح الذهن على الخارج. لذلك قيل "الحواس أبواب المعرفة". فالعين ترى والأذن تسمع والجلد يحس نعومة الأشياء وخشونتها يحس الحر والبرد ولحاستي الشم والذوق أيضاً وظيفتاهما. وليس ذلك فحسب فللحواس بالإضافة للوظيفة المعرفية العقلية وظيفة حيوية لأنها تقود إلى الفعل، الذي وصفناه وصفاً خارجياً في عملية التكيف بشقيها (التمثل والمواءمة)، فهي أي الحواس تؤدي إلى إيجاد شيء كان في حيّز القدرة إيجاده، وعن هذا الفعل ينتج عمل ما.‏

وهذا العمل يرتقي كيفاً بارتقاء النمو عند الكائن الحي، وبخاصة عند الإنسان من مستوى نمائي إلى مستويات أعلى، بحركة دؤوبة بين الحواس والعمل لا تستمر على الوتيرة نفسها، وإنما هي تغتني بالتجربة والتفاعل بين الفرد من جهة والمجتمع والوسط الطبيعي من جهة أخرى. من خلال هذه التجربة تنبثق الأفعال الإنسانية فهذه التجارب منذ الطفولة بذور لكل علم ومعرفة وفن.‏

يصف الفنان والأديب الراحل (فاتح المدرس) البذور المعرفية والفنية في نشأته طفلاً. فيقول:‏

"هذا الطفل ذو الثانية من عمره، الذي كنت، استراح على عواء الذئاب في الليل، وعلى سهول الأقحوان وشقائق النعمان نهاراً، وفي الصيف كنت أركض في الفلاة ألاحق جداراً زجاجياً رجراجاً من هواء الظهيرة مسدلاً بين زرقة السماء وتراب الأرض، وقبل أن أبلغه يكون قد ابتعد كثيراً، وعلمت أنه السراب".‏

بعد إغواء الحواس ومغامرة الركض والاستراحة مع صور الطبيعة، يسأل الفنان نفسه، قائلاً هل اخترقت هذا الحاجز الشفاف الرائع؟ وهل كان رائعاً بحق؟ فيسطع الجواب في ذهنه، فيقول:‏

"بلى كان رائعاً، ولكن دهشة ذلك الرائع ما وراء السراب الرهيب".(1) فإلى أي حد ظلت تثيره هذه الإحساسات وعلى أية آفاق فتحت ذهن الفنان وأية فتنة كان لها حيث قادته مغامراته الإبداعية؟‏

فالإحساسات في أية مرحلة عمرية كانت تتحول صوراً ذهنية، منها ما يطفو على ساحة الشعور في ساعات اليقظة ويجري استدعاؤها بيسر وسهولة، ومنها ما يغوص في الأعماق حيث اللاشعور، أو في طبقة مجاورة له تحت الشعور. وهذه الصور سواء انبثقت من اللاشعور أو من تحت الشعور وحضرت إلى الشعور فإنها تحمل معها شعوراً بالدهشة في ضمير اليقظة، وتفتح الذات على روعة الخلق وجمال الوجود.‏

عاش فنان إيطاليا الشهير (دافنشي) معرضاً عن رسم وجوه الأشخاص. وصد كل من قصده لهذه الغاية. لكنه ما أن عرض عليه وجه (موناليزا) تلك الفتاة التي صارت صورها إحدى معجزات الفن. وكانت زوجة لقاضي قضاة فلورنسة. ما أن رأى الوجه حتى انفتحت شهيته إلى رسمها ملبياً رغبة زوجها. فماذا كان بعد ذلك، لقد فعلت الفتنة التي التقطتها حاسة البصر لديه وربما ما وصل أذنيه من صوتها. واستمرت موناليزا تتردد إلى مرسمه، لتمثل أمامه عاماً كاملاً. وعند انقضاء الحول. قال لها دافنشي: لا ضرورة لأن تعودي إلى المرسم. فسألته: هل أنجزت اللوحة؟‏

أجاب: الآن سأبدأ.‏

واستغرق في العمل مستعيناً بالصور التي اختزنها حتى اكتملت اللوحة بعد تسع سنوات أخرى.(2)‏

إن خبرات السنوات الأولى من الحياة تظل محفورة في وعي صاحبها. وتحضر في أعمال إبداعية مستقبلاً أو تحضر في الأحلام وفيما تخطه الأقلام.. بعيد الفصول الأولى من كتاب (إحسان عباس) غربة الراعي، وهو سيرة ذاتية.. يكتب صاحب الكتاب عن قصة فتاة قروية تدعى مريم أحبت قاتل عمها الذي كان يريد تزويجها قسراً وظلماً من ابنه أحمد، وهو لا يزال غلاماً. ومريم فتاة جميلة تكبره سناً ترفض الزواج التعسفي الذي يدفعها عمها إليه. واللافت أن كتاب (غربة الراعي) الذي يبتدئ بعيد فصوله الأولى بقصة مريم، فهو أيضاً ينتهي بها. مما يعني أن القصة حفرت عميقاً في وعي الكاتب.(3)‏

(2)من الإحساس إلى الخيال:‏

غياب المشهد من الناحية الحسية وانحسار الإحساس لا يعني الافتراق عنه نهائياً. وإنما تعود صوره إلى الذهن بعملية إرادية أحياناً وفي أحيان أخرى بتلقائية وعفوية. ويمكن الاستدلال على صحة ذلك بما يحصل في أحلام النوم، أو أحلام اليقظة، بخاصة حين يعيش المرء حالة من نقص الفاعلية تؤدي إلى ضعف سيطرته أو فقدانها على الواقع. وفي هذه الحالة يتداخل عالما الخيال والواقع بما يسمى بالخيال الإيهامي. وفي حالات أخرى تكون السيطرة العقلية أو الواعية على الصور ضعيفة، عندئذ تجنح الأحلام للابتعاد عن الواقع فتنسج من صورها المخزونة فانتازيا يتمكن المبدع في حالات الاستشراف من التقاطها وتوظيفها في نتاج من النتاجات الفنية، بحيث تلعب الإرادة فيما بعد دورها في تشذيبها وجعلها أكثر منطقية وقبولاً من قبل المتلقي. إلا أن التخيل لا يكون نتيجة لضعف السيطرة دائماً وإنما قد يندفع المرء إليه بسبب من عنف الرغبات والدوافع وصلابة البيئة وعدم استجابتها.‏

إلا أن الصورة في التخيل ليست نسخة طبق الأصل عن الواقع، فالمتخيل يسبغ عليها أشياء من ذاته ويسحب منها بعض تفصيلاتها مضيفاً إليها تفصيلات أخرى.‏

ففي حين يحرر التخيل الذهن من شروط الواقع القائم فهو لا يكون دائماً في المستوى ذاته بل يخضع لعملية النمو شأنه في ذلك شأن الفعاليات الذهنية والعقلية الأخرى. وهو لا يظهر كفعالية لها استقلالها وخصوصيتها قبل السنة الثانية من الحياة، لأنها تخضع كغيرها من الظواهر النمائية في الانتقال من حالة اللاتمايز إلى التمايز. فبفعل نمو القدرة على التذكر والنمو اللغوي يمكن للملاحظ أن يكتشف قدرة التخيل عند الطفل وتظهر في سلوكه خلال حالات مختلفة مثل تشخيص الأشياء أثناء اللعب، واتخاذ الطفل شخصية متخيلة له غير شخصيته. كما أن استغراقه في اللعب يستدل من خلاله أنه مستغرق خيالياً مبتعداً عن وجود من حوله ذهنياً.. كما أن الأحلام تبرز في سلوكه وإن كان لا يدرك أنها أحلام.‏

هذا الارتقاء في قدرة التخيل عند الطفل يعني أنه قد أخذ يتحرر من وطأة الواقع المباشر، وذلك بتغيير معالمه.‏

ترى (شارلوت بوهلر) في هذا التغير الخيالي لمعالم الواقع المباشر خطوة أولى نحو زيادة استقلال الذات، وهو ما سينقله إلى التغيير الواقعي لمعالم الواقع.‏

كان فرويد يميل في نظرته إلى الخيال على أنه المستوى ذاته مع الحلم والهلوسة واللعب، وعدّه شكلاً غير ناضج للأداء العقلي الذي كان أساساً شكلاً هروبياً وغير واقعي. أما (يونغ) فقد تناول الخيال بجدة وشجع مرضاه على الاستفادة منه في سعيهم إلى الصحة النفسية والاستقرار، وشجع من بلغ منهم مرحلة متقدمة من المرض على الدخول في حالة الاستغراق في التفكير الحالم...(4)‏

فالخيال إذ يحرر الذهن والتفكير من شروط الواقع القائم فهو يساعد الإبداع في اكتشاف أو اختراع الموضوع الإبداعي بعلاقاته وأشيائه.‏

والخيال لا يبعد، في حدوده السوية، التوقع فعندما يفكر الطفل في المرغوب فيه وفي انتظار الوعد، قد يثير في نفسه بنفسه صور بعض الأشياء أو المواقف التي يحرم منها.(5)‏

يفعل المبدع ما يفعله الطفل عندما يكف بالتدريج عن اللعب بالأشياء الحقيقية فيستبدل بها الخيال وأحلام اليقظة. فالخيال مستمد من اللعب.‏

لكن العملية الإبداعية ليست دائماً حالة هروبية من الواقع بل أن الفنان يحوّل أخيلته إلى نوع جديد من الحقائق التي يقدرها الناس بوصفها انعكاسات قيّمة للواقع.(6)‏

ففي كتاب (متع الخيال) لأكنسايد يقدم الكاتب عن لحظة الإبداع الشعري لمحة تتكرر كثيراً حيث يُدعى الشاعر طفل الخيال وهو ما أطلقه ميلتون على شكسبير في قصيدته (الليجرو).‏

إن عين الشاعر التي في جنون مرهف تدور‏

ترنو نظرتها من السماء للأرض ومن الأرض للسماء‏

وكلما جسد الخيال‏

صور الأشياء المجهولة، حولها قلم الشاعر‏

إلى أشكال، ومنح الخواء مقراً ووهبه اسماً‏

يتساءل الكتاب وعلماء النفس، كما يتساءل الناس من مستويات معرفية وثقافية مختلفة، ما هي القدرات المعرفية التي تهب المبدعين قدراتهم على الإبداع والابتكار؟ أهي الإحساس أم التذكر أم التخيل؟ ويرى (جيرارد) أن مفتاح السر هو الخيال لا غيره أي أن الإبداع ينشأ من الخيال.‏

بالخيال يغوص الإنسان داخل الأشياء وأعماقها.. ويفتش في أعماق الذات عما هو خالد وابدي فيبعث الحياة في الجمادات وفي كل ما هو زائل، لكن (تشارلز مورغان) يحذّر من سوء استخدام الخيال الذي يقود إلى الكثير من الحماقات فأصل حماقات الإنسان يعود إلى سوء استخدام خياله. وهو ما يميّز المبدع عن غيره.‏

ولعل الحكاية التي تُروى عن رجل أفاق ليلة القدر حيث الدعاء يستجاب فتمنى لو يطول أنفه وحين نظر إلى المرآة راعه ما رأى فتمنى أن يقصر أنفه وفي هذه المرة أيضاً لم ير في المرآة ما يسره فتمنى لو يعود أنفه إلى حيث كان.. لكن الليلة انقضت ولم يعد السؤال مستجاباً.‏

وفعل التخيل لا يتحرك ولا يكون في الخواء إنما تحركه دوافع متعددة ويبدأ عمله إذ يتحرك بين الحب والكره والحيلة والتفكير والرغبة في البقاء والخلق. وهذه الرغبة والنشاط الذي يبذل من أجلها تكون غايته بعث الحياة وتحقيق الخلود. فإيزيس التي جمعت أشلاء زوجها أوزوريس بعد أن رماها أخوه ست إله الصحراء في نهر النيل، لم تخضع لإرادة الآخرين فبالحب والإرادة والعقل والتشكيل الجمالي تمكنت من إعادة أوزيريس إلى الحياة.‏

(3)بين الخيال والدافع:‏

الدافع شحنة تمر بمراحل ثلاث هي: المصدر حيث يكون الشخص في حالة توتر داخل جسمه والهدف، الذي يتمثل بإزالة التوتر، أما المرحلة الثالثة فتكون بالأداة التي يحصل بها الدافع على الإشباع المادي أو المعنوي.‏

من هذه الدوافع دافع الحياة الذي يشمل (الليبيدو النرجسي) والليبيدو الذي له علاقة بما هو خارج الذات. وقد وصف هذا الدافع بحسب بعض مدارس التحليل النفسي بأنه (إيروس) إله الحب عند الإغريق ورمز القوة المبدعة. كما وصف بأنه إله الرغبة الجنسية وهو يتصف بالصلف والقسوة والاعتداء.. أما الرومان فأسموه (كيوبيد) وهو الطفل المجنح الذي يحمل سهام الرغبة الجنسية يصوبها أنّى شاء.‏

وإذا عدنا إلى المرحلة الأولى التي يمر بها الدافع (المصدر) فالتوتر الذي ينتاب الشخص إنما هو نتاج حاجات الإنسان التي تنتظم وفق هرم قاعدته الحاجات الضرورية وقمته الحاجة إلى الإحراز أو تحقيق الطموح وتتوسط الحاجات الاجتماعية والحاجة إلى التقدير وكذلك الحاجة إلى الأمان هذا الهرم.‏

لكن المرء في سلوكه لإشباع حاجاته لا يستمر باتجاه تسلسل إشباع الحاجات فقد يتطلع لإشباع نوع من الحاجات لا تتفق في تسلسلها مع الترتيب الهرمي. والدوافع التي تدفع هذه الحاجات للحركة والإشباع مختلفة كما أن قوة ودرجة الإشباع تختلف من شخص إلى آخر. وسلوك الفرد من الناحية النفسية يعدّ رمزاً أو تمثيلاً لأمور كامنة ومستترة يمكن الاستدلال عليه (من تصرفاته، والعالم الرمزي الذي ينتجه الفن والأدب مستمد من الخيال ومن اللاوعي وهو ما تكشفه الأساطير التي يغذيها خيال البشر الذين خلقوها بمضامين جديدة، وربما كانت المدرسة الرمزية التي أدمجتها بعض المراجع الفنية إلى المدرستين التعبيرية والسريالية وأطلقت عليها اسم الاتجاه الخيالي (الفانتازي) هي بعض تجليات الخيال الإنساني الذي نما في الأساطير بعد أن أنتجها وتفاعل معها. وبلغ بها الخيال إلى تصور العلاقة بين الآلهة والبشر بما فيها كبير آلهة الإغريق زيوس. ويوضحها ما جاء في (الأوديسة) التي تقول فيها الآلهة موجهة كلامها إلى أوديسيوس:‏

إنك تفوق البشر والآلهة مكراً ودهاء‏

وكلانا يتقن الكذب الذي ينفع ولا يضر‏

فأنت بين البشر أرجحهم عقلاً وأفصحهم لساناً‏

وأنا بين الآلهة أكثرهم دهاء وأخصبهم خيالا(7)‏

وقد كتب (أندريه مالرو) على لسان (بيكاسو) ما يشبه ذلك:‏

"فليسقط الأسلوب هل كان لله أسلوب؟ إن الله خلق القيثارة والكلب والقط والبوم واليمام مثلي. والفيل والحوت نعم، لكن الفيل مع السنجاب؟ إنما خلق الله ما لم يكن موجوداً، أي من العدم، وها أنا أيضاً أخلق من العدم، وخلق الله من الرسم، وأنا أيضاً".(8)‏

الحاجة إلى الإحراز وتحقيق الطموح تدفع بالكاتب، سواء شعر بذلك أم لم يشعر، إلى فضاءات من الخيال لم يكن ليتصورها بشعوره وتتردد عبارة (هذا العمل هو الذي كتبني بقدر ما كتبته.. هذا ما عبر عنه الروائي والشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله وهو يتحدث عن روايته (براري الحمّى).‏

(4)من الإحساس والخيال إلى كشف الأعماق:‏

حين يغمر نفوسنا حلم اليقظة ويملؤها بومضاته، يعود بنا إلى أعماق إنسانية إلى ينبوع الحياة، فيكشف بذلك عن نواة كامنة للطفولة في أعماقنا لا تحيا إلا في لحظات نادرة سامية هي لحظة الانبثاق والإلهام. يربط هذا الحلم الجميل الحالمين بالكون، ويفجر انطلاقة في نفوسهم هي خلاصة الحياة المتدفقة وجوهر الرغبة الجامحة، وحين يرتكز حلم الطفولة على دفقة الزمان الراسية وعلى لحظة تألقها المفاجئ، حينها تنفجر أحاسيس الدهشة ومشاعر التعجب التي تعدّ أساس التساؤل الإنساني الذي يفترض حالة من البساطة والسذاجة تذكرنا ببساطة الطفل وبراءته. وحين يلجأ الكاتب أو الشاعر أو الرسام إلى الجرأة والمغامرة الفكرية في غياب لحظة الإشراق الداخلي يسود إيقاع متكرر فيلجأ هذا إلى الكتابة البليغة محل الخلق والإبداع فيكتفي آنئذ بالتعامل مع الألفاظ والتحاور معها دون التعامل محل الأشياء والإحساس بها.‏

لكن حلم اليقظة حين يغمر نفوسنا ويملؤها بومضاته يرجع بنا إلى جذور الوجود وينبوع الحياة الأول، فيكشف عن نواة كامنة للطفولة في أعماقنا، لا تتأثر بكرّ الزمان ولا بضربات الخطوب لأنها تعيش خارج الزمن والتاريخ اللذين تألفهما، ولا تحيا إلا في لحظات نادرة هي لحظات الإلهام الشاعري وانبثاقه في ضمير الشاعر أو الفنان الأصيل. هذا الحلم الجميل يربط الحالمين بالكون ويفجر في نفوسهم انطلاقة هي خلاصة الحياة المتدفقة وجوهر الرغبة الجامحة إلى التمدد والتوضع إلى ما لا نهاية.(9)‏

فالعالم النفسي المحجوب المنسي- كما يقول عالم النفس زازو- الذي لم يعشه المرء هو الذي يجعلنا نحيا ويحدد الراشد لدينا.‏

في محاولته كشف الرؤى التشكيلية عند الفنان (أحمد فؤاد سليم)، يقول محمد كامل القليوبي: "في الفعل المبدع عملية تشكيل وتكوين لعالم متكامل وفق رؤية خاصة تحتويه وتتجاوزه بمستويات مختلفة باختلاف مبدع عن آخر. فالكاتب والرسام في العملية الإبداعية يقيمان عالماً كاملاً له بناؤه ومنطقه في عملية جدل مستمر مع العالم".‏

وفي جوابها عن الإبداع، تقول برث: "ينبع الإبداع من عالم الروح أي من الوعي الجماعي، ويختلف العقل في عالم آخر عن جزئيات المخ، الذي هو مستقبل وليس منبعاً.‏

والأثر الفني ـ بحسب يونغ ـ هو الولادة الحية أو هو الإحضار للاوعي الجماعي. فالفنان يقوم بدور الأم في حمل هذا الوعي جنيناً، ثم تكون ولادته بعد تكامل نموه ونضجه في رحمه، يطوف همسات غائمة فيها الشيء الكثير من الضباب وعدم التوضيح(10).‏

في هذا التأكيد على دور اللا وعي في الإبداع نقرأ الشرح الذي يقدمه (بريتون) للسريالية التي هي المخلوق التلقائي الذي يتعدى الواقع المكشوف إلى الواقع المحجوب، فوراء الواقع أي في اللا وعي الحقيقة الشاملة التي ينطوي تحتها كل شعر، كل مجاز، كل شهوة، كل حلم، وما هذا إلا لغة النفس التي وهي في الأعماق لا تنطق إلا بالرموز المغلقة(11).‏

يصل الخيال إلى أعماق الأشياء ويجوب دواخلها، وتدور قواه حول محور الانطلاق أمام الجديد والمتنوع والمفاجئ باعثاً الحياة في السبب الشكلي، ويغوص إلى أعماق الذات باحثاً عن الأبدي والخالد فيها، وقد يكون ذلك هو ما رمى إليه محي الدين بن عربي حين قال:‏

وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعددا‏

فيما سبق تعبير عن الوحدة العميقة داخل الشخصية الإنسانية التي يشتاق إليها الفن في نزوعه الداخلي حيث يمتلك الفنان فيصير أداة له، وكأنه لا يتمتع بإرادته الحرة، ولا هو قادر على السعي إلى غاياته. لكنه حين يصبح أسير فنه تتدفق الإبداعات عنه، تدفق الماء من الينبوع فيسمح له ذلك تحقيق أغراض الفن. فالمبدع إنسان له أحواله وإرادته الشخصية شأنه في ذلك شأن الآخرين أما كونه فناناً أو شاعراً أو.... فهو يكون إنساناً بمعنى أسمى، إنساناً جماعياً يحمل ويشكل كفرد الحياة اللا شعورية النفسية للجنس البشري.‏

فالشعر العظيم ـ كما يقول يونغ، في مقالته الشعر وعلم النفس... يستمد قوته من حياة الإنسان من حيث هو نوع، وسنخطئ معنى الشعر بشكل تام إذا حاولنا استلال هذا المعنى من عوامل شخصية. ففاوست ـ وهو مثال ذكرناه سابقاً ـ هو الذي خلق غوته لأن فاوست موجود في أعماق كل ألماني، فالنماذج الأولية والأنماط البدائية مكونات للاشعور الجمعي وتتمثل في الصور والأفكار اللاشعورية الجمعية الموروثة من تراث الأسلاف وعبر الأجيال، وتتمثل في أفكار مشتركة بين البشر مثل الأفكار والصور الخاصة حول (الله والشيطان والحياة والموت)، وتتجسد هذه الأفكار في الأعمال الفنية العظيمة التي يطلق عليها بعض علماء التحليل النفسي اسم "الفنون الكشفية" والتي يكتشف الفنان من خلالها بالحدس، والأحلام، تلك المناطق المجهولة من الطبيعة البشرية ويكون على المتلقي أيضاً، أن يقوم بدور مماثل لاكتشاف هذه المناطق المجهولة.(12).‏

فكأن الفنان أو الشاعر يقوم بمهمة نقل ما في اللا وعي الجمعي إلى عالم الوعي. ولكن أية موهبة يمتلكها الفنان حتى يستطيع الإفصاح بما لا يستطيع الإفصاح به إنسان آخر؟ ولعل تفسير ذلك نجده في تجاوب جمهور المتلقين مع ما ينتجه الفنان وبخاصة ما أنتجه فنانون كبار مثل "بيكاسو، وماتيس" اللذين عادا إلى معين الفن البدائي.‏

هذا التوحد مع أعماق النفس حيث اللاوعي الجمعي، وحيث يثوي ماهو خالد، وتكون حياة الإنسان اللاشعورية كفرد هي الحياة اللاشعورية النفسية للجنس البشري. نقرأ ملمحاً عنه في (جدارية) محمود درويش:‏

ولا يكفي الكتاب لكي أقول‏

وجدت نفسي حاضراً ملء الغياب.‏

وكلما فتشت عن نفسي وجدت‏

الآخرين. وكلما فتشت عنهم لم‏

أجد فيهم سوى نفسي القريبة‏

هل أنا الفرد الحشود؟‏

وأنا الغريب تعبت من درب الحليب‏

إلى الحبيب تعبت من صفتي.‏

ويعبّر الكتاب والفنانون من خلال نتاجاتهم عن حالة الكشف والإبداع هذه بقول أحدهم: "يتحول الكاتب إلى جزء من لعبة ملخصها (هولا يكتب بل ينكتب)".‏

فثمة قوة خفية تفضح جوانية الإنسان بعامة والمبدع بخاصة فلا يملك أن يخفي أسرار أعماقه إلى الأبد، يقول فرويد في هذا الصدد: "من كانت له عينان ليرى وأذنان ليسمع، بوسعه أن يوقن بأنه مامن فانٍ قادر على أن يطوي سره إلى الأبد. فإن صمتت شفتاه ثرثر بأطراف أصابعه، ونضحت النميمة من كل مسامه".‏

والكاتب يردد السؤال دائماً ماذا أكتب، وعمَّ أكتب؟ حتى ليخال المتلقي أن هناك شكاً ورهبةً في العلاقة مع الكتابة. لكن كما تقول ميسون علي، في بحثها: (أثر المرجعي في تمييز بنية الشكل في رواية مملكة الغرباء، لإلياس خوري)، "الكتابة ليست شكاً بل هي بحث. في هذا البحث تتوزع ذات الكاتب وتتعدد وتتحول إلى مجموعة من المرايا المتقابلة، يتحول الكاتب إلى جزء من اللعبة هو لا يكتب بل ينكتب". وتردد الناقدة قولاً لالياس خوري نفسه في الرواية ذاتها هو: "إن الشكل الروائي الذي تتخذه محاولاتي بعد اكتمالها دائماً يفاجئني".‏

وفي مقابلة معه قال عن تجربته في (الوجوه البيضاء): "كانت الرواية مشروع قصة قصيرة وفي جلسة واحدة كتبت /110/ صفحات واكتشفت أني أكتب شيئاً لم أخطط له، كانت تقودني إلى مكان أجهله.".(13)‏

وفي مثال ثان. يصف (مروان قصاب باشي) ـ وهو فنان تشكيلي معروف ـ ، طريقة (عبد الرحمن منيف)، في الكتابة الروائية بقوله: "غالباً ما يبدأ عبد الرحمن بالقلم من نقطة يسيّرها بسرعة في خط متواصل ومتسمّر، يكتب فيه بدل الكلمة رسمة يرسمها بسرعة كبيرة، تأتي من شعور باطني حافز التأهب والرغبة في التخطيط ورؤية الموضوع بشكل آخر عن طريق الرسم، وهذه النقطة ما تكاد تبدأ حتى تنتهي بذلك الخط أيضاً، مع تركيز كبير". (ذات الطريقة) التي نادى بها السرياليون في استحضار العمل وسمّوها بالأوتوماتيكية في الفن، لاعتقادهم أنها الطريقة المثلى في تقديم ما يعتمل في داخلنا من أحلام وتحركات لها منطقها وصدقيتها... إن حركة النفس الداخلية والرغبة الغامرة في التعبير تأخذان إيقاعاً ملحاً يتصاعد أثناء العمل ذاته. وقد يحمل العمل الفني في طياته النبوءة... يقول (إبراهيم نصر الله): بعد إنجاز روايته (الأمواج البرية)، وقد بدأ بنشرها على حلقات في جريدة "صوت الشعب"، وقد سأله يوسف القعيد وقتها: ـ ما معنى كتابة عمل أدبي عن الانتفاضة الأولى وهي لم تزل في أيامها الأولى؟... وكيف يكون هناك كتاب عن حدث ما زال يتكون في رحم الواقع؟...‏

يقول: "هذا الكتاب تم إنجازه قبل الانتفاضة بشهرين".‏

فالدهشة التي تتملك المبدع فيما ينتج تكاد تكون عامة، فالروائي الإنكليزي (ثاكري) قال عن أحد أعماله: "أصابتني الدهشة للملاحظات التي أبدتها شخصياتي. ويبدو وكأن قوة خفية كانت تحرك القلم. فالشخصية تتصرف وتقول، وإني لأتساءل كيف تأتَّى لها بحق السماء أن تفكر بذلك".‏

إنها الرحلة مع الخيال بين الإحساس والأعماق. ذلكم جانب من التجربة الإبداعية التي تظل عصية على الامتلاك... والتي تفصح على الدوام عما هو مشترك بين المبدع والمتلقي. (ـ الإيقاظ لهم عالم مشترك واحد، ـ أما النيام فلكل عالمه)، كما يقول هيراقليطس.‏

(1) كتاب العربي- العدد 39- ص 221.‏

(2) السابق.‏

(3) جان طنوس نعوم: مجلة الطريق- 75/4- ص 178.‏

(4) انطوني ستور في العبقرية- م.س- ص 300.‏

(5) مصطفى سويف: الأسس النفسية للتكامل الاجتماعي- ص 164.‏

(6) انطوني ستور- م.س- ص 301.‏

(7) محمد صقر خفاجة: شاعر الخلود (هوميروس).‏

(8) جوزين جودت عثمان: عالم الفكر 3/8، ص 54.‏

(9) باشلار: عالم الفكر 11/2، ص 204.‏

(10) ـ عن محمد المبارك ـ الآداب ـ أيلول ـ 1970 ـ ص77.‏

(11) ـ كتاب العربي ـ 39 ـ ص25.‏

(12) ـ شاكر عبد الحميد ـ التفضيل الجمالي (ص 449 ـ 450)، عالم المعرفة 267.‏

(13) ـ الطريق ـ العدد 1 ـ السنة 2000 ـ ملف عن الياس خوري.‏

ابومحمد الشامري 01-04-2005 03:28 PM



الإبداع (من العصاب إلى التطهير النفسي)

(1)ـ التمايز والإبداع:‏


تعكس الأفعال الإبداعية التجربة الإنسانية في صورة شديدة التركيز تحمل عناصر الغرابة والمفاجأة والاختلاف والتمايز في أسلوب التفكير وتداعي الأفكار وارتباطها ببعضها. وهو ما يتحدى ذهن المتلقي ليذهب إلى التعرف على معناها.‏

وكون العملية الإبداعية تنزع إلى تجاوز المألوف وتتصف بقدرة تخطي الذات والتحرر من النظرة الجامدة، لذا تسعى إلى التفتح على عالم متنوع وخصيب بالرؤى والأشكال.‏

والمبدع لا يكرر نفسه. فعلى الرغم من الطابع العام لشخصية وأسلوب شكسبير في الكتابة إلا أنه في كل عمل جديد من أعماله التي أنجزها كان يحاول التحرر من منظور العمل الذي سبقه ومن موضوعه، فهو لا يكرر فكرة ولا يستخدم صوره الشعرية بصورة جامدة متكررة. فالمأساة في هاملت يختلف مضمونها وتختلف معالجتها عنها في كل من (الملك لير)، أو (عطيل).‏

وينطبق الأمر نفسه على كل من ديستويفسكي وديكنز ودافنشي.(1).‏

والمبدع في بحثه عن الجديد فإنما يعبر عن حالة إنسانية تتمثل في نزوع الإنسان نحو التمايز والفرادة. وصفة التمايز هذه تعد خاصة أساسية من خواص أي نظام سواء كان نظاماً نفسياً أو بيولوجياً أو اجتماعياً.‏

ويمتاز الكائن البشري، بصورة عامة، بقدرته على تنمية عملية التمايز النفسي المعرفي منذ بدء حياته. ويختلف الأشخاص في أساليب سلوكهم وخصائصهم النفسية، تبعاً لدرجة أو مستوى نمو عملية التمايز المعرفي عند كل منهم.‏

التمايز لغوياً: جاء في المعجم المدرسي:‏

يقال انماز الشيء أي انفصل عن غيره وانعزل. وتمايز القوم تفرقوا وتميز بعضهم عن بعض.‏

والأصل ماز، مازه ميزاً ميزه: عزله وفرزه أو فصل الشيء عن بعضه.‏

جاء في القرآن الكريم:‏

(ماكان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب( (سورة آل عمران ـ الآية 79).‏

يقال مزَّ الضأن من المعز، ومزَّ الطيب من الخبيث، وماز الشيء عنه: نحاه عنه.‏

يقال مازته أخلاق رصينة. ويقال فلان يميز بين الغث والسمين.‏

الميزة: المزية (اسم مصدر لفعل: ماز الشيء عن غيره إذا فرزه ونحاه، وقد يكون هذا الفرز أحياناً لتفضيل ذلك الشيء على غيره فتكون الميزة بمعنى المزيّة).‏

والتمييز قوة في الدفاع تستنبط بها المعاني.‏

وتميّز الشيء من الشيء: انفصل عنه وبان عنه... وامتاز الشيء: اعتزل وانفرد أو بان من غيره لا يختلط ولا يلتبس.‏

(2)ـ من اللا تمايز إلى التمايز:‏

تتميز عملية الإدراك لدى الإنسان في بداية حياته بالكلية والعمومية. ومع عملية النمو تبدأ عملية التمايز التي تزداد وتتوضح شيئاً فشيئاً، وتبرز بعد ذلك القدرة على إدراك تفاصيل هذا الكلي والعمومي، ثم قدرة الإنسان على تمييز الذات عما يحيط بها من مثيرات، ومن صفات النمو في كل جوانب الحياة الانتقال من هذه المدركات الإجمالية الكلية إلى تمييزها عن بعضها وهو ما يؤدي إلى ما نلاحظه من فروق بين الأشخاص في جوانب حياتهم المختلفة.‏

في بداية الحياة يصعب على الطفل في شهوره الأولى أن يميّز بين ذاته وبين البيئة من حوله ويكون تمييز جسده عن المجال الذي هو فيه في أضيق الحدود. ومع النمو يبدأ في انتزاع إدراكه لجسده مميزاً إياه عن مجاله ومحيطه... وهنا تبدأ أولى عمليات التمايز النفسي. ويتمثل هذا التمايز في إدراك حدود فاصلة بين الجسم والعالم الخارجي... ويتضح التمايز أكثر في عملية الانفصال التدريجي عن الأم حيث كان الالتصاق بالأم هو الشيء الثابت منذ الحمل مروراً بالحالة الجنينية إلى أن يبدأ في الابتعاد عن حضنها الذي يبلغ ذروته في حالة الفطام. وفي أثناء ذلك ينمو عند الطفل مفهومه عن ذاته وتصوره عن نفسه وبموازاته ينمو إدراكه لأوجه الشبه والاختلاف عن الآخرين، بحيث يصل إلى مرحلة فهم وإدراك مدى التمايز الموجود بين ألوان نشاطه وسلوكه وزيادة القدرة على تنمية الجوانب الانفعالية وألوان السلوك الدفاعي.‏

والخلاصة: التمايز هو عملية نمو مستمرة. فمع زيادة النمو تزداد قدرة الشخص على عزل نفسه وتمييزها عما حولها، وكذلك يزداد نمو الشعور باستقلال الهوية ويزداد مقدار ما لديه من قدرة على تنظيم انفعالاته وألوان سلوكه ومقدرته على التنظيم والتحكم في الجوانب الرئيسة. من شخصيته في علاقتها مع بيئتها.(2).‏

وحركة النمو نحو التمايز لا تحقق دائماً عند الأشخاص حالة من الاتزان أي الاحتفاظ في حالة تحقيق التمايز حالة من الثبات يتغلب فيها المرء على القصور والعجز، وهذه الحالة إن صح بلوغها هذه النقطة عند الناس العاديين فإنها لا يمكن الركون إليها في تفسير سلوك المبدعين... يشرح هكسلي ذلك بقوله:‏

"إن الحياة الإنسانية كفاح ضد الإحباط، والتجاهل، والمعاناة، والقصور بصفة عامة، لكنها أيضاً كفاح من أجل شيء ما....، أي تحقيق الإمكانات الكامنة بواسطة الفرد، والإمكانات الجديدة بواسطة الجنس البشري، وإشباع الحاجات النفسية، والمادية، ونمو خصائص جديدة للخبرة يستمتع بها الفرد، وبناء الشخصية."(3).‏

وفي نزوع الإنسان نحو التمايز والفرادة كثيراً ما يلجأ إلى المقايسة بين سلوكه، والسلوك الذي يراه عند الآخرين في موقف من المواقف... ، قد يدفع به للاستغراب حيناً، فيطرح على نفسه السؤال مرة تلو أخرى: لماذا لا يدرك الآخرون أنَّ تصرفهم على هذا النحو لا جدوى منه؟.. فإما أن يكون تصرفاً خاطئاً أو ضاراً أو أنه لا يقود إلى نتائج مرغوبة... ، وإما يرى فيه سلوكاً يمتاز بردود واستجابات تتوافق مع بعضها بنسب عالية، لكنها مختلفة عن ردود أفعاله واستجاباته فيقوم بعملية مراجعة ذاتية. فإما يكتشف في سلوكه تفرداً يصر عليه ويتبناه، وإما يعيد النظر فيما صدر عنه، لكن ليس للاندماج في نمط سائد، وإنما للتكيف مع واقع لا يستغرقه، وفي هذه المحاولة يظل يجنح نحو تشكيل صورة لنفسه نحو نفسه ذاتها وللآخرين فيها ما يميزه ويؤكد ذاته.‏

والإصرار على حالة الفرد والتمايز بصورة ظاهرة أو مستتره هو إحدى حالات تجليات الإبداع. وكل يختار ما يميزه وما يريد أن يكونه... وقد يصيب المرء في اختياره وفي حكمه على سلوكه وطموحه. وقد يجانبه الحظ فيقع في الخطأ لأنه لم يكتشف مواضع القوة في إمكاناته وقدراته فيتحول نحو مجال من مجالات الحياة، ونشاطات لا تتناسب مع قدراته...‏

(3) ـ توقيت الإنجاز الإبداعي وعناصره:‏

لا يأتي الإبداع سهلاً طائعاً، فهو إضافة إلى ما يحتاجه من جهد ودأب المبدع، يلزمه فترة من الكمون والتخمر تكون خفية ومستترة لا يدركها صاحبها، إلا عندما تصبح ثمراً حان قطافه. وأن كثيراً من الناس يفوتون على أنفسهم وعلى الآخرين إنجازاً إبداعياً لجهلهم بإمكاناتهم وقدراتهم. من ذلك ما يقصه الكاتب الأمريكي (مارك توين)، عن "رجل كان يشغل نفسه بالبحث عن أعظم قائد حربي عرفه التاريخ، وحين سأل أين يمكن العثور على ذلك الرجل، قيل له: إنه مات منذ زمن طويل وصعد إلى السماء، وذهب الرجل وراءه، وعلى أبواب الجنة رأى القديس بطرس وسأله عن مطلبه، فأشار القديس إلى "روح" تهيم على مقربة منهما. فقال الرجل: ولكن هذا ليس أعظم القادة جميعاً، لأنني كنت أعرف هذا الذي تدلني إليه أثناء حياته. ولم يكن إلا إسكافياً غير ماهر، فقال له القديس بطرس: وأنا أعرف ذلك، ولكن لو كان هذا الرجل جنرالاً لكان قد صار أعظمهم جميعاً".‏

هذه الطرفة إلى جانب أنها كانت إجابة مباغتة وغير متوقعة تشير إلى أن الكثيرين من الناس لا يعرفون إمكاناتهم وقدراتهم ومواهبهم الحقيقية، كما أن الآخرين لا يقدرونهم حق التقدير.(4).‏

لا يأتي النص الإبداعي أو اللوحة في اللحظة التي يريدها الكاتب أو الرسّام، كما أن القدرة على الإنتاج الإبداعي قد لا تظهر علاماتها في وقت مبكر. فقد تعلَّم اينشتاين الكلام متأخراً بينما كان ديكارت طالباً فاشلاً، كذلك كان باسكال وفيثاغورث وموزارت وغيرهم عديمي المواهب في الطفولة(5).‏

ولم يجل في فكر (وليم فوكنر) عندما كان صبياً، أي طموح أو رغبة ليكون روائياً، وإنما كان شاعراً وكان خجولاً ولم يكن شغوفاً بدراسته.‏

ووصف (جون ديوي) حضور الفكرة الإبداعية بقوله: الفكرة الجميلة كالمرأة الجميلة تأتي وقتما تشاء، لا وقتما نريد".‏

وكثيراً ما يخطئ الإنسان طريقه نحو الإبداع، فلا يعرف الطريق إليه، أو أنه لا يعرف أين يكون ناجحاً، ويحقق تميزه، بسبب من ظروف خارجية، أو بسبب داخلي يعود إلى عناده ومكابرته في التطلع نحو نشاطات ليست مما لديه من إمكانات وقدرات... فهنري ماتيس الفنان الذي راجت لوحاته لتميزها بألوانها المشرقة، وما تتصف به من إحساس بالهدوء المفعم بالوئام، والذي كان من أشهر الفنانين في زمانه، و الذي ما زالت لوحاته مصدر إمتاع لمتذوقي الفن التشكيلي، لم يكن قبل بلوغه سن التاسعة عشرة يعرف شيئاً عن الرسم، كما أنه لم يشاهد قبل ذلك أية لوحة زيتية، ولم تكن عنده أية رغبة بذلك، ولم يكن يمتلك الطموح لأن يكون فناناً، كما تقول (هيلاري سبرلنغ) التي كتبت سيرة حياة هذا الفنان في كتابه (ماتيس المجهول):‏

"نشأ هنري في (بوهن) وهي مدينة تحولت إلى مدينة صناعية بالكامل، ومركز نسيج محتشد بالمعامل، وفي صباه لم يعرف شيئاً عن الرسم، ولم يشاهد لوحة زيتية حتى بلغ سن التاسعة عشرة من عمره، ولهذا لم يمتلك طموحاً مبكراً في أن يكون فناناً إلا أنه أدرك بلا ريب انعدام رغبته في إدارة تجارة الحبوب. لقد امتلك إرادة قوية حتى وهو صبي، إلا أن ضغوط هذه الوضعية قادته إلى عدد من الأزمات، ازدادت سوءاً، إلى أن لجأ الأخير بكل بساطة إلى سريره لمدة عام كامل تقريباً، كما سيروي فيما بعد وهو يستعيد ذكرى تلك الأيام، فتخيل أن ينهار شخص يبلغ من العمر الثامنة عشر عاماً بهذه الطريقة، ويمضي عاماً في السرير، ثم يقرر والده أن مهنة مثل مهنة المحامي ستكون الأفضل بالنسبة لهنري، ويشرع الابن بالسير في هذه الطريق، وسرعان ما تغلبه الكآبة والإحباط، وينتهي في المستشفى أخيراً... بعد انهيار أشد من الانهيارات السابقة.‏

عند هذه النقطة تدخل القدر، حين رأى رجلٌ (يرقد في السرير المجاور لسريره)، في هنري شخصية مريض يعاني من العصاب فقدم له نصيحة، وأخبر الشاب أنه هو ذاته عانى من حالة يأس مشابهة أراح أعصابه بالرسم مستخدماً معدات تلوين مرقمة، كانت شائعة تلك الأيام. وكان يشتري صندوق ألوان صغيراً على غطائه صورة للاستنساخ وتعليمات عن كيفية نسخها. وهكذا اشترت أم ماتيس صندوق الألوان هذا سراً. وسيتذكر ماتيس فيما بعد أنه حين وقع صندوق الألوان ذاك بين يديه عرف بالضبط ماذا كان يفترض به أن يفعل بحياته، كان الأمر كشفاً روحياً بالنسبة له، وحول مجرى حياته، ومنذ ذلك اليوم حتى يوم وفاته، ألقى بنفسه تماماً في عالم الرسم والتصوير محاولاً من حيث الأساس تعويض ما ضاع من زمن"(6).‏

(4) ـ من الحلم إلى الإحباط:‏

تقول (غادة السمان) عن أدبها:‏

"لا أعتقد أن هناك أي عمل علمي أو أدبي أو سياسي خارق إلا خلفه رجل حالم، لكنه حالم يعمل. كل الأعمال الكبيرة في تاريخ الإنسانية، بدأت برجل يحلم... ثم يكرس حياته ليحقق عملياً ماكان مجرد تصورات، إني أؤمن بضرورة الزواج بين الحلم والواقع في محراب العقل والوعي، حيث تتحد النفس بذاتها دون أقنعة، ويصير العقل اللا واعي قوة متضامنة مع الإرادة، لا مشتتاً لها، الإبداع الفني في نظري هو محاولة لاتحاد مستوى العمل ومستوى الحلم من أجل مزيد من الاقتراب من النفس الإنسانية وأسرارها، والفنان باستمرار بحاجة إلى القدرة على إفشاء توازنه الخاص بين حالة الحلم وحالة اليقظة... فالحلم هو مادة حياتنا السليمة وليس شيئاً يضاف إلى اليقظة.(7).‏

يلتقي الحلم مع الإبداع، فالحلم تعبير ينفذ المحلل النفسي من خلاله إلى أعماق النفس، فهو بهذا المعنى نتيجة خبرة سابقة، لكنها إذا اعتبرناها بذاتها، فإنها من طبيعة أخرى بالنسبة للخبرات عند الإنسان الصحيح العقل والتفكير، لأنها تجمع في أفق واحد ـ كما يقول مصطفى زيور، في مقدمته لترجمة كتاب (تفسير الأحلام) لسيغموند فرويد ـ بين العقل والجنون بسبب من طبيعته الهلوسية وإن كان الكشف عن طبيعته هو كشف عن طبيعة العقل والجنون جميعاً. وهذه المقاربة لا تختلف كثيراً عما تقول غادة السمان التي تلعب الأحلام دوراً هاماً في إبداعاتها:‏

"بل أعتقد أن جوهر لقاء الحلم والجنون في أن كليهما تعبير عن الصدق المطلق... ولذا فإن الأحلام تلعب دوراً هاماً في أعمالي... والحلم يحاكي الجنون، ولا أعتقد أن هناك عملاً عبقرياً دون لمسة جنون".(8).‏

وليست أحلام المبدع مقتصرة على المنامات، مثله في ذلك مثل غيره من البشر، إذ أنه يقع تحت تأثير أحلام اليقظة أيضاً، أليست روايات الخيال العلمي بشكل ما أحلام يقظة؟ في رواية (من الأرض إلى القمر) التي كتبها (جول فيرن) عام 1864: ((حلق عالياً في سماء خيال الطيران بين الكواكب. وقيل إنه استوحاها من قصة أخرى لا تقل عنها في التحليق بالخيال وهي قصة (ادغار آلان بو) التي تدور حول رحلة إلى القمر بوساطة بالون".‏

وكثيراً ما تعمل الأعراف، والتقاليد الاجتماعية، وأساليب الردع، وإطلاق النكات حول سلوك المبدع بخاصة، والإنسان بعامة، على إحباط العمليات الإبداعية، فما يوجه للإنسان الحالم من نقد لاذع يثبط همته. فقد تكون القدرة على الإبداع الموجودة لدى كل إنسان مثبطة، ويرى (فيليب شامون): إن إبداعية الأطفال الطبيعية هي الأكثر وضوحاً لإثبات ذلك. في حين تتكفل التربية، وتعلّم الأعراف والتقاليد والعقلانية بكبح أكثر مظاهرها وضوحاً.‏

(5) ـ العصاب والإبداع:‏

انكسار الأحلام، وإحباطها، والقمع، تفرضه المواصفات الاجتماعية على المبدعين، الذين كثيراً ما يتصرفون كالأطفال. فالطفل يظل حياً في المبدع وفي أعماق شعوره. ولأن المبدع كذلك، ولأنه في الأعم الأغلب يتميز بحساسية مفرطة، تتجاوز أوسط الأمور، نتيجة طبيعية حيث الجهد والمثابرة من خصائص الإبداع، فالمبدع الذي يواصل اتجاهه ويعمل ذهنه ويركز تفكيره يكون في كثير من لحظات حياته متوتراً وأي عارض أو طارئ يصادفه قد يواجهه بشيء من النزق والتبرم لأنه يعيش على حدود دقيقة، ويحتاج إلى التأمل والتركيز كي يكون إدراكه للتغيرات ونواحي الضعف فيما حوله هدفاً لنشاطه، من هذا الإحساس غير العادي بالأشياء والناس، يكون مستعداً للانطلاق نحو سد الثغرات، وحل الغموض، وفك ألغاز الوجود بتكوينات أدبية أو فنية أو غير ذلك من مجالات الإبداع وميادينه. وهذه الحساسية بالمستوى الذي تكونه عند ولادة العمل الإبداعي يصنفها بعض علماء النفس ارتفاعاً بالوعي. وفي هذا التوقيت يكون ذهن المبدع منفتحاً على بيئته ويقوم من خلال مجهوده الإبداعي بدافع من ذلك إلى فهمها وإعادة تشكيلها في الوقت الذي يراقب الأشياء تلفته بعضها حيث لا تستثير انتباه غيره... فيكوّن من الألوان وملمس الأشياء واستجابات الآخرين، وبعض الفقرات في الصحف اليومية أو بعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية تشكيلات أو تكوينات أو نصوصاً تتصف بالجدّة والابتكار اللذين لا يبلغهما غيره.(9).‏

وفي لحظة ما أو أمام مشهد من المشاهد، تتكثف الفكرة في منظر أو مظهر فني، يكشف عن جمال لم يخطر على ذهن. وقد اختصر (بول فاليري)، في جملة واحدة، جمال برهة زمنية حين قال أمام الغروب:‏

"ما قيمة ألف ديوان من الشعر، أمام مغيب الشمس".‏

وفرط الحساسية عند المبدع، قد يؤدي به إلى الاضطراب النفسي، الذي يظهر انفعالاً حاداً يؤذي صاحبه، ويؤدي إلى سلوك ليس مما هو سائد في بعض الأحيان، قد يؤدي بصاحبه إلى مواقف حرجة، أو إلى نوع من السلوك الانطوائي، وإذا كان مثل هذا السلوك لا يعطل قدرته على التفكير، ولا يقطع صلته بالبيئة يكون المرء قد تعرض للعصاب. الذي قد يؤدي به إلى مواقف حرجة وإلى سلوك انطوائي.‏

وصورة (ألبرت اينشتاين)، عبر وثائق من كتاباته وأوراقه، التي بدأت ترى النور تبرزه عصابياً في سنواته الأخيرة: "ترك شعره مسترسلاً دون حلاقة، وأخذ يساعد الفتيات الصغيرات على حل واجباتهن المدرسية في الرياضيات وأصبح سريع التبني لأية قضية كرجل تتناقض حياته الخاصة غير المستقرة تناقضاً سافراً مع تأمله الهادئ للكون، رجل كان بإمكانه التزاوج بين دفء المشاعر وبرود العاطفة، وأن يكون أباً حانياً ومتحفظاً في التعامل على الرغم من ذلك، كذلك هو الزوج العطوف والمغازل العابث في الوقت ذاته". وكتب (فيليب فرانك)،ـ صديقه وكاتب سيرته ـ يقول: برغم اهتمامه العميق والحميم بمصير كل غريب قادم، فقد كان ينسحب سريعاً في الدخول إلى منطقة الحميمية".(10).‏

وتتنوع أعراض العصاب بتنوع البيئات وتختلف من شخص إلى آخر. ولتحديد السلوك العصابي يمكن الاتكاء على عتبته الدنيا التي تتصل بعتبة الغضب العليا. والعصابي يوصف بأنه شخص سيء التكيف. ولا يكون السلوك العصابي حالة دائمة أو مستمرة في سلوك الشخص وتصرفاته... وإنما يظهر بين فينة وأخرى في استجابات وردود أفعال لكنه يتحكم بصاحبه حيث تصبح الصفة الغالبة على سلوكه الانسحاب إلى عالم خاص به.‏

وإذ يهرب الفنان من الواقع إلى سلوك طريق إشباع بديل يظهر عليه السلوك العصابي.‏

كتب (جورج بيكرنغ) في كتابه (المرض الخلاق): "الانفعال صفة رئيسية أرى أنها تربط أنواع العصاب النفسي للشخصيات التي أصف عملها هنا بالخلاق الذي أدى بهم إلى الشهرة".(11).‏

وينشا العصاب من صراع بين الرغبة ومحاولة تحقيقها. وكلما ازدادت الرغبة اتقاداً زاد احتمال أن يؤدي إحباطها إلى العصاب النفسي، وقد ييسر هذا بدوره تحقيق الرغبة أو يؤدي دور الحافز للتطهير العقلي الذي ينتج عن عمل خلاق وعظيم، ويبدو أن هذا هو أساس العلاقة بين العصاب النفسي والإبداع، وباختصار يمثل العصاب انفعالاً مكبوتاً ويعبر العمل الخلاق العظيم عن انفعال متحقق."(12).‏

ـ لكن هل يعني هذا أن كل مبدع هو شخص عصابي أو قريب من المرض النفسي؟...‏

أو كما جاء في مسرحية (حلم ليلة صيف) لشكسبير حيث يقول:‏

ـ "المجنون والعاشق والشاعر يؤلف الخيال بينهم أجمعين"؟‏

فكأن الخيال الجامح والحساسية المفرطة تجعلان المرء يقوم بأنماط سلوكية مستهجنة مع إنتاجه للجديد غير المألوف.. ويلاحظ على المبدعين إضافة للسلوك المستهجن حالات سلوكية طفلية حيناً، وحيناً ينسحبون نحو حالة من الصمت والانكفاء، وقد تظهر عليهم علامات من نوبات الاكتئاب أو ما يقربه إلى ماهو أشد من ذلك. وقد تأخذهم العزة فيما أنتجوا فينصبون من أنفسهم مخلّصين للبشرية ومنقذين لها.‏

في حوار بين (جورج غريب والياس أبو شبكة)، قال جورج: ذات غروب كنا على مشرف رائع من (زوق مكايل) نتمشى أمام لوحة ربيعية ساحرة، فدار بيننا، أذكر، الحوار التالي:‏

ـ ما أجمل الطبيعة يا الياس..‏

أجابه أبو شبكة:‏

ـ لكن الشاعر وجد ليزيد في جمالها.‏

سأله جورج:‏

ـ ماهي رسالتك في الحياة؟..‏

أجاب:‏

ـ جئت إلى الدنيا لأفتح ورشة حب.(13).‏

(6) ـ أثر خبرات الطفولة في الإبداع:‏

لا يمكن تجريد السلوك في مراحل الحياة كافة عن تأثيرات الخبرات في مرحلة الطفولة وتبرز نواتج هذه الخبرات في إبداعات الفنانين والأدباء، ويكون اكتشاف صور هذه الخبرات التي تظهر رموزها في العمل الإبداعي واسطة لتحليل العمل وفهمه.‏

يرى أحد الدارسين أن لفظ البئر (وهو يعني حفرة في الأرض)، وقيل أنها موقد النار كما جاء بمعنى المخبأ والمذخر. كما ورد لفظ البئر بمعنى الحفرة من الأرض يستقى منها الماء". في سيرة جبرا إبراهيم جبرا، قد أطلقه جبرا عنواناً في سيرته الذاتية: "وأراد به ذلك الموقع من الذاكرة (التي تجمعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات، أولى الأفراح والأحزان والمخاوف التي جعلت تنهمر على الطفل فأخذ إدراكه يتزايد ووعيه يتصاعد)، فجبرا هنا يجعل من الذاكرة البئر أو المخبأ الذي يحفظ فيه تجاربه الأولى تجارب الطفولة التي هي أكثر من حصيلة ذكريات خاصة، فهو يدرك أن الأصول الحقيقية للأشياء تعود إلى التجارب الأولى من حياة المرء. وقد أكد على ذلك في أكثر من مناسبة (طفولتي هي ينبوعي الأغزر... إنها البئر أو العين التي تمدني بالكثير من النسغ لما يتنامى في ذهني من بنت الخيال، وأرجو أن تستمر في منع الجفاف والعطش".(14).‏

أما الفيلسوف الفرنسي (رينيه ديكارت) الذي عاش يتيماً وقد ماتت أمه وهو في الثانية من عمره، وقد عاش مخلصاً للمرأة التي أرضعته وعنيت به، لم يمح طيف أمه وحادث وفاتها من حياته الشعورية واللا شعورية. وشكل ذلك بداية شعوره بالاغتراب. وقد ذكر هنا الحادث في رسالته إلى الأميرة "اليصابات" وهو في سن الخمسين، ويرى المحللون النفسيون أن الاغتراب هنا يبدأ في الظهور منذ بدايات الحياة عندما ينتقل المرء في نموه من مرحلة اللا تمايز أو اللا تغاير إلى مرحلة الانفصال الجسمي عن الأم، وهو الانفصال النسيجي الشامل للأنا ولما يغاير الأنا.(15).‏

(7) ـ الإبداع والتطهير النفسي:‏

إذا كان الانفعال الشديد هو ما يعاني منه المبدع قبيل أو أثناء النشاط المنتج فإن ذلك قد يتحول في حالة الإنجاز راحة وطمأنينة وتحرراً من كابوس الانفعال. وإذ يعاني المبدعون من ضغوط الكبت والخبرة والموروث الشعبي فإنهم حين يصوغون ذلك أدباً أو فناً تشكيلياً أو لحناً يخلصهم بعد الإنجاز من الضغط النفسي و من حالاته العصابية.‏

يلخص (سلتر) العلاقة بين القدرة الإبداعية والاضطراب النفسي بقوله: "يصدر العمل الخلاق عن العناصر النشيطة و الصحية للشخصية، ويمكن للسمات السيكوباتية أن تضفي على العمل طابعاً أو لوناً خاصاً. وقد تؤدي عمليات التثبيت العصابية إلى اختيار مادة من نوع خاص للعمل عليها أو تطويرها. وقد تجبر الأحزان والمحن الفنانين على البحث عن طريقة خلاقة تساعدهم على التطهير. لكن العمل الخلاق نفسه ينبثق من القوة لا من الضعف".(16).‏

وربما كان العامل المشترك بين الفنون كافة، وفي سائر العصور، روح الطفل الذي لم تلوثه المدنية. ففي الفن تمحي المسافات، وتتقارب الأمكنة، وتتكثف الأزمنة، وتزول الحدود. فكأن الإنسان يعود بعد عملية الإبداع إلى المرحلة العمرية الخالية من الدنس:‏

"إن لم تعودوا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات".‏

يقول (جويل. ل. سويردلو): "في أمستردام كان فنسنت فان غوخ ابن الرابعة والعشرين عاماً تلفه الكآبة. ويشعر كأن الموت يتربص به. كان يسعده أن يهيم على وجهه في الطرقات كما ذكر لأخيه (ثيو) في إحدى رسائله. ولكن حالة الاكتئاب استمرت: "أحياناً أحس بأثقال ترزح تحتها رأسي، والنار تشتعل فيها، وأفكاري كلها مشوشة".‏

ولقد قابلت الدكتور بيترهان نيمان مدير مركز الأزمات النفسية في أمستردام والمتخصص في معالجة الشبان المشوشين الضائعين... ووصفت له كل ما عانى منه فنسنت من أعراض: "مولع بالجدل تستحوذ عليه الهواجس، وغالباً ما يشعر بالقلق، ولقد أصبحت معدتي لا تتحمل أي شيء. طعامه في أغلبه من الخبز، وشربه من القهوة، لا يعرف النوم المستقر الهادئ، ويحرم نفسه من الملذات... ومدخن مفرط".‏

تلكم كانت عليه حال فان غوخ، فماذا كان جواب الطبيب؟...‏

أدرك الطبيب أن المريض يعاني من ضغوط لا شعورية ويمكن التخلص منها بمساعدته: "في البحث عن الجزء الغامض من الذات ا لذي لم يستعمله بشكل مألوف. وقد يستلزم الأمر بعض الوقت. في كل شخص ذات عبقرية، إذا استطاع أن يكتشفها فسيتلاشى من حوله كل ما نسميه مشاكل، أو على الأقل تصبح تافهة".‏

ويقول الفنان فيما بعد أنه هجر الدراسات الكهنوتية، واكتشف نفسه قبل عيد ميلاده السابع والعشرين... ، وقصد زيارة الفنان (جول بريتون) في مرسمه الخاص، وبعد أن سار ثلاثين ميلاً سيراً على الأقدام، لم يجرؤ على اقتحام مرسم الفنان، فهام على وجهه (ثلاثة أيام وثلاث ليال يغسلني المطر، وتعصرني الريح ولا يظلني سقف أحتمي به)، في رحلته تلك تيقن أنه فنان... يقول فان غوخ: "منذ تلك اللحظات تبدى لي أن كل شيء قد تحول من حولي".‏

ولكن يظل المظهر الإبداعي للحياة ـ كما يقول كارل غوستاف يونغ ـ الذي يجد أوضح تعبير عنه في الفن، يستعصي على كل محاولات الصياغة العقلية، لأن أي رد فعل على مثير من المثيرات يمكن تفسيره سببياً بيسر، أما الفعل الخلاق، وهو النقيض الكامل لرد الفعل المحض، فسيظل إلى الأبد مستعصياً على الفهم البشري.‏




الوقت في المنتدى حسب توقيت جرينتش +3 الساعة الآن 01:25 PM .

مجالس العجمان الرسمي