المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثق بالذي سواك من عدم


فزاع
24-10-2005, 11:49 AM
قال محدث: قصدت منزل ابن بكار المرواني في أشبونة ونقرت الباب، فنادى: من هذا؟ فقلت: رجل ممن يتوسل لرؤياك بقرابة، فقال: لا قرابة إلا بالتقى، فإن كنت من أهله فادخل، وإلا فتنح عني.
فقلت: أرجو في الاجتماع بك والاقتباس منك أن أكون من أهل التقى، فقال: ادخل، فدخلت عليه، فإذا به في مصلاه، وسبحه أمامه، وهو يعد حبوبها ويسبح، فقال لي:أمهلني حتى اتمم وظيفتي من هذا التسبيح، ثم أقضي حقك، فقعدت إلى أن فرغ. فلما قضى شغله عطف علي، وقال: ما القرابة التي بيني وبينك؟ فانتسبت له، فعرف أبي، وترحم عليه، وقال لي: لقد كان نعم الرجل، وكان لديه أدب ومعرفة، فهل لديك أنت مما كان لديه شيء؟ فقلت له؟ إنه كان يأخذني بالقراءة، وتعلم الأدب، وقد تعلقت من ذلك بما أتميز به؟ فقال لي: هل تنظم شيئاً؟ قلت: نعم وقد ألجأني الدهر إلى ان أرتزق به فقال: ياولدي، إنه بئسما يرتزق به، ونعم ما يتحلى به إذا كان على غير هذا الوجه، ولكن تحل الميتة عند الضرورة! فأنشدني- أصلحك الله- مما على ذكرك من شعرك.
فطلبت بخاطري شيئاً أقابله به مما يوافق حاله، فما وقع لي إلا فيما لا يوافقه من مجون ووصف خمر وما أشبه ذلك. فأطرقت قليلاً، فقال: لعلك تنظم، فقلت: لا، ولكني أفكر فيما أقابلك به، فقولي أكثره فيما حملني عليه الصبا والسخف، وهو غير لائق بمجلسك.
فقال: أنشدني ما وقع لك غير متكلف، فلم يمدني خاطري إلا بشعر أمجن فيه فقال: أما كان في نظمك أطهر من هذا؟ فقلت له: ما وقفت لغيره فقال: لا بأس عليك، فأنشدني غيره، ففكرت الى ان انشدته قولي:


ولما وقفت على ربعهم=
تجرعت وجدى بالأجرع
وأرسل دمعي شرار الدموع=
لنار تأجج في الأضلع
فقام عدولي لما رأى=
بكائي وقفاً على الأدمع
فقلت له:هذه سنة=
لمن حفظ العهد في الأربع

فرأيت الشيخ قد اختلط، وجعل يجيء ويذهب، ثم أفاق، وقال: أعد بحق آبائك الكرام فأعدت فأعاد ماكان فيه، وجعل يردد فقلت له لو علمت ان هذا يحركك ما أنشدتك إياه فقال: وهل حرك مني إلا خيراً وعظة يا بني:
إن هذه القلوب المخلاة لله كالأوراق التي جفت، وهي مستعدة لهبوب الرياح، فإن هب عليها أقل ريح لعب بها كيف يشاء، وصادف منها طوعه.
فأعجبني منزعه، وتأنست به؟ ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء من الانكماش، بل مازال يحدثني بأخبار فيها هزل، ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له، ولا أعلم أكثره.
فلما كثر تأنسى به، أهوت إلى يده كي اقبلها فضمها بسرعة، وقال:
ما شأنك؟ فقلت: أرغب في أن تنشدني شيئاً من نطمك، فقال: أما نظمي في زمان الصبا فكان له وقت ذهب، ويجب للنظم أن يذهب معه، وأما نظمي في هذا الوقت فهو فيما أنا بسبيله، وهو يثقل عليك، فقلت له: إن انصف سيدي انشدني من نظم صباه، ومن نظم شيخوخته، فيأخذ كلانا بحظة فضحك، وقال:
ما أعصيك وأنت ضيف، ولك حرمة أدب، ووسيلة قصد، ثم أنشدني وقد بدا عليه الخشوع وخنقته العبرة:


ثق بالذي سواك من=
عدم فإنك من عدم
وانظر لنفسك قبل قرع=
السن من فرط الندم
واحذر- وقيت- من الورى=
واصحهم أعمى أصم
قد كنت في تيه إلى=
ان لاح لي أهدى علم
فاقتدت نحو ضيائه =
حتى خرجت من الظلم
لكن قناديل الهوى=
في نور رشدى كالحمم

فو الله لقد أدركني فوق ما أدركه، وغلب على خاطري بما سمعت من هذه الأبيات، وفعلت بي من الموعظة غاية لم أجد منها التخلص إلا بعد حين، فقال لي الشيخ: إن هذه يقظة يرجى معها خيرك والله مرشدك ومنقذك، ثم قال لي:
يابني، هذا ما نحن بسبيله الآن، فاسمع ماقلته فيما مضى، والله ولي المغفرة، وانشد:


أطل عذار على خده=
فظنوا سلوى عن مذهبي
وقالوا: غراب لوشك النوى=
فقلت: اكتسى الدر بالغيهب
وناديت قلبي أين المسير=
وبدر الدجى حل بالعقرب
فقال: ولو رمت عن حبه=
رحيلاً عصيت ولم أذهب

فسمعت منه ما يقصر عنه صدور الشعراء، وشهدت له بالتقدم، وقلت له:
لم أر أحسن من نظمك في جد ولا هزل. ثم قلت له: أأرويه عنك؟ فقال: نعم ما أرى فيه بأساً بعد اطلاع من يعلم السرائر على مافي الضمائر، فقلت له: فإن اسبغت على النعمة بزيادة شيء من هذا الفن فعلت ما تملك به قلبي اخر الدهر.
فقال يابني، لا ملك قلبك غير حب الله تعالى، ثم قال: ولا أجمع عليك رد قول ومنعاً، ثم أنشد:


أيها الشادن الذي=
حسنه في الورى غريب
لحظ ذاك الجمال يط=
في مابي من اللهيب
وعليه احوم دهري=
ولكنني اخيب
كلما رمت زورة=
قيض الله لي رقيب

فمازج قلبي من الرقة والطاقة لهذا الشعر ما أعجز من التعبير عنه، فقلت له:
زدني زادك الله خيراً، فأنشدني:


ما كان قلبي يدري قدر حبكم=
حتى بعدتم فلم يقدر علي الجلد
وكنت أحسب أني لا أضيق به=
ذرعاً فما حان حتى فت في عضدي
ثم استمرت على كره مريرته=
فكاد يفرق بين الروح والجسد
عساكم أن تلافوا باللقاء رمقي=
فليس لي مهجة تقوى على الكمد

ثم قال:حسبك، وإن كلفتني زيادة، فالله حسبك، فقلت له: قد وكلتني إلى كريم غفور، فبالله إلا مازدتني، وأكببت لاقبل رجليه، فضمها وانشدني شعراً رقيقاً، ملأ سمعي عجائب، وبسط أنسي، وكتبت كل ما أنشدني، ثم قلت له: لولا خوفي من التثقيل عليك لم أزل استدعى منك الإنشاد حتى لا تجد ما تنشده. فقال: إن عدت إلى هنا تذكرت وأنشدتك، فما عندي مما أضيفك به غير ما سمعته وما تراه. ثم قام وجاء من بيت اخر في داره بصحفة فيها حساً من دقيق وكسور باردة، فجعل يفت فيها، ثم أشار إلى أن أشرب، فشربت، ثم شرب إلى أن اتينا على اخرها، ثم قال: هذا غداء عمك نهاره، وإنه لنعمة من الله تعالى، استديم بشكرها انصالها. فقلت له: ياعم، ومن أين عيشك؟ فقال، عيشتي بتلك الشبكة أصطاد بها في سواحل البحر ما أقتاب به، ولي زوجة وبنت يعود من غزلها مع ذلك ما نجد به معونة، وهذا مع العافية والاستغناء عن الناس خير كثير. فتركته، وفي نيتي أن أعود إلى زيارته بعد أيام خوف التثقيل، فعدت إليه بعد ثلاثة أيام، فنقرت الباب، فكلمتني المرأة بلسان عليه أثر الحزن، وقالت:
إن الشيخ قد خرج إلى الغزو، وذلك بعد انفصالك عنه بيوم، ناله كالجنون، فقلت له: ما شأنك؟ فقال: إني اريد ان اموت شهيداً وهؤلاء جيران لي قد عزموا على الغزو، وأنا ماض معهم! ثم احتال في سيف ورمح، وتوجه معهم، وقال: نفسي هي التي قتلتني بهواها، أفلا أقتص منها فأقتلها! فقلت لها: من خلف للنظر في شأنكم؟ فقالت: ليس ذلك لك، فالذي خلفنا له لانحتاج معه إلى غيره، فأدركني من جوابها روعة، وعلمت أنها مثله زهداً وصلاحاً. فقلت: إني قريبه، ويجب على أن أنظر في حالكم بعده، فقالت: ياهذا، إنك لست بذي محرم، ولنا من العجائز من ينظر لنا، ويبيع غزلنا، ويتفقد احوالنا، فجزاك الله عنا خيراً. انصرف عنا مشكوراً! فقلت لها: هذه دراهم خذوها لتستعينوا بها، فقالت: ما اعتدنا أن نأخذ من غير الله، وما كان لنا أن نخل بالعادة. فانصرفت نادماً على ما فاتني من الاستكثار من شعر الشيخ. ثم عدت بعد ذلك لداره سائلاً عنه، فقالت لي المرأة: انه قد قبله الله تعالى، فعلمت أنه قتل فقلت لها: أقتل؟ فقرأت: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل احياء عند ربهم يرزقون}.
فانصرفت معتبراً من حاله.

منصور الصالحي
26-10-2005, 04:01 AM
تسلم يا اخوي فزاع على الموضوع الاكثر من رائع

فزاع
26-10-2005, 07:28 PM
ومن قال سالم أخوي منصور
لا هنت على المرور والتعليق الطيب يالسنافي.

ابو منيف
29-10-2005, 04:31 AM
موضوع قيم تسلم يا القرم

فزاع
29-10-2005, 12:26 PM
ومن قال يسلم أخي أبو منيف
لا هنت على المرور الكريم والرد الطيب.

سهيل الجنوب
31-10-2005, 01:05 AM
موضوع رائع اخي الفاضل فزاع جزيت خيرا على ما قدمت

فزاع
09-11-2005, 09:27 PM
وجزاك الله بالمثل أخي العزيز
سهيل لا هنت على المرور والرد الطيب.

فهد بن محسن
11-11-2005, 03:40 AM
لاهنت يافزاع وبيض الله وجهك

على الاختيار الجميل والرائع

تحياتي لك

فزاع
11-11-2005, 11:30 PM
الله لا هان طاريك يا ابو محسن
لا هنت على المرور والرد الطيب.

المرزوقي
11-11-2005, 11:50 PM
الله يعطييك العافيه يابو ساري على هذا الموضووع الجميييل

الله يوفقك لما فيه الخيير




تحيياتي لك يالسنافي

فزاع
13-11-2005, 09:08 PM
يعافيك ويوفقك للخير والبر
يا ابو صالح ولا هنت على الدعاء
والرد الطيب.

جابر البطان
21-11-2005, 11:34 AM
لاهنت يافزاع وبيض الله وجهك

على الاختيار الجميل والرائع


يعطيك العافية

.

فزاع
23-11-2005, 11:40 PM
الله لا هان غاليك يا ابو عمير
وتسلم طال عمرك على المرور
الكريم والرد الطيب.