المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإبدَاع والاتبَاع في أَشعَار فُتّاكِ العَصرِ الأُموي ( دراسة )


ابومحمد الشامري
12-07-2005, 06:37 AM
الإبدَاع والاتبَاع في أَشعَار فُتّاكِ العَصرِ الأُموي ـــ د.عبد المطلب محمود

دراسة ـ من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2003

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم‏

يشكّل الشعراء الفتّاك وأشباههم، من الفرسان والصعاليك المعروفة: الخُلعاء والشّذاذ والمتمردين والأغربة والفقراء واللصوص، أو من نعت بهذه النعوت أو ببعضها. طائفة مهمة من طوائف الشعراء التي ظهرت في العصر الأموي، ومثّلت امتداداً طبيعياً لمن سبقها من طوائف الشعراء الفرسان والصعاليك وشعراء المعلقات وشعراء العقيدة الإسلامية، التي برزت وانتشرت في العصر السابق للإسلام وعصر صدر الإسلام من عصور الأدب العربي، مثلما تشكل هذه الطائفة جزءاً من مسيرة الشعر العربي وازدهارها وتطورها، انطلاقاً من العصر الأموي نفسه وحتى وقتنا الحاضر.‏

وقد كان للشعراء الفتّاك وعدد من الخلعاء واللصوص حضورهم ودورهم في عصر صدر الإسلام، لا بل كان لعدد منهم - وقد تاب واهتدى - مواقف مشهودة وموثقة تاريخياً، في الفتوحات الإسلامية التي انطلقت من أرض الجزيرة العربية، مهبط الوحي ومركز الإشعاع الإسلامي، في عهد الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نحو مناطق مختلفة من الأرض العربية، ومنها: العراق وبلاد الشام، على ما هو ثابت ومعروف.‏

بَيد أن هذه الطائفة من الشعراء، لم تنل النصيب الكافي من الدراسة الفنية المتخصصة التي تُبّين ملامحها الإبداعية، ضمن حركة تجديد الشعر وتطويره، تلك الحركة التي رافقت ازدهار الحياة الأدبية في العصر الأموي، بل كانت معظم الدراسات السابقة التي تناولتها قد انصبّت على الجانب التاريخي، لاعتماد الدارسين على المنهج التاريخي أصلاً، فضلاً عن اختلافهم في زوايا النظر إلى العدد المحدود من هؤلاء الشعراء، الذي جُمع شعرهم في الربع الأخير من القرن العشرين وحُقِّق تحقيقاً علمّياً، إذ اكتفت بعض الدراسات بعرض وجهات نظر تاريخية وأخلاقية أو اجتماعية بشأن الشعراء المذكورين، أو قدمت إشارات مبتسرة عن بعض الجوانب الفنية، مع تأكيد الدعوة إلى ضرورة دراسة هؤلاء الشعراء فنياً، وإبراز سمات التجديد ومظاهرها في أشعارهم التي تقدم معالم إبداعية في مسيرة الشعر العربي، في ذلك الوقت المبكر من تاريخ نضوج هذه المسيرة وتناميها وازدهارها.‏

من هنا كان على هذه الدراسة أن تلبي تلك الدعوات النبيلة، التي جد في إطلاقها الاستاذ الدكتور نوري حمودي القيسي، لا سيما خلال الجزءين الأول والثاني من كتابه (شعراء أمويون) الذي ضم عدداً كبيراً من شعراء العصر الأموي والذي اجتمع في جزئه الأول وحده سبعة من هؤلاء الشعراء الفتاك وأشباههم، بينما ضم الجزء الثاني شاعراً واحداً فقط منهم، وكان علينا أن نعتمد في دراسة هذه الطائفة من الشعراء على المنهج التحليلي الفني أولاً، وعلى شيء من المنهجين: النفسي والأسلوبي، لاستكمال دراسة أشعار هذه الطائفة، مع الإفادة من المنهج التاريخي نفسه، وصولاً إلى تبيِّن معالم الإبداع وأسسه الفنية التي تظهرها هذه الأشعار، المجموعة المحققة منها تحقيقاً علمياً - تحديداً - ما دام الهدف الرئيس من هذه الدراسة قد انصب على ملاحقة جذور ما يمكن تسميته بعملية "تحديث" الشعر العربي وأصولها الحقيقية، بعد أن تبين لنا مما درسناه من شعر رواد قصيدة التفعيلة وأثر التراث والحداثة فيه، أن أصول تطوير هذا الشعر وتجديده وبروز السمات التحديثية فيه لم تكن وليدة العصر الحديث من عصور الأدب العربي، ولم تكن نتاج الرياح الخارجية التي هبت على الحياة العربية بعامّة، وعلى الشعر العربي بخاصّة، وإنما كانت تمتد أصلاً إلى العصر الأموي الذي ظهرت فيه وبرزت ملامح التجديد والتطوير بالفعل، لأسباب ودوافع سياسية واجتماعية وثقافية وحتى فكرية، مما تتطلبه أية عملية من هذا النوع في مجال أو ميدان من مجالات الحياة وميادينها كذلك.‏

وانطلاقاً من الرغبة في الوقوف بثبات أكبر على هذه الحقيقة، النبيلة، ومن ضرورة الانطلاق من روح الجهود العلمية التي أظهرتها الدراسات المهمة السابقة، ومن أهمية المنهج التحليلي الفني كذلك في الوصول إلى نتائج أكثر وضوحاً تصُب في خدمة هذه الدراسة وأهدافها، رأيت تقسيمها إلى أربعة فصول، خصَّصت الأول منها لدراسة مفهوم الفتك والصعلكة، من خلال عرض أهم المعاني المعجمية والمفهومات الاصطلاحية لهذَين النَعتين تحديداً، لترادفهما في عدد من الملامح والسمات، ثم من خلال عرض السمات المتباينة بينها - بعد الوقوف على المعنى والمفهوم الأكثر دقّة لكل منهما - وانطلاقاً بعد ذلك لتحديد العوامل والدوافع التي أدت إلى ظهور هذه الطائفة، والآراء ووجهات النظر المتباينة التي عكستها دراسات الباحثين السابقين بشأنها، فضلاً عن تحديد أبرز الشعراء الذين عنيت بدراستهم من بين عشرات آخرين من شعراء هذا العصر، مع الحرص على مناقشة تلك الآراء ووجهات النظر، وملاحظة ما أمكن ملاحظته من كل إيجابي او سلبي منها، ومحاولة تقريب أبرز ما يمكن من تلك الإيجابيات إلى بعضها، واستبعاد كل ما هو سلبي لا يخدم هدف هذه الدراسة.‏

في حين تناول الفصل الثاني بالدراسة المضامين الفكرية والموضوعية في شعر طائفة الشعراء الفتاك وأشباههم المختارة، لأن هذه المضامين تشكل الأرضية الحقيقية لأي عمل إبداعي من جهة، وأن من شأنه الكشف عن الأبرز مما يدخل ضمن معالم الإبداع وأسسه المنشودة في أشعارها، وفي الشعر بعامة من جهة أخرى.‏

لذلك انطلق البحث في هذا الفصل من تحديد المعنى الدقيق - معجمياً واصطلاحياً - للإبداع والمفهومات التي إنتهى اليها الباحثون والنقاد العرب والغربيون القدامى منهم والمحدثون على السواء بشأن الإبداع نفسه تمهيداً للدخول في مجال معاينة هذه المضامين، وتلمُس الأكثر أو الأبرز أو الأكثر تعبيراً عن الجدّة والابتكار، فكانت الموضوعات المستهدفة تتوزَع على: التشرّد والخوف، والحنين إلى الأهل والأحباب، وعذاب السجن، والايمان والحكمة، وأخيراً الاعتداد بالنفس. وقد حاولت من خلالها تأكيد أهمية مستجدات الحياة في العصر الأموي، وما شهده من متغيرات فكرية (سياسية ودينية) ومتغيرات اقتصادية واجتماعية، وما شكلته من أبعاد ثقافية، في بروز هذه المضامين والموضوعات أكثر من سواها مع تسجيل ملاحظة مهمة في هذا الشأن تتعلق بتماثل بعض هذه الموضوعات التي سبق أن طرقها الشعراء السابقون، في عصرَيْ: ما قبل الإسلام وصدر الإسلام.‏

ولقد توخى البحث في الفصل الثالث السعي للوصول إلى الهدف نفسه، ولكن من زاوية أخرى هي الزاوية الخاصة ببنية أشعار طائفة الشعراء هذه فنيّاً، والتي وصفها البحث بـ "البنية الشكلية" من أجل الوقوف على شكل البناء الشعري ومدى إيغاله في التقليدية المعروفة للقصيدة العربية، أو تباينه مع ذلك الشكل، من خلال ثلاث خصائص تتمثل أولاها، بالبنية الشكلية (أبيات مفردة ومقطعات وقصائد ومطولات)، لتحديد البنية الأكثر هيمنة في أشعار هذه الطائفة، وما تعنيه هذه الهيمنة - من حيث الدوافع والأسباب - من جهة، ثم ما تشكله من معالم إبداع أو عدمها في هذه الأشعار قياساً بمن سبق من شعراء العصرَين اللذَّين تقدّما على العصر الأموي من جهة ثانية، ثم دراسة الخصيصة الثانية المتمثلة بالبنية الموسيقية (الأوزان أو البحور والقوافي الشعرية)، لتحديد الأكثر هيمنة من بينها في هذه الأشعار، والوقوف - من ثَمَّ - على غاية هذه الدراسة وهدفها منها، بينما تناول البحث الخصيصة الثالثة المتمثلة بالبنية الموضوعية، أو حضور الوحدتين: العضوية والموضوعية في البناء الهيكلي الخارجي لهذه الأشعار، من خلال دراسة عدد من الأمثلة المختارة من المقطعات والقصائد والمطولات الشعرية، من بين مجموع اشعار هذه الطائفة من الشعراء، وما يمكن أن يظهره هذا الجانب من جوانب - أو خصائص - البناء الشكلي للأشعار من ملامح إبداع أو عدمها، لما لهذه الخصائص - مجتمعة - من أهمية مرتبطة بالمضامين الفكرية والموضوعية، التي تم تناولها في الفصل السابق (الفصل الثاني) من جانب، وكذلك بالخصائص الأسلوبية التي تمثل البنية الداخلية لهذه الأشعار، والتي تناولها الفصل الرابع من هذه الدراسة، من جانب آخر إذ تناول البحث أبرزها وحاول أن يوزعها على ستة محاور، هي: الخصائص اللغوية، من حيث استخدام شعراء هذه الطائفة لمفردات اللغة وألفاظها وتراكيبها، وبأساليب مبتكرة ومتفردة، ثم: الخصائص المعنوية، من حيث تكثيف المعاني وإيجازها أو سعتها في الأشعار، ثم: الصور الفنية، من حيث استخدام الشعراء المختارين لحواسهم في تشكيلها، وفي مقدمتها حاسة البصر ثم السمع فالشم فاللمس وحاسة الذوق وتناول المحور الخاص بدراسة الانفعال الواقعي والخيال هذين الاتجاهين الأسلوبيين للوقوف على الأكثر هيمنة من بينهما على الأشعار وما عكساه فيها من صور ومعان شعرية تدل على التفرد والابتكار، وتناول المحور الخامس أساليب التكرار في الحروف والألفاظ والمقاطع الصوتية، التي أبرزتها أشعار هذه الطائفة من شعراء العصر الأموي، وما بينته من جدة وابتكار من جهة ثم ما عكسته من أحوالهم النفسية والروحية من جهة ثانية، بينما تناول المحور السادس (الأخير) خصيصة الاتجاه القصصي في معظم أشعارها، وما شكلته من امتداد أسلوبي لأشعار سابقيها ومعاصريها من الشعراء على السواء.‏

وأخيراً، جعلت من خاتمة هذه الدراسة عرضاً لأبرز النتائج التي أمكن التوصل إليها، بما أكد الأسس والملامح الإبداعية في أشعار هذه الطائفة من الشعراء، أو نفاها عنها في بعض جوانبها الفنية الأخرى، ومن ثم فهي نتائج تعكس وجهة نظرنا أولاً وأخيراً، ويمكن لها أن تكون على درجة من الصواب مناسبة أو على العكس من ذلك، وهذا شأن الدراسات الأدبية التي عادة ما تختلف الأحكام بشأن زوايا الرؤية ونتائجها منها، آملاً أن يكون التوفيق من نصيبها، ومن الله تعالى العون والتوفيق‏

ابومحمد الشامري
12-07-2005, 06:38 AM
الفصَل الأوَل: مَفهومُ الفَتك ومُرادِفاته العوامل والأسباب

برزت طائفة الشعراء الفتَاك في العصر الأموي، بين طوائف مختلفة من الشعراء اتَضح ظهورها في هذا العصر الأدبي المهم في تاريخ الأدب العربي، وحققت حضوراً ملموساً في الحياة العامة، مثلما أسهمت في تسجيل جانب من معالم هذا العصر، وما شهده من ازدهار في مجالات الأدب وفنونه الشعرية والنثرية، لا سيما من حيث ظهور أُولى ملامح التجديد في موضوعات الشعر وأغراضه وأساليبه على السواء، مثلما أكد الكثير من الباحثين(1). وقد اختلف مؤرخو الأدب العربي، ودارسوه ونقاده، قداماهم ومحدثوهم، اختلافاً كبيراً في هذه الطائفة الشعرية، سواء على النعت الأنسب لها، أو على الدوافع والعوامل التي أدت إلى ظهورها، أو حتى على طبيعة حياة شعرائها وانعكاس تلك الحياة في شعرهم، ومدى الإضافة التي حققتها أشعارهم إلى تاريخ الشعر العربي في عصرهم.‏

من هنا رأيت أن ضرورات الدراسة تستدعي الوقوف - ابتداءً - على النعت الأكثر ملاءمة لطائفة الشعراء هذه من خلال تحديد معنى (الفتك) في اللغة والاصطلاح، إذ وقفت الدراسة في (تهذيب اللغة) على تعريف (أبي عبيد) الذي يقول فيه " الفتك: أن يأتي الرجلُ صاحبَه وهو غارّ حتى يشدً عليه فيقتله، وإن لم يكن أعطاهُ أماناً قبل ذلك، ولكنْ ينبغي لـه أن يُعلمَه ذلك "، وكذلك ما نقله عن أبي عبيد من تعريف الفرَاء للفتك إذ ذكر الفِتْكُ والفِتْك للرجل يفتك بالرجل: يقتله مجاهرةً، ثم عن ابن شُميل الذي ذكر :" تفتَّك فلانٌ بأمره أي مضى عليه لا يؤامر (لا يشاور) أحداً ثم عن الأصمعي الذي عرَّف الفاتك بأنه " الجريء الصدر "، وعن أبي منصور قوله: " أصل الفتك في اللغة ما ذكره أبو عبيد، ثم جعلوا كلَّ مَنْ هجم على الأُمور العظام فاتكاً "(2).‏

وفي (المحيط في اللغة) تبين أن الفتك يعني: " أن تهُمَّ بأمر فتُمضيَه " (…) وفتك فلان في أمره وأفتك: لجَّ فيه وغلا. وفتك في الخبث فتوكاً "(3)، بينما عرَّفه صاحب (مجمل اللغة) بأنه الغدر، والاغتيال(4). وفي (أساس البلاغة): " القاتل على غِرَّة " وأجاز القول: " حيَة فاتكة اللسع (…) وهذه إنسانة فاتكة: ماجنة وقد فتكت "(5)، وعرَّفه صاحب (لسان العرب) بقوله: " الفتك: ركوب ما همَّ من الأمور ودَعَت إليه النفس (…) والفاتك: الجريء الصدر، والجمْع: الفُتَّاك (…) وفَتَك بالرجل فَتْكاً وفُتْكاً فِتكاً: انتهز منه غِرَّةً فقتله أو جرحه "(6)، وهذا المعنى نفسه أخذ به صاحب (القاموس المحيط) ثم صاحب (تاج العروس) الذي أورد حديثاً شريفاً للرسول محمد، صلَى الله عليه وسلَم، جاء فيه: " قيّدَ الإيمانُ الفتكَ، لا يفتك مؤمن "(7) وقد أورد عدد من هذه المصادر اللغوية قولَ المخبَّل السعدي:‏

" وإذ فتك النعمانُ بالناسِ مُحرِماً * * * فمُلِّئَ من عوفِ بن كعبِ سلاسِلُهْ "(8)‏

وروى (الزَبيدي) بشأن هذا البيت، ملخَّصاً لحادثة تاريخية تشير إلى قيام الملك النعمان بن المنذر بإرسال جيشه إلى بني عوف بن كعب في الشهر الحرام، وهم آمنون (غارَون) غافلون، فقتل فيهم وسبى منهم معشراً، تأكيداً لعلاقة الفتك الذي يقع في حالة الغفلة واقترانه بها(9) .‏

في حين حدَّد الدكتور عادل البياتي، في بحثه وتحقيقه ودراسته لشعر (الحارث بن ظالم المرّي) الذي عدَّه من مشهوري الفتّاك في العصر السابق للإسلام، عدداً من المفهومات المتعلقة بعملية الفتك، وروى حكاية فتك الحارث بخالد بن جعفر العامري وبأخٍ للملك النعمان أو ابن يدعى (الأسوَد) وبابن الشاعر السموأل، في الحادثة الشهيرة التي تروى عن طلب الحارث من السموأل أدراع الشاعر امرئ القيس، التي كان قد أمنَّها لدى السموأل، ثم نقل الدكتور البياتي عن الحارث قوله:‏

" ألا سائل النعمانَ إن كنتَ سائلاً وحيَّ كلابٍ هل فتكتُ بخالدِ " (10) .‏

وكذلك قوله عن فتكه بخالدٍ العامري، عند إقدامه على الفتك بابن النعمان أو أخيه:‏

" فتكتُ به كما فتكتُ بخالدٍ * * * وكان سلاحي تجتويه الجماجمُ "(11)‏

وإذا كان الدكتور البياتي قد أشار إلى حقيقة وقوع خلاف بين علماء اللغة، بشأن تحديد المعنى الاصطلاحي لكلمة (الفتك) حتى في العصر السابق للإسلام، فقد انتهى بعد جولته في المعجمات العربية إلى أن الفتك كان أشرف أنواع القتل لدى العرب " لأن صاحَبه لم يغدر بالضحيَة ولم يأخذْها غيلةً "(12)، استناداً إلى رأي أبي عُبيد الذي يؤكد هذا المعنى في عبارته القائلة: " ولكن ينبغي لـه - للفاتك - أن يُعلمَه - أي صاحبَه - ذلك " مثلما مرَّ من تعريفه، وهو ما فعله الحارث بن ظالم - مثلاً - عندما قال وقد انتوى الفتك بخالد بن جعفر، وكانا معاً في حضرة الملك النعمان:‏

" تعلَّم أبيتَ اللعنَ إنّي فاتكُ * * * من اليومِ أو من بعدهِ بابنِ جعفر "(13)‏

مما ينفي عن الفاتك إتيانه صاحبَه " وهو غارّ غافل حتى يشدَّ عليه فيقتله " مثلما ذكر أبو عبيد في تعريفه، وهذا ما جعل الدكتور البياتي يشير صراحةً إلى أن هذا النوع من القتل لا يشبه ذاك، ويختلف الفتك عن الصعلكة اختلافاً كبيراً، إذ نجد أن صاحب (لسان العرب) قرَر أن كلمة (صعلوك) تعني: " الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري: ولا اعتماد. وقد تصعلك الرجلُ إذا كان كذلك "(14)، وقرر كذلك أن الصعاليك هم " ذؤبان العرب "، بينما رأى الفيروزآبادي والجوهري أن اللصوص من بينهم، وحدَّدا (اللص) بمن تكرّرت سرقته أو اتّخذها مهنةً يعيش منها(15)، وهذا ما درسه الدكتور يوسف خليف وفصَّل فيه تفصيلاً دقيقاً وإن كانت محاولته لتحديد مفهوم الصعلوك من الجانب الاصطلاحي، شابَها غير قليل من التداخُل الذي أدى إلى الاضطراب، فهو تارة يحَدد الصعلوك بـ " الفقير الذي لا مال لـه يستعين به على أعباء الحياة، ولا اعتماد لـه على شيء أو أحد يتكىء عليه أو يتكلّ عليه ليشقَّ طريقه فيها ويعينه عليها "، ذكره من هؤلاء الصعاليك في العصر السابق للإسلام، ليُقرر أنّهم ليسوا أولئك الفقراء المُعدَمين الذين يقنعون بفقرهم، أو الذين يستَجْدون الناسَ ما يسدّون به رمقهم "، بل هم أولئك المشاغبون أبناء الليل، الذين كانوا يسهرون لياليهم في الإغارة والغزو من أجل سلب الأموال ونهبها، والذين اتخذوا من هذه الأساليب الحرفة التي قامت عليها حياتهم، و" الأُسلوب الذي انتهجوه فيها لتحقيق غاياتهم "(16).‏

ويبدو واضحاً أن هذا الاضطراب في تحديد الاصطلاح الأدق للصعلوك، مردُّه علماء اللغة الأقدمون أنفسهم، الذين رادَفوا بين الفاتك والصعلوك والفارس واللص، أو بين الراغب في القتل المُقدِم عليه بملء الإرادة والتصميم، ولأسباب ودوافع تختلف اختلافاً كُلياً عن المُقدِم على القتل وسلوك سبيله من أجل الحصول على لقمة العيش، عَبر الإغارة والغزو ووسائلهما وأساليبهما، وهذا ما كان أيضا وراء اختلاف وجهات النظر إلى فتاك العصر الأُموي، من الشعراء تحديداً .‏

فهل كان الشعراء الأُمويون الذين نعتوا بـ( الصعاليك) أو (اللصوص) فتّاكا بالمعنى الذي ذكرنا ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟ أم كان هذان النعتان أدق وأكثر صواباً مما أردنا لهم وتلمسناه فيهم ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟ ثم: هل إن لظروف حياتهم في العصر الأُموي ومتغيّراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، لا بل حتى الفكريّة (العقيدية)، علاقة مباشرة بأيٍ من النعوت الأنسب للكثيرين منهم ؟‏

من الواضح أن الإجابة الدقيقة يمكن أن تتحقق بشيء من الجلاء، إذا ما حاولنا استجلاء الآراء التي قال بها الدارسون السابقون، بشأن هذه الطائفة من الشعراء، ومن ثم مناقشتها من أجل الوقوف على حقيقة هؤلاء الشعراء، قبل الدخول في الفصول الإجرائية الساعية إلى التعرّف على مدى جدّة ما قدَّموه في أشعارهم وما أضافوه من إبداع إلى الشعر العربي .‏

لقد اعتمد الدكتور حسين عطوان - مثلاً - في نعته هذه الطائفة من الشعراء بـ" الصعاليك "، على عدد من الدراسات التي استعان بها وأفاد منها، والتي جعلته يقرر " أن الصعلكة قد ضعفت في صدر الإسلام ضعفاً شديداً "، إذ أزال الإسلام أسباب وجودها، حين ساوى بين الناس وأعطى لكلًّ حقَّه ووفّر عليه حظّه من الحياة الكريمة، ووضع القواعد والقوانين الشرعية (الحدود) لمعاقبة السارق وقاطع الطريق والخارج على الجماعة، ولمحاسبة المُفسد في الأرض وغير أولئك من المخالفين لشريعة الإسلام(17).‏

لكنه لم يبتَّ بأمر توقُّفِها - أي الصعلكة - توقُّفاً تامَاً في عصر صدر الإسلام الذي جعل من استعراضه لحركة الصعلكة فيه مدخلاً لدراسة صعاليك العصر الأموي من الشعراء، إذ توقف عند أسماء عدد من الشعراء الذين ظلَّت رواسب الصعلكة تتبدَى بوضوح عندهم، لعدم تعمُّق الإسلام في نفوسهم وعدم استقامة سلوكهم معه، ومثَّل لهم بـ" أبي الطمحان القيني وفضالة بن شريك وشبيب بن كريب الطائي وحسَكة بن عَتاب الحبَطي التميمي وعمران بن الفصيل البرجمي، الذين " أقصر بعضهم عن التصعلك القائم على الإغارة والغصب " وبقي في أنفسهم شرٌّ كثير عَّبروا عنه بمواصلة هجاء الآخرين، وهو - عند الدكتور عطوان - أهم مظهر " من رواسب الصعلكة "(18)، بينما استمر بعضهم الآخر في التصعلك القائم على سلب الناس أموالهم وقطع الطريق وشن الغارات على سكان بعض المناطق.‏

بينما رأى إحسان سركيس، أن الصعلكة اختفت في عصر صدر الإسلام، لانتفاء ما أسماه بـ" الدواعي الحادية عليها " ولاستقرار سلطة الخلافة الراشدَية، بحيث لم تعد أية قبيلة تجرؤ على حماية أيِّ خارج على ما أسماه بـ" النظام والقانون " أو إجارته، فضلاً عن اجتذاب الفتوحات الإسلامية كلَّ نفسِ مستوفزة ثائرةً وتحوي طاقاتها إلى أهداف " يشترك فيها الجميع وينعم بخيرها "(19) .‏

وثمَة رأي ثالث، قال به عبد المعين الملَوحي، مفاده أن اسم (الصعاليك) أُطلق على لصوص العصر السابق للإسلام، وأن أسلوب اللصوص استمر في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي، مشيراً إلى أنّهم " سُمُّوا بهذا الاسم لأسباب دينية " يبدو أنه فاته تحديدها، لكَنه أوضح أنّهم قَّلما سُمّوا باسم (الصعاليك) لأنهم " كانوا يعتمدون على السيف والثورة في تحصيل أقواتهم، لا بل زاد على ذلك بقوله: أو ربما استُحدِثت أنماط من الغارة جديدة، هي الغارة على أموال الخراج أو الأموال المجموعة لتذهب إلى الخلفاء في بيوت المال"(20) .‏

هناك أسماء لعدد من الشعراء المخضرمين، من المحسوبين على هذه الطائفة، أي الصعاليك، أو الفَتاك أو اللصوص، الذين عاش بعضهم في مطلع العصر الأموي، واختلطت على الرواة والمحققين والدارسين لحياتهم وأشعارهم النعوت والتسميات، إذ ظهر هذا الترادف واضحاً في عدد من المصادر القديمة، فقد عدَّ صاحب (المحبَّر) مثلاً كُلاً من: مالك بن الريب والقَتال الكلابي وعبيد الله بن الحر الجعفي وقران بن يسار الفقعسي وعقيبة بن هبيرة وعبد الله بن خازم السلمي وعبد الله بن سبرة الحرشي وعبد الله بن الحجَاج الذبياني، فتّاك الإسلام (21) بينما كان صاحب (الأغاني) مثلاً قد عدَّ عبد الله بن الحجّاج الذبياني بين الشعراء الفتّاك الشجعان، ثم نعته - في الوقت نفسه - بالشجاع الفاتك الصعلوك المتسرَع إلى الفتن، في حين عدَّ صاحب (معجم الشعراء) مالك بن الريب: " ظريفاً أديباً فاتكاً، أصاب الطريق مدّة ثم نسك فأمَّنه بشر بن مروان "(22) ولعله أراد القول إن (مالكاً) تاب عمَا كان عليه، لأن النسك - مثلما هو معروف - يعني الانصراف إلى العبادة وليس التوبة بعد إصابة الطريق، وقد أكدَت حياته حقيقة توبته لا تنسُّكه مثلما عُرف عنه.‏

وعندما درس الدكتور نوري حمودي القيسي حياة (عبيد الله بن الحر الجعفي) بعد أن حقَّق أشعاره،، أبقى على نعوت مترادفة ومتباينة كان الرواة والمؤرخون قد ألحقوها به، فنقل عن (البلاذري) في (أنساب الأشراف) أنه " الشجاع الفاتك " وأنه " كان لا يقاتل لديانةٍ، وإنما همُّه الفتك والتصعلك والغارات " بينما نقل عن (الطبري) أنه عدَّه رجلاً " من خيار قومه صلاحاً وفضلاً وصلاةً وجهاداً، لا بل رأى فيه رأياً واضح التباين مع رأي (البلاذري) حين وصفه بأنه " ما كان في الأرض عربيِّ أغيَرَ عن حُرَّة ولا أكف عن قبيح وعن شراب منه "(23).‏

إن هذه الأمثلة القليلة، تؤكد ولا شك أن الرواة والمؤرخين القدامى كانوا يطلقون النعوت التي تبدو مترادفة ومتباينة في الوقت نفسه، على هؤلاء الشعراء وأمثالهم، استناداً إلى ما سمعوه عنهم مما كان يتناقله الآخرون، على اختلاف وجهات نظرهم فيهم، التي تعدَّدت وتشعبَّت بعد ظهور الإسلام ورسوخ أشكال النظام وتطوُّر أساليب الحكم، في عصرَيْ صدر الإسلام والعصر الأُموي. وإلا فما معنى أن يكون شاعر مثل (عبد الله بن الحجَاج) شجاعاً فتاكاً وصعلوكاً متسرِّعاً إلى الفتن في الوقت نفسه ؟! ثم ماذا يعني هذا التناقض الواضح بين رأيَيْ (البلاذري) و (الطبري) في شاعر واحد مثل (عبيد الله بن الحر) ؟!‏

إن العصر السابق للإسلام كان يقرن الفتك بالصعلكة، الفتك بمعنى الشجاعة والفروسية وجرأة الصدر والإقدام على فعل " ما همَّ من من الأمور ودعَتْ إليه النفس "، مثلما عرَّفه صاحب (لسان العرب) واوردناه، والصعلكة بمعنى الشجاعة والجرأة - لا الفقر وحده - ما دامت العرب وقتها عدَّت الصعاليك ذؤبانها، مثلما ذكر صاحب (اللسان) أيضاً، بينما جُعِل اللصوص من بينهم لأنهم مثلهم يتحصّلون أرزاقهم بسلوك أساليب النهب المعروفة نفسها، وإن اختلفت في جوانب رئيسة منها، إذ قد لا يحتاج عمل اللص إلى شجاعة وفروسية واستخدام سلاح، بل يعتمد المكر والمراوغة والاحتيال على ضحيته، إنساناً كان أم حيواناً جعله هدفاَ لـه، وإذ قد لا يكون الفاتك لصّاً يسرق أموال الناس ويُغير على ممتلكاتهم ليغصبها، بل يسارع إلى إنفاذ ما همَّ من أموره، ودعَتْه إليه نفسه على سبيل الثأر - شأن الحارث بن ظالم- في العصر السابق للإسلام، وشأن عبد الله بن الحجّاج وعبيد الله بن حر، في العصر الأُموي .‏

من هنا، يمكن القول إن التداخل بين النعوت قديماً، كان من الأسباب الرئيسة لوقوع الدارسين المعاصرين في إشكالية تسمية هذه الطائفة من الشعراء، التي دُرست بين ما دُرس من طوائف الشعراء الأُمويين، في ضوء عوامل ودوافع مختلفة، وفي إطار وجهات نظر محدَّدة إلى تلك العوامل والدوافع التي لم يكن الترادف والتباين الذي أحدث التداخل قديماً، إلاّ واحداً من محدّداتها.‏

فلو توقفنا عند دراسة الدكتور عطوان، التي سبقت الإشارة إلى العوامل التي عرضها، والتي رأى من خلالها أن الصعلكة " لم تتوقف ولم تضعف في العصر الأموي، بل استمرّت فيه وقوِيَت(24) "، وهي اختلال الحياة الاقتصادية، واضطراب الحياة السياسية، والتمسّك بالروح الجاهلية(25)، لأمكننا القول إن الفتك - وليس الصعلكة - هو الذي استمر وقويَ في هذا العصر، وأن الصعلكة واللصوصية كانا من بين ظلاله من جهة، وأن هذه العوامل والدوافع تكاد تكون عاملاً واحداً، وإن اختلفت زوايا النظر إليه، من جهة اخرى .‏

ذلك أن الدكتور عطوان نفسه يقرّر عند حديثه عن الناحية الاقتصادية، أن الأموال التي كانت ترِد إلى بيت المال لم تكن قليلة بحيث لا يتمكن الخلفاء الأمويون من الإنفاق منها على المصلحة العامة، ولكنَّ خيانة بعض العمال والسعاة الذين كانوا يجمعون تلك الأموال، واستصفاءَهم لها لأنفسهم، وتأثر بعض الخلفاء بالسياسة في تطبيق النظام المالي وجباية الصدقات وأموال الخراج، أدَّت -بحسب رأيه- إلى إفقار القبائل المناوئة لسلطة الخلافة من جهة بإبهاظها بالصدقات، وإلى إغناء القبائل المناصرة للسلطة، بتخفيف الصدقات عنها، من جهة ثانية، لينتهي إلى القول بأن " الصعاليك الأمويين كانوا متبنين لهذه السياسة، مدركين لمساوئها …"،بحيث ظهر بين هؤلاء الشعراء من ندَّد بسياسة الخلفاء الأمويين، وضرب على ذلك مثلاً بمالك بن الريب وأضرابه من الصعاليك الفقراء(26) .‏

أما عند حديثه عن العامل السياسي، فيقرّر أن تقريب الخلافة الأموية للقبائل اليمانية، وإبعادَها القبائل المضرّية، كانت دوافع وراء اضطراب الأحوال السياسية، أدت إلى نشوء مَنْ أسماهم بـ " الصعاليك السياسيين " الذين أضاف إليهم العامل الأول (الاقتصادي) دوافع أخرى لتوجيه حركتهم لا إلى الإغارة على الناس لتحصيل أقواتهم وحسب، بل أيضاً " إلى توعُّد الأُمويين الحاكمين " والسعي لتقويض دولتهم، وضرب مثلاً على هؤلاء الصعاليك بمالك بين الريب وعبيد الله بن الحر الجعفي، الذي عدَّه "أذكر صعلوك سياسي أنشأته الظروف السياسية المتقلبة المضطربة "، فضلاً عن عبد الله بن الحجّاج الذبياني، الذين هددّوا العمّال والخلفاء وساهموا في الثورة بهم ومصارعة جيوشهم، وسلبوا أموال الدولة" مانعين خراج بعض المناطق التي سيطروا عليها من الوصول إلى بيت المال "(27). وعندما يتحدث عن العامل الاجتماعي، يقرّر أن نفراً من ابناء القبائل الكثيرة التي آمنت بالاسلام وخضعت لـه، وعملت بنُظمه، وتخلت عن تقاليدها الجاهلية، ومنها " العصبية القبلية "، لم يعجبهم إذعان قبائلهم للقانون، وتحلّلها من عاداتها الموروثة، مما دفعهم إلى أن يطلبوا من قبائلهم " رفض الانصياع للقانون والخروج على السلطان "، لكن قبائلهم لم تستجبْ لهم لأنها اعتقدت بأن عهد الفوضى قد ذهب، وأن من الخير لها أن تخضع للقانون، وأنها بلغ من تمسّكِها بالقانون حدَّ أنها لم تكن تنبذهم وتخلعهم إذا تعددت جرائمهم وحسب، بل كانت أيضاً تتعاون مع الدولة وشرطتها، لكي يقبض عليهم وينالوا جزاء عبثهم وعدوانهم، مما زادهم سخطاً عليها "، ومن ثم الخروج منها واللجوء إلى الصحراء والاختفاء عن عيون الجواسيس والولاة، ومن هؤلاء: عبيد بن أيوب العنبري و الأحيمر السعدي والقتال الكلابي(28). ويذهب الدكتور عطوان إلى أكثر من هذا فيقرر أن لكل فئة من فئات الصعاليك هؤلاء مشكلة، فالصعاليك الفقراء كانت مشكلتهم الرئيسة الفقر الذي سعَوا للتغلب عليه بالاغتصاب والانتهاب، وأن الظلم السياسي كان أكبر مشكلة استولت على تفكير الصعاليك السياسيين "، وأن التخلي عن العصبية القبلية كان أخطر مشكلة أرّقت الصعاليك الخُلَعاء المنبوذين المطرودين(29).‏

من هذا كله، يتضح أن العوامل الثلاثة في حقيقتها تعود إلى سبب رئيس واحد، هو وجود سلطة الخلافة الأموية القوية وتحولها إلى نظام (الدولة) بكل ما تعنيه، وأن هذه العوامل ما هي إلا دوافع وأسباب فرعية يتعلق الواحد منها بالآخر في جميع الاحوال.‏

أما الدكتور مصطفى الشكعة، فاختار أن يسمّى شعراء هذه الطائفة لصوصاً، ورأى أنهم أبعد ما يكونون عن مفهوم الصعلكة، الذي ظهر مقترناً ببعض صعاليك العصر السابق للإسلام ولا سيما بـ (عروة بن الورد) الذي عدّه - وحده - من المستحقين لوصف " النبل والشجاعة والفروسية "(30)، وأن من ظهر منهم في العصر الأموي، كان من الأشرار المنحرفين الذين امتهنوا اللصوصية عن رضى واختيار (31)، مشدداً عند دراسته لهم على الخُلَعاء منهم حسب، وعلى بعض مَن عدهم الدكتور عطوان قبله من الفقراء، وأبرز هؤلاء (مالك ابن الريب)، أما أبرز الخُلَعاء، فعبيد بن أيوب العنبري والقّتال الكلابي وجحدر بن معاوية.‏

في حين نظر إحسان سركيس إلى هذه الطائفة من الشعراء، من وجهة اجتماعية سياسية متداخلة بعضها مع بعض لذا اختار أن يسمي فئةَ منها بـ "الصعاليك " وقدّم ذلك بتحليل مفيد، أشار فيه إلى أنه في مواجهة الدولة قامت الأحزاب المناوئة لها، وأنه " بإزاء ما كان يقع من ظُلم وجور على الأفراد والقبائل والجماعات، كانت الشكاوى والالتماسات، وبين هؤلاء وهؤلاء قام أفراد يلتمسون الوصول إلى ما يرومون من خلال حركات تجمع بين التمرد والثورة وقطع الطريق " من بينهم جماعة اصطُلح على تسميتهم باسم " الصعاليك " تمشياً مع الاسم الذي التصق بأمثالهم في العصر السابق للإسلام، ليعود فيقرر أنه " لئن كانت التسمية تحمل قدْراً من التماثل في الدوافع الذاتية، فإنها على صعيد المجتمع والدولة الجديدَين لا تفيد المقارنة او المماثَلة "، لأن الصعلكة اختفت في صدر الإسلام، وأن ظاهرة الصعلكة الجديدة كانت وليدة " مجتمع تسوسه دولة لم تقطع الصلة تماماً مع الحياة القَبَلية " بحسب رأيه، حيث: الامتياز والحرمان، والنصفَة والمحاباة، التي كانت وراء انتشار الفقر والشعور بالحرمان بين بعض القبائل، والتي من خلالها بدأ بعض الأفراد والجماعات يتمردّون على سياسة الأمويين المالية،" والتصميم على انتزاع حقوقهم بأيديهم "، وإن تلك السياسة - في رأيه - ظلّت " أهم باعث من بواعث هذا التمرّد (32).‏

لقد صارت الصعلكة - إذاً - جزءاً لا كُلاً، وصار التمرد هو الحال الأوسع، ومن ثم صارت هذه الطائفة لديه طائفة متمردّين، وفسر سلوكها بأنه نتيجة لظهور ما أسماه بـ " مشكلة السلطة وما تملكه من وسائل ضخمة لمطاردة هؤلاء المتمردين والقضاء عليهم "، ثم ما أسماه أيضاً بـ " مشكلة الخوف من السلطة " اللتين كانتا وراء اكتفاء هؤلاء باستخدام أسلوب الإغارة والاغتصاب، ثم الاختفاء والتواري فراراً من وجهها، بعد أن وجدوا أن من الصعب عليهم جداً، " التماس حمايةٍ فعالة من قبائلهم التي كانت تخشى بدورها أن تتعرّض إلى الانتقام من جانب الدولة "، وأن هذه الحالة الجديدة أملت على هذه الفئة المتمردة حالةً نفسيّة محدّدة، تمثلت في شعورها بأنها " خارجة على الدولة والمجتمع " وليس أمامها إلا التشرِّد في الصحراء .‏

أما اضطراب أحوال بعض شعراء هذه الطائفة وتعدّد انحيازاتهم السياسية، فقد فَسَّره بكونه نتيجة للاضطرابات السياسية التي حصلت في الحياة العامة، وما قابلها من اضطراب في نفوس بعض المضطربين، مثلما حصل لعبيد الله بن الحر (33).‏

إن هذه الآراء والتحليلات تتباين أو تترادف وتلتقي إلى حد ما مع آراء الدكتور عطوان، وإنْ حمَّلها سركيس الكثير من التصورات المعاصرة عن حركات التمرُّد، وأظهر هذه الطائفة من الشعراء بمظهر أكبر من حجمها الحقيقي، وقدّم سلطة الخلافة الأموية بصورة الدولة التي لم يكن يشغلها أي من المشاغل التي عرفت بها، مثل: مواصلة الفتوحات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وتطوير شؤون الدولة الإدارية وشؤون المجتمع الأخرى، والتي انصرفت بكُلّيتها نحو مطاردة أولئك المتمردين عليها.‏

وبالانتقال إلى آراء الأستاذ عبد المعين الملّوحي، الذي اهتم بجمع أشعار مّنْ أسماهم بـ " اللصوص وأخبارهم " وتحقيقها، ومن بينهم عدد من الشعراء الذين يدخلون في صُلب هذه الدراسة، سنجده قد أوقفته تراجم سيَرهم عند ضربين من " الناس " بحسب تعبيره، هما:‏

اللصوص الذين مارسوا اللصوصية وعاشوا أكثر حياتهم يقطعون الطرق ويسرقون.‏

واللصوص الذين رأى أنهم مدفوعون بأسباب سياسية " من الخوارج ومن الثائرين على الحكم، وكانوا مع ذلك يقطعون الطرق ويسلبون الأموال "، ورأى أيضاً أن المؤرخين أدخلوهم في طائفة اللصوص، بينما عدّهم هو - الملّوحي - من " الثوار، وسمّى (عبيد الله الجعفي) مثلاً عليهم، ثم عاد فأشار في موضع آخر إلى أن بعض من ترجم لهم من الشعراء " حشروا بين اللصوصية وربما كانوا مظلومين "، وأشار في موضوع ثالث إلى أن بعضهم كان من الشعراء الكبار الذين اوصلهم شعرهم وجانب من حياتهم إلى أنهم كانوا ممن اشترك في الحياة العامة وفي النزاعات السياسية، كالجعفي وابن الريب والقتّال والكلابي(34).‏

وقد أعاد الملّوحي إشارته الآنفة، ملاحظاً ما سجله ابن المبارك صاحب (منتهى الطلب) بشأن الجعفي، إذ نقل عنه قوله: " وجعله السُكّري مع اللصوص، ولم يكن لصاً، إن ما كان لا يُعطي الأُمراء طاعةً، وكان يضمّ إليه جماعةً ويُغير بهم "، مثلما نقل عن الباحث المعروف محمود محمد شاكر قوله: " وهم كانوا يُسمّون كثيراً من الخوارجِ اللصوصَ كما فعلوا في عبيد الله الحر الجعفي(35) "، مشيراً إلى اختلاط الفرسان والفتّاك من العرب بالشعراء اللصوص وإلى أن بعضهم كان " لصاً فاتكاً فحسب، منبهاً على ما فعله ابن حبيب صاحب (المُحبّر) حين جمع تحت عداد فتّاك الإسلام أسماء اللصوص وأسماء الفتّاك وأسماء المتمردين الخارجين على الخلافة الأموية وسلطتها .‏

ويلتمس الملّوحي العذر للمؤلفين القدماء في هذا الجمع بين هذه الفئات، فيرى السبب في ذلك راجعاً إلى أمرين :‏

* تشابُه أخبارهم أولاً .‏

* ولأن الحكام - بحسب تعبيره - كانوا " يريدون الغضَّ من الثوّار بِعَدّهم لصوصاً أو خوارج (36)"‏

إن كِلا السَببين - في تقديرنا - وجيه ومعقول، وإنهما يُلقيان جانباً من الضوء على عملية الخلط التي حصلت في النعوت والمصطلحات والمفاهيم، بشأن هذه الطائفة من الشعراء .‏

أما عن الأسباب الرئيسة لظهور اللصوص، والشعراء من بينهم - أيّاً كان النعت أو المفهوم الذي سيحملونه - مثلما سيتضح لاحقاً، فيلتقي الملّوحي مع د. عطوان وسركيس على عدد منها، لاسيما الاجتماعية منها والاقتصادية، التي سبقت الإشارة إلى أبرزها .‏

إن طائفة الشعراء الصعاليك التي ظهرت في العصر السابق للإسلام كانت تلتقي على حالة مهمة في حياة العرب آنذاك، وهي حالة " فَقْد الإحساس بالعصبية القَبَليّة(37) ". ولأن كل قبيلة كانت تقوم على إيمان أفرادها بوحدة قبيلتهم، كونها الكيان الاجتماعي الذي يلتقي عنده هؤلاء الأفراد، فقد انفصل عنها مَن خلعتهم منها أو شذ عنها بينما كان إيمان أفراد كل قبيلة بنقاء جنسها مدعاةً لوجود أغربتها، فضلاً عن تجارة الرقيق التي كانت رائجة في مجتمع ما قبل الإسلام. وكان التباين الاجتماعي بين رؤوس كل قبيلة وبقية أفرادها، وكذلك التباين الاقتصادي بينهم من حيث درجة الغنى والفقر، عامليَن آخريَن من عوامل ظهور " الصعلكة " في الجزيرة العربية(38)، ولاسيما في مراكز المدن التجارية الرئيسة، وفي مقدمتها (مكّة) التي كانت تمتلك دوراً آخر -فضلاً عن دَورها التجاري - هو دورها الديني المعروف إلى اليوم، ممـا أسهم في ظهور (الخُلَعـاء)‏

و(الأرقّاء) السود الذين كانوا أسرع في الاستجابة للدعوة الإسلامية، عندما ظهرت فيها على حد قول الدكتور عبدة بدوي(39) .‏

وإذا كان د. يوسف خليف قد ركّز - عند حديثه عن الشعراء الصعاليك المذكورين - على الموضوعات التي تناولوها في أشعارهم، مثل وصف المغامرات وتَربُصهم بأعدائهم وترصُدهم لضحاياهم، وعلى آرائهم الاجتماعية والاقتصادية وعُقَدهم النفسية الناجمة عن انقطاع صلاتهم بقبائلهم، وعَدَّ الفقر (عُقدة العُقَد) التي كانوا يعانون منها، فالدكتورة (بنت الشاطئ) رأت رأياً مُغايراً، انصب على الجانب الفني والنفسي منه تحديداً - وقد حصرتهم بالخلعاء فقط - فأشارت إلى أن دارسيهم فاتهم أن يلمحوا الروابط النفسية التي كانت تشدهم إلى الاهل والعشيرة، وفاتَهم أن يُحسّوا تلك المرارة التي تفيض بها مشاعرهم، منبِّهة على قضية مهمة، تتمثل في أن سلوكهم نفسه "كان يطوي وراء الاستهانة بالحياة والانطلاق في الفضاء العريض والمغامرة الفتّاكة المثيرة، سخرية مريرة بالحرية الفردية، وشعوراً عميقاً بالتمزُّق والتشرٌّد والضياع" (40).‏

أما الدكتور عبده بدوي فرأى أن عقدة اللون كانت "وراء أشياء كثيرة في المجتمع العربي"، منها: الاستجابة السريعة للإسلام، والمطالبة المبكّرة بالعدل الاجتماعي، وتدعيم جانب من جوانب الشعوبية، وبروز ظاهرة الغضب في الشعر العربي، والتحوّل من ضمير الجمْع القَبلي إلى ضمير المفرد الإنساني، وأن تلك العقدة كانت الدافع لاقتراب الشاعر من ذاته، ولبروز حالة التوتر في إيقاعات القصيدة العربية واختيار الأوزان القصيرة ونظام المقطوعة، ولظهور الجُمَل الحسيَة المنتزعة " من لحم الحياة الفاتر " (كذا)، فضلاً عن إسقاط تلك العقدة لعدد من تقاليد القصيدة العربية المتوارثة(41).‏

بمعنى آخر، إن الدكتور بدوي رأى إن معظم فضائل التطوَر والتجديد في الشعر العربي، مردَها إلى عقدة اللون تلك، التي كان الأغربة من الشعراء قد أحسَوا بها، لا بل يُسجّل لها بانحياز واضح، كشْفها عمَا اسماه بـ" الشاعرية الكامنة في الأشياء البسيطة والاقتراب من لغة الحكي والتنُّبه إلى المرئيات التافهة بشفافية "(42)، وهي فضيلة مضافة إلى أولئك الأغربة وعقدة لونهم الأسوَد.‏

في حين رد إحسان سركيس ظهور الصعاليك في العصر السابق للإسلام، إلى ما أسماه بـ" عدم إدراك أهليهم أو قبيلتهم نفسيَاتهم، مما سبب نفورهم منهم وخروجهم على طاعة مجتمعهم وهروبهم منه .."، وهو تفسير غريب يتباين تماماً مع جميع الأسباب والعوامل الاجتماعية والاقتصادية التي قال بها الدارسون الآخرون، بدليل أنه يعود فيشير إلى أن المتأمل في أخبار الصعاليك وأشعارهم " يلفت نظرَه شعور حادً بالفقر وإحساس مرير بوقْعِه على نفوسهم وشكوى صارخة من هوان منزلتهم الاجتماعية وعدم تقدير المجتمع لهم …، وهذه - ولاشك - العوامل الحقيقية وراء ظهورهم، فضلاً عن عوامل أُخَرى سرعان ما يوردها بعد ذلك بقليل، يتناولها من زاوية اقتصادية على الأغلب، مع تداخلها مع الزوايا الاجتماعية والنفسية، ليقرّر بعد هذا أنهم - أي الصعاليك - جميعاً " فقدوا توافقهم الاجتماعي "، وأن فقدان هذا التوافق ينتهي بالفرد عادة إلى أن تكون صلته بمجتمعه قائمة على أساس ما يُسميه بـ " السلوك الصراعي "، منبهاً على ضرورة عدم الاستهانة بمن يدعوهم بـ " الراغبين في إعادة شكل التوافق الاجتماعي من جديد، حتى ولو كانت وسيلتهم إليه غير مُجدية أو ناجحة …(43) .‏

تلك أبرز العوامل التي أسهمت في ظهور طائفة الصعاليك في العصر السابق للإسلام، مثلما رآها وحدّدها الدارسون السابقون، وهي - مثلما اتّضح حتى الآن - عوامل ظهرَ ترادف بعضها، وبدت أشبه بالقواسم المشتركة لظهور طائفتَيْ صعاليك العصر السابق للإسلام وفتّاك العصر الأموي، لا سيما عامل (الفقر) الذي كان واحداً وإن اختلفت أسبابه ودوافعه، ومثله عامل ظهور فئة الموالي الجديدة، الذي كان مقتصراً على الأغربة السود من أبناء الإماء الحبشيات والزنجيات، وصار عاملاً يندرج تحته أبناء البلدان التي فتَحتها جيوش الفتح الإسلامي في بلاد فارس وبلاد الروم وفي مصر وشمال أفريقية مثلما أشار إلى ذلك أكثر من دارس من الدارسين المُحدثين، وإن تباينت آراؤهم بشأن هذه القضية، واختلفت اختلافاً كبيراً (44) .‏

أما بالنسبة للعوامل الأُخرى فإن ثمة فوارق نجمت عن العوامل الجديدة التي وِجدت في العصر الأموي، ومنها: العامل السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي، وهي عوامل طرأت عليها مستجدات مهمة انعكست على طبيعة الحياة العامة، في المناطق المدنية (الحضَرية) والمناطق القروية والبدوية، حتى إن الدكتورة بنت الشاطئ نظرت بتحامُل واضح إلى أثر هذه العوامل لا في المجتمع العربي في هذا العصر حسب، وانما في مسيرة الحياة الأدبية - ولا سيما مسيرة الشعر - فيه، وفي الاتجاهات الفنية التي شكَلت ملامحه، وإن كانت قرَرت بنفسها عدم إنكار ما كان لخلفائه من نصيب في ازدهار الشعر وفي رواجه(45) وهي حقيقة لا يمكن إغفالها أو نكرانها بأي حال.‏

في حين ردَّ إحسان سركيس إلى العوامل الجديدة وما أحدثته من متغيرات اجتماعية - سياسية في البنية المكوّنة للحياة في هذا العصر، إيجادها شعراً ذا طابع خاص يماثل شعر صعاليك العصر السابق للإسلام، لا بل يربو على سابقه أيضاً، بإمعانه في وصف التشرّد في الفلوات والقفار، بشكل لم يكن أولئك الصعاليك يستشعرونه لأسبابٍ يحددها بالآتي:‏

إن صعاليك العصر السابق للإسلام كانوا يعايشون جيراناً لهم يشابِهونهم في حياتهم وشظف عيشهم.‏

وإن هؤلاء الجيران لم يكونوا على جانب من القُدرة الفائضة عمَا تستدعيه حماية القبيلة لينصرفوا إلى مطاردتهم.‏

وإن ردَّ الفعل لم يكن أكثر من غارة صغيرة من هذه القبيلة أو تلك وليس بثقل دولة، مثلما آل إليه الأمر في العصر الأموي(46).‏

بيد أننا يمكن أن نتبيّن مظاهر هذا التباين في العوامل المؤثرة بين تلك الطائفة وهذه، وفي انعكاسها على حياتها أولاً، من خلال النقاط الآتية:‏

أولاً: كان لطائفة الشعراء الصعاليك، لا بل الصعاليك بعامَة، مفهوم محدد يعتمد الجانب الاجتماعي في العصر السابق للإسلام، فهم: خُلَعاء وشذّاذ وأغربة سود أو من أقوام أخرى غير عربية، وحَّدَهم فقدان الإحساس بالعصبية القَبلية، فضلاً عن عُقَد: الفقر واللون والجنس في الغالب، ووجدوا في عمليات الإغارة من أجل السلب والنهب وسيلة وحيدة لكسب قُوتهم ومواصلة حياتهم اليومية، فهم لصوص وقطَاع طرق أو هكذا آل أمرهم، وإن الجانب الاقتصادي كان عاملاً رئيساً في تحديد أنماط سلوكهم وتصرَفاتهمَ في أغلب الأحيان.‏

ثانياً: إن من أطلق عليهم نعت (الصعاليك) في العصر الأموي، لم يكونوا في أُصولهم جميعاً من الخُلَعاء والشذاذ والأغربة السود، بل ارتبط مفهومهم بعوامل ثلاثة، سياسية واقتصادية واجتماعية، ظهر الأول منها وترك ما ترك من آثار بظهور القوى والجماعات (الأحزاب) المناوئة للدولة الأموية، كالعلويين والزبيريين والخوارج، أما العامل الثاني فلم يكن الفقر والحرمان وحدهما من بين أسبابه، بل تكدُّس الأموال التي جُبيت تحت شروط دينية ودنيوية لدى بعض الخلفاء والعمال والولاة والعاملين عليها، وليس عن طريق التجارة وحدها، مثلما كان عليه أمرُ الأغنياء في العصر السابق للإسلام، في مقابل انعدام وجود الأموال لدى الغالبية التي صارت تدعى بـ( الرعيَة).‏

في حين ظهر العامل الثالث - الاجتماعي - نتيجة طبيعيةً من نتائج العامليَن المذكوريَن آنفاً في جزئه الأعظم، أي بسبب الفقر والحرمان وسوء توزيع الثروة، لدوافع يشكل العامل السياسي طرفاً رئيساً فيها.‏

ثالثاً: إن (صعاليك) العصر الأُموي لم يعودوا يماثلون سابقيهم، لأن أغلبهم كانوا من المتمردين على السلطة المركزية في المقام الأول، ومن الخارجين على نظام الخلافة الذي نما وتطوّر وقعَّد قواعدَ وأرسى أُسساً لم تكن معروفة من قبل، بدأ بعضها في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب (رض)، ولم يأخذ مدياته الواسعة إلا في العصر الأموي، بعد أن تحوّل نظام الحكم فيه إلى ملكية شبه وراثية، مثلما معروف وثابت تاريخياً، ومن ثم فهم لم يكونوا مجرَد صعاليك بل فّتاك شجعان، بعضهم من الفرسان، وبينهم عدد من اللصوص المحترفين، مثلما لم يكن الفتك غايةً بحد ذاته لديهم بل كانت لـه أسبابه ودوافعه، مثلما سنٍعرض لذلك عند دراسة أوضاع هذه الطائفة من الشعراء الحياتية وظروفهم المختلفة.‏

رابعاً: إن إطلاق نعت (اللصوص) عليهم يحمل الكثير من التجني ومجافاة الحقيقة، إذ تبيَّن من خلال استعراض آراء الدارسين السابقين، ومن خلال الوقوف على حياة الشعراء الذين تم اختيارهم، إن اللصوصية أساساً نعتُ من امتهن السرقة من جهة، وإن بين هؤلاء من لم يكن كذلك أصلاً، وبينهم من سلك سبيلها نتيجة لهربه من أيدي السلطة وولاتها وعمّالها، لجناية جناها بقصد ربما كان سياسياً وليس قصداً اجتماعياً، كالقتل الفردي مثلاً، فكان عليه أن يلجأ إلى سرقة ما يُقيم أَودَه، من جهة أُخرى، وإذ تبيَّن أيضاً أن الكثيرين منهم، حتى من لم يجد لـه نعتاً غير نعت (اللص) قريناً باسمه، لا يدل على لصوصيته، وإن كانت اللصوصية نفسها موضع اهتمام الرواة والمؤرخين والدارسين القدامى، وكانت أشعار اللصوص من الأهمية، حدَّ أن ذكر الجاحظ: " وقد أدركتُ رواةَ المسجدييّن والمربدييّن، ومن لم يروِ أشعار المجانين (العشّاق) ولصوص الأعراب ونسيب الأعراب (…..) فإنهم كانوا لا يعدّونه من الرواة "(47)‏

خامساً: لقد أورد صاحب (المخصَص) نقلاً عن علماء اللغة، عشرات الأسماء التي كانت تطلق على اللص، ومن بينها ما نقله عن (ابن السكيَت) من أنه (المارد الصعلوك) (48)، مما يقطع بأن الترادف في المعاني والمصطلحات والمفهومات كان حالة طبيعية لا غبار عليها، ولم تكن تمثَل مشكلة للرواة والمؤرخين القدامى، وإن تحولت إلى مشكلة أمامنا عند دراستهم.‏

المهم إن طائفة الشعراء الذين يعنينا أمرهم في حدود هذه الدراسة سيكونون من الفتاك والمتمردين على الدولة، بغض النظر عن النعوت والتسميات الأخرى التي أُلصقت بهم لهذا السبب السياسي أو ذاك السبب الفكري أو الأخلاقي، وإن دراسة مَنْ دُرِس منهم - بعد أن جُمِعت أشعاره - ستكون عوناً كبيراً في استخلاص ما يؤيد المفهوم الذي توصلنا إليه لا سيما ما جمعه وحققه المرحوم الدكتور نوري حمودي القيسي، والأستاذ الباحث المجمعي عبد المعين الملوحي، وما اخترناه من هؤلاء الشعراء لأغراض الدراسة.‏

ولكن زيادةً في تحقيق الفائدة، سنحاول عَرض ما يمكننا عرضه من سمات ومواصفات من اخترنا من الشعراء وما قدّمته أشعارهم وسيَرُ حياتهم من ملامح شخصيَة لكل منهم، تُردفه بهذه الفئة أو تلك أو تبيّنه عنها.‏

فقد لاحظنا أن كُلاً من: مالك بن الريب وعبيد الله بن الحر الجعفي والقتّال الكلابي والعُدَيل بن الفرخ العِجلي والسمهري العكلي، كانوا مثلما اتّضح بين معدودٍ من " فُتاك الإسلام " أو من " فتاك العرب " بحسب ما ذكره كل من: محمد بن حبيب، صاحب (المُحبَّر)، وأبي علي الهَجري، صاحب (التعليقات والنوادر )(49)، واتفقت لدينا آراء عدَت كُلاً من: الجعفي ومرّة بن محكان وحُريث بن عنَاب والمرّار الفقعسي من المشهورين بالكرَم، وأُخرى عدَّت كُلاً من: مالك بن الريب والجعفي بين " أصحاب المروءة والشجاعة الفائقة والفروسية "(50)، واشترك كل من حريث ومالك والقتّال بكونه من المتمردين على الولاة والعمال والسُعاة، وزاد د.عطوان على هؤلاء (عبيد الله بن الحر) فعدَّه من " الصعاليك السياسيين " كونه مثلما وصفته مصادر دراسته " أذكر صعلوك سياسي أنشأته الظروف السياسية المتقلَبة " وهو على رأس من أسماهم بـ" الساخطين الثائرين " إذ كان من الفئة التي تسعى للقضاء على الحكم الأموي ومناصبة العداء عمَال الخلافة وولاتها (51) .‏

في حين أكدت مصادر دراسة (عُبيد بن أيوب العنبري) أنه كان فارساً شجاعاً وممن اتّصف بالحكمة ورقّة المشاعر والتمسُّك بقيم الدين الإسلامي وبالإيمان العميق والخوف الشديد من الله تعالى (52)، بينما وصفت المصادر التي درست (الخطيم العكلي) بأنه كان ذا منزلةٍ متقدمة في قومه، وكان فارساً عاشقاً وإن أشارت إلى أنه " أحد اللصوص " أو (الخطيم اللص) أو إلى كونه من اللصوص (53)، بينما أشارت مصادر الدراسة إلى كون (جحدر بن معاوية) من الفتّاك الشجعان، وإلى أنه " لولا جرأة الجنان وجفوة السلطان وكَلب الزمان " مثلما وصف أحواله أمام الحجّاج بن يوسف الثقفي عندما سأله عن أمره، لكان " من صالحي الأعوان وبُهم الفرسان ومن أوفى أهل الزمان " (54)، مثلما اتفق للدراسة الوقوف على إشارات إلى كون (جعفر بن عُلبة الحارثي) من الشجعان الذين قُتلوا ظُلماً، وإلى كون (طهمان الكلابي) من بين " صعاليك العرب وفُتّاكهم " وأن (يعلى الأحول) كان قد نُعِت بـ" اللص الفاتك الخارب " وأنه كان مخلوعاً يجمع صعاليك الأزد وخُلَعاءهم فيُغير بهم على أحياء العرب ويقطع الطريق على السابلة، بينما عُدَّ (أبو النشناش) من لصوص العرب، وروى بعض المصادر أنه " كان يعترض القوافل في شذّاذ من العرب بين طريق الحجاز والشام فيجتاحها، فظفر به بعض عمَال (مروان بن الحكم) فحبسه وقيَّده "(55)، أما (عُطارد بن قُرَّان) فلم يُعرف عنه سوى كونه ممن حُبس مراراً، وأنه كان يهاجي جريراً عند هجاء جرير للمرَار البرجمي، أما أسباب حبسه المتكرر أو أية تفاصيل اُخرى عن حياته فبقيت مجهولةً حتى الآن(56).‏

وعند محاولة تبيّن الأسباب والدوافع الحقيقية وراء نعت عدد من هؤلاء الشعراء بالصعاليك واللصوص تحديداً، سنقف عند شاعر كمالك بن الريب على جوابه عن سؤال القائد العربي سعيد بن عثمان بن عفان (رض) لـه عن أسباب عبثه وفساده بقطعه الطريق، إذ يجيبه مالك قائلاً: " يدعوني إليه العجز عن المعالي، ومساواة ذوي المروءات، ومكافأة الإخوان " لذا فهو سرعان ما يتوب عن أفعاله ويلتحق بجيش سعيد الذي كان متوجَهاً نحو (خراسان) لفتحها، على أيام الخليفة الأموي الأَول (معاوية بن ابي سفيان) (57).‏

وأكثر وضوحا في مجال الفتك لأغراض سياسية – وليست لصوصية - الشاعر (عبيد الله بن الحر) الذي كانت تربطه قرابة بالخليفة الراشد الثالث (عثمان بن عفان - رض) وشهد مع خاليَه (زهير ومرثد) ابنَيْ قيس بن مشجعة معركة القادسية، ثم صار مع معاوية في عدائه للإمام علي (كَرم الله وجهه)، ثم حارب بني أُمية مناصراً مصعب بن الزبير، ثم انقلب على الأخير والتحق بالأُمويين، مما يشير إلى كونه كان مقاتلاً فارساً متمرداً من ذوي المواقف السياسية - وإن تناقضتْ - ولم يكن صعلوكاً أو لصاً بل فاتك.‏

أما (القتَّال الكلابي) فيُعَد مثلما نعته محمد بن حبيَب من (فتاك الإسلام)، وإن (القتَّال) لقب غلب عليه " لتمرُّده وفتكه " مثلما ذكر صاحب (السمط) وقد شُهر بفروسيته وشجاعته ودناءته أيضاً، وتزيد مصادر دراسته أن جريمة قتله لابن عمٍ لـه يدعى (زياداً) هي التي دفعته إلى ممارسة الفتك، بعد أن أراد زياد هذا قتله لتعلُّقِه بأُخته (العالية)، إذ نهاه هذا الأخ عن التحدث إليها وحلف أن يقتله إن وجدَه عندها ثانية، لكنّ الحُبّ جرّأَ (القتَّال) على معاودة زيارتها، فلما بصَرَ به أخوها (زياد) استلَّ سيفَه ليقتله، مما جعل (القتّال) يلجأ إلى الهرب، فتبعه زياد بسيفه، و(القتّال) يُناشده الله والرحمَ من دون جدوى، وتشاء المصادفة أن يجدَ (القتّال) في طريقه رمحاً مركوزاً (أو سيفاً) فيأخذه ويقضي به على ابن عمِّه ويولَي هارباً " (58).‏

ويرى الدكتور إحسان عباس أن القتّال الكلابي " يمثِّل صورةَ متطرّفة لمقاومة كل ما سنتَّه الدولة من تنظيمات كما يُمثِّل الثورة على الاستقرار "، فضلاً عن إمعانه في حماية نقاء الدم بين أفراد قبيلته (59)، بينما عدَّه الملَوحي "أشد نقمةً وثورةً على الأُمويّين وعمَّالهم من مالك بن الريب "(60).‏

أما (السمهري العكلي) فإنه بحسب رواية صاحب (الأغاني) لبعض تفاصيل حياته، كان صحبة (بهدل بن قرفة) حين لقيا (عون بن جعدة بن هبيرة) ومعه خاله، وهو يريد الحج من الكوفة أو يريد المدينة، وبعد حوار جرى بينهم أخذ (عون) السيف وشدَّ عليهم، مما دعا (بهدل) إلى رميه بسهم أدى إلى قتله، وإن السمهري وصاحبه سرعان ما ندِما وهربا وإن الخليفة عبد الملك بن مروان كتب إلى عمّاله في العراق والمدينة واليمامة ليطلبوا قتلة (عون) ويبالغوا في ذلك وأن يجعلوا لمن يدل عليهم جُعالة (جائزة)، مما أطال من أمد تشرَد (السمهري) حتى أُلقي القبض عليه وسُجِن، ثم دُفع بأمرٍ من الخليفة إلى ابن أخي عون - ويُدعى (عدي) - الذي سارع إلى قتله ثأراً لعمِّه"(61).‏

ويدل ما جُمع من أشعاره أنه كان عاشقاً متيّماً، وأنه ساءه كثيراً أن يودَع السجن من دون أن تفعل قبيلته شيئاً لنجدته، مما جعله يشكوها ويهجوها أسوأ هجاء.‏

ويتّضح من حكايته أنه لم يكن لصاً ولا كان قاتلاً، ولم يكن من الصعاليك الخُلَعاء أو الشذّاذ، اللهم إلاّ عند حصول هذه الجريمة وهرَبه في القفار خشيةً من مُطارديه، وهذا يعني أن نعته بالفاتك كان نتيجةُ لعواملَ وأسبابٍ أُخرى غير واضحة تماماً.‏

أما (العُدَيل بن الفرخ) الذي عدَّه (الهَجري) من الفتّاك أيضاً مثلما مَرّ بنا، فإنه في أشعاره يظهر محرَضاً لأهل العراق - تارةً - ضد الحجّاج بن يوسف، ويظهر تارةً أُخرى هارباً من يده لا سيما بعد أن طَلَبه لقتله عبداً يدُعى (دابغاً) كان مولىْ لابن عم (العُدَيل) لأسباب يسهب صاحب الأغاني في إيراد تفاصيلها، ويظهر تارةً ثالثة مادحاً الحجّاج .. وهكذا(62) .‏

ولعلّ حكاية قتل (العُديل) لدابغ هذا، كانت وراء نعته بالفاتك من جانب (الهَجري) مثلما اتّضح من رواية الأصفهاني، ومثلما يشير الجاحظ وابن قتيبة عند حديثهما عن علاقته بالحجّاج وهربه منه وتغرّبه وتشرُّده (63) .‏

أما الشعراء الذين نُعِتوا باللصوصية حسب، فيقف في مقدمتهم (عُبيد بن أيوب العنبري)، الذي كان الجاحظ قد نعته مرةً بـ"أحد اللصوص"(64)، وتنوقِل عنه هذا النعت في عدد آخر من المصادر اللاحقة، بينما لم نجد في مصادر دراسة حياته وفي ما جمع من شعره إلاّ ما يشير إلى شجاعته وفروسيته واتّصافه بالحكمة ورقة المشاعر والإيمان - حدّ الزهد - بالله تعالى، لا سيما لشدّة خوفه من الظلم ومن البطش به، الذي جعله يعيش مُشرَّداً في الصحارى والقفار.‏

وقد ذكر (ابن قتيبة) عند تقديمه بأنه: " من بني العنبر. وكان جَنى جنايةً، فطلبه السلطان وأباح دمَه، فهرب في مجَاهل الأرض، وأبعدَ لشدَة الخوف "، ثم يشير إلى ما كان الشاعر يُخبر في شعره من مرافقته الغيلان والسعالى ومُبايتتِه الذئاب والأفاعي، وأكله مع الظباء والوحش (65).‏

(1) د. طه حسين، حديث الأربعاء: 2/14 وما بعدها. وأيضاً: د. شوقي ضيف، العصر الاسلامي: 169 وما بعدها. وأيضاً: د. نوري القيسي، شعراء أمويون: 1/88 و 168 و206 و247. وايضاً: د. حسين عطوان، الشعراء الصعاليك في العصر الأموي، ومقالات في الشعر ونقده: 63 وما بعدها. وأيضاً د. مصطفى الشكعة، رحلة الشعر: 23 وما بعدها. وأيضاً: د. محمد عبد المنعم خفاجي، الحياة الأدبية - عصر بني أمية: 77 وما بعدها .‏

(2) الأزهري تهذيب اللغة: مادة (فتك).‏

(3) الصاحب بن عَباد، المحيط في اللغة: مادة (فتك).‏

(4) ابن فارس، مجمل اللغة: مادة (فتك).‏

(5) الزمخشري، أساس البلاغة، مادة (فتك).‏

(6) ابن منظور، لسان العرب: مادة (فتك).‏

(7) الزَبيدي، تاج العروس: مادة (فتك).‏

(8) د.حاتم الضامن، عشرة شعراء مُقلّون: 168 (مع التخريجات).‏

(9) الزَبيدي، تاج العروس: المادة نفسها.‏

(10) دراسات في الأدب الجاهلي،: 2/235 وما بعدها و 265 (مع تخريجات القصيدة).‏

(11) م.ن: 261 (مع التخريجات) .‏

(12) دراسات في الأدب الجاهلي: 2 / 236.‏

(13) م.ن: 2 / 264.‏

(14) ابن منظور، لسان العرب: مادة (صعلَكَ).‏

(15) ابن منظور، لسان العرب: مادة (ذأَب). وأيضاً: الفيروزآبادي، القاموس المحيط: مادة (ذأَب). وأيضاً: الجوهري، الصحاح ..: مادتّا (ذأَبَ) و (لصَّ) .‏

(16) الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي: 21, 55, 0180‏

(17) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 29. ومقالات في الشعر ونقده: 65.‏

(18) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 21 وما بعدها.‏

(19) الظاهرة الأدبية في صدر الإسلام والدولة الأموية: 316.‏

(20) اشعار اللصوص وأخبارهم: 3 /827.‏

(21) محمد بن حبيب، المحَّبر: 213 وما بعدها.‏

(22) المرزباني: 265.‏

(23) شعراء أمويون، 1 / 71 وما بعدها (مع مصادره).‏

(24) الشعراء الصعاليك في العصر العباسي الأول: 74 وما بعدها. ومقالات في الشعر ونقده: 65‏

(25) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 32-76.‏

(26) مقالات في الشعر ونقده: 61.‏

(27) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 74 و 75.‏

(28) مقالات في الشعر ونقده: 68 وما بعدها.‏

(29) م.ن: 73 وما بعدها.‏

(30) رحلة الشعر: 8.‏

(31) م.ن: 256.‏

(32) الظاهرة الأدبية …: 315.‏

(33) الظاهرة الدبية: 318.‏

(34) أشعار اللصوص واخبارهم: 3/701 و 707 و 709.‏

(35) م.ن :3/742، 743 (مع مصادره)‏

(36) اشعار اللصوص: 744.‏

(37) د. يوسف خليف، الشعراء الصعاليك: 119 وما بعدها.‏

(38) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 141وما بعدها.‏

(39) د.عبدة بدوي، الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي: 9وما بعدها.‏

(40) د. عائشة عبد الرحمن، قيم جديدة للأدب العربي: 43 وما بعدها.‏

(41) الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي: 9.‏

(42) م.ن: ص.ن.‏

(43) مدخل إلى الأدب الجاهلي: 192 وما بعدها.‏

(44) د. شوقي ضيف، العصر الإسلامي: 210 وما بعدها. وأيضاً: د. عائشة عبد الرحمن، قيم جديدة …: 111 وما بعدها و 121.‏

(45) قيم جديدة …: 115.‏

(46) الظاهرة الأدبية ..: 320.‏

(47) البيان والتبيين: 4/23.‏

(48) ابن سيدة: 3/78-80.‏

(49) عدَّ الهجري العُديل والسمهري من فتّاك العرب: 1/158 و 268.‏

(50) عبد المعين الملوّحي، أشعار اللصوص: 3/778 وما بعدها.‏

(51) الشعراء الصعاليك في العصر الأموي: 78 وما بعدها.‏

(52) شعراء أمويون: 1/195 وما بعدها (مع مصادره).‏

(53) شعراء أمويون: 1/240 مع هوامشها.‏

(54) م.ن: 1/166.‏

(55) عبد المعين الملَوحي، أشعار اللصوص: 2/553 و 573 و 17 وأيضاً: الأصفهاني، الأغاني: 12/171 (بالنسبة للأخير).‏

(56) المرزباني: معجم الشعراء: 300.‏

(57) شعراء أمويون: 1/11 وما بعدها (مع مصادره).‏

(58) ينظر: البكري، سمط اللآلي وأيضاً الأصفهاني، الأغاني 20/159.‏

(59) القتّال الكلابي، ديوانه: 10 وما بعدها.‏

(60) أشعار اللصوص: 3/779.‏

(61) الأصفهاني، الأغاني: 22/330 وما بعدها.‏

(62) م.ن: 22/330-332.‏

(63) البيان والتبيين، 1/367، وأيضاً: الشعر والشعراء: 325.‏

(64) م.ن : 4/62، وأيضاً: شعراء أُمويون: 1/195 وما بعدها (مع مصادره وهوامشه).‏

(65) ابن قتيبة، الشعر والشعراء: 2/874.‏

ابومحمد الشامري
12-07-2005, 06:39 AM
الفصل الثاني: مضامين الإبداع الفكري والموضوعي
لابد من الإشارة – ابتداءً – إلى أن طائفة الفتّاك من الشعراء الذين تم اختيارهم للدراسة هذه من بين شعراء العصر الأموي، فتحوا آفاقاً واسعة للدخول إلى معالم إبداعهم الفكري والمضموني، إذ ظهر أن لهم فيها ما يميّزهم ممَن سبقهم من الشعراء، لاسيما أولئك الصعاليك الذين عاشوا في العصر السابق للإسلام، والذين ماثلوهم في بعض جوانب الحياة، أو اختلفوا معهم وتباينوا بهذا القدر أو ذاك .

ولتبيان هذه الحقيقة سنحاول أولاً المرور السريع على أبرز الموضوعات التي طرقها الشعراء الصعاليك في العصر السابق للإسلام، إذ سجَّل لهم الدكتور يوسف خليف جملة موضوعات حدّدها بـ: وصف المغامرات التي تمثّل "حرفتهم" في أثناء الغزو والإغارة من أجل السلب والنهب، تلك الحرفة التي قامت عليها حياة معظمهم، فهم " يتحدثون عن هذه المغامرات حديث المؤمن بقيمتها في حياته، المُعجب بها، الفخور ببطولته فيها، أو بمقدرته على النجاة من أخطارها "، بعد أن ضاقت الحياة بهم وابتعدت سُبل النجاة عن وجوههم، ثم حديثهم عن ترصُّدِهم لضحاياهم في مواقع معيَّنة كانوا يُطلقون عليها اسم (المراقب)، وهي مواقع عالية منيعة كانوا يلجؤون إليها ليلاً، ويتخفّون فيها انتظاراً لضحاياهم، ثم حديثهم عن التوعُّد والتهديد بسبب البغض لخصومةٍ أو إنتقاماً وثأراً لصديق، أو توعُّد الصعلوك للصعلوك وما في هذا الحديث كلِّه من تطرّق إلى القوة الشخصية، وإلى صفات الخصم السيئة تارةً والحميدة تارةً أُخرى. وهناك حديث الصعلوك عن أسلحته ووصفه لها، لا بل التغنّي بها، ما دامت تمثّل أهم ما يملكه من متاع من جهة، والوسيلة الأبرز لكسب عيشه من جهة ثانية، ثم الحديث عن موضوعة الرفاق الذين يرافقونه في مغامراته، حتى ليغدوَ بعضهم مثل الأم الحريصة على أبنائها، أو القائد والزعيم لجَمع أصحابه، وليس الزميل لهم فقط.

وفضلاً عن تلك الموضوعات وما عرضت لـه من خصوصيّةٍ خاصةٍ في أشعار أولئك الصعاليك، فثمة براعة في وصفهم لفرارهم وسرعةِ عَدْو رفاقهم، وفي تشبُّهِهم بعددِ من الحيوانات كالخيل والظباء والعُقبان، ثم في وصفهم لغَزواتهم على ظهور الخيل، وحديثهم عن أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، لاسيما حالة الفقر التي جمَّعتهم وتشرُّدهم في القفار ومواجهتهم لوحوشها بصورة دائمة([1]).

أما الدكتورة (بنت الشاطئ) فركّزت حديثها على موضوعة الروابط التي كانت تشدُّ هؤلاء الشعراء إلى الأهل والقبيلة في خضمّ تشرُّدهم، وعلى تلك المرارة التي كانت تفيض بها مشاعرهم وهم يهيمون في الفلوات، وما تركه (الخَلْع) عن القبيلة في وجدانهم من أثرٍ عميق نافذ سجّلته أشعارهم المشحونة "بأشجان الغربة ووطأة الوحدة النفسية وقسوة الحرمان من أنس الأهل والدار"، حتى كانت معالم سلوكهم تطوي وراء الاستهانة بالحياة "سخريةً مريرةً بالحرية الفردية، وشعوراً عميقاً بالتمزُّق والضياع"، ورأت كذلك أن شعرهم لم يكن تجارة" بل كان مُتَنَفَّساً لشجنهم، وراحةً لقلوبهم المُضناة بالغربة"، وأنه كان – فضلاً عن ذلك كلِّه – صدىً لمغامراتهم المُستهينة بحياةٍ مُضَيَّعة "تنتهي – غالباً – بموتٍ في متاهة الفلاة بعيداً عن الأهل والأحباب"([2]).

ذلك أنها نظرت إلى الشعراء الصعاليك، مثلما سبقت الإشارة في الفصل السابق، على أساس أنهم (أو معظمهم) من الخُلَعاء وحدهم، وليسوا من الفئات الأخرى: الشذ‍ّاذ والأغربة السود والمتمردين على حياة الفقر أو على سلطة القبيلة وقيمتها.

أما إحسان سركيس فنظر إليهم من وجهة كونهم من فاقدي (التوافق الاجتماعي)، ومن ثم رأى في الموضوعات التي عبَّر عنها أولئك الصعاليك تصويراً للتحوّل من سلوك توافُقي مع مجتمعهم، إلى ما أسماه بـ"السلوك الصراعي" وأن شعرهم ينطوي في مُجمله "على موضوع ومنحىً نفسي يُجافيان مناحي وموضوعات القصيدة التقليدية "التي ظهرت في العصر السابق للإسلام"([3])، بينما رأى الدكتور مصطفى ناصف أنّهم جَسَّموا في أشعارهم وحياتهم موقف الحيوان في الصحراء، إذ مثلما "يصرع حيوانٌ حيواناً آخر أخذ الصعلوك يصرع في شعره أو حياته إنساناً آخر"، وهي – بلا شك – نظرة تحمل الكثير من التشويه للحالة الإنسانية التي بدا عليها أولئك الشعراء الصعاليك، وتجرّدهم من أية قيم اعتبارية أو أبعاد فكرية، سرعان ما نقضها بنفسه – بعد ذلك – إذ رأى في الشاعر الصعلوك ثائراً على الحياة، مُستهتراً ومفتوناً بها في الوقت نفسه، وأن عدوانه كان تعبيراً عن الخوف الرابض في أعماقه، لا بل إن أدوات القتال التي طال ذكر أولئك الشعراء لها، لم تكن إلاّ موضوعات يُسقِطون عليها تلك التناقضات، لأن الشاعر الصعلوك – في رأيه – كان "إذ يصِف صوت القوس الذي يرنُّ في سمعِه، فكأنه عنده هَمسات قوم يبحثون عن شيء فقدوه" وأنه وإن أبدى معنىً –ظاهراً- أقرب إلى اللامبالاة، فقد كان يخفي – باطناً- مبالاة عميقة، مثلما رأى أنّه بادّعائه الأنس إلى الوحشة إن ما كان يأنس "إنساً مُروَّعاً"([4]).

فالشاعر الصعلوك – بهذا التحليل – لم يكن يُجسّم موقف حَيوان الصحراء، ولم يكن يتصرّف بوحشية حيوانية مجرّدة من التفكير الإنساني العميق، لا بل إن هذه المشاعر النفسية المتناقضة التي حدّدها الدكتور ناصف بنفسه، تؤشر هذه الحقيقة ويكشف عنها كشفاً مُضافاً ما اختاره من أبيات ومقطعّات من أشعارهم، تأكيداً لما قال به عن ما يمكن أن نُسمّيه هنا "دواخل الكلمات" لا الظاهر المرئي أو المقروء منها.

ذلك أن الإبداع والبراعة والابتكار في شعر أولئك الشعراء الصعاليك، لم تكن تكمن كلُّها في الظاهر من أحاديثهم عن تلك الموضوعات، وما وصفوه من أحوالهم –في أشعارهم- في خلالها، وفي إغراقهم في إيراد التفاصيل الخارجية الظاهرة والمباشرة منها، بل تكمن في مواقفهم الفكرية والنفسية البعيدة الغور في أعماقهم، التي تُشكّل الأسباب والدوافع الحقيقية لإكثارهم من الحديث عنها، والإغراق في وصفهم لتفاصيلها، لا بل حتى دقائقها الصغيرة، في أحيان كثيرة.

عليه فالموضوعات الأبرز في أشعار طائفة الفتّاك من شعراء العصر الأموي، ربما تبدو أحياناً مترادفة مع الموضوعات التي اهتمّ بها وأبدع في تناولها – أكثر من سواها – أولئك الشعراء الصعاليك، وقد تبدو متماثلةً معها من حيث السطح الخارجي لهذه الموضوعة او تلك، لاسيما موضوعات التشرّد والحنين إلى الأهل والديار ولكنها تتباين معها أساساً بسبب اختلاف ظروف حياة الفريقين وطبيعتها وعواملها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. مثلما أوضحنا في الفصل السابق، ومثلما سيتّضح في هذا الفصل.

وثمة بين موضوعات هذه الطائفة من الشعراء ما هو جديد حقاً، من حيث مضامينُه الفكرية والموضوعية: ويحمل روح الإبداع والابتكار من هذا المنطلق، أي منطلق جدّة ظروفها وعواملها وانعكاسات تلك الظروف والعوامل على الشـعراء الذين تناولوها وأبدعوا فيها، فكراً وشعراً في الوقت نفسه.

ومن الأمور التي نرى ضرورة لفت الانتباه إليها –ابتداءً- إن هذه الموضوعات يدخل معظمها في إطار تعبير الشعراء عن أحوالهم الذاتية، وأن ما يتحدث منها بمنطق الجماعة قليل فيها، وقد جعل هذا الأمر من أشعارهم متميزة بالإغراق في إطلاق (الأنا) بدلاً من الـ(نحن)، والإغراق – من ثم – في نقل الكوامن النفسية (الشخصيّة) والحديث عنها بخصوصية تامّة. وهذان الأمران يشيران إلى أن هؤلاء الشعراء كانوا معنيين في الغالب بأشخاصهم وحدهم، إذ قلّما نقلوا صوراً عن أحوال (جماعيّة)، ولم يُعَنوا إلاّ قليلاً بتصوير حالات وأوضاع خارجية كتلك التي برزت لدى الشعراء الصعاليك السابقين، مثل: وصف المغامرات أو المَراقب أو الأسلحة، أو الحديث عن تزعُّم مجموعات وسرعة العَدْو … الخ.

ولأن هؤلاء الشعراء كانوا معنيّين بما يدور في أعماقهم – في الغالب-، وبما يدور من حولهم ثانياً، فقد اتسّمت أشعارهم بالإفصاح عن الأحاسيس والمشاعر الفكرية والنفسية، في موضوعات قابلة لحمل هذه الأحاسيس والمشاعر، يمكن تحديد الأبرز من بينها، على وفق ما يأتي :

التشرد والخوف: ويدخل ضمن هذه الموضوعة الحديث عن حياتهم في الفلوات والقفار ومصاحبتهم لحيواناتها، والأنس إلى وحوشها المعروفة أو حيواناتها الأسطورية (الغول والسعلاة) مثلاً، وما أدى إليه ذلك من إحساس بالاغتراب عن الآخرين، سواء عَبر الوصف أو التعبير عن حالة فكرية ذات صلة بهذه الحياة.

الحنين إلى الأهل والأحباب: حيث ذكر القبيلة والديار والحبيبات، وما يمثّلها من رموز مختلفة (الأرض والآبار والنخل … الخ)، وعن الأحوال الذاتية من كرَم وشجاعة وشوق ولهفة، وحيث رثاء النفس والغير والألم النفسي جَراء النأي عن تلك الحياة الحافلة بالعلاقات الإنسانية الحميمة.

عذابات السـجن: ويدخل ضمنها الحديث عن المواقف الفكرية المباشرة، وعن روح التمرّد والشكوى من ظروف السجون ومتاعبها، ووصف للسجون وما تحمّلوه من ثقل قيودها، وما عانَوه من أشكال المعاملة القاسية في داخلها، فضلاً عن حنينهم إلى حياتهم السابقة وهم بين جدرانها.

الإيمان والحكمـة: ويدخل في إطارها الحديث عن أثر العقيدة الدينية وانعكاساته في أشعارهم، وما أدى إليه هذا الأثر من تحوّلات في داخل أعماق نفوسهم، وفي فكرهم كالتأمل في شؤون الحياة، والحكمة التي استخرجوها منها، فضلاً عن طلب العفو والمغفرة من الخالق سبحانه وتعالى، والرضا بقضائه فيهم.

الاعتداد بالنفس: حيث التماسك الفكري والنفسي، وحيث الزهو بالنفس والفخر بها، بالرغم من جميع الظروف والأحوال الصعبة التي واجهوها، وهو – أي الاعتداد – بمثابة الخلاصة العامة التي مثّلت شخصيّاتهم الحقيقية في عصر تعدّدت فيه العوامل الضاغطة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية وانعكاساتها الفكرية الشديدة الوطأة – أحياناً – على بعضهم .

وسنتناول بشيء من التفصيل ما يتعلق بكل موضوع من هذه الموضوعات، بالرغم مما تُظهره هذه الموضوعات من تداخل يبدو من خلال أشعارهم في الغالب، سواء من منطلق الوحدة المضمونية والفكرية، أو من تعدّد الموضوعات الفرعية داخل الرؤية الفكرية الواحدة التي تنطلق من إدراك واعٍ مقصود بذاته، لتمثُّلِ أشعار مَنْ سبقهم من شعراء العصر السابق للإسلام، واتباع الصيغ التقليدية للقصيدة العربية، التي كانت ما تزال قريبة العهد منهم من جهة، وتُشكّل الأنموذج المكتمَل في تاريخ الشعر العربي، حتى العصر الذي ظهروا فيه، من جهة ثانية.

1- التشـرُّد والخَـوف
كان التشرد في الفلوات والقفار أشبه ما يكون بالحالة الطبيعية التي عاشها الشعراء الفُتاك في العصر الأموي، شأنهم في ذلك شأن مَن سبَقَهم من الشعراء الصعاليك في العصر السابق للإسلام، من حيث طبيعة الحياة وظروفها، ومن حيث النظر إلى مكان العيش شبه الدائم، إلاّ في حالات معينة، وما عكسته طبيعة الحياة والمكان على موضوعاتهم فكراً ومضموناً.

بيد أنه في حين كان الشعراء الصعاليك في العصر السابق للإسلام يتخذون من الفلوات والقفار مواقع لمغامراتهم من أجل كسب قوتهم اليومي، بالوسيلة الوحيدة التي احترفوها، أي السلب والنهب والإغارة على أموال الآخرين وتجارتهم، كان الفتّاك قد عاشوا حياة التشَرد والتأبّد لأسباب أخرى ليست ذات عميق علاقة بكسب العيش وحده، بل بظروف يرجع بعضها إلى الحياة الاقتصادية والاجتماعية أو السياسية للعصر الأموي وما بدأت تتشكل فيه من بوادر متغيّرات كبيرة الأثر في سكان المنطقة التي عاش هؤلاء الشعراء في رقعتها الجغرافية.

إن الشعراء الذين تحدثوا عن تشرّدهم في الفلوات ومصاحبتهم لحيوانها الأليف، والمتوحش، لا بل حتى الأسطوري، على سبيل المثال لا الحصر، هم: القتّال الكلابي، والسمهري العكلي، وجحدر العكي، وعبيد بن أيوب العنبري، و الأحيمر السعدي، وقد التقى أغلبهم على ارتكاب الجنايات (الفتك) أو (السرقة)، مما استدعى منهم الهروب إلى القفار والفلَوات. وفي هذا الاختلاف الرئيس في العوامل والدوافع الداعية إلى التشرّد، ما يؤسس موطئ قدم للانتقال إلى حيث معالم الإبداع المضموني والفكري في هذه الموضوعة.

فهذا (القتّال الكلابي) يدعو الله تعالى إن يجزي (عماية) وهي مجموعة هضبات متتابعة أو جبل من أضخم جبال البحرين، خير الجزاء لأنها آوته وآوت أمثالـه من المُطارَدين، فيقول :

جزى الله عنّا والجزاءُ بكفِّه

عَمايةَ خيراً، أُمَّ كُلِّ طريدٍ

فلا يزدهيها القومُ إن نَزلوا بهــا

وإن أرســلَ السُلطانُ كلَّ بريدِ ..([5])


ويقول في قصيدة لـه يذكر فيها طلب الخليفة (مروان بن الحكم) إيّاه بعد هربه من السـجن :

"أيُرسِلُ مروانُ الأميرُ رسالة

لآتِيَهُ إني إذنْ لَمُضَلَّلُ

وما بيَ عصيـانٌ ولا بُعْدُ منـزلٍ

ولكنني من خوفِ مروان أُوجَلُ…"([6])


وهذا يعني أن تشرُّد (القتّال) لم يكن عصياناً ولا تمرُّداً على السلطة، ولكنه تشرُّد الهارب من يد السلطان وممثّليه لجنايةٍ جناها، خوفاً من العقوبة التي تنتظره، فهو يهاب السلطة ويهرب منها ويرضى بتشرده في (عَماية) التي ينظر إليها نظرة الولد البار بأُمّه - هو وأمثاله من المُطارَدين - إذ أصبحت القلب الحنون والحضن الدافئ الذي لجأ إليه، فحمته من العقوبة واستحقت دعاءَه لها بالخير، شأنها شأن أُمّه الحقيقية التي ابتعد عنها مُضطراً .

وعلى غرار (القتّال) في التشرّد والخوف كان حال (السمهري العكلي) الذي يقوده بأسه وخوفه من الوقوع في يد السلطان إلى مساءلة صاحبَيه في الجناية التي جناها عمّا يُقرّران بشأن تشرُّدهم معاً، وقد أحسَّ بقرب وقوعه في أيدي مُطارديه، فيقول:

"أقول لأدنى صاحبَيَّ نصيحةً

وللأسمرِ المِغوار: ما تَريانِ ؟

فقال الذي أبدى لي النُصحَ منهما

أرى الرأيَ أن تجتاز نحو عُمانِ

فإن لا تكـنْ فـي حاجبٍ وبـلادِه

نجاةٌ فقد زلَّتْ بكَ القَدمـانِ …"([7])


فهو هنا يسأل "أدنى" صاحبيهِ، وليس كليهما، ويسأل - بعدَه - صاحبَه الآخر (الأسمر) عمَا ينبغي أن يفعلوه، وقد ضاقت عليهم الأرض، وكان بينهما من أبدى النصح - وهذا صاحبٌ حقيقيٌ لـه - أن يجتاز نحو عمان، حيث يوجد (حاجب) وهو آخر أمل للنجاة من يد السلطة التي تطاردهم، مُمثَّلة بأفراد الشرطة أو حتى أبناء القبائل الذين يتعاونون معها، رغبة في الحصول على الجعالة (المكافأة).

أما (جحدر بن معاوية العكلي) اللص المتشرّد أصلاً، مثلما تراه المصادر وتذكره، فقد أبدع حقاً في نقل ما كان يجيش في أعماق عقله وروحه من مضامين فكرية تشير إلى حقيقة لصوصيته، وإلى حقيقة ما يُفكّر به من أمر تشرُّده واتّباعه السرقة سبيلاً للحصول على ثيابه - من بين حاجاته المعيشية - فهو يقول:

"وإنَّ أمرءاً يعدو وحجرٌ وراءَه

وجَوٌ ولا يغزوهما لضعيفُ

إذا حُلّـةٌ أبليتُهـا ابتعـتُ حُلّـةً

كساني بهـا طوعُ القيادِ عليفُ…"([8])


فهو يرى من الضَعف ألاّ يغزوَ (حَجراً) و(جوّاً) وهما وراءه مثلما يرى أن الحُلّة (اللباس) التي تبلى يمكن تعويضها من خلال ناقته المُطيعة، التي تستطيع أن تبلغ به المكان الذي يجد الملابسَ البديلة فيه، وهو يرى في السرقة عمليةَ (ابتياع) - أي مشروعية - يرتضيها ما دام يصل إلى حاجته بوساطة ناقته، وهذه فكرة ترتبط بالحلال والحرام برباط فكري وضعه هذا الشاعر لنفسه خلافاً للتقاليد المعروفة. فالناقة المُطيعة تكفيه مؤونة ما يحتاج إلى شرائه، وهي فكرة انفرد بها هذا الشاعر عمَّن سواه، إذ يمكنه أن يكتسي بالجديد من الثياب من خلالها بالسرقة التي يُسميها (الابتياع) !

ويبدع (جحدر) نفسه في رسم صورة دقيقة لرفاق رحلة لصوصيته، وقد انقضى عليهم الليل وهم على ظهور إبلهم، وقارَب الصبح من الانبثاق، فيقول:

" وركب تَعادَوا بالنُعاسِ كأنّما

تساقَوا عُقاراً خالطتْ كلَّ مفصلِ

سريتُ بهم حتى مضى الليلُ كلُّه

ولاحتْ هوادي الصُبحِ للمتأمّلِ

وقالوا وقد مالتْ طُلاهُم من الكـرى

أنِخْ إنها نُعمى علينا، وأفضلِ.."([9])


فلقد أخذ النعاس من رفاقه مأخذا كبيراً، لكنه هو نفسه لم يكن على شاكلتهم فهو في حالة تيقُّظِ بالغِ وأكثر، إذ رأى "هوادي الصبح" بعين المتأمل، أي المشغول الذهن بالتفكُّر في شأنِ من شؤونه، دلالة على أنه لم يكن مجرّد لص - كرفاقه - يمكن أن ينال منه التعب وطول السرى، وهي صورة نحسب إن (جحدراً) هذا عبَّر فيها خير تعبير عن حالته النفسية والبدنية المتينة المتوافقة مع لصوصيته وفلسفته فيها.



وعلى العكس من (جحدر) بدا الشاعر (عُبيد بن أيوب العنبري)، الذي تشرّد بسبب الجناية التي جناها، وصار بسببها طريد السلطة، والذي أبدى من مشاعر الخوف والهلع في شعره، ما يعكس حالةً شخصية ونفسية نادرة في غرابتها، ويكاد (العنبري) يتفرّد بين شعراء هذه الطائفة في التعبير عنها، وفي التعبير كذلك عن الأنس بالحيوانات، أليفها ووحشيّها، لا بل كان أبرز من سجَّل علاقته الحميمة مع الحيوانات الأسطورية (الغول والسعلاة).

إنه - مثلاً - يُلخّص تشرُّدَه وشدّة خوفه وعلاقته بحيوانات القفر، فيقول:

"وساخرةٍ مني ولو أن عينَها

رأتْ ما أُلاقيه من الهَوْلِ جُنّتِ

أزَلٌ وسِـعـلاةٌ وغـولٌ بقَفـرةٍ

إذا الليـلُ وارى الجِنَّ فيـه أرنَّتِ"([10])


فهو يلاقي الهَول مما يلاقي وسط الصحراء المقفرة، ويزيد من هَولِه تصايُح الذئاب والسعالى والغيلان، بعد أن يتوارى الجِنُّ في الليل الموحش، فهو وهذه الحيوانات في رفقة مع ليلٍ حتى الجن تتوارى فيه وتبتعد عن صحبته، ومن ثم فقد أراد (العنبري) أن يؤكد للساخرة منه، مدى تماسُكِه النفسي والعقلي في موقفه المرعب ذلك .

بيد أنه لابد من الإشارة إلى أن عدداً من الشعراء الصعاليك، ومنهم تأبَّط شرّاً والشنفرى، من العصر السابق للإسلام، ومن الشعراء الفتّاك وأشباههم اللاحقين في العصر الأموي، كانوا قد طرقوا موضوعة مصاحبة الوحوش من الحيوانات والأليفة منها، فضلاً عن مصاحبة الجن، في أشعارهم التي وصل منها ما وصل وذاع، وإن لم يُناظروا هذا الشاعر مناظرةً تامة في عرضهم لأحوالهم الفكرية والنفسية في هذا المجال([11]).

فالعنبري - في شدّة خوفه من الأنْس - أنِسَ إلى حيوانات الصحراء أنساً يكاد يكون بديلاً عن كل ما لـه صلة بالبشر إذ يقول مثلاً:

" وحالفتُ الوحوش وحالفتْنـي

بقُربِ عُهودهِنَّ وبالبعـادِ"([12])




يُعبّر في أبياتٍ آُخَر لـه عن هذا الخوف - حدَّ الفَزع- من أي ناظرٍ نحوه من البشر، فيقول:

"لقد خِفتُ حتى خِلتُ أن ليس ناظرٌ

إلى أحدٍ غيري فكدتُ أطيرُ

وليـس فـمٌ إلاّ بسـري مُحـدَثٌ

وليـس يـدٌ إلاّ إلـيَّ تُشيـرُ"([13])


لا بل بلغ به الهلع حدّاً جعله يخاف حتى إن مرّت به حمامة - على الرغم من وَداعتها - لأنه يرى فيها عَدوّاً أو طليعةً من طلائع البشر، فهو يقول:

"لقد خِفتُ حتى لو تمرّ حمامةٌ

لقلتُ عدوٌّ أو طليعةُ معشرِ"


وإذ يصف حالّه في أبيات أُخَر من هذه المقطعّة، بأنه أصبح كالوحشي يتبع القفار الخالية الموحشة، ويترك البلاد المأنوسة المخصبة، ويلخّص في بيتها الأخير مقدار شكّه وريبتهِ من كل ما حوله، فيقول:

"إذا قيلَ خيرٌ قلتُ هذي خديعةٌ

وإن قيلَ شرٌ قلتُ حقٌّ فَشَمّرِ"([14])


وثمة في أشعار (العنبري) الكثير من الصور والمعاني والمضامين الفكرية الفريدة، التي جسَدت مشاعره النفسية والعقلية الواضحة التناقض، في إبداء التماسك والوعي الدقيق بظروفه وأحواله من جهة، وفي إبداء الخوف الشديد من كل ما حوله من جهة ثانية مما يقرّبه من المجانين لا الأسوياء.

يتّضح مما تقدّم أن موضوعة (التشرّد والخوف) في أشعار هذه الطائفة من شعراء العصر الأُموي، أظهرت جديداً مبتكراً من الناحية الفكرية والموضوعية، لأنها عبّرت عن شؤون وأحوال وظروف لم يَعهدْها السابقون الذين عاشوا حياة التشرُّد في القفار والفلوات - لأي سبب كان - في العصر السابق للإسلام تحديداً، وهي شؤون وأحوال وظروف كانت جديدة تماماً على الشعراء، لأنها كانت جديدة على المجتمع العربي في عصر التحوّلات المتسارعة والمتشابكة، وفي مرحلة مهمة من مراحل تاريخ الأدب العربي المتعاقبة.

2- الحنين إلى الأَهل والأَحباب
بالرغم من اختيار عدد من الشعراء الفتّاك لحيوانات الصحراء أهلاً لهم يأنِسون إليها من دون بني البشر، فإنهم ظلوا ينزعون إلى أهلهم وأحبّائهم، قبائلَ أو نساءٍ معيّنات أو نخلٍ أو آبار بعينها، مدفوعين بالحنين إلى حياتهم التي عاشوها قبل التشرُّد في الفلوات، وإلى تذكّر ما كانت عليها شِيَمُهم من الكرم وإقراء الضيف، ومن مواقفَ شجاعةٍ في مواجهات ونزاعات مختلفة، ومن علاقات عاطفية انتهت كلُّها - أو كادت - نتيجةً لتشرُّدهم من جانب، أو لوقوعهم بيد السـلطة وممثليها على اختلافهم وما أدى إليه من دخولهم السجون، من جانب آخر .

إن موضوعة الحنين هذه ستحاول الاقتراب من هذين السببين الرئيسين: التشرّد والسجن معاً، وما عكساه من مشاعر حنين طاغية عبْر أشعارهم، لاسيما أن السبب الثاني منهما يختلف عن السبب الأول من نواحٍ عدة، منها أنه كان جديداً في الحياة العامة أصلاً، وأنه لم تكن وراءه دوافع اجتماعية واقتصادية حسب، كاللصوصية مثلاً، بل كانت هناك دوافع سياسية أيضاً، في حين كان السبب الأول - أي التشرّد - يكاد يُماثل في سطحه الخارجي ما عاشه الشعراء الصعاليك وغيرهم من الشعراء، في العصر السابق للإسلام.

ولا نغالي إذا أقررنا بأن (يائية) مالك بن الريب الشهيرة التي رثى بها نفسه في غربته، من أبرز النصوص الشعرية المُعبّرة عن حنين الشاعر الطاغي إلى أهله وأحبائه، وإلى أرضه وأشجارها، وإلى جميع ما لـه صلة روحية وفكريّة في أغوار نفسه ودواخلها، وفي آفاق فكره الذي ما كانت مهنة اللصوصية التي ألحقت به لتُخلخِل شيئاً منها.


--------------------------------------------------------------------------------

([1]) الشعراء الصعاليك: 180-227.

([2]) قيم جديدة: 43-45 .

([3]) مدخل إلى الأدب الجاهلي: 209 وما بعدها.

([4]) دراسة الأدب العربي: 295-298 وما بعدها.

([5]) القتال الكلابي، ديوانه: 45 - عماية: جبل عظيم أو مجموعة هضبات، يزدهيها: يستخفّون شأنها.

([6]) م. ن : 77 .

([7]) شعراء أموين: 1/145 - حاجب: هو حاجب بن خشينة العبشمي.

([8]) م.ن: 1/178. (وفي: أشعار اللصوص …: مج1 /189 (يغدو) بدل (يعدو) مع إشارة في الهامش إلى أن ورودها بالعين المهملة تصحيف، و(حَجر) و(جو): من نواحي اليمامة.

([9]) شعراء أمويون: 1/179 - طُلاهم: أعناقهم. (وأيضا :267 مطوّلة (الخطيم) المناظرة موضوعةً وزناً وقافية).

([10]) شعراء أمويون : 1/209 - أرنَّت: صاحت.

([11]) الشعر والشعراء: 1/176 وما بعدها (بالنسبة لتأبط شرّاً)، والأغاني: 18/210 والأغاني:21/141 (بالنسبة للشنفري).

([12]) شعراء أمويون: 1/211 .

([13]) شعراء أمويون: 1/214 .

([14]) م. ن: 1/216 .


يتبـــــع

ابومحمد الشامري
12-07-2005, 06:40 AM
الفصل الثالث: البِنيَة الفنيَّة في شِعر الفُتّـاك
نشير في مفتتح هذا الفصل إلى قيامنا بدراسة ما يتعلق بالبنية الفنية الخارجيّة لأشعار طائفة الشعراء الفتّاك أولاً، وإن كنا متيقنين من أنه لا ينبغي الفصل بين البنيَتين الخارجية والداخلية للشعر عند دراسته، وعليه فقد آثرنا هذا التقسيم من أجل الوقوف أولاً على ما يشكل قواعد البنية الخارجية قبل ولوج الفصل التالي. وهذه القواعد تتمثل بـ:

1-الخصائص الشكلية لبناء أشعارهم، أو بنائها الخارجي.

2-البنية الموسيقية لأشعارهم، من حيث الأوزان والقوافي .

3-والبنية الموضوعية العامّة لأشعارهم، من حيث تلمُّس الوحدتين: العضوية والمضمونية فيها.

أولاً: الخصائص الشكليّة (الخارجيّة) للبنـاء
نستطيع أن نقرّر – ابتداء – إننا واجهنا المشكلة الرئيسة نفسها التي واجهَها قبلَنا من تصدّى لدراسة شعر الشعراء الصعاليك، الذين ظهروا في العصر السابق للإسلام، وكذلك مَنْ دَرَسَ عدداً من الشعراء المحسوبين على هذه الطائفة، تحت النعتَين: الصعاليك أو اللصوص، وغيرهما من النعوت التي تقدم الحديث عليها.

هذه المشكلة تتمثَّل بضياع الكثير من أشعار هذه الطائفة من الشعراء وتناثره، وعدم وصوله إلى أيدي مؤرخي الأدب العربي وجامعي الشعر ورُواتِه، أو ضياع ما صنَّفه بعض المؤرخين والرواة من كتبٍ ومصنَّفات، على شكل دواوين شعرية أو مجموعات لطوائف متخصصة، مثل كتاب (أشعار اللصوص وأخبارهم) لأبي سعيد السكري، الذي ذكره صاحب (خزانة الأدب)، وكتاب (السَّل والسرقة) للأسود الغندجاني، الذي ذكره صاحب (الخزانة) أيضاً وقال إنه عنده مع مصنّفات الغندجاني الأخرى([1])، وهناك أيضاً كتاب (اللصوص) الذي صنَّفه لقيط بن بكيّر المحاربي، والذي ذكره صاحب (الأعلام)، فضلاً عن عدد آخر من الكتب التي ضمَّت عدداً من شعراء هذه الطائفة، تحت نعت (اللصوص) عامَّة، مثل: (معجم البلدان) لياقوت الحموي، و(حماسة) أبي تمّام و (الحماسة الشجرية) لابن الشجري و(الحماسة البصرية) لصدر الدين بن أبي الفرج البصري([2]).

ولسنا معنيين هنا بذكر الأسباب التي أدت إلى ضياع ما ضاع من هذه الكتب – الثلاثة الأولى تحديداً – فهي أسباب يعود بعضها إلى حوادث الحرق والنهب والإتلاف التي تعرّضت لها خزائن الكتب في عاصمة الخلافة العباسية (بغداد) وعدد من المراكز الحضارية العربية والإسلامية، على أيدي الغزاة المغول وسواهم، لكننا نتّفق مع الدارسين السابقين على أنّ هذا الضياع أدّى إلى حيرتهم أمام معرفة (كم) أشعار هؤلاء الشعراء و (نوعِه)، لاسيما من حيث شكل بنائه الخارجي، مما أدى بهم إلى الاتفاق على نقطتَين رئيسَتَين، عندما لاحظوا شيوع ظاهرة: الأبيات المفردة والمقطعّات، وقلّة أعداد القصائد والمطوّلات في مجموع أشعارهم. هاتان النقطتان هما :

* إن ما وصل من أشعارهم (صعاليكَ وفتّاكاً ولصوصاً) ناقص بالأساس. ويشمل النقص جميع هذه الأنواع، رادّين السبب في ذلك إلى طبيعة حياة هؤلاء الشعراء حيث التشرُّد في القفار والفَلَوات، بعيداً عن مراكز المدن المهمة وحتى عن قبائلهم التي ينتمون إليها، فلم يكن هناك من يحفظ جُلَّ أشعارهم ويرويها.

* احتمال أن يكون ما وصل من أشعارهم، يمثل الجزء الأكبر منها، وأن تكون أشعارهم أصلاً عبارة عن أبيات مفردة ومقطعّات (ما بين البيتين والثمانية أبيات) إلاّ القليل من القصائد والأقل من المطوَلات، وأن ما ضاع منها لم يكن ليختلف عن هذا الذي وصل، ورأوا التسليم بهذا السبب، أو اجتهد بعضهم في تجميع ما أمكنه تجميعَه من أبياتهم ومقطعّاتهم المتفرقة في المصادر والمظان الأدبية والتاريخية، ومنها كتب اللغة ومعاجمها ومعاجم الشعراء والأُدباء، وكتب التاريخ ومعاجم البلدان المعروفة، التي احتفظت بجزء من أشعارهم ليس بالهيِّن، وتم الجمع اعتماداً على وحدَتَيْ الوزن والقافية، وعلى وحدة المضمون التي يمكن أن يحققها اجتماع الأبيات المفردة والمقطعّات بعضها إلى بعض([3]).

ولأن الغاية من هذه الفقرة، الوقوف بدقة على الخصائص الشكلية (الخارجية) لبناء ما تم جمعُه وتحقيقه من أشعار هذه الطائفة من الشعراء، فقد تمت الإفادة كثيراً وبصورة رئيسة من مجموع شعر عدد من هؤلاء الشعراء لدى الدكتور نوري حمودي القيسي، ومجموع أشعار الشعراء الذين ضمَّهم المجمعي السوري عبد المعين الملّوحي في موسوعته (أشعار اللصوص وأخبارهم)، وما ضمّه ديوان (القتّال الكلابي) الذي جمعه وحققه الأستاذ الدكتور إحسان عباس، فضلاً عمّا استدركه الدكتور القيسي على أشعار عدد من الشعراء الذين جمع أشعارهم وحقّقها ودرسها في كتابه المهم (شعراء أمويون).

ويبدو أن ظاهرة شيوع الأبيات المفردة والمقطعّات تتطلب التوقف عندها للسببين المذكورين ولأسباب أخرى سنحاول توضيحها قدر الإمكان.

لقد عزا الدارسون الأفاضل الدافع إلى انتشار المقطعات والقصائد القصيرة وشيوعها لدى صعاليك العصر السابق للإسلام، فضلاً عن السبَبين أو الدافعين اللَّذين سجلناهما آنفاً، إلى طبيعة حياة تلك الطائفة من الشعراء التي وصفها الدكتور خليف مثلاً بـ"القلِقة المشغولة بالكفاح في سبيل العيش"،عادّين هذا الدافع دافعاً رئيساً وراء هذه الظاهرة، ووراء ظاهرة أخرى هي " السرعة الفنية " وما تفرَّع عنها من "خفوت الصنعة الفنية " في شعرهم، وعدم ظهور أي أثر من آثار "التجويد الفني المتمهِّل الواضح الأناة " فيه، وخلُّوه من التنميق ومن أي مظهر من مظاهر "الحرفة" مشيرين إلى سبب غريب هو " عدم تفرُّغ" أولئك الشعراء للفن من حيث هو فن([4])، وهي - بمجملها - دوافع وأسباب تبدو غريبة وغير دقيقة .

وفي المقابل راح الدكتور خليف يعزو ظهور القصائد والمطوّلات في مجموع شعراء الصعاليك إلى أسباب ودوافع تستدعي المناقشة، إذ رأى أن ظهورها بمثابة أصداء لفترات قليلة كان الصعاليك يستريحون فيها من الكفاح في سبيل العيش ويفرغون عندها لأنفسهم ويستخرجون من رواسبها العميقة "فنّاً متأنّياً مطمئنّاً مطوّلاً مجوَّداً رائعاً ممتازاً‍‍‍ ‍([5]).

ولأن حياة أغلب الشعراء الفتّاك واللصوص تماثل إلى حَدٍّ ما - مع اختلافات مهمة سبق تبيانها - حياة أولئك الصعاليك، فسنحاول التوقّف عند هذه الآراء ومناقشتها.

إن ظاهرة شيوع المقطّعات والقصائد القصيرة وانتشارها في مجموع أشعار الفتَّاك، يعود جانب من أسبابها ودوافعها إلى ما وصل أوضاع من أشعارهم، وهذه الأسباب والدوافع ليست ما يستدعي مناقشة، لأنها أمر مفروغ منه، ومثلها طبيعة حياتهم التي توزّعتها القفار والفلوات والسجون، حيث جعلت الشعر بالنسبة لهم انعكاساً لأحوالهم، فهو يصدر عن استجابة آنية لهذه الأحوال وعن تلبية سريعة لحاجة نفسية ضاغطة، وليس عن التزام بقواعد البناء الشعري التي سادت في أمثلة الأشعار الذائعة الصيت، كالمعلّقات مثلاً، من وقوف على الأطلال أو بالغزل ثم الانتقال إلى اللوحات الأخرى المتتالية، وصولاً إلى الغرض المقصود لذاته مثلما ذكر الدكتور القيسـي([6]). ولكن أين مواضع الاختلاف مع الدارسين بشأن أشعار الفتّاك ؟ .

إنها تكمن في الحديث عن " نوع الشعر " بمقطّعاته وقصائده القصيرة ومطوّلاته معاً، التي اختلط على الدارسين الأفاضل النظر إليها، بين ما يتعلق بالحياة الاجتماعية من الأسباب والدوافع، وبين ما يتعلق بالفنّي من هذه الأسباب والدوافع.

ذلك أن الحياة " القلِقة المشغولة بالكفاح من أجل العيش " كانت سمة معظم شعراء العربية في جميع عصور الأدب العربي المتعارف عليه، وليس الشعراء الصعاليك وحدهم أو الفتّاك أو اللصوص من بعدِهم، وأن حياة القلَّةِ منهم كانت قد اتَّسمت بالاستقرار وعدم الانشغال بشؤون العيش ومن أجلهِ، وأن هذا الدافع الحياتي كان وراء معظم الشعر النوعي المميز الذي وصل عبر عصور الأدب العربية، منذ العصر السابق للإسلام حتى وقتنا الراهن.

من هذه الوجهة إذاً، يبدو أن هذا الدافع لم يكن وراء شيوع المقطّعات والقصائد القصيرة تحديداً، لأن هذه المقطّعات - بالبَيتين والثلاثة أبيات - بالنسبة إلى الفتّاك واللصوص من الشعراء، جاءت وافية بالغرض تامةَ المعنى في الأغلب والأعمّ، وقد قالها الشاعر منهم في لحظةٍ أو موقفٍ ما، تعبيراً عن تلك اللحظة أو ذلك الموقف، بعفوية وبساطة تامَّتين، ما دام لم يحتَجْ إلى قول الكثير أو المزيد. والعفوية والبساطة لا تعنيان - دائماً - وقوع الشاعر منهم في " السرعة الفنية " وما تفرَّع عنها من مظاهر سلبية حدَّدها الدارسون الأفاضل، بل إن هذه السرعة الفنية جعلتهم يوجزون، وهذا ما يؤكده الكثير من الأبيات المفردة أصلاً التي قالت ما أراد الشاعر قوله بلا مزيد.

أما من وجهة عدم صحة الرأي الذي قال به الدارسون الأفاضل، عن عدم تفرّغ أولئك الشعراء الصعاليك، مثلما ذكر الدكتور الشكعة، فالأمر يتماثل مع ما أشرنا إليه في السطور السابقة، بشأن دافع "الحياة القلقة"، إذ لم تكن إلاّ قلّة من الشعراء قد انصرفت في العصر الأموي إلى قول الشعر بدافع الحصول منه على مورد رزقٍ لها، عبر مدح الخلفاء والولاة أو حتى السعاة وعمّال الدواوين، أو عبر تبادل الهجاء والتهديد به، من أجل الحصول على مال في أحيان كثيرة.

أما بشأن قضيّة الصنعة أو الحرفة الفنية، فيمكن القول إن هذا العامل الفني ليس من العوامل اللازمة لقول شعرٍ يتمتع بطاقات إبداعية مميزة بالضرورة، إذ حتى الجاحظ الذي قدّم الصناعة في تعريفه للشـعر، فوصفه بأنه " صناعة "، سـرعان ما زاد على هذه الكلمـة فقال: "وضرب من النسج وجنس من التصوير([7])، مدركاً أن الصناعة وحدها غير كافية لإنتاج الشعر - أو قولـه - من جهة، ولأن المقصود بكلمة " صناعة " في الشـعر تحديداً، معرفة الشاعر - بتلقائية أولاً - شروط الشعر ومستلزمات بنائه الفنية، وفي مقدمتها: اللغة (ألفاظاً وتراكيب ونحواً) إلى غير ذلك مما يدخل في صميم اللغة واستخداماتها، فضلاً عن العروض وإيقاع المفردات التي يتشكَّل منها النسج المطلوب والتصوير، المُكمَّلين لقول البيت الشعري أو المقطّعة أو القصيدة، وهذا ما أشار إليه الإمام اللغوي (عبد القاهر الجرجاني) عندما ذكر: "أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة وأن سبيل المعنى الذي يُعبّر عنه سبيل الشيء الذي يقع عليه التصوير والصوغ فيه كالفضة والذهب، وعندما ذكر أيضاً في موضع تأكيده ضرورة عدم النظر إلى المواد الداخلة في صناعة النسيج أو صناعة الحلي ومَنْ استخدمها من الصُناع أو الصاغة، وإنما النظر " من جهة العمل والصنعة أي نتائج العمل النهائية، حتى لقد عبَّر عن ذلك بقوله: " ينبغي أن لا يُشتبه أن الشعر لا يختص بقائله من جهة أَنفُسِ الكِلم وأوضاع اللغة"، حتى يكون قصد واضح إلى صورةٍ أو صنعة([8]).

والصنعة يمكن أن تُحسِّن المعنى الشـعري - إذا اقترنت بعفوية الشاعر وتدفُّق أحاسيسه - فتُضيف إلى البيت المفرد أو القصيدة إمكانات جمالية، والعكس صحيح أيضاً، لاسيما إذا ما اعتمدها الشاعر أساساً في بناء صوره الشعرية والوصول إلى معانيه بقصدية، إذ قد تذهب بما هو مطبوع أو جاء من دون "تعمّل لـه واستعداد لإظهاره وإشهارِه" من الشعر([9])، أي بما صدر عن الطبيعة الإنسانية للشاعر أو السليقة، فيتحول قوله الشعري إلى المصنوع الذي يتعب الشاعر للوصول إليه على حساب عفويته.

أما قضية علاقة الراحة بظهور القصائد والمطوّلات، سواء في أشعار الصعاليك أم الفتّاك، وبالفن المتأني المطمئن … إلى آخر ما قال به د. خليف وهو يدرس الظواهر الفنية في شعر الصعاليك، فإنها - بقدر تعلُّق الأمر بهم وبطائفة الفتّاك، تشير إلى تناقض حاد مع ما قاله عن حياة أولئك الصعاليك وأسهب في تفصيله، من كونهم اتخذوا من السلب والنهب والإغارة حرفةً وحيدةً لكسب عيشهم. فمن كانت حياته كذلك لا يملك وقتاً للتمتُّع بالراحة وللإمساك بخيوط الشعر أو مادته الرئيسة لصنع القصائد والمطوّلات، فإذا أضفنا إلى ظروف الصعاليك ظروف العصر الذي عاش الفتّاك ضمنها، ومنها الظروف السياسية حيث الدولة وقوتها وقوانينها، وجدنا أن ظروف المطارَدة والملاحقة والتشرُّد غير المُستقر، تكفي وحدها لمنع هذه الطائفة من الشعراء من التمتُّع حتى ببعض فترات الراحة التي ربما كانت متيسرةً أمام بعض الصعاليك في العصر السابق للإسلام، أو بعض شعراء عصر صدر الإسلام، فما بالك بدخول السجون وتلقّي عذاباتها !

لقد تحوّلت المطارَدة إلى عمل لا تقوم به قبيلة واحدة - مثلاً - بل قسم مهم من دولة بخلفائها وولاتها وعمّالها وحرسها وشرطتها، ويقوم بها أفراد يتحمّلون مسؤولية مطاردة الفاتك واللص، بحكم ارتباطهم بسلطة الخلافة، أو بحكم الوازع الديني الذي يجعلهم يُطيعون أوُلي الأمر، عملاً بنص الآية الكريمة: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسولَ وأُولي الأمر منكم"(*)، أو رغبة في الحصول على الجعالة (المكافأة) التي خُصصَت للقبض على هذا الفاتك أو ذاك الخارب أو اللص، مثلما حصل لعدد من هؤلاء الشعراء، مثل: السمهري وجحدر والقتّال الكلابي، ومن ثم صار من المستحيل أن يكون هذا الدافع وراء ظهور قصائد هذه الطائفة ومطوّلاتها، ما دام لم يكن أصلاً وراء ظهور قصائد الصعاليك ومطوّلاتهم، ولم يكن وراء ظهور قصائد شعراء صدر الإسلام، مثلما نعتقد، ومثلما أوضحنا بشأن طبيعة أوضاعهم الحياتية والنفسية.

أما من الوجهة الفنية، فلم تمنع هذه الظروف الحياتية والنفسية، شعراء هذه الطائفة - أو عدداً منهم تحديداً - من إنتاج شعر تميّز بقيمته الفنية العالية، إذ عاشوا - من الناحية الحياتية - وظهر شعرهم في عصر مثَّل مرحلة مهمة من مراحل الزهو الأدبي وسيادة البيئة الشعرية العربية الكبيرة من جهة، وتميّز شعره بحضور "السيولة العاطفية التي كانت تنقص الكثير من الشعراء" ودفقه، في العصر السابق للإسلام من جهة ثانية، وكان لفعل ظروفهم النفسية أثرُه الكبير في إطلاق مشاعرهم الوجدانية ببساطة وسلاسة في استخدام اللغة، وفي التعبير عن العواطف والأفكار الإنسانية من دون إغراق في الرمزيّة، مثلما كان عليه شأن أغلب شعر العصر السابق للإسلام، عندما كانت السيادة للّوحات الطلليّة أو الغزلية، التي سرعان ما يتجاوزها الشاعر إلى لوحة الرحلة وتفاصيلها الدقيقة، قبل أن يخرج إلى غرضه الرئيس من القصيدة: المدح أو الرثاء … الخ([10]).

وفي هذا الصدد، نتفّق هنا مع الدكتور يوسف اليوسف على أن العصر الأموي كان أرقى المراحل في تاريخ الشعر العربي، لما مثَّله " من ذروة في نمو الشعر العربي وتحوّلاته"، عِبْر هيمنة الروح الوجداني الذي كان الشعراء يتقاسمونه مع مُتلقّيهم، فضلاً عمّا أضافته لغة القرآن الكريم وقيم الدين الإسلامي الحنيف ومبادئه إلى الحياة الاجتماعية والأدبية، ومن معالم وخصائص لغوية، إلى شعر هذا العصر عامة، وإلى أشعار هذه الطائفة من الشعراء.

ولا تفوتنا أيضاً الإشارة إلى ظاهرة "القصصيّة"، التي كان د. يوسف خليف قد ميّز بها شعر صعاليك العصر السابق للإسلام، وما لاحظه الأستاذ أيهم القيسي من مثل هذه الظاهرة نفسها لدى بعض شعراء عصر صدر الإسلام، من خلال دراسته لأشعارهم([11])، وهي الظاهرة الأسلوبية التي بدت إحدى السمات في أشعار هذه الطائفة من الشعراء، والتي ستأخذ حيّزها من البحث في الفصل التالي من هذه الدراسة.

إن هذه الظاهرة الفنية التي رأى د. خليف أنها وراء تسجيل الشاعر " كل ما دار في حياته الحافلة بالحوادث المثيرة "، تعني بحد ذاتها أن الأبيات المفردة والمقطّعات ما كانت لتستوعب التفاصيل السردية لتلك الحوادث، إذ يستدعي هذا السرد انثيالاً في الأفكار والمشاعر بدقّة وتفصيل، يتساوق وأسلوب السرد القصي الذي يتطلب - بين ما يتطلّبه - استمراراً في القص حتى نهاية الحكاية، مما يعني أن السرد كان من الدوافع الرئيسة لظهور القصائد والمطولات، ولم تكن "الراحة من البحث عن متطلبات العيش " هي الدافع الرئيس، أو من دوافع ظهور هذين النوعين من الشعر، لا في أشعار الصعاليك أولئك، ولا في أشعار هؤلاء الفتّاك، لاسيما أن أسلوب الحكاية أسهل حفظاً لدى المتلقّين من سواه من الأساليب.

من هذا كله يتضح أن المقطّعات والأبيات المفردة - على التوالي - شكلت ظاهرة مهيمنة من ظواهر البناء الفني الشكلي (الخارجي) في أشعار هذه الطائفة من الشعراء، وهي ظاهرة ترتبط أساساً بعاملّيْ: ضياع معظم أشعارها وطبيعة حياة شعرائها من جهة، وبعامل ثالث يتعلّق بالرواة ومؤرخي الأدب العربي، الذين أسهموا – من جهة ثانية – في ضياع جزء كبير من هذه الأشعار، لأسباب مختلفة قد يكون من بينها إيراد ما يتعلق بلصوصيّة عدد غير قليل منهم حسب، من دون الاهتمام بالجوانب الحياتية الأخرى التي كانت تظهر في أشعارهم، بينما اضطر المؤرخون والبلدانيون إلى الإفادة من البيت أو البيتين من هذه القصيدة أو تلك المطوّلة، ومثلهم فعل اللغويون وأصحاب المعاجم، لأنهم قصدوا إلى الاستشهاد اللغوي أو الجغرافي أو التاريخي بالبيت أو البيتين، من دون عناية بالقصيدة أو المطوّلة أدنى اهتمام، لأن مناهجهم كانت تقتضي عليهم الاعتماد على الشعر بصورة ثانوية، لتأكيد حادثةٍ أو واقعة أو تعيين مكان أو موضع قبيلة وهكذا، الأمر الذي أدى إلى طمْس أغلب أشعارهم، وجعل أخبارهم التي تروي هذه الأشعار "تتهاوى في زوايا النسيان وتغور في أودية الضياع والتغافل، على حد تعبير الدكتور نوري القيسي([12]) .

أما القصائد والمطوّلات التي وصلت ضمن مجموع أشعار هذه الطائفة، فلا تكاد تشكل شيئاً إلى هذا المجموع، مثلما يوضّح الجدول الإحصائي اللاحق (الملحق/1).

ذلك أنه بينما شكلت المقطّعات نسبة تقرب من (55%) من المجموع الكلي لهذه الأشعار، بحسب ما جمعه الدكتور القيسي منها، وتزيد عليها لدى الأستاذ عبد المعين الملوّحي، مضافاً إليه ما جمعه الدكتور إحسان عباس من شعر (القتّال الكلابي)، شكّلت الأبيات المفردة نسبة تزيد على (28%) لدى الدكتور القيسي، وتقل عن (20%) لدى الملّوحي، ولم تشكّل القصائد إلاّ نسبة تتراوح بين ما يزيد على (9-14%) وأقل منها نسبةً ما شكّلته المطوّلات.

وهذا يعني – باختصار – أن الهيمنة كانت للمقطعّات من حيث البنية الشكلية الخارجية للأشعار، تليها الأبيات المفردة فالقصائد فالمطوّلات، وللأسباب والعوامل التي تقدّمت.

2- البنية الموسيقية الخارجية
تمثّل البنية الموسيقية الخارجية، ممثّلةً بأوزان الشعر العربي أو بحوره، الجانب الثاني من جوانب البنية الفنية الشكلية للشعر العربي، وإحدى أبرز خصائصه في هذا المجال، لاسيما بارتباط هذه الأوزان بالقوافي، الأمر الذي جعل ناقداً قديماً مثل قدامة بن جعفر، يلجأ إلى تعريف الشعر بأنه " كلام موزون مُقَفّى يدلّ على معنى "، بحيث قدم الوزن والقافية على الدلالة المعنوية المطلوبة([13])، وجعل ناقداً آخر هو حازم القرطاجني يرى أن " الأوزان مما يتقوّم به الشعر ويُعَدّ من جملة جوهره "([14]) .

لقد كان هذا الجانب من جوانب البنية الفنية الشكلية (الخارجية)، لدى شعراء هذه الطائفة مترادفاً مع ما ظهر منه في أشعار من سبقهم، لا بل إن هؤلاء الشعراء تماثلوا تماماً مع الشعراء الصعاليك في العصر السابق للإسلام، من حيث هيمنة البحر (الطويل) على أوزان أشعارهم، يليه البحر البسيط ثم البحر الوافر فالبحر الكامل، على التوالي، مثلما ظهر هذا واضحاً من خلال عملية الإحصاء الأوليّة، التي أجريناها على مجموع هذه الأشعار، وبحسب الأعداد والنسب المئوية التي يظهرها الجدول اللاحق (الملحق/2).

إن مجموع النصوص الشعرية (الأبيات المفردة والمقطّعات والقصائد والمطولات مجتمعةً) تراوح عددها في البحر الطويل، بين (197-206) نصاً بحسب ما جمعه كل من الدكتور القيسي والأستاذ الملّوحي، أي ما يزيد قليلاً على (59-65%) من نسبة مجموع هذه النصوص، بينا بلغ عدد نصوص الأشعار التي جاءت على البحر البسيط بين (44-40) نصاً، أي بنسبة تزيد على (12,5%) فقط، وكان نصيب النصوص الشـعرية التي جاءت على البحرين: (الوافر) و (الكامل) أقل من ذلك بكثير، وبنسـب مئوية أكثر ضآلة من نسبتَيْ البحرين: الطويل والبسيط المئويتَين المذكورتين آنفاً.

ويتضّح من الجدول الإحصائي أيضاً، أن الشاعر (عبيد الله بن الحر) كان أكثر الشعراء المختارين استخداماً لهذا البحر المهيمن الأول (الطويل)، إذ كان مجموع النصوص الشعرية التي جاءت على هذا البحر (41) نصاً، وقاربه فيه الشـاعر (المرّار الفقعسي) بعدد بلغ (40) نصاً – بحسب ما ورد لدى الدكتور نوري القيسي – ثم تلاه الشاعر (القتّال الكلابي) بمجموع بلغ عدد (27) نصاً شعرياً، وتلاه الشاعر (العنبري) بمجموع بلغ عدد (23) نصاً شعرياً، مثلما يتضح أن (المرّار) كان الأكثر استخداماً كذلك للبحور الثلاثة: البسيط والوافر والكامل.

فإذا اتفقت الدراسة مع ما سبقها إلى دراسة بحور الشعر العربي وأوزانه، على أن البحر الطويل "أملأ للفم والسمع وأعظم هيبة([15])، وأنه يتصف "برحابة الصدر وطول العنان "، فضلاً عن كونه أعمَر البحور بالنغم و "أصلحها للكلام القوي الجزلْ "([16])، وأنه أنسب البحور وأصلحها لمعالجة الموضوعات " التي تتميز بالجد والعمق، كالمفاخرة والمناظرة والمهاجاة([17])، وكذلك القدرة على احتضان الصرخات الإنسـانية الموجعة، التي " كانت تتعالى في نَفْس الشاعر"، مثلما لاحظ ذلك الدكتور القيسي على مجموع أشعار (السمهري) الذي جاء كله على هذا البحر، وقد عزا ذلك إما إلى ضياع معظم شعره أو قدرة هذا البحر على احتواء أحاسيس الشاعر المهمومة اليائسة ([18])، كان طبيعياً أن تكون لهذا البحر الهيمنة – بدوره – في أشعار كل من: الخطيم المحرزي وجعفر بن علبة وعطارد بن قرّان.

وكان البحر البسيط هو البحر المهيمن الثاني، وكان (المرّار) على رأس قائمة الشعراء في استخدامه لهذا البحر، تلاه الشاعر (جحدر بن معاوية)، بينا توافق كل من: مالك وابن الحر والقتّال، في عدد النصوص الشعرية التي استخدموا فيها البحر البسيط .

فإذا كان هذا البحر قريناً للبحر الطويل من حيث كونه من أعمر البحور بالنغم، وأنه أخفّ انفعالاً من الطويل " لوجود بقية من النغم المتأتي من تفعيلة (مستفعلن) التي تألفها في الرجز "([19])، فضلاً عن كونه " يجود بكل ما لـه صلة بالشجن"([20])، فقد استخدمه هؤلاء الشعراء – شأن مَنْ سبقهم – للتعبير عن حالتيْ العنفِ واللّين المتناقضتَين في نفوسهم: المفاخرة والتحدي من جهة، والتردد والحزن والرغبة بالتوبة من جهة أخرى.

ويرادف البحر البسيط من حيث صلاحيته لنقل المشاعر المتناقضة ما بين الغضب الشديد والرقّة المتناهية، البحر الوافر الذي يمتاز بتدفق مقاطعه الصوتية وبتلاحُق أجزائه، فهو يتميّز " بوقفة قوية سرعان ما تُتبع بإسراع متلاحق "([21])، مما جعله صالحاً للتعبير عن حالات الافتخار والغضب والحنين في وقت واحد، وقد أكثر من استخدامه كل من: مالك وابن الحر والعنبري والقتّال، وكان (المرّار) الأكثر استخداماً لهذا البحر قبل هؤلاء، وجاء بعدهم في نسـبة استخدامه كل من: العُديل وطهمان .

ثم جاء استخدام هؤلاء الشعراء للبحر الكامل في المرتبة الرابعة، وهو يرادف البحر الوافر من حيث تماثل تفعيلاته (مستفعلن)، إذ يتألف من تفعيلة (متفاعلن) ثلاث مرات، فهو من البحور البسيطة بحسب (ابن السرّاج الشنتريني) ([22])، لهذا السبب بالذات، وهو من أكثر البحور جَلجلة لكون تفعيلته من النوع الجهير الواضح الذي " يهجم على السامع مع المعنى والعواطف، فضلاً عن قدرته على الجمع بين حالات التغنّي والتنفيس عن اختلاجات النفس المتألمة الحزينة([23]).

يتضح من هذا أن (المرّار) كان أكثر الشعراء المُختارين استخداماً لهذا البحر، وتلاه كل من: القتّال والعُدَيل وجحدر من حيث عدد النصوص الشعرية التي ظهرت في أشعارهم على البحر الكامل.

إن شعراء هذه الطائفة كانوا يكثرون من استخدام البحور والأوزان الشعرية الطويلة، وهي الأوزان والبحور التي كانت أكثر شيوعاً واستخداماً في أشعار الشعراء الذين سبقوهم، مثلما أشار إلى ذلك الدكتور شكري عيّاد، إذ ذكر أن ثمة أوزاناً أربعة " قيل فيها أكثر من أربعة أخماس ما أحصي من الشعر وهي: الطويل والكامل والوافر والبسيط "([24])، ومثلما أشار الدكتور محمد عوني عبد الرؤوف إلى كون الشعراء نظموا في هذه الأوزان الأربعة " أكثر من ثُلثي قصائدهم أو ثمانين في المئة على التحديد "([25])، لأنها البحور الأقدر على استيعاب المعاني والصور والتفاصيل السردية، التي كان الشعراء العرب يطلقونها في أشعارهم، وهي أمور حفلت بها أشعار هذه الطائفة من الشعراء أيضاً.

أما عن القوافي المهيمنة في أشعار هؤلاء الشعراء، فقد ظهر من خلال الجدول الإحصائي الأوّلي الذي وضعناه (الملحق/3)، أن مجموع النصوص الشعرية التي جاءت على قافية (الرّاء) لها الهيمنة الأولى، وتراوحت بين (21% - 24%) بحسب مجموع أشعار هؤلاء الشعراء لدى كل من الأستاذ الملّوحي والمرحوم الدكتور نوري القيسي، على التوالي، وكانت (الراء) المكسورة أكثرها هيمنة من بين الحركات الأخرى. وقد بلغ عدد النصوص الشعرية التي وردت على قافية (الراء) ما بين (61 – 91) نصّاً، بحسب روايتَيْ الأستاذ الملّوحي والمرحوم القيسي، بينما جاءت قافية (اللام) بالمرتبة الثانية، وجمعت عدداً تراوح بين (63-67) نصاً شعرياً، وبلغت نسبتها المئوية أكثر من (20%) إلى المجموع الكلي، وبغلبة واضحة لحركة الكسرة أيضاً، ثم كانت الهيمنة الثالثة لقافية (الباء) التي بلغ مجموع نصوصها عدداً تراوح بين (46-49)، وبنسبة مئوية لم تتجاوز الـ(17%)، وبغلبة لحركة الضم هذه المرة.

أما القافية المهيمنة الرابعة فكانت (الدال) وجمعت من النصوص الشعرية (41) نصّاً، بلغت نسبتها (10%) وماثلتها قافية (الميم) في نسـبتها المئوية، إذ جمعت عدداً تراوح بين (38 – 40) نصّاً، تلتها قافية (العَين) التي جمعت ما بين (26-37) نصّاً، وبنسبة مئوية تراوحت أيضاً بين (9-10%)، ثم قافية (النون) التي بلغ عددها (30) نصّاً شعرياً، بلغت نسبتها المئوية (9%) .

وقد كان نصيب (المرّار الفقعسي) من أعداد القوافي الأكثر هيمنة، متقدّماً على سواه من شعراء هذه الطائفة، تلاه (القتّال الكلابي) و (عبيد الله ابن الحر الجعفي) ثم (العُديل بن الفرخ) و (جحدر) و (العنبري).

وتشير القوافي المهيمنة الرئيسة، إلى عدد من الملاحظات الفكرية والنفسية، على الشعراء الأكثر استخداماً لها، يمكن تلخيصها بالآتي:

* إن قافية (الراء) من القوافي الذُلل، أي الأكثر انتشاراً على الألسن، وقد جاء ترتيبها أولاً لإفادتها التكرار، لاسيما المكسورة منها، وهي أيضاً من الحروف الذلقة أي التي مخرَجُها طَرفُ اللسان .

* إن حرف (اللام) من الحروف الذلقيّة، ومن أكثرها دَوراناً في العربية، لوضوحها الصوتي (مع حرفَيْ الراء والنون)، ولأنها ليست شديدة "بحيث يُسمع لها انفجار، وليست رخوةً بحيث يُسمع لها حفيف "، وهي من الحروف المهجورة ومن القوافي الذُلل أيضاً. لذا شاع استخدامها بكثرة لدى هذه الطائفة من الشعراء وسابقيها، وفي الشعر العربي بعامَة، وهي تفيد التأني والتفكّر.

* إن (الباء) من القوافي الذُلل أيضاً، وحرف (الباء) من الحروف التي يُسمع لها انفجار، وأن كثرة ورود هذا الحرف في القوافي مضموماً أضاف إليه ثقلاً وضخامة صوت، مما جعله أشدّ قوةً في الأسماع، لذا كان أكثر استخدامه في الأشعار المعبّرة عن الفخر والحزن معاً .

* أما الحروف الأخرى: الدال التي ظهرت مكسورة في الغالب فهي من الحروف اللثويّة الانفجارية المهجورة، والميم و (النون)، وكلاهما من الحروف الخيشومية والاحتكاكية المهجورة أيضاً، و(العين)، الحرف الحنجري الاحتكاكي المهجور كذلك، وهي حروف تتحول في الأشعار إلى قوافِ مساعدة في التعبير عن مشاعر الحزن والفرح والغضب. وقد عدّها أحد الدارسين من "الأصوات الصائتة الصامتة" أو بالعكس، ومعها (الراء) و (اللام) و(الهاء) ([26]).

ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى أن معظم هذه البحور الشعرية والقوافي المهيمنة، كانت هي الابرز في مجموع أشعار الشعراء الأبرز أيضاً والأكثر مجموعاً شعرياً، مما يؤكد كونهم الأكثر تعبيراً عن أحوال هذه الطائفة الحياتية وشؤونها الفكرية والنفسية، وإن كانت قلّة أشعار الآخرين – بسبب الضياع أو لأي سبب آخر – لم تمنع تلمُّس أحوالهم وشؤونهم المترادفة مع أصحاب الأشعار الأكثر، ما داموا قد عاشوا أحوالاً وظروفاً متقاربة – بهذا المستوى أو ذاك – من بعضهم، إلاّ مَنْ كان منهم شبه مجهول الحياة لعدم وصول التفاصيل الكافية عنها، عِبْر الرواة والمؤرخين.

وأخيراً لابد من تسجيل ملاحظة ضرورية، مفادها أن ترادف هؤلاء الشعراء مع سابقيهم في استخدام البحور والأوزان والقوافي الأكثر شيوعاً، لا يمنع من القول بوجود معالم إبداع في غير هذا الجانب البنائي الشكلي (الخارجي) وسواه.

3- البنية الموضوعية
نستطيع أن نقرّر ابتداءً أننا سنقصر هذا الجزء على دراسة عدد من المقطّعات والقصائد والمطوّلات، التي ظهرت في مجموع أشعار الفتّاك، لتعرّف طبيعة هذه البنية الفنية من حيث ظهور الوحدتين: العضوية والموضوعيّة في هذه الأشعار من جهة، ومن حيث علاقة هاتَين الوحدتَين بالبنية الفنية للقصيدة العربية التقليدية، من جهة أخرى.

ولكن قبل ذلك نرى من الضروري التوقّف أولاً عند مفهوم البنية الفنية، بوحدَتَيها المذكورتَين آنفاً، لاسيما أن هناك محاولات جادة كثيرة ظهرت حتى الآن، تمثّلت بدراسات عربية وأجنبية واسعة للإشارة إلى ما إذا كانت القصيدة العربية ذات البناء التقليدي، تتوافر على هاتَين الوحدتَين، أو تخلو منهما معاً أو من إحداهما – لاسيما من الوحدة العضوية – وما يعنيه هذا من توافق أو تباين مع المفهوم العام لحقيقة الشعر، ولبنية القصيدة العربية الفنية (الموضوعية) كذلك.

وابتداءً أيضاً، لابد من الإشارة إلى قضية مهمة تتعلق بتحديد المفاهيم فقد تبينَّ بعد طول تجوال على الدراسات المتخصصة، أن مفهوم البناء الفني للقصيدة لا يعني – في الغالب – هيكلها الشكلي الخارجي، وهو يُعنى "بصياغات العبارات والصور وتنسيق الأفكار والتلاؤم الموسيقي "، بطريقة يكمل كل عنصر من هذه العناصر مهمات العناصر الأخرى عبرها، ومن ثم يكون الشكل الخارجي جزءاً من أجزاء البناء، بما يتضمّنه من التراكيب اللغوية والمعاني والصور والموسيقى([27]).

أما البنية الموضوعية للقصيدة فتعني أن تكون القصيدة: كالجسم الحي الذي لو فُصل عنه بعض أجزائه لبان الخلل "، وأن عليها أن تكون موحّدة عضوياً " تضم كل أجزائها فعالية حيّة كما هو معروف من تناسق وانسجام في أجهزة الكائن الحي([28]). هذا يعني أن هناك تداخُلاً واضحاً بين المفهومين، إذ من غير المنطقي أن يقوم البناء الفني الخارجي وحدَه بتحقيق وحدة البنية الموضوعية، من دون وجود الوحدة العضوية بين أجزائها، بدءاً من الفكرة الرئيسة التي تنطلق منها القصيدة وحتى نهايتها.

بيد أن بين الدارسين العرب مَن ينفي عن القصيدة العربية وجود الوحدة العضوية تحديداً، فهو يرى – وهذا ما فعله د. عز الدين إسماعيل – أن القصيدة العربية لا يمثلها سوى البيت المفرد، لأنه في هذا البيت وحدَه "تتمثل العاطفة الواحدة المحدَّدة المستقلة"، وأنه في الشعر العربي قصائد طوال كثيرة، لكنها تمثّل " مجموعة من العواطف وأنها تنقصها الفكرة العامّة الحيّة التي تسيطر عليها جميعها لتجعل منها بنية فكريّة متماسكة "([29]).

في حين تتبّعت دارسة فاضلة، آراء النقّاد العرب والأجانب، القدامى والمُحدَثين، ووجهات نظرهم، تتبُّعاً دقيقاً وعقدت المقارنات بين هذه الآراء ووجهات النظر الكثيرة المتشعَبة، وانتهت إلى أن القصيدة العربية تنطوي على وحدة، ولكنها أسمتها بـ"الوحدة العاطفية"، نافية عنها أيضاً وجود الوحدة العضوية، إذ إن هذه الوحدة "تجمع الأغراض إلى بعضها على أساس عاطفي، فلا تعود متنافرة متباعدة"، وتضفي على القصيدة بذلك التماسك الظاهر، على حد تعبيرها([30]).


--------------------------------------------------------------------------------

([1]) البغدادي، خزانة الأدب: 1/10 و 21 .

([2]) أشعار اللصوص: 3/697 وما بعدها.

([3]) شعراء أمويون: 1/96 (الهامش). وأيضاً: أشعار اللصوص: 1/96 و 191.

([4]) د. يوسف خليف، الشعراء الصعاليك …: 257. وأيضاً: إحسان سركيس، مدخل إلى الأدب الجاهلي : 211 وأيضاً: د. مصطفى الشكعة، رحلة الشعر: 337.

([5]) الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي: 260 .

([6]) شعراء أمويون، 1/88 وما بعدها و 139 و 168 و 206 و 246 و 247، 2/427 وما بعدها.

([7]) الحيوان: 2/130 .

([8]) دلائل الإعجاز: 251 و 336 - 337

([9]) ابن رشيق القيرواني، العمدة: 1/107 .

(*) سورة النساء / الآية 59 .

([10]) يوسف اليوسف، الغزل في الشعر الأموي، مجلة الموقف الأدبي، 70:6 وما بعدها.

([11]) د. يوسف خليف، الشعراء الصعاليك: 276. وأيضاً: أيهم القيسي، شعر العقيدة: 299 وما بعدها .

([12]) شعراء أمويون: 1/139.

([13]) نقد الشعر: 13 .

([14]) منهاج البلغاء: 63.

([15]) د. عبده بدوي، دراسات في النص الشعري: 105.

([16]) د. عبد الله الطيّب المجذوب، المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، 1:2/348 .

([17]) أيهم القيسي، شعر العقيدة: 312 مع هوامشه.

([18]) شعراء أمويون: 1/139 وما بعدها.

([19]) المرشد: 1/414 .

([20]) دراسات في النص الشعري: 49 .

([21]) المرشد: 1: 333 .

([22]) المعيار في أوزان الأشعار: 18.

([23]) المرشد: 1/246 .

([24]) موسيقى الشعر العربي: 14 .

([25]) بدايات الشعر العربي: 144 .

([26]) د. عبد القادر حديدي، البنية الصوتية للكلمة العربية: 38 و 96 وما بعدها.

([27]) مرشد الزبيدي، بناء القصيدة الفني في النقد العربي: 20 وما بعدها.

([28]) د. سمير علي الدليمي، الصورة في التشكيل الشعري: 108.

([29]) الأسس الجمالية في النقد العربي: 366 و 374.

([30]) حياة جاسم، وحدة القصيدة في الشعر العربي: 15 و 411.


يتبـــــع

ابومحمد الشامري
12-07-2005, 06:41 AM
الفصل الرابع: الخصائص الأسلوبيَّة في شِعر الفُتّـاك

تُعد الخصائص الأسلوبيّة أبرزَ المقوّمات اللازمة للدخول في صميم العوالم الفكرية والنفسية للشاعر، أو لطائفةٍ من الشعراء عاشوا ظروفاً سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية متماثلة، في عصر واحد من عصور الأدب المعروفة.

ذلك أن هذه الخصائص التي تتوزع على مستويات عدّة، تدخل في شُعَيرات اللغة وألفاظها وتراكيبها وأبنيتها، وفي الإيقاعات الخارجية والداخلية لهذه اللغة: وطُرق استخدامها وفي الدلالات التي تؤدي إليها طُرق الاستخدام، الفردية الخاصة بكل شاعر أو الجماعيّة، مثلما اتضح في خلال الفصلَين السابقين على الأقل، من تماثل ولقاء بين عدد غير قليل من شعراء هذه الطائفة، يمكن أن تضيف – أي هذه الخصائص – معالم جدّة وابتكار، تدخل في باب السعي لالتماس أسس الإبداع الفني في أشعارهم، ما دام الأسلوب يعني –مثلما حدّده صاحب (اللسان) " كل طريق ممتد .. والوجه، والمذهب، .. والفن: يقال أخذ فلان في أساليب من القول، أي أفانينَ منه"([1])، وهو عند أهل صناعة الشعر، مثلما حدده (ابن خلدون) عبارة عن "المنوال الذي ينسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يُفَّرغ فيه"([2])، أو "الضرب من النَظْم والطريقة فيه " مثلما حدَّده صاحب (دلائل الإعجاز) ([3]).

أما لدى الدارسين المُحَدثين، فهو " فنٌ من الكلام يكون قصصاً أو حواراً، تشبيهاً أو مجازاً أو كناية، تقريراً أو حِكَماً أو أمثالاً "، وأنه في الأصل "صورة ذهنية تتملأ (كذا) بها النفس وتطبع الذوق من الدراسة، والمرانة وقراءة الأدب الجميل "، وهذه الصورة الذهنية ليست معانيَ جُزئية، ولا جُمَلاً مسـتقلة .. "بل طريقة من طرق التعبير، أو الكتابة أو الإنشاء، واختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني، قصد الإيضاح والتأثير([4]).

وباختصار وتكثيف شديدَين، قدَّم الناقد الإنجليزي (غراهام هاف) مفهوماً واقعياً للأسلوب، فحدّده بـ "فصال الثوب وطرازه الخاص " ما دامت اللغة تشكّل "ثوب الفكرة"([5]).

ولمحاولة الوقوف على الخصائص الأسلوبية التي اجتمعت عليها أشعار الفتّاك في العصر الأموي، يمكن بالرجوع إلى أشعارهم ومن خلالها، التماس الخصائص الآتية:

* الاستخدام المميز للّغة والألفاظ والتراكيب، وأداؤها للمعاني الواسعة أو الموجزة أو المكثّفة في أشعارهم، وكذلك التكرار في المقاطع والألفاظ والحروف في الأبيات الشعرية.

* الصورة الفنية التي قدّموها، والأنواع الأبرز لها من خلال دلالات التعبير (الحسيّة: لمسيّة وسمعيّة وشميّة وذوقيّة) و (الذهنيّة: تشبيهاتٍ واستعارات ومجازات وكنايات)، وكذلك الانفعال الواقعي وما رافقه من خيال في تشكيل هذه الصور.

* الاتجاه القصصي .

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض هذه الخصائص الأسلوبية. كان مما ظهر لدى طائفة الشعراء الصعاليك في العصر السابق للإسلام، مثلما ظهر أيضاً في أشعار شعراء عصر صدر الإسلام([6])، شأن الظواهر الفنيّة التي أشرنا إليها في الفصل السابق.

أولاً: (1) الاستخدام اللغوي
ابتداء، لابد من الإشارة إلى أننا نتّفق تماماً مع من لاحظ – من الدارسين الأفاضل الذين سبقوا في دراسة عدد من شعراء هذه الطائفة – استخدام مُعظم هؤلاء الشعراء للعبارة السهلة والتركيب اللفظي القريب، وتناولهم السليم لكل معنى من المعاني التي وجدوا فيها مجالاً للتعبير عمّا كان يجيش في أعماقهم من مشاعر متألِّمة أو مكابرة مفاخرة، بحسب ظروف حياتهم التي عاشوها، أو الأفكار التي كانت تتنازعهم في أحوالهم المختلفة، من حيث حضرية بعضهم وبداوة بعضهم الآخر من جهة مهمة، ومن حيث ما عانَوه من ظروف التشرّد والخوف والسجون التي نزلها بعضهم – بل معظمهم – من جهة ثانية، مهمة كذلك([7]).

ذلك أنه حتى مَنْ كانت ألفاظه ومفرداته موغلة في الغرابة، لاسيما: المرّار الفقعسي والقتّال الكلابي والعُديل بن الفرخ، على سبيل المثال لا الحصر، لبداوتهم بالأساس وكثرة تنقلاتهم في مناطق بدوية عديدة، لم يكن يبدو غريباً في شعره عن البيئة التي احتضنته، بل كان هذا العامل بحد ذاته من العوامل التي جعلت المؤرخين والبلدانيين واللغويين يفيدون من ألفاظه وتراكيبه اللغوية، وأسماء المواضع التي ذكرها والقبائل التي لجأ إليها. في كتبهم ومعاجمهم المعروفة، وهي مهمة من المهمات الكبيرة التي أدّاها هؤلاء الشعراء في عصرهم وما تلاه، مثلما أدّاها قبلهم – من دون سابق قصد – الشعراء الصعاليك الذين عاشوا في العصر السابق للإسلام.

فهذا (يعلى الأحول) مثلاً، يذكر من خلف جدران سجنه أماكن عدة، منها (الشرى ومشيَّع وأبيان ودَمِران ومُرّان والأقباص وماوان) في قصيدته الوحيدة التي وصلت منه إلى دارسيه، وهي أسماء يتذكّر فيها أصدقاءَ لـه وغوانيَ (حبيبات)، فيقول مخاطباً صاحبيه :

" هنالك لو طوَّفتُما لوَجدْتما

صديقاً من اخوانٍ بها وغوانِ

وعزفَ الحَمامِ الوِرْقِ في ظلِّ أيكة

وبالحـيِّ ذو الرودين عزفَ قيـانِ"([8])


وهذا (السمهري) يتمنى ألاّ يكون من قبيلته (عُكل) ولا يدري ما شُبّانُها وشيبها، لأنها:

" فإن تكُ عُكْلٌ سرَّها ما أصابني

فقد كنتُ مصبوباً على مَنْ يَريبُها " ([9])


فالشاعر يقدّم هنا موقفاً فكرياً ونفسياً مكثّفاً، اتَخذه تجاه قبيلته التي لم تُبالِ بسجنه ولم تنجدهُ، وهو الذي كان بالمقابل شديد البأس والقوة على من يتعرّض لها بسوء، وهو يلخّص حالتَين متناقضَتين التناقض كلَّه، في هذا البيت (الأخير) في مقطّعته التي أورد فيها صورة معاناته خلف أبواب السجن وجدرانه، ومن ثم فالحقل الدلالي الرئيس الذي هو السجن عكس حقلاً دلالياً تابعاً هو الشكوى والمعاناة المريرة من (السجن)، تصاعد إلى أقصى مدى لـه لينتهي إلى (رفض) القبيلة وشتمها وتحقيرها، خلافاً للأعراف الطبيعية السائدة بين الشعراء وقبائلهم، من انتصار لها وذبٍ عنها ودفاع من أجلها.

وفي مقطّعة أخرى للشاعر (السمهري) يرثي بها نفسه، ويتمنى فيها أن تزوره حبيبته وهو في السجن، يلخّص في بيت واحد موقفاً آخر من مواقفه الفكرية بإزاء شعوره بدنو أجله، فيقول :

" فما البَينُ يا سلمى بأنْ تشحط النوى

ولكنَّ بيْناً مـا يُريد عقيـلُ " ([10])


فالحقل الرئيس هنا، وهو الشعور بدنو الأجل (الموت) ينعكس في إحساس بالغ بأنه هنا – أي في داخل السجن – يواجه الموت الذي يريده عقيل، لا الموت الطبيعي ولا الشعور بالموت المعنوي الذي يتسبّب به في العادة البُعد والفراق اللذان يتعرّض المحبّون إليهما، لهذا السبب أو ذاك.

ويعكس (أبو النشناش) في ألفاظ محدّدة هي: (الداويّة اليهماء) و(الموت) و(الثأر) و(المغنم الجزيل) في بيتيه اللذين يقول فيهما:

" وداوية يُهماءً يُخشى بها الرَدى

سَرَتْ بأبي النشناشِ فيها ركائِبُهْ

ليُدرِكَ ثأراً أو ليُدرِك مغْنمـاً

جزيلاً، وهذا الدهرُ جَـم عجائبُـه"([11])


معنىً عميقاً من الشعور المستديم بمواجهة الموت، الذي يرى فيه أعجوبة من عجائب الدهر الكثيرة، فالداويّة اليَهماء مما يُخشى الموت فيها بالأساس، حيث لا ماء فيها ولا أية علامة تهدي الساري أو تؤشر أمامه طُرقَه، تكفي وحدها للإحساس بالموت المتربص به في كل لحظة، وقد جعل ركائبه هي التي سَرتْ به حتى لكأنها فعلت ذلك من دون إرادته. من أجل أهداف محدّدة، يشعر – بقوة – أنه قد لا يبلغها بسبب (عجائب الدهر).

فإذا كان الحقل الدلالي الرئيس في لغة الشاعر هو الخشية من الموت، فقد عبَر عنهما بالمسرى اللاإرادي وسط المفازة الواسعة المجهولة الطُرق، وبلفظة (الردى) المباشرة في صدر البيت الأول، وانفلتت الدلالة التابعة مُعبّرة عن هذهِ الخشية التي كانت بصيغة مبني للمجهول (يُخشى بها الردى)، لتتحول إلى صيغة التفات مفاجئ في عجز البيت الثاني، وباستخدام الكناية هذه المرة عن إحدى أبرز أدوات الموت: عجائب الدهر.

أما في مفردات (عُطارد بن قُرّان) وتراكيبه اللغوية، فتلوح دلالات أوضاعه التي عاشها داخل السجون التي تنقل بينها، فهو في إحدى مقطّعاته يذكر: (الأخشن الحدّاد) و (مشي العرضنَةَ) و(التقييد) و (العصبة التي عضَّ الحديد بهم) و (المشتكي كبله منهم) و (المصفود)، مثلما أشرنا إلى ذلك في الفصل الثاني من هذه الدراسة، بينما يذكر في مقطّعة ثانية عبارات: (يطول عليَّ الليل) و (الملل) و( الكبلان) و (الكبول) و (الأقفال المُستحكمة) و (الأسمر اليابس)، للتعبير عن معانِ دلالية تشير إلى تحكُّم اليأس بمشاعره، وهي ما يكشف عنها حقيقة فيقول:

" تذكّرت هل لي من حميمٍ يُهمُّه

بنجران كبْلايَ اللّذانِ أُمارسُ ؟

فأمـا بنـو عبـدِ المُدان فإنهـم

وإنيَّ من خيرِ الحُصين ليائسُ " ([12])


ويدفعه يأسه هذا – شأن السمهري – إلى موقف فكري ونفسي سلبي من قبيلته، يعرضه بسخرية وتهكُّم، إذ يختتم مقطّعته هذه بقوله :

" رَوى نِمرٌ عن أهل نجرانَ أنكمْ

عبيدُ العَصا لو صبَّحتكم فوارسُ " ‍‍‍‍!


مُقلَّداً الرواة والمُحدثين بما لا مجال للتشكُّك به وبروايته !.

أما (مُرّة بن محكان) فيَدِلَ دلالة واضحة صريحة على شجاعته وكرمهِ حتى مع نفسه، إذ يقول حين يأمر مصعب بن الزبير رجلاً من بني أسد بن خزيمة بقتله، وبعد أن يذكر (مرّة) قومه، ويذكرَ بني أسد بهم، تعبيراً عن قوة انتمائه لهم وثقةً منه بقومه (بني تميم):

" فلا يحسَب الأعداءُ إذْ غبتُ عنهُم

وأوريت معنىً إن حربيَ كلَّتِ " ([13])


ثم يضيف توجيهاً لهذه الدلالة نفسها، عبر صيغة (التقديم والتأخير) التي يعتمدها في قوله:

" ولستُ – وإنْ كانتْ إليَّ حبيبةً -

بباكٍ على الدنيا إذا ما تولَّتِ "


حتى لكأنه يختصر بكثافة شديدة هذه المعاني كلها، ويُبالغ فيوجزها كلها بهذا البيت الأخير الذي يكشف فيه رغبته القوية بالحياة، التي يعرف أن لـه في قومه منْ سيواصل طريقه وسلوكه وطريقته فيها، وقد قضى وطرَه منها ووفى لها بما استحقته منه: شجاعةً وكرماً ووفاءً وروح إباء عالية .

وعلى غرار (مرّة) يقف (الخطيم المحرزي). أنه يقدّم ببساطة عِبر أسماء القبائل ولاسيما اسم قبيلة (بني محرز) قومه، وأسماء النساء الكثيرات ولاسيما (عزّة) التي ما لامه لائم فيها إلاّ عدَّه من خصومه، ولا شكره أحد عند ذكره لها إلاّ اتخذ لـه يداً، دلالات إضافية قوية على الوفاء في شخصيته، للأرض والأهل والحبيبة، وعلى التمسُّك بالقيم العربية الأصيلة، كالكرم والشجاعة والإقدام والتضحية والإيثار، حتى أنه إذ يكون في غير قومه وعلى غير أرضه، وتلومه من ترى شحوبه البادئ وتسخر من ثيابه الممزقة يسألها أن لا تفعل لأنه مثلما يقول:

" فإني بأرضٍ لا يرى المرءُ قُربَها

صديقاً ولا تحلى بها العينُ مرقدا

إذا نام أصحابي بها الليلَ كُلَّــه

أبتْ لا تذوق النومَ حتى ترى غدا " ([14])


ونتفق مع الدكتور نوري القيسي على أن الأسماء النسوية التي يوردها (الخطيم) في أشعاره غير حقيقية وأنها "رموز أراد من خلالها أن يتحدث عن خصائص وصفاتٍ لازمته" ([15])، ما دام في ألفاظه وتراكيبه اللغوية، لا بل حتى في أسلوب شعره قد عَمَد إلى تأكيد تمسُّكه بالقيم التي توارثها، ومن ثم فهو بذلك حاول الظهور بروح ثابتة حتى على أساليب الشعر القديم التي ورثها، وإن جدَّد فيها وأضاف إليها .

ويبدو (العُدَيل بن الفرخ العجلي) قريباً من (الخطيم) في معاني الفخر التقليدية التي طرَقها في أشعاره، سواء بنفسه أم بقبيلته، وكذلك في أساليب ابتداء مطوّلاته بالغزل أو ذكر الشيب، لاسيما عند تعبيره عن الفخر أو المديح، وهو – فضلاً عن هذا – من المكثرين جداً في ذكر أسماء القبائل وأيام العرب في أشعاره، لاسيما كونه من بني (بكر بن وائل) الذين ينتهي نسبهم إلى (نزار)، إذ لا ينسى – مثلاً – دَور قومه في معركة (ذي قار) – التي يقول فيها:

" ما أوقَدَ الناسُ من نارٍ لمكرُمةٍ

إلاّ اسطلينا وكُنّا مُوقدي النارِ

وما يَعُدَون من يومٍ سمعتَ بهِ

للناسِ أفضلَ من يومٍ بذي قارِ

جننا بأسلابِهـم والخيـلُ عابسـةٌ

يومَ استَلَبْنـا لكسرى كلَّ إسوارِ " ([16])


فالحقول الدلالية الرئيسة في أشعاره تقدّم الشاعر تقديماً واضح الشخصية، وهو إن كان أكثر عُنفاً وعنفواناً من سابقه (الخطيم)، لكنه يماثله في تقليدية البناء الشعري الدال على تمسُّك بقيم أصيلة أولاً، وليس على فجاجة في التقليد الفني، وهو الذي عبّر بروح العصر ومفرداته ولغته الأكثر بساطة وسهولة، عن واحدة أو أكثر من معطيات القصيدة العربية التي تجددت في العصر الأُموي.

ونلاحظ عند (العنبري) أن ألفاظ الخوف – مفردات وتراكيب لغوية – تتكرر لديه في معظم أشعاره، مثل مفردات: الريبة والحذر والذعر والروع والخشية، بينما يتكرر استخدامه لعبارات: القفر وذنب القفر والوحش والعواء ورفقة الغول والعدوّ والأعداء والأمن ومحالفة الوحوش واحتضان السيف ومحالفة القوس، وتكليم الحيوان والإنس إلى الوحوش وغيرها، وهي كلّها تشير إلى المضمون الحقيقي لحياته المتغربة في القفار، الخائفة من كل شيء حوله، المسكونة – حدّ الزهد – بإيمان عالٍ بالله تعالى وبالقَدر الذي أدّى به إلى التشرّد والإيغال في الهرب من الناس، أملاً في ظهور حقيقة موقفه في الجناية التي جناها، ولم تتحدد تفاصيلها بل ظلت غامضة مجهولة .

ومن الواضح أن حقل الخوف الدلالي الرئيس ومدياته الواسعة، وما تفرّع عنه من إيمان وزهد وحكمة ووعي مضطرب، تؤكد حقيقة كونه أبعد ما يكون عن اللصوص وعن ممارسة اللصوصية التي اتُّهم بهما، مثلما تؤكد حقيقة أوضاع اجتماعية وحتى سياسية ليست اعتيادية، ساد الاضطراب جوانب منها في هذا العصر "الانتقالي" في الحياة العربية، الذي شهد متغيّرات سياسية واجتماعية كبيرة، والذي ترك على تاريخ الشعر العربي بصماته، وكان هذا الشاعر (العنبري) واحداً من خيرة الشعراء الذين عبّروا عنها، لاسيما في لغته البسيطة المتفجّرة وما عكسته من جدّة حقيقية.

وثمّة في أشعار هذه الطائفة من الشعراء، مفردات وتراكيب لغوية تفيد اتساعاً في المعاني، إذ تأخذ اللفظة أو التركيبة اللغوية احتمالات معنوية متعددة، كما في قول (العُديل بن الفرخ) الآتي، على سبيل المثال :

" ظللتُ أُساقي الهَمَّ اخوتَي الأوُلى

أبوهم أبي عند المزاحِ وفي الجدِّ "([17])


إذ يشير المعنى الظاهر إلى أن أخوته الذين يذكرهم، من أبيه سواء في المزاح أو في الجدّ من القول، مثلما يشير المعنى الآخر إلى أنهم اخوته من أبيه ومن جدّه على السواء، أي هم أخوته الصريحو النسب معه.

ومن أمثلة هذا الاتساع في المعنى ضمن البيت الواحد، قول (القتّال الكلابي)، مخاطباً ابنة عمّه التي كان يُحبّها، والتي قتل القتّال أخاها زياداً بسببها".

" أعاليَ ما شمسُ النهارِ إذا بَدَتْ

بأحسنَ مما تحت بُردَيكِ عاليا " ([18])


ذلك أن المعنى الظاهر من لفظة (عاليا) التي ينتهي بها البيت تشير إلى اسم مرخَّم لحبيبته (عالية) التي وجّه الشاعر الخطاب إليها في مفتتح صدر البيت الشعري، بينما يمكن أن تفيد اللفظة المذكورة معنى آخر، يدل على ما يعلو صدر الحبيبة، أو وجهها تحديداً، لاسيما أنهما كليهما مما يكون تحت البُردين وهذان المعنيان الظاهران (المباشران) في كلا البيتين المذكورين آنفاً، يقدّمان مثل هذه الاحتمالات المعنوية الدلالية المتوقعة.

ويلتقي (المرّار) مع الشاعرين المذكورَين، في تقديم صورة فنية رائعة بمعانيها المُتسَعة، إذ يصف حبيبته (أم الوليِّد) وصفاً متفرداً، فيقول :

" من بعد ما لبستْ مَليّاً حُسْنَها

وكأنَ ثوبَ جَمالها لم يَلْبَسِ " ([19])


مشيراً إلى معنىً ظاهر يدل على اهتمامها بجمالها ومحافظتها عليه، حتى كأنه ثوب جديد لم يسبق ارتداؤه، وإلى معنى آخر يدل على تحكُّمها بحالتها الجمالية على الرغم من تجاوزها عمر الشباب ومن امتلاء رأسها بالشيب. وإن كان المعنيان متقاربَين لكنَّهما لا يَبينان إلاّ عند التدقيق بالصور التي قدّمها الشاعر لهذه الحبيبة في أبيات سابقة.

أولاً: (2) التكرار الداخلي :
يُعَدّ التكرار خصيصة مهمة من الخصائص الأسلوبية في الأدب العربي، شعره ونثره، إذ عرفه العرب منذ القدم وحفل به شعرهم من خلال تكرار الأسماء والمواضع، ومن خلال إعادة تراكيب أو مقاطع شعرية، مثلما في قصيدة (الحارث بن عبادة) المطوّلة التي كرّر فيها عبارة: " قرِّبا مربط النعامة مني " أكثر من ثلاثيـن مرة، ومثلما كررَ (مهلهل بن ربيعة) عبارة: " على أن ليس عدلاً من كليبٍ " أكثر من عشرين مرة في قصيدةٍ لـه من المطوّلات.

وقد أغنت دراسات قيّمة سابقة ظاهرة التكرار، لاسيما دراستا الدكتور عبد الله الطيّب المجذوب، والدكتور ماهر مهدي هلال، سواء من حيث اعتماد المصادر القديمة التي تتحدث عن التكرار وأوضحته بالأمثلة والشواهد البيَّنة، من القرآن الكريم ومن كلام العرب النثري والشعري، أو من حيث التوجيه الفكري والموضوعي (النقدي الفني) لهذا الأسلوب([20]).

لكننا لا نجد بأساً من توضيح معنى التكرار ومفهومه، الذي نتفق فيه مع ما قرره الدكتور ماهر مهدي، من أنه في التعبير الأدبي "تناوب الألفاظ وإعادتها في سياق التعبير بحيث تُشكِّل نغَماً موسيقيّاً يتقصّده الناظم في شعره أو نثره "، لإفادة تقوية النغم في الكلام، وإفادة تقويم المعاني الصورية أو تقوية المعاني التفصيلية([21]). ومن أبرز أمثلة النوع الأول (تقوية النغم) ما سبقت الإشارة إليه في السطور السابقة بشأن تكرار الحارث والمهلهل للعبارتين المذكورتين آنفاً، بينما يُعَد تكرار الأسماء الشخصية وأسماء المواضع وبعض الألفاظ، وهو ما يُسمى بـ(التكرار الملفوظ)، وتكرار الأسماء والأعلام المختلفة في اللفظ، المتفقة في المدلول وهو ما يُسـمى بـ(التكرار الملحوظ)، أبرز طُرق وأمثلة النوع الثاني (تقوية المعاني الصوَريّة)، في حين يُراد بالنوع الثالث المفيد لتقويـة (المعاني التفصيلية) التكرار الذي يلحُّ فيه الشاعر " على استعمال كلمة بعينها، أو كلمة مقاربة لها في الاشتقاق " وهذا النوع يُسمى (ملفوظاً)، أو الذي "يستعمل فيه الشاعر كلمات مترادفة أو متشابهة المعاني " وهذا ما يسمى بـ"الملحوظ"([22]) .

ويحدث التكرار عادةً في الحروف والألفاظ والتراكيب أو المقاطع اللغوية. وقد رأى (ابن رشيق) أن التكرار أكثر ما يقع "في الألفاظ دون المعنى"([23]). وهو محقّ من حيث أنه كان ممنّ يفصل بين الألفاظ والمعنى، بيد أن ما يحققه التكرار من إيقاع داخلي شمولي في البيت الشعري أو في مجمل المقطع أو القصيدة، مثلما فعلت عبارة (الحارث) المذكورة آنفاً: "قرِّبا مربط النعامة مني" مثلاً، من شأنه أن يفيد في تقوية المعنى المطلوب، من خلال استنفاذ الطاقة الشعرية التي أطلقها الشاعر، إرادياً أو من دون إرادته، من جهة، ومن شأن مجموعة الألفاظ التي تشكل تركيبة لغوية تامة المعنى – مثلما في العبارة المذكورة نفسها – أن تضيف إلى المعنى المقصود – في حالة تكراره – معنىً تفصيليّاً يسهم بدوره في زيادة المعنى قوةً، من جهة ثانية.

فالمعنى يحتمل دخول التكرار عليه من هذا المُنطلق، وليس التكرار حكراً على الألفاظ وحدها، إذ لا معنى من دون تركيب لغوي، مثلما أقرَّ هذا الإمام اللغوي (عبد القاهر الجرجاني) في نظريته المعروفة بشأن (النظم)، التي رأى فيها: " إن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردّة ولا من حيث هي كلمٌ مجرّدة، بل تثبُتُ لها الفضيلة وخلافها " في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلُّق لـه بصريح اللفظ "([24]).

يتبيَّن من هذا كلَّه، أن الحروف والألفاظ تفيد في عملية التكرار، من حيث مواضعها في التركيبة اللغوية، سواء لمعنى إضافي أو لنغم إضافي يتحقَّق، يمكن أن يُحسَّه المتلقي ويتأثر به، ومن ثَمَّ يأخذ عليه مشاعره من الإعجاب والدهشـة، أو أي انفعال آخر ينتهي به إليه.

ولذا سنتقدم خطوةً أُخرى، نتلمَّس عبرها أنواع التكرار الداخلي، في حروف الأشعار وألفاظها وتراكيبها – أو مقاطعها – اللغوية، مثلما ظهرت في أشعار هذه الطائفة من شعراء العصر الأموي.


--------------------------------------------------------------------------------

([1]) ابن منظور: مادة (سَلَب).

([2]) المقدمة: 570.

([3]) الجرجاني: 411.

([4]) الشايب، الأسلوب: 41 وما بعدها.

([5]) الأسلوب والأسلوبية: 20 .

([6]) د. يوسف خليف، الشعراء الصعاليك: 257 وما بعدها. وأيضاً: إحسان سركيس، مدخل في الأدب الجاهلي: 210 وما بعدها. وأيضاً أيهم القيسي، شعر العقيدة: 299 وما بعدها .

([7]) د. نوري القيسي، شعراء أمويون: 1/88 و 245 مثلاً. وأيضاً: الملوحي، أشعار اللصوص: 3/818 وما بعدها .

([8]) أشعار اللصوص: 1/9 .

([9]) شعراء أمويون: 1/142 .

([10]) شعراء أمويون: 1/145. تشحط: تُبعد.

([11]) أشعار اللصوص: 1/50. الداويَّة: المفازة الواسعة. اليهماء: التي لا ماء فيها ولا علامات دالة.

([12]) أشعار اللصوص: 1/105 .

([13]) م. ن: 1/114 .

([14]) شعراء أمويون: 1/262 .

([15]) م. ن: 1/247 .

([16]) م. ن: 1/300 .

([17]) شعراء أمويون: 1/296.

([18]) ديوانه: 94.

([19]) شعراء أمويون: 2/460 .

([20]) المرشد: 45-128. وأيضاً جرس الألفاظ: 239-269 .

([21]) جرس الألفاظ: 239 .

([22]) المرشد: 45-128 .

([23]) العمدة: 2/73 .

([24]) دلائل الإعجاز: 92 و 95 و 98 و 338 وما بعدها.


يتبـــــع

ابومحمد الشامري
12-07-2005, 06:46 AM
الملاحـــق
الملحق (1): أشكال البناء الشعري (*)
http://alajman.ws/uploader/pic/0v1.jpg

(*) تم ترتيب أسماء الشعراء حسب الحروف الهجائية.
(**) ن: د. نوري القيسي، م: عبد المعين الملّوحي.
الملحق (2): الأوزان الشعريّة المهيمنة (*)

http://alajman.ws/uploader/pic/0v2.jpg

(*) تم ترتيب أسماء الشعراء حسب الحروف الهجائية.
(++) ن: د. نوري القيسي، م: عبد المعين الملّوحي.
الملحق رقم (3): القوافي المهيمنة

http://alajman.ws/uploader/pic/0v3.jpg

ابومحمد الشامري
12-07-2005, 06:47 AM
الخَاتمَـــــة

حاولت في هذه الدراسة أن أُبيّن أن طائفة مهمة من طوائف شعراء العصر الأُموي، هي طائفة (الفُتّاك) أو من شابههم في الحياة والظروف التي عاشوها في هذا العصر، يمكن أن تُعدّ امتداداً لطوائف الشعراء الذين ظهروا في تاريخ الأدب العربي، قبل ذلك العصر وفي أثنائه، إذ ترادفت سماتهم الشعرية وملامح حياتهم الشخصية، مع من سبقَهم من الشعراء الفرسان والصعاليك بفئاتهم المختلفة: الخلَعاء والشُذّاذ والمتمردين على قبائلهم وعلى أوضاعهم الاجتماعية المتردية، أما لأسباب اقتصادية تتعلق بفقرهم وعَوزهم، وإما لأسباب نفسية وبيئية تتعلق برغباتهم في الوصول إلى مكانة تساويهم مع أقرانهم، وإما لأسباب سياسية تتعلق بالمتغيرات التي شهِدها العصر الأُموي، من أبرزها ظهور الأحزاب أو الاتجاهات القريبة من الاتجاهات السياسية، كالأُموية والعَلويّة والزبيرية وا لخوارج، وظهور شعراء يتحدثون باسم كل منها ويمثّلونها في التعبير عن أهدافها ومراميها داخل المجتمع العربي الجديد، الذي تكوّن آنذاك.‏

وقد وجدت أن هذه الطائفة من الشعراء تعرّضت إلى محاولات عدّيدة لتشويه معالمها الرئيسة، منها ما تسببت به طبيعة حياتها نفسها، حيث التشرُّد في القفار والفلوات، نتيجة لجنايات جناها عدد منهم، أدت بهم إلى حياة التشرُّد هرباً من أيدي ممثلي الخلافة الأموية، من الخلفاء أنفسهم أو ولاتهم وعمّالهم، أو نتيجة لاعتماد عدد منهم أساليب اللصوصية في تحصيل أقواتهم، وهما – أي الحالتان – كانتا قد بدأتا تُواجَهان بالرفض الشديد والعقوبات والحدود التي شرَّعتها الرسالة الإسلامية من جهة، فضلاً عن تطوّر نظام الحكم وما رافقه من ظهور الدواوين المتخصصة وأجهزة القضاء والشرطة من جهة أُخرى، خلافاً لما كان عيه الأمر في العصر السابق للإسلام أو أوائل عصر صدر الإسلام تحديداً.‏

وأمكن خلال الدراسة الوقوف على ما قدمته هذه الطائفة الشعرية مما يمكن أن يُعَدَّ ضمن الجديد من الموضوعات ذات المضامين والأبعاد الفكرية والنفسية، إذ أسهم شعراؤها في حدِّ ذاتهم بتقديم صور ومعانِ اتّسم بعضها بالجدَّة والتفرُّد، حتى ما كان منها مرادفاً لما سبقهم إليه الشعراء الآخرون، من شعراء عصر ما قبل الإسلام، لاسيما الصعاليك منهم، ومن شعراء عصر صدر الإسلام، لاسيما شعراء العقيدة، كموضوعة (الحنين إلى الأهل والديار) وموضوعة (التشرّد والخوف)، إذ تميّز شعراء هذه الطائفة – إبداعياً في عرض أحوالهم وشؤونهم الذاتية، لاسيما إحساسهم الطاغي بالاغتراب والغُربة عن مجتمعهم وعن بيئتهم، انطلاقاً من أسباب ودوافع استجدّ بعضها في العصر الأُموي، ولم تكن معروفة في العصرين السابقين المذكورين آنفاً، وفي مقدمتها الأسباب: السياسية والاجتماعية والاقتصادية.‏

ذلك أن هذه الطائفة من الشعراء، عالجت موضوعات مُبتكرة المضامين الفكرية في أشعارها، مثل: موضوعة (الحنين إلى الأهل والديار والأحباب) التي ارتبطت بأحوال تشرّد عدد غير قليل من شعرائها لأسباب سياسية (التمرد) أو اجتماعية (اللصوصية) من جهة، أو لأسباب دينية تتعلق بغربة عدد آخر من شعرائها من جرّاء اشتراكهم في الفتوحات الإسلامية، التي امتدت مساحتها في هذا العصر، من جهة أخرى.‏

كما استطاعت هذه الطائفة من الشعراء أن تقدّم عبر معالجتها لموضوعات: (عذابات السجن) و (الإيمان والحكمة) و(الإعتداد بالنفس)، صوراً ومعانيَ وقيماً حياتية وإنسانية، انسـجمت وروح جدَّة هذه الموضوعات في الحياة العربيـة حتى ذلك العصر، وتلمَّست الدراسة روح الإبداع النابضة فيها من خلال تصوير أشعار هذه الطائفة لدقائق الحياة داخل السجن – مثلاً – بتفصيلات لم تكن مطروقة أو معروفة من قبل، وتسجيلها لمشاعر الإيمان والحكمة والاعتداد، من منطلقات نفسية وفكرية واجتماعية جديدة، كان بعضها قد بدأ يتشكل في وقت قريب سابق، من خلال تأثير الرسالة الإسلامية وقيمها ومبادئها، وصولاً إلى حالة ما يمكن عَدَّه من بوادر التعبير عن قيم التصوف الديني، وما يمكن إن يُشكِّل نواة التفكير الفلسفي الإسلامي، الذي ظهر فيما بعد، أي بعد ظهور أُولى الأفكار الفلسفية الإسلامية، التي قرنت الدين بالعقل من أجل الوصول إلى هدف (الحكمة) الذي نادت به طروحات الفلاسفة اليونانيين مثلاً .‏

فحتى موضوعة (الاعتداد بالنفس) تحوّلت لدى شعراء هذه الطائفة إلى تسجيل لأسباب ودوافع قيمية، أضافت إليها تعاليم الإسلام الحنيف المزيد من العوامل الروحية والاجتماعية، وإلى ما كان معروفاً من تلك العوامل في الحياة العربية في العصر السابق للإسلام وعصر صدر الإسلام، وهذا ما أدى – في الوقت نفسه – إلى أن يُظهر عددٌ من شعراء هذه الطائفة، ما يُعبِّر عن اتجاهات ونظرات تقترب بهذا القدر أو ذاك من العلوم المعاصرة: النفسية والاجتماعية والسياسية والإدارية، على سبيل المثال لا الحصر.‏

أما في مجال دراسة مظاهر البنية الفنية في أشعار هذه الطائفة من الشعراء، فقد أُتيح للدراسة في ما يمكن تسميته بـ"الخصائص الشكلية الخارجية"، متمثلةً بـ: أشكال البناء الخارجية لأشعارها، والبنية الموسيقية لهذه الأشعار، ثم البنية الموضوعية لها، التوصل إلى نتائج مفادها عدم ظهور ما يُشكِّل معالم إبداع مميزة فيها، إذ كانت الهيمنة في الجانب الأول من هذه الخصائص للمقطّعات على بقية الأشكال الخارجية للبناء الشعري: الأبيات المفردة والقصائد والمطوّلات، لأسباب يتعلق بعضها بطبيعة ما وصل من أشعار هذه الطائفة، إلى أيدي الجامعين والمُحقّقين، بينما يتعلق بعضها الآخر باحتمالات ضياع الجزء الأكبر من أشعارها، لعوامل حياتية ذات صلة بطبيعة الحياة التي عاشها هؤلاء الشعراء، حيث التشرّد والابتعاد عن مراكز المدن وعن قبائلهم من جهة، أو لعوامل خارجية ذات صلة بأشعارهم، من جهة أُخرى، التي كانت معيناً ثرّاً أمام علماء اللغة العربية والجغرافيين والمؤرخين والبُلدانيين، الذين أفادوا من هذه الأشعار لتعزيز معنى لُغوي أو للاستشهاد ببيت واحد أو أكثر من مقطّعة ما أو قصيدة أو مطوَّلة، كان كافياً – في تقديرهم – لتحديد أماكن بعض القبائل أو لتعزيز واقعة تاريخية وتأكيدها ليس إلاّ.‏

لقد بينت الدراسة أهمية أشعار هذه الطائفة في خدمة هؤلاء العلماء والمؤرخين والبلدانيين، وما أسهم فيه هؤلاء – في الوقت نفسه – من دور في تشتيت الكثير من هذه الأشعار وتوزيعها على عدد كبير من المظان والمصادر القديمة.‏

أما من حيث البنية الموسيقية، وتقصي أبرز البحور والأوزان الشعرية والقوافي المستخدمة في أشعار هذه الطائفة، فأمكن التوصل إلى تأكيد هيمنة البحور الأربعة الرئيسة: الطويل والبسيط والوافر والكامل، وهي البحور نفسها التي كانت أكثر استخداماً من غيرها في معظم أشعار من سبق هؤلاء الشعراء أو عاصرهم، مما جعل من شعراء هذه الطائفة امتداداً طبيعياً لمسيرة الشعر العربي، وهو ما أكدته أيضاً هيمنة قوافي: الراء واللام والباء والميم والدال والعين والنون، على معظم أشعارهم.‏

في حين توقّفت الدراسة عند البنية الموضوعية (الخارجية) وحاولت أن تتلمس في هذه الأشعار الوحدتين العضوية والموضوعية، لتنتهي إلى تقرير وجودهما فيها لأسباب وعوامل حددتها بـ: وجود الطابع السردي (القصصي) في معظم مقطعات هؤلاء الشعراء وقصائدهم ومطوّلاتهم من جهة، وتأثّر هذه البنية بالقيم الفكرية والنفسية والفنية التي يحتفظ بها كل شاعر في أعماقه من جهة أُخرى، واعتماد الشعراء على محاكاة بنيات موضوعية تقليدية (مسبوقة)، حتى في حالات تخلّي الكثيرين منهم عن التزام التصريع في المطالع وعن تسلسل الأغراض، وتعدّد الأغراض الفرعية.‏

أما في مجال دراسة السمات أو الخصائص الأُسلوبية، التي تميّزت بها أشعار هذه الطائفة من الشعراء، فأمكن للدراسة التوصل إلى تلمُّس عدد من هذه الخصائص، من حيث استعمال اللغة (ألفاظاً وتراكيب)، ومن حيث اعتماد التكثيف والإيجاز أو التوسُّع في المعاني ومدلولاتها، ومن حيث تقديمها للصور الفنية، ومن بينها صور الحواس: البصَريّة واللمسيّة والسمعيّة والشميّة والذوقيّة، وبروز ظاهرة (القصصيّة) في هذه الأشعار، فضلاً عن التكرار الداخلي المتحقق في حروف هذه الأشعار وألفاظها ومقاطعها، وما تؤكده هذه الخصائص – مُجتمعةً – من حقيقة وجود معالم إبداع في أشعار هذه الطائفة، تمثّلُ جزءاً مهمّاً من معالم إبداع الشعر العربي، ومن معالم إبداعها الخاص المتحقّق من جرّاء تميّزها من النواحي الفكرية والنفسية المباشرة، ومن الناحية الحياتية والاجتماعية والثقافية والدينية، وما انعكس منها في هذه الأشعار.‏

وثمّة ملاحظة تجدر الإشارة إليها هنا، وهي أن هذه الطائفة من الشعراء وما ظهر بشأنها من اختلاف في زوايا النظر إليها، وفي تحديد أسماء شعرائها، وما أسهمت فيه الكتب المُحقّقة – لاسيما المصادر القديمة – من كشف عنها وجلاء لحقيقة بعض شعرائها، من ناحية تقرير صلة هذا الشاعر أو ذاك بها، يؤكد أهمية تضافر الجهود وازدياد الاهتمام بتحقيق مصادر التراث العربي الفنية، لكونها من عوامل إضافة المزيد من معالم روح الإبداع المتحقّقة في الأدب العربي، وفي مسيرة الشعر العربي تحديداً، التي ظلت إلى وقت قريب محكومة بنظرة محددة إلى طوائف معيّنة من الشعراء، ومدفوعة نحو أضيق المجالات الإبداعية، من دون سعي جاد إلى اكتشاف المزيد من جديد هذا التاريخ الشعري العريق ومجيده، ومن هذه الطوائف الشعرية المجدّدة، أو دراستها ضمن الدراسات العلمية وتبيان أهميتها، التي من شأنها إعطاء أهمية أكبر لمحاولات التجديد والتطوير في تاريخ الأدب العربي، التي فاقت في بعض جوانبها ما حصل في العصر الحديث، إذ كانت محاولات بكْراً مهدّت الطريق للمحاولات التي شهِدها العصر العباسي الأول وما تلاه من عصور أدبية معروفة.‏

لقد كان العصر الأُموي عصر ازدهار أدبي وفكري وسياسي واجتماعي، وكان أرضية الاِنطلاق لمعالم التجديد والتطوير في مضامين الأدب العربي وفنونه المختلفة، ولاسيما من النواحي الفنيّة التي لم يكن من السهل تلمُّسُها من جانب الباحثين والدارسين، لأسباب تتعلق بالمنطلقات الفكرية للعديد من هؤلاء الباحثين من جهة، وبمناهج دراسة هذا الأدب من جهة ثانية، ولانصراف كثير من الدارسين إلى آراء سابقة تبدو وكأنها من المُسَلَّمات وهي – في الكثير منها – على العكس من ذلك، مثلما صار ثابتاً ومعروفاً في حياتنا الأدبية.‏

ابومحمد الشامري
12-07-2005, 06:48 AM
المصادر والمراجع

* القرآن الكريم‏

1- الكتب العربية والأجنبية‏

* ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد (ت 808هـ) :‏

- مقدمة ابن خلدون، تحقيق د. علي عبد الواحد وافي، القاهرة، 1960 .‏

* ابن سيده، أبو الحسن علي بن إسماعيل النحوي (ت 458هـ):‏

- المخصَّص، دار الفكر، د. مط، د. ت.‏

* ابن سينا، الشيخ الرئيس أبو علي (ت 428 هـ):‏

- البرهان من كتاب الشفا، تحقيق عبد الرحمن بدوي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1961.‏

* ابن الشجري، هبة الله بن علي العلوي (ت 542هـ):‏

- الحماسة الشجرية، تحقيق عبد المعين الملّوحي، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1970.‏

* ابن طباطبا، محمد بن أحمد العلوي (ت 322هـ):‏

- عيار الشعر، تحقيق د. طه الحاجري ومحمد زغلول سلام، القاهرة، 1961 .‏

* ابن عبد ربَّه، أبو عمر شهاب الدين أحمد بن محمد الأندلسي (ت328هـ):‏

- كتاب العقد الفريد، لجنة التأليف والترجمة بمصر، القاهرة، 1956 .‏

* ابن فارس، أحمد بن زكريا النحوي (ت395هـ):‏

- مجمل اللغة دراسة وتحقيق زهير عبد المحسن سلطان، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1986.‏

* ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم (ت276هـ):‏

- الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف بمصر،1966 .‏

* ابن منظور، جمال الدين أبو الفضل الأفريقي (ت711هـ):‏

- لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1955.‏

* ابن منقذ، أُسامة بن مرشد الكناني (ت 584هـ) :‏

- لباب الآداب، تحقيق أحمد محمد شاكر، المطبعة الرحمانية، القاهرة، 1935.‏

* أبو أصبع، د. صالح:‏

- الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1979.‏

* أبو تمّام، حبيب بن أوس الطائي (ت231هـ):‏

- الوحشيّات، تحقيق عبد العزيز الميمني وأحمد محمد شاكر، دار المعارف بمصر، 1963.‏

* أبو جعفر، محمد بن حبيب (ت245هـ):‏

- المحبَّر، تحقيق أيلزه ليختن، حيدر آباد الدكن، 1942.‏

* أبو ديب، د. كمال :‏

- البُنى المولَّدة في الشعر الجاهلي، سلسلة الموسوعة الصغيرة /300، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1988.‏

* أبو عبيد، معمر بن المثنى (ت213هـ) :‏

- نقائض جرير والفرزدق، تحقيق بيفان، ليدن، 1905.‏

* الأزهري، أبو منصور محمد بن أحمد (ت370هـ):‏

- تهذيب اللغة، تحقيق علي حسن هلال و محمد علي النجار، الدار المصرية للتأليف، القاهرة، د. ت.‏

* إسماعيل، د. عز الدين :‏

- الأسس الجمالية في النقد العربي، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1968.‏

* الأصفهاني، أبو الفَرَج علي بن الحسين القُرشي (ت356 هـ) :‏

- الأغاني، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، د. ت. طبعة دار الثقافة، القاهرة، د. ت.‏

* بَدوي، د. عبده:‏

- دراسات في النص الشعري – عصر صدر الإسلام وبني أمية، منشورات ذات السلاسل، الكويت، 1987.‏

- الشعراء السود وخصائصهم في الشعر العربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1973.‏

* البطل، د. علي :‏

- الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري، دار الأندلس، ط2،‏

1980.‏

* البغدادي، عبد القادر بن عمر (ت 1083):‏

- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، بولاق، 1299هـ.‏

* البكري، أبو عبد الله بن عبد العزيز (ت487 هـ):‏

- سمط اللآلي، تحقيق عبد العزيز الميمني، مطبعة لجنة التأليف، القاهرة، 1963.‏

* البلاذري، أبو العباس أحمد بن يحيى (ت279هـ):‏

- فتوح البلدان، تحقيق صلاح الدين المنجد، مط السعادة بمصر، 1959.‏

* البهبيتي، نجيب محمد:‏

- تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري، مكتبة الخانجي / القاهرة ودار الكتاب اللبناني /بيروت، ط3، د.ت.‏

* البياتي، د. عادل جاسم :‏

- دراسات في الأدب الجاهلي، منشورات مغربية، ج2، 1986.‏

* الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر (ت255هـ) .‏

- البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1961.‏

- الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، 1938 – 1945.‏

* جاسم، حياة :‏

- وحدة القصيدة في الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي، وزارة الإعلام، بغداد، 1972.‏

* الجرجاني، عبد القاهر أبو بكر بن عبد الرحمن (ت471هـ) :‏

- دلائل الإعجاز، تحقيق د. محمد رضوان الداية و د. فائز الداية، مكتبة سعد الدين، دمشق، ط2، 1978.‏

* الجوهري، إسماعيل بن حماد (ت393هـ) .‏

- الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1956.‏

* حديدي، د. عبد القادر :‏

- البنية الصوتية للكلمة العربية، المطابع الموحَّدة، تونس، 1986.‏

* حسن، احمد علي :‏

- التصوّف جدليّة وانتماء، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1990 .‏

* خفاجي، د. محمد عبد المنعم :‏

- الحياة الأدبية – عصر بني أُمية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط2، 1980.‏

* خليف، د. يوسف:‏

- حياة الشعر في الكوفة إلى نهاية القرن الثاني الهجري، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1968.‏

- الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، دار المعارف بمصر، 1959.‏

* الخيّاط، د. جلال:‏

- الأصول الدرامية في الشعر العربي، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1982.‏

* الدليمي، د. سمير علي :‏

- الصورة في التشكيل الشعري، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1991 .‏

* الراوي، د. عبد الستار :‏

- حرية العقل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980.‏

* رباح، عبد العزيز :‏

- شعر النابغة الجعدي، تحقيق، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1962 .‏

* الزَّبيدي، محمد مرتضى الحسيني (ت1205هـ):‏

- تاج العروس من جواهر القاموس، المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306 هـ.‏

* الزَّبيدي، د. مرشد :‏

- بناء القصيدة الفني في النقد العربي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1994.‏

* الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر (ت538هـ) :‏

- أساس البلاغة، دار الكتب، مصر، 1314هـ.‏

* سركيس، إحسان :‏

- الظاهرة الأدبية في صدر الإسلام والدولة الأموية، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1981.‏

- مدخل إلى الأدب الجاهلي، دار الطليعة، بيروت، 1979.‏

* سي – دي لويس:‏

- الصورة الشعرية، ترجمة د. أحمد نصيف وآخرون، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1982.‏

* سيد قطب :‏

- التصوير الفني في القرآن، دار المعارف بمصر، ط2، 1949 .‏

- النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الكتب العربية، بيروت، د. ت.‏

* الشايب، أحمد :‏

- الأسلوب، مكتبة النهضة المصرية، ط7، 1976 .‏

- تاريخ الشعر السياسي إلى منتصف القرن الثاني الهجري، مكتبة النهضة المصرية، 1966.‏

- تاريخ النقائض في الشعر العربي، مكتبة النهضة المصرية، 1954 .‏

* شحادة، إسماعيل أحمد:‏

- وصف الطبيعة في الشعر الأموي، مؤسسة الرسالة، عمّان، 1987.‏

* الشكعة، د. مصطفى:‏

- رحلة الشعر من الأُموية إلى العباسية، عالم الكتب، بيروت، ط3، 1979 .‏

* الشنتريني، أبو بكر محمد بن عبد الملك السرّاج (ت550هـ):‏

- المعيار في أوزان الأشعار، تحقيق: د. محمد رضوان الداية، دار الأنوار، بيروت، ط1، 1968.‏

* الصاحب، إسماعيل بن عبّاد (ت385هـ):‏

- المحيط في اللغة، تحقيق: الشيخ محمد حسن آل ياسين، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1994.‏

* الصمد، د. ناصح:‏

- السجون وأثرها في الآداب العربية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1995.‏

* الضامن، د. حاتم صالح :‏

- عشرة شعراء مُقلّون، دار الحكمة للطباعة والنشر، الموصل، 1990.‏

* ضيف، د. شوقي :‏

- التطور والتجديد في الشعر الأموي، دار المعارف بمصر، ط6، 1977.‏

- العصر الإسلامي، دار المعارف بمصر، ط4، د. ت.‏

* الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير (ت310هـ) :‏

- تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف بمصر، 1961.‏

* طـه حسين :‏

* - حديث الأربعاء، دار المعارف بمصر، ط12، 1976.‏

* عباس، د. إحسان:‏

- ديوان القتّال الكلابي، تحقيق وتقديم، دار الثقافة، بيروت، 1961.‏

* عبد الرؤوف، د. محمد عوني :‏

* بدايات الشعر العربي، مكتبة الخانجي، مصر، 1976.‏

القافية والأصوات الشعرية، مكتبة الخانجي، مصر، 1977.‏

* عبد الرحمن، د. عائشة :‏

- قيم جديدة للأدب العربي، دار المعارف بمصر، 1970.‏

* عبد الله، د. محمد حسن :‏

- الصورة والبناء الشعري، دار المعارف بمصر، القاهرة، 1981.‏

- مقدمة في النقد الأدبي، دار البحوث العلمية، الكويت، ط1، 1975.‏

* العراقي، د. محمد عاطف:‏

- دراسات في مذاهب فلاسفة الشرق، دار المعارف بمصر، ط1، 1972.‏

* عطوان، د. حسين:‏

- الشعراء الصعاليك في العصر الأموي، دار المعارف بمصر، 1970 .‏

- الشعراء الصعاليك في العصر العباسي الأول، دار الطليعة، بيروت، 1972.‏

- مقالات في الشعر ونقده، دار الجيل، بيروت، 1987.‏

* عمارة، محمد:‏

- المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية، المكتبة العلمية، بغداد، ط2، 1984.‏

* العوّادي، عدنان :‏

- الشعر الصوفي حتى ظهور الغزالي، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1979.‏

* عيّاد، د. شكري :‏

- موسيقى الشعر العربي، دار المعرفة، القاهرة، 1968 .‏

* عيد، د. كمال :‏

فلسفة الأدب والفن، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، 1978.‏

* غامارا، بيير :‏

- الابتكار الحقيقي والزائف، ضمن (الابتكار في الأدب الفنون)، ترجمة عادل العامل، الموسوعة الصغيرة /203، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986.‏

* فضل، د. صلاح:‏

- نظرية البنائية في النقد العربي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط3، 1987.‏

* الفيروز آبادي، مجد الدين بن يعقوب (ت817هـ):‏

- القاموس المحيط، مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة، د. ت.‏

* فيصل، د. شكري :‏

- تطوّر الغزل بين الجاهلية والإسلام، دار العلم للملايين، بيروت، ط5، د. ت .‏

* القالي، أبو علي إسماعيل بن القاسم البغدادي (ت356هـ):‏

- الأمالي، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1926.‏

* القرطاجنّي، ابو الحسن حازم بن القاضي أبي عبيد الله (ت 684هـ) :‏

منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986.‏

* القيرواني، أبو الحسن بن رشيق (ت 456 هـ):‏

- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، ط2، 1955.‏

* القيسي، أيهم عباس حمودي :‏

- شعر العقيدة في عصر صدر الإسلام، عالم الكتب ومكتبة النهضة العربية، بيروت، ط1، 1986.‏

* القيسي، د. نوري حمودي :‏

- شعراء أمويّون، مؤسسة دار الكتب، جامعة الموصل، ق1 و ق2، 1976.‏

- نصوص من الشعر العربي قبل الإسلام، بالاشتراك مع د. محمود عبد الله الجادر و د. بهجة الحديثي، دار الحكمة للطباعة والنشر، الموصل، 1990.‏

* الكِندي، يعقوب بن اسحق (ت 252 هـ) :‏

- رسائل الكِندي الفلسفية، تحقيق: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة، ج1، 1950.‏

* ماركوز، هربرت:‏

- البُعد الجمالي، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1979.‏

* المبرّد، أبو العباس محمد بن يزيد (ت 258 هـ):‏

- الكامل في اللغة والأدب،: محمد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاتة، القاهرة، 1956.‏

* المجذوب، د. عبد الله الطيّب :‏

- المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، دار الفكر، القاهرة، ج1، 1955 .‏

* المرزباني، أبو عبيد الله محمد بن عمران (ت 378 هـ):‏

- معجم الشعراء، تحقيق عبد السـتار أحمد فرّاج، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1960.‏

* الملّوحي، عبد المعين:‏

- أشعار اللصوص وأخبارهم، دار الحضارة الجديدة، بيروت، مج1، ط2، 1993، مج2 و مج3، ط1، 1993.‏

* ناصف، د. مصطفى:‏

- دراسة الأدب العربي، دار الأندلس، بيروت، ط3، 1983.‏

* النويهي، د. محمد :‏

- الشعر الجاهلي منهج في دراسته وتقويمه، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، د. ت.‏

* هاف، غراهام :‏

- الأسلوب والأسلوبية، ترجمة كاظم سعد الدين، دار آفاق عربية، للصحافة والنشر، بغداد، 1985.‏

* الهَجري، أبو علي هارون بن زكريا (ت 626هـ):‏

- التعليقات والنوادر، دراسة وتحقيق: د. حمود عبد الأمير حمادي، دار الرشيد للنشر، بغداد، ج1، 1980.‏

* هلال، د. ماهر مهدي:‏

- جِرس الألفاظ في البحث البلاغي والنقدي، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1980.‏

2- الرسائل الجامعية‏

* الجبوري، محمد سعيد مرعي:‏

- أدب الحكمة في عصر صدر الإسلام، رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة الكاتبة، مقدّمة إلى كلية التربية، جامعة بغداد، 1989.‏

* حوَّر محمد إبراهيم :‏

- الحنين إلى الوطن في الأدب العربي من العصر الجاهلي إلى نهاية العصر الأموي، رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة الكاتبة، مقدمة إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة بغداد، 1972.‏

* الزُّبيدي، عبد الجبار حسن علي :‏

- الصورة الفنية في شعر الصعاليك قبل الإسلام، رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة الكاتبة، مقدّمة إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة الموصل، 1988.‏

3- المجـلات‏

* الربّاعي، عبد القادر :‏

- مدخل إلى دراسة المعنى بالصورة في الشعر الجاهلي، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، الكويت، ع6، مج2، 1982 .‏

* فريدمان، نورمان :‏

- الصورة الفنية، تقديم وترجمة: د. جابر عصفور، مجلة الأديب المعاصر، اتحاد الأدباء في العراق، ع16، س4، آذار 1976.‏

* القيسي، د. نوري حمودي :‏

- تعقيب واستدراك على أشعار مالك بن الريب وعبد الله بن الحر، مجلة المجمع العلمي العراقي، مج31، ق2، 1990.‏

* ناجي، د. مجيد عبد الحميد:‏

- الصورة الشعرية، مجلة الأقلام، ع 8، س 19، آب 1984.‏

* اليوسف، يوسف :‏

* - الغزل في الشعر الأُموي، مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، ع70. شباط 1977.‏

فزاع
13-07-2005, 07:42 AM
الله عليك يا ابو حمد تسلم يمناك على هذه المادة الأدبية الدسمة عن الشعراء الفتّاك والصعاليك والأغربة
في العصر اللأموي وننتظر بحث دقيق آخر للصعاليك الجاهليين لو تكرمت.
تسلم يا سبع على كل ما تقدم وعساك عالقوة ما قصرت.

يونس يحيى
10-03-2008, 08:37 AM
السلام عليكم حيا الله أبا حمد وبارك بعمره
حاول أجمع أو أعيد جمع أشعار جحدر اللص وقد حصلت على كتاب الدكتور نوري حمودي القيسي
فأستشيرك يأخي هل يمكن الاستدراك على الدكتور أفيدونا وبارك الله فيك

ناصر بن محمد ال صويان
10-03-2008, 09:07 AM
بيض الله وجهك يابو حمد على الموضوع الادبي الشامل بكل اركانة .........ودائما في تألق

سعيّد ابوجعشه
19-04-2008, 02:20 AM
بيض الله وجهك على هذا المجهود يـــ أبوحمد

ولا هنت طال عــمــرك

عجمي و الوفا طبعي 1
19-04-2008, 09:13 PM
ابوحمد الشامري مجهود تشكر عليه .. وبارك الله فيك

زوبعة مفكر
18-11-2010, 08:03 PM
بحث رائع وجهد قيم لك الشكر والتقدير

نوارة
18-11-2010, 08:07 PM
الله يعطيك العافية

لاهنت