المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الطريق إلى مكة : محمد أسد (2)


محمود المختار الشنقيطي
22-06-2013, 09:41 AM
الطريق إلى مكة : محمد أسد (2)
نبدأ هذه الحلقة مع هذا :
الكتاب السينمائي!
الكتاب في وجهة نظري يميل إلى (السينمة) – إن صح هذا التعبير- ولعل ذلك من تأثير عمل محمد أسد في المجال السينمائي في بداية حياته – كما كتب،أو ساهم في كتابة سيناريو فيلم أو اثنين – بنا (أسد) قصته على آخر رحلة قام بها داخل الجزيرة العربية،سنة 1932م.- جاء إلى الشرق سنة 1922،واستقال سنة 1952،وكتب عن رحلته سنة 1932 - حيث نجد (البطل ورفيقه) يسيران على هجينين،وبين الحين والآخر يتم قطع المشهد ليحدثنا (أسد) بطريقة (العودة إلى الماضي) أو حسب التعبير السينمائي بالــ(فلاش باك)،عن قصة حياته،أو بعض مشاهدها. يبدأ سرد القصة من انتهائه – ورفيقه زيد – من مهمة كُلف بها. يبدأ المشهد من بئر عثيمين،على الحدود النجدية العراقية – حسب تعبيره – وحين وجد أن لديه متسعا من الوقت،قرر التوجه إلى تيماء،لمشاهدة آبارها،فيبدأ (أسد) واصفا حركة سيره،هو ورفيقه :
(كنا نسير ونسير : رجلين على هجينين،الشمس تضطرم فوق رأسينا،وكل شيء متألق ومترجرج وضياء سابح.رواب وكثبان حمراء وبرتقالية اللون،رواب وراء رواب،وكثبان وراء كثبان. وحدة وصمت محرق،ورجلان على هجينين في مشيتهما تلك المتأرجحة التي تجلب لك النعاس بحيث تنسى النهار،والشمس،والريح الحارة،والطريق الطويل{ص 26}. (..) وكقطة من المعدن حمراء تختفي الشمس وراء التلال،وتبدو السماء ذات النجم أرفع منها في أي مكان آخر في الأرض.){ص 31}
يستمر وصف الصحراء،وصفا ساحرا، إلى أن يلتقي بركب من البدو،فيتذكر زعيمهم أنه قابل (أسد) في مجلس الملك عبد العزيز – رحمه الله - وهنا يبدأ (أسد) في وصف لقائه الأول بالملك عبد العزيز،ليكون هذا هو أول(رجوع إلى الماضي) في هذا (الفيلم) أو الكتاب. إن ما يجعلني ألح على مسألة الفيلم،أننا نجد الكاتب في أحد أشد المواقف حرجا،حين فُقد هجين رفيقه المصاب،فذهب هو - بالهجين الآخر- باحثا عن الهجين الضال،فهبت عليه عاصفة رملية،اضطرته إلى الالتصاق بهجينه،لاتقاء العاصفة الرملية،كما اضطر لتبديل مكانه بين الحين والآخر،كي لا تدفنه الرمال،في هذه اللحظة الحرجة نجد هذا (القطع) :
(لم أخف كثيرا فلم تكن هذه هي المرة الأولى التي تفاجئني فيها عاصفة رملية في الصحراء. لم أستطع أن أفعل شيئا إلا أن أبقى على الأرض،ملتفا بعباءتي بإحكام،وأن أنتظر خمود العاصفة وأصغى إلى الرياح تزمجر وعباءتي تصفق – صفق الشراع المحلول أو العلم المنثور – صفق أعلام القبائل يحملها على الصواري جيش من البدو في إبان زحفه،تماما كما صفقت ورفرفت منذ خمس سنوات تقريبا فوق الألوف من الركبان النجديين – وأنا بينهم – عائدين من عرفات إلى مكة بعد الحج.لقد كانت المرة الثانية التي أؤدي فيها فريضة الحج،وكنت قبل كل ذلك قد قضيت سنة واحدة في داخلية شبه الجزيرة ،وسعيت إلى أن أعود إلى مكة في الوقت المعين تماما للاشتراك في تجمع الحجيج في سهل عرفات،شرقي المدينة المقدسة. وفي أثناء عودتي من عرفات وجدت نفسي وسط حشد من البدو النجديين بثياب الإحرام البيضاء – بحر من الرجال على مطايا صفراء عسلية أو سمراء ذهبية أو بنية سمراوية – ألوف من الإبل تتسابق وتتدافع إلى الأمام كموجة عارمة بينما الأعلام القبلية تزمجر في الهواء،والصرخات القبلية التي كان الناس يدلون بواسطتها على قبائلهم،وعلى مآثر أسلافهم في ساحات القتال تتماوج أمام فصائل الرجال،ذلك لأن الحرب والحج في عرف النجديين،ينبعان من مصدر واحد .. وينتشر الحجيج،الحجيج الذين لا عد لهم ولا حصر،والذين جاءوا من مختلف الأقطار الأخرى،من مصر والهند وأفريقية الشمالية وجاوه،حيث لم يألفوا هذا الازدحام من قبل،والذين تفرقوا مذعورين لدى اقترابنا : ذلك أن أحدا لم يكن لينجو من الموت إذا وقف في طريق ذلك الركب العاصف – تماما كما يموت الراكب فيما إذا سقط عن شداده وسط آلاف وآلاف من الهجان الرامحة.
ومهما كان ذلك الركوب من الحمق فقد ساهمت في الحمق وانغمست في كل ما كان في تلك الساعة من هجوم وزمجرة وتدويم.وكانت النشوة تغمر قلبي،وسمعت الريح التي كانت تصفق في وجهي تغني وكأنها تقول : "إنك لن تبقى غريبا بعد الآن .. لن تبقى .."){ ص 42 – 43 }.
بعد هذا المشهد يعود (أسد) ليصف لنا مشهد الصحراء،بعد انتهاء العاصفة الرملية،ولكن المشهد السينمائي لا يكتمل حتى يصل القارئ إلى الصفحات الأخيرة من الكتاب ..
(ومرة أخرى أراني راكبا فوق سهل عرفات – راكبا في عدو راعد فوق السهل،وسط ألوف من البدو في ثياب الإحرام،عائدين من عرفات إلى مكة – نقطة دقيقة تافهة من تلك الموجة العارمة المزمجرة من الرجال والإبل الذين لا عد لهم ولا حصر،بينما البيارق القبلية على صواريها العالية تدق كالطبول في الهواء وتشق عنان السماء صرخاتهم الحربية القبلية "يا روقة يا روقة" لقبيلة عتيبة و "يا عوف،يا عوف" من قبيلة حرب،فيأيتها الجواب "شمر،شمر" من الجناح أقصى اليمين!
ونتابع ركوبنا،هاجمين طائرين فوق السهل،ويخيل إلي أننا طائرون مع الريح،منغمسون في سعادة لا تعرف نهاية ولا حدودا .. وتزعق الريح في أذني بنشيد النصر : "إنك لن تكون غريبا بعد الآن،أبدا،أبدا!" إخوان لي عن اليمين،وإخوان لي عن اليسار،كلهم لا أعرفهم ولكن أحدا منهم ليس غريبا عني : فنحن في فرحة سباقنا المضطرب جسم واحد يسعى إلى هدف واحد.(..) ويتخلى واحد من الحشد عن صرخته القبلية فيصيح : "إنا إخوان من طاع الله" {هكذا كتبت "إنا" وهي في الغالب "حنا اخوان من طاع الله"} ويجيبه آخر : "الله أكبر! الله أكبر". وتردد جميع الفصائل البدوية الصيحة نفسها،إنهم لم يعودوا بدوا نجديين يقصفون في تعصبهم القبلي : إنهم رجال يعرفون أن أسرار الله إنما تنتظرهم .. تنتظرنا .. ووسط الضوضاء التي تصم الآذان من خطوات الألوف من الإبل المندفعة والمئات من البيارق المصفقة،تنمو صرختهم إلى زمجرة منتشية ظافرة .."الله أكبر"){ص 404- 405}. هنا لابد أن أعود بكم – على طريقة الكتاب – إلى حيث تركنا(أسد) تحت العاصفة الرملية،حيث يقول :
(وعندما هدأت العاصفة أخيرا،أخرجت نفسي من الرمال التي كانت تجمعت حولي.وكانت ذلولي نصف مدفونة فيها،ولكن تلك التجربة لم تكن أسوأ من التجارب العديدة التي لابد أنها كانت قد تعرضت لها في السابق،وقد يخيل إليّ لأول وهلة أن العاصفة لم تصبنا بأي أذى سوى أنها ملأت فمي وأذني ومنخري بالرمل وأطارت الجعد عن شدادي،إلا أنني سرعان ما اكتشفت أنني كنت على خطأ.
لقد بدلت جميع الكثبان من حولي معالمها،كما اختفت آثار ذلولي والذلول الشاردة كلها : لقد أدركت أنني كنت واقفا على أرض بكر.
ولم يبق أمامي الآن إلا أن أعود إلى زيد – أو على الأقل أحاول العودة – بمعونة الشمس وبشعور الاتجاه الذي يكاد يكون غريزيا لدى من يألف السفر في الصحارى. ولكن هذين المساعدين لم يكن بالإمكان الاعتماد عليهما اعتمادا كليا،ذلك أن الكثبان لا تمكنك من السير في خط مستقيم كيما تحافظ على الاتجاه الذي اخترته لنفسك.
ولقد شعرت بالظمأ بتأثير العاصفة،إلا أنني لم أكن أتوقع أن أبتعد عن زيد سوى مسافة ساعات قلائل،فقد كنت قبل هبوبها بوقت طويل قد أتيت على آخر قطرة من قربة الماء الصغيرة التي كانت معي.
(..) مرت ساعة وثانية وثالثة،ولكني لم أقع على أيما أثر لزيد أو للأرض التي كنا قد نزلنا فيها،ولم يبد لي أنني قد ألفت رؤية أي من التلال البرتقالية اللون.والحق أنه كان من العسير جدا أن أكتشف فيها أيما شيء مألوف لدي حتى ولول لم تهب أي عاصفة. (..) لقد كان هناك،كما ذكرت نحو{هكذا} من ثلاث ساعات بين صخور الصوان وبين المكان الذي اخترناه لنزولنا،ولكنني بعد أن سرت مسافة ثلاث ساعات أخرى،لم أجد أثرا لزيد. هل أخطأته مرة أخرى؟ودفعت الهجين إلى الأمام دائما نحو الجنوب الغربي،مستعينا بحركة الشمس. ومرت ساعتان أخريان،ومع ذلك،فلم يكن هناك أي أثر لزيد،وعندما أرخى الليل سدوله،قررت أنه لم يكن هناك معنى لاستمراري في السير(..) وجاءت ليلة أخرى. وانتهى العطش إلى أن يصبح عذابا وألما،والرغبة في الماء الفكر الوحيد الطاغي في عقل لم يعد باستطاعته أن يفكر أيما تفكير منتظم. ولكن ما إن انبثق الفجر وأضاء السماء حتى ركبت مرة أخرى،خلال الصباح،خلال الظهيرة،إلى أصيل يوم آخر. تلال رملية وحر لاهب.تلال وراء تلال،وليس من نهاية.أو لعلها هي النهاية – نهاية طرقي كلها،نهاية كل نشداني {بهذه الصيغة} وبحثي.. ودعوت الله : "إلهي .. لا تجعل نهايتي على هذه الصورة.."(..) وعندما انزلقت عن الشداد كنت أشعر بأن قواي خائرة تماما. لم أهتم حتى بأن أعقل رجلي الهجين،وقد كان في الحق تعبا إلى درجة أنه لم يكن من المعقول أن يفكر بالهرب. لقد بكيت،ولكن الدموع لم تسقط من عيني الجافتين المتورمتين.
ما أطول الزمن الذي تصرم علي دون أن أبكي .. ولكن أليس كل شيء قد مضى وانقضى الآن؟ولم يبق في حياتي حاضر إلا العطش،والرمضاء والعذاب؟ لقد مضى علي ثلاثة أيام لم أذق فيها أي قطرة من الماء،وهجيني قد شرب لآخر مرة منذ خمسة أيام.(..)ووقف الهجين قليلا،ثم انزلق متنهدا على ركبتيه،ثم على قائمتيه الخلفيتين،وربض إلى جانبي مادا عنقه فوق الرمال. واضطجعت على الرمل في ظل الهجين،ملتفا بعباءتي كي أتقي الحر من خارجي والألم والعطش والخوف من داخلي.لم أعد أستطيع أن أفكر،ولم أعد أستطيع كذلك أن أغمض عينيّ،ذلك أن كل حركة في أجفاني كانت بمثابة قطعة من المعدن المتوهج تكوي مقلتي.لم يكن هناك إلا الظمأ والرمضاء،الظمأ والسكون الرهيب،السكون القاسي الذي يقذف بك إلى لجة من الخوف واليأس.(..)وشعرت بانتفاخ في حلقي،وبضيق عظيم في نفسي،وتضخم في لساني،ذلك اللسان الذي ما كان له أن يتحرك ولكنه لم ينفك يتحرك إلى الأمام وإلى الوراء،كالمبرد يلحس ذلك الحجر الذي كان اسمه فمي في وقت مضى. وانتابت الحمى جوارحي كلها،ودخلت مرحلة النزع،وبدت السماء لعيني مظلمة حالكة السواد.
وتحركت يدي،لاشعوريا،واصطدمت بالبندقية المعلقة على غزالة الشداد.وهدأت اليد،والتمع ذهني بصفاء مفاجئ،واخترقت عيناي مستودع البندقية،ورأيت الرصاصات الخمس الطيبة،وهتف بي هاتف أن تحرك بسرعة وتناول البندقية قبل أن تصبح عاجزا عن الحركة. ثم شعرت بشفتيّ تتحركان وتتلفظان بكلمات متقطعة غير مسموعة : " لنبلونكم .. ولنبلونكم .." ثم انتظمت الآية الكريمة : "ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون".
كل ما حولي حار قاتم،غير أنني أحس من ذلك القتام الحار بنفحة رطبة من الريح كأنني أسمع حفيفها يتخلل الشجر فوق الماء،أما الماء فهو ذلك الجدول الهادئ المنساب بين الضفاف الخضراء الذي يمر بالمنزل الذي كان مهد طفولتي،واراني مضطجعا على حافة الجدول،طفلا في التاسعة من عمري أمضغ الحشائش،وأمعن النظر في البقرات البيض التي ترعى قربي بعيون حالمة،فيها براءة الدعة والسكينة،وعلى البعد تعمل الفلاحات في الحقل،أرى إحداهن ترتدي قميصا أزرق{هكذا} مخططا بخطوط عريضة حمراء،وعلى رأسها منديل أحمر.(..) وفتحت عيني.وسمعت زنخرة الهجين،وشعرت بقوائمه تتحرك إلى جانبي.لقد نهض على قائمتيه الخلفيتين بعض الشيء،ورفع عنقه ورأسه ووسع منخريه كأنما حمل إليهما هواء الظهيرة رائحة سارة مقبلة (..) فرفعت رأسي وأدرت بصري نحو الجهة التي كان رأس الهجين متجها إليها،فوقع على أقرب تلة رملية إلينا،وكانت منخفضة خالية من كل حس أو حركة. ولكني قد سمعت في الحق حسا،حسا كذلك الذي ينبعث من قيثارة قديمة،صوت بدوي يرتفع بالغناء على إيقاع خفوف {هكذا} الجمل – تماما وراء قمة التلة الرملية،تلك التلة التي كانت قريبة مني من حيث المسافة،وبعيدة جدا من حيث قدرتي على الوصول إلهيا أو،على الأقل،إيصال صوتي.(..) وتحركت يدي،لاشعوريا،واصطدمت بالبندقية المعلقة على غزالة الشداد .. ورأيت بعيني عقلي الرصاصات الخمس الطيبة في مستودعها .. وبذلت جهدا جبارا لفك البندقية عن الغزالة. وعندما تم لي ذلك أخذت في سحب المزلاج وكأنني أسحب جبلا من الجبال. بيد أنني نجحت أخيرا،وركزت البندقية على قاعدتها،وضغطت على الزناد،فانطلقت إحدى الرصاصات عموديا في الهواء،واخترقت الفضاء معوية بصوت رقيق خافت.وسحبت المزلاج وضغطت الزناد كرة أخرى وأصخت السمع.لقد انقطع الغناء وساد الصمت من جديد،لحظات معدودة. وفجأة أطل رأس رجل من وراء التلة ..){ ص 44 - 50}.
إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.
س / محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب.

سمو الرووح
23-06-2013, 10:39 AM
لي عودة ان شاء الله لقرائتها

كل الشكر والتقدير والاحترام استاذنا الفاضل / محمود المختاار الشنقيطي.

محمود المختار الشنقيطي
23-06-2013, 01:15 PM
السلام عليكم .. شكرا أختي الكريمة (سمو الروح) .. إن شاء الله ستجدين ما يسرك .. شخضيا تمتعني كتابة أسد.
دمت بخير.