المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف وصل القرآن الكريم إلينا مكتوباً ومنطوقاً؟) للشيخ الدكتور: أيمن رشدي سويد


خالد المحفوظي
08-06-2005, 01:05 PM
كيف وصل القرآن الكريم إلينا مكتوباً ومنطوقاً؟) للشيخ الدكتور: أيمن رشدي سويد.

أُلقيتْ هذه المحاضرة في الكلية الأوروبية للعلوم الإسلامية في باريس–فرنسا

يناير-2002م

الحلقة الأولى:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا و نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم،اللهم افتح علينا فتوح العارفين، وارزقنا فهم النبيين،وإخلاص الموقنين، ومرافقة الأبرار، واستحقاق حقائق الإيمان، والغنيمة من كل خير، والسلامة من كل إثم، ووجوب رحمتك، وعزائم مغفرتك، إنك يا مولانا سميع الدعاء.

بعث الله سبحانه سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً إلى البشرية قبل أكثر من أربعة عشرَ قرناً، وأنزل عليه الكتاب الخاتم، وهو القرآن الكريم، وهذا الكتاب الذي أنزله الله في ذلك الزمان ما زال بين أظهرنا إلى الآن-ولله الحمد-كاملاً غير منقوص, هذا اعتقادنا نحن المسلمين، ولكن هل بنَينا اعتقادنا هذا على أوهام؟ أو بنَينا اعتقادنا هذا على عصبية, أو على كلام لا دليل عليه؟ أو إننا بنينا اعتقادنا هذا على واقع حق ملموس ولله الحمد؟

هذا الذي نحاول من خلال هذه المحاضرة أن نتبيّنه, وأسأل الله عز وجل أن نكون موضوعيّين في عرض هذا الموضوع, بعيداً عن أي عصبية أو تحيز أو كلام لا دليل عليه.

بادئ ذي بدء لا بدَّ لنا أن نعلم ما هو القرآن الكريم؟ فكلُّ شيءٍ له تعريف، فما هو القرآن الكريم؟

عرّف علماؤنا-جزاهم الله عنا خيراً-القرآنَ الكريم بقولهم: (القرآنُ هو كلامُ الله تعالى, المُنَزَّلُ على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المُتَعبَّدُ بتلاوته،المكتوبُ بين دفّتي المصحف،المُتحَدَّى بأصغر سورة منه، المنقولُ إلينا بالتواتر)

عندما نقول: (هو كلام الله تعالى) ماذا خرج؟ خرج بذلك كلامُ كلّ أحد غير الله، فليس القرآن كلام جبريل، ولا كلام محمد صلى الله عليه وسلم، ولا كلام أبي بكر، ولا عمر، ولا أحد من البشر أو الملائكة أو غيرهم, هو كلام الله تعالى ؛ فخرج كلام مَن سِوى الله.

(المُنزّلُ على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم)، فخرج من ذلك الكتب التي أنزلها الله, وهي كلام الله, أنزلها على غير محمد صلى الله عليه وسلم مثلا: كالتوراة فقد أنزلها الله على سيدنا موسى, والإنجيل الذي أنزله الله على سيدنا عيسى عليهما السلام، والزبور الذي آتاه الله لسيدنا داود, والصُّحف التي آتاها الله لسيدنا إبراهيم، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى * صُحُفِ إبرَ1هِيمَ وَمُوسَى) (الأعلى 18-19).

(المُتعبَّدُ بتلاوته): خرج بذلك الأحاديث القدسية التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله، أو قال الله، مثلا قوله صلى الله عليه وسلم: قال الله: (يَا عِبادي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلمَ على نفسي وجَعَلتُه بينكم مُحَرَّمَاً فلا تَظَالَمُوا...)، فهذا الحديث ليس متعبَّداً بتلاوته لأنه ليس قرآناً, ومعناه مُوحَى من الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لفظه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما القرآن فلفْظه ومعناه من الله سبحانه وتعالى.

(المكتوبُ بين دفّتي المصحف): وهذه سنتناولها بالعرض والتحليل بعد قليل إن شاء الله.

(المُتحَدَّى بأصغر سُورة منه): لأن الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى والرسل يأتي واحد منهم وهو بشر مثلنا, فيقول: أنا رسول من عند الله، أمرني الله أن أُبيّنَ لكم أوامرَه ونواهيَه، فنقول له: لعلّك لست صادقاً في هذه الدعوى,وما الدليل على أنك مرسل من عند الله؟

لذلك كان الله سبحانه وتعالى يُرسِل مع كل رسول معجزة تدل على أنه صادق، وأنه متكلِّم من الله سبحانه وتعالى، فكان لكل نبي معجزته التي دلت على صدق نبوته, وانقضت تلك المعجزة مع ذلك النبي، إلا معجزة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي القرآن الكريم فإنها باقية بيننا إلى هذه اللحظة بل وإلى قيام الساعة.

فإن قال قائل: إن سيدنا موسى فلَق البحر أو قلَب العصا حيةً، وسيدنا عيسى أحيا الموتى وشفى المرضى، نقول: هذا حدَث في الزمان البعيد، وليس بين أيدينا إلا الأخبار، لكن لو قال قائل: ما الدليل على أن محمداً-صلى الله عليه وسلم-مُرسلٌ من عند الله؟ نقول له: هذا الكتاب، لا نقول له: إنه فعَل وفعَل، قبل أربعة َعشرَ قرناً، نقول: هذا الكتاب دليلٌ على ذلك, خذ.. انظر واقرأ.

فمعجِزتُه صلى الله عليه وسلم ما زالت باقيةً بين أظهرنا نتحدّى بها الدنيا، ونقول: هذا دليل صِدق محمد صلى الله عليه وسلم, من كان منكم يريد الحقَّ فلْيقرأ، أما أتباعُ الهوى فلا يضرُّون إلا أنفسهم, فالذي يتّبِع الهوى لا يضرُّ إلا نفسه بالدرجة الأولى, ثم يضرُّ الأغبياء الذين عطَّلوا عقولهم، أما الذي يريد الحق فنقول: انظر هذه معجزة محمد صلى الله عليه وسلم.

(المنقولُ إلينا بالتواتر)، وسنشرح كيف نُقِل القرآن الكريم إلينا.

أما معنى كلمة التواتر-أيها الأخوة-فهي أعلى أنواع درجة نقل الأخبار.. فأنا أسمع خبراً من زميلي فلان، يقول لي مثلاً: هل علمتَ, لقد مات فلان؟ أقول: نعم، فألتفت إلى أخي بجانبي أقول له: هل علمتَ؟ مات فلان، فيقول: من قال لك؟ أقول فلان.. فهذا اسمه خبرُ الواحد؛ لأن ا لذي أخبرني شخصٌ واحد، وهذا له درجة من الاعتبار.

لكن ألاَ يمكن أن يكون الذي أخبرني كاذباً؟ يمكن، ألاَ يمكن أن يكون واهماً؟ يمكن كذلك إذا التبس عليه الأمر، فخبر الواحد إذاً له درجة من المصداقية، ولكن الأعلى منه عندما يأتيك الخبر من عدد كثير لا يمكن أن يتواطؤوا جميعاً على الكذب و(يتواطؤوا) بمعني يتَّفقوا.

أظن أن أكثرنا إن لم يكن كُلّنا لم يذهبْ إلى (بكين) أو (طوكيو)، لكننا نوقنُ جميعاً بأن هناك مدينة اسمها (بكين) في الصين، وهناك مدينة في اليابان اسمها (طوكيو) مع أن أغلبنا لم ير تلك المدينة.. لماذا؟ لأنه قد جاءنا أخبار لا يحصيها العدّ من أشخاص سافروا إلى تلك المدن، ومن مجلات كتِبت ومن (تقارير) في التلفاز و، و ,... كُلُّهم أجمعوا على أن هناك في الدنيا مدينة اسمها (بكين), أو اسمها (طوكيو) مع أننا ما ذهبنا إليها؛ فنحن نوقن بوجود ذلك.

هذا النوع من الأخبار, اسمه التواتر, وهو أن يأتيك الخبر من عدد كثير من الأشخاص يستحيل في العقل أن يتفقوا جميعاً على الكذب, فالقرآن العظيم نقَله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشخاصٌ يستحيل عقلاً أن يتفقوا جميعاً على أن يكذبوا, وذلك لكثرتهم.

وهؤلاء أعني: جيل الصحابة, نقلَ عنهم القرآنَ الجيلُ الذي بعدهم, وهو جيل التابعين بأعداد يستحيلُ عقلاً أن يتَّفِقوا جميعاً على تحريف النص القرآني، وتابِعو التابعين نقَلوا القرآنَ عن التابعين بأعداد يستحيلُ عقلاً أن يتفقوا جميعا على الكذب، وهكذا إلى أن وصل إلى عصرنا هذا إلى شريحة من المجتمع الإسلامي اسمهم (القُرّاء) وهم قوم موجودون بيننا من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, أمضوا جزءاً من أعمارهم في تلقي القرآن الكريم من الجيل الذي قبلهم، تلقَّوه حرفاً حرفاً, من أوَّله إلى آخره,نطقاً صحيحاً بيِّناً ليس فيه لَبس ولا غموض.

فمثلاً: لو وضعْنا ورقةً في آلة التصوير وسحَبنا عليها صورة مماثلة, فكم تحوي الصورةُ من الورقة الأصل؟ هل تحوي 90* أو 95*؟ أم أنها تحوي 100*؟ نجزم بأنها 100* هكذا تلقَّى جيل القُرّاء-الذين بيننا-القرآنَ الكريم من شيوخهم حرفاً حرفاً.. الباء باء، والتاء تاء، والجيم جيم، والفتحة فتحة، والضمة ضمة، والكسرة كسرة...، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا.

وما هذا العبدُ الذي أمامكم, إلا واحد من الخُدّام الذين شرَّفهم الله سبحانه وتعالى بتلقي القرآن العظيم كاملاً غير منقوص,حرفاً حرفاً من أوله إلى آخره، وأنا واحدٌ, بل أصغرُ واحد من خُدّام القرآن الكريم الذين يملؤون الأرض-ولله الحمد-فهذا معنى قولنا (القُرّاء)، وليس القُرّاء-كما هو منتشر في بعض البلاد العربية والإسلامية-الذين يقرؤون عند الموتى وعند الحفلات ويتمايلون، لا, فهؤلاء أناسٌ يسمُّونهم مثلاً في مصر (صَيِّتين) أي: أصحاب صوت حسن بتلاوة القرآن، لكن عندما نقول (القُرَّاء) قصدنا علماء مثل (الفقهاء) ومثل (المحدِّثين), فكما أن المحدثين حُرَّاس على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكما أن الفقهاء حُرَّاس على الفقه الإسلامي، كذلك القُرّاء حُرَّاس على النص القرآني من أن يتلاعب به أحد أو يزيد أو يُنقِص، ولا يستطيع أحد أن يفعل ذلك أبداً. هذا معنى قولنا: المنقول إلينا بالتواتر.

أعود فأقول: أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن العظيم على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, ولاحِظوا أننا نقول على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولم نقل على سمعه.

النبيُّ صلى الله عليه وسلم بشر مثلنا؛ لكنه في جانب تلقي الوحي ليس مثلنا, أنا عندما تلقيت القرآن الكريم من شيوخ كانوا ينطقونه بأفواههم وأسمعه بأذنيّ, ثم أعيد أمامهم بفمي ويسمعون بآذانهم، لكن تلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبريل لم يكن كذلك، قال تعالى: (نَزَلَ بِه الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ))الشعراء 193-194(ولم يقل على سمعك، وقال أيضاً سبحانه: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ))البقرة 97(ولم يقل على سمعك، لذلك, اتصالُ بشر بمَلَك أمرٌ شديدٌ وشديدٌ على البشر.

كان النبي صلى الله عليه وسلم-وكما ورد في الأحاديث الشريفة-في الوقت البارد يتصبَّب عرقاً لمّا ينزل عليه جبريل, لشدة الوحي, قال تعالى: (إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَولاً ثَقِيلاً))المزمل 5(ومرةً نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وقد اتكأ برأسه الشريف على فخذ السيدة عائشة زوجته، فقالت السيدة عائشة: فأحسَست كأنَّ فخذي قد قُطِعت من ثقل الوحي.

فعندما يلتقي مخلوقان كل واحد منهما من عالم يكون هناك اختلاف، فرسول الله صلى الله عليه وسلم روح وجسد, فهو بشر، وجبريل-عليه السلام-روح بلا جسد, روح مطلقة، وروح ليست كباقي الأرواح، هو سيد الملائكة، قال تعالى: (تَنَزَّلُ المَلَـٰـئِكَةُ والرُّوحُ فِيهَا))القدر 4(، فذكَره لوحده لِعِظَمِه، ورآه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرةً على هيئته الأصلية، فرآه يملأ الأفق، وله ست مئة جناح.

هذا المَلَكُ العظيم رسول رب العالمين, كان يتلقى القرآن من رب العالمين وينزل به على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأثناء هذا النزول كان الطريق محروساً من الشياطين؛ لأن الشياطين لا يحبون أن يهتدي البشر, يريدوننا أن نضلَّ, حتى نذهب مع أبيهم إبليس-لعنه الله-إلى النار, كما أخذ إبليس على نفسه عهداً وأقسم بعزة الله أن يحاول إغواءنا, قال الله تعالى ذاكراً قول إبليس لعنه اللهقَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ) (ص 82-83)، اللهم اجعلنا من هؤلاء المُخلَصين يا ربَّ العالمين، فقال له الله جلَّ جلاله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ) (الحجر 42) اللهم لا تجعلنا من الغاوين يا رب العالمين.

فلما نزل القرآن حُرِست السماء, يعني أن طريق النزول كان محروساً، قال الله تعالى في سورة الجن وعلى لسان الجن: (وَاَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَاَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) (الجن 8-9), فبدأت حراسة النص القرآني من نزوله من بيت العزة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر,قال تعالى: (إِنَّا أنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ)) القدر 1(,وقال كذلكإِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرينَ) (الدخان 3) ، ثم كان ينزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خلال ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع، وبحسب الحاجة.

إذاً فللقرآن نزولان: نزولٌ من بيت العزَّة من السماء السابعة من اللَّوح المحفوظ إلى سماء الدنيا, ثم نزولٌ بحسب الوقائع خلال ثلاث وعشرين سنة، وأول ما نزل منه-كما نعلم جميعاً-قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذي خَلَقَ) في سورة العلق في (جزء عمّ) وهو الجزء الثلاثون، وآخر ما نزل قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) في سورة البقرة، هل رأيتم أحداً يؤلِّف كتاباً فيؤلِّف الفصل الأخير ثم الفصل الأول ثم الفصل السادس ثم الواحد والعشرين...؟! أم أن المؤلفين يؤلفون كتبهم بالتسلسل؟

إن القرآن معجزٌ في كل شيء، لأنه ليس كلام بشر, وإنما كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، فهو مخالف لكلام البشر من كل الجوانب.

بدأت حراسة النص القرآني-كما ذكرنا سالفاً-من فور نزوله من السماء على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان يتلقَّاه بلفظه ومعناه, وكلِّ ما أراد الله من هذا النصِّ وبأسراره, ويُعْلمنا منه ما أمره الله تعالى أن يُعْلمنا, قال تعالى: (يأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ…))المائدة 67(, فلما وصل القرآن الكريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم صار يبلِّغه للصحابة الكرام بالطريق المعتاد, وهو أن يتكلم صلى الله عليه وسلم بفمه الشريف وينطق القرآن فيسمعه الصحابة بآذانهم بالطريق المعتاد بين البشر, ثم يعيد الصحابة النطقَ أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسمع بأذنه الشريفة, فيقرّهم أو يصحح لهم؛ فإذا استقر التلقي قام الصحابة بتبليغ القرآن لمن بعدهم.

فكيف بَلّغَ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم للأمة؟

هذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله تعالى:

كيفية تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم:

لقد بلَّغ رسولنا صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم بطريقين:

الطريق الأول: مكتوباً, والطريق الثاني: منطوقاً-يعني مقروءاً-فكان إذا نزل مقطعٌ من القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم,دعا من حضَرهُ من كتبة الوحي، وهم عدد من أصحابه ممن يجيدون الكتابة، وكان الذين يجيدون الكتابة في ذلك الزمان قلائل، فكان يدعو أربعة أو خمسة أو ثلاثة.. بحسب الموجودين, وذلك كلما نزل مقطع، فيكتبون أمامه صلى الله عليه وسلم.

أما الجانب الآخر المنطوق فكما أسلفت: وهو أن يتلفظ صلى الله عليه وسلم بألفاظ القرآن والصحابة يسمعون بأداة التلقي وهي الأذن، ثم يُعيدون بأداة النطق وهي الفم, والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ويصحِّح، ثم يُقِرُّهم على أن هذا النص سليم.

أرأينا الحيطة والعناية والحرص على سلامة النص في الوصول؟

نبدأ ونَشْرع في القسم الأول من كيفية تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم, وهو كيف بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن مكتوباً وكيف وصلنا مكتوباً خلال ألف وأربع مئة من السنين؟

مراحل كتابة القرآن الكريم:

أول ما كُتب القرآن الكريم فور نزوله وبين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي حاضر, وذلك على قطع متفرقة، إذن، بدأ تدوين القرآن الكريم ولننتبه إلى هذه النقطة"فور نزوله"، فكان إذا نزل مقطع من القرآن على رسول الله، دعا من حضره من الكتبة فكتبوا أمامه وجبريل حاضر يُصحّح إذا حدث خطأ، قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيل * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) )الحاقة 44-46(، ما معنى: (لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ)؟ اعتبروني كاتباً أكتبُ، ثم خطَر ببالي أن أحرّف كلمةً وأنا أكتبُ، فلما أبدأ بالتحريف مباشرة، يمنعني الله عز وجل من الإكمال. هذا معنى: (لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) لأن اليمين أداة الكتابة، (لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) يعني لمنعناه فوراً، فإذا كان هذا النص القرآني محروساً من وقت نزوله إلى السماء, فهل يُترك إذا كان في الأرض؟! حاشا وكلا.

(ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) اختلف العلماء فبعضهم قال: (الْوَتِينَ) عِرْقٌ في الرقبة، وبعضهم قال نياط القلب.. المهم هو أنه عِرق إذا قُطع مات الإنسان, بمعنى لأفنيناه فوراً؛ لأنه وهو في السماء كما قال الله تعالى: (… مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا)) الجن 8 ( وفي الأرض أيضاً هناك حراسة للنص القرآني، إذاً، كان الصحابة ثلاثة، أربعة، خمسة... بحسب الموجودين, يكتبون المقطع الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم موجود والوحي حاضر.

قد يقول قائل: إن محمداً صلى الله عليه وسلم كان أُمِّيَّاً لا يعرف القراءة ولا الكتابة، فنقول له: لكن جبريل-عليه السلام-موجود، وأليس رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلّغاً عن ربه؟ لو أن كاتباً بدلاً من أن يكتب كلمة معينة كتب غيرها, هل سيتركه الله؟ هل سيتركه جبريل؟ ولو كان رسول الله أمِّياً, فهو أمِّيٌّ من جهة البشر، لكنه ليس أمِّياً من جهة الله، قال تعالى: (… وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا) )النساء 113(، وقال أيضاً: (لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِن أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـٰبَ وَالْحِكْمَةَ… ) (آل عمران 164) (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـٰبَ), فهو في مقام التبليغ يعلِّم، لأن جبريل حاضر في ذاك الوقت.

فإذا انفضَّ المجلس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كان راضياً عن تلك القطع التي كتبت بين يديه, أقلُّ ما يُقال في تلك القطع: إنها سُنَّة تقريرية، بمعنى أقرّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها.

هكذا بدأت كتابة القرآن الكريم في مرحلته الأولى.

المرحلة الثانية: حدثت في زمن سيدنا أبي بكر الصديق-بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم-عندما حدثت حروب الردة، وكثر القتل في القُرّاء، حيث كان القُرّاء يتسابقون في الدفاع عن الإسلام ضد الذين ارتدوا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، فلما كَثُرَ القتلُ خاف سيدنا عمر-رضي الله عنه-بعقله الراجح، وهو الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو كانَ نَبيّ ٌمن بعْدِي لكانَ عُمَر).

خاف-رضي الله عنه-على تلك القِطَع المنتشرة بين أيدي الناس أن يذهب بعضها, وهذه القطع لها قدسيتها، لماذا؟ لأنها كُتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يستعيرونها من بعضهم بعضاً؛ فيكتبون منها قطعاً أخرى، وهنا سؤال: هل القطع الجديدة لها القيمة نفسها بالنسبة للقطع الأولى؟ الإجابة: لا، ولننتبّه لهذه الناحية، هذه قطعة-فَرَضاً-على جلد الغزال أو على حجارة رقيقة بيضاء أو على جريد النخل كُتبت أمام رسول الله، جاء فلان الصحابي الآخر، واستعار هذه النسخة ليَكتب منها نسخة أخرى فكَتب، فهل للقطعة الثانية قيمة القطعة الأولى نفسها؟ لا، فالقطعة الأولى مراقبةٌ سماوياً، ولقد انفضَّ المجلس النبويُّ ورسول الله صلى الله عليه وسلم راض ٍعنها ؛ لكن الثانية قد تكون مطابقة، وقد تكون غير مطابقة لأنها ليست مُرَاقَبة.

خاف سيدنا عمرُ على ذلك القرآن المكتوب، فعرَض الأمر على سيدنا أبي بكر-رضي الله عنه-خليفةِ رسول الله بأن يجمع القرآن، فقال له: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال سيدنا عمر: هو والله خير، فما زال بسيدنا أبي بكر يشرح له أبعاد الموضوع حتى اقتنع سيدنا أبو بكر، فدَعَوَا سيدنا زيد بن ثابت-رضي الله عنه-وهو من كتبة الوحي أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر ذلك, وكان على علم بما يُسمى-العرضة الأخيرة-وهي التي حدثت بين جبريل-عليه السلام-ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عام وفاته, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها: (يَا عَائِشَةُ إنَّ جبريلَ كانَ يُعارِضني القرآنَ في كُلِّ سنة مرة، وفي هَذا العام ِعارضَني القرآنَ مَرَّتين، ولا أراه إلا قد حَضَرَ أجَلِي) بمعنى أنني أشعر بأن وظيفتي انتهت، ولا أراه يعني: لا أرى إلا قد حضر أجلي.

كان على علم بهذه العرضة الأخيرة والمراجعة الأخيرة للنص القرآني سيدُنا زيدُ بن ثابت، فدعا سيدنا أبو بكر هذا الشابَّ من أهل المدينة، زيدَ بن ثابت الأنصاري-رضي الله تعالى عنه-وقال له إنك شابٌّ تقيٌّ لا نتَّهمك كنتَ تكتبُ الوحيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبّع القرآن فاجمعه, فقال سيدنا زيدٌ لسيدنا أبي بكر ولسيدنا عمر-رضي الله عنهم أجمعين-كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أرأيتم حرصهم الدائم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعدم الخروج عن منهجه ولا قيد أنملة؟ فقال له سيدنا أبو بكر: هو والله خير؛ فما زال يقنعه كما أقنعه سيدنا عمر حتى اقتنع رضي الله عنه، وقال: (والله لو كلّفاني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليّ مما كلّفاني به).

قال سيدنا زيد: فتتبعتُ القرآن، ولننتبه إلى المنهج العلميِّ الدقيق الذي نباهي به الدنيا، نباهي به من يتحدثون اليوم عن المنهجية، وعن العرض الموضوعي, نقول لهم: انظروا ماذا حدث معنا قبل ألف وأربع مئة من السنين، وماذا فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتعلموا منهم المنهجية..

أعلن سيدنا زيد بن ثابت بين الناس بأمر من سيدنا أبي بكر خليفة المسلمين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنّ من كان عنده شيء من القرآن-الذي كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم-فليأتني به، لاحِظوا، فقط يُريد القطع التي كُتبت بين يدي رسول الله، وهو لا يريد القطع التي نُسخت منها كما مرَّ معنا سالفاً, فلما كان يأتي صحابيٌّ من الصحابة ومعه قِطَعٌ يقول هذه كتبت بين يدي رسول الله، فيقول له: أتشهد على ذلك؟ فيقول الصحابي: أشهد، فيقول له: أعندك غيرك يشهد على أن هذه القطعة كُتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهو يريد على كل قطعة شاهدين، فإن كان هناك شاهدان على تلك القطعة أخذها و إلا تركها، مع كونها قد تكون صحيحة.

أذكِّركم عندما قلت: إنه عندما كان ينزل مقطع من المقاطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو الكتبة، إذاً بعض الآيات قد يكون منها خمس نسخ، وبعضها قد يكون منها أربع نسخ، وبعضها قد يكون ثلاث نسخ بحسب الوقائع, لذلك فقد يقول قائل: كيف كان يستبعد سيدنا زيد بعض القطع؟ ألا يكون هناك انقطاع؟ نقول: لا يستبعد هذه القطعة لكنه أخذ غيرها, ولا ننسى أن هناك هيمنة سماوية على الموضوع:

يقول زيد-رضي الله عنه-: فجمعتُ القرآن كله على هذا المنهج،"القرآن المكتوب"إلا آيتين اثنتين وجدتهما من القطع المكتوبة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عند صحابي جليل اسمه: أبو خزيمة, وهو خزيمة بن ثابت-رضي الله عنه-أعندك يا خزيمة غيرك يشهد على أن هاتين الآيتين كُتبتا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ مع العلم أن زيداً يحفظهما غيباً, بل وكثير من الصحابة يحفظونهما غيباً، ولكنّ الكلام عن القرآن المكتوب, فلْننتبه.. أعندك غيرك؟ فقال: لا، فتذكروا أن لخزيمة هذا قصة ًأيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما هذه القصة؟

اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم حصاناً من أعرابي, واتفقا على السعر فقال له عليه الصلاة والسلام: اتبعني حتى أعطيك الثمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى أسرع, والأعرابي وراءه يسير ببطء, فصار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الأعرابي مسافة، فرأى بعض الناس ذلك الحصان مع الأعرابي فأغرَوه بأن يبيعه، أتبيع؟ هل تبيع هذا الحصان؟ لا يعلمون أنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قد اشتراه منه، فأعطوه سعراً أعلى مما اشتراه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن البيع قد تم بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم،إلا أنّ الأعرابي طمع، فذهب إلى الرسول وقال له: هل تريد أن تشتري الحصان أم أبيعه لغيرك؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: لكنني قد اشتريته منك، فقال الأعرابي: لا والله ما اشتريت ! أعندك من يشهد؟ فكان سيدنا خزيمة بن ثابت واقفاً وعدد من الصحابة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: إني قد اشتريت من هذا الأعرابي هذا الحصان, وهو يقول الآن أعندك من يشهد؟ أفيكم من يشهد؟ الصحابة الكرام تعلموا منه صلى الله عليه وسلمعلى مثل الشمس فاشهد)، فتوقّفوا فهُم لم يحضروا البيع، فكيف يشهدون؟!

لكنّ خزيمة-رضي الله عنه-أكرمه الله سبحانه في تلك الساعة بفهم عجيب, قال: أنا أشهد يا رسول الله، ثم التفت إلى الأعرابي فقال: لقد اشترى منك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصان وأنا أشهد، فاستحيا الأعرابي واعترف، وأخذ الثمن وانصرف، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خزيمة وقال: يا خزيمة، أرأيتني عندما اشتريت الحصان؟ فقال: لا يا رسول الله! فازداد عجب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وكيف شهدتَ؟! فقال يا رسول الله: إنك لست كهيأتنا، أنت رسول الله، يأتيك خبر السماء نصدّقك، ألا نصدقك في أمور الدنيا؟ تقول: جاءني جبريل، فنصدِّقك، تقول جاءني وحيٌ، نُصَدقك, ونقول: نعم جاءك وحيٌ، والآن تقول: اشتريت الحصان، فنقول: لا نعلم، أو ربما !!

هل رأينا هذا الفهم العالي؟ نسأل الله أن يرزقنا الفهم والذوق، (وإنما الذوقُ شيءٌ ليسَ في الكُتُبِ).. فَسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم-بأبي وأمي هو عليه الصلاةُ والسلام-من جواب خزيمة، وأعطاه وساماً نبوياً، فقال: من شهد له خزيمة فهو حسبه, نحن نعلم جميعاً أن الشهادة في الإسلام تكون بشاهدين, لابد من شاهدين, قال تعالى: (… وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ))البقرة 282(, لكنّ خزيمة قال فيه صلى الله عليه وسلممَنْ شهد له خزيمة فهو حسبه), فجعل شهادته بشهادة رجلين، وبقي هذا الوسام النبوي مخبوءاً إلى أن آن أوان الحاجة إليه، فلما قال سيدنا زيد في خلافة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه لسيدنا خزيمة: أعندك غيرك يشهد على أن هاتين الآيتين وهما: الأولى: قوله تعالى في سورة التوبة(لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) الآية، والثانية قوله تعالى في سورة الأحزاب: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْه… ) الآية، أعندك غيرك يشهد على أنهما كتبتا بين يدي رسول الله؟ فقال ما عندي ! فلما تذكروا ذلك الحديث أخذهما سيدنا زيد مكتوبتين من سيدنا خزيمة وهو مطمئن القلب، لأن شهادته بشهادة رجلين.

تجمّعتْ لدى سيدنا زيد القطعُ القرآنية المكتوبة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة رجلين لكلِّ القرآن، فماذا فعل بعد ذلك سيدنا زيد؟ قام بالخطوة الثانية: تفريغ تلك القطع في مصحف واحد متسلسل الآيات والسور كما هو متلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

قام سيدنا زيد بتفريغ تلك القطع المتفرقة في صحف متتالية تفريغاً ليس أكثر، بمعنى أنه كان يعيد كتابة هذا النصِّ كما هو دون تدخُّل, فلم يزد حرفاً ولم يُنقص حرفاً, وليس لسيدنا زيد حرفٌ من اختراعه أو ابتداعه في القرآن الكريم, فكل ما نراه في المصحف الآن هكذا كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, فعلى سبيل المثال كلمة: (الصّلاة)، كُتبت هكذا: (الصَّلَوٰة) في كلِّ المصحف،ولم تكتب الصلاة بألف ممدودة،وكلمة (أيدٍ) في قوله تعالى: (وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَـٰهَا بِأَييدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) )الذاريات 47(هكذا كُتبت بياءَين,مع أن النطق بها بياء واحدة، وفي سورة الكهف قوله تعالى: (وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذ1لِكَ غَدًا))الكهف 23(، (لشيء) كُتبتْ: (لِشَاىءٍ) مع العلم بأن هذه الألف لا تُنطَق...

فأعاد سيدنا زيد كتابة القرآن كما وجده في تلك القطع, لذلك أسمينا هذه العملية عمليةَ تفريغ حيث ليس فيها مجال للاختراع أو الابتكار أبداً.

صار بعدها بين أيدي المسلمين مصحفٌ موثَّقٌ مراجَعٌ مُفرّغٌ من تلك القطع الأولى، مصحف كامل متسلسل الآيات والسور بحسب العرضة الأخيرة التي عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على سيدنا جبريل, وكان سيدنا زيد-رضي الله عنه-على عِلْمٍ تام بها, وهذه الصحف من الطبيعي أن تبقى عند خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

انتقل سيدنا أبو بكر-رضي الله عنه-إلى الرفيق الأعلى، فآلت تلك الصحف إلى سيدنا عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-خليفة المسلمين الجديد، وبقيت عنده مدة خلافته عشر سنوات ثم بعد استشهاده-رضي الله عنه-بقيت تلك الصحف عند ابنته حفصة أم المؤمنين وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعندما أصبح سيدنا عثمان بن عفان-رضي الله عنه-خليفة ًللمسلمين وهو المعروف عنه-رضي الله عنه-أنه صاحب حياء فالظاهر أنه استحيا من السيدة حفصة أن يقول لها: اعطني الصحف, فقد أصبحت أنا الآن خليفة للمسلمين, ونرى أنه قد استأمنها عليها فهي بنت عمر, وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحف في أيدٍ أمينة فلا خوف عليها.

في خلافة سيدنا عثمان وصلت الفتوحات الإسلامية إلى روسيا الآن، إلى ما يسمى (بأرمينيا وآذربيجان أو أذربيجان), وهناك التقى جيشان عظيمان من جيوش المسلمين، جيش قادم من العراق, وجنوده يقرؤون بقراءة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، وجيش قادم من الشام وجنوده قرؤوا كما أقرأهم أبو الدرداء صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسمع بعضهم قراءة بعض، قرأ أحد الجنود مرة: (وأتموا الحج والعمرة للبيت..) فقال الآخر: لا (وَاَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ))البقرة 196(فردَّ عليه الأوَّل: لا.. (للبيت), فردَّ عليه: لا.. (لله), لا.. (للبيت), لا.. (لله).. فاختصموا واختلفوا، وكادوا أن يَقتتِلوا، فهالَ هذا الأمرَ-بمعنى استعظمه-صحابيٌّ جليل كان هناك، وهذا الصحابي هو أمين سرّ رسول الله صلى الله عليه مسلم على أسماء المنافقين وهو سيدنا حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه-صاحب سرّ رسول الله الذي كان يقول: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة الوقوع فيه).

سيدنا حذيفة من الصحابة الذين عندهم بُعد نظَر، فلما سمع اثنان من الجنود يُكذّب كل منهما الآخر ويقول: قراءتي أصح من قراءتك خاف-رضي الله عنه-فإلى أي شيء سيؤول هذا الأمر؟ فترك المعارك هناك وعاد إلى المدينة والتقى بسيدنا عثمان بن عفان خليفة المسلمين قال: أدرِك هذه الأمة قبل أن يختلفوا على كتابهم اختلافَ اليهود والنصارى ! بطبيعة الحال شرَح له الأمر، وشرح له ما سمع، فماذا فعَل سيدنا عثمان لإطفاء هذه الفتنة؟ تصوَّر أنّ ما بأيدي الناس من القرآن المكتوب نوعان: نوعٌ موثَّق، ونوع مشكوكٌ فيه. فأراد أن يعيد المسلمين إلى النص الموثَّق، أنت تقول: (وأتموا الحج والعمرة للبيت)، وأنت تقول: (وَاَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ) فمن منكما على صواب؟ تعالوا لنرجع إلى النص الأصلي الموثَّق المكتوب, ما هو هذا النص؟ هو المصحف الصّدّيقيّ المُفرّغ من القطع التي كُتبت بين يدي رسول الله، ما الذي كُتب فيه؟ كُتب فيه (لله) وليس (للبيت)، إذاً الصواب (لله) وليس (للبيت). فأنت يا من تقرأ (للبيت) هذا مخالفٌ للنصِّ الموثَّق المكتوب، هذه مشكلة قد حُلّت لشخص واحد، فكيف نفعل بالأمة كلها؟

ألهم الله عز وجل هذا الصحابي الجليل، الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم وفي غيره من الخلفاء الراشدين (عليكم بسنَّتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضّوا عليها بالنواجذ)"والنواجذ هي الأضراس الأخيرة"بمعنى تمسَّكوا بهذه السنن غاية التمسك.

ألهم الله هذا الخليفة الموفق فدعا سيدنا زيد بن ثابت-رضي الله عنه-نفسَه، ونحن نلاحِظ الآن دور هذا الصحابي الجليل، يكتب القرآن لرسول الله، ويكتبه لأبي بكر، ويكتبه لعثمان.

دعا سيدنا زيداً، وأرسل إلى السيدة حفصة حيث أصبح الآن هناك ضرورة ملحة, ولا مجال للحياء، فأرسل إليها أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها، ثم نعيدها إليك. فأرسلت الصحف كاملة قرآناً كاملا ًمكتوباً, وشكّل لجنة من قريش، فقريش أفصح العرب ويجيد الكتابة بعضهم، شكّل لجنة مع سيدنا زيد وطلب منهم أن ينتبهوا، حيث دخلنا الآن مرحلة جديدة.

طلب منهم أن ينسخوا من ذلك المصحف الصّدّيقيّ الذي كُتب أيام سيدنا أبي بكر وبخط زيد, أن ينسخوا منه عدة نسخ، فجلست هذه اللجنة مع سيدنا زيد، وصاروا يكتبون نسخة نسخة، وكلما فرغوا من نسخة قابلوها مع الأصل حيث لا بد من المقابلة الآن، فقد يكون أثناء الكتابة حدث سهو في حرف,أو في كلمة, حتى تأكدوا من أن النُسَخَ الجديدة هي عين النسخة الأولى, فصار عندهم نُسَخٌ عِدّة بحسب ما أمرهم سيدنا عثمان,وكلها منقولة من المصحف الصّدّيقيّ المنقول حرفياً مما كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لاحظنا هذه المراحل؟

هذه المصاحف الجديدة الموثَّقة أرسل بها سيدنا عثمان إلى كل تجمع كبير, وهي المرحلة الثالثة: نَسْخُ عِدّة مصاحف من المصحف السابق الذكر، وتوزيعها على (الأمصار) وتعني المدن الكبيرة ليقتدي الناس بها في كتابتهم للقرآن الكريم، فأرسل إلى الكوفة نسخة، وإلى البصرة نسخة، وإلى الشام نسخة، وإلى مكة المكرمة نسخة، وأبقى في المدينة المنورة نسختين: نسخة لعامة المسلمين، ونسخة عنده لأنه أمير المؤمنين، وقيل أنه أرسل نسخة إلى اليمن، وأرسل نسخة إلى البحرين، (وهي ليست البحرين ما تعنيه اليوم تلك الجزيرة الصغيرة في الخليج العربي ؛ وإنما البحرين في ذلك الزمان هي الشريط الساحلي الشرقي للجزيرة العربية، وهي ما يعادل اليوم دولة الكويت والإمارات وقطر.. كل هذا الشريط الساحلي اسمه"البحرين"فلننتبه, فهذه مرحلة خطيرة.

قيل للناس بعدها: اعرضوا ما بين أيديكم من قرآن مكتوب من مصاحف على هذه المصاحف الموثَّقة التي أرسلتها إليكم، فما كان مما بأيديكم موافقاً لها فأبقُوه، وما كان في أيديكم مخالفاً لها فحرِّقوه، سأعيدكم إلى النصِّ الأصلي الموثق، هل عرفنا دور سيدنا عثمان؛ لم يخترع من عنده شيئاً, كل ما فعله-رضي الله عنه-أن أعاد الأمة إلى النص الأصلي الذي كُتب في الفترة الصّدّيقية، فقام الناس بعرضِ مصاحفهم على هذه المصاحف الأمهات، فالذي كان موافقاً لها أبقَوه, والذي كان فيه مخالفة لسهو أو لغيره أتلفوه وحرَّقوه, ولماذا التحريق بالذات؟ وذلك حتى تذهب الحروف لأن لها حُرمةً فهي كلام الله، فلا ينبغي لأحد أن يمزِّقه ويلقي به مع النفايات.

إذاً, صار بين أيدي المسلمين الآن المصاحف الموثقة التي أرسلها سيدنا عثمان بن عفان-رضي الله عنه-ثم دخلْنا في المرحلة التي بعدها, وهي كتابة نُسَخ ٍ كثيرة جداً من تلك المصاحف الموثقة وانتشارها في بلاد المسلمين, لأنه ومن تلك المصاحف الموثقة كُتبت مصاحف لا يحصيها إلا الله سبحانه وتعالى كثرة, ولو قلنا ملايين النسخ لا نكون مبالغين, فالحمد لله الذي حمى وحرس النص القرآني المكتوب, فصار بين يدي المسلمين ملايين النسخ وكلها موثقة ولله الحمد والمنة, ولا مجال لأحد أن يدخل حرفاً أو ينقص آخر.

إن عناية الأمة الإسلامية بكتاب ربها ليس لها حدود حتى بعد ظهور تلك الملايين من النسخ. قال علماؤنا: إن ما كُتب في المصحف وكتب في القطع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرِّر لا يخلو من أمرين: الأول: إما أن يكون موافقاً لما اعتاده الناس من الكتابة، وإما أن يكون فيه شيء من المخالفة، مثلا: كلمة (الحَمْدُ) من قول الله تعالى: (الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَـٰلَمِينَ))الفاتحة 2(فهذه الكلمة متفق عليها في كتابتنا وكتابة المصحف،وكذلك كلمة(لله)،وكلمة(رب), أما كلمة (العَـٰلَمِينَ) ففي إملائنا الحديث تُكتب بألف ممدودة قائمة بعد حرف العين هكذا: (العالمين)، لكنها كتبتْ بين يدي رسول الله هكذا: (العَـٰلَمِينَ) بدون الألف الطويلة، إذاً، قال علماؤنا: إنَّ ما كُتب في المصحف هو أحد أمرين، إما أنه موافق لما اعتاده الناس من الإملاء، وإما فيه مخالفة بسيطة في حذف بعض الكلمات, أو زيادة بعض الحروف, أو أنها تكتب بطريقة وتقرأ بطريقة مثل كلمة (الصَّلَوٰة) تُكتب بالواو وتقرأ بالألف, حيث لا يوجد من ينطقها أو يقرؤها بالواو، فهي كتبت بالواو لحكمة يعلمها الله.قام علماؤنا بجمع المواضع التي في المصحف وفيها مخالفة لما اعتاده الناس من الإملاء في كتبٍ ظهَرت تحت مسمَّى:"كتبُ رَسْم المصاحف"، فظهر وبرز للوجود مؤلَّفاتٌ خاصةٌ لقواعد كتابة المصحف التي فيها مخالفةٌ لما اعتاده الناس من قواعد الإملاء وبدأ بعضها بـ: باب ما حُذِفت منه الألف.. حيث جمعوا تحته الكلماتِ التي حُذِفت منها الألف: مثلا: قوله تعالى: (مَـٰلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) )الفاتحة 4( لم تكتب الألف هكذا: (مالك) كما يُنطَقُ بها، فنبَّه العلماءُ على أنَّ هذا الموضعَ من المواضعِ التي تُحذَفُ فيها الألف, ومثله (ذ1لِكَ الْكِتَـٰبُ) )البقرة 2(لم تكتب الألفُ أيضاً, وهكذا.. جمَعوا لنا كل الكلمات التي حذفت منها الألف.. وفي باب ما زيدت فيه الألف، جمعوا لنا الكلمات القرآنية التي تُزاد فيها الألف، مثل: ألف (قَالُواْ) التي في آخر الكلمة، وتُسمَّى ألفَ التفريق، فإننا نكتبُها ولا نلفِظها.. وفي باب ما زيدت فيه الواو جمعوا لنا الكلمات القرآنية التي تُزاد فيها الواو، مثل: (أُوْلـٰئِكَ)، فإننا نَرى فيها واواً تُكتبُ ولا تُلفظ, كذلك قوله تعالى: (… أُولِي الأيْدِي والأبصَـٰرِ))ص 45(، الواوُ من كلمة (أُولِي) تُكتب ولا تُنطق أبداً.. وهكذا.. باب ما زيدت فيه الياء، باب ما حذفت منه الياء، بابُ ما كُتِب مفصولا ً ( أَن َّلا )، بابُ ما كُتب موصولاً (أَلاَّ ), بابُ ما رُسمت فيه التاء مبسوطةً مثل: (رَحْمَت )نراها في المصحف في بعض المواضعِ بالتاء المبسوطة، وفي بعضها الآخر بالتاء المربوطة، كلُّ ذلك وغيرُه ضُبط.. لماذا؟ قالوا: نخشى على المصاحف الأصلية التي كُتبت أيام عثمان-رضي الله عنه-يُخشى عليها من الزمان، فهناك شيء اسمه العمر الافتراضي، وهناك الحريق والضياع والتلف مع مرور الزمن, وهناك الاعتداءات الخارجية على الأمة.. وفعلاً كل ما خاف منه علماؤنا حدَث ؛ حيث إن بعض المصاحف العثمانية تلِفتْ بسبب حريق, وبعضها بأسباب أخرى.بقي النصُّ القرآني بفضل الله محروسا غاية الحراسة من الناحية الكتابية إلى زمننا هذا، فالمصاحف التي بين أيدينا اليوم يجب أن نطمئن كل الاطمئنان عليها وعلى صحتها؛ فوالله إنها لمطابقة لما كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطوة الأولى التي مرت معنا، ولم يزد فيها حرف، ولم ينقص منها حرف, ولم يخترع عثمان شيئاً، وإذا قيل: المصاحف العثمانية أو الرسم العثماني فإنما ذلك على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة.

الرسمُ العثماني يعني الرسم الذي ألزم عثمانُ به الناسَ، وليس الرسم الذي اخترعه عثمان !! وهل لعثمان أن يخترع شيئا في كتاب الله؟ قد نقرأ في بعض الكتب كلاماً مخالفاً لما أقول، وقد يكون عبارة عن تصور لما حدث في ذلك الزمن ابتكره بعض العلماء مع جلالة قدرهم، وليس هذا الأمر صحيحاً !

عثمان-رضي الله عنه-لم يفعل إلا التفريغ للمصحف الصّدّيقيّ، ومن عنده غير هذا الكلام فليأتنا بدليل، فنحن لا نريد كلاماً مبتوراً عن الدليل.

هكذا وصل المصحف إلينا مكتوباً سليماً ليس فيه نقص ولا زيادة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَـٰبٌ عَزِيزٌ))فصلت 41(

والعزيزُ في اللغة العربية هو الذي في مَنَعَةٍ بحيث لا يوصل إليه، يقال: فلان عزيز في قومه، يعني عنده حراسة ليس من الممكن أن تصل إليه (وَإِنَّهُ لَكِتَـٰبٌ عَزِيزٌ)، يعني لا يُمكن أن يوصَل إليه بتحريف أوتغيير (لاَّ يَأتِيهِ الْبَـٰطِلُ مِنْم بَيْنِ يَدَيْهِ ولاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ))فصلت 42(, فكل كلمة وبرسمها العثماني المكتوب قد كُتبت لحكمة قد تكون مخبوءةً لبعض من يأتي بعدنا، فالقرآن الكريم لا تنقضي عجائبه. فالذي يدَّعي بأن القرآن الكريم كُتب بعد زمان محمد صلى الله عليه وسلم فليأتنا بدليل, أما أن يقول كلاماً لا دليل عليه فلا قيمة لكلامه.

خالد المحفوظي
08-06-2005, 01:07 PM
كيف وصل القرآن الكريم إلينا منطوقاً ؟ الحلقة الثانية (*)
بقلم الشيخ الدكتور أيمن رشدي سويد

المستشار العلميّ للهيئة

(*) ألقيت هذه المحاضرة في الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية في باريس – فرنسا بتاريخ يناير 2002 م



تابعنا في العدد الأوَّل من مجلّة "هدى القرآن" الجزء الأول من محاضرة فضيلة الشيخ الدكتور أيمن سويد حفظه الله تعالى ـ التي ألقاها في الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية في شاتو شينون بفرنسا، عن كيفيّة وصول القرآن إلينا مكتوباً، وفي هذا العدد نتابع الحديث معه عن الشقّ الثاني من الكيفية التي بلّغ بها النبي صلى الله عليه وسلم القرآن العظيم للأمة وهي: كيف بلَّغه منطوقاً ؟

المحاضرة:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا ونبيّنا محمد سيد الأوّلين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

نحن نعلمُ بأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلم عربيٌّ من العرب, والعرب يتكلّمون لغةً اسمها اللغة العربية , والعرب في زمن محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يتألّفون من قبائل عديدة , بعضها يسكن مكة، وبعضها يسكن يثرب وهي ما تسمى اليوم (المدينة المنورة), وبعضها يسكن في منطقة بني تميم يعني منطقة الرياض اليوم، وبعضها يسكن شرق الجزيرة العربية ربيعة ومضر. هذه القبائلُ العربية تتكلم اللغة العربية , والآن نحن نتكلم عن الجانب الصوتيّ للقرآن الكريم لا عن الجانب الكتابي.

النبي صلى الله عليه وسلم من قبيلة هي أشهر قبائل العرب وأشرفها, وهي قبيلة قريش كما نعلم , وقريش من نسل سيدنا إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ هؤلاء العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان بينهم اتفاقٌ كبير في الكلام , ولكن أيضاً بينهم اختلاف في بعض الكلمات.

الاختلافُ بين الكلمات ضمن اللُّغة الواحدة ـ نحن نتكلّم الآن عن موضوعٍ لغويٍّ صوتيٍّ ـ الاختلافُ في اللّغة الواحدة بين عدة لهجات يُسمى: لهجة، مثلاً في اللغة الفرنسية , كلمة (وِِيْ) التي تعني: (نَعَم) في اللغة العربية، بعضُ الفرنسيين ينطقها بياء بعد الواو , وبعضهم ينطقها بصوت ممال , هو بين الألف والياء.

وهكذا كان الحال في زمن نزول القرآن الكريم , فالعرب قبائل متعددة والاختلاف بينهم ـ كما ذكرت ـ هو ما يسمى باللهجات، فللعرب لهجات عِدّة في كلامهم العربي, وهنا قد يسأل سائل: ما الفرق بين اللهجات ضمن اللغة الواحدة ؟ نلخّص إجابة هذا السؤال عن هذه الفروق بثلاثة مظاهر يجب أن ننتبه إليها:

أهم مظاهر الاختلاف بين اللهجات:

أ ـ اختلاف طريقة التصويت في الكلمة الواحدة:

فبعض العرب يقول: (يُؤْمِنُون)، وبعضهم يقول: (يُومِنُونَ)، الكلمة نفسها لم تختلف, وإنما الاختلاف في طريقة نطقها, وبعض العرب يقول: (عليهِم), وبعضهم يقول: (عليهُم), وبعض العرب يقول: (عليهِمُو) , فالكلمة نفسها ما تغيّرت ولا تغيَّر معناها , ولكن الذي تغيَّر هو طريقة التصويت بها , بعض العرب يقول: (موسى) بالفتح, وبعضهم يقول: (موسى) بالإمالة الكبرى، وبعضهم يقول: (موسى) بالإمالة الصغرى , وكلُّه كلام عربيّ، لكن القبيلة الفلانية هكذا يتكلّمون في كلامهم اليوميّ؛ ينادي أحدُهم ولدَه يقول: (يا موسى) بالإمالة، وفي قبيلة أخرى يقول: (يا موسَى) بالفتح. فهذا أول مظهر من مظاهر اختلاف اللهجات.

ب ـ اختلاف معنى الكلمة:

وهذا موضوع أعمق، الكلمةُ موجودةٌ في هذه القبيلة وهذه القبيلة, لكن هذه القبيلة إذا أطلقتْها أرادت بها شيئا, وتلك القبيلة إذا نطقتْها أرادتْ بها شيئا آخر, مثال على ذلك كلمة (صبأ)، وهي تعني عند قبيلة قريش: خرج من دينه، و تعني عبّادَ الكواكب، وفي ذلك قصة, فعندما أرسل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدَنا خالدَ بن الوليد مع عددٍ من الصحابة إلى قبيلة لينظروا هل هم أسلموا أم لم يسلموا , فلما رأوا سيدنا خالداً ومعه جيش قالوا: صبَأْنا صبأنا، وهم يقصدون: خَرَجْنا من ديننا ودخلْنا في الإسلام , ففَهِم منهم أنهم عبّادُ كواكب، فقال: اقتلوهم، فبلَغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: (اللهم إني أبرأ إليك ممّا صنَع خالد).

كلمة: ] لمَستُمْ [: هي عند بعض القبائل تعني: لمَستم من اللَّمس, وعند بعض القبائل الأخرى تعني: الجِماع. وكلمة: ] قُرُوء [: عند بعض القبائل تعني فترة الطُّهر عند المرأة, وفي قبائل أخرى تعني فترة الحيض, فهذه لهجات.

ج ـ وجود الكلمة في إحدى اللَّهجتين وانعدامها في الأخرى:

دخلْنا الآن في أمر أخطر, كونُ الكلمة موجودةً عند قوم وغيرَ موجودةٍ نهائياً عند قوم؛ سُئل سيدنا أبو بكر عن قوله تعالى: ]وَفَـٰكِهَةً وَأَبًّا [ [عبس 31]، كلمة ]أبّاً[ غير موجودة عند قريش, وأبو بكر رضي الله عنه قرشيّ فما عرَفها, فقال: أيّ أرضٍ تُقلَّني، وأيّ سماء تُظلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم, فما عرفها؛ لأنها ليست من كلام قومه.

]فَاطِرُ السَّمَـٰو ٰتِ[, يقول عنها ابن عباس: ما كنتُ أدري ما: ]فَاطِرُ السَّمَـٰو ٰتِ[, حتى جاء أعرابيان يختصمان عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بئر , فقال أحدهما يا أمير المؤمنين: أنا فطَرْتها , يعني شقَقتها , فـ: ]فَاطِرُ السَّمَـٰو ٰتِ[ يعني: شاقّ السموات , فابن عباس تُرجُمان القرآن، ومع ذلك ما عرَف وهو قرشيّ, فهذه الكلمة ليست مستعملةً في لغة وبيئة قريش, والقرآن عربيٌّ وليس قرشيّاً؛ فهو الموصوفُ بأنه عربيّ , ولم يوصف مرة بأنه قرشيّ , فالقرآن يأخذ كلاماً من كل القبائل أو من أغلبها , لكن الكلمات الأكثر فيه من لهجة قريش؛ لأن قريشاً كانت تأخذ من كل القبائل وذلك بحكم موقعها الجغرافي.

الآن لو ذهبنا إلى لهجة أهل مكة، فإننا نجد عندهم كلاماً مصرياً وكلاماً أندونيسياً وكلاماً هندياً وكلاماً تركياً وكلاماً شامياً وكلاماً عراقياً، وذلك بحكم موقعهم الجغرافي, يأخذون من كل الناس بعض الكلمات , وهكذا كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يأخذون من عِدّة قبائل بعضَ الكلمات , قال تعالى: ] وَءَاتَتْ كُلَّ وَٰحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكّينًا... [ [يوسف 31]، كلمة (سكّين) ليست مستعملةً في قبيلة " دَوس ", ومن هذه القبيلة الصحابي الجليل الحبيب راويةُ الحديث سيدنا أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسيّ , جاء فأسلم ولزم رسول الله، ولَزِمه يعني: صاحَبه ولصق به ولم يفارقه , مرةً كان جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله: يا أبا هريرة , (أعطني السكّين) , ارتبك سيدنا أبو هريرة , ما هذه السكّين ؟ , فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة: (أعطني السكّين) , فأشار عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة قال: (أعطني السكّين) , فقال سيدنا أبو هريرة: آلمُدْيَة تريد ؟ فهو في قبيلته يسمّي السكين "مُدْيَة", فيقول أبو هريرة: لم أسمع لفظ السكين من أحد قبل ما سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً هكذا كان الواقع اللغويُّ في زمن نزول القرآن الكريم زمن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام.

تلك هي الأمور الثلاثة التي تفرّق بين اللَّهجات.

الآن لو طلبْنا من شخصٍ ذي جنسية مغربيةٍ أن يتكلّم باللهجة المصرية, هل يستطيع ؟ وآخر مصري يتكلم باللّهجة العراقية , فهل يستطيع ؟ هكذا في زمن نزول القرآن لو طُلب ممن يقول: (يُؤْمِنُونَ) , أن يقول: (يُومِنُونَ) , أو مِمَّن يقول: (موسى) بالفتح أن يقول: (موسى) بالإمالة أو العكس , أليس في ذلك مشقة ؟

نزل جبريل عليه السلام , وقال يا رسول الله: (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف , يعني على طريقة واحدة، فقال يا جبريل: إني أُرسلتُ إلى أمةٍ أمّية فيهم الشيخ الكبير والمرأة , فسَل ربّك التخفيف , ذهب وعاد وقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين , فلم يزل يستزيده صلى الله عليه وسلم , وهو الرحمة المهداة , إلى أن قال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف , كلها شافٍ كافٍ , فقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: اقرؤوا كما عُلّمتُم..) فكان النبي صلى الله عليه وسلم- بأبي وأمي هو- يأتيه الصحابي الذي يُميل في قراء ته , ويُقرّه صلى الله عليه وسلم , ويأتي الصحابي الآخر الذي لا يميل فيُقرّه كذلك , لأنه أمر أن يُقرئ الناس هكذا, (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف).

أعود فأذكر بأن نزول القرآن كان على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وليس على سمعه؛ لأن هناك بعض من يقول: أهكذا كان جبريل يقرؤها مرةً بالفتح ومرةً بالإمالة , فنقول: إنّ نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كتلقّينا نحن , كان النزول على قلبه الشريف بكيفيةٍ اسمُها الوحي لا يعرفُها إلا من ذاقَها , ويجب علينا أن نتنبّه لهذا الأمر؛ فالنزولُ معلومات مباشرة تنزل على قلبه صلى الله عليه وسلم , ليس كتلقينا نحن عن طريق الآذان.

أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقرئ الناس بما اعتادوه من ظواهر صوتية (النوع الأول السابق)، وذلك تسهيلاً على الأمة, فمثلا ً: لو أقرأ النبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة رضوان الله عليهم: ]وَعَلَى أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ[، والآخر أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم: ]وَعَلَى أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ[ بالإمالة في ]أَبْصَـٰرِهِمْ [ والآخر أقرأه: ]وَعَلَى أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ[ بالإمالة في الاثنين، أعني: ]أَبْصَـٰرِهِمْ[ و ]غِشَـٰوَةٌ[, المعنى لم يختلف في كلّ ما سبق فأحدهم قد يجد صعوبة في أن يلفظ بلفظة الآخر.

يقول أبو بكر السجستاني وهو من علماء القرآن الكبار: قرأ عليّ أعرابيٌّ في الحرم: ]الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّـٰلِحَـٰتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَـآبٍ[ [الرعد 29]، فقلت له: (طُوبى) , قال الأعرابي: (طِيبى), قلتُ لهطوبى) , فقال الأعرابي: (طيبى) , لم يكن متعوداً عليها , فلما طال عليّ الأمر قلت له: طو, طو , فقال الأعرابي: طي , طي.. يعني لا فائدة، وكأنه يقول له: لن أغيّر لهجتي.

نعود فنقول: كان لابدّ من هذا التسهيل الربانيّ رحمةً بالأمة، بحيث لا يُكلّفون ما لا يطيقون. الصحابة تعلّموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلٌّ حسب لهجته وحسب قبيلته، ومن ثَمّ قاموا هم رضي الله عنهم بتبليغ القرآن المنطوق؛ فكل صحابيٍّ أقرأ مَن بعده كما تعلَّم هو , فالذي تعلّم مثلا: ] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ أُمَّهَاتُكُمُ وَبَنَاتُكُمُ وَأَخَوٰتـُكُمُ وَعَمَّـٰتـُكُمُ... [ بضمِّ ميم الجمع, بلّغها كذلك , والذي تلقّى: ] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوٰتـُكُمْ وَعَمَّـٰتـُكُمْ... [ [النساء 23] بتسكين ميم الجمع, بلّغها كذلك.

وهكذا انتقل القرآن الكريم إلى التابعين, حيث علّم كلّ واحد من الصّحابة مَن بعده من التابعين كما تعلَّم فظهرت القراءاتُ المختلفة للنصّ القرآنيّ الواحد.

ننتقل بالحديث الآن عن المائة الثانية الهجرية, عصرِ التدوين، تدوينِ العلوم الشرعية , لأنه في أيام النبي صلى الله عليه وسلم لم يدوَّن غيرُ القرآن , قال صلى الله عليه وسلم: (لا تكتبوا عني غير القرآن , ومن كتب عني غير القرآن فلْيمحُه)، ولم يأذن إلا لعدد محدودٍ جداً من الصحابة أن يكتبوا غير القرآن من أمثال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه, وذلك خشية أن يَلتبس القرآن بغيره.

إذاً في عصر التدوين في المائة الثانية من الهجرة ظهرت مؤلّفاتٌ فردية تَضبط قراءةَ قارئٍ بعينه يكتبها أحد تلاميذ هذا القارئ , فكلّ الرواة ناقلون ليس لهم أي اختراع في قراءة القرآن , وهذا ليس كما يدّعي بعض المستشرقين الآن حيث يقولون: إن هذه القراءة اخترعوها من عندهم !! كيف يكون هذا الكلام؟ وهل إذا ثبت هذا فعلا ًفهل سيسكت لهم المسلمون ويتركونهم ؟!

مثلا ًلو أردنا أن نُصلّي جماعة , فتقدّم أحدنا وقرأ: (الحمدَ لله رب العالمين) بفتح دال " الحمد " فماذا يكون الردّ منّا خلفه ؟ كلّ واحد منا يردُّ: الحمدُ , الحمدُ.. ويظهر الضجرُ والامتعاضُ الشديد من هذا الخطأ , برغم أنه في ظاهره خطأٌ بسيطٌ من ضمّ الدال إلى فتحها, وهذا الآن في عصرنا الحالي وبعد مئات السنين فما بالكم في العصور الأولى وفي مكة والمدينة ؟! فمن يستطيع أن يغير في القرآن ولو حرفاً واحداً ؟! إذاً ظهرت مؤلفاتٌ فرديةٌ في المئة الثانية.

بعد ذلك في المائة الثالثة ظهرتْ مؤلَّفاتٌ حوتْ أكثر من قراءة بعد أن صار بأيدي الناس مؤلفات فردية, رواية ورش عن نافع, رواية قالون عن نافع, رواية فلان, رواية فلان, ثم ظهرتْ طبقةٌ بعدهم كانوا أصحابَ هِممٍ عالية فدَاروا على الشيوخ، وصار التلميذُ النجيبُ النشيطُ يقعدُ عند فلان, فإذا انتهى وضبط، فإنه يذهبُ إلى شيخٍ آخر يقرأ عليه, فإذا قرأ وضبط يذهب إلى شيخٍ آخر ثالث و رابع و عاشر... ثم إذا انتهى الأمر عنده يعودُ ويجمع تلك المعلومات في كتاب واحد, فظهرتْ مؤلَّفاتٌ حَوَتْ أكثر من قراءة , وهنا برزَ علمُ القراءات المكتوب إلى الوجود , أكرِّر: المكتوب، أما المنطوق فقد كان موجوداً كما عرَفنا في الحلقة الأولى من قبل.

بدأتْ تظهرُ مؤلّفاتٌ من مثل: قرأ ورش: ] وَباِلآخِرَةِِ [ بنقل حركة الهمزة إلى اللام قبلها وترقيق الراء , قرأ فلان: ] وَباِلآخِرَةِِ [ بهمزة مفتوحة بعدها راء مفخمة, وقرأ فلان: ] وَباِلآخِرَةِِ [ بالسكت على اللاَّم قبل الهمزة , قرأ فلان: ] وَباِلآخِرَةِِ [ بالإمالة إذا وقف.

إذاً بدأتْ تظهر مؤلّفاتٌ فيها أكثر من قراءة , كأنها عبارةٌ عن وصفٍ لما تُلِقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسب اختلاف القبائل, وبحسب اختلاف اللهجة.

هناك ناحيةٌ أريد التنبيه عليها وهي: هل كلُّ القراءات المنقولة عن رسول الله تتعلّق باللهجات فقط أم هناك شيء آخر ؟

95 % بالمائة من القراءات القرآنية تتعلّق بالظواهر الصوتية من مثل: ] يُؤْمِنُونَ [ , ] يُومِِنُونَ [ , و ] مُوسَى [ بالفتح، و ] مُوسَى [ بالإمالة، وأمثلة غيرها، و 5 % بالمئة تقريباً قراءاتٌ لها علاقةٌ بالمعنى , يعني لا علاقة لها بالقبائل, ولا علاقة لها باللهجات, وليس بينها تعارضٌ, وهذا من إعجاز النص القرآني.

آتيكم بمثال: قال تعالى: ] مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ , وقال تعالى: ] مَـٰلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [, قرئت هكذا وهكذا، فهذا أمر لا علاقة له بالقبائل ولا باللَّهجة, (المَلِك) شيءٌ، و(المالك) شيءٌ آخر , قد يكون الإنسان مالكاً ولا يكون مَلِكاً. كلٌّ منّا ـ مثلاً ـ يملكُ سيارته.. يملكُ بيته.. يملكُ ثيابه.. يملك نقوداً, لكنه ليس مَلِكاً, وقد يكون الإنسان مَلِكاً غير مالك, الملوك الموجودون اليوم هل يملكون الناس والبيوت والشوارع ؟ ما يَملكون, فالمَلِك بمعنى الحاكم , فهو يملك أمور الحكم.

الله عز وجل أراد أن يخبرنا عن ذاته العلية أنه مالكُ يوم الدِّين، وأنه الحاكمُ يومَ الدّين , فيوم القيامة لا يدّعي أحد فيه مُلكَ الأشياء ؛ لأنها كلها لله , ولا يدعي أحدٌ الحاكمية, لأن الحاكمية لله. قال تعالى: ] يَوْمَ هُمْ بَـٰرِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الوَ ٰحِدِ الْقَهَّارِ [ [غافر 16]، وقال تعالى: ] قُلِ اللَّهُمَّ مَـٰلِكَ الْمُلْكِ [ [آل عمران 26], ولم يقل: (ملِكَ الملك), إنما: ] مَـٰلِكَ الْمُلْكِ [ , وقال تعالى: ] مَلِكِ النَّاسِ [ [الناس 2] , ولم يقل: (مَالكِ الناس) , فكما أن آية: ] مَـٰلِكَ الْمُلْكِ [ أخبرتْنا بأن الله المالك, وآية ] مَلِكِ النَّاسِ [ , أخبرتْنا بأن الله الملك بمعنى الحاكم, أخبرتْنا سورةُ الفاتحة في نصٍّ واحد أن الله (مَلِك) و (مَالك) في الوقت ذاته , فكأنّ القراءتين في الكلمة ] مـلِكَ [، بمثابة آيتين أخبرتْ كل منهما عن معنى مكمّل للمعنى الآخر, وليس بينهما تضادٌّ ولا تعارض , وهذا من إعجاز النص القرآني.

مثالٌ آخَر: قال الله تعالى في أول البقرة: ]... وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [ [البقرة 10] , وقال تعالى في قراءة أخرى في الآية نفسها: ] وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَ [ فما الفرق ؟ هذا أمر لا علاقة له بالقبائل ولا اللهجات، فـ: ] يَكْذِبون [ فعلٌ مضارعٌ ماضيه: (كَذَبَ), و ] يُكذِّبون [ فعلٌ مضارع ماضيه: (كَذّبَ). فـ: (كَذَبَ) بالتخفيف يعني: هو إذا تكلم يَكْذِبُ, أما (كذّب) بالتشديد، فبمعنى أنه قال لغيره: أنت كاذب , إذا كذّبتُ فلاناً فأنا مكذِّب , وإذا كذَبْتُ أي: قلتُ غير الحق فأنا كاذب.

فالله عز وجل أعلمَنا عن هؤلاء القوم أنهم إذا تحدَّثوا كذَبوا , وإذا تحدَّث إليهم المرسلون كذَّبوهم , فهم كاذبون ومكذِّبون , فكأن هاتين القراءتين بالنصّ الواحد بمثابة آيتين أخبرتْ كلُّ واحدة منهما عن معنى مختلف عن المعنى الآخر, ولا تضادَّ ولا تعارضَ بين المعنيين.

أعود فأقول: هذا النوع من القراءات لا يكاد يشكل 5 % بالمائة من القراءات القرآنية, أما أغلبها والكثرة الساحقة منها فتتعلَّق باللّهجة.

إذاً, هنا يصطاد بعض أعداء الإسلام فيقولون: إن هذه القراءات تدل على أن هناك اختراعاً من قبل القُرَّاء ! ونحن نقول باستنكار شديد: من يخترع ؟! وكيف يخترع ؟! ومن يسمحُ له أن يخترع ؟!

الأمر الأخير: ما زالت القراءات القرآنية تُنقلُ صوتياً جيلاً عن جيل إلى عصرنا الحاضر؛ فهي ما زالت موجودةً يتلقاها قراءٌ متخصصون , وليس كل مسلم مطالباً أن يكون متقناً لها , ليأتي السؤال: هل كلّنا مُحدِّثون ؟ هل كلّنا فقهاء ؟ كذلك ليس كلّنا قُرَّاء؛ لكن من فروض الكفاية في الأمة أن يكون بيننا مُحدِّثون يضبطون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وذلك خشية أن يدخل عليها التغيير , ومن فروض الكفاية في الأمة أن يكون بيننا قُرَّاء يضبطون النص القرآني بقراءاته المختلفة, فهم شريحةٌ من الأمة يقومون على حراسة زاوية معينة من الشريعة , الفقهاء يحرُسون جانباً , الأصوليّون يحرُسون جانباً , الدعاة يحرُسون جانباً , المفكّرون الإسلاميون يحرسون جانباً , الاقتصاديون الإسلاميون يحرّسون جانباً , السياسيّون الإسلاميون يحرسون جانباً , والكلّ يتكامل في حفظ الشريعة وحفظ الدين.

هذه القراءات القرآنية ـ من فضل الله ـ إلى الآن بعد ألفٍ وأربع مئة من السنين ما زال بيننا قراء متقنون في الشام.. في مصر.. في تركيا.. في اليمن.. في المغرب.. في شتَّى بلاد الإسلام, وما هذا العبد المتحدث إليكم إلا واحد من أصغرهم حيث تلقيت القرآن الكريم بقراءاته كلها ـ ولله الحمد ـ عن شيوخي بأسانيدهم المتصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولي أكثر من ألف سلسلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيوخي وعن شيوخهم، معروفةٌ أسماؤهم، ومعروفةٌ وفاتهم، ومعروفةٌ حياتهم, ولو رآهم البخاريُّ لأخذ عنهم , يكفيهم أن الله انتقاهم لنقل كتابه جيلاً عن جيل , قال تعالى: ] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [ [فاطر 32], انظروا إلى كلمة: ] اصْطَفَيْنَا [، مَن المصطفِي ؟ إنه الله سبحانه وتعالى.

وأقصرُ سلسلةٍ بيني وبين سيّدي وحبيبي وقرّةِ عيني رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإن بيني وبينه سبعةً وعشرين رجلاً ـ ولله الحمد ـ فهي من أقصر السلاسل الموجودة في عصرنا الحاضر: " سبعة وعشرون رجلا "، وهناك سلاسل أطول: 28 , 29 , 30 , 31 , 32...، لكن أقصر سلسلة ولله الحمد (27) رجلاً وهذا سَنَدٌ عالٍ جداً ولله الحمد والشكر على هذه النعمة.

لقد سمعتُ القرآنَ من شيوخي بأذنيّ عندما نطَقوه ونطقتُه أمامهم، وسمعوني بآذانهم, وهكذا فعلوا هم مع شيوخهم, وشيوخُهم هكذا فعَلوا مع شيوخهم مِن قبلهم إلى الصّحابة الكرام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقمتُ بتأليف كتابٍ لعلّي أُخرجُه قريباً لهذه السلاسل كاملةً، المتصلة منّا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة دون انقطاع , واسم كلّ واحدٍ منهم كاملاً، وتاريخ ولادته، وتاريخ وفاته، حتى نبين للناس أجمعين، ونقول لهم: امسكوأ بأيديكم هذا التواتر, فنحن عندما نقول: إن القرآن متواتر، فإننا لا نقول كلاماً خطابياً، ولا نقول كلاماً أجوف, بل نتكلم عن حقائق، ولله الحمد والمنة.

فارفعوا رؤوسكم عالياً، وافتخروا بأن كتاب ربكم الذي تمسكونه بأيديكم وصَلَكم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم مكتوباً ومنطوقاً بأعلى طرق التوثيق المعروفة التي يُباهي بها الآن أهلُ الجامعات, ويتكلّمون عن المنهجية والموضوعية في نقل الأخبار.

الذي فعله أسلافُنا- رضي الله عنهم - هو أعلى درجات التوثيق، ولله الحمد والمنة, فافرحوا بهذا واشكروا نعمة الله عز وجل على وجود القرآن الكريم بيننا صحيحاً غير مغيَّر, كاملاً غير منقوص ولا محرَّفٍ، ولا يصيبه التغيير ولا التبديل أبداً إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى في آخر الزمان؛ فقد ورد في بعض الآثار: "إنَّ آخر أمر القرآن ـ لأنه محفوظٌ من التغيير ولا تقوم الساعة إلا على لُكَع بنِ لكع لا أحيانا الله إلى ذلك الزمان ـ يَستيقظُ الناس صباًحا وإذا بكلِّ مَن يحفظُ شيئاً من القرآن قد نَسِيه, والمصاحفُ أوراق بيضاء , ويكون الله قد تخلَّى عن أهل الأرض؛ لكثرة الفساد في ذلك الزمان , وكأنه يقول سبحانه: لستم أهلاً لأن أترك كلامي بينكم فقد حلَّ غضبي, فكلّ الموجودين في ذلك الوقت هم من شرار الخلق, ويقولون: لقد كان آباؤنا يقولون: الله, الله، لفظةٌ كنّا نسمعها منهم، لكن لا نعي ولا نعرف معناها. فعلى هؤلاء القوم تقوم القيامة نسأل الله العافية لنا ولكم, ونتعاهد بمعيَّتكم أن نُقبِل على كتاب ربّنا، وأن نقرأه بتمعّن؛ لأن الله أنزله لنتدبره, ] كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لِيَدَّبَّرُواْ ءَايـٰتهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَـٰبِ [ [ص 29].

إذاً: القراءةُ أولاً, فالتدبرُ ثانياً, فالعملُ بمقتضاه ثالثاً, القراءة هي رقم واحد فقط, ثم التدبر, فلا تكفي قراءةٌ بدون تدبّر, فإذا قرأْنا وتدبَّرْنا وفهِمنا لا يكفي، وإنما لا بدَّ من العمل.

أسأل الله عز وجل أن يبارك لنا في القرآن الكريم، وأن يُديم علينا هذه النعمة, وأن يُليِّن ألسنتنا بتلاوة القرآن, وأن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصَّته, وأن يُطلِق ألسنتنا بتلاوة القرآن الكريم, وأن يجعلنا وإياكم عنده من المقبولين, إنه تعالى سميع قريب مجيب، والحمد لله رب العالمين.