المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التاااااااااااريخ يتحدث


د.فالح العمره
15-04-2005, 10:21 PM
محمد صلى الله عليه وسلم

محرر الإنسان والزمان والمكان

د. محمد أحمد العزب


--------------------------------------------------------------------------------

[1]
حين يحدق الباحث في ملامح الحركة التاريخية قبل وبعد ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحتاج إلى معاناة ليستجلي حقيقة موضوعية أكبر من أن تتوارى في غياهب الجدل، هذه الحقيقة الموضوعية هي أن هذا الميلاد العظيم كان إيذاناً بثورة كونية شاملة عملت عملها في تغيير علاقات الأشياء بعضها مع بعض، وفي تغيير علاقات الأحياء بعضهم مع بعض، حتى ليمكن القول بأن ما حدث كان تحريراً كاملاً لوضعية الإنسان في الأرض، ووضعية الأرض في الكون، ووضعية الزمان في التاريخ.

أجل، كان هذا الميلاد العظيم إيذاناً ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات كثيرة كانت تعتاق انطلاقها جميعاً، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة فجرت عناصر الخير في كل شيء كان احتجاجاً قبلياً على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليلهم ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!

ولكن كيف؟

كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان من ربقة عبودياته المتعددة؟

كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الزمان من قبضة كونه إطاراً للحركة التاريخية الهابطة؟

كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم المكانَ من وضعية كونه صنماً أو مناطاً لصنم معبود على الأرض؟

القضية جرت بها أقلام كثير من الباحثين، ولكنهم تناولوها من منظور كمي إذا جاز أن يقال، بمعنى أنهم رصدوا كمَّ التحول التاريخي على مستوى سياسي واجتماعي وثقافي وعقائدي، دون أن يفطنوا إلى جدل هذه المستويات وإشعاعاتها التي تشكل خلفياتها الحقيقية، وهو ما نحاول تجليته في هذه السطور..

ولكن.. كيف.. مرة أخرى؟

[2]
التاريخ هنا لا يتسطيع أن يكذب على نفسه.. فإن ثورة محمد صلى الله عليه وسلم من أجل إنسانية الإنسان تكاد تشكل كل ملامح رسالته الشامخة، لأن القيم والأعراف والمبادئ والنواميس والأحكام والشرائع والقضايا والمقولات التي يمكن أن تشكل في النهاية مجموع الرسالة الإسلامية ليست بذات بال إن هي فقدت محور وجودها الصميمي الذي هو الإنسان.

إن قيام الإنسان بهذه المواضعات الإسلامية هو ما يعطيها معقولية وجودها على الأرض، ومن هنا نستطيع أن نفهم أن نزول القرآن »منجماً« كان ترتيباً طبيعياً على مقدمة أساسية وهي أن معاناة البشر الكادحين هي بالضرورة محور تنزل الوحي من السماء إلى الأرض، أي أن وجود الشرائع والرسالات هو وجود متوقف على وجود آخر قَبْلي ومسبق وهو الوجود الإنساني، فما لم يوجد الإنسان كان لا يمكن أن توجد الشرائع، وما لم يحفر البشر تاريخهم الحلولي على أخاديد الصخور وأعراف الجبال كان لا يمكن للرسالات أن تحفر تاريخها الحلولي على أخاديد الورق أو في أعراف الطبائع والنفوس!

وإذن فقد كان تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للإنسان تحريراً مقصوداً وقَبْلياً، ولذلك فإن حجم هذا التحرير يعطي قناعة أن كل الجراح التي نزفت من محمد صلى الله عليه وسلم كانت جراحاً حميمة إلى قلبه، لأنها نزفت دماً هنا ورقَأَتْ دماً بلا حدود هناك، أعنى أن كل قطرة دم أو عرق نزفت من جبين محمد القائد الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحالت في تاريخ الإنسان على امتداد هذا التاريخ إلى يد برة حانية تمسح عن جبينه طوفان الدم وشلال الدموع. إن الجراح التي نزفت هناك من جبين محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعدل مسار الكون والتاريخ والإنسان، هي التي تتيح لهذا الإنسان أن يقبض في رحاب الكون والتاريخ على إنسانيته بيديه، غير غارق في طوفان الرجعة الذاهلة إلى حرب الأعراق الفاجرة، أو إلى انحناء الجذع الإنساني أمام حجم حجري بليد، أو إلى انصياع في مسارب اللذات غير مبدع ما يبقى على التاريخ عنواناً على عظمة البشر ومجد الإنسان في الأرض!

كان الإنسان –قبل محمد صلى الله عليه وسلم- يتكئ في قناعته على مسلّمات كثيرة، فأطلق محمد صلى الله عليه وسلم فيه ثورة العقل وثورة الجسد وثورة الروح.. لقد زلزل هذا الإنسان بثورة العقل معاقل الخرافة، وأسوار التجمد، وحوائط الانغلاق، فأطلق لفكره العنان يجول في أبهاء الزمن والتاريخ والكون والثقافات، يشيد من بعضها ما يراه موائماً لطبائع التطور، ويشيد علىأنقاض بعضها الآخر ما يراه عاجزاً عن مواكبة الطموح البشري في اندفاعه مع تيار التواصل الكوني والإنساني.. وزلزل هذا ا لإنسان بثورة الجسد مقاصير العنت، ومناطق الخوف، وأحراش الرهبوت، فأطلق للإبداع الإنساني آفاق طموحه المشروعة، وأمّن لخطوات التاريخ على طرائق الخير والحق، وجعل من »القيمة« وحدها مقياس التوافق مع الوجود الإنساني النبيل الذي يرفض أن يشارك في مهزلة الأعلى والأدنى على ضوء مقاييس البطش والإرهاب.. وزلزل هذا الإنسان أخيراً بثورة الروح تاريخ الهمجية على الأرض، فأطلق لأشواقه العليا أن تلوذ بمناطها الطبيعي، وأن تستريح من قرّها إلى دفء الألوهية.

وهكذا يتوافق إيقاع ثورات العقل والجسد والروح تلك التي أطلق شرارتها الأولى محمد صلى الله عليه وسلم لتؤلف في النهاية هذا الكون المسلم الذي يرفض إنسانه أن يوجد على الأرض بليداً بلا عقل، وكاسداً بلا فعل، ومعطلاً بلا أشواق، وهذا هو حجم التحول الذي قاده هذا الإنسان النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك فترات التاريخ قتامة وجهامة وانطفاء!

[3]
وليس فعل محمد صلى الله عليه وسلم في تحرير الزمان بأقل من فعله في تحرير الإنسان، وإن كنا نلاحظ منذ البدء أن الفصل بين الإنسان والزمان فصل عشوائي وغير مبرر على الإطلاق، إلا أن التقسيم المرحلي لقيمة الفعل البطولي الذي قاده النبي محمد صلى الله عليه وسلم يحتم أن نقف عند كل مرحلة على مشارف لا نتعدى إطارها إلى إطار آخر حتى لا تختلط التخوم والأبعاد.. إن تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للزمان يتوهج في حقيقة أولية توشك أن لا تلمحها البدائِهُ العَجلى، وهي اقتداره العظيم على اقتلاع حركة الزمان بما هو تاريخ من فوضى التدفق العشوائي إلى تحديد الملامح وتجسيد الهويات، بمعنى أن التاريخ الزمني كان إطاراً سائباً لا تجري داخله حركة عقائدية محددة تبدع للإنسان شوطاً يجريه، أو هدفاً يحققه، أو إنجازه يضعه على الأرض.. فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليجعل من هذا التاريخ الزمني إطاراً لحركة تبدأ تخومها من الأرض لتنتهي في السماء، أي أن حجم هذه الحركة العقائدية التي أعطاها محمد صلى الله عليه وسلم للتاريخ الزمني محتوىً ومضموناً، تبدأ بمفردات الوجود الإنساني على الأرض لتتوافق في نهاية الرحلة مع كلية الوجود الإلهي في الأشياء وما قبل الأشياء وما وراء الأشياء!

هذا شيء.. وشيء آخر لا يقل عن ذلك تأصلاً وإشعاعاً.. ذلك هو انتقال محمد صلى الله عليه وسلم بالتاريخ الزمني من شواطئ المواجهة للإنسان إلى شواطئ العناق للإنسان، بمعنى أن التاريخ الزمني كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم عدواً للإنسان يتربص كل واحد منهما بالآخر في محاولة لإجهاض وجوده على الأرض، ولذلك نرى المساحة الكبرى من الإبداع العقلي والفني لإنسان ما قبل التاريخ الإسلامي تغص بقتل الإنسان لزمنه التاريخي في قصف هنا، أو لهوٍ هناك، أو حرب غير مبررة هنالك، ربما لإحساس هذا الإنسان بأن الزمن التاريخي يتربص به، فهو يحاول قتله قبل أن يستطيع هو أن يقتله، وكلاهما قاتل ومقتول في نفس اللحظة وعلى نفس التراب! حتى إذا جاء محمد صلى الله عليه وسلم انتقل بالتاريخ الزمني من شواطئ المواجهة إلى شواطئ المعانقة، وشكل للإنسان حاسة تاريخية ترى في اللحظة الآنية إثراءً طبيعياً للحظة الحاضرة، وفي الآن الماضي تربة طبيعية لتشكيل الآن المستقبل، استطاع الإنسان بعدها أن يفيق على حقيقة أن الزمن هو إطاره الطبيعي، وأن تدمير الإطار يعني على الفور تدمير الذات الساكنة في هذا الإطار، فعزف عن مناوأة تاريخه الزمني، وعقدا معاً ما يشبه الحلف المقدس، فأحس الإنسان المسلم دائماً أن الزمن ثروة ينبغي أن تستغل، وعمر يجب أن يمتلئ، وتاريخ لا بد أن يحتوي أروع ما في الإنسان من طاقات وإبداعات!

وما لنا لا نحاول أن نفهم من المواقيت الزمنية الصارمة للصلاة والصيام والحج والزكاة فوق حكمة مشروعيتها حكمة حلولها في وقت معين وزمن بذاته ربما لتحرك في أعماق الطبيعة الإنسانية قيمة الزمن والإحساس بتاريخية كل الأشياء؟

الحق أن حجم التحول الذي قاده النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم في مجال تحرير الإنسان والزمان حجم يجب أن يظل في مناطق الضوء، لأن به وحده يمكن التعرف على ضخامة العطاء الإنساني والرسالي الذي وهبه لنا هذا النبي الإنسان صلى الله عليه وسلم، الذي حمل في عينيه أحلام مستقبل البشر.

[4]
فإذا انتقلنا إلى تأمل ملامح الحركة الثالثة وهي تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للمكان، لراعنا أن قوة الفعل هنا لا تقل عن روعة الفعل هناك، فإذا تخطينا ملاحظة أن الفصل هنا كذلك بين الإنسان والزمان والمكان فصل مرحلي تحتمه طبيعة التأمل والفهم ولا تحتمه طبائع الأشياء لأن طبائع الأشياء ترفض هذا الفصل ولا تزكيه، إذا تخطينا ذلك كله إلى محاولة تأمل قيمة الفعل الذي أعطاه محمد صلى الله عليه وسلم لتحرير المكان تتميماً لتحرير الإنسان والزمان، لبدهنا على الفور أن علاقة الإنسان هنا بالمكان غير علاقة الإنسان هناك بنفس المكان –بمعنى أن المسرح المكاني الذي جرت عليه أحداث الحياة قبل البعثة المحمدية، ولكن علاقة إنسان الجاهلية بهذا المكان غير علاقة إنسان الحركة الإسلامية بنفس هذا المكان، لأن طبيعة الجدل بين الإنسان وإطاره الطبيعي الذي هو المكان قد وضعت في المنظور الإسلامي على مستوى آخر يرى في الأشياء صديقاً وملهماً ومحراباً، إن الأرض هنا تصبح »مسجداً وطهوراً«.. ويصبح »المكان« قبلة وكعبة ومنسكاً وبيتاً وحقلاً وميداناً وملاعب ذكريات.. وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد حرر جبين الأرض من أن تصبح مجرد صنم أو مجرد مناط لصنم، فإن ذلك يعني أن قد حررها من أن تكون بوضعيتها المكانية غير قادرة على الإلهام والعطاء، لأن صنمية الأشياء تعني رفض تعقل الأشياء، أن أن الصنم يتطلب عقلاً صنماً لا يفكر، لأنه إذا تحرك بالفكر رفض على الفور مقولة أن يخرّ لحجرة الصنم.. فإذا حرر محمد صلى الله عليه وسلم هذا التاريخ الطبيعي الذي نسميه الأرض، أو نسميه المكان من أن يكون صنماً أو مناطاً لصنم، فإن ذلك يعني أن أعطى هذا التاريخ الطبيعي اقتداره الطبيعي على أن يلهم ويحرك ويستثير، بمعنى أن الأرض بهذه الوضعية تصبح مجالاً لتأمل الفكر، وطموح العقل، وجسارة الاستشفاف، وما دام ذلك كذلك، فإن رحلة العروج الإيماني قد تبدأ من نبتة طالعة في الصخر، أو نبع متدفق في الرمال، أو شفق هائم على صدر الأفق، أو مضيق متعرج بين جبلين.. وهنا لا بد أن نفطن إلى نداءات محمد صلى الله عليه وسلم المتواصلة التي كان يعقد فيها صداقة كونية بين مظاهر الطبيعة وإنسان هذه الطبيعة، حتى لنراه يدمع وهو يفارق مكة، ونراه ينحني على الزرع الطالع في تعاطف حميم، ونراه يقبل الحجر الأسود، ونراه يميط الأذى عن الطريق.. إن هذا الفعل الرسولي ليس فعلاً عشوائياً يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار في عفوية ساذجة ولكنه يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار ليشكل هذا التواصل الوجداني بين الكون والإنسان، ربما ليستحيل الإنسان في الكون إلى طاقة متلقية وواهبة تعطي الكون معنى أن كان ومعنى أن يكون، وهذه هي قيمة الفعل في تجاوب النقائض والأضداد!

لا أدري بعد.. هل يمكن أن تغيم مقولة أن محمداً صلى الله عليه وسلم حرر الإنسان والزمان والمكان منذ لحظة وجوده على الأرض فاعلاً وغلاباً؟ أم أن هذه المقولة بعد تأمل كل هذه المفردات يمكن أن تكون كما يكون طلوع الشمس في أعقاب ليل بهيم، حركة كونية لها ثقل الحركة بكل أبعادها الهائلة، ولها جلال الكون بكل أسراره وغوامضه وضوافيه؟

أعرف أن الاختيار الأخير هو الأصوب، وأن ما عداه خرافة يجب أن نهزمها في عقل التاريخ!


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة - العدد 15 - ربيع الأول 1402

د.فالح العمره
15-04-2005, 10:23 PM
حملة رسالة الإسلام الأولون

وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير

وكيف شَوَّه المغرضون جمال سيرتهم

محب الدين الخطيب


--------------------------------------------------------------------------------

روى الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، (قال عمران بن حصين: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً) "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن".

وروى البخاري مثله بعده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث ابن مسعود هذا عند الإمام أحمد أيضاً في مسنده، وفي صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي. وروى مسلم مثله في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

فالهدى كل الهدى، مما لم تر الإنسانية مثله -قبله ولا بعده- هو الذي تلقاه الصحابة عن معلِّم الناس الخير. وكان الصحابة به خيَر أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته هُوَ لَهم؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدَّعون خلاف ذلك فهم الكاذبون.

إن الخير كل الخير فيما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الدين كل الدين ما اتبعهم عليه صالحو التابعين، ثم نشأ على آثارهم التابعون لهم بإحسان.

ومن أحطِّ أكاذيب التاريخ زَعْمُ الزاعمين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر العداوة بعضهم لبعض، بل هم كما قال الله سبحانه عنهم في سورة الفتح: (أِشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم) وكما خاطبهم رَبُّنا في سورة الحديد: (وَلِلَّهِ مِيراثُ السماواتِ والأرضِ لا يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنى) ولا يخلف الله وعده. وهل بعد قول الله عز وجل في سورة آل عمران: (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يبقى مسلماً من يكذِّب ربَّه في هذا، ثم يكذِّب رسولَه في قوله: “خَيرُ أمَّتي قرني، ثم الذين يلونهم ..”؟!

في صدر هذه الأمة حفظ الله كتابه بحفظته أميناً على أمين، حتى أدوا أمانة ربهم بعناية لم يسبق لها نظير في أمة من الأمم، فلم يفرطوا في شيء من ألفاظ الكتاب على اختلاف الألسنة العربية في تلاوتها ونبرات حروفها، وتنوّع مدودها وإمالاتها، إلى أدق ما يمكن أن يتصوره المتصور، فتم بذلك وعدُ الله عز وجل في سورة الحجر: (إنَّا نحنُ نزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لحافِظون).

ومن صدر هذه الأمة تفرّغ فريق من الصحابة فالتابعين وتلاميذهم لحمل أمانة السنة، فكانوا يمحِّصون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذرعون أقطار الدنيا ليدركوا الذين سمعوها من فم النبي صلى الله عليه وسلم فيتلقوها عنهم كما يتلقون أثمن كنوز الدنيا. بل كانت دار الإمارة في المدينة المنورة منتدى الفقهاء الأولين في صدر الإسلام يجتمعون إلى أميرهم مروان بن الحكم، فإذا عزيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة غير الذي كان معروفاً عندهم أرسل مروان في تحقيق ذلك إلى من نسبت تلك السنة إليه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أزواجه، حتى يرد الحق إلى نصابه.

وبينما كان حفظة القرآن وحملة السنة المحمدية يجاهدون في حفظ أصول الشريعة الكاملة، كان آخرون من أبناء الصحابة وأبطال التابعين يحملون أمانة الإمامة والرعاية والجهاد والفتوح، ويعملون على نقل الأمم إلى الإسلام: يعربون ألسنتهم، ويطهرون نفوسها، ويسلكونها في سلك الأخوة الإسلامية لتتعاون معهم على توحيد الإنسانية تحت راية الهدى، وتوجيهها إلى أهداف السعادة.

وقد بارك الله لهؤلاء وأولئك بأوقاتهم، وأتمَّ على أيديهم في مائة سنة ما يستحيل على غيرهم -من أهل الطرائق والأساليب الأخرى- أن يعملوه في آلاف السنين.

هؤلاء هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أمته، وقد صح ما أخبر به، فإن الإسلام إنما رأى الخير على أيديهم، فبهم حفظَ اللهُ أصولَه، وبهم هدى الله الأمم. والبلاد التي دخلت في الإسلام على أيديهم نبغ منها في ظل طريقتهم وعلى أساليبهم كبار الأئمة كالإمام البخاري والإمام أبو حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك، فكانت الأمم تقبل على هذه الهداية بشغف وتقدير وإخلاص، لما ترى من إخلاص دعاتها وصدقهم وإيثارهم الآجلة على العاجلة، والأمة التي تولت الدعاية لهذه الهداية تستقبل نوابغ المهتدين بصدر رحب، وتبوىء المستأهلين منهم المكانة التي هم أهلٌ لها.

هكذا كانت الحال في البطون الثلاثة الأولى التي امتدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها خير أمته. أما العصور التي أتت بعدهم فإن المسلمين يتميزون فيها بمقدار اتباعهم للصدر الأول فيما كان عليه من حق وخير. وهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره." رواه أحمد في مسنده و الترمذي في سننه عن أنس، ورواه ابن حبان والإمام أحمد في مسنده أيضاً من حديث عمار، ورواه أبو ليلى في مسنده عن علي بن أبي طالب، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو، كل هؤلاء الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى خير في كل زمان ومكان ما تحرَّت الطريق الذي مشى فيه هداة القرون الثلاثة الأولى وتابعوهم فيه. بل يرجى لمن يقيم الحق في أزماننا كما أقامه الصحابة والتابعون في أزمنتهم أن يبلغوا منزلتهم عند الله ويعدوا في بقيتهم، ولعلهم المعنيون بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجهدنا معك. فقال صلى الله عليه وسلم: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يَروني." وإسناده حسن، وصححه الحاكم. واحتج الحافظ أبو عمر بن عبد البر بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار في الأرض، وصبرهم على الهدى وتمسكهم به، إلى أن عَمَّ بهم في أرجائها. قال ابن عبد البر: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء."

ومن غربة الإسلام بعد البطون الثلاثة الأولى ظهور مؤلِّفين شوَّهوا التاريخ تقرباً للشيطان أو الحكام؛ فزعموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إخواناً في الله، ولم يكونوا رحماء بينهم، وإنما كانوا أعداء يلعن بعضهم بعضاً، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، ويتآمر بعضهم على بعض، بغياً وعدواناً. لقد كذبوا. وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامهما ورحمهما وقرابتهما وأوثق صلة وأعظم تعاوناً على الحق والخير.

حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلاً في سجن الإنجليز سنة 1332هـ أن رجلاً من العرب يعرفونه كان يتنقل بين بعض قرى إيران فقتله القرويون لما علموا أن اسمه (عمر)! قلت: وأي بأس يرونه باسم (عمر)؟ قالوا: حباً بأمير المؤمنين علي. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن علياً سمى أبناءه -بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله (أبي بكر) و(عمر) و(عثمان) رضوان الله عليهم جميعاً، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر بن الخطاب ولدت له زيداً ورقية، وبعد مقتل عمر تزوجها ابن عمها محمد بن جعفر بن أبي طالب ومات عنها فتزوجها بعده أخوه عون بن جعفر فماتت عنده. وعبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم (أبي بكر) وسمى ابناً آخر له باسم (معاوية)، ومعاوية هذا -أي ابن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب- سمى أحد بنيه (يزيد). وعمر بن علي بن أبي طالب كان من نسل عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب اشتهر بالمبارك العلوي وكان يكنى (أبا بكر). والحسن السبط بن علي ابن أبي طالب سمى أحد أولاده باسم أمير المؤمنين (عمر) تيمناً وتبركاً. ولِعمر هذا ذرية مباركة منهم العلماء والشرفاء. والحسن السبط كان مصاهراً لطلحة بن عبيد الله، وإن أم إسحاق بنت طلحة هي أم فاطمة بنت الحسين بن علي. وسكينة بنت الحسين السبط كانت زوجاً لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان الأموي. وعقد لها قبله على الأسبغ ابن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كانت زوجة عبد الله الأكبر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت قبل ذلك زوجة الحسن المثنى، وله منها جدُّنا عبد الله المحض. وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بن أبي طالب كانت زوجة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم تزوجها علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب. وأم كلثوم بنت جعفر ذي الجناحين كانت زوجة للحجاج بن يوسف وتزوجها بعد ذلك أبان بن عثمان بن عفان. والسيدة نفيسة المدفونة في مصر (وهي بنت حسن الأنور بن زيد بن الحسن السبط) كانت زوجة لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وولدت له. وعلي الأكبر ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي وأمها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب الأموي. والحسن المثنى بن الحسن السبط أمه خولة بنت منظور الفزارية وكانت زوجة لمحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلما قتل يوم الجمل -ولها منه أولاد- تزوجها الحسن السبط فولدت له الحسن المثنى. وميمونة بنت أبي سفيان بن حرب جدة علي الأكبر ابن الحسين ابن علي لأمه. ولما توفيت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تزوج علي بعدها أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية.

فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم، ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام، والمحبة في الله، والتعاون علىالبر والتقوى؟

لقد تواتر عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر". روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهاً، ورواه البخاري وغيره، ولا يوجد في تاريخ في الدنيا، لا تاريخ الإسكندر المقدوني، ولا تاريخ نابليون، صحت أخباره كصحة هذا القول -من الوجهة العلمية التاريخية- عن علي بن أبي طالب. وكان كرم الله وجهه يقول: "لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري" أي أن هذه الفرية توجب على صاحبها الحدَّ الشرعي، ولهذا كان الشيعة المتقدمون متقفين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): سأل سائل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال: “ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر” فكيف نردّ قوله؟ وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً. وفي ترجمة يحيى بن يعمر العدواني من (وفيات الأعيان) للقاضي ابن خلكان أن يحيى بن يعمر كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم، وكان شيعياً من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل آل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم. ثم ذكر قصة له مع الحجاج، وإقامته الحجة على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم من آية (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) إلى قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى). قال يحيى بن يعمر: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وسلم فأقرّه الحجاج على ذلك وكبر في نظره وولاه القضاء على خراسان مع علمه بتشيعه. وأنت تعلم أن الحجاج هو ما هو، ومع ذلك فقد كان -مع فاضل متجاهر بشيعيته المعتدلة محتج للحق بالحق- أكثرَ إنصافاً من هؤلاء الكذبة الفجرة الذي جاءوا في زمن السوء، فصاروا كلما تعرضوا لأهل السابقة والخير في الإٍسلام، ومن فُتحت أقطار الأرض على أيديهم، ودخلت الأمم في الإسلام بسعيهم ودعوتهم وبركتهم، وكلهم من أهل خير القرون بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وما منهم إلا من يتصل ببني هاشم وآل البيت بالخؤولة أو الرحم أو المصاهرة؛ وبالرغم من كل ذلك يتعرضون لسيرتهم بالمساءة كذباً وعدواناً، ويرضون لأنفسهم بأن يكونوا أقل إنصافاً وإذعاناً للحق حتى من الحجاج بن يوسف. وإني أخشى عليهم لو أنهم كانوا في مثل مركز الحجاج بن يوسف كانت فيهم مآخذ كل الصالحين عليه، مع التجرد من كل مزاياه وفضائله وفتوحه التي بلغت تحت رايات كبار قواده وصغارهم إلى أقصى أقطار السند، وغشيت جبال الهند وما صاقبها.

وإن خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في نعت صديقه وإمامه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر يوم وفاته من بليغ ما كان يستظهره الناس في الأجيال الماضية. وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته أيضاً وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، وقد علمتَ أنه بعد أخيه وصهره سمّى ولدين من أولاده باسميهما ثم سمى ثالثاً بعثمان لعظيم مكانته عنده، ولأنه كان إمامه ما عاش، ولولا أن عثمان -بعد أن أقام الحجة على الذين ثاروا عليه بتحريض أعداء الله رجال عبد الله بن سبأ اليهودي- منع الصحابة من الدفاع عنه حقناً لدماء المسلمين، وتضييقاً لدائرة الفتنة، ولما يعلمه من بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم به بالشهادة والجنة، لولا كل ذلك لكان علي في مقدمة من في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا كلهم على استعداد للدفاع عنه ولو ماتوا في سبيل ذلك جميعاً. ومع ذلك فإن علياً جعل وليده الحسن والحسين على باب عثمان، وأمرهما بأن يكونا طوع إشارته في كل ما يأمرهما به ولو أدى ذلك إلى سفك دمهما، و أوعز إليهما بأن يخبرا أباهما بكل ما يحب عثمان أن يقوم له به. وكذبٌ على الله وعلى التاريخ كلُّ ما اخترعه الكاذبون مما يخالف ذلك ويناقض وقوف الحسن والحسين في بابه واستعدادهما لطاعته في كل ما يأمر. ولقد كان من عادة سلفنا أن يدوِّنوا أخبار تلك الأزمان منسوبة إلى رواتها، ومن أراد معرفة قيمة كل خبر على طريقة (أنَّى لكَ هذا؟) فرجع إلى ترجمة كل راوٍ في كل سند لتمحَّصت له الأخبار، وعلم أن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وأن الأخبار التي تشوِّه سيرة الصحابة وتُوهِمُ أنهم كانوا صغار النفوس هي التي رواها الكذبة من المجوس الذين تسموا بأسماء المسلمين.

ولعلك تسألني: إذن ما هو أصل التشيع، وهل لم يكن لعلي شيع ة في الصدر الأول؟ وما هي وقعة الجمل، وما الباعث على وقوعها؟ وما هي حقيقة التحكيم؟

إن الجواب على هذه الأسئلة بالأسانيد التي ترتاح إليها قلوب المنصفين مهما اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، يحتاج إلى كتابة تاريخ المسلمين من جديد، وإلى أخذه -عند كتابته- من ينابيعه الصافية، ولا سيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخَرِبَة من ملفِّقي الأخبار. وأعيد هنا ما قلته غير مرة، وهو أن الأمة الإسلامية أغنى أمم الأرض بالمادة السليمة التي تستطيع أن تبني بها كيان تاريخها، إلا أنها لا تزال أقل أهل أمم الأرض عناية ببناء تاريخها من تلك المواد السليمة، والناس الآن بين قارئ لكتب قديمة أراد مؤلفوها أن يتداركوا الأخبار قبل ضياعها فجمعوا فيها كل ما وصلت إليه أيديهم من غثّ وسمين، منبهين على مصادر هذه الأخبار وأسماء رواتها ليكون القارئ على بينة من صحيحها وسقيمها، ولكن لبعد الزمن وجهل أكثر القراء بمراتب هؤلاء الرواة ودرجتهم في الصدق والكذب، وفي الوفاء للحق أو الميل مع الهوى، تراهم لا يستفيدون من هذه المصادر، ولا من الكتب التي اعتمدت عليها بلا تمحيص وتحقيق. وهنالك كتب قديمة أيضاً ولكنها دون هذه الكتب، لأن أصحابها من أهل الهوى، وممن لهم صبغات حزبية يصبغون أخبارهم بألوانها، فهي أعظم ضرراً، ولعلها أوسع من تلك انتشاراً. أما الكتب الحديثة كمؤلفات جرجي زيدان، والبحوث التي يستقيها حملة الأقلام من مؤلفات المستشرقين على غير بصيرة بدسائسهم، فإنها ثالثة الأثافي وعظيمة العظائم، ولذلك باتت هذه الأمة محرومة أغزر ينابيع قوتها وهو الإيمان بعظمة ماضيها، في حين أنها سليلة سلف لم ير التاريخ سيرة أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته.

ومع أن كثيراً من أمهات الكتب النفيسة فُقِدَت في كارثة هولاكو، ثم في الحروب الصليبية واكتساح الأندلس، وما تلا ذلك كله من انحطاط المستوى العلمي في القرون الأخيرة، إلا أن كثيراً من تحقيقات لمحققين لا تزال منبثة في مطاوي الكتب الإسلامية. والأمل عظيم في قيام نهضة جديدة لبعث ماضي هذه الأمة المجيد على ضوء ما تركه علماؤها من نصوص وتوجبهات.

وأعود بعد هذا إلى الأسئلة التي تقدمت آنفاً عن أصل الفتن والتشيع، فقد زعم الزاعمون لعليٍّ -كرم الله وجهه- ما لم يكن له به علم: زعموا أن النبي e عيّنه للخلافة بعده يوم استخلفه على المدينة وهو متجه إلى الشام في غزوة تبوك، وقال له يومئذ: “أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي”. ورجال الحديث مختلفون في درجة هذا الخبر من الصحة، فبعضهم يراه صحيحاً، وبعضهم يراه ضعيفاً، وذهب الإمام أبو الفرج بن الجوزي إلى أنه موضوع مكذوب. ونحن إذا رجعنا إلى الظروف التي قالوا إنها لابست هذا الحديث نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله له أن يتوجّه نحو تبوك- أمر علياً بأن يتخلف في المدينة، وكان رجالها والقادرون على الحرب من الصحابة قد خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد علي في نفسه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أتجعلني مع الناس والأطفال والضعفة؟” فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفسه: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟” أي في استخلاف موسى أخاه هارونَ لما ذهب إلى الجبل ليعود بالألواح. فهذا الاستخلاف لم يكن في نظر سيدنا علي -كرم الله وجهه- هذا المعنى الوهمي الذي اخترعه المتحزبون فيما بعد، بل هو على عكس ذلك كان يراه حرماناً له من مكانة أعلى وهي مشاركة إخوانه الصحابة في ثواب الجهاد لتكوين الكيان الإسلامي المنشود. زِدْ على ذلك أن هذا النوع من الاستخلاف لم ينفرد به علي كرم الله وجهه، بل تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم استخلاف ابن أم مكتوم على المدينة نفسها، وكان ابن أم مكتوم يتولى الإمامة بالناس في المدينة مدة خلافته عليها. وقد ناظر كبارُ الشيعة في هذا الحديث علاَّمةَ العراق السيد عبد الله السويدي عندما جمعه بهم نادر شاه في النجف سنة 1156 هـ فأفحمهم السويدي وخذل باطلهم، كما ترى ذلك فيما دوَّنه رحمه الله بقلمه عن هذه الواقعة وأثبتناه في رسالة طبعناها بعنوان (مؤتمر النجف).

فالإمام علي كرم الله وجهه كان يعلم أن الخلافة الحقة هي التي انضوى فيها إلى إجماع إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدَّر الله لها بحكمته ما شاء، وقضي فيها بعدله ما أراد. وما كان لمسلم من عامة المسلمين -فضلاً عن مثل علي في عظيم مكانته في الأولين والآخرين- أن يسخط لقدر الله، أو يتمرد على قضاءه، أو يرضى غير الذي ارتضاه إخوانه من الصحابة، أو يداجي في إجماعه معهم على ما فيه صلاح المسلمين. ومن الافتئات عليه والانتقاص من قدره والتشويه لجمال الإسلام وتاريخه الشكُّ في إخلاص علي أو في اغتباطه بما بايع عليه خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق وصاحبيه من بعده عمرَ وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.

ومن المزايا التي تفرّد بها عليّ وطبقته ممن ولي الخلافة أو دخل في بيعتها في الصدر الأول أنهم كانوا يرون ولاية هذا الأمر واجباً يقوم به الواحد منهم إذا وجب عليه كما يقوم بسائر واجباته، ولا يرونها حقاً لأحدهم يعادي عليه المسلمين، ويعرّض دماءهم للخطر والشر، ليستأثر بها على غيره.

وجميع الوقائع -إذا جرِّدت من زيادات أهل الأهواء- تدل على هذه المكانة السامية لعلي وإخوانه، فلما شُوِّهت الوقائع وأخبارها بما دسَّه فيها المتزيِّدون من أكاذيب لا مصلحة فيها لعلي وآله، كانت بها لعلي وبنيه صورة قبيحة لا تنطبق على الحقيقة والواقع، وظن المخدوعون بها أن تلك الطبقة -الممتازة على جميع أمم الأرض بعفَّتها وطهارة نفوسها وترفُّعِها عن الصغائر- إنما كانت على عكس ذلك: تتنازع كالأطفال والرعاع على توافه الدنيا وسفاسف العاجلة. فالخلافة كانت في نظر الراشدين عِبئاً يتولَّى الواحد منهم حمله بتكليف من المسلمين أداءً للواجب، ولم تكن عند أحد منهم متاعاً ولا مأكلة حتى يتنازع غيره عليها. ولما تآمرت المجوسية واليهودية على سفك دم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبقى الله من حياته بقيَّة يدبر فيها للمسلمين أمرهم بعده، جعل الأمر شورى، واقترح عليه بعض الصحابة أن يريح المسلمين من ذلك فيعهد إلى ابنه عبد الله بن عمر -ولم يكن عبد الله بن عمر دون أبيه في علم أو حزم أو بعد نظر أو إخلاص لله ورسوله والمؤمنين- رفض عمر ذلك وقال: "بحسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم؛ فإن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان رزءاً فقد قمنا بنصيبنا فيه." وعبد الله بن عمر نفسه عرضت عليه الإمامة فيمن عرضت عليهم عند مقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35 هـ فهرب منها كما كان يهرب منها طلحة والزبير وعلي، ولم يتولَّها عليٌّ إلا قياماً بواجب، ولم يستمدَّها من خرافات المتحزِّبين وسخافاتهم، بل من إرادة الأمة في ذينك اليومين (الخميس ذي الحجة والجمعة منه) ما أعلن ذلك على رءوس الأشهاد وهو واقف على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليٌّ إلى تلك الساعة لم تكن له شيعة خاصة به يعرفها وتتصل به، ولم يخطر على باله أن يجعل أحداً من الناس شيعة له، لأنه هو نفسه وسائر إخوانه من الصحابة كانوا شيعة الإسلام الملتفَّة حول خلفاء نبيها صلى الله عليه وسلم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان. ولو حدَّثته نفسه باتخاذ شيعة خاصة به غير جمهور الأمة الذي يتشيع للبيعة العامة لكان ذلك نقضاً منه لما عقد عليه صفقة يمينه لإمامه، وما طُوِّق به عنقه من بيعة الإسلام لأصحابها. ولا شك أنه استمر على ذلك إلى عشية الخميس 24هـ من ذي الحجة سنة 35 للهجرة، وكان أهلاً لأن يستمر على ذلك بأمانة وإخلاص. ولو لم يكن علي كذلك لما كان في هذه المنزلة السامية عند الله والناس. ومن الثابت عنه في عشية ذلك اليوم أنه كان يدافع الخلافة عن نفسه، ويحاول أن يقنع أخاه طلحة بن عبيد الله - أحد العشرة المبشرين بالجنة- بأن يتولى هو هذا الأمر عن المسلمين، بينما طلحة أيضاً كان يدافعها عن نفسه ويحاول إقناع علي بأن يكون هو حاملَ هذا العبء القائمَ على المسلمين بهذا الواجب. وانظر الحوار بينهما في ذلك كما رواه عالم من كبار علماء التابعين وهو الإمام محمد بن سيرين على ما أورده أبو جعفر الطبري في تاريخه: فيقول علي لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك. فيقول له طلحة: أنت أحق، فأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك. وكاد الثائرون من جماعة الفسطاط والكوفة والبصرة يثبون بعلي وطلحة والزبير فيقتلونهم لهربهم من ولاية الأمر وتعففهم جميعاً عن قبول الخلافة، فانتهى الأمر بقبول علي، وارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي (الجمعة 25 من ذي الحجة سنة 35هـ) فخطب خطبة حفظ الطبري لنا نصها، فقال: أيها الناس عن ملأ وأذن، إن هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلا من أمَّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر (أي على البيعة له) فإن شئتم قعدتُ لكم، وإلا فلا أجد على أحد. وبذلك أعلن أنه لا يستمد الخلافة من شيء سبق، بل يستمدها من البيعة إذا ارتضتها الأمة.

ومن مزايا الطبقة الأولى في الإسلام التي صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وتأدبت بأدبه وتشبعت بسنته أنها كانت ترى الاعتدال ميزان الدين، والرفق جمال الإسلام؛ لأن نبيها صلى الله عليه وسلم كان يقول لها: إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزِع من شيء إلا شانه. وكان يقول لها: من يحرَم الرفق يحرَم الخير كله. ويقول: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق. ويقول: إياكم والغلوّ في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ فيه. فلما نشأت الطبقة الثانية في حياة الطبقة الأولى أدَّب الآباء بنيهم بهذا الأدب. ولكن أكثر ما كانت هذه الطريقة ناجحة في الحجاز ونجد والشام. وكان في ناشئة الكوفة والبصرة والفسطاط من أخذ بهذه الطريقة، كما أن فيهم من شبَّ على الغلوِّ في الدين. ومن أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسلُّط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لها بالإسلام وادَّعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله، وبدأ يرمي شبكته في الحجاز والشام فلم يعلق بشيء بسبب تشبُّعهم بفطرة الإسلام في اعتداله ورفقه، وحذَرِهم من طرفي الإفراط والتفريط. فذهب الملعون يتنقل بين الكوفة والبصرة والفسطاط ويقول لحديثي السن وقليلي التجربة من شبابها: عجباً لمن يزعم أن عيسى يرجع ويكذِّب بأن محمداً يرجع، وقد قال عز وجل: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وكان يقول لهؤلاء الشبان: كان فيما مضى ألف نبي، ولكل نبي وصي، وإن علياً وصي محمد. ويقول لهم: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. ثم يقول لهم محرضاً على عثمان، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان سنة 30: ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، وممن يثب على عليّ وصيِّ رسول الله وينتزع منه أمر الأمة. ويقول لهم: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهنالك علي وصي رسول الله فانهضوا فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس.

إن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء، وكان يسمى ابن السوداء وكان يبث دعوته بخبث وتدرُّج ودهاء. واستجاب له ناس من مختلف الطبقات، فاتخذ بعضهم دعاة فهموا أغراضه وعوَّلوا على تحقيقها. واستكثر أتباعه بآخرين من البلهاء الصالحين المتشددين في الدين المتنطعين في العبادة ممن يظنون الغلوَّ فضيلة والاعتدال تقصيراً. فلما انتهى ابن سبأ من تربية نفر من الدعاة الذين يحسنون الخداع ويتقنون تزوير الرسائل واختراع الأكاذيب ومخاطبة الناس من ناحية أهوائهم، بث هؤلاء الدعاة في الأمصار -ولا سيما الفسطاط والكوفة والبصرة- وعُني بالتأثير على أبناء الزعماء من قادة القبائل وأعيان المدن الذين اشترك آباؤهم في الجهاد والفتح، فاستجاب له من بلهاء الصالحين وأهل الغلوّ من المتنطعين جماعاتٌ كان على رأسهم في الفسطاط الغافقي بن حرب العكي، وعبد الرحمن بن عديس البَلَوي التُّجيبي الشاعر، وكنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وعبد الله بن زيد بن ورقاء الخزاعي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعروة بن النباع الليثي، وقتيرة السكوني. وكان على رأس من استغواهم ابنُ سبأ في الكوفة عمرو بن الأصم، وزيد بن صوحان العبدي، والأشتر مالك بن الحارث النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم. ومن البصرة حرقوص بن زهير السعدي، وحُكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح، والحطم بن ضبيعة القيسي، وابن المحرش بن عبد عمرو الحنفي. أما المدينة فلم يندفع في هذا الأمر من أهلها إلا ثلاثة نفر وهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس، وعمار بن ياسر. ومن دعاء ابن سبأ ومكره أنه كان يبثُّ في جماعة الفسطاط الدعوة لعلي (وعلي لا يعلم ذلك)، وفي جماعة الكوفة الدعوةَ لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير، وليس هنا موضع تحليل نفسيات المخدوعين بدعوة هذا الشيطان، ولا نريد أن ننقل ذمَّ علي وطلحة والزبير لهم وما قالوه فيهم يوم نزل الثائرون في ذي خُشُب والأعوص وذي المروة، وكيف زوَّر ابنُ سبأ وشياطينه رسالة على لسان علي بدعوة جماعة الفسطاط إلى الثورة في المدينة، فلما واجهوا علياً بذلك قالوا له: أنت الذي كتبتَ إلينا تدعونا، فأنكر عليهم أنه كتب لهم، وكان ينبغي أن يكون ذلك سبباً ليقظتهم ويقظة علي أيضاً إلى أن بين المسلمين شيطاناً يزوِّر عليهم الفساد لخطة مرسومة تنطوي على الشر الدائم والشرر المستطير، وكان ذلك كافياً لإيقاظهم إلى أن هذه اليد الشريرة هي التي زوَّرت الكتاب على عثمان إلى عامله بمصر بدليل إن حامله كان يتراءى لهم متعمِّداً ثم يتظاهر بأنه يتكتم عنهم ليثير ريبتهم فيه، فراح المسلمون إلى يومنا هذا ضحيةَ سلامة قلوبهم في ذلك الحين. إن دراسة هذا الموضوع الآن على ضوء القرائن القليلة التي بقيت لنا بعد مضي ثلاثة عشر قرناً تحتاج إلى من يتفرغ لها من شباب المسلمين، وسيجدون مستندات الحق في تاريخهم كافية لوضع كل شيء في موضعه إن شاء الله.

فأول فتنة وقعت في الإسلام هي فتنة المسلمين بمقتل خليفتهم وصهر نبيهم الإمام العادل الكريم الشهيد ذي النورين عثمان بن عفان رضوان الله عليه. وقد علمتَ أن الذين قاموا بها وجنوا جنايتها فريقان: خادعون ومخدَعون. وقد وقعت هذه الكارثة في شهر الحج، وكان عائشة أم المؤمنين قد خرجت إلى مكة مع حجاج بيت الله ذلك العام، فلما علمت بما حدث في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أحزنها بغي البغاة على خليفة نبيهم. وعلمت أن عثمان كان حريصاً على تضييق دائرة الفتنة، فمنع الصحابة من الدفاع عنه، بعد أن أقام الحجة على الثائرين في كل ما ادعوه عليه وعلى عمَّاله، كان الحق معه في كل ذلك وهم على الباطل، وكان هو المثل الإنساني الأعلى في العدل وكرم النفس والنزول على قواعد الإسلام واتباع سننه، وكان في مدة خلافته أكرم وأصلح وأكثر إنصافاً بالحق واتباعاً للخير مما كان هو عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت عائشة بكبار الصحابة، وتداولت الرأي معهم فيما ينبغي عمله -وقد عرف القراء ما كانوا عليه من نزاهة، وفرار من الولاية، وترفُّع عن شهوات النفس- فرأوا أن يسيروا مع عائشة إلى العراق ليتفقوا مع أمير المؤمنين علي على الاقتصاص من السبئيين الذي اشتركوا في دم عثمان وأوجب الإسلام عليهم الحد فيه، ولم يكن يخطر على بال عائشة وكل الذين كانوا معها -وفي مقدمتهم طلحة والزبير المشهود لهما من النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة- أنهم سائرون ليحاربوا علياً، ولم يكن يخطر ببال علي أن هؤلاء أعداء له وأنهم حرب عليهم. وكل ما في الأمر أن أولئك المتنطعين الغلاة الذين انخدعوا بدعوة عبد الله ابن سبأ واشتركوا في قتل عثمان انغمروا في جماعة علي، وكان فيهم الذين تلقنوا الدعوة له وتتلمذوا على ذلك الشيطان اليهودي في دسيسة أوصياء الأنبياء ودعوى خاتم الأوصياء، فجاءت عائشة ومن معها للمطالبة بإقامة الحد على الذين اشتركوا في جناية قتل عثمان، وكان علي -وهو ما هو في دينه وخلقه- ليتأخر عن ذلك، إلا أنه كان ينتظر أن يتحاكم إليه أولياء عثمان. وقبل أن يتفق الفريقان على ذلك شعر قتلةُ عثمان بأن الدائرة ستدور عليهم، وهم على يقين بأن علياً لن يحميهم من الحق عند ظهوره، فأنشب هؤلاء حرب الجمل، فكانت الفتنة الثانية بعد الفتنة الأولى. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري معتمداً على كتاب (أخبار البصرة) لعمر بن شبة، وعلى غيره من الوثائق القديمة التي جاء فيها عن ابن بطال قولُ الملهب: ... إن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعَه مِن قَتْلِ قتلة عثمان وترك القصاص منهم. وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتصَّ منه، فاختلفوا بحسب ذلك وخشي من نُسِبَ إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم (أي بين فريقي عائشة وعلي) إلى أن كان ما كان.

ونجح قتلة عثمان في إثارة الفتنة بوقعة الجمل، فترتب عليها نجاتهم وسفك دماء المسلمين من الفريقين، وإنك لتجد الأسماء التي سجلها التاريخ في فتنة عثمان يتردد كثير منها في وقعة الجمل، وفيما بين الجمل وصفِّين، ثم في وقعة صفين وحادثة التحكيم، وفي هذه الحادثة الأخيرة اتسعت دائرة الغلوّ في الدين، فكثر المصابون بوبائه، وتفننوا في مذاهبه، إلى أن انتهى بانشقاق الخوارج عن علي، وتميَّز فريق من المتخلِّفين مع علي باسم الشيعة، ولم يقع نظري على اسم للشيعة في حياة علي كلها إلا في هذا الوقت سنة 37 هـ. ومن الظواهر التي تسترعي الأنظار في تاريخ هذه الفترة أن الغلاة من الفريقين -فريق الشيعة وفريق الخوارج- كانوا سواء في الحرمة للشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، تبعاً لما كان عليه أمير المؤمين علي نفسه، وما كان يعلنه على منبر الكوفة من الثناء عليهما والتنويه بفضلهما. أما الخوارج فإنهم والإباضية ظلوا على ذلك لم يتغيروا أبداً، فأبو بكر وعمر كانا عندهم أفضل الأمة بعد نبيها، استرسالاً منهم فيما كانوا عليه مع علي قبل أن يفارقوه. وأما الشيعة فإنهم عندما جددوا بيعتهم لعلي بعد خروج الخوارج إلى حروراء والنهروان قالوا له أوَّلاً: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم -كرم الله وجهه- سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يوالوا من والى على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعادوا من عادى على سنته صلى الله عليه وسلم، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي -وكان صاحب راية خثعم في جيش علي أيام الجمل وصفين- فقال له علي: بايِع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال ربيعة: وعلى سنة أبي بكر وعمر. فقال علي: لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونا على شيء من الحق. أي أن سنة أبي بكر وعمر إنما كانت محمودة ومرغوباً فيها لأنها قائمة على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، فبيعتكم الآن على كتاب الله وسنة رسوله تدخل فيها سنة أبي بكر وعمر.

هكذا كان أمير المؤمنين من أخويه وحبيبيه خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر في حياته كلها، وهكذا كانت شيعته الأولى: من خرج عليه، ومن جدد البيعة له بعد التحكيم.

وحكاية التحكيم هذه كانت مادة دسمة للمغرضين من مجوس هذه الأمة أتاحت لهم دسَّ السموم في تاريخنا على اختلاف العصور، وأول من شمَّر عن ساعديه للعبث بها وتشويه وقائعها أبو مخنف لوط بن يحى، ثم خلف خلْفٌ بعد أبي مخنف بلغوا من الكذب ما جعل أبا مخنف في منزلة الملائكة بالنسبة إلى هؤلاء الأبالسة، وأبو مخنف معروف عند ممحِّصي الأخبار وصيارفة الرجال بأنه أخباريٌّ تالف لا يُوثَق به. نقل الحافظ الذهبي في (ميزان الاعتدال) عن حافظ إيران ورأس المحققين من رجالها الرازي رحمه الله أنه تركه وحذَّر الأمة من أخباره، وأن الدار قطني أعلن ضعفه، وأن ابن معين حكم عليه بأنه ليس بثقة، وأن ابن عدي وصفه بأنه شيعيٌّ محتَرق.

ومن براعة هؤلاء المغرضين في تحريف الوقائع ودس أغراضهم فيها، وتوجيهها بحسب أهوائهم، لا كما وقعت بالفعل، أنهم كانوا يعمدون إل حادثة وقعت بالفعل فيوردون منها ما كان يعرفه الناس، ثم يلصقون بها لصيقاً من الكذب والإفك يوهمون أنه من أصل الخبر ومن جملة عناصره، فيأتي الذين من بعدهم فيجدون الخبر القديم مختصراً فيحكمون عليه بأنه ناقص، ويقولون: من حَفِظَ حُجَّةٌ على من لم يحفظ. ويتناولون الخبر بما لصق به من لصيق مفترى، حتى تكون الرواية الجديدة وما في بطنها من الإثم هي المتداولة بين الناس. وقد يعمد هؤلاء المغرضون إلى موهبة من مواهب النبوغ عرف بها أحد أبطال التاريخ الإسلامي وعظماء الدعاة الفاتحين، ولم يعرف عنه استعمالها إلا في سبيل الحق والخير، فيطلعون على الناس بأكاذيب يرتبونها على تلك الموهبة، ويوهمون أن رجل الحق والخير الذي حلاَّه الله بتلك الموهبة ولم يستعملها إلا في نشر دين الله وتوسيع نطاق الوطن الإسلامي، قد انقلب بزعمهم مع الزمن، وسخَّر نبوغه للباطل والشر؛ فإذا أخذ المحققون في تمحيص ذلك، وتحرِّي مصادر هذه التهم التي لا تلتئم مع ما تقدمها من سيرة ذلك البطل المجاهد، وجدوها من بضاعة الكذَّابين ومفترياتهم، ولكن قلَّما يُجدي ذلك بعد أن يكون (قد قيل ما قيل إن صِدقاً وإن كَذباً).

هذا أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي بطل أجنادين، وفاتح مصر، وأول حاكم ألغى نظام الطبقات فيها، وكان السبب الأول في عروبتها وإسلام أهلها، وشريك مسلميها في حسناتهم من زمنه إلى الآن لأنه الساعي في دخولهم في الإسلام - هذه الرجل العظيم عرفه التاريخ بالدهاء ونضوج العقل وسرعة البادرة، وكان نضوج عقله سبب انصرافه عن الشرك ترجيحاً لجانب الحق واختياراً لما دلَّه عليه دهاؤه من سبيل الخير، فجاء مزيِّفو الأخبار من مجوس هذه الأمة وضحاياهم من البلهاء فاستغلُّوا ما اشتُهر به عمرو من الدهاء استغلالاً تقرُّ به عين عبد الله بن سبأ في طبقات الجحيم.

يقول قاضي قضاة أشبيلية بالأندلس الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري (المولود في أشبيلية سنة 468 والمتوفَّى بالمغرب سنة 543) في كتابه (العواصم من القواصم) ص177 بعد أن ذكر ما شاع بين الناس في مسألة تحكيم عمرو وأبي موسى، وما زعموه من أن أبا موسى كان أبله وأن عمْراً كان محتالاً: هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع. وإنما الذي روى الأئمة الأثبات أنهما -يعني عمراً وأبا موسى- لما اجتمعا للنظر في الأمر، في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر، عزَل عمروٌ معاوية. ذكر الدار قطني بسنده عن حضين بن المنذر أنه لما عزل عمرو معاويةَ جاء (أي حضين) ضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا (يعني عمرو بن العاص) كذا وكذا (يعني اتفاقه مع أبي موسى على عزل الأميرين المتنازعين لحقن دماء المسلمين وردَّاً للأمر إليهم يختارون من يكون به صلاح أمرهم). فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. قال حضين: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولقد قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يُسْتَعَنْ بكما ففيكما معونة، وإن يُسْتَغْنَ عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. فقال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه. فأتيته (أي أن حضيناً أتى معاوية) فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. أي أن الذي بلغ معاوية من أن عمراً وأبا موسى عزلاه هو كما بلغه، وأنهما رأيا أن يرجع في الاختيار من جديد إلى النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. ثم ذكر القاضي أبو بكر بن العربي بقية خبر الدارقطني عن إرسال معاوية رسولاً -وهو أبو الأعور الذكواني- إلى عمرو بن العاص يعاتبه، وأن عمراً أتى معاوية وجرى بينهما حوار وعتاب، فقال عمرو لمعاوية: إن الضجور قد يحتلب العلبة. وهو مثل معناه أن الناقة الضجور التي لا تسكن للحالب قد ينال الحالب من لبنها ما يملأ العلبة. فقال له معاوية: وتربذ الحالب فتدق عنقه وتكفأ إناءه.

فرواية الدار قطني هذه -وهو من أعلام الحديث- عن رجال عدول معروفين بالتثبت، ويقدرون مسئولية النقل، هي التي تتناسب مع ماضي عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وموضعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجربين. وأما الافتئات على أبي موسى والإيهام بأنه كان أبله فهو أشبه بالرقعة الغريبة في ردائه السابغ الجميل. يقول القاضي أبو بكر بن العربي (ص174): وكان أبو موسى رجلاً تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمر بن الخطاب وأثنى عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول. ثم ردَّ هذه الأكاذيب وأحال في تفصيل الرد على كتاب له اسمه سراج المريدين.

وبعد فإن صحائف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهراً. وما نتمناه من تمحيص التاريخ أول ما يشترط له فيمن يتولاه أن يكون سليم الطوية لأهل الحق والخير، عارفاً بهم كما لو كان معاصراً لهم، بارعاً في التمييز بين حملة الأخبار: من عاش منهم بالكذب والدس والهوى، ومن كان منهم يدين لله بالصدق والأمانة والتحرز عن تشويه صحائف المجاهدين الفاتحين الذي لولاهم لكنا نحن وأهل أوطاننا جميعاً لا نزال كفرة ضالين.

د.فالح العمره
15-04-2005, 10:24 PM
تحليل نوعي وكمّي
لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم
اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ

--------------------------------------------------------------------------------

بلغ عدد العمليات الحربية في عصر النبوة أكثر من ستين عملية ما بين غزوة وسرية، وقاد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بنفسه من هذه العمليات ثماني وعشرين غزوة..

وإذا تناولنا هذه الغزوات بالتحليل الإحصائي، من حيث النوع والكمية والتوزيع الزمني، فسوف تتكشف لنا عدة مبادئ في القيادة الحربية في غاية الفائدة للأمة الإسلامية، وتعد من أبرز خصائص العسكرية الإسلامية..

أولاً- تحليل التوزيع الزمني والكمي:

ولعل أول ما يسترعي الانتباه، التوزيع الزمني للغزوات خلال الفترة التي دار فيها الصراع المسلح بين المسلمين وأعدائهم في عصر النبوة، والتي امتدت سبع سنوات تقريباً من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة (من صفر سنة 2 هـ، إلى رجب سنة 9 هـ) حيث يتضح التوزيع كما يلي:

عدد الغزوات في السنة الثانية للهجرة: 8

عدد الغزوات في السنة الثالثة للهجرة: 4

عدد الغزوات في السنة الرابعة للهجرة: 3

عدد الغزوات في السنة الخامسة للهجرة: 4

عدد الغزوات في السنة السادسة للهجرة: 3

عدد الغزوات في السنة السابعة للهجرة: 2

عدد الغزوات في السنة الثامنة للهجرة: 3

عدد الغزوات في السنة التاسعة للهجرة: 1

ومن ذلك نلاحظ ما يلي:

1- أن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم حرص على مباشرة القيادة بنفسه طوال فترة الصراع كلها. (من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة) وفي كل سنة من سنواتها بلا استثناء، مع إتاحة الفرصة –في الوقت نفسه- لأصحابه أن يتولوا قيادة الأعمال الحربية المختلفة تحت إشرافه وتوجيهه بصفته القائد الأعلى، وهذه العمليات تسمى بالسرايا التي بلغ عددها خلال نفس الفترة أكثر من ثلاثين سرية.

2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاد في السنة الثانية للهجرة –وهي أول سنوات الصراع- أكبر عدد من العلميات الحربية، وهو ثماني غزوات بينما لم يزد عدد العمليات التي قادها في كل سنة بعد ذلك عن ثلاث أو أربع عمليات في المتوسط. هذا التركيز في قيادة عمليات أولى سنوات الصراع له دلالاته التي لا تفوت القائد المحنك الخبير بفن الحرب، ويعد في نظر العلم العسكري والاستراتيجية الحربية من علامات القيادة الحربية الفذة.

· فهو يتيح للقائد –في بداية الصراع وقبل تصاعده- الفرصة لدراسة مسرح العلميات دراسة شخصية من الناحية "الطبوغرافية" (مثل طبيعة الأرض والطرق وموارد المياه والتضاريس.. الخ) ومن الناحية "الديموغرافية" (وهي الأهداف التي تسبب للعدو من الأضرار ما يؤدي إلى إحداث تغييرات حادة في الموقفين العسكري والسياسي ويؤثر تأثيراً بالغاً على تطور الصراع المسلح عامة).

· ويتيح للقائد كذلك الفرصة لدراسة عدوه عن طريق الاحتكاك المباشر، وتقييم كفاءته القتالية مادياً ومعنوياً، ودراسة أساليبه في القتال، وأسلحته التي يستخدمها، وكل ذلك يكسب القائد ما يسمى "بالخبرة القتالية".

· هذه الدراسة الشخصية الشاملة تمكن القائد من التخطيط السليم لجميع العمليات الحربية المقبلة، كما تمكنه من إدارة المعارك بكفاية تامة، ومن توجيه المقاتلين إلى ما يحقق لهم النصر على أعدائهم.

· ونتيجة لذلك تنمو لدى القائد ثقته بنفسه وبكفاءاته وقدراته، كما تنمو لدى سائر أفراد الجيش ثقتهم بأنفسهم وقائدهم، فيواجهون تحديات الصراع المقبلة واثقين من النصر.

3- ونلاحظ أيضاً من تحليلنا لهذا التوزيع الكمي والزمني للغزوات: أنه يكشف عن مبدأ من أهم مبادئ إعداد القادة العسكريين لتولي القيادة، وهو أن يتولى قادة المستقبل قيادة الوحدات الفرعية للجيش تحت قيادة القائد العام، وهذا الأسلوب يفيد القدة من عدة نواح نذكر منها:

· مباشرة القيادة عملياً تحت إشراف القائد الأكبر، والإفادة من ملاحظاته وتوجيهاته.

· إتاحة الفرصة لهم لملاحظة أسلوب القائد "المعلم" في القيادة الحربية من حيث التخطيط للمعركة وإدارتها، وتصرفه في مواقفها المختلفة، وهي فرصة ممتازة للتعليم على الطبيعة واكتساب الخبرة القتالية في الوقت نفسه.

· تدريب قادة المستقبل على فن التفكير واستخدام العقل والتعبير عن الرأي وذلك من خلال اشتراكهم مع القائد الأكبر في مرحلة التخطيط للمعارك، ويدخل ذلك في نطاق مبدأ الشورى الذي أمر به الإسلام وطبّقه القئاد صلى الله عليه وسلم خير ما يكون التطبيق حتى قال عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في كافة غزواته، ففي غزوة بدر مثلاً استشارهم في مبدأ دخول المعركة ضد قريش، واستقر الرأي على قبول المعركة، وعندما وصل جيش المسلمين إلى مكان المعركة نزل الرسول عليه الصلاة والسلام على رأي الحباب بن المنذر الذي أشار بأن ينتقل الجيش إلى مكان آخر أفضل من الأول، لأنه قريب من ماء بدر ويتحكم فيها. وفي غزوة أحد استشار عليه الصلاة والسلام أصحابه في مبدأ البقاء في المدينة ولقاء قريش فيها، أو لقائهم خارجها، فاستقر الرأي على الخروج، واستجاب صلى الله عليه وسلم لذلك الرأي وقال لهم: "لكم النصر ما صبرتم".

· ثم إن هذا الأسلوب بقيد قادة المستقبل من حديث أنه يكسبهم القدرة على إصدار القرارات السليمة، وفي وقتها المناسب، مما يعد من أهم خصائص القيادة الناجحة، ذلك لأن مشاركتهم في مرحلة التخطيط تتيح لهم معرفة واسعة بفكر القائد ونواياه وأهدافه، وإحاطة وافية بجوانب الموضوعات، والقضايا تمكنهم من اتخاذ القرارات السليمة في المواقف التي يواجهونها في المستقبل بهدي تفكيرهم وحده، ودون حاجة إلى الرجوع إلى القيادة العليا، وخاصة في المواقف المفاجئة أو التي لا تحتمل التأخير.

ثانياً: التحليل النوعي للغزوات:

وإذا تناولنا الغزوات بالتحليل من حيث النوع أو الطابع، فسوف تتكشف لنا جوانب أخرى في القيادة الحربية، وفي إعداد القادة وتدريبهم.

فقد احتوت الغزوات على شتى صور وأشكال العمليات الحربية كما يلي:

عمليات الإغارة ودوريات القتال والردع والتأثير المعنوي مثل:
غزوة ودان – بواط – العشيرة – بدر الأولى – بني سليم – ذي أمر – بحران – ذات الرقاع – بدر الآخرة – دومة الجندل – بني المصطلق – بني لحيان – الحديبية – عمرة القضاء.

العمليات الدفاعية مثل: غزوة بدر الكبرى – أحد – الخندق.
العمليات الهجومية مثل: غزوة فتح مكة – غزوة حنين – تبوك.
عمليات المطاردة مثل: غزوة السويق – حمراء الأسد – ذي قرد.
عمليات الحصار والقتال في القرى الحصينة مثل: غزوة بني قينقاع – بني النضير – بني قريظة – خيبر – الطائف.
ومن هذا التحليل نستخلص أن جيش الإسلام الأول (قادة وجنداً) قد تعلموا ومارسوا عملياً كل أشكال العمليات الحربية تحت قيادة القائد المعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم اكتسبوا بذلك خبرة قتالية فائقة.

كما نستخلص أنهم اكتسبوا خبرة حربية في مواجهة التنظيمات الحربية والنظريات القتالية المختلفة، فهم قد حاربوا المشركين من العرب الذي كانوا يقاتلون بأسلوب الكر والفر، وحاربوا اليهود الذين كانوا يحاربون "من وراء جدر" ومن داخل حصونهم وقراهم المحصنة.

فإذا ما أضفنا إلى ذلك المعارك التي دارت في مواجهة الروم في عصر النبوة "مؤتة وتبوك" يكون جيش الإسلام قد اكتسب الخبرة القتالية في مواجهة الجيوش المنظمة، بالإضافة إلى خبرته في قتال الجيوش غير المنظمة (قريش والقبائل العربية الأخرى).

وبعد، فإنه يبقى لنا من هذا التحليل درس عظيم، وهو أن نمط "القائد المعلم" هو النمط الذي يدعو إليه الإسلام والذي لا يرتضي عنه القائد المسلم بديلاً، وأن القائد في الإسلام "صاحب مدرسة ورسالة" يدرك تماماً أن قيامه بإعداد أجيال من القادة من أسمى واجباته لها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، قال تعالى: )لقد كانَ لكم في رسولِ الله أسوة حسنة( صدق الله العظيم.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 6، جمادى الأولى 1401 هـ

د.فالح العمره
15-04-2005, 10:26 PM
فتح مكة وعبرته لحاضر المسلمين ومستقبلهم

اللواء الركن محمود شيث خطاب


--------------------------------------------------------------------------------

الموقف العام
1. المسلمون:

كانت هناك هدنة الحديبية خيراً على المسلمين، فقد قضوا خلالها على يهود في المدينة المنورة وخارجها عسكريا، فلم يعد لهم أي خطر عسكري يهدد المسلمين. كما أتاحت للمسلمين السيطرة على القبائل العربية في شمالي المدينة حتى حدود الشام والعراق، وانتشر الإسلام بين القبائل العربية كلها، فأصبح المسلمون القوة الضاربة الأولى في شبه الجزيرة العربية كلها.

ولم يبق أمام المسلمين غير فتح مكة، تلك المدينة المقدسة التي انتشر الإسلام فيها أيضاً، ولم يحل دون فتحها وعودة المستضعفين الذين أخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، إليها، غير صلح الحديبية الذي يحرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الوفاء به.

2. المشركون:

أدى انتشار الإسلام بين قسم كبير من القبائل ومن ضمنها قريش وبقاء القسم الآخر على الشرك إلى تفرق كلمة القبائل واستحالة جمع تلك الكلمة على حرب المسلمين. ولم يبق في قريش زعيم مسيطر يستطيع توجيهها إلى ما يريد حين يريد: المسلمون فيها لا يخضعون إلا لأوامر الإسلام، والمشركون فيها بين متطرف يدعو للحرب مهما تكن نتائجها، ومعتدل يعتبر الحرب كارثة تحيق بقريش.

إعلان الحرب:

أراد بنو بكر حلفاء قريش أن يأخذوا بثاراتهم من بني خزاعة حلفاء المسلمين، وحرضهم على ذلك متطرفو قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل وقسم من سادات قريش، وأمدوهم سراً بالرجال والسلاح. وقامت بكر بالهجوم المباغت على خزاعة فكبدوهم خسائر بالأرواح والأموال، والتجأت خزاعة إلى البيت الحرام فطاردتهم بكر مصممة على القضاء عليهم غير مكترثة بصلح الحديبية، فانتهت الهدنة بين قريش وحلفائها من جهة وبين المسلمين وحلفائهم من جهة أخرى، وكان الذي نقض هذه الهدنة قريش وبكر.

وسارع عمرو بن سالم الخزاعي بالتوجه إلى المدينة حاملاً أنباء نقض صلح الحديبية، فلما وصل إلى المدينة قصد المسجد وقص على النبي صلى الله عليه وسلم ما أصاب خزاعة من بكر وقريش في مكة وخارجها، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: »نصرتَ يا عمرو بن سالم!«

وخرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما أصابهم فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على فتح مكة.

وقدر قادة قريش المعتدلون وعقلاؤهم ماذا يعنيه انتهاء الهدنة بين قريش والمسلمين، فقرروا إيفاد أبي سفيان بن حرب إلى المدينة للتشبث بتثبيت العهد وإطالة مدته.

ولما وصل أبو سفيان »عسفان« في طريقه إلى المدينة لاقى بديل بن ورقة وأصحابه عائدين من المدينة، فخاف أن يكونوا جاؤوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما حدث بين بكر وخزاعة، مما يزيد مهمته التي جاء من أجلها تعقيداً، إلا أن بديلاً نفى مقابلته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا سفيان فحص فضلات راحلة بديل فوجد فيه نوى التمر، فعرف أنه كان في المدينة.

ووصل أبو سفيان إلى المدينة، فقصد دار ابنته أم حبيبة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يجلس على الفراش فطوته دونه فقال لها: »يا بنية! أما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عني؟« فقالت: »بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس.« فقال: »والله لقد أصابكِ بعدي شر.«

واستشفع أبو سفيان بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ليكلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأبى.. واستشفع بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأغلظ له في الرد وقال: »أأنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به.«

ودخل أبو سفيان على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعنده فاطمة رضي الله عنها، فقال علي: »والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.«

واستشفع أبو سفيان بفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجير ابنها الحسن بين الناس، فقالت: »ما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.«

واستنصح أبو سفيان علياً بعد أن اشتدت عليه الأمور فنصحه أن يعود من حيث أتى، فقفل أبو سفيان عائداً إلى قريش ليخبرهم بما لقي من صدود، ولم يبق هناك شك في إعلان الحرب.

الاستعدادات للحرب:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه بإنجاز استعداداتهم للحركة، وبعث من يخبر قبائل المسلمين خارج المدينة بإنجاز استعداداتهم للحركة أيضاً، كما أمر أهله أن يجهزوه، ولكنه لم يخبر أحداً بنياته الحقيقية ولا باتجاهه حركته، بل أخفى هذه النيات حتى عن أقرب المقربين إليه، ثم أرسل سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم ليزيد من اسدال الستار الكثيف على نياته الحقيقية.

ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على ابنته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أي بنية! أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. فقال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله لا أدري.

ولما اقترب موعد الحركة، صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سائر إلى مكة. وبث عيونه ليحول دون وصول أنباء اتجاه حركته إلى قريش، ولكن حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالة أعطاها امرأة متوجهة إلى مكة، يخبرهم فيها بنيّات المسلمين، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فأدركاها وأخذا منها تلك الرسالة التي كانت معها.

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً يسأله: ما حمله على ذلك؟ قال: يا رسول الله بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »أمَا إنه قد صدقكم؛ وما يدريك، لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم«. وشفع لحالطب ماضيه الحافل بالجهاد، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين أن يذكروه بأفضل ما فيه.

قوات الجانبين
المسلمون: عشرة آلاف رجل، بقيادة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
المشركون: قريش وبنو بكر، كل قبيلة منهما لها قائدها الخاص.
في الطريق إلى مكة المكرمة:

غادر المسلمون المدينة المنورة في رمضان من السنة الثامنة الهجرية قاصدين فتح مكة، وكان جيش المسلمين مؤلفاً من الأنصار والمهاجرين وسليم ومزينة وغطفان وغفار وأسلم.. وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم من القبائل الأخرى، في عدد وعُدد لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل، وكلما تقدم الجيش من هدفه ازداد عدده بانضمام مسلمي القبائل التي تسكن على جانبي الطريق إليه. ومع كثافة هذا الجيش وقوته وأهميته، فقد بقي سر حركته مكتوماً لا تعرف قريش عنه شيئاً. فبالرغم من اعتقاد قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم في حل من مهاجمتهم، ولكنها لم تكن تعرف متى وأين وكيف سيجري الهجوم المتوقع. ولشعور قريش بالخطر المحدق بها، أسرع كثير من رجالها بالخروج إلى المسلمين لإعلان إسلامهم، فصادف بعض هؤلاء، ومنهم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، جيشَ المسلمين في طريقه إلى مكة المكرمة.

ووصل جيش المسلمين إلى موضع مرّ الظهران على مسافة أربعة فراسخ من مكة، فعسكر المسلمون هناك. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقد كل مسلم في جيشه ناراً، حتى ترى قريش ضخم الجيش دون أن تعرف هويته فيؤثر ذلك في معنوياتها فتستسلم للمسلمين دون قتال، وبذلك يحقق النبي صلى الله عليه وسلم هدفه السلمي في فتح مكة بدون إراقة دماء.

وأوقد عشرة آلاف مسلم نيرانهم، ورأت قريش تلك النيران تملأ الأفق البعيد، فأسرع أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام بالخروج باتجاه النيران، ليعرفوا مصدرها ونيات أصحابها، فلما اقتربوا من موضع معسكر المسلمين قال أبو سفيان: هذه والله خزاعة حمشتها [جمعتها] الحربُ. فلم يقتنع أبو سفيان بهذا الجواب، فقال: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من معسكر المسلمين راكباً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ليخبر قريشاً بالجيش العظيم الذي جاء لقتالها والذي لا قبل لها به، حتى يؤثر في معنوياتها ويضطرها على التسليم دون قتال، فيحقن بذلك دماءها ويؤمن لها صلحاً شريفاً ويخلصها من معركة خاسرة معروفة النتائج سلفاً، فسمع وهو في طريقه محاورة أبي سفيان وبديل بن ورقة، فعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه وأخبره بوصول جيش المسلمين ونصحه بأن يلجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش فاتحاً صباح غد، فيحيق به وبقومه ما يستحقونه من عقاب.

وأردف العباس أبا سفيان على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجّها نحو معسكر المسلمين، فلما وصلا إلى المعسكر ودخلاه أخذا يمران بنيران الجيش في طريقهما إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرّا ينار عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع عمر إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يأمره بضرب عنق أبي سفيان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يستصحب أبا سفيان إلى خيمته، ثم يحضره إليه صباح غد، فلما كان الصباح وجيء بأبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلمَ ليحقن دمه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور كما يحب بعيداً عن وقوع الحرب، فأوصى العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي حتى يستعرض الجيش الزاحف كله، فلا تبقى في نفسه أية فكرة للمقاومة.

قال العباس: خرجتُ بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم! ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: ومالي ولمزينة! حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولنبي فلان! حتى مرّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منها إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله، يا عباس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: نعم إذن. عند ذلك قال العباس لأبي سفيان: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان إلى مكة.

قبل دخول مكة المكرمة:

دخل أبو سفيان مكة مبهوراً مذعوراً، وهو يحس أن من ورائه إعصاراً إذا انطلق اجتاح قريشاً وقضى عليها. ورأى أهل ملكة قوات المسلمين تقترب منهم، ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد قرروا قراراً حاسماً بشأن القتال ولا اتخذوا تدابير القتال الضرورية، فاجتمعوا إلى ساداتهم ينتظرون الرأي الأخير، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق مجلجلاً جازماً: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان كان آمناً.

وسمعت هند بنت عتبة بن ربيعة زوج أبي سفيان التي كانت تشايع المتطرفين من مشركي قريش ما قاله زوجها، فوثبت إليه وأخذت بشاربه وصاحت: اقتلوا هذا الحميت الدسم الأحمس [أي هذا الزق المنتفخ]، قبّح من طليعة قوم.

ولم يكترث أبو سفيان بسباب امرأته، فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

وقالت قريش: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

وأصحبت مكة المكرمة تنتظر دخول المسلمين: اختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، واجتمع بعضهم في المسجد الحرام، وبقى المتطرفون مصرون على القتال.

خطة الفتح:

كانت مجمل خطة الفتح تتلخص: الميسرة بقيادة الزبير بن العوام، واجبها دخول مكة من شماليها.

والميمنة بقيادة خالد بن الوليد، واجبها دخول مكة من جنوبها، وقوات الأنصار بقيادة سعد بن عبادة، واجبها دخول مكة من غربيها، وقوات المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح واجبها دخول مكة من شماليها الغربي من اتجاه جبل هند. ومثابة اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند. وكان اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند.

وكانت أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لقادته تنص: بألا يقاتلوا إلا إذا اضطروا اضطراراً على القتال، لغرض أن يتمّ الفتح سلمياً وبدون قتال.

الفتح:

قبل شروع أرتال المسلمين بدخول مكة المكرمة، سمع قسم من المسلمين سعد بن عبادة يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة.. لذلك رأي النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه ما قال سعد، أن يأخذ الراية ويدفعها إلى ابنه قيس بن سعد، إذ كان قيس أهدأ أعصاباً من أبيه وأكثر سيطرة على نفسه، لكي يحول عليه الصلاة والسلام دون اندفاع سعد لإثارة الحرب وسفك الدماء دون مسوغ.

ودخلت قوات المسلمين مكة فلم تلق مقاومة، إلا جيش خالد بن الوليد، فقد تجمع متطرفو قريش مع بعض حلفائهم من بني بكر في منطقة الخندفة، فلما وصلها رتل خالد أمطروه بوابل من نبالهم، ولكن خالداً لم يلبث أن فرّقهم بعد أن قتل رجلان من رجاله ضلا طريقهما وانفصلا عنه، ولم يلبث صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن تركوا مواضعهم في الخندمة وفروا مع قواتهم، واستسلمت المدينة المقدسة للمسلمين، وفتحت أبوابها لهم، وعاد المستضعفون الذين أخرجوا منها بغير حق إ لى ديارهم وأموالهم.

في مكة المكرمة:

عسكر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منطقة جبل هند، بعد أن سيطر المسلمون على جميع مداخل مكة، فلما استراح وتجمعت أرتال الجيش، نهض والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت العتيق وحول البيت، وكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، يطعنها بالقوس وهو يقول: )جاء الحق وزهق الباطلُ إن الباطل كان زهوقاً( )جاء الحق وما يُبدِئُ الباطل وما يعيد( ثم دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ودخلها، فرأى الصور تملؤها، ومن بينها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فمحا ما في الكعبة من صور، ثم صلى ودار في البيت يكبر، ولما انتهى تطهير البيت من الأصنام والصور، وقف على باب الكعبة، وقريش تنظر ماذا يصنع، فقال: »لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا كل مأثرة أو مال فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء: الناس من آدم، وآدم من تراب )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم إن الله عليم خبير(. يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟« قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: »فإني أقول كما قال يوسف لإخوته: )لا تثريب عليكم اليوم(، اذهبوا فأنتم الطلقاء.«

طهر المسلمون البيت من الأصنام، وأتم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أول يوم من أيام فتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة: أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، وهي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً.

وأقام النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً، نظّم خلالها شؤون مكة، وفقّه أهلها في الدين، وأرسل بعض السرايا للدعوة إلى الإسلام وتحطيم الأصنام، من غير سفك للدماء.

عبرة الفتح:

1. الكتمان:

ما أحوج المسلمين اليوم أن يتعلموا الكتمان من هذه الغزوة، فأمورهم كلها مكشوفة، بل مكشفة، وأعداؤهم يعرفون عنهم كل شيء، لا تكاد تخفى عليهم، فلا سر لدى المسلمين يبقى مكتوماً.

لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحرص علىألا يكشف نياته لفتح مكة لأي إنسان، عندما اعتزم الحركة إلى مكة وكان سبيله إلى ذلك الكتمان الشديد.

لم يبح بنياته لأقرب أصحابه عن نفسه: أبي بكر الصديق، بل لم يبح بنياته لأحب النساء إليه عائشة بنت أبي بكر الصديق، وبقيت نياته مكتومة حتى أنجز هو وأصحابه جميع استعدادات الحركة، وحتى وصل أمر الاستحضار إلى المسلمين كافة خارج المدينة وداخلها، ولكنه كشف نياته في الحركة إلى مكة قبيل موعد خروجه من المدينة، حيث لم يبق هناك مسوغ للكتمان، لأن الحركة أصبحت وشيكة الوقوع.

ومع ذلك، بث عيونه وأرصاده، لتحول دون تسرب المعلومات عن حركته إلى قريش.

بث عيونه داخل المدينة ليقضي على كل محاولة لتسريب الأخبار من أهلها إلى قريش، وقد رأيتَ كيف اطلع على إرسال حاطب بن أبي بلتعة برسالته إلى مكة، فاستطاع حجز تلك الرسالة.

وبث عيونه وأرصاده داخل المدينة وخارجها ليحرم قريشاً من الحصول على المعلومات عن نيات المسلمين، وليحرم المنافقين والموالين لقريش من إرسال المعلومات إليها.

وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظاً كل اليقظة، حذراً كل الحذر، حتى وصل إلى ضواحي مكة، ونجح بترتيباته في حرمان قريش من معرفة نيات المسلمين أعظم نجاح.

ولكي يلقي النبي صلى الله عليه وسلم ظلاً كثيفاً من الكتمان على نياته، بعث سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم، شمالي المدينة المنورة، بينما كان يستعد لفتح مكة في جنوب المدينة المنورة، فسارت أخبار المسلمين بأنهم يتجهون شمالاً لكتمان اتجاههم نحو الجنوب.

ولو انكشفت نيات المسلمين لقريش في وقت مبكر، لاستطاعت حشد حلفائها وتنظيم قواتها وإعداد خطة مناسبة لمقابلة المسلمين، ولاستطاعت مقاومة المسلمين أطول مدة ممكنة دفاعاً عن مكة المكرمة ولأوقعت بهم خسائر في الأرواح والأموال، وكانت قريش قد استطاعت حشد عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب كما هو معروف، وباستطاعتها أن تحشد مثل هذا الحشد وأكثر دفاعاً عن مكة.

وليس من السهل أن يتحرك جيش ضخم تعداده عشرة آلاف مقاتل من المدينة إلى مكة بالمراحل دون أن تعرف قريش وقت حركته وموعد وصوله ونياته، حتى يصل ذلك الجيش اللجب إلى ضواحي مكة القريبة، فيفلت الأمر من قريش، ولا تعرف ما تصنع إلا اللجوء إلى الاستسلام دون مقاومة.

إن تدابير النبي صلى الله عليه وسلم في الكتمان أمّنت له مباغتة كاملة لقريش، وأجبرتها على الرضوخ للأمر الواقع: الاستسلام.

وهذا الكتمان لا مثيل له في سائر الحروب، ما أحرانا أن نتعلمه ونقتدي به ونسير على منواله.

2. بعد النظر:
القائد المتميز هو الذي يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى مزاياه الأخرى، ويتخذ لكل أمر محتمل الوقوع التدابير الضرورية لمعالجته، دون أن يترك مصائر قواته للاحتمالات بدون إعداد كامل.

إن النصر من عند الله، يؤتيه من يشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى ينصر من أعدّ عدّته واحتاط لكل احتمال كبير أو صغير قد يصادفه، لذلك يشدد العسكريون على إدخال أسوأ الاحتمالات في حسابهم في أية عملية عسكرية.

لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبس أبو سفيان في مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر عليه جنود المسلمين، فيحدث قومه عن بينة ويقين،ولكي لا يتكون إسراعه في العودة إلى قريش قبل أن تنهار معنوياته تماماً، سبباً لاحتمال وقوع أية مقاومة من قريش، مهما تكن نوعها ودرجة خطورتها. وفعلاً اقتنع أبو سفيان بعد أن رأى قوات المسلمين كلها، أن قريشاً لا قبل لها بالمقاومة.

وقد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في حساباته أسوأ الاحتمالات أيضاً، عند تنظيمه خطة الفتح، فكانت تلك الخطة تؤمن تطويق البلد من جهاته الأربع بقوات مكتفية بذاتها، بإمكانها العمل مستقلة عن القوات الأخرى عند الحاجة، وبذلك تستطيع القضاء على أية مقاومة في أية جهة من جهات مكة، كما تؤمن توزيع قوات قريش إلى أقسام لمقاومة كل رتل من أرتال المسلمين على انفراد، فتكون قوات قريش ضعيفة في كل مكان.

واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم هذه التدابير الفاعلة بالرغم من اعتقاده بأن احتمال مقاومة قريش للمسلمين ضعيف جداً، وذلك ليحول دون مباغتة قواته وإيقاع الخسائر لها، مهما تكن الظروف والأحوال.

فما أحرى أن يتعلم المسلمون هذا الدرس ويطبقوه في إعداد خططهم المصيرية!

3. العقيدة:
كان جيش الفتح مؤلفاً من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة في حينه، لا يوحد بينه غير العقيدة الواحدة، التي يضحي الجميع من أجلها، وتشيع بينهم الانسجام الفكري الذي يجعل التعاون الوثيق بيهم سائداً.

لقد كانت انتصارات المسلمين الأولين انتصارات عقيدة بلا مراء، وكان النصر من أول ثمرات هذه العقيدة على النطاق الجماعي.

أما على النطاق الفردي، فقد رأيت كيف طوت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها أبي سفيان، وقد جاء من سفر قاصد بعد غياب طويل ذلك لأنها رغبت به عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.

وعندما جاء أبو سفيان مع العباس ليواجه النبي صلى الله عليه وسلم، رآه عمر بن الخطاب، فغادر خيمته واشتد نحو خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إليها قال: يا رسول الله! دعني اضرب عنقه. قال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته، فلما أكثر عمر قال العباس: مهلاً يا عمر، ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة، فقال عمر: مهلا يا عباس، فوالله إسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم. لقد كان يمثل عقيدة المسلمين الأولين، بينما كان العباس حديث عهد بالإسلام.

وكيف نعلل إقدام المهاجرين على المشاركة في غزوة الفتح، التي لم يكن من المستبعد أن تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش؟

إن عقيدة المسلمين لا تخضع للمصالح الشخصية، بل هي رهن المصالح العامة وحدها، وقد انتصر المسلمون بالعقيدة الراسخة، وهي اليوم غائبة عنهم فذلوا وهزموا، فما أحراهم أن يعودوا إلى عقيدتهم ليستعيدوا مكانتهم بين الأمم، ولينتصروا على أعدائهم، فقد غاب عنهم النصر منذ غاب عنهم الإسلام.

4. المعنويات:
لم تكن معنويات المسلمين في وقت من الأوقات أعلى وأقوى مما كانت عليه أيام فتح مكة، البلد المقدس عند المسلمين الذين يتوجهون إليه في صلاتهم كل يوم، ويحجون بيته كل سنة. وكانت أهمية مكة للمهاجرين أكثر من أنها بلد مقدس، فهي بلدهم الذي هاجروا منه فراراً بدينهم وخلفوا فيها أموالهم وذويهم وكل عزيز عليهم.

لذلك لم يتخلف أحد من المسلمين عن هذه الغزوة إلا القليل من ذوي الأعذار القاهرة الصعبة.

أما معنويات قريش، فقد كانت متردية للغاية، فقد أثرت فيهم عمرة القضاء، كما أثر فيهم انتشار الإسلام في كل بيت من بيوت مكة تقريباً، وبذلك فقدت مكة روح المقاومة وروح القتال. ومما زاد في انهيار معنويات قريش، ما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم من إيقاد عشرة آلاف نار في ليلة الفتح، ومرور الجيش كله بأبي سفيان قائد قريش أو أكبر قادتها، ودخول أرتال المسلمين في كل جوانب مكة.

لقد كانت غزوة الفتح معركة معنويات بالدرجة الأولى، ما أحرانا أن نتعلمها لحاضرنا ومستقبلنا.

5. السلم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه لفتح مكة على نياته السلمية، ليؤلف بذلك قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الإسلام.

وقد عهد عليه الصلاة والسلام إلى قادته حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم. وبقي النبي صلى الله عليه وسلم مصراً على نياته السلمية بعد الفتح أيضاً، فقد أصدر العفو العام عن قريش قائلاً: »اذهبوا فأنتم الطلقاء«.

وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم الجماعي، حرص كذلك على السلم الفردي، فمنع القتل حتى لفرد واحد من المشركين، مهما تكن الأسباب والأعذار.

فقد قتلت خزاعة حلفاء المسلمين رجلاً من هذيل غداة يوم الفتح لثأر سابق لها عنده، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وقام في الناس خطيباً، ومما قاله: »يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا قدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله«، أي ديته، ثم ودي بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجلاً من المشركين أراد اغتياله شخصياً وهو يطوف في البيت، بل تلطف معه. فقد اقترب فضالة بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته، فاستدعاه وسأله: »ماذا كنت تحدث به نفسك؟« قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلطف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.

ورأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مفتاح الكعبة بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال عليه الصلاة والسلام: »أين عثمان بن طلحة؟« فلما جاء عثمان قال له: »يا ابن طلحة، هاكَ مفتاحك، اليوم يوم بر ووفاء«.

وقد رأى المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يتواضع لله، حتى رأوه يوم ذلك ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعاً، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعاً لله وشكراً.

تلك هي سمات الخلُق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.

إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام.

ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة، لحاضر المسلمين ومستقبلهم، لحاضر أفضل ومستقبل أحس، وهي عبر لمن يعتبر.
مجلة الأمة - العدد 12 - عام 1401 هـ

د.فالح العمره
15-04-2005, 10:41 PM
أمجاد الأسطول الإسلامي
في معركة ذات الصواري

اللواء الركن

محمد جمال الدين محفوظ


--------------------------------------------------------------------------------

بيزنطة والبحر الأبيض المتوسط
كان للدولة البيزنطية في العصور الوسطى السيطرة والسيادة على البحر الأبيض المتوسط بلا منافس، فعلى شواطئه الشمالية امتدت أملاكها إلى شبه جزيرة البلقان والجزر الملحقة بها وآسيا الصغرى، ومن الشرق كان تتبعها سورية وفلسطين، ومن الجنوب مصر وشمالي إفريقية، كذلك امتد سلطانها السياسي إلى وسط وجنوبي إيطاليا، وبعض بلاد محددة ولفترة قصيرة على الساحل الجنوبي لإسبانيا القوطية.

وكان لبيزنطة أسطول دائم ومهيب، وعدة قواعد بحرية، ودور للصناعة (صناعة السفن) في القسطنطينية وعكا والإسكندرية وقرطاجة، وسرقوسة بصقلية ورافنا بإيطاليا وغيرها، فقد بلغت عنايتها بالسلاح البحري أقصاها منذ عهد «جستنيان» (يوستانيوس) في منتصف القرن السادس الميلادي، وعهد هرقل قبل منتصف القرن السابع ومن جاء بعده من الأباطرة.

وإلى جانب الأسطول البحري، كان لبيزنطة عدد من السفن التجارية تستخدم في عمليات نقل الجند والإمدادات، وكان تتحكم في منافذ البحر الأبيض: القسطنطينية ومصر وسبتة، مما استحال معه دخول أية تجارة خارجية إلى هذا البحر دون موافقتها، وشملت تجارتها العالم كله آنذاك.

الأسطول الإسلامي
ولم يكن للمسلمين عهد بركوب البحر أو الحرب في أساطيله، لكنهم وجدوا - خلال فتوح الشام – أن الأسطول البيزنطي مصدر تهديد خطير ومباشر لأمنهم وأمن المناطق المفتوحة واستقرار الإسلام فيها، فأدركوا أن بناء أسطول إسلامي ضرورة «استراتيجية» حيوية، فكان نواة هذا الأسطول من السفن التي وجدوها في موانئ االشام ومصر، ثم انطلقوا إلى صناعة السفن في دور الصناعة، وهكذا دخل السلاح البحري في «الاستراتيجية» العسكرية الإسلامية لأول مرة في تاريخ المسلمين،[1] وبدأ هذا السلاح الناشئ بسرعة مذهلة في ممارسة العمليات البحرية.

وكان من الطبيعي ألا تقف بيزنطة مكتوفة الأيدي أمام تلك القوة البحرية التي قامت في البحر الأبيض المتوسط، وأصبح تحت يدها أغلى ما كانت تملك من دور للصناعة وقواعد بحرية في عكا والإسكندرية، مما يشكل تهديداً خطيراً لسيادتها التي امتدت زمناً بلا منافس.

واتخذت العمليات البحرية للأسطول الإسلامي شكلين: الأول، عمليات تستهدف غزو جزر البحر الأبيض ذات الأهمية «الاستراتيجية» في تأمين الشام ومصر؛ والثاني، عمليات القتال البحري ضد أسطول بيزنطة مثل معركة ذات الصواري موضوع هذا البحث.

أسباب المعركة
تقدم المصادر والمراجع العربية والأجنبية أسباباً مختلفة لمعركة ذات الصواري البحرية، نذكر أهمها فيما يلي:

إجهاض قوة البحرية الإسلامية النامية. يقول أرشيبالد. د. لويس بعد أن تحدث عن غزو الأسطول الإسلامي لقبرص: "ويظهر أن الغارات التي انتهت باحتلال الجزيرة أثارت حماسة الدولة البيزنظية نحو البحر، ودفعتها للقيام بعمليات بحرية جديدة، وكان هذه العمليات قد توقفت منذ فشلها في معركة الإسكندرية عام 645 م – 25 هـ. أعدّ قنسطانز الثاني خليفة هرقل أسطولاً كبيراً تراوح عدده من 700 إلى 1000 سفينة شراعية، والتقى هذا الأسطول في السنة ذاتها بأسطول صغير مشترك بين العرب والمصريين مكون من 200 سفينة أقلعت من شواطئ سورية قرب موضع يقال له فونيكس Phoenicus بآسيا الصغرى، وتعرف هذه الواقعة بواقعة ذات الصوراي." [2]
ويقول إرنست وتريفور ديبوي: "لقد بدأ العرب بشدة في تحدي سيادة بيزنطة البحرية، وهزموا أساطيل الإمبراطور قنسطانز الثاني واستولوا على بعض الجزر شرقي البحر الأبيض المتوسط." وفي موضع آخر يقول: "وفي البحر استولى المسلمون على رودس 654 م، وهزموا أسطولاً بيزنطياً يقوده قنسطانز بنفسه في معركهة بحرية عظمى خارج ساحل ليكيا (655 م)."

ويقول الدكتور عبد المنعم ماجد: "ويظهر أن النشاط المتزايد من قبل العرب أخاف بيزنطة بحيث إن الإمبراطور قنسطانز الثاني (642-668 م) جمع عدداً من المراكب لم يجمعها من قبل تزيد على ألف مركب، وسار بها بقصد ملاقاة أسطول العرب، أو بقصد احتلال الإسكندرية العظمى كبرى موانئ البحر الأبيض، فخرجت إليه أساطيل العرب في أعداد كبيرة بقيادة عامل مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح." [3]

انتقام البيزنطيين لما أصابهم على أيدي المسلمين في إفريقية واسترداد مصر. وذلك ما يراه الطبري حيث يقول: "وخرج عامئذٍ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية."[4] ويتفق معه في ذلك ابن الأثير فيقول: "وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلمين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم، خرج قسطنطين بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله مذ كان الإسلام." [5]
وقال عبد الرحمن الرافعي وسعيد عاشور: "وفي سنة 34هـ - 654 م خرج الإمبراطور قنسطانز الثاني على رأس حملة بحرية كبرى في محاولة للاستيلاء على الإسكندرية واسترداد مصر من العرب." [6]

إجهاض تدابير المسلمين لغزو القسطنطينية عاصمة بيزنطة. وذلك هو ما يراه المؤرخ البيزنطي تيوفانس حيث يقول: "في هذا السنة جهز معاوية –رضي الله عنه- الجيش وزوده بأسطول ضخم قاصداً محاصرة القسطنطينية، وأمر بتجميع الأسطول كله في طرابلس فينيقيا. فلما علم بذلك أخوان نصرانيان [7] من أهل المدينة، هاجما السجن وحطما الأبواب وأطلقا سبيل المحجوزين جميعاً، ثم هاجموا رئيس المدينة وقاتلوه ورجاله كلهم وهربوا إلى تخوم الروم، غير أن معاوية لم يغير رأية في حصار القسطنطينية، بل جاء بجيشه –يقصد أسطولي الشام ومصر- إلى قيصرية وكيادوكيا، وعيّن أبولا باروس Abula Barus-يقصد عبد الله بن سعد بن أبي سرح – قائداً للأسطول، فقدم هذا فينيقيا إلى مكان في ليكيا Lycia [8] حيث كان الإمبراطور قنسطانز مقيماً بمعسكره وأسطوله ودخل معه في معركة بحرية."[9]
حرمان المسلمين من الحصول على الأخشاب اللازمة لصناعة السفن. وهذا السبب ذكره أرشيبالد لويس كسبب محتمل لمعركة ذات الصواري، حيث قال: "ومما يلفت النظر أن المكان الذي دارت فيه المعركة، وهو ساحل الأناضول، يزدحم بغابات السرو الكثيفة، وهو الشجر المستخدم في صواري السفن، ولعل البيزنطيين قرروا القيام بتلك المعركة ليحولوا بين الخشب اللازم لصناعة السفن هناك، وبين وقوعه في قبضة العرب، وإذا صح هذا الزعم فإنه يقوم دليلاً على أهمية الخشب في الصراع البحري بين العرب وبيزنطة."[10]
أحداث المعركة
والواقع أن الأسباب التي ذكرناها كما وردت في المصادر والمراجع التاريخية أسباب مقبولة، لأنها جميعاً تعبر عن الدوافع المنطقية التي لا بد وأن تنشأ في عقول البيزنطيين الذين رأوا أغلى ممتلكاتهم تسقط في أيدي المسلمين في الشام ومصر وإفريقية، وأدركوا خطر الأسطول الإسلامي الناشئ الذي يهدد سيادتهم البحرية في البحر المتوسط الذي أطلق على بحر الروم دليلاً على تلك السيادة.

وأيا كانت الأسباب التي ذكرت، فقد التقى الأسطول الإسلامي بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح والي مصر، وكان يتألف من مائتي سفينة، بالأسطول البيزنطي بقيادة الإمبراطور قسطنطين الثاني خارج ساحل ليكيا في آسيا الصغرى (انظر الخريطة) ويمكن وصف أحداث المعركة باختصار على النحو التالي:

[1] نزلت نصف قوة المسلمين إلى البر بقيادة بُسر بن أبي أرطأة للقيام بواجبات الاستطلاع وقتال البيزنطيين المرابطين على البر، وذلك تطبيقاً لواجبات أمير البحر عندما تكون المعركة البحرية قرب البر والسوائل والجزائر، فعليه "ألاَّ يهجم على المراسي لئلا تكون مراكب العدو بها كامنة، ولا يتقدم إلى البر إلا بعد المعرفة والاحتراز من الأحجار والعشاب والأحارش التي تنكسر عليها المراكب، وإن كان القتال قرب البر والسواحل والجزائر فيجعل عيونه وطلائعه على الجبال فيتأهب لذلك.." [11]

[2] بدأ القتال بين الأسطولين – عندما أصبحت المسافة بينهما في مرمى السهام – بالتراشق بالسهام.

[3] وبعد أن نفدت السهام جرى التراشق بالحجارة، ومن أجل ذلك كانوا "يجعلون في أعلى الصواري صناديق مفتوحة من أعلاها يسمونها التوابيت يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو فيقيمون فيها للكشف ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق يرمون العدو بالأحجار وهم مستورون بالصناديق." [12]

[4] وبعد أن نفدت الحجارة ربط المسلمون سفنهم بسفن البيزنطيين وبدأ القتال المتلاحم بالسيوف والخناجر فوق سفن الطرفين.

[5] انتهت المعركة بعد قتال شديد بانتصار المسلمين بإذن الله. ونذكر فيما يلي روايات المؤرخين عن أحداث المعركة.

رواية ابن عبد الحكم
وهي توضح مراحل المعركة، وكيف نجا عبد الله بن سعد قائد الأسطول من الأسر الذي كاد يقع فيه، فيقول: "إن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصواري، أنزل نصف الناس مع بسر بن أبي أرطأة سرية في البر، فلما مضوا أتى آتٍ إلى عبد الله بن سعد فقال: ما كنت فاعلاً حين ينزل بك هرقل - يقصد قسطنطين- في ألف مركب فافعله الساعة." أي: أنه يخبره بحشد قسطنطين لأسطوله لملاقاته، وإنما مراكب المسلمين يومئذ مائتا مركب ونيف، فقام عبد الله بن سعد بين ظهراني الناس، فقال: قد بلغني أن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب، فأشيروا علي، فما كلّمه رجل من المسلمين، فجلس قليلاً لترجع إليهم أفئدتهم، ثم قام الثانية، فكلمهم، فما كلمه أحد، فجلس ثم قام الثالثة فقال: إنه لم يبق شيء فأشيروا علي، فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعاً مع عبد الله بن سعد فقال: أيها الأمير إن الله جل ثناؤه يقول: )كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرةً بإذن اللهِ والله مع الصابرين( فقال عبد الله: اركبوا باسم الله، فركبوا، وإنما في كل مركب نصف شحنته، وقد خرج النصف إلى البر مع بُسْر، فلقوهم [أي أسطول البيزنطيين] فاقتتلوا بالنبل والنشاب، فقال: غلبت الروم [أي انتصرت] ثم أتوه، فقال: ما فعلوا؟ قالوا: قد نفد النبل والنشاب، فهم يرتمون بالحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف، قال: غُلِبَتْ. وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال، فقرن مركب عبد الله يومئذ، وهو الأمير، بمركب من مراكب العدو، فكاد مركب العدو يجتر مركب عبد الله إليهم [أي يجذبه نحوهم] فقال علقمة بن يزيد العطيفي، وكان مع عبد الله بن سعد في المركب فضرب السلسلة بسيفه فقطعها."[13]

رواية ابن الأثير
قال: "فخرجوا [أي البيزنطيين] في خمسمائة مركب أو ستمائة، وخرج المسلمون وعلى أهل الشام معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وعلى البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان الريح على المسلمين لما شاهدوا الروم، فأرسى المسلمون والروم، وسكنت الريح، فقال المسلمون: الأمان بيننا وبينكم. فباتوا ليلتهم والمسلمون يقرؤون القرآن ويصلون ويدعون، والروم يضربون بالنواقيس. وقربوا من الغد سفنهم، وقرب المسلمون سفنهم، فربطوا بعضها مع بعض واقتتلوا بالسيوف والخناجر، وقتل من المسلمين بشر كثير، وقتل من الروم ما لا يحصى، وصبروا صبراً لم يصبروه في موطن قط مثله، ثم أنزل الله نصره على المسلمين فانهزم قسطنطينن جريحاً ولم ينجُ من الروم إلا الشريد، وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياماً ورجع." [14]

رواية المؤرخ البيزنطي تيوفانس
وهي توضح هزيمة البيزنطيين وفداحة خسائرهم، وكيف فرّ الإمبراطور ناجياً بنفسه: "ضم [أي قسطنطين] صفوف الروم إلى المعركة، وأخذ يتحرّش بالعدو، فنشبت المعركة بين الطرفين، وهزم الروم واصطبغ البحر بدمائهم، فغيّر الإمبراطور ملابسه مع أحد جنوده، وقفز أحد الجنود على مركبه واختطفه وذهب به هنا وهناك ونجا بمعجزة." [15]

لماذا سمّيت بذات الصواري؟
بعض المؤرخين يرجع سبب تسمية المعركة بذات الصواري إلى كثرة عدد صواري السفن التي اشتركت فيها من الجانبين؛ وبعضهم الآخر يذكر أن هذا الاسم نسبة إلى المكان الذي دارت قريباً منه، وهو ما نميل إليه وما يستنتج مما يلي:

1- قول الطبري: "فركب من مركب وحده ما معه إلا القبط حتى بلغوا ذات الصواري، فلقوا جموع الروم في خمسمائة مركب أو ستمائة." وقوله أيضاً: "وأقام عبد الله بذات الصواري أياماً بعد هزيمة القوم."

2- قول ابن الأثير: (وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياماً ورجع.)

3- ويضاف إلى ذلك أن المكان الذي دارت المعركة قريباً منه اشتهر بكثرة الأشجار التي تستخدم أخشابها في صناعة صواري السفن، وقد أشار إلى ذلك أرشيبالد لويس بقوله: (ومما يلفت للنظر أن المكان الذي دارت فيه هذه المعركة، وهو ساحل الأناضول، يزدحم بغابات السرو الكثيفة وهو الشجر المستخدم في صواري السفن.)

الآثار الاستراتيجية لذات الصواري
أولاً: تأكيد النظرية الإسلامية في النصر على العدو المتفوق.

لقد كانت المقارنة المجردة بين قوة الأسطول الإسلامي وقوة الأسطول البيزنطي تكشف التفوّق الساحق للبيزنطيين، وتدفع أي خبير في فن الحرب إلى أن يتوقع أن ينهزم المسلمون في تلك المعركة غير المتكافئة بالنظر إلى العوامل الآتية:

1- الأسطول الإسلامي أسطول ناشئ لا يزيد عمره على بضعة سنوات، ورجاله حديثو عهد بركوب البحر فضلاً عن القتال فيه، ولا يتعدى عدد سفنه المائتين إلا قليلاً.

2- والأسطول البيزنطي أسطول عريق مهيب له السيادة على البحر، وله تاريخ طويل في العمليات البحرية، ورجاله على أعلى درجة من الكفاءة فيها، وعدد سفنه يزيد على ثلاثة أضعاف عدد سفن المسلمين.

لكن المسلمين حين قبلوا التحدي، وقاتلوا أسطول بيزنطة المتفوق، وانتصروا عليه، يقدمون للمسلمين في كل عصر التأكيد على أن النظرية الإسلامية في مواجهة العدو المتفوق وقهره – التي وضع عناصرها وطبقها الرسول القائد e في معاركه مع أعدائه المتفوقين – كفيلة بترجيح كفتهم على أعدائهم المتفوقين في موازين القوى.

وفي ذات الصواري برزت عناصر تلك النظرية:

1- الإيمان وقوة العقيدة:

فقد ذكر المسلمون قول الله تعالى: )كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرة بإذن الله واللهُ مع الصابرين(، ورأينا كيف امتلأت نفوسهم بأقوى الدوافع المعنوية، وكيف صبروا يومئذ صبراً لم يصبروا في موطن قط مثله، وكيف قاتلوا أشد القتال كما ورد في المصادر التاريخية التي ذكرناها حتى أنزل الله عليهم نصره. فهذا الدرس يؤكد أن الإيمان وقوة العقيدة من أهم العوامل التي ترجح كفة المسلمين في موازين القوى، مهما كان ثقل أعدائهم في تلك الموازين.

2- الإدارة السليمة والاستثمار الأمثل للقدرات المتاحة:

لقد أدرك المسلمون أنهم أمام عدو متفوق فكانت إدارتهم للمعركة على النحو الذي يجرده من هذا التفوق، وليس من شك في أن جوهر تفوق البيزنطيين هو كفاءتهم العالية في فن القتال البحري وقدرتهم الفائقة في المناورة البحرية.[16] ويكفي للدلالة على ذلك أن المسلمين حين عرضوا - قبل المعركة- على البيزنطيين أن يختاروا بين القتال على البر والقتال في البحر، فإنهم اختاروا البحر بإجماع الأصوات، وهذا ما رواه الطبري على لسان شاهدعيان هو مالك بن أوس بن الحدثان، قال: (كنتُ معهم، فالتقينا في البحر فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط.. ثم قلنا للبيزنطيين إن أحببتهم فالساحل حتى يموت الأعجل منا ومنكم، وإن شئتم فالبحر، قال: فنخروا نخرة واحدة وقالوا: الماء. فدنونا منهم فربطنا السفن بعضها إلى بعض حتى كنا يضرب بعضنا بعضاً على سفننا وسفنهم..) [17] فالبيزنطيون اختاروا الميدان الذين يجيدون القتال فيه وهو البحر، والذي يعلمون تماماً انه هو الميدان الذي سوف ينتصرون فيه على المسلمين لضعف خبرتهم فيه. لكن المسلمون – رغم ذلك – كانوا يعلمون أن كفاءتهم في القتال على البر تفوق البيزنطيين، فأداروا المعركة البحرية على النحو الذي حولها إلى معركة برية وذلك بربط سفنهم إلى سفن البيزنطيين ومباشرة القتال المتلاحم بالأسلحة البيضاء، واستغلوا مهارتهم في هذا الفن إلى الحدّ الذي جعل الإمبراطور وهو يتابع المعركة يوقن بانتصار المسلمين حين علم بذلك – وهو ما ورد في رواية ابن عبد الحكم السابق ذكره – فقال: غُلِبَت الروم.

وقد شهد للمسلمين بذلك بعضُ المؤرخين الأجانب، فيقول أرشيبالد لويس: (ويبدو أن انتصارهم –أي المسلمين- جاء نتيجة لخطط غير عادية، إذ ربطوا سفنهم بعضها إلى بعض بسلاسل ثقيلة، فاستحال على أعدائهم اختراق صفوفهم واستخدموا في تلك المعركة خطاطيف طويلة يصيبون بها صواري وشرع سفن الأعداء، الأمر الذي انتهى بكارثة بالنسبة للبيزنطيين. [18]

3- التعاون والتكامل:

لقد كان الانتصار الإسلامي في مجال البحر ثمرة للتعاون والتكامل وحشد الطاقات بين الشام ومصر؛ ابتداءً من إنشاء الأسطول وصناعة السفن إلى قيام أسطول الشام مع أسطول مصر بالعمليات البحرية المشتركة في هيئة أسطول مشترك، فكانت أغلب العمليات تتم على هذا النحو.

ثانياً: انتهاء عصر السيادة البيزنطية في البحر المتوسط.

إذا كانت موقعة أكتيوم سنة 31 قبل الميلاد جعلت من البحر الأبيض بحيرة رومانية وأصبحت من المعارك الفاصلة في التاريخ، فإن معركة ذات الصواري البحرية قد دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، حين سجلت انتصار الأسطول الإسلامي الناشئ على أسطول بيزنطة ذي التاريخ البحري الطويل. وليس هذا فحسب، بل كان من أهم نتائجها الاستراتيجية انتهاء عصر السيادة البيزنطية في البحر الأبيض المتوسط، وبروز المسلمين قوة مؤثرة ذات ثقل عسكري وسياسي واقتصادي في عالم هذا البحر.



مجلة الأمة – العدد 71/سنة 1406 هـ


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر مقالنا (السلاح البحري في الاستراتيجية العسكرية الإسلامية) المنشور في العدد(68) من المجلة.

[2] أرشيبالد لويس: (القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط) ترجمة: أحمد محمد عيسى؛ ص 91

[3] عبد المنعم ماجد: (التاريخ السياسي للدولة العربية) ص244-245

[4] الطبري: (تاريخ الأمم والملوك) ج4، ص290

[5] ابن الأثير: (الكامل في التاريخ) ج3، ص58

[6] عبد الرحمن الرافعي وسيد عبد الفتاح وسعيد عاشور: (مصر في العصور الوسطى من الفتح العربي حتى الغزو العثماني) ص 71

[7] يعتقد أنهما من عملاء بيزنطة، وأنهما أبلغا الإمبراطور بنوايا معاوية رضي الله عنه.

[8] (ليكيا) موضع على الساحل بآسيا الصغرى.

[9] ثيوفانس: (كرونوجرافيا) عمود 703 لاتيني، في حوادث سنة 646 م.

[10] أ رشيبالد لويس: (القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط) ترجمة: أحمد محمد عيسى؛ ص 92

[11] عبد الفتاح عبادة: (سفن الأسطول الإسلامي) ص: 15

[12] المرجع السابق: ص 8

[13] ابن عبد الحكم: (فتوح مصر وأخبارها) ص: 129-130

[14] ابن الأثير: (الكامل في التاريخ) ج 3، ص 58

[15] ثيوفانس: (كرونوجرافيا) عمود 706 لاتيني.

[16] يطلق لفظ المناورة على عملية تحريك القوات والوسائل من موضع إلى آخر وفي مختلف الاتجاهات، بقصد تهيئة ظروف أفضل لصالح المعركة، والمناورة الناجحة بالقوات والوسائل تدل على براعة القائد في إدارة المعركة.

[17] الطبري (تاريخ الأمم والملوك) ج 4، ص290-291

[18] أرشيبالد لويس (القوى البحرية في حوض البحر المتوسط) ص 92

د.فالح العمره
15-04-2005, 10:43 PM
فتح كاشغر

بقلم: محمود شيث خطاب


--------------------------------------------------------------------------------

»لا يزال أهل تركستان الشرقية (سينكيانج) مسلمين حتى اليوم، ولكن القابض منهم على دينه كالقابض على الجمر«.

المدينة والسكان..

كاشغر: مدينة من أشهر مدن تركستان الشرقية وأهمها، وكانت عاصمة تركستان الشرقية، ولها مركز عظيم في التجارة مع روسيا من جهة والصين من جهة ثانية وبلاد ما وراء النهر[1] من جهة ثالثة، وتشتهر بمنسوجاتها الصوفية الجميلة.

وكانت كاشغر تعتبر قديماً من بلاد ما وراء النهر، وهي تضم قرى ومزراع كثيرة، يسافر إليها من سمرقند وإقليم الصغد، وهي في وسط بلاد الترك، وأهلها مسلمون.

وينسب إلى كاشغر علماء كثيرون، منهم أبو المعالي طفرل شاه محمد بن الحسن بن هاشم الكاشغري الواعظ، وكان عالماً فاضلاً، سمع الحديث الكثير، وطلب الأدب والتفسير، ومولده سنة 490 هـ، وتجاوز سنة 550 هـ في عمره.

ومنهم أبو عبد الله الحسين بن علي خلف بن جبرائيل بن الخليل بن صالح بن محمد الألمعي الكاشغري، كان شيخاً فاضلاً واعظاً، وله تصانيف كثيرة بلغت في الحديث وحده ما تصانيف كثيرة بلغت في الحديث وحده مائة وعشرين مصنفاً وأكثر، وتوفي ببغداد سنة 484 هـ.

وهكذا كان المسلمون في أيام عزهم، ينتقلون لطلب العلم والرزق من كاشغر شرقاً إلى الأندلس غرباً، إلى سيبيريا شمالاً، إلى المحيط جنوباً، بدون جوازات سفر ولا سمات دخول وبغير حدود ولا سدود، وقد أصبحت دولة الإسلام اليوم، دولة الإسلام الواحدة، سبعاً وثمانين دولة ما بين ملكية وجمهورية وإمارة ومشيخة ومستعمرة، يحتاج الذي يريد زيارتها –إن استطاع وسمح له- إلى عشرات سمات الدخول ومئات العراقيل وآلاف العقبات، وأصبح المسلم في دار الإسلام غريباً.

وتركستان الشرقية التي تقع فيها مدينة كاشغر، يحدها من الجنوب: الباكستان والهند (كشمير) والتبت، ومن الجنوب الغربي والغرب: أفغانستان وتركستان الغربية، ومن الشمال: سيبيريا، ومن الشرق والجنوب الشرقي: الصين ومنغوليا.

وقد اجتاحت تركستان الشرقية القوات الصينية الشيوعية سنة 1949م واحتلتها، فأطلق عليها الصينيون اسم (سينكيانج) وهي كلمة صينية تعني: المستعمرة الجديدة، وتبعهم بهذه التسمية الأوروبيون وبعض المصادر العربية الحدينة، إلا أن أهل تركستان الشرقية المسلمون يحبون أن تسمى بلادهم باسمها القديم: تركستان الشرقية، ولا يحبون تسميتها بالاسم الصيني الجديد.

وقد لعبت تركستان الشرقية دوراً تاريخياً مهماً في التجارة العالمية. وكان طريق الحرير المشهور يمر بها، وهو الطريق الذي كان يربط بين الصين، أبعد بلاد العالم القديم، والدولة البيزنطية.

وبدأ الإسلام يدخل تركستان الشرقية على عهد عبد الملك بن مروان سنة ست وثمانين الهجرية (705م)، ولكن البلاد أصبحت إسلامية حكومة وشعباً سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة الهجرية (964م) بدخول السطان ستوق بغراخان الإسلام، فشمل الإسلام البلاد كافة.

ولا يزال أهل تركستان الشرقية مسلمين حتى اليوم، ولكن القابض على دينه كالقابض على الجمر.

التمهيد للفتح..

قطع قتيبة بن مسلم الباهلي النهر –نهر جيحون- في سنة أربع وتسعين للهجرة (712م) متوجهاً إلى فرغانة. وفرغانة اسم مدينة واسم إقليم. وإقليم فرغانة من أقاليم نهر سيحون في بلاد ما وراء النهر، متاخمة لتركستان، وليس فما وراء النهر أكثر قرى من فرغانة، وربما بلغ حد القرية مرحلة لكثرة أهلها وانتشار مواشيهم وزروعهم.

أما فرغانة المدينة فكثيرة الخيرات، كثيرة القرى والحقول والمزارع، بينها وبين سمرقند خمسون فرسخاً.

واصطدمت قوات قتيبة بقوات أهل فرغانة في مدينة خجندة إحدى مدن إقليم فرغانة، فقاوم أهل فرغانة ومن معهم من الترك القادمين مدداً لهم من مدينة كاشغر المجاورة، وكانت مقاومتهم شديدة اضطر قتيبة على الاشتباك بهم مراراً، وفي كل مرة يكون الظفر فيها للمسلمين. وأخيراً انتهت مقاومة أهل فرغانة وحلفائهم الباسلة، ففتح المسلمون الإقليم كافة.

وكان سبب حشد أهل فرغانة قواتهم الضاربة في خجندة، هو لأنها أول مدن إقليم فرغانة من الغرب، وهي على حدود إقليم الصغد الشرقية التي فتحها المسلمون من قبل، فهي الخط الدفاعي الأول عن إقليم فرغانة.

وخُجندة، بلدة مشهورة بما وراء النهر، تقع على شاطئ سيحون، بينها وبين سمرقند عشرة أيام شرقاً، وهي مدينة نزهة، ليس بذلك الصقع أنزه منها، وفي وسطها نهر جار، ولأهلها سفن يسافرون بها في سيحون، وتقوم على ضفة سيحون اليسرى.

ولعل موقع هذه المدينة القريب من إقليم الصغد الذي فتحه المسلمون قبل اليوم، وتيسر وسائط النقل فيها، وكثرة موادها الغذائية، وأهميتها القصوى لإقليم فرغانة، هي أهم أسباب حشد قوات إقليم فرغانة على أرضها، وقبول المعركة الدفاعية الحاسمة عن إقليم فرغانة في ربوعها.

الفتح
كان الاحتفاظ بإقليم فرغانة بيد المسلمين، يقضي على المسلمين فتح منطقة كاشغر التي تقع شرقي إقليم فرغانة، ويقطنها الترك كما يقطنون إقليم فرغانة. وفي سنة ست وتسعين الهجرية (714م) غزا قتيبة مدينة كاشغر، وهي أدنى مدائن الصين وأقربها إلى فرغانة.

وسار قتيبة من مرو عاصمة خراسان على رأس جيشه، وحمل الناس عيالاتهم لتستقر في سمرقند.

وعبر الجيش الإسلامي نهر جيحون، فاستعمل قتيبة رجلاً على معبر النهر، ليمنع من يرجع من جنده إلا بجواز منه وبموافقته الخطية.

ومضى جيش المسلمين إلى فرغانة، مروراً بسمرقند، حيث أبقى الناس عيالاتهم فيها بحماية المسلمين من أهل سمرقند، وكان الإسلام قد انتشر فيها انتشاراً سريعاً موفقاً.

وفي فرغانة، أكمل قتيبة استعدادات جيشه للقتال، وأرسل إلى (شعب عصام) الفَعَلَة لتمهيده، حتى يجتاز الجيش بسهولة ويسر وسرعة، فأكمل الفعلة مهمتهم، وأخبروا قتيبة بإكمالها.

والفعلة هم سلاح الهندسة، كما نطلق عليه اليوم في المصطلحات العسكرية الحديثة: وهم الذين يمهدون الطرق، ويبنون القناطر والجسور، ويزيلون العقبات الطبيعية، ويؤمّنون وسائط عبور الأنهار، ويشرفون على العبور والمعابر.

ويبدو أن (شِعب عصام) أو وادي عصام، عارض من العوارض الطبيعية الوعرة، يعرقل مسيرة الجيش بقوات كبيرة، ويقع بين فرغانة والحدود الصينية القديمة.

وتقدم قتيبة على رأس جيشه من فرغانة، سالكاً الطريق التجارية التي تربط مدينة فرغانة بمدينة كاشغر، ماراً بجنوب بحيرة (جاتيركول) السوفييتية حالياً، على الحدود الصينية-السوفييتية، مقتحماً ممر (تيترك) في تركستان الشرقية.

وبعث قتيبة مقدمة أما جيشه إلى كاشغر، فتقدمت حتى وصلت إلى هدفها، بعد أن أزاحت المقاومات الطفيفة التي صادفتها في طريقها، وغنمت وسبت.

وأوغل قتيبة حتى قارب حدود الصين القديمة، ففتح كاشغر، وجنغاريا الواقعة على حدود منغوليا، وترفان على مقربة من الحدود المنغولية، وخوتن الواقعة شمالي التبت وكشمير، وقانو التي تقع تماماً في منتصف الصين الحالية.

ولكن المصادر العربية المعتمدة تقتصر على فتح كاشغر في هذه السنة ولا تقدم التفاصيل الإضافية الأخرى عن فتوح المدن الصينية الأخرى.

المفاوضات
بات الاصطدام بين المسلمين من جهة وبين ملك الصين من جهة ثانية وشيكاً، فطلب ملك الصين التفاوض بين الجانبين، وعرض التفاوض على قتيبة، فقد أوغل قتيبة حتى قارب الصين واخترق حدودها الغربية، فكتب إليه ملك الصين: «ابعث إلي رجلاً شريفاً يخبرني عنم وعن دينكم»، فوافق قتيبة على طلب ملك الصين.

واختار قتيبة من بين رجال جيشه اثني عشر رجلاً، لهم جَمال وألسن وبأس وتجمّل وصلاح، وأمر لهم بعُدّة حسنة ومتاع حسن من الخز والوشى وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هُبيرة بن المشمرج الكلابي مفوّهاً سليط اللسان، وقال لهم: «إذا دخلتم على ملك الصين، فأعلموه أني حلفتُ أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم»..

وسار وفدُ قتيبة إلى ملك الصين، عليهم هبيرة بن المشمرخ الكلابي، فلما قدموا الصين، دعاهم ملكها، فلبسوا ثياباً بياضاً تحتها الغلائل، وتطيبوا ولبسوا الأردية، ودخلوا على الملك، وكان عنده عظماء قومه، فأخذوا أماكنهم في مجلسه، فلم يكلم الملك الوفد ولا أحد ممن عنده.

ولما انصرف الوفد من مجلس الملك، قال الملك لمن حضره: «كيف رأيتم هؤلاء؟» قالوا: «رأينا قوماً ما هم إلا نساء».

وبالطبع قال من حول الملك ما يحب الملك أن يسمع، لا ما يجب على الملك أن يسمع، أسوة من حول أصحاب السلطان في كل زمان وكل مكان.

وفي غد دعاهم الملك إلى مجلسه، ولبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف –ألبسة من خزّ مربعة لها أعلام- وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا.

وقال الملك لأصحابه بعد انصراف وفد المسلمين: كيف رأيتم؟ فقالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك.

وفي اليوم الثالث دعاهم الملك إلى مجلسه أيضاً، فشدوا سلاحهم، ولبسوا البيض –الخوذ والمغافر- (جمع مِغفر)، وهو زرد ينسج على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة.. وأخذوا السيوف والرماح والقسي، وركبوا خيولهم العربية المطهمة الأصيلة.

ونظر إليهم ملك الصين، فرأى أمثال الجبال المقبلة، فلما دنوا من مجلس الملك، ركزوا رماحهم ثم أقبلوا مشمرين.

وقيل لهم قبل أن يدخلوا على الملك: »ارجعوا..« لِما دخل في قلوب الملك ومن معه من رجال الصين وقادتها من خوف ورهبة.

وانصرف الوفد عائداً إلى مستقره، بعد أن أخذوا رماحهم واستعادوا سلاحهم وامتطوا خيولهم، ثم دفعوا الخيل حضراً –عدْو ذو وثب، وهو ركض الخيل بأقصى سرعتها، كالذي يجري في سباق الخيل- كأنهم يتطاردون، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ فقالوا: ما رأينا مثل هؤلاء!

وفي مساء ذلك اليوم، بعث ملك الصين إليهم، أن ابعثوا إليّ زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة، فقال له الملك: قد رأيتم عظم ملكي، وأنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنت في يدي بمنزلة البيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم.

وما كان هبيرة بحاجة إلى التهديد والوعيد، وليس هو من الرجال الذين يخيفهم التهديد والوعيد، فهو لا يكذب أبداً حتى ولو قتل على أن يكذب لا على ألا يكذب، فلا مجال لتهديده بالقتل إذا لم يصدق.

وسأل الملك هبيرة: لماذا صنعوا في الزي الأول ما صنعوا، ثم الزي الثاني، والزي الثالث؟

وكان جواب هبيرة: أما زيّنا الأول، فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا، وأما الثالث فزيّنا لعدوّنا.

وقال الملك: ما أحسن ما دبرتم دهركم، فانصرفوا إلى صاحبكم، فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثتُ عليكم من يهلككم ويهلكه.

وإذا كانت الجبال الراسيات تهتز قيد أنملة من خطرات النسيم العليل، فإن هبيرة قد اهتز يومئذ من وعيد الملك وتهديده، فلا بد له من أن يبلغ هذا الملك رسالة قتيبة بقوة وأمانة وصدق، فقال للملك في ثقة كاملة وهدوء تام: كيف يكون قليل الأصحاب مَن أول خيوله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصاً من خلّف الدنيا وغزاك؟

وأما تخويفك بالقتل، فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه.

واستخذى الملك في مجابهة قولة الحق، فنسي تهديده ووعيده، ثم تساءل في قول ليّن رقيق: فما الذي يُرضي صاحبك؟ فأجابه هبيرة بقول فصل لا مساومة فيه: إنه حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويُعطَى الجزية.

واستخذى الملك إلى درجة الانهيار بعد أن سمع كلمة الحق تزهق الباطل، فقال: فإنا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا فيطأه، ونبعث أبناءنا فيختمهم، ونبعث له مالاً يرضاه..

ودعا الملك بصحاف من ذهب فيها تراب من أرض الصين، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجاز الوفد فأحسن جوائزهم، فقدموا على قتيبة الذي قبل الجزية، وختم الغلمان، وردّهم إلى الملك، ووطئ تراب الصين.

وقد لجأ الوفد الإسلامي إلى تبديل أزيائهم للتأثير في معنويات ملك الصين ومن معه، مما أدّى إلى انهيار معنويات الصينيين واستجابتهم لمطالب المسلمين.

حقيقة الفتح
المؤرخون العرب يذكرون أن مدينة كاشغر هي أدنى مدائن الصين، ولكن البلدانيين العرب يذكرون أنها من مدن تركستان. وما أخطأ المؤرخون العرب، لأن حدود الصين كانت تمتد غرباً فتضمّ حدودُها تركستان الشرقية بكاملها، أو جزءاً منها في حالة اشتداد قوة ملوك الصين، وتنحسر تلك الحدود نحو الشرق، فتستقل تركستان الشرقية بحدودها الطبيعية، أو تمتد حدود تركستان الشرقية فتضم إليها أجزاء من الصين، في حالة قوة ملوك تركستان وضعف ملوك الصين. وما أخطأ البلدانيون العرب القدامى في ذكرهم أن مدينة كاشغر من مدن تركستان الشرقية، فهي في الواقع كذلك أصلاً، ولكنها تدخل في حدود الصين تارة، وتكون خارج حدودها تارة أخرى.

وقد ظلت تركستان الشرقية خاصة عرضة لهجمات الصينيين حتى أصبحت اليوم من أجزاء الصين كما هو معلوم.

ومن مراجعة تاريخ تركستان الشرقية القديم يتضح لنا أن منطقة كاشغر والمناطق التي حولها التي امتدت الفتوحات الإسلامية إليها، كانت ضمن دولة (كول تورك) التي كانت من سننة 552 م إلى سنة 745 م، ومعنى هذا أن الفتح الإسلامي في تركستان سنة ست وتسعين الهجرية (714 م) كان على عهد تلك الدولة التركية التي كانت في عداء مستمر مع جارتها الشرقية الصين، وكانت على ولاء كامل مع بلاد ما وراء النهر، وخاصة مع إقليم فرغانة، لأن العنصر التركي كان يسيطر على هذا الإقليم، فكان تعاونه مع تركستان الشرقية تعاوناً وثيقاً.

ويذكر لنا تاريخ تركستان الشرقية القديم، أن الاضطرابات شملت تركستان الشرقية سنة إحدى وعشرين ومائة الهجرية (738 م)، فاستغل الصينيون هذه الاضطرابات واعتدوا على تركستان الشرقية وضمّوها إلى بلادهم.

ولكن الأتراك من سكان تركستان الشرقية تمكنوا من الحصول على المعونات العربية الإسلامية سنة أربع وثلاثين ومائة الهجرية (751 م) على عهد الدولة العباسية في بغداد، وتمكنوا بهذا العون من إنقاذ بلادهم من حكم الصين، و هزموا الصينيين في معركة (تالاس) المشهورة.[2]

يتضح من ذلك أن الفتح الإسلامي في كاشغر والمدن الأخرى جرى في تركستان الشرقية لا في الصين، ولكن ملك الصين الذي وجد سرعة تقدم الفتوح الإسلامية ووصولها إلى حدوده الغربية مباشرة في حينه، سعى لإرضاء الفاتحين خوفاً من اختراق بلاده وفتحها، فقدم ما قدم لقتيبة إرضاء له ولمن معه من المجاهدين، وصدّاً لتيارهم الجارف بالتي هي أحسن.

الشهيد..

والسبب الحقيقي لعودة قتيبة وجيشه عن حدود الصين الغربية، كما تذكر المصادر التاريخية المعتمدة، هو وصول خبر وفاة الوليد بن عبد الملك، وتولّي سليمان بن عبد الملك الخلافة بعده، وكان ذلك سنة ست وتسعين الهجرية[3] وكان الوليد مؤيداً لقتيبة وسنداً له أسوة بقادة الحجاج بن يوسف الثقفي كافة، وكان سليمان يكرههم ولا يميل إليهم، لأن الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان بن عبد الملك عن ولاية العهد ويجعل بدله عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك ابنه، فبايعه على خلع سليمان الحجاجُ وقتيبة وقادة الحجاج الآخرون.

وعاد قتيبة بمن معه من جيش المسلمين، فقتل في فرغانة سنة ست وتسعين الهجرية، وهي في طريق عودته إلى خراسان، فقال رجل من العجم: ما معشر العرب، قتلتم قتيبة! والله لو كان قتيبة منا فمات لجعلناه في تابوت فكنا نستسقي به ونستفتح إذا غزونا!

وقال أحد رجالات العجم بعد مقتل يزيد بن المهلب بن أبي صفرة: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيدا العرب!

ورثا قتيبة كثير من شعراء العرب، فقال الفرزدق:

أتاني ورحلي بالمدينة وقعة * لآل تميمٍ أقعدتْ كل قائم

وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي:

كأنّ أبا حفص قتيبة لم يَسْرِ * بجيشٍ إلى جيش ولم يَعْلُ منبرا

ولم تخفق الرايات والقوم حوله * وقوف، ولم يشهد له الناسُ عسكرا

دعته المنايا فاستجاب لربّه * وراح إلى الجنات عِفّاً مطهّرا

فما رزئ الإسلامُ بعدَ محمّد * بمثل أبي حفص، فيبكيه عبْهَرا

وعبهرا: اسم ولد لقتيبة.

وقال جرير في رثاء قتيبة:

ندمتم على قتل الأمير ابن مسلمٍ * وأنتم إذا لاقيتم الله أندَمُ

لقد كنتم في غزوه في غنيمة * وأنتم لمن لقيتم اليومَ مغنَمُ

على أنه أفضى إلى حور ربّه * وتُطبق بالبلوى عليكم جهنمُ

والشعر في رثائه كثير، والثناء عليه أكثر، ولكنه كان أكبر من كل رثاء وثناء، فآثاره باقية، وفتوحه عظيمة، وأعماله لا تبلى.

يكفي أن نذكر أن مساحة فتوحه تبلغ أربعين بالمائة من مساحة الاتحاد السوفييتي[4] وثلاثاً وثلاثين بالمئة من مساحة الصين الشعبية في الوقت الحاضر.وأن سكان المناطق التي فتحها في بلاد ما وراء النهر وتركستان الشرقية ضمن الاتحاد السوفييتي والصين لا يزالون مسلمين حتى اليوم، يتبركون بقراءة القرآن الكريم، ويعتزون بالعربية لغة والإسلام ديناً، بالرغم مما يلاقونه من عنت شديد ومحن وعناء.

ولا أزال أذكر مضيفة على إحدى الطائرات الصينية، صادفتها في إحدى الرحلات في المشرق الإسلامي. فقد رأتني أتلو ما تيسر من القرآن بالمصحف –والطائرة في الجو- فوجدتها تحتفي بي حفاوة خاصة، ولا تنفك تحيطني برعايتها الفائقة. وسألتني على استحياء أن أهدي لها المصحف لأنها مسلمة، فأهديته لها، فجثت على ركبتيها ووضعته على رأسها، وعيناها تذرفان قائلة: هذه أعظم هدية تسلمتها في حياتي، وسأقدم هذا المصحف الشريف إلى والدتي المريضة فور عودتي إلى بلدي، وستفرح بهذه الهدية العظيمة فرحاً عظيماً. ومضت إلى سبيلها تؤدي عملها، وما مرت بي إلا وهتفت: الحمد لله.. أنا مسلمة.

ويومها تذكرت قتيبة الذي لم يقتله أعداء العرب والمسلمين، بل قتله المسلمون.. وترحّمتُ عليه كثيراً وأنا بين السماء والأرض –في الطائرة- وترحّمتُ على شهداء المسلمين.

مجلة الأمة، العدد 50، صفر 1405 هـ

--------------------------------------------------------------------------------

[1] بلاد ما وراء النهر كان نهر جيحون القديم يعد الحد الفاصل بين الأقوام الناطقة بالفارسية والتركية، أي إيران وتوران، فما كان من شماله، أي وراءه، من أقاليم سمّاها العرب: ما وراء النهر، وهو نهر جيحون، وكذلك سمّوها: الهيطل.

[2] إسماعيل حقي شن كولر – قضية تركستان الشرقية، ص 64-65.

[3] الذهبي ، العبر ص 114

[4] هذا قبل سقوطه في أوائل التسعينات من القرن الماضي.

د.فالح العمره
15-04-2005, 10:48 PM
صفحات مجهولة

من تاريخ الحروب الصليبية

مجاهدون على الطريق

د. عماد الدين خليل

--------------------------------------------------------------------------------

منذ الأيام الأولى لوصول طلائع القوات الصليبية إلى مشارف الجزيرة الفراتية والشام، بدا أن ولاة الموصل السلاجقة سيلعبون دوراً حاسماً إزاء الخطر الجديد، نظراً لطبيعة موقعهم الحصين بعيداً عن الأخطار المباشرة للهجوم الصليبي، ولكونهم يمثلون حلقة الوصل المباشر بين القواعد السلجوقية التي يتلقون أوامر عنها، وبين الإمارات الإسلامية المنتشرة في الجزيرة والشام، والتي وقع على عاتقها عبء التصدي للهجوم الجديد. وكان من أبرز هؤلاء الولاة: آق سنقر البرسقي الذي حكم الموصل في الفترة بين 515 هـ (1121م) و 520 هـ (1126م)

شيء عن الرجل
في عام 515 هـ أصدر السلطان السجلوقي محمود أمره بتولية قائده الشهير آق سنقر البرسقي على الموصل وأعمالها، وكان الرجل قد عمل إلى جانب السلطان في معظم حروبه، وكان مخلصاً له، وقد لعب دوراً كبيراً في المعركة الفاصلة التي وقعت بين السلطان وأخيه مسعود، وقام بدور الوساطة بينهما بعد انتهاء المعركة.

وقد اتبع السلطان محمود التقليد المعروف لدى إعلان تولية أمير على الموصل، إذ أمره بجهاد الصليبيين واسترداد البلاد منهم، كما أوصى سائر الأمراء بطاعته، فسار البرسقي إلى الموصل على رأس جيش كبير، وأقام فيها بعض الوقت ريثما يدبر أمورها ويصلح أحوالها.

امتاز الرجل –أكثر من غيره- بالنشاط الدائب والحركة السريعة، فهو تارة في الشام يجاهد الغزاة، وتارة أخرى في بغداد وجنوبي العراق يقاتل الخارجين عن طاعة السلطان والخليفة العباسي، وتارة ثالثة على مشارف حلب مستجيباً لنداء أهلها بإنقاذهم من الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة التي تردّوا فيها خلال تعرضهم للهجمات الصليبية، وقد استطاع البرسقي أن يكسب ودَّ الأمراء المحليين وعلى رأسهم طغتكين حاكم دمشق، كما اكتسب عطف الخليفة العباسي باشتراكه إلى جانبه في حروبه ضد الخارجين عليه، فضلاً عن أنه اكتسب محبة الأهالي سواء في الموصل حيث مقر ولايته، أم في المنطقة –بصورة عامة- حيث اشتهر كأحد قادة الجهاد ضد الغزاة.

كان البرسقي –كما يصفه المؤرخون- عادلاً، حميد الأخلاق، شديد التدين، محباً للخير وأهله، مكرماً للفقهاء والصالحين، وكان شجاعاً نال احترام وتقدير الخلفاء والملوك، ليِّناً، حسن المعاشرة، كثير الصلاة، عالى الهمة؛ وبذا أجمع معظم المؤرخين على أنه كان من خيار الولاة.

الصليبيون.. وإهانة كتاب الله

والحق أن أهم ما أنجزه البرسقي خلال فترة ولايته على الموصل هو استلامه شؤون الحكم في حلب وحله لمشاكلها وضمها إلى الموصل، الأمر الذي أتاح قيام وحدة بين البلدين كان لها أبعد الأثر في الصراع الإسلامي الصليبي.

كان الصليبيون قد شددوا هجماتهم على حلب والمناطق الزراعية المحيطة بها، وأنزلوا بها خسائر فادحة، وتولى الهجوم أميرُ أنطاكية والرها، ثم ما لبثوا أن فرضوا الحصار عليها من شتى جهاتها »ووطنوا أنفسهم –كما يقول ابن الأثير- على المقام الطويل، وأنهم لا يغادرونها حتى يملكوها، وبنوا البيوت لأجل البرد والحر«.

وتعدى الأمر ذلك إلى نبش قبور المسلمين وتخريب مشاهدهم.. ويحدثنا المؤرخ الحلبي ابن العديم أنهم أخرجوا جثث الموتى، وعمدوا إلى من لم تتقطع أوصاله منهم فربطوا الحبال بأرجلهم وسحبوهم أمام أنظار المسلمين المحاصرين في حلب، وراحوا يقولون: هذا نبيكم محمد! وأخذوا مصحفاً من أحد مشاهد حلب المجاورة ونادوا: يا مسلمون أبصروا كتابكم، ثم ثقبه أحد الفرنجة بيده وشدّه بخيطين وربطه بأسفل برذونه، فراح هذا يروّث عليه، وكلما أبصر الفرنجي الروث على المصحف صفق بيديه وضحك عجباً وزهواً!

لم يكتفِ الصليبيون بهذا بل راحوا يمثلون بكل من يقع بأيديهم من المسلمين، فاضطروا هؤلاء إلى مجاراتهم بالمثل، وأخذت جماعات من مقاتلي حلب تخرج سراً لتغير على معسكرات الأعداد، وترددت الرسل بين الطرفين للتوصل إلى اتفاق ولكن دون جدوى حتى ضاق الأمر بالحلبيين حيث قلّت الأقوات وانتشر المرض، واتبع أمراؤهم المتسلطون عليهم أشد الأساليب ظلماً وعسفاً، وحينذاك قرروا تشكيل وفدٍ يغادر حلب سراً إلى الموصل للاستنجاد بالبرسقي.

النجدة

كان البرسقي حينذاك (518 هـ) مريضاً، وكان الضعف قد بلغ منه مبلغاً عظيماً، فمنع الناس من الدخول عليه، وعندما استؤذن للوفد الحلبي بالدخول، أذن لهم، فدخلوا عليه واستغاثوا به وشرحوا له الأخطار التي تحيق بحلب ومدى الصعوبات التي يعانيها أهل المدينة، فأجابهم البرسقي: »إنكم ترون ما أنا الآن فيه من المرض، ولكني قد جعلت لله علي نذراً لئن عافاني من مرضي هذا لأبذلن جهدي في أمركم والذب عن بلدكم وقتال أعدائكم«.

ولم تمضِ ثلاثة أيام على مقابلته للوفد حتى فارقته الحمى وتماثل للشفاء، وسرعان ما ضرب خيمته بظاهر الموصل ونادى قواته أن تتأهب لقتال الصليبيين واستنقاذ حلب، وفي غضون أيام معدودات غدا جيشه على أهبة الاستعداد، فغادر الموصل متجهاً إلى الرحبة، وأرسل من هناك إلى طغتكين أمير دمشق وخير خان أمير حمص يطلب منهما مساعدته في إنجاز مهمته، فلبى هذان الأميران دعوته، وبعثا بعساكرهما للانضمام إلى جيش البرسقي الذي كان قد تحرك آنذاك صوب بالسس القريبة من حلب..

ومن بالسس أرسل البرسقي إلى مسؤولي حلب، وشرط عليهم –مسبقاً- تسليم قلعة حلب لنوابه كي يحتمي بها في حالة انهزامه أمام الصليبيين، فأجابوه إلى طلبه، وما أن استتب الأمر لنواب البرسقي، واطمأن الرجل إلى وجود حماية أمينة في حالة تراجعه، حتى بدأ زحفه صوب قوات الصليبيين التي تطوق حلب.

وصلت طلائع قوات البرسقي حلب يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة 518 هـ، وما أن اقترب البرسقي بقواته المنظمة حتى أسرع الصليبيون في التحول إلى منطقة أفضل من الناحية الدفاعية، فعسكروا في جبل جوش على الطريق إلى أنطاكية، وهكذا غدوا مدافعين بعد أن كانوا مهاجمين، وخرج الحلبيون إلى خيامهم فنالوا منها ما أرادوا، بينما اتجه قسم آخر منهم لاستقبال البرسقي لدى وصوله.

إصلاحات داخلية
وقد أدرك البرسقي ما يرمي إليه الصليبيون بانسحابهم واتخاذهم موقفاً دفاعياً، فلم يتسرع بمهاجمتهم قبل أن يعيد تنظيم قواته من جديد خوفاً من نزول هزيمة فادحة بعسكره قد تعرّض حلب للسقوط، وأرسل طلائعه الكشفية لرد الجيوش المتقدمة إلى معسكراتها في حلب، وقال موضحاً خطته هذه: »ما يؤمننا أن يرجعوا علينا ويهلك المسلمون؟ ولكن قد كفى الله شرهم، فلندخل إلى البلد ونقويه وننظر إلى مصالحه، ونجمع لهم إن شاء الله، ثم نخرج بعد ذلك إليهم«. ومن ثَم دخل البرسقي حلب وبدأ بحل مشاكلها ورفع مستواها الاقتصادي والاجتماعي، فنشر العدل وأصدر مرسوماً برفع المكوس والمظالم المالية وإلغاء المصادرات، وعمت عدالته الحلبيين جميعاً بعدما منوا به من الظلم والمصادرات وتحكم المتسلطين طيلة فترة الحصار الصليبي.

ولم يكتف البرسقي بذلك بل قام بنشاط واسع لجلب المؤن والغلال إلى المدينة كي يخفف من حدة الغلاء، ويقضي على الضائقة التي يعانيها الحلبيون. وما لبث النشاط الزراعي في منطقة حلب أن عاد إلى حالته الطبيعية، حيث استأنف المزارعون العمل في أراضيهم التي شردوا عنها، وساعدتهم الظروف المناخية في أراضيهم التي شردوا عنها، وساعدتهم الظروف المناخية، حيث هطلت مقادير كبيرة من الأمطار فأخصبت الأرض، كما عاد النشاط التجاري إلى عهده السابق اعتماداً على ما تمتعت به المنطقة من أمن واستقرار.

قيمة الانجاز
وهكذا استطاع البرسقي أن يحطم الطوق الذي أحاط به الصليبيون حلب، وأن يخلص هذا الموقع الهام من أخطر محنة جابهته طيلة الحروب الصليبية، ويوحده مع الموصل لأول مرة منذ بدء هذه الحروب، الأمر الذي أتاح لهذا القائد، ولعماد الدين زنكي من بعده، أن يفيد من هذه الوحدة لتحقيق انتصارات عديدة ضد الغزاة، ذلك أن حلب هي القاعدة الثانية في الشمال بعد الموصل، وهي الحصن الأخير الذي وقف بوجه الزحف الصليبي في المنطقة باتجاه الشرق، إذ كانت تتمتع بمركز استراتيجي حيوي من النواحي البشرية والعسكرية والاقتصادية وخطوط المواصلات، وبالرغم من وقوعها بين إمارتين صليبيتين هما الرها وأنطاكية، إلا أنه كان بإمكانها الاتصال بالقوى الإسلامية المنتشرة في الجزيرة والفرات والأناضول وشمالي الشام، مما يعد أساساً حيوياً لاستمرار حركة الجهاد وتحقيق أهداف حاسمة ضد العدو، هذا فضلاً عن عمق وتوثق الصلات الاقتصادية والجغرافية بين حلب والموصل منذ أيام الحمدانيين، ومن ثم تعتبر المدينتان مكملتين إحداهما للأخرى.

وكان مما يزيد في قيمة الاستيلاء على حلب، أنها بفضل موقعها على ثغر المسلمين ومعقلهم تجاه الغزاة، أضْفَتْ على أمير الموصل صفة المدافع عن الإيمان ضد الكفار، كما أن قوة الشعور الإسلامي يجعل من العسير على السطان السلجوقي أن يتخذ ضد أميراها إجراءً صارماً، يضاف إلى ذلك أن البرسقي، باعتباره ممثلاً للسلطان السلجوقي، صار له السلطة الشرعية الوحيدة بين الإمارات التي شكلها البرسقي والممتدة من نهر قويق إلى نهر دجلة نواة لما قام بعدئذ بالشام من دولة إسلامية متحدة زمن الزنكيين والأيوبيين والمماليك، ولم يكن الغزاة الذين وحّد بينهم نظام الملكية في بيت المقدس، يواجهون قبل ذلك سوى بلاد تنازعتها في الشام قوى عديدة وإقطاعات متفرقة زادت من ضعفها. وما حدث –إذاً- من توحيد حلب مع الموصل يعتبر بدء توحيد الجبهة الإسلامية التي قدر لها أن تقضي في يوم من الأيام على قوة الصليبيين في الشام.

بدء العمليات
لم يكن بوسع الميك بلدوين –بعد أن رأي ما حدث- سوى العودة إلى أنطاكية ومنها إلى بيت المقدس الذي غاب عنه مدة سنتين، إلا أنه لم يمكث هناك زمناً طويلاً، فقد كان البرسقي في نظره شديد الخطورة، إذ كان بوسعه أن يوحد المسلمين بشمال الشام تحت سلطانه، كما خضع لقيادته أميرا دمشق وحلب، وكان البرسقي –بعد أن أقرَّ الأوضاع في حلب- قد غادرها في مطلع عام 519 هـ صوبَ تل السلطان ومنها إلى حصن شيزر، وإذ حرص أميرها سلطان بن منقذ على أن يكون صديقاً لكل رجل عظيم الأهمية فقد سلمه رهائن الصليبيين الذي كانوا قد أودعوا لدى بني منقذ ريثما يتم تنفيذ بنود المعاهدة التي كانت قد عقدت بين الغزاة وأمراء ديار بكر، وقد أقام البرسقي في أرض حماة أياماً لحين وصول طغتكين على رأس قواته، وحين ذلك رحل البرسقي على رأس جيش مؤلف من القوات الإسلامية المتحالفة وهاجم حصن كفر طاب الذي كان بحوزة الغزاة وتمكن من الاستيلاء عليه في مطلع ربيع الآخر حيث وهبه لحليفه أمير حمص الذي كان قد التحق به، ثم حاصر »زردنا« فعجل الملك بلدوين في المسير نحو الشمال وقاد جيوش طرابلس وأنطاكية والرها لإنقاذها، فتحول المسلمون إلى عزاز التابعة لجوسلين وشددوا هجومهم عليها، وتمكنوا من إحداث ثغرات في قلعتها، إلا أن قوات بلدوين ما لبثت أن أدركتهم هناك حيث دارت في السادس من ربيع الآخر معركة عنيفة، وإذا استند المسلمون إلى تفوقهم العددي حاولوا الاشتباك مع خصومهم وجهاً لوجه، غير أنه كان لهؤلاء من التفوق في السلاح والقوة الضاربة ما لم يطق المسلمون مقاومته فحلّت بهم الهزيمة، وقتل منهم عدد كبير. واستطاع بلدوين أن يجمع من الغنائم الوفيرة التي حصل عليها مبلغ ثمانين ألف دينار الذي كان يدين به لافتداء الرهائن، فاستلمه البرسقي، وأعاد الرهائن، كي يتقوى به على عدوِّه ويعيد حشد قواته من جديد، وما لبثت الهدنة أن عقدت بين البرسقي والصليبيين، وقفل عائداً إلى الموصل بعد أن أبقى في حلب حامية عسكرية.

استئناف الصراع
لم يكن الاتفاق بين البرسقي وخصومه نهائياً، نظراً لأن الغزاة لم يحترموا ما اتفقوا عليه من قبل من الشروط، ويذكر المؤرخ الحلبي ابن العديم أن الصليبيين أخذوا يمنعون فلاحي المسلمين من جني ثمارهم ومحاصيلهم وفق ما نصّت عليه شروط الهدنة.

وفي مطلع ربيع عام 520 هـ (1126م) قام بونز أمير طرابلس بمهاجمة حص رفينة الذي كان هدفاً للصليبيين منذ أن استرده منهم أمير دمشق عام 499 هـ، والذي كان يتحكم في المنفذ المؤدي إلى البقيعة من جهة وادي نهر العاصي، ونهض بلدوين ملك بيت المقدس لمساندته، وخرج صاحبه »شمس الخواص« طالباً البرسقي مستصرخاً به، لكن ولده ما لبث أن قام بتسليم الحصن للغزاة بعد حصار دام ثمانية عشر يوماً، وكان الاستيلاء على هذا الحصن ذا أهمية بالغة عند الصليبيين لا لأنه كفل الأمان والسلامة لطرابلس فحسب، بل لأنه أمّن أيضاً طرق الاتصال بين بيت المقدس وأنطاكية، ومن ثم توجه الغزاة إلى حمص وهاجموا المناطق المحيطة بها وخربوا مزارعها، ولم يغادروا المنطقة إلا بعد أن أدركتهم القوة التي بعث بها البرسقي بقيادة ابنه مسعود لنجدة صاحب حمص، وخلال ذلك أعاد المصريون بناء أسطولهم الذي أقلع سنة 520 هـ من الاسكندرية وأغار على الساحل الشامي، ولما سمع البرسقي بذلك أعد خطته على أن يقوم أثناء إغارة الأسطول المصري بهجوم من الشمال، فحشد جيشاً كبيراً وتوجه إلى أنطاكية بقصد نجدة صاحب »رفينة« والواقع أن المصريين أدركوا بعد أن حاولوا القيام بغارة على أرباض بيروت، كلَّفتهم خسائر جسيمة، أن المدن الساحلية مشحونة بحاميات قوية، فلم يسعهم إلا العودة، أما البرسقي فقد سلك طريق »منبج« التي كانت مزارعها وقراها قد تعرضت دوماً لغارات جوسلين أمير الرها، فدارت المفاوضات بين البرسقي وجوسلين لعقد هدنة أخرى على أن تكون الضياع ما بين عزاز وحلب مناصفة بين الطرفين وأن يكون القتال بينهما على غير ذلك.

اتجه البرسقي –بعد أن أمن جانب جوسلين- صوب »الأثارب« وحاصرها في جمادى الآخرة 520 هـ وأرسل فرقة من قواته إلى حصن الدير فأذعن لها، وقامت جيوشه بجمع غلال العديد من مزارع العدو وإرسالها إلى حلب، وعلى الرغم من أن قوات البرسقي استولت على السورين الخارجيين للأثارب، إلا أنها لم يتيسر لها الاستيلاء على المدينة لمبادرة ملك بيت المقدس لإنجادها حيث انحاز إليه الأمير جوسلين، ورغبة منهما في تجنّب الاشتباك مع البرسقي أرسلا إليه قائلين: »ترحل عن هذا الموضع ونتفق على ما كنا عليه في العام الخالي ونعيد (رفينة) عليك«.

ولم يشأ البرسقي –من جهته- أن يمضي في الحرب كيلا يتعرض المسلمون لما تعرضوا له من قبل في عزاز، فقرر عقد الصلح مع الصليبيين، غير أن بلدوين لم يلبث –بعد أن جلا البرسقي بقواته عن الأثارب- أن أنكر ما سبق أن عرضه على البرسقي من شروط الصلح وأهمها إعادة (رفينة) إلى المسلمين، بل إنه طالب ببلاد جديدة فلم يقبل البرسقي ذلك وأقام فترة في حلب ترددت الرسل أثناءها بين الطرفين دون أن تسفر عن نتيجة، كما أن الغارات التي نشبت بينهما عقب ذلك لم تأت بطائل، فرجع بلدوين إلى القدس في رجب، وتوجه البرسقي إلى حلب يصحبه طغتكين حاكم دمشق الذي كان قد التحق به قبيل ذلك عند قنسرين، إلا أنه ما لبث أن مرض وأوصى إلى البرسقي قبل أن يغادر حلب متوجهاً إلى دمشق، الأمر الذي يشير إلى مدى ثقته وتقديره للبرسقي الذي لم يأل جهداً في مقاومة الغزاة، وبعد أن أناب البرسقي ابنه عز الدين مسعود في حلب، قفل راجعاً إلى الموصل.

تعبيد الطرق
ما من شك في أن هزيمة البرسقي غير المتوقعة في عزاز، هي التي قلبت ميزان القوى في المنطقة ووضعت جداراً صلباً أمام مطامح البرسقي الذي كان يأمل –بعد ضم حلب إلى إمارته- أن يحقق للمسلمين انتصارات حاسمة ضد أعدائهم، وأن يسعى لتهديد إماراتهم في الشمال بعد أن يوجه ضربات قوية لجيوشهم هناك، وهكذا جاءت كارثة عزاز لتنحرف بحركة البرسقي عن هدفها المرسوم، إلا أن قادة الصليبيين لم ينسوا –رغم ذلك- أن البرسقي سيظل يشكل خطراً على وجودهم، إذ أدركوا ما تمنحه إياه سيطرته على حلب وقيادته لقوى المسلمين في الشام، من إمكانية متجددة لإعادة الكرة عليهم، ومن ثم اقتنع كل من الطرفين بمنطق التهادن والمحالفات والسعي لتجنب أي اشتباك قد يجر وراءه صراعاً طويلاً لم تكن للطرفين رغبة جادة في خوضه نظراً لاعتقادهما بعدم جدواه، ولئن كان البرسقي قد أضاع الفرصة إثر هزيمة عزاز، فإنه فتح الطريق ولا ريب –بضمه حلب إلى الموصل- أمام عماد الدين زنكي الذي جاء بعد سنتين لكي يصفي الحساب مع الغزاة.

نهاية الرجل
لم يلبث البرسقي، بعد أيام قلائل من دخوله الموصل، أن اغتيل على أيدي الباطنية الذي كانوا قد تولوا حملة اغتيالات واسعة النطاق لكبار الشخصيات الإسلامية، بسبب الخلافات المذهبية، وقد بلغت هذه الحملة أوجها في القرن السادس الهجري، وكانت الباطنية تشكل –إذاً- مصدر الخطر الوحيد ضد البرسقي، وقد عرف هو ذلك منذ البداية، فكان على غاية من التيقظ لهم والتحفظ منهم، وكان يحيط بنفسه بعدد كبير من الحرس المسلمين الذين كانوا دائماً على أهبة الاستعداد، كما كان يلبس درعاً من حديد، وقد جهد في الحد من خطر الباطنية عن طريق التصدي لهم واستئصال شأفتهم وتتبعهم في كل مكان، وقد تمكن من قتل عدد منهم.

ورغم كل هذه الاحتياطات والاجراءات تمكن الباطنية الذين تمرسوا على الاغتيالات من بغيتهم. ففي التاسع من ذي القعدة سنة 520 هـ توجه البرسقي إلى الجامع العتيق في الموصل لأداء صلاة الجمعة، وقصد المنبر، فما دنا منه وثب عليه ثمانية أشخاص متزيين بزي الزهاد وأثخنوه ضرباً وطعناً، بعد أن تمكن وحراسه من قتل بعضهم، ثم حمل جريحاً ومات في نفس اليوم، وتم قتل جميع من اشترك في الاغتيال فيما عدا واحداً منهم تمكن من الهرب إلى الشام.

وكان البرسقي قد رأى في منامه –في الليلة الفائتة- بأن مجموعة من الكلاب السوداء هاجمته، وقصّ رؤياه على أصحابه فأشاروا عليه بعدم الخروج من داره أياماً، ولكنه رفض اقتراحهم وقال: لا أترك صلاة الجمعة لشيء أبداً.. وكان من عادته أن يحضر صلاة الجمعة مع سائر الناس.

ويُلقي العماد الأصفهاني ضوءاً على الدوافع المباشرة لاغتيال البرسقي، إذ يشير إلى العداء المستحكم بينه وبين (الدركزيني) الباطني وزير السلطان السلجوقي محمد، الذي عمل جاهداً ليقنع السلطان بعزل خصمه فلم ينجح في مسعاه، فاتفق مع الباطنية على اغتياله. وموقف الدركزيني يقودنا إلى موقف الباطنية العام من زعماء المقاومة الإسلامية، هذا الموقف الذي تميّز بالعداء الجارف والرغبة في الانتقام، الأمر الذي كان له أسوأ الأثر على مجرى الصراع بين المسلمين والغزاة.[1]

ومن عجب –يقول المؤرخ ابن الأثير-: أن أمير أنطاكية الصليبي أرسل إلى عز الدين مسعود يخبره بقتل والده قبل أن يصل الخبر إليه شخصياً! وكان قد سمعه الفرنج قبله لشدة عنايته –أي أمير أنطاكية- بمعرفة الأحوال الإسلامية!

لكن ألا يلقي هذا النبأ ظلاً من شك حول إمكانية حدوث اتفاق مسبق بين الباطنية والصليبيين لاغتيال المجاهد المسلم، لا سيما وأن قتلته ربما كانوا –كما يذكر المؤرخ الحلبي ابن العديم- قوماً من أهل حماة القريبة من معاقل الصليبيين؟ كيفما كان الأمر، فإن مقتل البرسقي أصاب المسلمين عامة والموصل خاصة بخسارة فادحة حيث فقدوا باغتياله والياً من نوع ممتاز، فلا غرو أن يحزنوا عليه ويأسفوا لفقده ويستدعوا ابنه عز الدين مسعود ليحل محله.

وأغلب الظن أن البرسقي كان الوالي الوحيد للموصل، منذ بدء عهد الولاة عام 489 هـ وحتى تولي عماد الدين زنكي عام 521 هـ، الذي لم يطمح إلى مخالفة السلطان السلجوقي والاستقلال عن سلطته بحكم حبه له وإخلاصه لوحدة الدولة السلجوقية إزاء التفتّت والانقسام.

مجلة الأمة – العدد 16- ربيع الآخر 1402 هـ


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر »لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية« في هذا الموقع لتتعرف عن فرقة الحشاشين الباطنية

د.فالح العمره
15-04-2005, 10:59 PM
عين جالوت : الواقعة والمغزى

الإعصار

د. عماد الدين خليل


--------------------------------------------------------------------------------

في منتصف عام 758 هـ (1260 م) بعث هولاكو من الشام برسله يحملون رسالته المشهورة إلى سلطان مصر المملوكي: سيف الدين قطز..

كان هولاكو في قمة انتصاراته.. وكان المغول قد اكتسحوا القوى الإسلامية واحدة بعد الأخرى، وهدموا متاريسها وجدرانها، وسووا الطريق أمام جحافلهم المتقدمة غرباً.. ما من قيادة إسلامية، من أواسط آسيا وحتى أطراف سيناء، إلا وأذعنت لهم طوعاً أو كرهاً.. وكان السيف الوثني المغولي يعلو على السيوف، وكان الرأس الذي لا ينحني له يُطاح به في التوّ واللحظة.. وحتى أولئك الذين اختاروا السلامة ولووا رؤوسهم عجزاً عن المجابهة وهروباً من الموت.. وقعوا في مصيدة الموت التي كان المغول يتفننون في نصبها وفي تعذيب خصومهم وهم يتقلبون في شباكها.

والذي حدث في بغداد معروف.. ومعروف أيضاً المصير المفجع الذي آلت إليه أكبر قوتين إسلاميتين في المشرق: الخوارزميون في بلاد فارس وما وراء النهر، والعباسيون في العراق..

سنوات عديدة والمطاردات الرهيبة لا تفتر بين المغول وبين السلطان الخوارزمي الأخير جلال الدين منكبرتي.. وصراع الحياة والموت يعرض مشاهده الدامية في مساحات واسعة من الأرض، شهدت جهات ما وراء النهر وشمالي الهند وبحر قزوين وشمالي العراق والجزيرة الفراتية والأناضول بعضاً منها..

وعبثاً حاول السلطان أن يتصل بالأمراء المحليين من إخوانه المسلمين في سبيل تشكيل جبهة إسلامية موحدة لمقاومة السيل الزاحف، لأنه –هو- عبر سنوات حكمه الطويلة قد مارس خطيئة التمزيق والتفتيت وإشعال نار الخصومة والعداء بين القيادات الإسلامية بعضها ضد بعض.. وأخيراً استسلم لليأس وتخلف عنه كثير من أنصاره، ووجد نفسه في قلة من أصحابه وحيداً غريباً، مطارَداً في جبال ديار بكر.. ويذكر معاصروه كيف أن البكاء كان يغلب عليه في الليل والنهار، وكيف أنه هرب إلى الخمر يختبئ وراء غيبوبتها من شبح النهاية القريب.. وما لبث أحد سكان المنطقة أن طعنه بسكين وقضى عليه.

وأما العباسيون فأمرهم معروف.. وما شهدته بغداد حاضرة المسلمين الكبرى، غدا مثلاً يضرب على مداولة الأيام بين الناس.

ولكن ما شأن الإمارات المحلية؟

لم يكن مصيرها –بطبيعة الحال- بأحسن من مصير دول الإسلام الكبرى.. بعضها هادن ونافق ودعا إلى السلم وهو في مواقع الضعف والهوان، فلم ينجه ذلك من سيوف المغول، وبعضها الآخر وقف الوقفة التي تقتضيها كرامة المسلم ولقي من صنوف الأذى ما يشير إلى بشاعة الطرائق التي اعتمدها المغول لإلقاء الرعب في قلوب الخصوم..

قُتِلَ الكاملُ الأيوبي أميرُ ميافارقين في ديار بكر شرّ قتلة، إذ كان المغول يقطعون لحمه قطعاً ويدفعون بها إلى فمه حتى مات، ثم قطعوا رأسه وحملوه على رمح وطافوا به في بلاد الشام. وكان يتقدم الموكب مغنون وطبالون، وأخيراً علِّق في شبكة بسور أحد أبواب دمشق، ويقال أنه بقي هناك حتى تحرير المدينة من قبضة الغزاة.

ووضع الملك الصالح أمير الموصل في دهن ولباد وألقي في الشمس حتى تحول الدهن إلى ديدان بعد أسبوع، فشرعت الديدان تأكل جسده حتى مات على تلك الصورة البشعة بعد شهر.. أما ابنه الذي كان طفلاً في الثالثة من عمره فشقوه نصفين على ساحل نهر دجلة على مرأى من الناس.. وغير هؤلاء كثيرون لقوا مصارع لا تقل شناعة وبؤساً.. وما جرى في مدن الجزيرة الفراتية وشمالي الشام يعد واحداً مما شهدته الكثير من المدن والإمارات على مدى المشرق الإسلامي كله..

فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام؟
والمؤرخ ابن الأثير المتوفى عام 630 هـ، وهو يستعرض وقائع عام 617 هـ ويسطر بدايات خروج المغول على بلاد الإسلام، يتحدث عن الهول الذي ألمَّ بمعالم الإسلام، وقد كان في مطالعه يومها.. فماذا لو طال العمر بالمؤرخ المذكور وشهد أحداث العقود التالية.. ومآسيها؟

يقول الرجل: »لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدّم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فياليتَ أمي لم تلدني، وياليتني مت قبل حدوثها وكنتُ نسياً منسياً. إلا أني حدّثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً. فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، عمّت الخلائق وخصّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق اللهُ سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس.. وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قُتِلوا؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا.. إنهم لم يبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم«.

الانكسار من الداخل
كان الهجوم المغولي السريع الكاسح قد منح هؤلاء المغيرين سلاحاً نفسياً خطيراً: الرعب الذي كان ينقض على خصومهم من الداخل فيهزمهم قبل أن تلتمع السيوف أمام عيونهم.. إنه السيف الأكثر حدة والذي كان يذبح فيه القدرة على الحركة.. لقد كان المسلمون يومها يعانون من شلل تام أو نصفي أفقدهم الأرجل التي يسيرون عليها والأيدي التي يضربون بها.. وهذه الوقائع التي يرويها ابن الأثير تكاد تكون تجسيداً »كاريكاتيرياً« مضحكاً محزناً للأمر الذي آل إليه الكثيرون من أبناء عالم الإسلام.

يقول الرجل: »لقد حكي لي عن حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحدٍ لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس. ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض ومضى التتري فأحضر سيفاً وقتله به! وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف أمرهم. فقلت لهم: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا«!!

التحدي
في هذه الظروف السياسية والنفسية، ومن خلال وهج السيوف التي تقطر دماً وأصداء المعارك التي أثار نقعها سيل لا أول له ولا آخر من خيول الغزاة بعث هولاكو برسالته تلك إلى سلطان مصر المملوكي: سيف الدين قطز.. وكان الطاغية يعرف جيداً خلفية الرعب والانهزام التي رسمتها العقود الأخيرة على مدى خارطة عالم الإسلام وفي أعماق نفوس أبنائه، فعرف كيف ينتقي كلماتها.. قال: »مِن ملك الملوك شرقاً وغرباً، الخان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء.. يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته وأهل مملكته بالديار المصرية وما حولها ومن الأعمال، إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلّطنا على من حل به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتَبَر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ويعود عليكم الخطأ.. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب وعلينا الطلب. فأي أرض تأويكم؟ وأي طريق تنجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع.. فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم، فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم. فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر.. فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرب الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً ولا كافياً ولا حرزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذّرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم«.

فمن اختار الجهاد يصحبني!
كان الرسالة بمثابة التحدي النهائي لآخر قيادة إسلامية، وعلى ضوء الموقف الذي ستقرر هذه القيادة اتخاذه سيتوقف مصير عالم الإسلام وحضارته التي صنعها كدح القرون الطوال.

كل المؤشرات كانت تقود إلى الاستسلام للتحدي والإذعان لضروراته..

ولكن الإيمان له منطق آخر.. إنه لا يمنح القدرة على الحركة في ظروف الشلل التام فحسب، ولكنه يهب بصيرة نافذة تخترق حجب العمى والظلام لكي تطل على الأفق الذي يشع ضياء..

وبالحركة القديرة والرؤية الصائبة تجابه القيادات الفذة تحديات التاريخ ومحنه وويلاته فتخرج منها ظافرة وتحقق بالاستجابة قفزة نوعية في مجرى الفعل والتحقق.

قرأ سيف الدين قطز الرسالة واستدعى أمراءه ليعرض الأمر عليهم.. وجرى هذا الحوار.

قطز: ماذا ترتؤون؟

ناصر الدين قيمري: إن هولاكو، فضلاً عن أنه حفيد جنكيزخان، فإن شهرته وهيبته في غنى عن الشرح والبيان، وإن البلاد الممتدة من تخوم الصين إلى باب مصر كلها في قبضته الآن، فلو ذهبنا إليه نطلب الأمان فليس في ذلك عيب وعار! ولكن تناول السم بخداع النفس واستقبال الموت أمران بعيدان عن حكم العقل! إنه ليس الإنسان الذي يطمأن إليه، فهو لا يتورع عن احتزاز الرؤوس وهو لا يفي بعهده وميثاقه، فإنه قتل فجأة الخليفة وعدداً من الأمراء بعد أن أعطاهم العهد والميثاق، فإذا ما سرنا إليه فسيكون مصيرنا هذا السبيل!

قطز: والحالة هذه، فإن كافة بلاد ديار بكر وربيعة والشام ممتلئة بالمناحات والفجائع، وأضحت البلاد من بغداد حتى الروم خراباً يباباً، وقضي على جميع من فيها من حرث ونسل.. فلو أننا تقدمنا لقتالهم وقمنا بمقاومتهم فسوف تخرب مصر خراباً تاماً كغيرها من البلاد، وينبغي أن نختار مع هذه الجماعة التي تريد بلادنا واحداً من ثلاثة: الصلح أو القتال أو الجلاء عن الوطن. أما الجلاء عن الوطن فأمر متعذر، ذلك لأنه لا يمكن أن نجد لنا مفراً إلا المغرب، وبيننا وبينه مسافات بعيدة..

قيمري: وليس هناك مصلحة أيضاً في مصالحتهم إذ أنه لا يوثق بعهودهم!

عدد من الأمراء: ليس لنا طاقة ولا قدرة على مقاومتهم، فمر بما يقتضيه رأيك..

قطز: إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعاً إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلا فلن نكون ملومين أمام الخلق.

الظاهر بيبرس: أرى أن نقتل الرسل ونقصد كتبغا –قائد المغول- متضامنين، فإن انتصرنا أو هُزِمنا فسنكون في كلتا الحالتين معذورين.

أيد الأمراء كافة هذا الرأي.. وكان على قطز أن يتخذ قراره.. وقد اتخذه فعلاً.. قتل الرسل وعلق رؤوسهم على باب زويلة أياماً.. ورفع رأسه متحدياً بمواجهة الطاغية، وأصدر أوامر بالتجهز للقتال »جهاداً في سبيل الله ونصرة لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم«..

وإذ رأى تردداً وجبناً ونكوصاً من عدد من الأمراء ألقى كلمته المؤثرة: »يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين«..

وما كان للأمراء جميعاً، إزاء قيادة مؤمنة كهذه، إلا أن يخلعوا رداء العجز والوهن ومحبة الدنيا.. ويقفوا متحدين بمواجهة الفتنة التي إن لم تدفع بالدم فإنها لن تكتفي لضرب الذين ظلموا منهم خاصة!

اليوم الفصل
انطلقت القوات الإسلامية بقيادة سيف الدين قطز واجتازت سيناء باتجاه غزة سالكةً الطريق المحاذي للبحر، وتولى الظاهر بيبرس قيادة المقدمة. ولم يكن في غزة سوى قوة صغيرة من المغول بقيادة بايدر الذي أرسل إلى القائد المغولي كتبغا الذي أنابه هولاكو لإتمام الغزو غرباً، يخطره بحركة الجيش الإسلامي، غير أن المسلمين اكتسحوا عساكره قبل أن تصل إليه النجدة.

كان كتبغا في بعلبك، فتجهز علىالفور للمسير إلى وادي نهر الأردن بعد أن يتجاوز بحر الجليل، غير أن منعه اشتعال ثورة المسلمين في دمشق ضد السلطة المغولية وأنصارها من النصارى المحليين حيث حطمت دورهم وكنائسهم، واشتدت الحاجة إلى العساكر المغولية لإعادة الأمن إلى نصابه. وفي تلك الأثناء كان قطز يواصل السير على الساحل الفلسطيني ثم انعطف إلى الداخل ومضى شمالاً لتهديد مواصلات كتبغا إذا حدث وتقدم إلى فلسطين.

عبر كتبغا نهر الأردن وتوجه صوب الجليل الشرقي، فبادر قطز على الفور بالانعطاف بقواته باتجاه الجنوب الشرقي مجتازاً الناصرة حيث وصل في الرابع عشر من رمضان (المصادف الثاني من أيلول عام 1260م) إلى عين جالوت. وفي صبيحة اليوم التالي قدم الجيش المغولي تعززه كتائب كرجية وأرمنية، دون أن يعلم أن جيش المماليك أضحى قريباً منه. وكان قطز يعرف جيداً تفوق جيشه في العدد على العدو ولذا أخفى قواته الرئيسية في التلال القريبة ولم يعرض للعدو إلا المقدمة التي قادها بيبرس. وما لبث كتبغا أن وقع في الفخ إذ حمل بكل رجاله على القوات الإسلامية التي شهدها أمامه، فأسرع بيبرس في تقهقره إلى التلال بعد أن اشتدت مطاردة كتبغا له، فلم يلبث الجيش المغولي بأسره أن جرى تطويقه فجأة، وجرت بين الطرفين معركة طاحنة، واضطربت قوات المماليك بعض الوقت، فدخل قطز المعركة لجمعهم، ولم تنقضِ سوى بضع ساعات حتى بدأ تفوق المسلمين في الميدان، وسحقت زهرة القوات المغولية ووقع قائدهم نفسه أسيراً. وبأسره انتهت المعركة، إذ جرى حمله مقيداً بالأغلال إلى السلطان حيث احتزّ رأسه!

توجه السلطان قطز إلى دمشق بعد أيام قلائل من المعركة حيث استقبل استقبال الأبطال وهرب نواب المغول منها بعد أكثر من سبعة أشهر من خضوعها لسيطرتهم، وقام قائده الظاهر بيبرس بملاحقة فلول العدو شمالاً وتطهير البلاد منهم، حيث قتل وأسر عدداً كبيراً، وتمكن خلال شهر واحد من دخول حلب، المعقل الشمالي، وتخليصه من قبضة الغزاة. وهكذا تم تحرير بلاد الشام وفلسطين من أقصاها إلى أقصاها. ومع أن هولاكو أرسل العساكر لاسترداد حلب فإنهم اضطروا للانسحاب بعد أربعين يوماً أجروا أثناءها المذابح في عدد كبير من المسلمين انتقاماً لمصرع كتبغا، غير أن ذلك كان كل ما استطاع هولاكو أن يفعله للانتقام لقائده الشهير.

لقطات من المعركة
· تقدم الملك المظفر إلى سائر الولاة بإزعاج الأجناد في الخروج للسفر ومن وجد منهم قد اختفى يضرب بالمقارع! فلما كان الليل ركب السلطان وحرك أعلامه وقال: أنا ألقى التتار بنفسي. فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره!

· أقسم المظفر لقادة الصليبيين في فلسطين أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتر!

· أمر الملك المظفر بالأمراء فجمِعوا، وحضهم على قتال التتار وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وخوّفهم من وقوع مثل ذلك، وحثّهم على استنقاذ الشام من التتر ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذّرهم عقوبة الله، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد.

· عندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتقض طرف منه فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته: »واإسلاماه!« وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيّده الله بنصره..

· مرّ العسكر في أثر التتر إلى قرب بيسان فرجع التتر والتقوا بالمسلمين لقاء ثانياً أعظم من الأول فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً فصرخ السلطان صرخة عظيمة سمعه معظم المعسكر وهو يقول: »واإسلاماه!« ثلاث مرات: »يا الله انصر عبدك قطز على التتار!« فلما انكسر التتار الكسرة الثانية نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى ثم ركب، فأقبل العساكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم!

· كتب السلطان إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله وخذلانه التتر، وهو أول كتاب ورد منه إلى دمشق. فلما ورد الكتاب سرّ الناس به سروراً كثيراً وبادروا إلى دور النصارى الذي كانوا من أعوان التتار فنهبوها وخربوا ما قدروا على تخريبه، وقتلوا عدة من النصارى واستتر باقيهم، وذلك أنهم في مدة استيلاء التتر هموا مراراً بالثورة على المسلمين وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم، وأعلنوا بضرب الناقوس وركبوا بالصليب وشربوا الخمر في الطرقات ورشّوه على المسلمين!

· لما بلغ هولاكو كسرة عسكرة وقتل نائبه كتبغا، عظم عليه فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك..

· .. وأتم الملك المظفر السير بالعسكر حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر إلى الشام. وفي يوم دخوله إلى دمشق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر فشنقوا.. وأنشد بعض الشعراء:

واستجدّ الإسلامُ بعد دحوضِهِ
هلك الكفرُ في الشآم جميعاً

رع سيف الإسلامِ عند نهوضِهِ
بالمليك المظفر الملك الأو

فاعتززنا بسحره وببيضهِ
ملك جاءنا بعزم وحزم

دائما ً مثل واجبات فروضِهِ
أوجب الله شكر ذاك علينا


الأرقام التي يريدها الله ورسوله
فليس من المبالغة القول بأن عين جالوت شهدت معركة حاسمة على المستويات العسكرية والسياسية والعقيدية والحضارية عموماً..

ها هنا، في قلب فلسطين، وبعد ما يقرب من مضي قرن على معركة حطين الفاصلة، أجرى التاريخ نزالاً لا يقل حسماً بين قوتين متقابلتين: الإسلام والوثنية، التحضر والجاهلية، والالتزام بالقيم والانفلات منها.. وكان انتصار المسلمين يعني انتصار على الوثنية، والتحضر على الجاهلية، والقيم على الانفلات..

ومؤشرات الثقة بالنفس والإيمان بالنصر والقدرة على تجاوز الهزائم والنكسات والتي كادت تصل بالمسلمين إلى نقطة الصفر.. جاءت هذه المعركة المباركة لكي ترتفع بها ثانية صوب الأرقام التي تليق بمكانة المسلمين في العالم.

وها هنا –أيضاً- نشهد المعادلة الواضحة التي لا تمنح جوابها العادل إلا إذا تجمع طرفاها في تكافؤ متقابل: الأخذ بالأسباب، والإيمان الواثق العميق بالله وبعدالة القضية التي يجاهد المسلمون من أجلها.. وبدون تحقق هذا التقابل فلن يكون هناك نصر أو توفيق.. ولن يحتاج الأمر إلى مزيد شواهد أو نقاش، فإن مجرى التاريخ الإسلامي الطويل يعرض علينا عشرات بل مئات وألوفاً من الشواهد علىهذا الذي تعرضه علينا واقعة عين جالوت..

وهذه شهادة المؤرخ الإنجليزي المعاصر ستيفن رنسيمان في كتابه الحروب الصليبية يقول: »تعتبر معركة عين جالوت من أهم المعارك الحاسمة في التاريخ.. ومن المحقق لو أن المغول عجلوا بإرسال جيش كبير عقب وقوع الكارثة لتيسر تعويض الهزيمة، غير أن أحكام التاريخ حالت دون نقض ما اتخذ في عين جالوت من قرار. فما أحرزه المماليك من انتصار أنقذ الإسلام من أخطر تهديد تعرض له. فلو أن المغول توغلوا إلى داخل مصر لما بقي للمسلمين في العالم دولة كبيرة شرقي بلاد المغرب، ومع أن المسلمين في آسيا كانوا من وفرة العدد ما يمنع من استئصال شأفتهم، فإنهم لم يعودوا يؤلفون العنصر الحاكم. ولو انتصر كتبغا النصراني، لازداد عطف المغول على النصارى ولأصبح للنصارى السلطة لأول مرة منذ سيادة النحل الكبيرة في العصر السابق على الإسلام. على أنه من العبث أن نفكر في الأمور التي قد تحدث وقتئذ، فليس للمؤرخ إلا أن يروي ما حدث فعلاً إذ أن معركة عين جالوت جعلت سلطة المماليك بمصر القوة الأساسية في الشرق الأدنى في القرنين التاليين، إلى أن قامت الدولة العثمانية.. فما حدث من ازدياد قوة العنصر الإسلامي وإضعاف العنصر النصراني لم يلبث أن أغوى المغول الذين بقوا في غرب آسيا على اعتناق الإسلام. وعجلت هذه المعركة بزوال الإمارات الصليبية، لأن المسلمين المظفرين، حسبما تنبأ مقدم طائفة فرسان التيوتون، أضحوا حريصين على أن يتخلصوا نهائياً من أعداء الدين«.

ولم يشأ رنسيمان أن يشير إلى أن انتماء مغول غربي آسيا إلى الإسلام لم يكن بسبب وجودهم في قلب أكثرية إسلامية فحسب، بل وهذا هو الأهم، لما يمتلكه الإسلام نفسه من قدرة ذاتية على الجذب والتأثير، وفاعلية دائمة في التغلب على العناصر المناوئة الغريبة واحتوائها.

ومهما يكن من أمر فإن المعركة الفاصلة حققت وحدة بين مصر والشام كانت ذات قيمة استراتيجية كبيرة في صراع الإسلام ضد خصومه التاريخيين.. إذ أصبحت الدرع الذي يقي المسلمين هجمات المغول الشرسة، ويمكن –في الوقت نفسه- من مجابهة التحدي الصليبي ومحاولة استئصال وجوده من الأرض الإسلامية.

وليس ثمة غير الوحدة من طريق
إنها الوحدة نفسها التي سهر عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود على إقامتها، وجاء الناصر صلاح الدين من بعدهما لكي يبني عليها انتصاراته الحاسمة ضد الصليبيين الغزاة ويحرر القدس.. وها هي معركة عين جالوت تشد الآصرة مرة أخرى وتمنح المسلمين الأرضية التي سيتحركون عليها عبر العقود القادمة لمجابهة الخصوم ودفعهم إلى إحدى اثنتين: الاذعان لكلمة الإسلام أو العودة من حيث جاؤوا.. لقد ملأت المعركة الفراغ المخيف الذي كان يمكن أن يتمخض عن سقوط الخلافة العباسية وتفتت السلاجقة من قبل، فأتاحت للقيادة المملوكية الشابة أن تعوض عالم الإسلام عما فقدَ هناك..

.. وهناك البعد الحضاري
وثمة من يقول بأن المعركة خدمت أوربا نفسها وحفظت مدنيتها، كما يرى بروان وغيره، وهذا حق.. فإن المغول كانوا يطمحون لغزوها وتخريبها، ولكن تقليم أظافرهم في عين جالوت فضلاً عن عوامل أخرى صدّهم عن المضي في الطريق إلى نهايته.

هذا إلى أن المعركة حققت للحركة الحضارية الإسلامية القدرة على مواصلة المسير، وعلى أن تتجاوز محنة الدمار والتخريب الذي شهدته بغداد.. فها هي ذي في مصر والشام والمغرب تنجز المزيد من العطاء وتتحقق بالإبداع في جوانب عديدة وساحات شتى.. وليس كما يقال من أن عالم الإسلام دخل عصر الظلمة بعد سقوط بغداد.. وليس ابن خلدون وابن كثير وابن تيمية وأبو الفدا والسيوطي والسخاوي وابن القيم والجزري.. وغيرهم كثيرون، سوى إشارات على طريق هذا التحقق المبدع الذي شهدته حضارة الإسلام يومَها..

آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ
لقد شهد تاريخ الإسلام سلسلة متطاولة من المعارك الفاصلة، منذ وقعة بدر التي فرق الله بها بين الحق والباطل، ومكّن لدعوته الناشئة في الأرض.. وإلى أن يشاء الله.. ولكن يبقى لمعركة عين جالوت ثقلها وأهميتها وخصوصيتها.. ذلك أنها جاءت وظلام الإعصار الوثني المتحالف مع الصليبية يكاد يطبق على نور التوحيد ويطمس على ألقه.. فردّت علىالقوة بالقوة، وقارعت سيف الشيطان بسيف الله، وعلمت الناس عموماً والناس خاصة، بالانتصار الباهر الذي حققته، كيف يكون الإيمان الجاد المعزز بالرؤية الواعية والتخطيط المدروس، قديراً على تحقيق المعجزات..

واليوم وقوى الضلال، المادية والصهيونية والاستعمارية الجديدة، تتجمع مرة أخرى في محاولة شرسة للاطباق على الإسلام عقيدة وشريعة وأمة وحضارة ودولاً..

فإن لم نتعلم من (عين جالوت) سوى حقيقة أنه بالإيمان والثقة والعزم والتصميم، يمكن أن نجابه المحنة ونتفوق عليها.. فكفى بذلك من كسب تمنحنا إياه مطالعاتنا الجادة في التاريخ.. وإنه قد آن الأوان لكي نتعلم من التاريخ..

مجلة الأمة، العدد التاسع، رمضان 1401 هـ

د.فالح العمره
15-04-2005, 11:02 PM
الزَّلاَّقة
معركة كسبها الإيمان وضيَّع ثمارها الخلاف
بقلم الدكتور: محمد عبد الحميد عيسى

--------------------------------------------------------------------------------

التاريخ ذاكرة الشعوب، وحاستها المنبهة، ومن ثَمَّ فهو أهم عوامل تحريك هذه الشعوب نحو غاياتها، والادراك الواعي بالتاريخ ليس عملية سهلة أو بسيطة، لكنه أقسى من آلام الميلاد نفسها إن لم يشكل هذا الادراك وهذا الوعي جديداً بكل ما يصاحبه من آلام ومن تمخضات.

وربما كان هذا هو السبب في سعي القوى الاستعمارية والعدائية عامة إلى التعتيم على تاريخ الأمة العربية الإسلامية، وإلى العمل على طمس هذا التاريخ وتزييفه، وليست غريبة تلك الأصوات الناعقة بقطع صلتنا بالماضي، بل ووصول بعضها إلى القول بإلقاء تراثنا في البحر ثم تمضي بعد ذلك.

أقول: إن هذه الأصواب –بنيّة أو بغير نية- إنما تخدم مصالح أعداء هذه الأمة حين توصي بإهمالها لتراثها، ومن ثم لتاريخها.

وأهمية التاريخ الحقيقية تكمن في دراسته واستيعابه لكي نتمكن، على ضور الإفادة من تجاربه من تصحيح الحاضر، والاستعداد للمستقبل.

ومعركة الزلاقة التي وقعت في شهر رجب من عام 479هـ الموافق أكتوبر من عام 1086م هي درس التاريخ الذي لا يُنسى، وإنما يدق بقوة على أفئدة وعقول أمتنا العربية الإسلامية لكي ينبهها إلى أن النصر والغلبة ليسا بحاجة إلى كثرة العدد والعدة فحسب، وإنما يجب أن يسبقهما الإيمانُ الكامل بالمبدأ، والاستعداد للتضحية من أجله، ومن ثَمَّ إذا ما توافر عنصر الإيمان واليقين والأخذ بالأسباب، فإن نصر الله قادم لا محالة.. بل هو رهن المؤمنين، فهو القائل عز وجل: )وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين(.

ولنستعرض معاً أيها القارئ الكريم قصةَ تلك المعركة وظروفها وتطوراتها والنتائج المترتبة عليها..

أحوال المسلمين قبل الزلاقة

شهد القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، قمة التقدم الحضاري والسياسي في بلاد الأندلس، وأضحت قرطبة عروس الغرب، وحكامها خلفاء بني أمية يتمتعون بمكانة عالية، سياسياً وعسكرياً وحضارياً، ولم يدر بخلد أحد أن هذا الصراع الذي تسامى عالياً على عهد المنصور بن أبي عامر كان يحمل في طياته عوامل هدمه وفنائه، فما أن مات المنصور، ومن بعده ابنه عبد الملك، حتى ثار القرطبيون على عبد الرحمن بن المنصور، وبدأت سلسلة من الأحداث الدامية أدَّت في النهاية إلى تمزق هذه الدولة تمزقاً يؤلم الصدور، وقامت في جوانبها خلافات وممالك وسلطنات لا حول لها ولا قوة، بل إن قواها قد وجهت ضد بعضها بعضاً حتى أنهكت القوى واضمحلت الأندلس كما يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان: »الصرح الشامخ، الذي انهارت أسسه وتصدع بنيانه، وقد انتقضت أطرافها، وتناثرت أشلاؤها، وتعددت الرياسات في أنحائها، لا تربطها رابطة، ولا تجمع كلمتها مصلحة مشتركة، لكن تفرق بينها، بل على العكس منافسات وأطماع شخصية وضيعة، وحروب أهلية صغيرة تضطرم بينها«.

وفي كل ناحية من نواحي الأندلس، قامت دويلة أو مملكة هشة، اتخذ أصحابها ألقاب الخلافة ورسوم الممالك، دون أن يكون لهم من ذلك حقيقته أو معناه، وقال الشاعر واصفاً هذه الحالة المؤسفة:

أسماء معتضد فيها ومعتمدِ
مما يزهدني في أرض أندلس
كالهرِّ يحكي انتفاخاً صورة الأسدِ
ألقابُ مملكة في غير موضعها


وكان تمزق الأندلس على هذا الشكل المأساوي ضرب لكيان الدولة الإسلامية لم تفق منها أبداً، بل إنها كانت البداية الحقيقية لانحلال الدولة الإسلامية رغم ما انتابها في بعض الأحيان من صحوات ويقظة مدت في عمرها هنا مئات الأعوام.

واكب هذا الضعف الأندلسي تولي الملك ألفونسو السادس عرش قشتالة، الذي عمل جهده للاستفادة من هذا التدهور الذي أحاط بالدولة الإسلامية هناك، فبدأ باستغلال الصراع الدائر بين هذه الممالك، وأخذ يضرب بعضها ببعض، ويفرض عليها الأتاوات والغرامات حتى يستنفد طاقتها، ومن ثم تسقط في يده كالثمرة الناضجة.

سقوط طليلطة

مدينة طليطلة، من أهم المدن الأندلسية، تتوسط شبه الجزيرة تقريباً، وكانت عاصمة القوط قبل الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة، ومن هنا كانت أهميتها البالغة، وبالتالي أصبحت مطمعاً لآمال ألفونسو السادس، وخاصة أن حال المدينة كانت سيئة جداً على عهد ملوكها من الطوائف.. وهم أسرة ذي النون.

دبر ألفونسو خطته لغزو المدينة، وأرهب ملوك الطوائف الآخرين وتوعدهم إن قاموا بإنجادها، وحاصرها حتى اضطرها إلى التسليم، ومما يؤسف له وجود قوات ابن عباد ملك أشبيلية ضمن قوات الملك الإسباني، وضد المدينة التي حاولت الصمود أمام مصيرها المؤلم في خريف سنة 477 هـ/1085م.

وسقطت طليطلة بأيدي ألفونسو السادس، ونقل إليها عاصمة ملكه واستتبع سقوطها استيلاءُ الإسبان على سائر أراضي مملكة طليطلة، واستشعر الشاعر فداحة المأساة فهتف يقول:

فما البقاء بها إلا من الغلط
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس
ثوبَ الجزيرةِ منسلاً من الوسطِ
الثوب ينسل من أطرافه وأرى

كيف الحياة مع الحيَّاتِ في سفطِ
مَن جاورَ الشَّرَّ لا يأمنُ عواقبَه


لقد كان أسوأ ما في مأساة طليطلة أن ملوك الطوائف المسلمين لم يهبوا لنجدتها أو مساعدتها، بل على العكس، لقد وقفوا موقفاً مخزياً، فاغرين أفواههم جبناً وغفلة وتفاهةً. بل إن عدداً منهم كان ترتمي على أعتاب ألفونسو السادس، طالباً عونه، أو عارضاً له الخضوع.. حتى قيل فيهم:

دوائرُ السوءِ لا تُبقي ولا تذر[1]
أرى الملوكَ أصابتهم بأندلس

وأطمع ذلك الملك ألفونسو السادس بباقي ممالك الطوائف، وانتشت أحلامه بالقضاء عليها الواحدة بعد الأخرى، وتجبر عليهم، وعلا وطغى.. فقام بنقض عهوده التي كان قد قطعها لأهل طليطلة، وحول مسجد طليطلة إلى كنيسة بقوة السلاح، وحطم المحراب ليقام الهيكل مكانه، ويقول ابن بسام في »الذخيرة«:

»وعتا الطاغية أوفونش –ألفونسو- قصمه الله، لحين استقراره بطليطلة واستكبر وأخلّ بملوك الطوائف بالجزيرة وقصر، وأخذ يتجنى ويتعتب، وطفق يتشوق إلى انتزاع سلطانهم والفراغ من شأنهم ويتسبب، ورأى أنهم قد وقفوا دون مداه، ودخلوا بأجمعهم تحت عصاه«.

وبدأ ألفونسو في تنفيذ خططه بالإيغال في إذلال الطوائف، وخاصة المعتمد بن عباد أكبر ملوك الطوائف وأشدهم بأساً، حيث أراد أن يمعن في إذلاله كأقوى أمراء الطوائف، فأرسل إليه رسالة يطلب فيها السماح لزوجته بالوضع في جامع قرطبة وفق تعليمات القسيسين، وقد أثارت هذه الرسالة ابن عباد حتى قيل: إنه قد قتل رسل الملك القشتالي وصلبهم على جدران قرطبة، مما أثار غضب ألفونسو السادس وصمم على الانتقام، وبدأت جيوشه في انتساف الأرض في بسائط إشبيلية وفي الأراضي الإسلامية.

الاستنجاد بالمرابطين

تعالت الأصوات في الأندلس تطالب بالارتفاع فوق الخلافات الشخصية، وتناسي المصالح الذاتية، والاستنجاد بالمرابطين الذين نمت قوتهم في ذلك الوقت على الضفة الأخرى من البحر المتوسط.

قام أبو الوليد الباجي وغيره من فقهاء الأندلس بالدعوة إلى التوحد، وضرورة الاستعانة بإخوة الإسلام الأفارقة من المرابطين، ولقيت الدعوة صدى عند أمراء الأندلس بسبب ازدياد عنف ألفونسو، ورغم كل التحذيرات التي وجهت إلى المعتمد بن عباد، وتخويفه من طمع المرابطين في بلاد الأندلس، إلا أن النخوة الإسلامية قد استيقظت في نفسه، فأصر على الاستنجاد بالمرابطين، وقال قولته التي سارت مثلاً في التاريخ: »لأن أكون راعي جمال في صحراء أفريقية خير من أن أكون راعي خنازير في بيداء قشتالة«.

وتقول بعض الروايات أن ألفونسو قد وصل في بعض حملاته إلى الضفة الأخرى من الوادي الكبير لأشبيلية. وأرسل رسالة سخرية إلى المعتمد بن عباد يقول فيها: »لقد ألمّ بي ذبابكم بعد أن طال مقامي قبالتكم، واشتد الحر، فهلا أتحفتني من قصرك بمروحة أروح بها عن نفسي وأبعد الذباب عن وجهي؟« وردّ ابن عباد على الرسالة بقوله: »قرأتُ كتابك، وأدركت خيلاءك وإعجابك، وسأبعث إليك بمراوح من الجلود المطلية، تريح منك لا تروح عليك«. ويقال إنه كان يقصد بذلك الجيوش المرابطية، ودعوتها إلى الأندلس.

عبور المرابطين

بدأت الجيوش المرابطية العبور من سبتة إلى الجزيرة الخضراء، ثم عبر أميرهم يوسف بن تاشفين في يوم الخميس منتصف ربيع الأول 479هـ/.3 يونية 1086م، ثم تحركت العساكر إلى أشبيبلة، وعلى رأسهم ابن تاشفين، ونزل بظاهرها، وخرج المعتمد وجماعته من الفرسان لتلقيه، وتعانقا، ودعوَا اللهَ أن يجعل جهادهما خالصاً لوجهه الكريم.

استقر الجيش أياماً في أشبيبلة للراحة، ثم اتجه إلى بطليوس في الوقت الذي تقاطرت فيه ملوك الطوائف بقواتهم وجيوشهم.

سار هذا الموكب من الجيش الإسلامي إلى موضع سهل من عمل بطليوس وأحوازها، ويسمى في المصادر الإسلامية بالزلاقة على مقربة من بطليوس.

معركة الزلاقة

لم تكن أعين الملك القشتالي غافلة عن تحرك الجيوش الإسلامية، ولذلك رفع حصاره عن مدينة سرقسطة الإسلامية، وكاتبَ أمراء النصرانية في باقي أنحاء إسبانيا وجنوبي فرنسا يدعوهم لمساعدته، وقدم إلى أحواز بطليوس في جيش كثيف، يقال بأنه حين نظر إليه همس: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء.

اختلفت الآراء حول عدد الجيشين، لكنها اتفقت جميعها على تفوق ألفونسو السادس في عدد جيشه وعدته، وكانت كل الظروف في صالحه.

جرت الاستعدادات في المعسكرين بكل أشكالها، وبالبحث على الحرب والصبر فيها، وقام الأساقفة والرهبان بدورهم، كما بذل الفقهاء والعباد كل جهودهم.

حاول ألفونسو خديعة المسلمين، فكتب إليهم يوم الخميس يخبرهم أن تكون المعركة يوم الإثنين، لأن الجمعة هو يوم المسلمين، والسبت هو يوم اليهود، والأحد يوم النصارى.

أدرك ابن عباد أن ذلك خدعة، وفعلاً جاءت الأخبار بالاستعداد الجاري في معسكر النصارى، فاتخذ المسلمون الحذر، وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس بجميع المحلات، خائفين من كيد العدو. وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد بن رميلة القرطبي، وكان في محلة ابن عباد، فرحاً مسروراً، يقول: إنه رأى النبيَّ [صلى الله عليه وسلم]، فبشره بالفتح والشهادة له في صبيحة غد، وتأهب ودعا، ودهن رأسه وتطيَّب.

فلما كان صباح الجمعة الثاني عشر من رجب سنة 479 هـ زحف ألفونسو بجيشه علىالمسلمين، ودارت معركة حامية، ازداد وطيسُها، وتحمَّل جنودُ الأندلس [من المسلمين] الصدمة الأولى، وأظهر ابنُ عباد بطولة رائعة، وجرح في المعركة، واختل جيش المسلمين، واهتزّت صفوفه، وكادت تحيق به الهزيمة، وعندئذ دفع ابن تاشفين بجيوشه إلى أتون المعركة، ثم حمل بنفسه بالقوة الاحتياطية إلى المعسكر القشتالي فهاجمه بشدة، ثم اتجه صوبَ مؤخرته فأثخن فيه وأشعل النار، وهو على فرسه يرغب في الاستشهاد، وقرْعُ الطبول يدوي في الآفاق، قاتل المرابطون في صفوف متراصة ثابتة، مثل بقية أجنحة المعركة.

ما أن حل الغروب حتى اضطر الملك القشتالي، وقد أصيب في المعركة، إلى الانسحاب حفاظاً على حياته وحياة من بقي من جنده، وطُورِدَ الفارُّون في كل مكان حتى دخل الظلام، فأمر ابنُ تاشفين بالكفِّ. استمرت المعركة يوماً واحداً لا غير – وقد حطم اللهُ شوكة العدو الكافر، ونصرَ المسلمين، وأجزل لديهم نعمه، وأظهر بهم عنايته، وأجمل لديهم صنعه.

وتجمِع المصادر الإسبانية على أن الملك القشتالي ألفونسو السادس قد نجا بأعجوبة في حوالي خمسمائة فارس فحسب، من مجموع جيوشه الجرارة التي كان سيهزم بها الجن والإنس والملائكة.

سَرَتْ أنباء النصر المبين إلى جميع أنحاء الأندلس والمغرب، وسرى البشرُ بين الناس، وأصبح هذا اليوم مشهوداً من أيام الإسلام، لا على أرض شبه الجزيرة فحسب، وإنما على امتداد الأرض الإسلامية كلها، ونجح ذلك اليوم في أن يمدّ في عمر الإسلام والمسلمين على الأرض الإسبانية ما يقرب من أربعة قرون من الزمان.

نصر مبين.. ونتائج أقل..

يعلق يوسف أشباخ في كتابه: »تاريخ الأندلس على عهد المرابطين والموحدين« على موقعة الزلاقة بقوله:

إن يوسف بن تاشفين لو أراد استغلال انتصاره في موقعة الزلاقة، لربما كانت أوروبا الآن تدين بالإسلام، ولَدُرِّس القرآن في جامعات موسكو، وبرلين، ولندن، وباريس.

والحقيقة أن المؤرخين جميعاً يقفون حيارى أمام هذا الحدث التاريخي الهائل الذي وقع في سهل الزلاقة، ولم يتطور إلى أن تتقدم الجيوش الإسلامية لاسترداد طليطلة من أيدي النصاري، خاصة وأن الملك الإسباني كان قد فقد زهرة جيشه في هذه المعركة، ولا يختلف أحد في الرأي بأن الطريق كان مفتوحاً تماماً وممهداً لكي يقوم المرابطون والأندلسيون بهذه الخطوة.

إن ما حدث فعلاً هو عودة المرابطين إلى إفريقية، وعودة أمراء الأندلس إلى الصراع فيما بينهم، وكأن شيئاً لم يقع، وقد أعطى ذلك الفرصة مرة ثانية للملك ألفونسو السادس أن يستجمع قواه، ويضمد جراحه، ويعمل على الانتقام من الأندلسيين، وكان حقده شديداً على المعتمد ابن عباد، فعاد إلى مهاجمة بلاده، وركز غاراته على أشبيلية، وتمكم من الاستيلاء على حصن لبيط مما اضطر ابن عباد إلى العودة مرة ثانية إلى الاستنجاد بالمرابطين.

وذهب المرابطون للمرة الثانية إلى الأندلس، لكنهم في هذه المرة لم يجدوا مساعدة من معظم أمراء الطوائف المسلمين، حيث تغلبت عليهم شهواتهم وأهواؤهم الشخصية، وخلافاتهم الضيقة، مما اضطر أمير المسلمين أن يستفتي الفقهاء في خلعهم، وضم بلاد الأندلس إلى طاعة المرابطين، والعودة مرة ثالثة إلى الجهاد ضد الإسبان.

دروس مستفادة
ليس من نافلة القول بأن الانقسام ضعف والوحدة قوة، فممالك الطوائف في الأندلس شربت المرارة والمذلة في تفرقها، وأحست بالعزة والنصر في اتحادها.

ليس بالعدد والعدة فقد تكتسب المعارك، وإنما بالإيمان بالهدف والاعداد له، والتنبه للخصم، والارتفاع إلى مستوى الأحداث.

قد يكون إحراز النصر شاقاً ومضنياً، لكن الأكثر عسراً وإجهاداً هو استغلال هذا النصر، وتطويعه لصالح الإسلامي والمسلمين.

وهذا هو درس التاريخ.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] ألا تذكرك هذه المواقف بحاضرنا هذه الأيام.. رمضان (1422هـ/2001م)؟

د.فالح العمره
15-04-2005, 11:04 PM
مجابهة الأفغان في القرن التاسع عشر


--------------------------------------------------------------------------------

في هذا المقال يقوم بروس كولينز Bruce Collins بدراسة الصفات المميزة للنشاط البريطاني في أفغانستان إبان حكم الملكة فيكتوريا، وهذه الصفات هي: روح المغامرة، وإنزال الكارثة بالشعب الأفغاني، والانتقام المميت.


--------------------------------------------------------------------------------

إن أحد الأفكار التاريخية السائدة من القرن التاسع عشر هو السلام البريطاني. فقد ساد السلام الطويل الأمد الذي امتد من عام 1815 إلى عام 1914 – مع توقف هذا السلام مرة واحدة خلال اندلاع حرب كريمان في أواسط عام 1850- روح أواصر العلاقات البريطانية مع قوى البلدان الأوروبية الرئيسية. أما بالنسبة للبلاد غير الأوروبية فقد شهدت في تلك الفترة سلسلة تدخلات بريطانية عسكرية وبحرية لايمكن الصفح عنها، اذ امتدت إلى كل جزء من أجزاء العالم. وقد أكد الجنرالات البريطانيون وقادة البحرية أن هذه التدخلات كانت ناجحة في معظم أرجاء العالم، أو على الأقل كان يبدو عليها سمة الانتصار. كانت الخبرة العسكرية البريطانية لها طابع خاص. اذ تتطلب التدخل الأول الذي حدث بدءا من عام 1838 إلى 1842 إظهار درجة عالية من الكفاءة لإدارة هذا التدخل ومن أجل إحراز النجاح الباهر، في حين أثبت التدخل الذي حدث منذ عام 1878 إلى عام 1881 أنه مكلف، على الرغم من إنجازه للهدف المنشود في نهاية الأمر. وفي كلتا المناسبتين تم الثأر للهزائم العسكرية التي حدثت، إلا أن إدارة السياسة في أفغانستان بقيت صعبة للغاية.

في عام 1837، قدم رئيس أركان الجيش البنغالي السير هنري فين Henry Fane تحليلاً رسميا مفاده أن الحدود الغربية والشمالية الغربية للهند البريطانية كانت آمنة بشكل تام ، وتغطي الصحراء الهندية الكبرى أو صحراء الثار جزءً منها ابتداء من البحر إلى فيروزبور Firuzpur على نهر سوتليج Sutlej. وتقف جبال الهيمالايا التي لايمكن اختراقها في نهاية الطرف الآخر. أما الجهة الوحيدة المكشوفة لتلك الجبال فهي تمتد على مسافة 120 ميلاً ابتداء من فيروزبور وحتى أعالي نهر سوتليج.

وعلى الرغم من صعوبة انقضاء عقد من القرن التاسع عشر دون حدوث بعض الحملات على الحدود التي كان لها تأثير على الجهات المتاخمة للهند البريطانية، إلا أن حاميات الحدود المنيعة قد ضمنت الأمان لهذه الحدود وأدت إلى تحسين قنوات الاتصال للقواعد الرئيسية للهند البريطانية وعملت على إقامة علاقة ودية مع البنجاب عبر نهر سوتليج، إلا أن هذا الانطباع قد تلاشى في غضون سنة.

لقد نشأ التدخل البريطاني في أفغانستان من جراء المخاوف البريطانية المتزايدة من الأطماع الروسية في آسيا الوسطى، فقد قامت روسيا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالتوسع السريع لإمبراطوريتها في آسيا الوسطى، وبحلول عام 1830 قامت روسيا بالاستيلاء على أورال سك و تورغي وأجزاء من أكمولنسك. وقبيل حلول عام 1878 تجاوز الروس في استيلائهم على الأراضي ووصلوا إلى جنوب تركستان حيث استولوا على سمرقند وبخارى وسيميرشي. لقد كان تهديد النفوذ الروسي في آسيا الوسطى وما يمكن أن يكون له من تأثير على الرأي السياسي الهندي من ضمن المخاوف البريطانية الرئيسية. إذ قامت بريطانيا بإحكام إغلاق الهند بشكل فعال لمنع أي تغلغل بحري من قبل الخصوم الأجانب، ولكن هل من الممكن أن تكون الحدود الشمالية الغربية عرضة لأحداث من المحتمل أن تشجع الأمراء الهنود على تحدي الحكم البريطاني؟ أدرك معظم صناع السياسة أنه مهما أنجز خلال التطورات التجارية والتأسيسية، ومن خلال التحسينات الإنسانية والتعليمية والدينية، أن الحكم البريطاني اعتمد بصورة كلية على القوة العسكرية. لقد تنامى الاستياء إزاء الحكم البريطاني تحت حكم الراجا. وقررت الحكومة في الهند أن بذل روسيا لأي جهد سياسي في أفغانستان يشكل تهديدا غير مباشر حيال وحدة الدولة الإنجليزية-الهندية.

لقد تطلبت عملية إذعان الحكام الهنود للحكم البريطاني-ابتداء من أواخر القرن الثامن عشر وما بعده- وكذلك تحويلهم إلى رعايا أرستقراطيين،تطلب اللجوء إلى عمليتي القسر وشن الحرب للقيام بذلك. وعلاوة على هذا، يعتقد البريطانيون أنهم يمكنهم – وبشكل متكرر- إعادة تعيين الحكام الآسيويين بكل سهولة. فقد حاولوا التدخل بالشؤون الأفغانية وهم يجهلون تجاهلا نسبيا أحوال الأفغان. وقد أجري في عام 1830 أول اتصال بريطاني شبه رسمي بالمدن الأفغانية الشرقية الرئيسية. ففي مطلع القرن التاسع عشر تركزت الاهتمامات الدبلوماسية على العلاقات الفارسية مع منطقة الحدود الغربية. وفي عام 1838 بدا واضحاً أن أمير أفغانستان دوست محمد يتلاعب بفكرة الانحياز إلى روسيا، فقررت بريطانيا حينئذ إبداله. وكان في مخيلتهم الأمير الأفغاني العجوز السابق شجاع الملك الذي أمضى ثلاثين عاماً منفياً في الهند. وكانت الإمبراطورية الأفغانية خلال القرن الثامن عشر قد تكونت من كبار الأسياد الرئيسيين. وكانت حركة تطور الاقتصاد ضعيفة للغاية، وتميزت تلك الفترة بوضع تجاري محدد نسبياً، إذ غالباً ما كان الحكام الأفغانيون يعتمدون على الغارات العسكرية التي يشنونها على الأراضي المجاورة وبالأخص الأراضي الواقعة شمال غرب الهند وذلك من أجل الحصول على غنائم عينية جاهزة من خلال عمليات السلب المنتظمة. وفي بداية القرن التاسع عشر نشأت منافسة حادة حول السلطة بين عشيرتين متنازعتين وهما سودسي و ركوزي اللتان تنحدران من قبيلة الدورانية[1] التي كان أميرها أحمد شاه. وقد ادعى العشرات من الحكام المتخاصمين من أتباع كلتا العشيرتين الحق لتولي السلطة. وقد استطاع اشجاع الملك أن يضع يده على الحكم وذلك عندما قام بالإغارة على بلده في عام 1834، إلا أنه هزم في معركة بالقرب من قندهار من قبل دوست محمد.

كان الحاكم العام اللورد أوكلاند يرى بأنه يمكن تغيير الحكم بسهولة في كابل، فلا شيء يخيف من القيام بذلك.

وقد افترض البريطانيون خطأ بأن وجود حليف محلي يمكن أن يكون بمثابة المساعد لهم لدى القيام بأي عمل عسكري قد ينشأ من جراء تدخلهم. وخلال صيف عام 1838 كان متوقعاً من حاكم البنجاب السيخي رانجيت سنج أن يقدم دعماً كبيراً للقوات التي ستدخل إلى أفغانستان ، إلا أن رانجيت رفض المشاركة في تقديم الدعم. وبدلاً من أن تزود بريطانيا الجيش السيخي بـ 5000 جندي كمساعدة لهم، وجدت نفسها أنها ملزمة بإرسال 1400 جندي من الهند البريطانية نفسها.

وعوضا عن عبور نهر سوتلج ومن ثم البنجاب والتوجه إلى كابل من بيشاور من خلال ممر خيبر، أجبِرت القوات البريطانية إلى سلوك طريق غير مباشر إلى قندهار. وللبدء في القيام بالحملة في ديسمبر عام 1838، قامت القوات البريطانية الرئيسية، والتي كانت مرابطة في فيروزبور، بقطع مسافة 1000 ميل وذلك في مدة 135 يوماً، ولم تحدث أية معارك في طريقهم إلى قندهار، إلا أن القوات كانت تصارع أوضاع الصحراء القاسية ،ومعابر الجبال الوعرة، ونقص الطعام، والحرارة الشديدة والماء الذي تعمِّد تلويثه، وكذلك التهديد المستمر لغارات رجال القبائل الجبلية. وقد تحدث أحد الضباط عن الحرارة والغبار، ورياح الصحراء، وأسراب الذباب الكبيرة والرائحة النتنة للبعير النافقة. كانت رائحة المعسكر تماثل رائحة المقبرة، فلا يستطيع أحد أن يمشي ثلاث خطوات داخل المعسكر دون أن يرى رجلا ميتاً أو حيواناً نافقاً أو على وشك الهلاك.

ولدى وصولها إلى قندهار أمضت القوات البريطانية حوالي شهرين، وذلك بالتعاون مع قوات شجاع الملك، بالإضافة إلى حوالي 38000 من أتباع المعسكر والخدم، محاولةً استجماع قواتها أثناء حشد الإمدادات العسكرية. وقد جرى تنصيب شجاع الملك كأمير. وكانت المرحلة التالية عبارة عن التوجه من قندهار إلى كابل لمسافة قدرها 310 أميال. وقد جرت في الطريق المعركة الوحيدة للحملة العسكرية التي دامت ثمانية أشهر، وذلك في المدينة المحصنة غزنة. وقد استمرت المعركة أكثر من ساعة بقليل. وكان لزاما على البريطانيين الذين لم يجلبوا معهم أسلحة ثقيلة أثناء زحفهم عبر الوادي الرئيسي لشرق أفغانستان، أن يشقوا طريقهم إلى غزنة عن طريق القيام بهجوم جريء حدث في الفجر. ثم قاموا بتفجير إحدى بوابات المدينة بواسطة 300 ليبرة من مسحوق الرصاص، وبعد ذلك أرسل فريق هجومي مؤلف من عدد قليل من فرقة المشاة الأوروبية . وقد حصل هذا الفريق على الدعم اللازم في الوقت المناسب. وكما هو الحال في مسألة الحملات الاستعمارية، فقد اعتمد نجاح العملية على السرعة والجرأة وارتجالية وتحمل المخاطر الكبيرة للأقلية المميزة في القوات الموجودة.

وفي نهاية عام 1839 كانت بريطانيا واثقة بأن أهدافها السياسية قد تحققت، فقد نصب شجاع الملك أميراً للبلاد وهرب دوست محمد، وانسحبت قوات الحملة، إلا أنه بقي وجود بريطاني هام فيها. ومع ذلك تزايدت صعوبة تحدي إيجاد وإبقاء حكم مستقر في أفغانستان. فزعماء القبائل المستقلون لم يقبلوا بحكم شجاع الملك. وقد أدى حماس الناصحين البريطانيين، بشأن القيام بإصلاحات إدارية وسياسية، إلى حدوث تغييرات في زيادة الإيرادات والامتيازات و النفوذ الممنوحة للزعماء المحليين في كابل، وأدى هذا إلى إثارة المعارضة. وبحلول شهر أيار/مايو من عام 1841، نشرت بريطانيا ستة عشر ألف جندي في أفغانستان وفي الطرق المؤدية إليها مباشرة، كما نشرت تسعة آلاف جندي في الطريق الممتد من كراتشي إلى كويتا. وازدادت حدة العداء حيث امتعض الزعماء المحليون من شن الغارات البريطانية على الوديان المستقلة، حيث ساهمت تلك الغارات في القضاء على المحاصيل الزراعية ومهاجمة الحصون الصغيرة. وامتعض الزعماء المحليون كذلك من الانتشار الواسع للقوات الهندية في بلد مسلم، لا سيما أن الأفغان كانوا بمثابة الوسيط بشأن مصير هندوستان في القرن الثامن عشر.

كذلك برز مزيد من النزاعات نتيجة الزيادة الحادة في أسعار السلع الأساسية و وجود أعداد كبيرة من الجيوش الأجنبية، ورغبتها في شراء البضائع. وقد أدت الإصلاحات في تنظيم الجيش الأفغاني إلى تخفيض هائل في نسبة المدفوعات السنوية التي تقدم إلى قبائل غيلزاي المسيطرة على الطريق ما بين جلال آباد وكابل. فكانت ردة فعل هذه القبائل أن قامت بمهاجمة قافلة كبيرة كانت متجهة من جلال آباد إلى كابل وذلك في أكتوبر عام 1841. وقد حدث هذا الهجوم عندما كان البريطانيون يخططون للانسحاب الرئيسي. وخلال فصل الخريف، قاد اللواء السير روبرت سيل Robert Sale قائد جبهة القتال في غزنة في السنتين الأخيرتين الفريق العسكري البريطاني متجهاً من كابل إلى جلال آباد حيث مكان المعارضة، لفتح الطريق المباشر للانسحاب. إلا أن البريطانيين في مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1841 فقدوا السيطرة على سير الأحداث في كابل. فقد هاجمت جماعة من الغوغائيين المقيم البريطاني السير الكسندر بيرنز Alexander Burnes وأردته قتيلاً. ثم قامت القوات القبلية المجندة بالاستيلاء على حصن المفوضية. وخلال تردد البريطانيين في ردة فعلهم إزاء هذا الهجوم ، انضم عدد من زعماء القبائل إلى التمرد.ووصل الأمير المخلوع محمد أكبر نجل دوست محمد إلى العاصمة وتولى قيادة فرق التمرد. وحاول المبعوث البريطاني المتقاعد السير وليام ماكنوغتين William Macnaughten إجراء مفاوضات تسوية معه إلا أنه قتل وقطعت أوصاله في الثالث والعشرين من شهر كانون الأول/ديسمبر. وإزاء هذا الاضطراب المتزايد، توصل القائد البريطاني اللواء وليام إيلفنستون William Elphinstone إلى عقد اتفاق مع ثمانية عشر زعيم قبيلة أفغانية بارزين، ونصت هذه الاتفاقية على أن يضمن زعماء القبائل سلامة الحاميات البريطانية. وفي السادس عشر من شهر كانون الثاني/يناير عام 1842، غادرت كابل القوات البريطانية المؤلفة من 4500 جندي معظمهم من الجنود الهنود (السباهيين)[2] الذين كانوا يخدمون في الجيش البريطاني، ومعهم كذلك أكثر من 12000 من الموالين والخدم وأتباع المعسكر، وقام روبرت سيل وقتئذ بتأسيس موقع دفاعي في جلال آباد عبر الطريق المؤدي إلى البنجاب.

إن الانسحاب البريطاني من كابل إلى جلال آباد قد أدى إلى وقوعهم في أسوء نكسة مرعبة في تاريخ حروب الإمبراطورية البريطانية. وخلال أيام عديدة دق ناقوس الخطر على القوات المنسحبة بسبب شدة البرد، الذي كان مهلكاً ومميتاً، و نفاذ الطعام والمؤن ،وكذلك بسبب كمائن رجال القبائل المسيطرة على أعالي الممرات الجبلية الصخرية الضيقة. وقد أدت الإصابة بالعمى الثلجي وقضمة الصقيع إلى عدم مقدرة المقاتلين من استخدام أسلحتهم، وأخذ الجوع ينخر بجميع القوات. وفي صبيحة اليوم الخامس ازداد عدد الجنود الذين كان بإمكانهم الحركة إلى عشر العدد الأصلي للجنود وهو 4500 جندي. وفي اليوم الثاني عشر من شهر كانون الثاني/يناير، هاجم الأفغان بقوة عدداً قليلاً من الجنود البريطانيين في ممر جاكدولاك واستطاعوا في اليوم التالي من خلال نصب كمين القيام بعملية مزعجة في ممر كوندامك. وتم سجن الكثير من البريطانيين، أما البقية فقد قتلوا ومن ضمنهم 18 ضابطاً.. وكان من بين الذين نجوا من هذه المحنة من القوة الرئيسية أوروبي واحد نفذ بجلده وهو الطبيب الجراح وليام برايدون William Braydon الذي وصل إلى جلال آباد وهو يعرج، وذلك في الثالث عشر من كانون الثاني/يناير. وقام [الجنود] في حامية سيل بالنفخ بالبوق طوال تلك الليلة معلنين ضرورة الحضور إلى الحامية آملين من وراء ذلك أن يأتي الناجون إليها، إلا أنه لم يأت أحد، ولم يعرف بالتحديد عدد الذين قتلوا ، إلا أن عددا كبيرا من قوات الحامية وأتباعها قد هلكوا. فالبعض منهم كان على قيد الحياة لفراره أو لأنه أصبح سجيناً. ولربما تجاوزت حصيلة المفقودين أكثر من اثني عشر ألف جندي.

وعلى الرغم من الكارثة الإنسانية المروعة التي حلت بالبريطانيين، إلا أنهم استطاعوا الحفاظ على بعض القوى العسكرية الرئيسية. فقد بقيت قوة قوامها سبعة آلاف وخمسمائة جندي في قندهار ( وهو عدد فاق كثيرا عدد الجنود المفقودين خلال الانسحاب من كابل). وقد وصلت إمدادات عسكرية ضخمة إلى بيشاور في مملكة السيخ وذلك في مطلع شهر فبراير 1842. وقد صمدت قوات الحامية سيل في جلال آباد ونجت من كارثة نقص الغذاء ومن هجمات الأفغان إلى أن وصلت قوات بيشاور للإغاثة- التي قدمت عبر ممر خيبر – للبلدة في 16 نيسان/أبريل ومعها 15 ألف جندي بريطاني.

إن الدفاع عن جلال آباد قدم رمزاً بطولياً للمرونة والمقاومة البريطانية، وكان بمثابة المقاومة الأساسية إزاء عدم الكفاءة العسكرية التي أدت إلى دمار كابل. كما أنها عملت على إيجاد الدافع إلى إرسال حملة تأديبية إلى عاصمة أفغانستان. فقد انتشرت قوات بريطانية من جلال آباد إلى الأودية المجاورة لمعاقبة القبائل المحلية. وقام البريطانيون بهدم القلاع، وحرق القرى، واقتلاع جذور الأشجار (التي هي عنصر هام للاتقاء من حرارة الصيف الشديدة )، حتى تذبل الأشجار وتموت. وجرى تبرير هذا الفعل البريطاني بأنه رد على دهاء الشعب الأفغاني. وقد كتب فيما بعد ضابط يدعى توماس سياتون أن: »كل جريمة، وكل خطيئة يمكن أن تقترفها الطبيعة الإنسانية هي أمر مألوف وواضح وضوح الشمس في أفغانستان«.

* * *

كان البريطانيون ملزمين بالانسحاب من أفغانستان سياسياً واستراتيجياً، إلا أنهم الآن يأخذون بعين الاعتبار عدة مقاييس عسكرية لمعاقبة الأفغان. وهذا ما كتبه دوق ولنغتن Duke of Willington –وهو عضو في مجلس الوزراء- إلى الحاكم العام وذلك في 30 آذار/مارس عام 1842 قائلاً: »من المستحيل أن نطبع في نفوسكم بشدة فكرة استعادة سمعتنا في الشرق«.

لقد تم إعادة الاعتبار لبريطانيا بعدة طرق مختلفة. فقد توجهت قوات الحامية في قندهار إلى كابل، وتقدم عدد كبير من القوات في جلال آباد غرباً لملاقاة قوات الحامية. وصل الجيشان إلى العاصمة في 16-17 من أيلول/سبتمبر عام 1842 وأجريا مفاوضات لإطلاق سراح 95 سجيناً بريطانياً. وقامت هذه القوات بعد ذلك رسمياً بنسف الساحات الأربع الكبيرة أو الأسواق في مركز المدينة. وأخذ البريطانيون يكررون عملية الهدم الرسمي للأبنية الرئيسية ويطبقونها كلما أرادوا إثبات قوتهم، بحجة أنه لم يكن لديهم الوقت الكافي للقيام بذلك.

قام الحاكم العام اللورد إيلنبورو Ellenborough في منتصف شهر ‏كانون الأول/‏‏ديسمبر بإجراء عرض رسمي ضخم في فيروزبور وذلك للترحيب بعودة القوات إلى الهند البريطانية. وكان قد تجمع حوالي 25000 جندي إضافي على هيئة صف للترحيب بهم، وقد بلغ طول هذا الصف ميلين ونصف، وكانت الفرق والمآدب التي أقيمت والحفلات الراقصة وطلقات الترحيب كلها تنادي بالنصر ونهاية الحملة وليس بالانسحاب والفشل. وقد أعاد البريطانيون بوابات سومنوث إلى الهند، بعد أن استيلاء الأفغان عليها منذ وقت طويل، وذلك بإقامة حفل مهيب سار عبر شمال وسط الهند. وقد انتقد العديد من المعلقين البريطانيين هذا النصر الفارغ، إلا أن هذا النصر شكل عنصراً رئيسياً لسياسة ايلنبورو في إعادة بناء الثقة في الجيش الهندي.

انتهز البريطانيون الفرصة أخيرا في عدم الاستقرار السياسي والتنافس القبلي في منطقة السند حيث فتحوها وجرى ضمها إلى جنوب وجنوب شرق أفغانستان وذلك في مطلع عام 1843. وقد أشار ايلنبورو لدى اتخاذه القرار بتولي السلطة في مارس عام 1843 قائلاً: »ينبغي علينا استعادة سمعتنا التي فقدناها في الهند، وذلك عن طريق الاستيلاء على الأقاليم، وزيادة عملية الإصلاح التي ينبغي تطبيقها في إدارة المنطقة الجديدة«. وقد دفع أمراء السند الثمن باهظاً فيما يتعلق بالنكسات البريطانية في أفغانستان.

وبعد فترة الانسحاب التي تمت في عام 1842، أثبتت العلاقات البريطانية مع الأمير دوست محمد الذي أعيد إلى الحكم، أنها غير مرضية بشكل كبير. ومع ذلك فقد تغير الوضع في الإقليم الشمالي الغربي بأكمله لدى الاستيلاء البريطاني على البنجاب عام 1840. وكانت القوات البريطانية قادرة على السيطرة على البنجاب خلال فترة الاضطرابات الناتجة عن التمرد الهندي الذي حدث عام 1857. فلم يكن هناك أية تهديدات من أفغانستان ،إلا أنه في عام 1870 عادت من جديد المخاوف من التوسع الروسي، وازدادت حدة الاستياء من أمير كابل الجديد. فقد بلغت الصراعات الطويلة الأمد أوجها عام 1878، وتفاقمت بسبب صلابة الحاكم العام اللورد ليتون Lytton وعدم حذاقته السياسية، فنشأت حرب قصيرة ونتج عنها مكاسب دبلوماسية بريطانية وهو احتلال وادي كُرَم الواقع بين البنجاب وجبال أفغانستان، ونتج عن ذلك أيضا تنصيب ممثل دائم بريطاني في كابل.

وبالخضوع ظاهرياً إلى الضغوط البريطانية نجح حكم الأمير فقط في إثارة مشاعر الكره القبلي، وقام الجنود الأفغان المنشقون بحرق دار المقيمية البريطانية في أيلول/سبتمبر عام 1879 وقتلوا جميع من فيها ومن ضمنهم المبعوث البريطاني السير لويس كافاجنري Louis Cavagnari، وكان هناك وقتئذ عدد كاف من القوات البريطانية قريبة من موقع الحادث كي يعمدوا إلى اتخاذ رد فعل بريطاني سريع.

وعقب الهجوم بشهر تقريباً، توجه اللواء فردريك روبرت (الذي أطلق عليه فيما بعد اللورد روبرتس) إلى كابل. من الواضح أن اللورد ليتون قد رسم لروبرتس خطة بريطانيا. لقد وجد ليتون أنه من الأهمية بمكان إنزال عقاب عاجل لتحقيق النتائج المرجوة، وذلك قبل أن تلين المواقف السياسية البريطانية إزاء أفغانستان. فقد كان يود أن يلقن الأفغان درساً سريعاً ومؤثراً. وأكد ليتون أن جميع الشعب الأفغاني قد شارك في »جريمة عظيمة قومية، وأن أي أفغاني يقتل بيد القوة البريطانية المنتقمة فإنني سأعتبره وغداً وأقل منزلة في عالم النذالة«. وبينما كان الرأي العام البريطاني يطلب اتخاذ بعض الإجراءات القضائية، كان نائب الملك يشعر بأن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة و أشد قسوة. وقد استطاع روبرتس إنزال العقاب بالأفغان لدى وصوله إلى كابل وبشكل غير عادل. وقام البريطانيون في غضون الأربعة أسابيع التالية بإعدام حوالي 100 أفغاني، بغض النظر عما إذا كانوا قد شاركوا في الهجوم على دار المقيمية أم لا. وأشار ضابط كبير »إنهم يكرهوننا بكل معنى الكلمة ولا يهابون منا بشكل كاف«.

ومن أجل دعم ذلك الوجود العسكري الكبير خلال فصل الشتاء، أرسل روبرتس فرقاً كبيرة من الجنود للبحث عن الطعام في مناطق الريف المحيطة، وعندما واجهت تلك الفرق مقاومة، نشبت مصادمات كانت متوقعة في المنحدرات، وقد تم نهب المواد الغذائية وحرق القرى التي كانوا يدخلونها.وقد هاجمت القوات القبلية الموقع البريطاني خارج كابل في نهاية شهر كانون الأول/ديسمبر. ثم قامت بريطانيا في مطلع عام 1880 بتحويل أعداد كبيرة من قواتها المرابطة في بيشاور إلى كابل لتأمين خطوط الاتصال وبناء قاعدة هناك للمراقبة والتعزيزات.

وجد البريطانيون أنفسهم وسط تنافسات عنيفة بين القبائل والعشائر وداخل الأسرة الحاكمة. ففي أحد الصراعات المحلية حول السلطة بالقرب من قندهار، واجهت قوة بريطانية قوامها 2600 جندي الهزيمة في ميواند في شهر تموز/يوليو 1880، كما لحقت بالقوات البريطانية هزيمة نكراء ومخزية، إذ قتل أو جرح 43% من جنودها وهي نسبة عالية من الجرحى تفوق التصور. كان ذلك مشهداً تقليدياً لما حدث لقوة بريطانية صغيرة نسبياً والتي تعرضت إلى قوة خصم عظيمة من حيث عدد الجنود وسلاح المدفعية. وفي كثير من الأحيان تثبت المقولة القائلة بأن الإدارة البريطانية تفشل أمام النزاعات الكبيرة ،إذ تفتقر إلى تحمل المسؤولية. فعندما كان خصمهم مدججاً بالسلاح بشكل جيد-كما هو الحال بالنسبة للأفغان- لم يستطع البريطانيون التقدم بشكل ملموس أمام تلك الأعداد الكبيرة. بل على العكس من ذلك وكما حدث في ميواند كانوا قد تلقوا الهزيمة.

إلا أن البريطانيين كان يتوفر لديهم قوة بشرية كافية لتعويضهم عما فقدوه. إذ قاد روبرتس 10000 جندي كانوا على بعد 300 ميل من كابل إلى قندهار، ولدى وصوله إلى هناك هاجم جيشه الأفغان خارج قندهار وذلك في الأول من أيلول/سبتمبر من عام 1880، واستطاع روبرتس تفادي الأخطاء التي ارتكبت في ميواند، فقد كان يمتلك أسلحة تماثل أسلحة خصمه، وكذلك بالنسبة لعدد جنوده. ثم قام بردّ خصمه إلى الوراء وذلك على مراحل وبحركة جانبية موفقة. واستولت قواته على جميع أسلحة الأفغان. وقد أدت هذه الهزيمة إلى تقسيم الجيش الأفغاني إلى أقسام. إذ قامت القوات البريطانية النظامية بالعودة إلى شمال غرب المدينة وإلى قواعدها الأصلية في هراة. أما رجال القبائل المنشقون فقد لحقت بهم الهزيمة في ميدان المعركة وجرى تشتيتهم، إلا أنه لم يتم بالضرورة القضاء عليهم تماماً، فقد أشار بعض الخبراء العسكريين ومن ضمنهم روبيرتس أنه ينبغي احتلال قندهار وذلك من أجل استتباب الأمن للحكم الموالي لبريطانيا. وكان مجلس الوزراء قد رفض هذا المشروع والمناقشات من أجل القضاء على أفغانستان. وعقب حدوث عدد من المناوشات الرئيسية بين الأمراء المتنافسين في عام 1881، تم إيجاد حكم جديد في نهاية السنة وانسحب البريطانيون من المدينة. وقد احتاجت بريطانيا في أوج تدخلها إلى وجود ما يقرب 48000 جندي في مدن الهند البريطانية وفي خطوط الاتصالات، وقتل حوالي 10000 جندي وأصيب عدد منهم بالمرض.

ويبرز سؤال واضح وهو إلى أي مدى استطاع البريطانيون أن يتكيفوا بخبرتهم الحربية مع الحرب في الجبال؟. ففي عام 1841-1842 هاجم الأفغان بشدة القوات البريطانية المرابطة في أعالي التلال. وقام روبرتس خلال فترة 1878-1879 بضمان انتشار قوات على درجة عالية من الكفاءة استعداداً للتنقل من أجل تسلق قمم الجبال كي تستطيع إطلاق النار على المواقع الأفغانية، وكذلك ضمن انتشار تلك القوات في الطريق باتجاه الغرب من ممر خيبر وجلال آباد إلى كابل –وهو الطريق الذي تتحرك فيه القوات البريطانية والذي كان معظمه عرضة للمناوشات الجبلية- حيث كانت فيه الحراسة كاملة وتمت السيطرة عليه في 1879-1881. ولدى وصول البريطانيين إلى المدينتين الرئيسيتين قندهار و كابل شعروا أنهم في أمان لأن الأفغان لا يملكون أسلحة الحصار الثقيلة لنشرها في المواقع المحصنة جيداً. وقد بذل البريطانيون جهودا حثيثة للسيطرة على المناطق حول المدن الرئيسية. وكان الأسلوب الأفغاني في القتال في المناطق الخلفية المتاخمة قد سبب مشاكل للغزاة. وكانت حماية قراهم وأوديتهم من ضمن الأولويات لديهم، ومع ذلك استطاع البريطانيون التوغل بصعوبة إلى تلك الأودية العميقة والمقسمة، وذلك عن طريق نشر قواتهم. وأصر روبرتس على تزويد كتائب المشاة بستة عشر جندي مشاة ليكون هناك مجال للتحرك، إلا أن القدرة على التحرك السريع إلى أبعد حد بقي عائقاً بسبب مشاكل المواصلات.

وقد زادت الحرب الأفغانية الثانية من فكرة الالتزام العسكري ومن وجود التنافس العسكري بين البريطانيين (الاسكوتلانديين) ، وبين الهنود البريطانيين (السيخيين والغورسيين). وأراد روبرتس ضمان تحلي قوات الإغاثة- التي غادرت كابل متوجهة إلى قندهار في أغسطس عام 1880 – بالخبرة والالتزام. إن الأخذ بفكرة أنه ربما يكون الجنود الذين كانوا في الخدمة العسكرية الفعلية لفترة حوالي سنتين منهكين جعل روبرتس يستشير قواد الكتائب عن مدى استعداد رجالهم لخوض المعركة. وقد أفاد ثلاثة من القواد أن قواتهم قد لا تتحمل الإجهاد الذي يرافق عادة الحملة. ولرفع معنويات الجنود وعد روبرتس –الذي كان يأمل أن تنتهي الحملة سريعا- الجنودَ بالسماح لهم بالعودة فوراً إلى الهند بعد انتهاء القتال. وتم نقل هؤلاء الجنود الذين لم يعتادوا على الزحف العسكري، وحفظت المعدات بعناية فائقة. وأشار روبرتس أن القوات بحاجة إلى خبرات مَن تم نقلهم للنهوض بأعباء تحميل أمتعة الجيش على الحيوانات لأن السائقين أو المساعدين الأفغان قد تركوا البريطانيين في شهر آب/أغسطس أثناء الزحف من كابل إلى قندهار.

لقد كان قادة هذه القوات على دراية تامة بقوة وضعف تحمل كل فرد من أفراد قواتهم. إذ كانت تتمتع هذه القوات بخبرة عظيمة، ثم قامت بعد ذلك بالسفر في وضح النهار. وكعادة الحملات الإستعمارية، يتعمد البريطانيون إلى دمج الوحدات المتوفرة لديهم لاعتقادهم أن الجنود –على الأغلب- يَفونَ بالتزاماتهم أكثر إذا لم يتم دمجهم بعضهم ببعض. وبلغ عدد البريطانيين حوالي 2562 جنديا من إجمالي القوات البالغ عددها 9713 جنديا (ما عدا الضباط) أثناء توجههم إلى قندهار. وكان لدى كل فرقة من فرق المشاة الثلاث أربع كتائب قوامها مابين 500-700 جندي، وكان هناك كتيبة بريطانية واحدة ، وأخرى من جورخا في كل فرقة من فرق المشاة الثلاث. أما باقي الكتائب في الجيش فقد كانت تتألف من السيخيين والبنجابيين. وهكذا تم نشر القوات البريطانية والجورخية لإشعال حدة المنافسة بين الوحدات المختلفة ولإبراز أهمية القوة العسكرية لكل فرقة.

لقد جرت معركة حامية الوطيس في الأول من أيلول/سبتمبر، إذ كانت الأطراف المتصارعة في الأساس تتألف من القوات البريطانية التي كانت تدفع أحد جانبي القوة الأفغانية من مواقعها الدفاعية، وتطوق نقطة الدفاع الأفغاني الرئيسية للاستيلاء على معسكر الجيش. وادعى البريطانيون كالعادة بأن محصلة عدد الجرحى كبير جداً، إلا أن عدد الأفغان المقتولين بلغ حوالي 600 أفغاني، ولم يكن هذا العدد عاليا مقارنة بحجم الجيش البريطاني والعدد الحقيقي لطلقات البنادق والمدفعية الموجهة إلى الأفغان. وأكثر ما استطاع البريطانيون قتله هو أفغاني واحد لكل مئة طلقة أطلقت، وقد افترض خطأ أنه لم يقتل أحد بالحراب. ولم تكن مطاردة الفرسان عقب الحرب فعالة، فقد قدّر أنه قتل حوالي مئة أفغاني في عملية مطاردة أدت إلى إبعاد الفرسان الأفغان بحوالي خمسة عشر ميلاً عن ميدان المعركة. وهذا يؤكد أن القليل منهم قد جرح، وأن هؤلاء الجنود قد تخلفوا وتعرضوا للخطر حتى في مطاردة متأخرة للفرسان. لذا فالمعركة لم توجه ضربة عسكرية ساحقة للأفغان، ولكنها أحدثت انقلاباً قوياً أدى إلى تقسيم الجيش الأفغاني وتشتيت زعماء القبائل في مواطنهم المختلفة.

لقد عامل قادة الهند البريطانية –في كلا الحملتين- الأفغان كرهائن على خلاف عسكري، وذلك من أجل المحافظة على مركز بريطانيا في الهند ومكانتها كقوة عسكرية. وارتكزت كلتا الحملتين على الحاجة لتحقيق انتصارات سريعة وواضحة وانسحاب لاحق سريع. وانتهت كلتا الحملتين بإلحاق الأذى بالأفغان، وبإظهار أن العقاب يتفوق على العدالة في ردة الفعل على المقاومة الأفغانية العنيفة لوجودهم العسكري.

وترك البريطانيون أفغانستان كما وجدوها. ومنذ مئة سنة وصف الكتاب السنوي للبريد اليومي الشعب الأفغاني بأنه شعب مكون من 4 ملايين نسمة ، وكان يعاني من نقص شديد في الغذاء ، كما كان يعاني من ظلم النبلاء والجشعين.

وقدمت الهند البريطانية إلى الأمير معونة مالية حيث أنه يعتمد على قواته المسلحة التي هي تحت إمرته، أما المطالبون بالحكم –ومن ضمنهم أؤلئك الذين تورطوا في أحداث 1880-1881- فقد كانوا يتحينون الفرصة من منفاهم في روسيا والهند لخوض عملية التحدي.


--------------------------------------------------------------------------------

Bruce Collins, “Fighting the Afghans in the 19th Century,” History Today, vol. 51 (12) Dec. 2001

خدمات الفسطاط للترجمة


--------------------------------------------------------------------------------

[1] الدورانية أسرة تنسب إلى مؤسسها أحمد خان الذي تولى حكم أفغانستان عام 1747م والذي كان يدعى بـ»دري دورانية« أي درة العصر، وكانت قندهار مركز حكمه. (الفسطاط).

[2] سباهي sipahi كلمة أصلها تركي، وهي تطلق على الفارس الذي يقطعه السلطان أرضاً مقابل خدماته العسكرية، وقد استخدمها كاتب المقال هنا بمعنى »سلاح الفرسان«. (الفسطاط)

د.فالح العمره
15-04-2005, 11:09 PM
لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية
إعداد: عبد الرحمن كيلاني

--------------------------------------------------------------------------------

مقدمة
كثيرة هي الدعوات التي ظهرت في تاريخ المسلمين والتي تدعي الانتساب لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الخلافة من حقهم منصوص عليها بأحاديث مكذوبة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اخترنا أن نتكلم عن أحد هذه الدعوات والتي نتجت عنها دولة العبيديين والتي تدعى تضليلاً للناس دولة الفاطميين، نسبة إلى فاطمة رضي الله عنها. سندرس كيف بدأت هذه الحركة وعقيدتها وتاريخها، وعلاقتها بالتشيع والحركات الأخرى، وما هي الفرق التي تفرعت عنها. وقد اخترنا أن ننقل ما أورده باختصار الأستاذ محمود شاكر في كتابه «التاريخ الإسلامي» عن بدء هذه الحركة، ثم ننتقل إلى الدولة العبيدية وتاريخها..

يقول الأستاذ محمود شاكر:

«نشطت الحركات القرمطية، وتعددت جماعاتها، وإذا كانت قد نُسبَت في أول أمرها إلى قرمط وهو حمدان بن الأشعث، إلا أنه قد أصبحت كل جماعة تحمل فكرة قرمط تُنسب إليه، وهي تعتمد على إطلاق العنان للشهوات البهيمية لاستغلال الشباب واستغلال المحرومين من الحياة الزوجية لبعدهم عن مواطنهم وعدم إمكاناتهم من الزواج، والحاقدين في الوقت نفسه على المتزوجين المنعّمين، كما تعتمد على شيوعية الأموال واستغلال الفقراء والناقمين على الأثرياء، أو استغلال الأرقاء على ساداتهم، ثم الإفساد بالأرض بكل وجوهه وأساليبه.

ففي جنوبي العراق وجد زكرويه بن مهرويه، وهو من أصل فارسي، شدّةً عليه، فمن ناحية ينقم عليه أتباع قرمط وابن عمه عبدان، ومن ناحية ثانية فقد اشتد الخليفة المعتضد في ملاحقة أتباع هذه الأفكار الكافرة من جهة والدنيئة من جهة أخرى، فأما الناحية الأولى فقد انتهى منها بالتخلص من «عبدان» بقتله، ويبدو أن يحيى بن زكرويه هو الذي تولى عملية القتل، ثم تلاه التخلص من حمدان. أما الناحية الثانية وهو ضغط الخليفة فلم يستطع أن يتخلص منه بل اشتدت وطأته عليه، لذا فقد بقي في مخبئه وظن أنه يمكنه أن يضم إليه أتباع قرمط في المستقبل بزوال رئيسهم حمدان، ومفكرهم عبدان ما دامت الفكرة واحدة، ورأى أن بلاد الشام تعمّها الفوضى، والحكم الطولوني فيها قد أصبح ضعيفاً لذا يمكن أن تكون مجالاً لنشاطه فأرسل أولاده. بعث يحيى بعد أن بايعه أتباع أبيه زكرويه في سواد الكوفة عام 289 هـ، ولقّبوه بالشيخ، كما كان يُعرف بأبي القاسم. ادّعى يحيى نسباً إسماعيلياً فزعم أنه محمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، وادّعى لجماعته أن ناقته مأمورة، فإن تبعوها ظفروا، وأظهر لهم عضداً ناقصة وزعم أنها آية، وقد تسمّوا بالفاطميين، وأرسل لهم هارون بن خمارويه جيشاً بقيادة «طغج بن جف» فهزمته القرامطة، وسارت نحو دمشق بعد أن انتهبت وانتهكت البلاد التي مرت عليها كلها، وحاصرت دمشق عام 290 هـ ولكنها عجزت عن فتحها، وأرسل الطولونيون لها جيشاً بقيادة «بدر الكبير» غلام أحمد بن طولون، فانتصر على القرامطة وقتل زعيمهم يحيى بن زكرويه.

أرسل زكرويه بن مهرويه من مخبئه ابنه الثاني «الحسين» وادّعى الآخر نسباً إسماعيلياً فزعم أنه أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ووضع شامة على وجهه، لذا عُرِف باسم «صاحب الخال» أو «أبو شامة» وذكر لأصحابه أنها آية له (!)، وسار في إثر أخيه قبل أن يُقتَل.

لما شعر يحيى بن زكرويه أنه عاجز عن فتح دمشق إذ جاءت أهلها نجدات من بغداد ومن مصر، وأحسّ أنه مقتول لا محالة ادّعى أنه سيطلع إلى السماء غداً، وأنه سيبقى فيها أربعين يوماً، ثم يعود، وأن أخاه «الحسين» سيأتي غداً في نجدة -وكان قد بلغه ذلك- فعليهم بيعته والقتال معه والسير وراءه، وفي اليوم الثاني جرت المعركة قرب دمشق قُتِل فيها يحيى بن زكرويه وكان قد عرف يومذاك بصاحب الجمل حيث كان يمتطي جملاً خاصاً.

وكما اشتدت وطأة المعتضد على القرامطة في جنوبي العراق اشتدت في كل مكان، ففي السلمية في بلاد الشام زاد الطلب على أسرة ميمون القداح التي تزعم أنها تعمل لأبناء محمد ابن إسماعيل، وتريد في الواقع أن تعمل لنفسها وتخفي في الباطن ما تدعو إليه، ولها هدف سياسي واضح من أصلها اليهودي. وبسبب هذا الطلب فقد فرّ عبيد الله بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح من السلمية وهو رأس هذه الأسرة واتجه نحو الجنوب حيث اختفى في الرملة. وفي هذا الوقت كان الحسين بن زكرويه في طريقه من الكوفة إلى أخيه يحيى بدمشق، فعرج الحسين إلى الرملة وعرف مكان عبيد الله، والتقى به، وحاول استرضاءه وإظهار الطاعة له عسى أن يستفيد منه. وأظهر عبيد الله رضاه عنه وموافقته على عمله خوفاً من أن يقتله أو يرشد عليه عامل العباسيين، حيث كان آل زكرويه يريدون التفرُّد بالسلطة، ويرجعون بأصولهم إلى المجوسية، وإن عبيد الله أقوى من أن يقف في وجههم. وما أن غادر الحسين بن زكرويه الرملة حتى انصرف منها أيضاً عبيد الله متجهاً نحو مصر.

سار الحسين من الرملة إلى دمشق فوجد أخاه يحيى قد قُتل، فالتفّ القرامطة حوله، وحاصر بهم دمشق، لكنه عجز عن فتحها، فطلبه أهل حمص فسار إليهم فأطاعوه، ثم انتقل إلى السلمية فامتنعت عنه، ثم فتحت أبوابها له بعد أن أعطى أهلها الأمان، وما أن دخلها حتى نكّل بقانطيها، فأحرق دورها، وهدم القلاع فيها، وقتل الهاشميين فيها [1][1]، دلالةً على الحقد الذي يغلي في صدور هذه الفئة على آل البيت رغم ادّعاء زعمائها بالانتساب إلى آل البيت، ودلالة أيضاً على كراهية الإسلام الذي قضى على المجوسية في فارس؛ ثم قتل عبيد الله بن الحسين القداحي حيث كل منهم يعمل لنفسه وكان عبيد الله قد رفض إعطاء آل زكرويه مراكز مهمة في الدعوة التي يعمل لها. ثم سار الحسين بن زكرويه من السلمية على رأس قرامطته إلى حماة والمعرة وبعلبك وعمل القتل في أهل كل بلد وصل إليها، وأغارت جماعته على حلب، غير أن القرامطة قد هُزِموا في جهات حلب لذا عادوا فاتجهوا إلى جهات الكوفة وهناك قاتلهم الخليفة المكتفي، فوقع الحسين بن زكرويه أسير فحمل إلى بغداد حيث قُتِل وصلب فيها عام 291. وعندما قُتل ولدا زكروبه يحيى والحسين خرج أبوهما من مخبئه الذي اختفى فيه مدة تقرب من ثلاث سنوات، وعندما خرج سجد له أنصاره المقربون الذين يعرفون أهداف الحركة، وسار بأتباعه نحو بلاد الشام فأمعنوا في القتل، واعترضوا طريق القوافل والحجاج، وارتكبوا من الفواحش ما يصعب وصفه، واتجه نحو مدينة دمشق فحاصرها، ولكنه عجز عن فتحها، وأخيراً هُزم وقتل عام 294 بعد أن عاث في الأرض الفساد، وتشتت أتباعه، فمنهم من انتقل إلى البحرين، ومنهم من سار إلى بلاد الكلبية وبهراء في بلاد الشام فاختلط مع أهلها الذين يعيشون في قلاعهم ومعاقلهم في الجبال الشمالية الغربية من بلاد الشام والذين يلتقون معهم ببعض الأفكار وإن كانوا أقرب إلى الأسرة القدّاحية حيث الأصل اليهودي، ومنهم من احتفى في البوادي ثم تحالف مع القبائل الضاربة فيها أو سار إلى أماكن نائية حيث ضاع فعله بين السكان الآخرين. وهكذا انتهى القرامطة من جنوبي العراق، واتجهوا نحو بلاد الشام فهزموا وذابوا.

أما عبيد الله بن الحسين القداحي فقد علم ما حلّ بأهله بالسلمية وما نزل بآل محمد بن إسماعيل فيها أيضاً، فنسب نفسه إلى آل محمد بن إسماعيل، وعلم كذلك أن الدعوة الشيعية قد قويت في بلاد المغرب على يد أبي عبد الله الشيعي الذي سار من اليمن عن طريق رستم بن الحسين بن حوشب الذي يدعو إلى آل البيت عن طريق آل محمد بن إسماعيل، فيمّمَ عبيد الله القداحي وجهه نحو المغرب على أنه عبيد الله بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق!

أما في اليمن فقد كان نجاح رستم بن الحسين بن حوشب واضحاً إذ أسس دولته الإسماعيلية وبدأ يرسل الدعاة إلى عدة جهات ومنها المغرب، وكان من أكبر أعوانه وقادته علي بن الفضل الذي اختلف معه وافتتن بالتفاف الناس حوله، فسار شوطاً بعيداً في الفساد فحكم البلاد، ودخل زبيد وصنعاء، وادّعى النبوة، وأباح المحرمات، وكان المؤذن في مجلسه يوذن «أشهد أن علي ابن الفضل رسول الله». ثم امتد به عتوّه، فجعل يكتب إلى عمّاله: «من باسط الأرض وداحيها، ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان». ثم مات مسموماً عام 303، ولم تلبث دولة القرامطة في اليمن أن دالت.

أما في البحرين فقد قدم إليها عام 281 رجل يقال له يحيى بن المهدي، نزل القطيف ودعا أهلها إلى بيعة المهدي فاستجاب له رجل يقال له علي بن العلاء بن حمدان الزيادي وساعده في الدعوة إلى المهدي، وجمع الشيعة الذين كانوا بالقطيف فاستجابوا له، وكان من جملة من استجاب له أبو سعيد الجنابي واسمه الحسين بن بهرام، ويعود أصلة إلى بلدة (جنَّاب) قرب سيراف [2][2]، وقد نزل إلى البحرين منفياً فعمل سمساراً في الطعام يبيعه، ويحسب للناس الأثمان، ثم بدأ يعمل بالفراء وينتقل بين البحرين وسواد الكوفة، وصحب عبدان أو حمدان وتأثر به، وعندما رجع إلى القطيف برز بين جماعته بدعوته. أما يحيى بن المهدي فقد ادّعى النبوة وانفرد بمجموعة، وتزعم أبو سعيد الجنابي بقية المجموعة وأجابه عدد من السوقة ومن ساءت حالتهم المعاشية، وعددٌ من الشباب الذين أغراهم بالنساء التي جعلها جعلها مباحةً بينهم، كما منّاهم بالمال وامتلاك الأرض، وهيأ لهم طريق الشهرة بالقوة التي أظهرها إذ زاد عددهم وبدا لهم أنهم أصبحوا جماعة يُخشى جانبها فظهروا عام 286 فعاثوا في الأرض الفساد إذ قتلوا وسبوا في بلاد هجر كثيراً ثم ساروا إلى القطيف فقتلوا الكثير من أهلها، وأظهر أبو سعيد الجنابي أنه يريد البصرة فجهز له الخليفة جيشاً قوامه عشرة آلاف بإمرة العباس بن عمرو الغنوي، فانتصر القرامطة وأسروا الجيش العباسي كله، وقتل أبو سعيد الجنابي الأسرى جميعهم باستثناء أمير الجيش الغنوي الذي أطلق سراحه. واستمر نشاط القرامطة حتى عام 301 حيث قُتِل الجنابي على يد خادمه بالحمّام، ثم قَتَل خمسة آخرين من كبارهم وحتى فطن له الباقون إلى أمرهم فاجتمعوا على الخادم وقتلوه. ويبدو أن قرامطة البحرين كانوا من أنصار حمدان القرمطي وابن عمه عبدان، لذا لم يدعموا أبناء زكرويه عندما قاموا بحركاتهم، وإنما عملوا منفردين في منطقة البحرين[3]«[4]

أسس العبيديُّون «الفاطميون» دولتهم على أساس المذهب الإسماعيلي الباطني؛ وقد نصَّ أتباع هذه الفرقة الضالة بإمامة إسماعيل ابن جعفر بعد أبيه جعفر بن أبي عبد الله، بينما قالت فرقة الانثي عشرية (الشيعة) بإمامة أخيه موسى بن جعفر بدلاً منه. وقالت الإسماعيلية بإمامة محمد بن إسماعيل السابع التام بعد أبيه، وإنما تم دور السبعة به، ثم ابتدئ منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد ويظهرون الدعوة جهراً. وقالوا: إنما تدور أحكامهم على سبعة كأيام الأسبوع والسماوات السبع والكواكب السبع، والنقباء تدور أحكامهم على اثني عشر، قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية حيث قرروا عدد النقباء للأئمة، ثم بعد الأئمة المستورين كان ظهور المهدي والقائم بأمر الله وأولادهم نصاً بعد نص على إمام بعد إمام. ومذهبهم أنه من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام زمانه مات ميتة جاهلية.. وأشهر ألقابهم الباطنية، وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً، ولهم ألقاب غير هذا من القرامطة والمزدكية والملحدة، وهم يقولون نحن إسماعيلية لأننا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم[5].

أئمة الشيعة الجعفرية والإسماعيلية
1- علي بن أبي طالب

2- الحسن بن علي

3- الحسين بن علي

4- علي زين العابدين بن الحسين

5- محمد الباقر

6- جعفر بن محمد الصادق

الإسماعيلية
الشيعة الجعفرية

7-إسماعيل بن جعفر الصادق
7- موسى الكاظم بن جعفر

8- محمد بن إسماعيل (الإمام السابع التام)
8- علي الرضا بن موسى

دور الأئمة المستورين
9-محمد القانع بن علي

حكام العبيديين
10- علي بن محمد القانع


11-حسن بن علي العسكري


12- محمد المهدي، (لم يولد) [6]


تأسيس الحركة الإسماعيلية
ينسب الدور الأكبر في تنظيم الحركة الإسماعيلية ووضع مبادئها إلى ميمون القداح،والذي يدعى ابن الديصان، وابنه عبد الله. وقد اتبع أتباعه وأولاده أثره في توسيع نطاق الحركة. وقد ظهر ميمون القداح سنة 176هـ بالكوفة، وكان باطنياً خبيثاً، قال بأن لكل ظاهر باطناً، وأمر بالاعتصام بالغائب المفقود، وكان يعتقد اليهودية ويظهر الإسلام. وقد سكن السلمية وتقرب من إسماعيل بن جعفر. وينسب إليه القول بفكرة المنتظر قبل ولادة أبو الحسن العسكري الإمام الأحد عشر عند الشيعة (!).

ويقول الأستاذ أنور الجندي: «يؤكد مؤرخو الغرب، مثل دي ساسي وديموج بوجه خاص، بوجود دافع سياسي لدى عبد الله بن ميمون القداح في القضاء على سلطان العرب والإسلام الذي جلب إليهم تلك السلطة، وإرجاع مجد فارس القديم مرة أخرى. ويؤكد الدكتور عبد الله الدوري في كتابه (العصور العباسية المتأخرة) القول بأن القداح أراد أن يقوض الإسلام فأشعل الشعور الشيعي عند الجماهير وكون المذهب القرمطي المؤدي إلى الإلحاد واستغل اسم اسماعيل بن جعفر الصادق في إثارة حركة شيعية[7]قوية تنقل الملك إلى أحد أحفاده باسم المهدي» أهـ.

من المناسب هنا أن نشير إلى خطورة مرحلة «دور الستْر» التي مرَّت به الدعوة الإسماعيلية بعد الإمام التام محمد بن إسماعيل، لأنه لولا هذا الدور ما استطاع دعاتها أن يختفوا عن أنظار الدولة العباسية التي كانت تلاحقهم أولاً، ثم إنهم ثانياً استطاعوا من خلال هذا الدور أن يلفِّقوا مسألة النسب. فميمون القداح وابنه عبد الله استقروا في منطقة السلمية من أعمال حماة مع محمد بن إسماعيل وأهل بيته والذي كان من بينهم عبد الله بن محمد. وهنا يورد بايارد دودج Bayard Dodge في سلسلة مقالاته عن الإسماعيلية عبارة تثير الانتباه، قال: «وفي الحقيقة، إن كان بعض الناس يعتقدون أن الإمام محمد وميمون يمثلان شخصاً واحداً، فإنه من السهل أن يُعتقَد أنّ [عبد الله] ابن محمد [ابن إسماعيل] هو نفسه عبد الله بن ميمون!»[8] ومن النظر إلى سلسلة نسب ميمون وأولاده وإسماعيل وأولاد نعلم مدى دقة الخطة التي كان ينفذها ميمون وأولاده لسرقة نسب إسماعيل، وبالتالي ظهورهم على الناس بأنهم هم من أهل البيت وأنهم أحق بالحكم من بني العباس، ومن ثم تنفيذ خطتهم في تحطيم الدولة العباسية، والإسلام. وتاريخ العبيديين يشهد بهذا.

وقد أكد عبد القاهر البغدادي، صاحب كتاب (الفَرق بين الفِرَق) أن الذين وضعوا أساس الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، وقال: «لا تجد على ظهر الأرض مجوسياً إلاّ وهو موالٍ لهم "أي الباطنية" منتظر لظهورهم على الديار».

مسألة نسب العبيديين لآل البيت
لقد أطلق جلال الدين السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) اسم «الدولة الخبيثة» على الفاطميين، فقال: «ولم أورد أحداً من الخلفاء العبيديين لأن إمامتهم غير صحيحة لأمور، منها:

أنهم غير قرشيين، وإنما سمتهم بالفاطميين جهلة العوام، وإلاّ فجدهم مجوسيّ. قال القاضي عبد الجبار البصري: «اسم جد الخلفاء المصريين سعيد]أول حكامهم] وكان أبوه (عبد الله بن ميمون) يهودياً حداداً نشابة». وقال القاضي أبوبكر الباقلاني: «القداح جَدّ عبيد الله الذي يسمى بالمهدي كان مجوسياً. ودخل عبيد الله المهدي المغرب وادعى أنه ينسب إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ولم يعرفه أحد من علماء النسب، وسماهم جهلة الناس الفاطميين».[9] وقال ابن خلكان: «أكثر أهل العلم لا يصححون نسب المهدي عبيد الله جد خلفاء مصر، حتى أن العزيز بالله ابن المعز في ولايته صعد المنبر يوم الجمعة، فوجد فيها هذه الأبيات:

يُتْلى علـى المنبر الجامـعِ
إنَّا سمعنا نسبا ً منكراً

فاذْكُرْ لنا أَبا بَعْد الأبِ السَّابِعِ [10]
إن كنتَ فيما تدَّعي صادقاً

فانْسِب ْ لنا نفسَك كالطَّائعِ
وإنْ كنتَ تُرِدْ تحقيقَ ما قُلتُه

وادخُلْ بِنا في النَّسَبِ الواسِعِ
أَوْ لا، دَعِ الأنسابَ مستورةً

يَقْصُر عنها طَمَعُ الطامِعِ
فإنَّ أنسابَ بني هــاشمٍ


وما أحسن ما قال المعز الفاطمي صاحب القاهرة؛ وقد سأله ابن طباطبا عن نسبهم، فجذب نصف سيفه من الغمد وقال: «هذا نسبي، ونثر على الأمراء والحاضرين الذهب، وقال: هذا حسبي».

· ومنها: أن أكثرهم زنادقة خارجون عن الإسلام، ومنهم من أظهر سب الأنبياء، ومنهم من أباح الخمر، ومنهم من أمر بالسجود له؛ والخير منهم رافضي خبيث لئيم يأمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، ومثل هؤلاء لا تنعقد ولا تصلح لهم إمامة.

قال القاضي أبو بكر الباقلاني: «كان المهدي عبيد الله باطنياً خبيثاً حريصا على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء ليتمكن من إغواء الخلق، وجاء أولاده على أسلوبه: أباحوا الخمور والفجور وأشاعوا الرفض».

وقال الذهبي: «كان القائم ابن المهدي شراً من أبيه زنديقاً ملعوناً أظهر سبّ الأنبياء». وقال: «وكان العبيديون شراً من التتار على ملة الإسلام».

وقال أبو الحسن القابسي: «إن الذين قتلهم عبيدُ الله وبنوه من العلماء والعباد أربعة آلاف رجل ليردوهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت».

قال القاضي عياض: «سئل أبو محمد القيرواني الكيزاني من علماء المالكية عمن أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم أو يقتل؟ قال: يختار القتلَ، ولا يعذر أحد في هذا الأمر،.. لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع وهو لا يجوز».

وقال ابن خلكان: «وقد كانوا يدعون المغيبات، وأخبارهم في ذلك مشهورة، حتى أن العزيز صعد يوماً المنبر فرأى ورقة فيها مكتوب:

بيِّن لنـا كاتبَ البــطاقَهْ
إن كنتَ أُعطيتَ علمَ الغيبِ

وليــس بالكفـرِ والحماقَهْ
بالظـلمِ والجـور قد رضينـا


وكتبت إليه إمرأة قصة فيها: بالذي أعز اليهود بميشا والنصارى بابن نسطور، وأذل المسلمين بك الا نظرت في أمري. وكان ميشا اليهودي عاملا (له) بالشام وابن نسطور النصراني في دمشق» اهـ

ومما يستدل به على زور نسب الفاطميين لآل البيت هي الرسائل التي تبودلت بين العزيز بالله الفاطمي والحكم المستنصر الأموي في الأندلس، فقد ذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان (ج2 ص152) أن العزيز كتب إلى الحكم المستنصر يسبّه ويهجوه، فردّ هذا عليه بقوله: «أما بعد، فقد عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك». وكان الحكم يطعن على العزيز بنسبه وأن جدّه ميمون القداح الباطني.

وأما بالنسبة لنشرهم مذهبهم فقد بنوا الجامع الأزهر لينشروا من خلال هذا المركز مذهب الرفض، وكانوا يجبرون المسلمين على اعتناقه. ثم لما رجعت مصر إلى سلطة المسلمين من أهل السنة أبطل السلطان صلاح الدين مذهب الرفض وأعاد السنة إلى أرض مصر. وقد تركت الدولة العبيدية آثاراً سيئة من البدع والمنكرات ما زالت تمارس إلى زماننا هذا في مصر وغيرها.

موقف الشيعة الاثني عشرية من العبيديين
إنّ الشيعة الاثني عشرية تكفّر العبيديين مع أنهم يتبعهم شيعة اليوم ويقولون عن دولتهم: أنها كانت دولة شيعية، وأنهم بناة مجدنا ودعاة مذهبنا ومؤسسو العلم والحضارة في مصر، ومنشئو المساجد ودور الكتب والجامعات. فمع تكفيرهم إياهم واتفاقهم على خروجهم من الإسلام والملة الإسلامية الحنيفية، فقد كتب محضر في عصر الخليفة القادر العباسي في شهر ربيع الآخر سنة 402هـ وعليه توقيعات من أشراف القوم ونقبائهم وخصوصاً من يلقب بنقيب الأشراف وجامع نهج البلاغة، السيد رضى وأخيه السيد المرتضى، واحتفاظا على التاريخ والوثيقة التاريخية ننقلها بتمامها ههنا:

«إن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم -حكم الله عليه بالبوار والخزي والنكال- ابن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد -لا أسعده الله- فإنه [أي سعيد] لما سار إلى المغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي وهو ومن تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس -عليه وعليهم اللعنة- أدعياء الخوارج، لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب، وإن ذلك باطل وزور، وإنهم لا يعلمون أن أحداً من الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج إنهم أدعياء، وقد كان شائعاَ بالحرمين في أول أمرهم بالمغرب، منتشراً انتشاراً يمنع من أن يدلس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم إلى تصديقهم، وإن هذا الناجم بمصر هم وسلفه كفار وفساق فجار زنادقة، ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبّوا الأنبياء، ولعنوا السلف وادّعوا الربوبية.

التوقيعات: الشريف الرضي، السيد المرتضى أخوه، وابن الأزرق الموسوي، ومحمد بن محمد بن عمر بن أبي يعلى العلويون، والقاضي أبو محمد عبد الله ابن الأكفاني، والقاضي أبو القاسم الجزري، والإمام أبو حامد الاسفرائيني، وغيرهم الكثيرون الكثيرون»[11].

وبهذه الشهادات والبراهين التاريخية نردّ على الذين يحاولون أن يصححوا نسب الفاطميين لآل البيت وعلى المخدوعين والمبعدين عن الحقائق التاريخية والتي طالما لُقّنت لطلاب المسلمين في مدارسهم ومعاهدهم على غير حقيقتها.

رجال الإسماعيلية قبل تأسيس الدولة
1- ميمون القدّاح، ابن الديصان : وهو واضع دعامة المذهب الإسماعيلي الباطني، وهو فارسي. نُسِبَ إلى أحد أجداده «الديصان» الذي كان ثنوي المعتقد. [12]

2- عبد الله بن ميمون القداح: كان مركزه السلمية من أعمال حماة في بلاد الشام. وهو الذي ابتدع دعوة منظمة قسمها إلى سبع درجات زيدت بعده حتى أصبحت تسعاً في زمن الفاطميين، ولم يمت حتى راجت الدعوة الإسماعيلية في كثير من المناطق الإسلامية.

3- أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح: وكان يلقب أبا الشَّلَعْلَع (أو أبا الشلغلغ)، وكان يرأس الدعوة في بعض مدن العراق كالكوفة وبغداد، وآلت إليه الرئاسة التامة من عام 260-270هـ. ثم جاء بعده ابن أخيه عبيد الله المهدي (سعيد ابن محمد)، والذي سنتكلم عنه فيما بعد. وأحمد هذا بعث ابن حوشب لنشر المذهب الإسماعيلي في اليمن، وبعث إليه بعد ذلك أبا عبد الله الشيعي حيث علمه ابن حوشب أصولَ المذهب، ثم أرسله إلى المغرب لنشر الدعوة هناك. ونلاحظ هنا أن دعاة الإسماعيلية كانوا يدعون لمذهبهم بعيداً عن بغداد، حاضرة الدولة العباسية، سراً حتى لا تصطدم بها في بادئ أمرها. ومن منطقة تونس -حالياً- ابتدأت الدولة االعبيدية.

حكّام العبيديين
عبيد الله المهدي، سعيد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح (ت322هـ)

وهو أول من تسلم قيادة دولة العبيديين، واسمه الأصلي سعيد، وقد دعي إلى إفريقية بعد أن لقيت الدعوة الإسماعيلية نجاحاً في اليمن بفضل ابن حوشب -كما مر قريباً-، والذي تغلب على معظم أرجائها، والذي بعث دعاته إلى اليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وابن حوشب هذا أرسله أبو سعيد محمد أخو أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح سنة 270هـ إلى اليمن من السلمية.

لاقى سعيد (عبيد الله) بن محمد صعوبات شتى حتى استطاع الوصول إلى رقادة عام 296هـ في رجب. فلقد سجنه اليسع بن مدارا أمير سلجلماسة. فالرشوة التي قدمها عبيد الله المهدي له لم تجد نفعاً. وظل في سجنه حتى أطلق سراحه على يد أبي عبد الله الشيعي الذي بعثه ابن حوشب من اليمن إلى المغرب. وعندما وصل عبيد الله إلى القيروان تلقاه أهلها بسلام الخلافة اعتقاداً منهم بأنه علوي فاطمي، ولم يلبث أن قسم رؤساء كتامة، الذين ساعدوه على إقامة دولته، أعمال هذه الدولة. ثم دون الدواوين وجبى الأموال واستقرت قدمه في تلك البلاد.

ولم يكتف سعيد بما فعل، بل طمع بالسيطرة على مصر بعد انتصار جيوشه بالسيطرة على برقة تحت قيادة ولي عهده أبي القاسم، وحباسة بن يوسف، أحد زعماء كتامة. وقد واصلت جيوش المغرب سيرها إلى الإسكندرية، فاستولت عليها وسارت على الوجه البحري، ولكن الخليفة المقتدر العباسي بعث جيشا كبيرا مقداره أربعون ألف جندي أحل الهزيمة بالعبيديين وأرغموهم على العودة إلى المغرب .

وفي سنة 307هـ عاود أبو القاسم ابن المهدي المحاولة مرة أخرى واستولى على الإسكندرية فأرسل الخليفة العباسي خادمه مؤنس على رأس جيش فألحق بهم الهزيمة وأحرق كثيراً من مراكبهم في البحر وأرغمهم على العودة إلى بلادهم عام 309هـ.

أما الحملة العبيدية الثالثة على مصر فظلّت -كما قيل- ثلاث سنوات (321-324هـ)، أُبرِمَت خلالها معاهدة صلح بين الفريقين سنة 323هـ ولكن لم يطل أمده، فقد انضم بعض زعماء المصريين إلى جيش المغاربة الذي دخل الإسكندرية عام 324هـ، فبعث إليهم الإخشيد جيشاً هزمهم فعادوا إلى بلادهم منهزمين.

أقام سعيد (عبيد الله) بن محمد بالقيروان -كحاضرة لدولته- لغاية سنة 304هـ حيث اختط مدينة المهدية جنوب القيروان، وقد ظلّت هذه المدينة آهلة بالسكان إلى سنة 543هـ حيث أرسل روجر النورماندي صاحب صقلية أحدَ قواده فاستولى عليها، وبقيت في يده إلى أن حررها عبد المؤمن سنة 555هـ. مات سعيد (عبيد الله) سنة 322هـ وخلفه ابنه القاسم وتلقب بالقائم.

القائم والمنصور (322-341هـ)

كان القائم، كغيره من الملوك العبيديين، ينقم على السِّنِّيين حتى أنه أمر بلعن الصحابة -رضوان الله عليهم-، وقد أثار غضب المغاربة، وخاصة الخوارج منهم الذين ثاروا على العبيديين، وكانت أشد هذه الثورات خطراً وأشدها بلاء تلك الثورة التي أشعل نارها أبو يزيد مخلد بن كيداد، والتي استمرت طوال عهد القائم ولم تخمد إلا في عهد ابنه المنصور. توفي القائم في رمضان سنة 334هـ، وخلفه ابنه أبو الظاهر إسماعيل الذي تلقب بالمنصور، وكان في العشرين من عمره. وقد اشتهر المنصور بالشجاعة ورباطة الجأش وباستطاعته على التأثير على نفوس سامعيه بفصاحته وبلاغته وقدرته على ارتجال الخطب. وعندما مات أبوه القائم أخفى نبأ موته عن جيشه حتى لا يؤثر على حماسته في إخماد ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد. وقد انقطعت العلاقات بين مصر وبلاد المغرب طوال عهده، لأن همه كان هو القضاء على ثورة أبي يزيد، ثم قدر له أن يهزم جيش أبي يزيد وطارده إلى الصحراء وقبض عليه، ثم لما ساقه إلى المهدية مات أبو يزيد متأثراً بجراحه في محرم سنة 336هـ.

قضى المنصور البقية الباقية من خلافته في إعادة تنظيم بلاده، فأنشأ أسطولاً كبيراً، وأسس مدينة المنصورية سنة 337هـ واتخذها حاضرة لدولته. ومنذ ذلك الحين أصبحت حاضرة العبيديين. حكم المنصور سبع سنين وستة أيام ومات في يوم الجمعة في سوال سنة 341هـ وقبر بالمهدية.

المعز لدين الله (341-365هـ)

هو معد بن إسماعيل، أبو تميم، بنى القاهرة، وهو أول من ملك الديار المصرية من الملوك العبيديين. في عهده دانت له قبائل البربر كافة والمغرب كلّه. فلما رأى الأمر كذلك فكّر بفتح مصر، فبعث بين يديه جوهراً الصقلي حتى أخذها من كافور الإخشيدي بعد حروب جرت بينهما، وذلك في سنة 362هـ. وكان المعزّ ومن سبقه من خلفائهم متلبسون بالرفض ظاهراً وباطناً، كما قال القاضي الباقلاني من أن مذهبهم الكفر المحض. وقد أورد ابن كثير -رحمه الله- في [البداية والنهاية 11/284]: «أن المعز أُحضِر بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي، فقال به المعز: بلغني أنك قلتَ لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين [أي العبيديين] بسهم. فقال: ما قلتُ هذا. فظن أنه رجع عن قوله، فقال: كيف قلتَ؟ قال: قلتُ ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر. قال: ولم ؟ قال: لأنكم غيرتم دين الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الإلهية وادعيتم ما ليس لكم. فأمر بإشهاره في أول يوم ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضرباً شديداً مبرحاً، ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث، فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن، قال اليهودي: فأخذتني رقة عليه، فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات، رحمه الله. فكان يقال له الشهيد» أهـ

والمعز بجانب ظلمه وبطشه ورفضه كان مثقفا يجيد عدة لغات منها الطليانية والصقلية، كما عرف اللغة السودانية. وكان ذا ولع بالعلوم ودراية بالأدب، فضلا عما عرف به من حسن التدبير وإحكام الأمور (!).

قضى المعز الشطر الأكبر من خلافته في بلاد المغرب، ولم يبق في مصر أكثر من سنتين إلا قليلاً. وقد مات المعز في شهر ربيع الآخر سنة 365هـ بعد أن حكم أربعاً وعشرين سنة.

العزيز بالله (365-386هـ)

هو نزار بن المعز، ويكنى أبا منصور، ويلقب بالعزيز، وكانت ولايته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام. توفي عن اثنين وأربعين سنة، وقام بالأمر بعده ابنه الحاكم. اشتُهر عن العزيز أنه كان يستوزر اليهود والنصارى (!). فقد استوزر ابن نسطورس وأخر يهودياً اسمه ميشا. ويقول ابن كثير: فَعَزَّ بسببهما -أي ابن نسطورس وميشا- أهلُ هاتين الملتين في ذلك الزمان على المسلمين. أهـ

ويذكر د. حسن إبراهيم حسن في كتابه (تاريخ الإسلام السياسي) (3/167): «أن عهد الخليفة العزيز بالله الفاطمي عهد يسر ورخاء وتسامح ديني وثقافة (!)..» اهـ. وذكر أيضاً أن العزيز تزوج بنصرانية، وتوإلى عطفه (!) على الكنيسة القبطية.

وفي أيام العزيز تفاقم خطر القرامطة وأفتكين ببلاد الشام، وكان قد استعصى أمرهما على أبيه المعز من قبل، ولم يكد العزيز يوطد سلطته في مصر حتى وجّه عنايته لاسترداد بلاد الشام وفلسطين بعد سيطرة القرامطة عليهما، فوجّه العزيز جوهراً الصقلي إلى القرامطة وأفتكين، لكنّه هزُِم ولم يستطع استرداد الشام وفلسطين، ثم أشار جوهر على العزيز بحرب القرامطة وأفتكين بنفسه، فالتقى بجيوشهما في الرملة فهزمهم وذلك في محرم سنة 368هـ. وقبض على أفتكين لكنه عفا عنه وأغدق عليه.

ولا يخفى علينا أن العلاقة بين الإسماعيلية والقرامطة كانت وثيقة جداً في بداية نشأتهما، لكن حصلت اختلافات بينهما أدت إلى النزاع.

كان سبب انتزاع القرامطة وأفتكين الشام وفلسطين من العبيديين هو تذمّر أهلهما على مذهب العبيديين، فاضطروا إلى طلب معونة القرامطة وأفتكين ونجحوا في إسقاط حكم العبيديين على بلادهما، وحوادث دمشق مشهورة في هذا.

في عهد العزيز وجه العبيديون اهتمامهم إلى بثّ عقائد المذهب الإسماعيلي الشيعي الباطني، وأصبحت كل أمور الدولة في أيديهم.

مات العزيز ببلبيس سنة 386هـ، وهو في الرابع والأربعين من عمره. كان العزيز كريماً محباً للعفو -مع أمثاله- و كان رجلاً ممتعاً يميل إلى الأبهة، كما كان خبيراً بالجواهر، يحبّ الصيد -وخاصة السباع- وكان ذكياً أريباً مستنيراً، يجيد عدة لغات كأبيه المعز.

الحاكم بأمر الله (386-411هـ)

وهو أبو علي المنصور، ولد في شهر ربيع الأول سنة 375هـ، وعهد إليه أبوه بالخلافة من بعده في سنة 383هـ، ثم بويع بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه أبوه العزيز، وذلك في رمضان سنة 386هـ و له إحدى عشرة سنة ونصف السنة، وتولى تربيته والوصاية عليه أستاذه برجوان الخادم.

ونترك المجال للمؤرخ ابن عماد الحنبلي يحدثنا عن الحاكم في ترجمته له في وفيات سنة 411هـ. قال: «وفيها الحاكم بأمر الله..... العبيدي صاحب مصر والشام والحجاز والمغرب، فُقِدَ في شوال وله ست وثلاثون سنة، قتلته أخته ست الملك بعد أن كتب إليها ما أوحشها وخوفها واتهمها بالزنا، فدسّت من قتله وهو طليب بن دواس المتهم بها، ولم يوجد من جسده شيء، وأقامت بعده ولده، ثم قتلت طليباً وكلَّ من اطلع على أمر أخيها.

وكان الحاكم شيطاناً مريداً خبيث النفس متلون الاعتقاد سمحاً جواداً سفاكاً للدماء، قتل عدداً من كبراء دولته صبراً، وأمر بشتم الصحابة وكتبه على أبواب المساجد، وأمر بقتل الكلاب حتى لم يبق في مملكته منها إلا القليل، وأبطل الفقاع والملوخية والسمك الذي لا فلوس له، وأتى بمن باع ذلك سراً فقتلهم ونهى عن بيع الرطب، ثم جمع منه شيئاً عظيماً وحرقه، وأباد أكثر الكروم وشدّد في الخمر، وألزم أهل الذمة بحمل الصلبان والقرامى في أعناقهم، وأمرهم بلبس العمائم السود، وهدم الكنائس، ونهى عن تقبيل الأرض له ديانة وأمر بالسلام فقط وأمر الفقهاء ببثّ ذلك، واتخذ له مالكييْن يفقهانه ثم ذبحهما صبراً، ثم نفى المنجمين من بلاده وحرم على النساء الخروج، وما زلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتى قتِل. ثم تزهّد وتألّه ولبس الصوف، وبقي يركب حماراً ويمر وحده في الأسواق ويقيم الحسبة بنفسه، ويقال أنه أراد أن يدعي الإلهية كفرعون وشرع في ذلك فخوّفه خواصُّه من زوال دولته فانتهى. وكان المسلمون وأهل الذمة في ويل وبلاء شديد معه، قال ابن خلكان: والحاكم المذكور هو الذي بنى الجامع الكبير بالقاهرة بعد أن شرع فيه والده فأكمله هو، وبنى جامع راشدة بظاهر مصر وكان المتولي بناءه الحافظ عبد الغني بن سعيد، والمصحّح لقبلته ابن يونس المنجم، وأنشأ عدة مساجد بالقرافة، وحمل إلى الجامع من المصاحف والآلات الفضية والستور والحصر ما له قيمة طائلة، وكان يفعل الشيء وينقضه.

وكان الحاكم المذكور سيئ الاعتقاد كثير التنقل من حال إلى حال ابتدأ أمره بالتزيي بزي آبائه وهو الثياب المذهبة والفاخرة والعمائم المنظومة بالجواهر النفيسة وركوب السروج الثقيلة المصوغة، ثم بدا له بعد ذلك وتركه على تدرج بأن انتقل منه إلى المعلم غير المذهب ثم زاد الأمر به حتى لبس الصوف وركب الحمر وأكثر من طلب أخبار الناس والوقوف على أحوالهم، وبعث المتجسسين من الرجال والنساء، فلم يكن يخفى عليه رجل ولا امرأة من حواشيه ورعيته، وكان مؤاخِذاً بيسير الذنب لا يملك نفسه عند الغضب فأفنى رجالاً وأباد أجيالاً، وأقام هيبة عظيمة وناموساً، وكان يقتل خاصته وأقرب الناس إليه، وربما أمر بإحراق بعضهم، وربما أمر بحمل بعضهم وتكفينه ودفنه وبناء تربة عليه، وألزم كافة الخواص بملازمة قبره والمبيت عنده، وأشياء من هذا الجنس يموَّه بها على أصحاب العقول السخيفة فيعتقدون أنّ له في ذلك أغراضاً صحيحة. ومع هذا القتل العظيم والطغيان المستمر يركب وحده منفرداً تارة وفي الموكب أخرى وفي المدينة طوراً وفي البرية آونة، والناس كافة على غاية الهيبة والخوف منه والوجل لرؤيته، وهو بينهم كالأسد الضاري. فاستمر أمره كذلك مدة ملكه، وهو نحو إحدى وعشرين سنة، حتى عَنَّ له أن يدَّعيَ الإلهية ويصرِّح بالحلول والتناسخ ويحمل الناس عليه، وألزم الناس بالسجود مرة إذا ذكر، فلم يكن يذكر في محفل ولا مسجد ولا على طريق إلا سجد من يسمع ذكره وقبَّل الأرض إجلالاً. ثم لم يرضه ذلك حتى كان في شهر رجب سنة تسع وأربعمائة ظهر رجل يقال له حسن بن حيدرة الفرغاني الأخرم يرى حلول الإله في الحاكم ويدعو إلى ذلك ويتكلم في إبطال الثواب وتأوَّل جميع ما ورد في الشريعة، فاستدعاه الحاكم وقد كثر أتباعه، وخلع عليه خلعاً سنية وحمله على فرس مسرج في موكبه.... فينما هو يسير في بعض الأيام تقدم إليه رجل من الكرخ.. وهو في الموكب فألقاه عن فرسه ووالى العرب عليه حتى قتله فارتجّ الموكب..» اهـ

بعد أن هلك الحاكم العبيدي الباطني ورثه ابنه أبو الحسن الذي تلقب بالظاهر، وتولى الحكم بعد قتل أبيه بأيام. والجدير بالذكر هنا أن فرقة الدروز المارقة ظهرت بدعوة حسن بن حيدرة الفرغاني وهم يؤلهون الحاكم، والدرزية نسبة إلى أحد موالي الحاكم وهو هشتكين الدرزي.[13]

الظاهر لدين الله علي بن الحاكم العبيدي ( 411-427هـ)

ولد يوم الأربعاء في العاشر من رمضان سنة 395هـ بالقاهرة. ويذكر ابن العماد في شذرات الذهب أن أمر الدولة العبيدية بدأ بالانحطاط منذ ولايته عليها، حيث أخذ حسان بن مفرج الطائي أكثر الشام وأخذ صالح بن مرداس حلب، وقوي نائبهم على القيروان.

لم يتمتع الظاهر بالخلافة مدة طويلة -فقط سبعة عشر عاما-، فقد مرض بالاستسقاء ومات في منتصف شعبان سنة 427هـ. وكان الظاهر قد استوزر أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي -وكان مقطوع اليدين من المرفقين، قطعهما الحاكم سنة 404 هـ- فعندما علم الجرجرائي بموته أخذ البيعة لابنه أبي تميم الذي تلقب بالمسنتصر. «وكان الظاهر -كما يقول د. حسن إبراهيم حسن-: سمحاً، عاقلاً، لين العريكة، استطاع بحسن سياسته (!) أن يكسب عطف أهل الذمة ومحبتهم له (!)، فتمتعوا في عهده بالحرية الدينية. كما وجه عنايته إلى ترقية شؤون البلاد وتحسين حالة الزراعة.»[14]

المستنصر أبو تميم معد بن الظاهر (427-487هـ)

بويع له بالخلافة في يوم وفاة أبيه وكان في السابعة من عمره، وبقي في الخلافة ستين سنة وأربعة أشهر، وهذا شيء لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من بني العباس.

في أيام المستنصر حدث الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وأقام سبع سنين وأكل الناس بعضهم بعضاً، حيث انتشر الوباء والقحط في مصر، وانقطع النيل، ونكبت الأمم الإسلامية فيه من مصر إلى سمرقند.

في القسم الأول من عهد المستنصر امتد سلطان دولته على بلاد الشام وفلسطين والحجاز وصقلية وشمال أفريقيا، وكان اسمه يذاع على جميع منابر البلاد الممتدة من الأطلسي إلى البحر الأحمر. بل في بغداد نفسها حاضرة العباسيين، كان يخطب للمستنصر سنة على منابرها [15][15]. لكن هذه البلدان ما لبثت أن خرجت من سلطان العبيديين . فقد أعلنت الدولة الزيرية في سنة 36 هـ، وكذا الدولة الحمدانية سنة 39هـ ولم تأت سنة 443هـ حتى تقلص الحكم العبيدي من المغرب. وفي سنة 475هـ زالت سلطتهم من المغرب الأقصى، واستولى روجر النورماندي على جزيرة صقلية، وخلع أمير مكة والمدينة الطاعة سنة 462هـ.

في هذه الفترات انتشرت الفوضى وسادت مصر، حتى أن أربعين وزيراً تقلدوا الوزارة في تسع سنوات بعد قتل الوزير اليازوري سنة 451هـ. ثم عاد القحط وأعقبه من الوباء والموت في سنة 459هـ. وكان القحط الأول قد امتد من سنة 446هـ إلى 454هـ، وظلّت الحالة كذلك حتى سنة 464هـ. وظهرت الفتن والحروب الأهلية في مصر حتى تدارك مصر بدرُ الجمالي والي عكّا الذي استدعاه المستنصر في سنة 466هـ فأعاد النظام ووجه همه إلى الإصلاح والقضاء على المفسدين. مات المستنصر سنة 487هـ، وبويع ابنه المستعلي دون أخيه الأكبر نزار.

المستعلي أبو القاسم أحمد (487-495هـ)

عندما مات المستنصر سنة 487هـ كان قد عهد إلى ابنه الأكبر نزار، إلا أن الأفضل ابن بدر الجمالي قائد الجيوش خلع نزاراً هذا وولّى مكانه أخاه الأصغر المستعلي أبا القاسم، فثار نزار وهرب إلى الإسكندرية ودعا لنفسه وأخذ البيعة، فلحقه الأفضل وهزمه وسجنه حتى مات، واستقر الأمر للمستعلي.

لما خلع نزار لم تعترف الإسماعيلية بخلافة المستعلي وبقيت بجانب أخيه. ولما مات نزار هذا بقيت الإسماعيلية على رأيهم وأن الخلفاء من نسب نزار وليس المستعلي، وتعرف هذه المجموعة بالإسماعيلية الشرقية، ومنهم الحشاشون Assassins جماعة الحسن ابن الصباح، والذين عرفوا أيضاً بالباطنية كجزء من كلّ، وقاموا باغتيالات لشخصيات إسلامية عسكرية كانت ترابط في الجهاد ضد الصليبيين الذين استولوا على بعض أرض المسلمين. لذلك لابد هنا من الكلام عن هذه الفرقة ولو بشيء من الاختصار.

فرقة الحشاشين Assassins
كان لتأسيس جماعة الحشاشين على يد الحسن بن الصباح خطر كبير على الأمة الإسلامية في ذلك الوقت، وفي كل وقت. فقد درس الحسن ابن صباح كتب الإسماعيلية، واشترى قلعة "ألموت" الواقعة على الشاطئ الجنوبي لبحر قزوين (الخزر) وجعلها مقرّه، فمنها انطلق وبها اعتصم. وقد دخل قلعته مرة ولم يخرج إلا بعد خمس وعشرين عاماً، كان يدرس خلالها ويخطط.

لقد قامت حركة الحشاشين في اغتيال ثمانين شخصية إسلامية قيادية سُنِّيَّة، ما بين عالم وقائد عسكري مجاهد. وقد كان نظام الملك وزير ملكشاه السلجوقي أول ضحاياهم. وفي عام 523هـ ازداد خطر الإسماعيلية في مدينة دمشق -وكانت تشكل خط الدفاع ضد الصليبيين في ذلك الوقت وهم في فلسطين- ودعوا الفرنجة للحضور اليها حتى يتسلموها، وكان زعيمهم يدعى "المزدقاني"، فاكتشف أمره تاجُ الملوك -حاكم دمشق- فاستدعاه فقتله وعلّق رأسه على باب القلعة، ونودي في دمشق بقتل الباطنية، فقتل منهم ستة آلاف نفس. وعندما علم صاحب بانياس [16] بهذا -وكان إسماعيلياً باطنياً- راسل الفرنجة فسلم إليهم القلعة ورحل إلى بلادهم.

وقُتِل عماد الدين الزنكي -رحمه الله- على أيديهم أثناء حصاره لقلعة جعبر على شاطئ الفرات. وقتلوا من قبله الأمير مودود، قتلوه في دمشق يوم الجمعة بعد الصلاة في مسجدها. وقتلوا من العلماء قاضي أصفهان عبيد الله الخطيب، والقاضي أحمد قاضي نيسابور، قتلوه في شهر رمضان. ولاشك أن أيديهم امتدت في زماننا الحاضر إلى قتل بعض علماء المسلمين وقوادهم كأمثال فاضح الباطنية في وقتنا الكاتب إحسان إلهي ظهير. وإنّ محالفة الباطنيين مع أعداء المسلمين ضد المسلمين خلال التاريخ لهو أكبر دليل على عداوتهم للإسلام وولايتهم لأعداء المسلمين من يهود ونصارى وغيرهم من ملل الكفر.

يقول لويس برنارد في كتابه (الحشاشون The Assassins): «كانت هناك علاقة بين شيخ الجبل (رئيس الباطنية في الشام) وبين ملك القدس من الصليبيين وهو الكونت هنري"، و "عندما غزا سانت لويس بيت المقدس سنة 1250م تبادل الهدايا مع شيخ الجبل، وكان الصليبيون يسمونهم الملحدين، وأتت في كتاباتهم بـ Mulihet" . "وعندما مرَّ ماركو بولو Marco Polo من فارس سنة 1273م رأى قلعة وقرية "ألموت" وقال عنها أنها المقر الرئيسي للإسماعيلية» اهـ. وكان للإسماعيلية عمليات اغتيال في أوربا، فكان بعض الملوك فيها يستخدمونهم في التخلص من أعدائهم، وكانوا يطلقون كلمة رفيق على أعضائهم.

ومازال للإسماعيلية رجال يكتبون عنها ويشيدون بما فعل أجدادهم (!)، فمنهم د. مصطفى غالب، له كتاب (تاريخ الدعوة الإسماعيلية) و كتاب عن (الحركات السرية في الإسلام)، وكتاب عن الحسن بن الصباح أسماه (الطائر الحميري، الحسن بن الصباح)، وله موسوعة فلسفية حشاها بآراء الباطنيين كابن سينا والفارابي وإخوان الصفا وغيرهم ممن ينسبون إلى الإسلام. وهناك الكاتب عارف تامر له كتاب (على أبواب أَلَموت) وكتاب (الحاكم بأمر الله) وبعض التحقيقات على كتب الإسماعيليين.



قية حكّام العبيديين
جاء الآمر بعد المستعلي عام 495 هـ، وهو الذي قتل الأفضل بن بدر الجمالي قائد الجيوش عام 515هـ وقد خلفه ابنه الأكمل. ويبدو أن الآمر كان مختلفاً عن غيره من ملوك العبيدية، إذ أنه ألغى الاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة المولد النبوي ومولد فاطمة وعلي ومولد الخليفة القائم بالأمر.

في عام 524 هـ قُتِل الآمر بيد الباطنية الذين كانوا يرَوْن أنّ أولاد نزار أحق بالملك من أولاد المستعلي. وخالف الأكمل العبيديين -وكان من الشيعة الاثني عشرية- فقتلوه.

وفي عام 529هـ -أي في عهد الحافظ الذي خلف الآمر المقتول- استُوزِر بهرام الأرمني على القاهرة وكثرت الأرمن فيها.

ازدادت حدّة الخلافات بعد الحافظ بين جنود ووزراء العبيديين. وقد جاء بعد الحافظ الظاهر ثم الفائز تلاه العاضد، والذي بعهده انتهت وعضدت دولة بني عبيد الباطنية، وذلك بعد أن حكمت لمدة 260 عاماً مساحات شاسعة من بلاد المسلمين شرقاً وغرباً.

انتهت دولة العبيديين على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب -رحمه الله-، فانتهى عهد الباطنية وعادت مصر وما بقي من دولة بني عبيد إلى حظيرة أهل السنة والجماعة. ثم تابع صلاح الدين والمسلمون خلفه المسيرة الجهادية حتى فتحوا القدس وأعادوا المسجد الأقصى إلى رحاب الإسلام وذلك عام 583 هـ.[17]


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر ما نقله الطبري في تاريخه عن سبي القرامطة لنساء أهل البيت وفعلهم بهن في حوادث سنة 290 هـ

[2] سيراف ميناء قديم على الخليج العربي من جهة فارس.

[3] انتهى ما نقلناه من كتاب «التاريخ الإسلامي» ج6 ص59-100

[4] للاستزادة والتفصيل انظر تاريخ الطبري حوادث سنة 298 إلى 301 هـ

[5] الشيعة والتشيع، إحسان إلهي ظهير.

[6] انظر «الشيعة وأهل البيت» إحسان إلهي ظهير، ص294

[7] من المعروف أن الإسماعيلية هي حركة مختلفة عن التشيع تماماً، بالرغم من أنها حملت راية التشيع لآل البيت ابتداءً واستغلت شعور العاطفة لأهل البيت عند العامة، لكنها ما لبثت أن كشفت عن وجهها الحقيقي بعد أن سيطرت على مصر.

[8] Al-Isma’iliyah and the Origin of the Fatimids. The Muslim World, vol. 49, p299

[9] أي أن الجد ميمون القداح كان مجوسياً، وتهوَّد ابنه عبد الله بن ميمون، ثم أظهر التشيع.

[10] يعني إسماعيل بن جعفر الصادق؛ ثم يأتي الأئمة المستورون.

[11] الشيعة وأهل البيت لإحسان إلهي ظهير (ص283-284).

[12] الديصان ثنوي فارسي مشهور في القرن الثاني الميلادي؛ تحول إلى النصرانية بعد أن عمل منجماً في مدينة أديسا (الرها/أُرفا). ومع كونه أصبح نصرانياً فقد كان يحمل بعض المعتقدات الإلحادية والزردتشية. ويبدو أن حفيده ميمون أظهر الإسلام ولكنه تبع خطا جده ديصان في الخلط بين أكثر من دين.

[13] الشيعة والتشيع: فرق وتاريخ، للكاتب إحسان إلهي ظهير (ص236).

[14] تاريخ الإسلام السياسي (3/173).

[15] أنظر فتنة البساسيري في كتب التاريخ.

[16] مدينة قرب أرض فلسطين، وهي غير بانياس التي على ساحل الشام.

[17] لا بد لي أن أذكر هنا أني استفدت كثيراً من تعليقات الأستاذ محمود شاكر رحمه الله على هذه العجالة عندما اطلع عليها.

د.فالح العمره
15-04-2005, 11:15 PM
حضارة العرب في صقلية

وأثرها في

النهضة الأوروبية

د. عبد الجليل شلبي


--------------------------------------------------------------------------------

ترجع صلة العرب بصقلية إلى عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد أرسل إليها سميّه معاوية بن خديج الكندي، فكان أول عربي غزاها، ثم لم تزل تغزى حتى فتحها الأغالبة، وكان معاوية بن أبي سفيان، كما قال البلاذري، يغزو براً وبحراً، وهو أول من أسس أسطولاً إسلامياً، ووجه إلى صقلية أيضاً عبد الله بن قيس بن مخلد الدزقي فأصاب منها أصنام ذهب وفضة مكللة بالجواهر، ووجه بها معاوية إلى البصرة ثم إلى الهند لتباع هناك، وأغزى جنادة بن أمية الأزدي أيضاً جزيرة رودس ففتحها، وأقام المسلون بها سبع سنين في حصن اتخذوه لهم. وقد استرد يزيد بن معاوية جيش المسلمين وعادت الجزيرة الكبرى صقلية وما حولها إلى الحكومة البيزنطية. وكان من حسنات معاوية أنه أقام في الجزر التي فتحها جاليات إسلامية، وبنى فيها مساجد، وترك مقرئين يعلمون ويقرئون القرآن، هذا مع أن فتوحه كانت جزئية.

وتوقفت غزوات المسلمين البحرية بعد معاوية، وشغلت الدولة بحروب داخلية مدة كبيرة، ولما هدأت الأحوال بها لم يكن غزوها البحري نشيطاً، وكانت نهاية موسى بن نصير نهاية له وللإسلام وللدولة الإسلامية، ولكن البحريين من المسلمين في الشرق وفي إسبانيا ناوشوا جزر البحر الأبيض وشواطئ أوروبا، ولم تأت أعمالهم بفتوح ذات قيمة تاريخية ولكنهم لفتوا أنظار هذه البلاد إلى قوة العرب..

فتح صقلية..

كان قد مضى على صقلية ثلاث قرون وهي تحت حكم الدولة البيزنطية، وكانت سنين عجافاً سادها الفقر الفكري، وترتب على سيادة الجهل وجمود الأذهان: تفرق بين السكان، فكان كبار الملاك والتجار يتبادلون المكايد وينشطون في دس الدسائس وبث أسباب العداء، وكان من بين هؤلاء الكبار في المال والصغار في النفس رجل يدى إيو فيموس (Euphemius) وكان مغيظاً من حاكم الجزيرة، فرأى الانتقام منه أن يستعين بالأمير الأغلبي الثالث، وهو زيادة الله، في غزو الجزيرة والقضاء على الحكم البيزنطي كله. وتردد الأمير الأغلبي في بادئ الأمر في غزو بلد مهادن له، وكان على رأسه القاضيان المسنان: ابن الفرات وأبو محرز. وكان ابن الفرات متحمساً لهذا الغزو مستدلاً بالآية القرآنية: »فلا تهِنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلونَ والله معكم ولن يتركم أعمالكم«. وكان ابن الفرات فقيهاً مالكياً طالت رحلته وتنقلاته في الشرق، وتلقىالفقه المالكي والحنفي، وجعل من مدونتي مالك وابن القاسم وآرائه الخاصة مدونة فقهية باسمه، وكان أيضاً محارباً شجاعاً، ورأى زيادة الله أن يجعله على رأس هذه الحملة، ويظهر أن إخلاصه في الجهاد أضفى على الجيش كله روح التضحية وحب الاستشهاد. ووصل الجمع إلى ميناء مزارا التي في جنوب الجزيرة، فألقى ابن الفرات فيهم خطبة لم تشر إلى شيء من الحرب والغنائم كما فعل طارق بن زياد عندما نزل جيشه بأرض الأندلس[1]، بل حثهم فقط على التقوى وتحصيل العلوم.

استهل خطبته بالشهادة، وأقسم لجيشه أنه ما كان من آبائه من ولي جيشاً، ثم قال: »فأجهدوا أنفسكم، وأتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه، وكاثروا عليه واصبروا على شدته، فإنكم تنالون به خيري الدنيا والآخرة..« والخطبة بوجه عام توحي بالزهد، وتؤذن بأن الدنيا تخضع لذوي العلم والدين.

لم يكن فتح هذه الجزيرة هيناً ولا سريعاً، مع أن الحملة كان بها سبعون سفينة عليها عشرة آلاف مقاتل، وسبعمائة فرس، ولكنها اعتمدت على الحصار، وشقت طريقها إلى باليرمو Palermo، فاتخذها عاصمة، وهي في مستعمرة فينيقية، فجعلوها قاعدة حربية توجه منها الحملات، وأخذت الجزيرة تسقط تدريجياً في أيديهم، ولم يتم فتحها نهائياً إلا في العهد الفاطمي.

صقلية بعد الفتح..

صارت صقلية بعد فتحها إمارة أغلبية، يتولى أمرها والٍ من قبلهم، وكان الأغالبة في نزاع ومناوشات مستمرة مع الدولة الفاطمية[2] التي نشأت بالمغرب، وتريد الزحف نحو الشرق، وكان هناك أقوى بين المذهبين السني والشيعي، وكان ذلك ينعكس على جزيرة صقلية، وكان بين سكانها نزاع بين العرب والبربر من قبل.

ونوجر القول فنقول: إن الفاطميين تغلبوا على بني الأغلب في إفريقية، وحلوا محلهم في متسهل القرن الحادي عشر الميلادي، ثم انتزعوا منهم صقلية، وهي على انقسامها وتفرقها، فاضطروا إلى إعمال الشدة، فشهدت الجزيرة أياماً قاسية سوداً، حتى عين الخيلفة المنصور الفاطمي الحسنَ بن علي بن أبي الحسن والياً عليها، فبدأ عهداً جديداً عرف بعهد الكلبيين، والذي امتد قرناً من الزمان، كانت الدولة فيه كلبية فعلاً وإن لم تنقطع عن الفاطميين، ولم يدم هذا العهد طويلاً، ولسنا بسبيل الأسباب التفصيلية لسقوط الكلبيين، غير أن نهاية عهدهم كانت بداية فوضى واضطراب، وتقسمت الجزيرة الصغيرة إلى دويلات وأشتات قبائل وأحزاب، وعادوا جميعاً بعد الإسلام كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعضهم. وكان بين رؤوسهم رجل يدعى ابن الثمنة ففعل فعلة أيو فيميوس وطلب تدخل النورمانديين، فوجدوا الجزيرة فريسة سهلة، فاستولوا عليها وضموها إلى جنوب إيطاليا، وبذا انتهى العهد الإسلامي في هذه الجزيرة بعد قرنين ونصف قرن أو ما يزيد عن ذلك ببضعة عشر عاماً.

وكان موقف المسلمين في صقلية كموقف المسلمين في إسبانيا، إذ ترقبوا نجدة من الدول الإسلامية، وعلى الأخص بني زيري الذين خلفوا الفاطميين على غرب إفريقية، ولكن لم يمد أحد لهم يد المساعدة، فاضطروا إلى التسليم والاستسلام.

أثر الفتح الإسلامي لصقلية
دخل النورمانديون صقلية فأدهشهم ما نقلها المسلمون إليه من رقي وحضارة. لقد بذلوا جهداً في ترقيتها في كل جوانب الحياة حتى بدا الفرق بينها وبين الدول التابعة لبيزنطة بعيداً جداً، شيدوا مبانٍ عظيمة، ونشطوا وسائل التجارة، وعملوا على استصلاح الأراضي وزرعها، وأدخلوا أنواعاً من النباتات ومن الحيوانات لم يكن للأوروبيين بها عهد ولا علم، إلى جانب ذلك كله وجدوا فنوناً راقية وأدباً عالياً، وعديداً من المساجد بها حلقات التعليم، تبدأ بتعليم الكتابة العربية والقرآن الكريم، وتنتهي بدراسات عليا في علوم كثيرة دينية وغير دينية. وهكذا تقدم ورقي في كل شيء. إن الفرق واسع جداً بين ما وجد العرب صقلية عليه بعد خروج البيزنطيين، وبين ما وجدها عليه النورمانديين بعد خروج المسلمين.

كان النورمانديين على حظ من الذكاء، وقد عرفوا به من قبل، لهذا لم يفعلوا بآثار المسلمين ما فعل بها الإسبان. فهناك –وهذا بعد تنصير صقلية بزمن بطويل- أفتى القسس بأن المسلمين رجس وآثارهم نجس لا يطهره إلا إحراقه بالنار، حتى الجدران أفتوا بهدمها وإحراقها، وبهذا تأخرت حضارة إسبانيا ثمانية قرون حقاً، أما هؤلاء فرأوا الإبقاء والمحافظة على حضارة العرب، وحاكوهم واستفادوا من كل ما تركوا إلا الدين الإسلامي، فقد كانت عداوة الإسلام، وعلى الأصح، كانت الصورة التي قرّت في أذهانهم عنه مما يصعب محوه، ولكن حضارة صقلية ظلت في تقدم لمدة طويلة بعد، وظلت مظاهر الحياة العربية بادية عليها، ولو تقبل النورمانديون الإسلام واتخذوه ديناً لكان عهد هذا الازدهار الحضاري أطول زمناً وأبقى.

العهد العربي النورماندي
أطلق على هذا العهد اسم »العهد العربي النورماندي«.. ذلك لأن مظاهر الحياة العربية ظلت بادية على كل شيء فيه حتى على حياة الملوك والحكام، وحتى على كنائس النصارى ومنازلهم، وعلى نسائهم وأطفالهم، واستمر ذلك كله أكثر من قرن ونصف القرن، وحقق ذلك ما قيل من أن المسلمين انتصروا في ميدان العلم والحضارة حين هزموا في ميادين الحرب والأعمال العسكرية.

وقبل أن نوضح جوانب هذا الانتصار، نشعر بسؤال تعجبي يبدوا أمامنا يضطرنا أن نوضح إجابة أولاً:

كيف حقق المسلمون ذلك كله وعهدهم كان مليئاً بالنزاع والخلافات المذهبية والعنصرية؟ وقد حكموا مدة لم تكمل ثلاثة قرون بثلاثة أنواع من الحكومات، أو على وجه الدقة بأربعة، وكانت كل حكوممة تخالف الأخرى وكل واحدة لها أتباع يتعصبون لها ضد الآخرين؟

هناك أمران جديران بملاحظة كل مؤرخ أو باحث في تاريخ صقلية:

أولهما: أن هذه الجزيرة فتحت باسم الدين الإسلامي، وأول وصاة من أول قائد كانت تدعو إلى العلم وتحصيله، وظل حكامها المختلفون المتنازعون يعملون على التوسع في بناء المساجد وتشجيع الدعوة الإسلامية بمعناها الواسع الكبير، فلم يكن ثمة عائق للحركة العلمية واستمرار الآداب والفنون في ازدهارها، ولم يملوا الإقامة في صقلية إلا في الأيام الأخيرة، وقبيل الغزو النورماندي.

والأمر الثاني: أن المسلمين دخلوا هذه الجزيرة وهم في أوج ازدهارهم ورقيهم الحضاري، وكان المشارقة قد ترجموا من علوم الأمم الأخرى، ودرسوا وابتكروا شيئاً كثيراً، فكانت البلاد الأوروبية التي دخلها المسلمون تتلقى ثماراً ناضجة وعلوماً قد آتت أكلها في جوانب الفكر والحضارة، ولم تكن صقلية منقطعة عن الشرق، كما لم تكن إسبانيا منقطعة، بل كانت رحلات الحج وطلب العلم ولقاء العلماء مما يغذي تيارات الثقافة بها، فطل النشاط الثقافي والحضاري بها مستمراً متجدداً.

وقد أعطانا ابن حوقل الذي زار باليرمو في عهد الكلبيين صورة عما شاهده فيها من كثرة المساجد، فقال: »إنها كانت نيفاً وثلائمائة مسجداً، وإنه عد في مساجد السنيين ستة وثلاثين صفاً، في كل صف نحو مائتي شخص، وكان بمدارسها العمومية ثلاثمائة مدرس، كانوا يمتازون بالصلاح والتقوى، ومن أعظم الناس رقياً وحسن مظهر.« كما ذكر: »أنه كان بجوار مسجد الشيخ القفصي –الفقيه المالكي- فرأى على مقدار رمية سهم نحو عشرة مساجد يدركها بصره، وبعضها في مقابلة الآخر لا يفصلها إلا عرض الطريق، وعلم أن القوم لتباهيهم وتفاخرهم كان كل واحد يحب أن يكون له مسجد باسمه، وربما كان أخوان دورهما متلاصقة، ولكل واحد منهما مسجده الخاص به«، وكثرة المساجد استلزمت كثرة الدراسة وسعة التعليم مما جعل بعض الباحثين يؤكد أن صقلية الإسلامية لم يكن فيها شخص أمي لا يقرأ ولا يكتب أو يحفظ حظاً من القرآن، وهذا سر ما نجده من كثرة العلماء وما نقرؤه من أسماء من ينتسبون إلى صقلية..

النورمانديون.. أنصار الثقافة العربية
ورث النورمانديون هذه الحضارة فلم يسعهم إلا الخضوع لها والاقتباس منها، وبرز بين الحكام أنصار الثقافة العربية (روجر الأول) فاتح الجزيرة، وابنه (روجر الثاني)، وسماهما ابن خلدون في تاريخه باسم (روجار)، والملك (فريدريك الثاني ووليم الثاني).

لم يكن روجر الأول مثقفاً ولكن كان ذا تسامح، ورأى أن يستفيد من المسلمين في كل شيء وجده، فكان في جيشه عدد من المسلمين يكون غالبيته، وكان حوله من المسلمين فلاسفة وأطباء، وكان بلاطه بلاط ملك شرقي، وكان كثير من كبار موظفيه مسلمين. وكان روجر الثاني يلبس ملابس المسلمين، ويطرز رداءه بحروف عربية، وكانت هذه ظاهرة شائعة، ولكن خصومه وصفوه بأنه نصف وثني، يعنون نصف مسلم! وجرى حفيده وليم الثاني علىنهج أسلافه، ولكن أسمى ازدهار للحضارة العربية كان أثناء حكم روجر الثاني.

كان الإدريسي، صاحب كتاب »نزهة المشتاق في اختراق الآفاق« يعيش في بلاطه ويحظى برعايته وتشجيعه، وقد سمى كتابه هذا باسم »الروجري«. والإدريسي من مشهوري الجغرافيين والرسامين للخرائط، ولا ينافسه أحد في هذا الميدان خلال العصور الوسطى كلها. وقد صنع لروجر كرة سماوية وخريطة للدنيا على شكل كرة، وكلاهما من الفضة.

وبنى روجر الثاني كنيسة في باليرمو زخرفَ سقفها بنقوش كوفيه. وكانت النساء النصرانيات يلبسن الملابس الإسلامية، وكان الصناع العرب والزراع العرب والملاحون العرب يقومون بكل الأعمال التي تتطلبها حال الدولة، ولم يكن عجيباً بعد هذا أن يفد رواد الدراسة الاستشراقية من أوروبا إلى صقلية، وأن تتبوأ هذه الجزيرة زعامة البحر الأبيض، وكل ذلك بفضل العرب فلاسفة وعلماء وعمالاً.

أما فريدريك الثاني – حفيد روجر الثاني – فكان أبرز وأعجب ملوك صقلية. كان وريث عرش ألمانيا من قبل أمه، ووارث الملك في صقلية من قبل أبيه وعن طريق زواجه من الأميرة إيزابيلا ولية عهد أبيها في ملك بيت المقدس – تلك المملكة التي نشأت أثناء الحروب الصليبية- صار أيضاً ملك بيت المقدس، ثم هو شأن النورمانديين جميعاً إمبراطور لإيطاليا، وكان يسمى إمبراطور الدولة الرومانية المقدسة. وقد شارك في الحروب الصليبية بغية الحكم والسيادة، ولكن اختلاطه بالمسلمين في الشرق جعله يوليهم تقديراً واحتراماً أكثر، وجعلت العادات والمظاهر الشرقية تتأصل فيه وفي دولته.

كان بعد حلمته الصليبية الفاشلة على صلة بخلفاء صلاح الدين، وكان هو والملك الكامل محمد يتبادلات الهدايا، ولم تخل سيرته من غرابة، أهمها: أنه كانت يجمع بين الأعمال الجادة النافعة والأعمال اللاهية التي لا طائل وراءها غير الأبهة والتباهي. كان في بلاطه عدد من الفلاسفة وفدوا من الشرق، وكانوا ذوي لحى طويلة وملابس فضفاضة، وكان الناس يحاكونهم في زيهم وسائر مظاهر حياتهم، وكان في بيته راقصات يهوديات من الشرق، وكان له مجموعة من الحيوانات النادرة ومن الطيور، وكان كلفاً بها حتى إنه يصطحبها في تنقلاته في أوروبا وحين يرحل من صقلية إلى ألمانيا. ولكن هذا اللهو لم يخل من وجهة نظر علمية، فقد أحضر من سورية مدربين للصقور التي لديه، ولكنه قام بتجربة علمية إذ ذاك، وهي تغطيته أعين الصقور بغطاء محكم ليرى مدى اهتدائها بحاسة الشم، وكان يقرأ الفلسفة والرياضة والفلك، ولما صادفته مرة مسائل معضلة فيها ولم يستطع حلها، أرسلها إلى السلطان الكامل الأيوبي طالباً للحل أو معجزاً لعلمائه، ولكن بعض العلماء المصريين حلها حلاً شافياً، وأضيف هذا إلى ما أخذ الغرب عن الشرق. وطلب مرة أخرى علماء مصريين ليجربوا تجارب على بيض النعام كي يمكن تفريخه وفقسه على حرارة الشمس، وترجمت له كتب عربية وفارسية في تدريب الصقور، وأخرج هو نفسه كتاباً عنها، كما ترجمت له كتب أرسطو عن الحيوان والنبات، وشروح ابن سينا عليها. وهكذا كان هذا الملك جاداً في لهوه، ولم يكن يعبث فيما يعمل ولا يجعل عمله لمجرد الإمتاع.

كان عصر هذا الإمبراطور يمثل فجر النهضة الأدبية في إيطاليا، وهي بداية النهضة الأوروبية كلها. وكنا نود من هذا الملك الحصيف بعد ما رأى من ثمار التسامح مع المسلمين ألا يحدث منه اضطهاد ينغصهم وينغص سيرته، ولكنه لم يستطع التخلص من التيارات التي كانت تعاصره، ولا من سيطرة الروح الصليبية عليه.

الخلاصة
ومهما يكن من أمر صقلية فإنها أسهمت بحظ وافر في نقل العلوم الشرقية إلى الغرب وكانت مركز ترجمة نشيطة، وبحكم موقعها وتاريخها كانت ملتقى أجناس ولغات، وسادت فيها اللغات الحية إذ ذاك الواسعة الانتشار، اليونانية واللاتينية والعربية، وكانت بها يهود مترجمون أيضاً على نحو ما كان في طليطلة. وفي صقلية ترجم المجسطي من اليونانية إلى اللاتينية مباشرة، وترجم في الأندلس من العربية. وفيها ترجم كتاب البصريات الذي كان بطليموس أخرجه في الاسكندرية، وفيها ترجمت كتب أدبية أخرى. وتوج فريدريك الثاني أعماله الجميلة بتأسيسه جامعة نابل في إيطاليا الجنوبية وأودعها مجموعة كبيرة من كتبه الخاصة، ودرست فيها مؤلفات ابن رشدج، وهذا عمل له قيمته، لأن أوروبا عادت فلسفة ابن رشد مدة طويلة، وقيمة جامعة نابل أنها أول جامعة رسمية، وكانت الجامعات الأخرى إلى ما بعد ذلك العهد جامعات أهلية تابعة للأديرة والكنائس، وكانت تقوم على التبرعات والهبات، أما جامعة نابل فقد نشأت ملكية مشمولة برعاية إمبراطور عالم، واستعارت منها بعض الجامعات الأخرى، وعلى الأخص جامعة باريس ما لديها من التراجم التي أمر بها فريدريك، ومن الذين تخرجوا في هذه الجامعة توما الإكويني، وأثره معروف في نشر الفلسفة والثقافة الشرقية في أوروبا.

ويكفي صقلية، وهي جزيرة صغيرة بجانب إسبانيا الواسعة، أن تكون قد أسهمت في نقل الحضارة الشرقية إلى الغرب، وأن يكون لها نصيب غير خفي في إيقاظ أوروبا العصر الوسيط من سباتها العميق، وأن تكون برزخاً في نقل جزء كبير من حضارة الشرق إلى الغرب.

هذا، وأخبار صقلية مبعثرة في مصادر كثيرة عربية، بعضها يكمل بعضاً، أو يوضح ويفصل ما أجمله الآخر، وقد جمع المستشرق الصقلي ميكي أماري أخبارها مستوفاة في مجموعة أسماها »تاريخ مسلمي صقلية«، ويقوم على درس هذه الحقبة من تاريخ هذه الجزيرة الآن الأستاذ أمبرتو ريزيتانو، وتنبئ كتابته وكتابة أماري عن المجهود الجبار الذي بذله كل منهما في قراءة الموسوعات العربية حتى خرجا بهذه المعلومات الدقيقة القيمة، وكل منهما أنصف المسلمين وأنصف أعمالهم النافعة، وما أخذاه على المسلمين نشاركهم أيضاً في مؤاخذتهما به، أخذا عليهم تفرقهم وميلهم إلى الأثرة، وحبهم مصالح أنفسهم أكثر من مصالح أوطانهم، وأخذا عليهم كما أخذ مستشرقون منصفون أنهم بعدوا بسرعة عما لهم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أنهم بوجه عام خالفوا الإسلام الذي بنى نهضتهم وحضارتهم، فسلبوا العزة التي جاءت بسببه، وهو كلام أولى أن يقوله المسلمون.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 27، ربيع الأول 1403هـ

--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر: »المنطلق الأساسي في التاريخ الإسلامي – خطبة طارق بن زياد« في الفسطاط.

[2] انظر: »لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية« في الفسطاط.

د.فالح العمره
15-04-2005, 11:16 PM
محمد الفاتح

وملحمة القسطنطينية الخالدة

بقلم: خليل حسن فخر الدين


--------------------------------------------------------------------------------

مولده وحكمه وشخصيته [1]

ولد محمد الثاني بن مراد الثاني بن محمد الأول في 26 رجب سنة 833 هـ (20 نيسان/أبريل 1429م)، وتولى الحكم في سنة 1451م وهو شاب لم يتجاوز عمره اثنتين وعشرين سنة وحكم لمدة ثلاثين سنة (1451-1481م). واشتهر في التاريخ بلقب محمد الفاتح لفتحه القسطنطينية، وهو من بين الفاتحين في التاريخ العالمي في هذه السن المبكرة، ومن بناة الحضارة الراقية والمجد الرفيع.

ورث محمد الفاتح دولة قوية واسعة، ولكنها لم ترض نفسه الطموح بأن يكتفي بأمجاد أسلافه، ويعيش في رفاهية ونعيم بل صمم على أن يزيد أمجاداً جديدة إلى أمجادهم الإسلامية بفتوحه في أوروبا وآسيا الصغرى، ويتوج تلك الأمجاد وأمجاد الإسلام عامة بتحقيق حلم راود المسلمين مدة ثمانمائة عام[2]، وهو فتح القسطنطينية، عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، العدوّة القديمة للإسلام والمسلمين منذ عهدهم الأول. وكان هذا الفتح أقسى ضربة سددها الإسلام في وجه أوروبا النصرانية في تاريخها الطويل على يد هذا الفاتح، ومن ثم نرى معظم المؤرخين الغربيين ينالون من محمد الفاتح وينعتونه بأبشع الصفات، ولم يشذ عنهم حتى المستشرق الإنجليزي المعتدل (لين بول Lane Poole)، وهو محض افتراء وبهتان، لم يدفعهم إليه إلا الحنق والغيظ لمحو اسم الدولة البيزنطية وريثة الإمبراطورية الرومانية من خريطة التاريخ إلى الأبد.

كان السلطان محمد الفاتح عبقرية فذة من عبقريات الإسلام، فلم يكن مجرد فاتح مغوار وقائد عسكري مظفّر، بل كان يجمع بين صفات القيادة العسكرية الموفقة وبين الثقافة العلمية الرفيعة [3]، يقود الجيوش، ويفتح المدن والدول، ويتذوق العلوم والآداب والفنون بمختلف أنواعها ويقدرها ويرعاها وينشئ ويعمر. ولقد أشاد بذكره المؤرخون المسلمون المعاصرون له كابن تغري بردين وابن إياس، والسخاوي، والسيوطي، وابن العمادالحنبلي، فيما كتبوه من ترجمته في مؤلفاتهم التاريخية العامة، وأثنوا عليه ثناء عاطراً، ونوهوا بفتوحه وعلمه. فمن ذلك ما قاله المؤرخ ابن إياس عندما بلغه نبأ وفاته: »وفي ربيع الأول جاءت الأخبار بوفاة السلطان المجاهد الغازي صاحب القسطنطينية وهو محمد بن مراد بن محمد.. وانتشر ذكره بالعدل في سائر الآفاق، وحاز الفضل والعلم والعدل والكرم الزائد وسعة المال وكثرة الجيوش والاستيلاء على الأقاليم الكفرية وفتح الكثير من حصونها وقلاعها..«.[4]

فتح القسطنطينية
قبل التعرض لفتح القسطنطينية أراد السلطان محمد الثاني أن يحصن مضيق البوسفور حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون [5] وذلك بأن يقيم قلعة على شاطئ المضيق من جهة أوروبا تكون مقابلة للحصن الذي أنشأه السلطان بايزيد ببرّ آسيا. ولما بلغ ملك الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيراً يعرض عليه دفع الجزية التي يقررها فرفض راداً ذلك للتعديات التي كانت تحدث من قبل الروم على الجنود العثمانيين وتقتل بعضاً منهم، فحاصر السلطان المدينةفي أوائل نيسان/أبريل 1453م من جهة البر بجيش يبلغ المائتين وخمسين ألف جندي، ومن جهة البحر بعمارة مؤلفة من مائة وثمانين سفينة، وأقام حول المدينة أربعة وعشرين بطارية مدفعية كانت تقذف كرات من الحجر إلى مسافة ميل. وفي أثناء الحصار اكتشف قبر أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي استشهد في حصار القسطنطينية في سنة 52 هـ في خلافة معاوية بن أبي سفيان. وبعد الفتح بنى له مسجداً جامعاً وما يزال قائماً، وجرت العادة بعد ذلك أن كل سلطان يتولى الحكم يتقلد سيف عثمان الأول الغازي بهذا المسجد.

ولما شاهد قسطنطين آخر ملوك الروم هذه الاستعدادات استنجد بأهل جنوة [6] فأرسلوا له عمارة بحرية تحت إمرة جوستنياني ، فأتى بمراكبه، وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فلقي معارضة شديدة، انتهت بفوزه ودخوله الميناء بعد أن رفع جنوده السلاسل الحديدية التي وضعت لمنع المراكب العثمانية من الوصول إليها، ثم أعيدت بعد مروره كما كانت.

بعدها أخذ محمد الفاتح يفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار براً وبحراً، فخطر بباله أن ينقل المراكب إلى البر ليجتازواالسلاسل الموضوعة لمنعه،وتم هذا الأمر بأن مهد طريقاً إلى البر رصّت فوقه ألواح من الخشب صبت عليها كميات من الزيت والدهن لسهولة زلق المراكب عليها، وبهذه الطريقة أمكن نقل سبعين سفينة في ليلة واحدة حتى أصبح النهار، ونظرها الروم، أيقنوا أن لا مناص من نصر العثمانيين عليهم.

أرسل السلطان محمد إلى قسطنطين يخبره أنه لو سلم البلد إليه طوعاً يتعهد له بعدم مس حرية الأهالي أو أملاكهم، وإن يعطيه جزيرة موره، فلم يقبل قسطنطين بذلك.

أمر الفاتح جنوده بالصيام قبل الهجوم بيوم لتطهير نفوسهم وتزكيتها، ثم قام بزيارة للسور وتفقد الأسطول، وفي تلك الليلة تعالت أصوات التكبير والتهليل، ورتلت آيات الجهاد على مسامع الجند، ودوت الأناشيد الإسلامية الحماسية.. ودعا الفاتح قادة جيشه، ثم خاطبهم قائلاً:

»إذا ثم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد به هذا الحديث من التقدير.. فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً أن الظفر العظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم ديننا الحنيف نصب عينيه، فلا يصدر عن واحد منهم ما ينافي هذه التعاليم، وليتجنبوا الكنائس والمعابد، ولا يمسوها بسوء بأذى، وليدعوا القساوسة والضعفاء الذين لا يقاتلون..« [7]

وظل الجند المسلمون طوال الليل يهللون ويكبرون حتى إذا لاح الفجر صدرت إليهم الأوامر بالهجوم، فتسلقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل فج، وأعملوا السيف فيمن عارضهم، ودخلوا كنيسة آيا صوفيا حيث كان يصلي فيها البطريق وحوله عدد من الأهالي، أما قسطنطين فقاتل حتى قتل، فدخل عندئذ محمد الفاتح إلى قصر الإمبراطور، وعمت بشائر الفتح في جميع العالم الإسلامي، إذ كتب الفاتح إلى السلطان المملوكي الأشرف إينال وإلى شريف مكة، كما أرسل إليه بعض الهدايا من الغنائم والأسرى، وأقيمت في مصر الزينات والاحتفالات لمدة ثلاثة أيام ابتهاجاً بهذا الفتح حسب كلام المؤرخ ابن تغري بردي.

بعد ذلك زار السلطان محمد كنيسة آيا صوفيا، وأمر بأن يؤذن فيها بالصلاة إعلاناً بجعلها مسجداً للمسلمين[8]، وأصدر أوامره بمنع كل اعتداء، وبأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة النصارى، بل يضمن لهم حرية عقيدتهم، وحفظ أملاكهم فرجع من هاجر منهم وأعطاهم نصف الكنائس وجمع أئمة دينهم لينتخبوا بطريقاً يكون رئيساً لطائفتهم.

محاولات العرب لفتح القسطنطينية
ولنذكر هنا أن المسلمين حاصروا القسطنطينية إحدى عشرة مرة قبل هذه المرة الأخيرة التي تم فيها فتحها، منها سبعة في القرنين الأولين للإسلام، فحاصرها معاوية بن أبي سفيان في خلافة الإمام علي بين أبي طالب رضي الله عنه سنة 34 هـ (654م)، وحاصرها يزيد بن أبي معاوية سنة 47 هـ (667م)، وحاصرها سفيان بن أوس في خلافة معاوية سنة 52 هـ (672م)، وفي سنة 97 هـ (715م) حاصرها مسلمة بن عبد الملك في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفي المرة السابعة حاصرها أحد قواد الخليفة العباسي هارون الرشيد سنة 182 هـ (798م).

نتائج هذا الفتح
لم يكن فتح القسطنطينية أمراً سهلاً كما يحلو لبعض المؤرخين أن يصوروه بسبب ضعف الدولة البيزنطية، والانشقاق الكنسي في الشرق والغرب، بل الحق يقال: إن الجنود الإسلاميين بذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل ذلك، وقاموا بالتضحية والفداء حتى تم لهم النصر المبين، كما أن السلطان محمداً أعدّ كل ما يمكن من الوسائل العسكرية الناجحة، ولم يشك لحظة في ثقته بنصر الله عز وجل حتى تم له ذلك، وصدق المؤرخ الفرنسي الشهير (كارادي فو Carra De Vaux) في قوله بهذا الصدد: »إن هذا الفتح لم يتيسر لمحمد الفاتح اتفاقاً، ولا تيسر بمجرد ضعف الدولة البيزنطية، بل كان هذا السلطان يدبر التدابير الللازمة له من قبل ويستخدم له ما كان في عصره من العلم.« [9]

وكان من آثار هذا الفتح أن اتحد كلا القسمين الجنوبي والشمالي، الآسيوي والأوروبي للدولة الإسلامية العثمانية، وتحولت العاصمة من أدرنة إلى القسطنطينية التي سميت بأسماء عدة: إسلام بول (أي مدينة الإسلام)، ودار السعادة، واسمها الرسمي الآستانة، وفي العهد الكمالي قرر اسمها رسمياً إستنبول ولا تزال.

وأصبحت القسطنطينية بعد ذلك قاعدة للأعمال العسكرية في الشرق والغرب، وامتد النفوذ الإسلامي إلى شواطئ البحر الأسود الشمالي وكييف (حالياً في روسيا) [10] وإلى المجر واليونان وسواحل البحر الأدرياتيكي الشرقية، وإلى شرقي البحر الأبيض المتوسط.

وفاة محمد الفاتح
هكذا وبعد ثلاثين سنة من الحروب المتواصلة للفتح وتقوية الدولة وتعميرها، فاجأ الموتُ السطانَ محمد الفاتح في 4 ربيع الأول 886 هـ/3 مايو 1481م في أُسكُدار في معسكره وبين جنوده، إذ كان قد أعد في هذه السنة إعداداً قوياً لحملة لا يعرف اتجاهها لأنه كان شديد الحرص على عدم كشف مخططاته العسكرية حتى لأقرب وأعز قواده. وقد قال في هذا الصدد عندما سئل مرة: »لو عرفته شعرة من لحيتي لقلعتها.«

وهذه السرّية العسكرية التامة، مع الإيمان الصادق، كانت سر نجاحه في كثير من حملاته وفتوحه، ودفن في الضريح الذي شيده في جامعه بالقسطنطينية المعروف بجامع الفاتح، بينما غلبت روح الكآبة والحزن على الأتراك لفقدهم سلطانهم الحبيب وعمّ العزاء والرثاء في العالم الإسلامي لموت هذا المجاهد المسلم.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 21، رمضان 1402 هـ


--------------------------------------------------------------------------------

[1] أفاض المؤلفون الغربيون في الكلام عن حياته وألفوا في سيرته، من أقدم هذه المؤلفات كتاب المؤلف الفرنسي في القرن السابع عشر الميلادي (جوييه)، وفي اللغة العربية كتابان عنه: »أبو الفتح السلطان محمد الفاتح وحياته« للقاضي التركي علي همت الأفسكي، ترجمة محمد إحسان بن عبد العزيز – القاهرة 1953م ، و»محمد الفاتح« للدكتور سالم الرشيدي.

[2] في الأصل »ألف عام« ولعله غلط في الطباعة. (الفسطاط)

[3] كان مولعاً بقراءة كتب التاريخ والسير ومكرماً للعلماء – انظر كتاب علي همت الأفسكي، وكتاب الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية لطاشكبري زادة.

[4] بدائع الزهور في وقائع الدهور أو تاريخ مصر ج2 ص204. ومثل ذلك ما كتبه ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة ج7 ص 357-437، وكتابه الآخر حوادث الدهور ج2 ص 298-299، ج3 ص 448-449، السخاوي في الضوء اللامع ج10 ص47، والشوكاني في البدر الطالع ج2 ص 269، وابن العماد الحنبلي ج7 ص 344-345.

[5] مدينة قديمة بآسيا على البحر الأسود تبعد 140 كلم عن مدينة أرضروم، ويظن أنها معاصرة لمدينة طروادة الشهيرة.

[6] جنوة مدينة قديمة جداً يقال أنها أنشئت سنة 707 قبل الميلاد واستولى عليها الرومانيون. فتحها شارلمان الفرنسي. نافست جمهوريتي بيزا والبندقية. تقهقرت شيئاً فشيئاً فدخلت تارة في حمى إسبانيا وطوراً في حمى فرنسا. بعد سقوط نابليون الأول سنة 1815م ضمت إلى لومبارديا، وهي الآن تابعة لإيطاليا.

[7]الدكتور علي حسون في كتابه تاريخ الدولة العثمانية ص 300 وما بعدها. ألا يذكرنا هذا بوصية سيدنا الصديق رضي الله عنه لجيوش الفتح الإسلامي التي وجهها؟

[8] الأمير شكيب أرسلان: حاضر العالم الإسلامي ج 1، ص 220، نقلاً عن كتاب : مفكرو الإسلام، تأليف كارا دي فو الفرنسي.

[9] المصدر السابق.

[10] وهي الآن في جمهورية أوكرانيا. (الفسطاط)

د.فالح العمره
15-04-2005, 11:56 PM
ملحمة القصر الكبير

بقلم: أنور عبد العزيز الحمدوني


--------------------------------------------------------------------------------

في زمن كانت فيه الجيوش الصليبية تغير على الطرف الشرفي لدار الإسلام، فتحتل، وتنهب، وتشر، وفي زمن كانت فيه البرتغال، أقوى إمبراطورية في العالم، إلى جانب إسبانيا حيث تمتد رقعتها إلى مناطق شاسعة من العالم، في هذا الزمن حين بلغ الصليبيون قمة قوتهم، فكان لا بد –في نظرهم- من كسر شوكة الإسلام في جناحه الغربي.

في سنة 981 هـ تولى ملك المغرب محمد المتوكل [1]، وبقي على العرش حوالي السنتين، إذ انقلب عليه أبو مروان عبد الملك السعدي، وأخوه أحمد (وهما من عائلة المتوكل) بمساعدة العثمانيين الذين كانوا على الحدود الشرقية للمغرب، في الجزائر. فما كان من المتوكل إلا أن فرّ إلى البرتغال طالباً النجدة من إمبراطورها دونْ سباستيان على أن يسلمه كل شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي دون استثناء.

هكذا وجد سباستيان فرصته الذهبية للقضاء على الإسلام في جناحه الغربي، وتنصير المسلمين فيه تطبيقاً لوصايا إيزابيلا الكاثوليكية. وبدأ الإمبراطور البرتغالي مشاوراته مع أباطرة أوروبا وملوكها، فاتصل أول الأمر بخاله فيليب الثاني عاهل إسبانيا، الذي سمح للمتطوعين من كل ممالكه بمرافقة سباستيان إلى المغرب للقتال في سبيل الصليب، وتحرك سباستيان بجيوش نظامية من ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والفاتيكان البابوية ومتطوعين من إنجلترا وفرنسا بالإضافة إلى جيوشه البرتغالية.

وعلم عبد المالك ملك المغرب بالمخطط الذي يحاك ضد بلاده، فبعث رسالة إلى إمبراطور إسبانيا يدعوه إلى حسن الجوار وإقامة علاقات صداقة، كما بعث لسباستيان يؤنّبه فيها على العمل الذي ينوي الإقدام عليه، ويهدده بسوء المصير،ويدعوه في الوقت نفسه إلى الدخول في السلم، والشروع في المفاوضات، ومما جاء في الرسالة:

»إنّ عزمك على محاربتي في عقر داري ظلم وعدوان، وأنت تعلم أني لا أضمر لك شراً، ولم أقم بحركة ضدك، فكيف تبيح لنفسك أن تسطو على حقوق وهبني الله إياها وتقدمها لشخص آخر هو محمد المتوكل، مقابل وعود (تسليم شواطئ الأطلسي)، لا يستطيع أن يفي لك بها ما دمت على قيد الحياة، وباستثناء العاصمة مراكش فإنني مستعد أن أتنازل لابن أخي (محمد المتوكل) على أي قضية، وإنك بإغرائك مغربياً على أخيه تقوم بعمل مشين لن يخدم سمعة البرتغال. إني أعلم أنك في طريقك لإبعادي عن مملكتي، ولكنك لا تعلم أنك بكل ما تملك وبما يوجد تحتك من ممالك لن تقدر على ذلك، ولا تظن أن الجبن هو الذي يملي علي ما أقول لك، فإن فعلتَ فإنك تعرض نفسك للهلاك، وإنني مستعد للتفاهم معك رأساً لرأس في المحل الذي تريده، وإنني أفعل كل هذا سعياً في عدم هلاكك المحقق عندي، ولا يملي علي هذه المشاعر إلا محبّتي للعدل، وإنني أقبل أن أتحاكم معك لدى محكمتك التي لا تستطيع ان تنتزع من أحد حقاً من حقوقه ظلماً وعدواناً لتعطيه لغيره، وإنني أقبل حكمها مسبقاً، وإنني أشهد الله على ما أقول، وأعلم أنك شاب لا تجربة لك، وأن في حاشيتك من يشير عليك بآراء فاشلة، لكن هيهات أن يمتنع الذي عزم«.

بداية المعركة واستراتيجية عبد المالك في الحوار مع إمبراطور البرتغال..

بدأت الحملة الصليبية في السابع من تموز (رمضان) 986 هـ، وانطلقت المراكب من ميناء قادس متوجهة صوب المغرب، حاملة جيوشاً صليبية هي أقوى جيوش العالم آنذاك عدداً وعدة.

وصلت الجيوش إلى مدينة أصيلة فاحتلتها ونواحيها، وكان ملك المغرب عبد المالك في مراكش آنذاك، فبعث إلى سباستيان برسالة قال فيها: »إنني أعترف بشجاعتك وشهامتك يا سباسيتان، ودليلنا على ذلك هو هجومك على بلادنا الآمنة، إنني أنحي عليك باللوم لآنك انتهزت فرصة غيابي وهجمت على المدن والقرى الوديعة تفتك بالمدنيين والفلاحين العزّل، وهذا لم أكن أعهده فيك، والآن ففي إمكانك أن تنتظرني أياماً أقدم عليك«.

وتأثر سباستيان بالرسالة بفعل الغرور، وكان هذا شيئاً هاماً ينم عن ذكاء عبد المالك، وذلك لكي لا تتوغل جيوش سباستيان في الآراضي المغربية، فيكسب سكانها الذي سيحاربون إلى جانبه بالإكراه.

وسافر عبد المالك إلى مدينة القصر الكبير، فكتب مرة إخرى إلى سباستيان: »لقد قطعت أنا المراحل والمسافات الطويلة لمقابلتك، أفلا تتحرك أنت يا سباستيان لمقابلتي، لتبرهن علىشجاعتك وشدة مراسك؟« وكانت هذه أيضاً خطة ناجحة لإبعاد الجيوش الأوروبية عن مراكز التموين على البحر.

الملحمة..

وفعلاً تحركت الجيوش الأوروبية الصليبية مهاجمةً المغاربة الذي استدرجوا هذه الجيوش إلى سهل القصر الكبير في مكان استراتيجي بين وادي المخازن في الخلف ونهر لوكوس على اليمين ووادي وارور في الأمام.

ثم كان الشطر الثاني من خطة المسلمين للمعركة، إذ هدموا جسر وادي الخازن لقطع خط الرجعة على الفلول الصليبية، وأخيراً كان الملتقى بعد فجر يوم الاثنين 30 جمادى الأولى سنة 986 هـ (4 آب/أغسطس 1578م). ويصف لنا المؤلف المغربي الأفراني المعركة في كتابه »نزهة الحادي في أخبار القرن الحادي« قائلاً: »نزل العدو علىوادي المخازن، وقطعه بجيوشه وعبر جسر الوادي، فأمر عبد المالك بالقنطرة أن تهدم، ووجه لها كتيبة من الخيل فهدموها، ثم زحف بجيوش المسلمين وخيل الله المسوّمة، فالتقت الفئتان، وحمي الوطيس، واسودّ الجو بنقع الغبار، ودخان مدافع البارود، إلى أن هبّت على المسلمين ريح النصر، فولّى المشركون الأدبار، وقُتِل الطاغية البرتغالي غريقاً في الوادي، ولم ينجُ من الروم إلا عدد نذر وشرذمة قليلة«.

وصدق الله العظيم: )إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم( [محمد: 7]، صدق الذي أعزّ عبده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده. وسبحانه، ففي يوم واحد –في هذه المعركة- مات ثلاثة ملوك، الأول معتدٍ هو سباستيان، الذي قُتِل من جراء جرحين أصيب بهما في رأسه، وجرح آخر في ساعده، ثم غرق في الوادي، والثاني هو محمد المتوكل، غرق أيضاً فأخذوه وطافوا به في القصر الكبير، وفاس ومراكش، أما الأخير فهو أبو مروان عبد المالك، صعدت روحه إلى ربها راضية مرضية، بعد المرض الذي أصابه وهو يوجّه أوامره ويسيّر المعركة من داخل خيمته.[2]

نتائج معركة القصر الكبير
هل كانت معركة صليبية؟ لقد غيّرت معركة القصر الكبير مجرى مهماً في التاريخ، إذ فقدت البرتغال –مثلاً- استقلالها، وفقدت ممتلكاتها الواسعة في العالم وأوقفت الهجمات الصليبية الشرسة الأوروبية عموماً والبرتغالية خصوصاً على الخليج العربي. أما المغرب فقد جنى غنائم طائلة، وكسب سمعة عالية، حتى بدأت دول أوروبا نفسها تخطب ودّه، وهذا ما أوجد في نفس الأوروبيين عقدة حاصة، ذهبوا معها إلى أن المعركة لم تكن صليبية، ومن بين هؤلاء المؤرخ الفرنسي هنري تيراس الذي يقول: »إنها لم تكن من الصدمات الكبرى بين النصرانية والإسلام، بل كانت –حسب تواريخ البرتغال والمغاربة معاً- حادثاً عرَضياً بدون مقدمة ولا نتائج«.

وهذا خطأ، وإلا كيف نفسر ما ترتبت على المعركة من نتائج لا يجهلها هذا المؤرخ نفسه؟ وكيف نفسر الاستعدادات طويلة الأمد، ومشاركة جيوش كثيرة من أوروبا بلغ تعدادها 35 ألف مقائل صليبي[3] عدا المتطوعين الذين يزيدون على عشرة آلاف، على متن ألفي مركب شراعي، في الوقت الذي كان فيه تعداد المسلمين 37 ألف مقاتل ضمنهم أربعة آلاف من الجيوش العثمانية التي تكوّن فرق المدفعية والبارود.

ولعل من المفيد هنا أن أورد ما قاله كاستوني دوفوس[4] حول نظرة البرتغال إلى المعركة: »إن من المؤكد أن رجال البلاط في لشبونة كانوا ينظرون إلى تلك الحرب وكأنها رحلة من رحلات الساحة، وليس أدل على ذلك من أنهم كانوا يهيئون الصلبان لتعليقها على مساجد فاس ومراكش. وقد أبدى كثير من نساء الطبقة النبيلة رغبتهن في مصاحبة الجيش البرتغالي وكأنهن سيحضرن إلى ملعب لسباق الخيل، وكان الشاعر الكبير كاموانس، الذي اشتهر بكونه أنبغ الشعراء وأكثرهم قصائد في الحث على القضاء على المغاربة، على فراش الموت، وحيث لم يستطع ركوب البحر فإنه بعث مع الجنود أغنية مجّد فيها المحاربين الذي باركهم البابا، وصلى من أجل انتصارهم«.

وأورد مؤرخون آخرون حالة الاستعداد التي كانت عليها أوروبا قبل المعركة، إذ ذهب الخبال ببعض المهندسين إلى درجة أنهم وضعوا تصميمات لتحويل قبة القرويين إلى مذبح كنائسي تعلّق فيه صورة العذراء.

وهذا فقط يكفي للدلالة على أن معركة القصر الكبير كانت صداماً حاسماً بين الإسلام والنصرانية المزيفة، أي وبتعبير آخر: كانت معركة صليبية فاصلة في التاريخ.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] محمد المتوكل: من ملوك دولة السعديين بالمغرب، وعبد المالك هو ابن عمه.

[2] بعض الروايات تقول: إنه سُقي سماً من طرف أحد خدامه الأتراك.

[3] بعض الوثائق الأجنبية تذكر أنهم كانوا ستة آلاف مقاتل، انظر الجزء 3 من سلسلة دي كاسطري، ص 397.

[4] مؤرخ فرنسي من القرن الماضي.

د.فالح العمره
15-04-2005, 11:57 PM
معركة شقحب

أو مرج الصفر

د. محمد لطفي الصباغ


--------------------------------------------------------------------------------

كان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديداً يملأ صدور الناس ويوهن من قواهم، فكلما سمع الناس قصدهم إلى بلد فرّوا من مواجهتهم. وقد سهّل هذا الرعب لهؤلاء الغزاة المعتدين سبيل النصر والغلبة.

وكان الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر كما هو معلوم، ويبدو أنّ أخبار عزم التتار على تجديد حملاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسؤولين في مصر، فعمل العلماء وأولوا الفكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مواجهة هؤلاء الغزاة.

ففي شهر رجب من سنة 702 هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتدّ خوفهم جداً كما يقول الحافظ ابن كثير، وقنت الخطيب في الصلوات، وقُرِئ [صحيح] البُخاري، وهذه عادة كانوا يستعملونها في مواجهة الأعداء فيعمدون إلى قراءته في المسجد الجامع.

وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخّر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتدّ لذلك الخوف.

قال ابن كثير:

(وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة - أي قلعة دمشق - وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان من مصر لمناجزة التتار المخذولين.. وفي ثامن عشر من شعبان قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين، فيهم كبار الأمراء من أمثال ركن الدين بيبرس الجاشنكير وحسام الدين لاجين وسيف الدين كراي).

ثم قدمت بعدهم طائفة أخرى فيهم بدر الدين أمير السلاح وأيبك الخزندار. فقويت القلوب في دمشق، واطمأن كثير من الخلق، ولكنَّ الناس في الشمال سيطر عليهم الذعر، واستبدّ بهم الفزع فنزح عدد عظيم منهم من بلاد حلب وحماة وحمص.. ثم خافوا أن يدهمهم التتار فنزلوا إلى المرج.

ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فساداً، وقلق الناس قلقاً عظيماً لتأخُّر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفاً شديداً، وبدأت الأراجيف تنتشر وشرع المثبِّطون يوهنون عزائم المقاتلين ويقولون: لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لقلة المسلمين وكثرة التتار. وزَيَّنوا للناس التراجعَ والتأخُّرَ عنهم مرحلة مرحلة. ولكن تأثير العلماء ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية كان يتصدّى لهؤلاء المرجفين المثبّطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتَّصدِّي للتتار مهما كان الحال.

واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدوّ وشجَّعوا رعاياهم، ونوديَ بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم وجلس القضاة بالجامع يحلِّفون جماعة من الفقهاء والعامّة على القتال، وتوقّدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية أعظم التأثير في ذلك الموقف، فقلد عمل على تهدئة النفوس، حتَّى كان الاستقرار الداخلي عند الناس والشعور بالأمن ورباطة الجأش. ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص.. ثمّ توجّه ابن تيمية بعد ذلك إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيفة، فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرّة منصورون. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. وكان يتأوَّل في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى : (ذلك ومَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عوقِبَ بهِ ثمَّ بُغِيَ علَيهِ لَيَنْصُرُّنَّهُ اللهُ).

وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفُتُّ في عضد المحاربين للتتار من نحوِ قولهم: كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بُغاة على الإمام.. فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه؟

فردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الشُّبهة قائلاً: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما، ورأوا أنهم أحقُّ بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحقّ بإقامة الحقّ من المسلمين وهم متلبِّسون بالمعاصي والظُّلْم. فانجلى الموقف وزالت الشبهة وتفطّن العلماء والناس لذلك ومضى يؤكّد لهم هذا الموقف قائلاً:

إذا رأيتموني في ذلك الجانب-يريد جانب العدوّ- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجّع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم.

وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق. وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بمشقّة كبيرة وصَحِبَتْهُ جماعة كبيرة يشهد القتال بنفسه وبمن معه. فظنّ بعض الرعاع أنه خارج للفرار فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد.. فلم يردّ عليهم إعراضاً عنهم وتواضعاً لله، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.

وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسْوة. ووصل التتار إلى قارَة. وقيل: إنهم وصلوا إلى القطيفة فانزعج الناس لذلك، وخافوا أن تكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وألحّ الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كلّ حال. وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان.. فلمَّا كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشَّرَ الناس بأنَّ السلطان قد وصل وقتَ اجتماع العساكر المصرية والشامية.

وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق بل عرجوا إلى ناحية تجمُّع العساكر، ولم يشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق وقالوا: إن غلبنا فإنّ البلد لنا وإن غُلِبنا فلا حاجة لنا به.

ووقفت العساكر قريباً من قرية الكسوة، فجاء العسكر الشامي، وطلبوا من شيخ الإسلام أن يسير إلى السلطان يستحثُّه على السير إلى دمشق، فسارَ إليه، فحثّه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر. فجاء هو وإيّاه جميعاً، فسأله السلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: السُّنَّةُ أن يقف الرجُلُ تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلاَّ معهم.

وحرّض السلطان على القتال، وبشَّره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو: إنَّكم منصورون عليهم في هذه المرَّة. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.

وأفتى الناسَ بالفطر مدّة قتالهم، وأفطر هو أيضاً وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شي معه في يده ليعلِمهم أنَّ إفطارهم ليتقوَّوْا به على القتال أفضل من صيامهم.

ولقد نظَّم المسلمون جيشهم في يوم السبت 2 رمضان أحسن تنظيم، في سهل شقحب الذي يشرف على جبل غباغِب. وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء. وقبل بدء القتال اتُّخِذَت الاحتياطات اللازمة، فمرّ السلطان ومعه الخليفة والقرَّاء بين صفوف جيشه، يقصد تشجيعهم على القتال وبثِّ روح الحماسة فيهم. وكانوا يقرؤون آيات القرآن التي تحضُّ على الجهاد والاستشهاد وكان الخليفة يقول: دافعوا عن دينكم وعن حريمكم.

ووضِعت الأحمال وراء الصفوف، وأُمر الغلمان بقتل من يحاول الهرب من المعركة. ولمَّا اصطفَّت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتاً عظيماً وأمر بجواده فقُيِّد حتى لا يهرب، وبايع اللهَ تعالى في ذلك الموقف يريد إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وصدق الله فصدقه الله. وجرت خطوب عظيمة، وقُتِل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي، وثمانية من الأمراء المقدَّمين معه.

واحتدمت المعركة، وحمي الوطيس، واستحرّ القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن ينزلوا بالمسلمين خسارة ضخمة فقتِل من قتِل من الأمراء.. ولكن الحال لم يلبث أن تحوّل بفضل الله عزّ وجلّ، وثبت المسلمون أمام المغول، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغيَّر وجه المعركة وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتّى أقبل الليل فتوقّف القتال إلاّ قليلاً، وطلع المغول إلى أعلى جبل غباغِب، وبقوا هناك طول الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك لهم المسلمون ثغرة في الميسرة ليمرّوا منها، وقد تتّبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عدداً كبيراً، كما أنهم مرّوا بأرض موحِلة، وهلك كثيرون منهم فيها، وقُبض على بعضهم. قال ابن كثير:

(فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلاَّ الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتُضرب أعناقهم). ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين إلى القريتين يقتلون منهم ويأسرون.

ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور.. والذي عبر فيه هلك. فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة.

وفي يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق فبشَّروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له وهنّؤوه بما يسَّر الله على يديه من الخير.

وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان دخل السلطان إلى دمشق وبين يديه الخليفة، وزُيِّنَتِ البلد، وبقِيا في دمشق إلى ثالث شوّال إذ عادا إلى الديار المصرية. وكان فرح السلطان الناصر محمد بن قلاوون والمسلمين بهذه المعركة فرحاً كبيراً، ودخل مصر دخول الظافر المنتصر، يتقدّم موكبَه الأسرى المغول يحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى، واستُقبل استقبال الفاتحين.


--------------------------------------------------------------------------------

[عن كتاب معركة شقحب أو معركة مرج الصُّفَّر للدكتور محمد لطفي الصبّاغ].

د.فالح العمره
15-04-2005, 11:58 PM
الصليبيون

(الحملة الصليبية الأولى)

إن الحقد النصراني على الإسلام والمسلمين والذي امتد عدة قرون بسبب الانتصارات على النصرانية وانتزاع أجزاء واسعة من أملاك النصرانية في بلاد الشام وشمالي إفريقية، وقد كان هذا الحقد مع كل انتصار جديد يحققه الإسلام. ولما كانت النصرانية وأبناؤها عاجزة عن القيام بردّ فعل لذا فقد انتظرت حتى تمر موجة الفتوة الإسلامية ولكن زاد انتظارها وطالت مدة هذا المد الإسلامي فعندما بدأ الضعف يظهر على المسلمين أرادت النصرانية أن تقوم برد الفعل السريع وشجعها على ذلك الخوف من عودة القوة المسلمين بعد الانتصارات التي أحرزها السلاجقة عام 463 هـ في معركة ملاذكرت بقيادة ألب أرسلان، والانتصار في معركة الزلاقة في الأندلس عام 479 هـ بقيادة يوسف بن تاشفين، والانتصارات التي تلتها، فخافت النصرانية من عودة الروح من جديد لتدب في العالم الإسلامي الذي توسع باستمرار وتدخل الإسلام مجموعات محاربة جديدة مثل السلاجقة والمرابطين، وخاصة بعد تدفق السلاجقة في آسيا الصغرى.

وشجعها دخول عناصر بربرية محاربة في النصرانية وهي القبائل التي كانت تنتقل في أوروبا وهذا ما أدى إلى ظهور روح حربية جديدة تدعم النصرانية، ومن هذه المجموعات، المجموعةالجرمانية والمجرية، وإن دخول المجر في النصرانية قد جعل الشعوب النصرانية على اتصال بعضها مع بعض من الغرب إلى الشرق في آسيا الصغرى.

وشجعها بعض الانتصارات التي حصلت عليها الإمارات الإيطالية إذ تغلبت علىأمراء البحر المسلمين الذين كانوا يعيقون عمل السفن الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط إن لم تستجب لمطالبهم، فكانت هذه الإمارات الإيطالية ترغب في نشر تجارتها في البحر المتوسط، وبانتصارها على البحارة المسلمين زاد في رغبتها بل في محاولة إظهار قوتها ومد نفوذها إذ غدت لها قوة في البحر المتوسط تستطيع أن تستفيد منها في نقل جنودها وتحرك سفنها في هذا البحر، ومن الانتصارات التي شجعتها أيضاً احتلال النورمانديين لجنوب إيطالية وجزيرة صقلية وطرد المسلمين منها عام 484 هـ.

وشجعها الضعف الذي حصل على دولة السلاجقة عقب موت السلطان ملكشاه عام 485 هـ فأحبت النصرانية أن تهتبل هذه الفرصة قبل العودة إلى القوة ثانية، وخاصة أن العبيديين الذي هزِموا أمام السلاجقة وتخلوا عن بيت المقدس عام 471 هـ، ورأوا زيادة قوة السلاجقة خصومهم في العقيدة أيضاً لذا قد استنجدوا ببعض أمراء أوروبا لدعهم ضد السلاجقة.

ولعل أهم الجوانب النصرانية التي دفعت بالموضوع هي النفوذ الذي حصل عليه البابا إيربان الثاني الذي اختير بابا لروما عام 481 هـ إذ أصبح السيد المطاع بين الشعوب النصرانية بل وبين الأمراء وهذا ما يجعله أهلاً لأن يستغل نفوذه لدى النصارى ويدعوهم للحرب الصليبية فدعا إلى اجتماع لرجال الدين عام 489 هـ في كليرمونت بفرنسا ودعا إلى الحرب الصليبية ونادى الأمراء بترك الخلافات القائمة بينهم، وقدّم لهم الصليب، وجعل مبرراً لهذه الحرب ما يقوم به السلاجقة من مضايقة للحجاج النصارى الذين يريدون بيت المقدس، وطلب أن يحتل النصارى بيت المقدس، وساهم بهذه الدعوة بطرس الناسك، وسار بجموع المتطوعين وسبق جيوش الأمراء النصارى النظامية، ولما كان هؤلاء المتطوعون يسيرون بلا نظام فقد سببوا الفوضى والدمار لكل المناطق التي مروا عليها حتى النصرانية منها وحتى شكا منهم إمبراطور القسطنطينية، وعندما وصلوا إلى بلاد المسلمين صبّوا جام غضبهم فأهلكوا الزرع والضرع، وأحرقوا الأخضر واليابس، وعاثوا في الأرض الفساد، وقتلوا ومثّلوا وانتهكوا من الحرمات ما شاء لهم هواهم أن يفعلوا ذلك، وتصدى لهم السلاجقة فالتقوا في نيقية فأفنوهم عن بكرة أبيهم عام 489. وكان إمبراطور القسطنطينية قد أراد أن يتقي شرهم فساعدهم إلى السير إلى آسيا الصغرى والتقدم إلى نيقية.

في هذه الأثناء كانت جيوش الأمراء النظامية تتحرك نحو القسطنطينية وقد أمر البابا أن تجتمع خارج أسوار القسطنطينية، ولم تكن هذه الجيوش أقل حقداً من الأولى وأقل فساداً ودماراً، كما لم يكن لها قائد واحد ينظمها ويصدر أوامره لها جميعاً، وإن كان لهاعدد من القواد أغلبهم من فرنسا، ولم يكن لهؤلاء القادة خطة واحدة، ولم يشترك ملوك أوروبا في هذه الحملة لأن ملوك نصارى الأندلس كانوا مشغولين بقتال المسلمين، ولأن ملك فرنسا فيليب الأول وملك ألمانيا هنري الرابع كانا مطرودين من رحمة الكنيسة. بلغ عدد المشتركين النصارى في هذه الحملة التي عرفت باسم الحملة الصليبية الأولى أكثر من مليون، غير أن عدد المقاتلين لم يزد على ثلاثمائة ألف والباقي إنما هم من المرافقين من الرجال والنساء.

وصلت هذه الحملة الصليبية إلى أبواب القسطنطينية وخاف إمبراطورها منهم فاتفق مع بعض القادة على أن يمدهم بالمؤن والذخيرة على أن لا يدخلوا المدينة وأن يردّوا عليه ما يستولون عليه من أملاكه، فاجتازوا البوسفور، ووصلوا إلى نيقية فحاصروها، ونقل أميرها قليج أرسلان مقره إلى قونية، واتفق مع الإمبراطور أن يدخل جنده نيقية دون القادمين من أوروبا وبهذا غضب الصليبيون لأن الإمبراطور بهذا التصرف لم يسمح لهم بنهب المدينة وبهذا يكون الإمبراطور البيزنطي قد دعم الصليبيين بكل قوته وسار معهم نحو نيقية، وحصل خلاف بين الصليبييين القادمين من أوروبا والبيزنطيين إذ وجد الإمبراطور أنه لا يستطيع التفاهم مع هؤلاء القادمين فانصرف لاسترداد آسيا الصغرى من السلاجقة فاتجه نحو الغرب ودخل إزمير وأفسوس وأخذهما من أمراء السلاجقة فيهما لانقطاعهم عن دولة السلاجقة، ولم يعد يدعم الصليبيين بل حرص أن يضم له ما أخذوه هم، فكان دعمه بقتال المسلمين بجهات ثانية ثم بعد مدة عادة لتقديم الدعم.

اختلف القادة الصليبيون بعضهم مع بعض، فاتجه بعضهم إلى الرها تلبية لدعوة أميرها فدخلها وأسس بها إمارة نصرانية لاتينية وكان يطمع بتأسيس دولة صليبية في أرمينيا وقد دعمه في الأمر الأرمن. وسار باقي القادة إلى أنطاكية فألقوا الحصار عليها ودخلوها عنوة عام 491 هـ بعد حصار دام سبعة أشهر وقتلوا من أهلها أكثر من عشرة آلاف، ومثلوا بالقتلى وبالناس، وفعلوا أبشع الجرائم، وولوا عليها أحدهم وقد استقبل النصارى من أهلها والأرمن الصليبيين بكل ترحاب، ثم اتجهوا بعدها نحو بيت المقدس، فسار لقتالهم "كربوقا" صاحب الموصل، وصاحب دمشق "دقاق"، وصاحب حمص "جناح الدولة" غير أن الصليبيين قد انتصروا عليهم ودخلوا معرة النعمان، ووصلوا إلى بيت المقدس ودخلوها عام 492 هـ فقتلوا من أهلها أكثر من سبعين ألفاً وخاضت خيولهم ببحر من الدماء، وانتخب غودفري ملكاً على بيت المقدس، وأخذ لقب حامي قبر المسيح. وكان العبيديون قد استغلوا تقدم الصليبيين من الشمال فتقدموا هم من الجنوب ودخلوا القدس وطردوا السلاجقة منها (قبل وصول الصليبيين إليها) وجرت مفاوضات بين الأفضل بن بدر الجالي الوزير العبيدي وبين الصليبيين على أن يكون شمال بلاد الشام للصليبيين وجنوبيها للعبيديين ثم نقض الصليبيون العهد عندما شعروا بالنصر.

لقد فقدت هذه الحملة أكثر مقاتليها، فقد جاءت بثلاثمائة ألف مقاتل، ودخلت إلى القدس بأربعين ألف مقاتل فقط، ومهما بالغنا بعدد المقاتلين الصليبيين الذين ساروا إلى الرها فإن عددهم لا يزيد على أربعين ألفاً، وبذا يكون عدد من بقي من الصليبيين الذين جاءوا في الحملة الأولى ما يقرب من ثمانين ألفاً، ويكون قد فقدوا مائتين وعشرين ألفاً، قتِلوا في المعارك، وقتِلوا على أيدي الناس الذين كانوا يثورون على تصرف هؤلاء القادمين، يثورون على كره، ورغم خوفهم الشديد، ورغم معرفتهم بمصيرهم، يثورون لأن تصرّف الصليبيين كان على درجة من السوء والوقاحة والقباحة ما يثير أية نفس مهما بلغ بها الذل والخوف.

وبسيطرة الصليبيين على بيت المقدس ارتفعت معنويات سكان الإمارات الإيطالية فبدأت سفنهم تجوب أطراف البحر المتوسط وتقدم المساعدات والدعم للصليبيين، فاستطاعوا أن يأخذوا حيفا وقيسارية عام 494 هـ، وأخذوا عكا عام 497 هـ، وأخذوا طرابلس عام 503 بعد حصار سنتين، كما أخذوا جبلة في العام نفسه، ثم أخذوا صيدا عام 504. وطلب المسلمون هدنة فرفض ذلك الصليبيون ثم وافقوا مقابل مبالغ كبيرة يدفعها لهم المسلمون، وبعد أن استلموا الأموال غدروا بالمسلمين وذلك عام 504 هـ. وحاصر الصليبيون مدينة صور عام 505، وكانت بيد العبيديين فأمدهم بالمؤن والمساعدات طغتكين صاحب دمشق فامتنعت صور عن الصليبيين.

أما من جهة الداخل فقد جاء الصليبيون من جهة الجنوب فالتقى بهم صاحب دمشق "أمين الدولة" وهزمهم ولاحق فلولهم الذين وصل بعضهم إلى ملاطية وقد استطاع أن يدخلها وأن يتملكها وذلك عام 493.

وهاجم الصليبيون دمشق من جهة الشمال عام 497 ولكنهم هزِموا وأسِر أمير الرها الصليبي، غير أنهم استطاعوا في العام نفسه أن يدخلوا حصن أفاميا.

لقد دعم العبيديون الصليبيين في أول أمر، ووجدوا فيهم حلفاء طبيعيين ضد السلاجقة خصومهم، وقد ذكرنا أنهم اتفقوا معهم على أن يحكم الصليبيون شمالي بلاد الشام ويحكم العبيديون جنوبيها، وقد دخلوا بيت المقدس، غير أن الصليبيين عندما أحسوا بشيء من النصر تابعوا تقدمهم واصطدموا بالعبيديين وبدأت الخلافات بينهم، فالعبيديون قد قاتلوا الصليبيين دفاعاً عن مناطقهم وخوفاً على أنفسهم ولم يقاتلوا دفاعاً عن الإسلام وحماية لأبنائه، ولو استمر الصليبيون في اتفاقهم مع العبيديين لكان من الممكن أن يتقاسموا وإياهم ديار الإسلام.

لقد استقبل سكان البلاد من النصارى والأرمن الصليبيين استقبالاً حاراً ورحبوا بهم ترحيباً كبيراً، وقد ظهر هذا في أثناء دخولهم أنطاكية وبيت المقدس، كما قد دعموهم في أثناء وجودهم أيام وجودهم في البلاد وقدّموا لهم كل المساعدات، وقاتلوا المسلمين، وكانوا عيوناً عليهم للصليبيين.

وتشكلت أربع إمارات صليبية في بلاد الشام وهي:

إمارة في الرها – إمارة في طرابلس – إمارة بيت المقدس – إمارة أنطاكية.

لم يجد الصليبيون الأمن والاستقرار في بلاد الشام في المناطق التي سيطروا عليها وشكلوا فيها إمارات رغم انتصارهم، إذ كان السكان المسلمون ينالون منهم كلما سنحت لهم الفرصة، كما يغير عليهم الحكام المسلمون في سبيل إخراجهم من البلاد، ودفاعاً عن عقائدهم ومقدساتهم التي كان الصليبيون ينتهكونها.


--------------------------------------------------------------------------------

المصدر: التاريخ الإسلام، محمود شاكر، جزء 6، ص 252-257

د.فالح العمره
16-04-2005, 12:15 AM
واقع التجزئة العربية وانعكاساته

على فهرسة التراث العربي والإسلامي *



د. محمود السيد الدغيم

باحث أكاديمي سوري مقيم في لندن

كلية الدراسات الشرقية والإفريقية

Soas


--------------------------------------------------------------------------------

إن التراث دليل عراقة الأمة في الماضي، ومنارة لشحذ الهمم المعاصرة في الحاضر، ولذلك نجد الأمم الهجينة تحاول أن تختلق لنفسها تراثاً تباهي به الأمم العريقة، ولو كان ملفَّقاً، ولكن الأمم المعاصرة المريضة التي تمتلك تراثاً عريقا تتكاسل عن الاهتمام به، ولا سيما إن كان زاهياًّ وهي تعاني من الخمول غير المحدود، ولعل انعكاسات مرض التجزئة العربية المتضافرة مع الأمية غير المحدودة هي التي وضعت أُسسَ إهمال التراث الإسلامي والعربي من قِبل أصحاب هذا التراث، وساهمت الأنظمة الحاكمة بتكريس هذا الإهمال جراء عدم رصد ما يلزم من مبالغ مالية بينما تصرف أضعاف أضعافها على المشعوذين والأفاقين والمنافقين، وعتاولة الانحلال والضلال.

هنالك سؤال يتكرر في جميع الدول العربية من خلال وسائل الإعلام المتنوعة، والجميع يقولون: لماذا تأخر العرب، وتقدم الآخرون؟

وتتنوع الأجوبة، ومعظمها يعلِّق التخلُّف على شَمَّاعة المؤامرات الخارجية، ويتجاهل التآمر الداخلي الذي يُشخِّصه المثل الشعبي الذي يقول: "دود الخلّ منه وفيه. أو: دود الجبن منه وفيه" والدليل هو ذلك الإهمال المقصود الذي نتجت عنه كوارث تراثية تتراوح بين إتلاف التراث في البلدان العربية داخل حدود الوطن، وبين سرقته وتهريبه وبيعه للآخرين حتى أصبحت هجرة التراث وتهجيره أشبه ما تكون بهجرة العلماء وتهجيرهم، ومازالت مسيرات الإهمال مستمرة مع استمرار الإهمال السياسي للتراث بدعوى الأخذ بأسباب المعاصرة للحاق بالأمم والأقوام التي سبقت الأمتين العربية والإسلامية خلال القرن الماضي، وبداية القرن الحاضر.

إن الذين يدَّعون العمل لمواكبة روح العصر يجهلون كيفية رُقيّ الأمم التي تقود العالم المعاصر، فالأمم المتقدّمة لم تهمل تراثها بل اهتمت به وسطت على تراثنا، فاختلسته منا، وحفظته وصانته لأنها تعلم قيمته، أما نحن الجهلة فنلهث وراءهم، ونتخلى عن قناديلنا المنيرة التي استنار بها العالم في غفلة منا. فمما لاشك فيه أن تراث الأمة هو: جذورها، وأساس رُقيّها، وفيه مقوّمات شخصيتها، وإحياؤه: حياتها، وإهماله: موتها وتخلفها، واحترامه: يجسّد احترام الأمة لذاتها، واحتقاره: أهم أسباب انحطاطها وعجزها عن الإبداع، فمَن لا ماضي ليس له حاضر ولا مستقبل.

إن تراث العرب والمسلمين يشكّل وحدةً لا تتجزأ، والذين يحاولون الفصل بين التراثين يسعون عن قصدٍ أو عن غير قصد إلى تدمير العرب والمسلمين جرّاء التجزئة والفصل بينهما، فالعروبة مِن غير إسلام هي جسد بلا روح، والعرب هم مادة الإسلام الأساسية إنْ صلحوا أصلحوا، وإن فسدوا فإن فسادهم يمتدّ إلى العالم الإسلامي ظاهرا وباطناً، ولو أن العرب تيقظوا لأهمية التراث لسرت العدوى الحميدة إلى بقية الشعوب الإسلامية، ولكن واقع الحال ينبئ عن غيبوبة طال أمدُها، وامتدَّ خطرها، وما نلاحظه من يقظة محدودة، ونهضة مختزلة إنما يصدر عن جهود فردية غير كافية، وصُدف لا تلبي ما يحتاجه العرب والمسلمون لأن الصُّدف ينقصها التخطيط، والأعمال الفردية آنية غير مستمرة، وليست لها صفة الديمومة الضرورية لتحقيق النهوض الحضاري.

فهرسة التراث

لقد اهتم القدماء بفهرسة التراث، وتصنيفه حسب العلوم، وحسب المؤلفين، ومازالت مدارس الفهرسة تعتمد لوائح عناوين الكتب، ومواضيعها، وأسماء مؤلفيها، وقد تباينت طرق الفهرسة وتطورت كثيرا مع الثورة الإليكترونية، وتيسرت طُرق البحث من خلال قواعد المعلومات والبيانات، ولكن فهرسة التراث العربي والإسلامي العامّة الشاملة مازالت خارج إطار الاهتمام المطلوب، ومازالت الجهود العربية ضمن إطار التقصير والقصور عن اقتفاء آثار الأعاجم الذين فهرسوا تراثنا، واقتصرت جميع الجهود العربية على ترجمة جزئية لبعض الأعمال الأجنبية الرائدة.

فهرسة التراث المخطوط والمطبوع

تتوزع فهارس التراث المخطوط بين نوعين أساسيين من الفهارس، فهنالك الفهارس المخطوطة والفهارس المطبوعة، ويتنوع كل نوع منها حسب طريقة المفهرس، فمنها ما هو بدائي يشبه البطاقات، ومنها ما هو متطور يقدم وصفاً للمخطوط ويحدد مكانه، ولكن المخطوطات المذكورة في الفهارس القديمة قد ضاع بعضها وتلف البعض الآخر، وبقيت بعض محتوياتها في الكتب التي اقتبست منها، ووصلت إلى زماننا الحاضر.

لقد خلف لنا القدماء أعمالا رائدة في مجال الفهرسة منها كتاب الفهرست لابن النديم الذي مات سنة 385 هـ/995 م، وضمّن كتابه معلومات غزيرة لكتب الدِّين والتاريخ والأدب والفلسفة وسواها، وترك في كتابه نقصاً، فأكمله الوزير المغربي المتوفى سنة 418 هـ/ 1027م، وقد قُسِّمت العلوم في الفهرست إلى عشرة فروع، استوعبت محصلة الثقافة الإسلامية حينذاك، وأحصى الفهرست 8360 كتاباً لـ 2238 مؤلفاً، منهم 22 إمرأة و 65 مترجماً.

وطُبع الفهرست أول مرة في ليبسك سنة 1872م بعناية المستشرق الألماني فلوجل، ويقال: إن ديوي اعتمد عليه في إصداره التصنيف العشري سنة 1876م، وذلك بعد طباعة الفهرست بأربع سنوات. وتكررت طباعة الفهرست في العديد من الدول، وترجمه إلى اللغة الإنجليزية عميد الكلية الأمريكية ببيروت د. بايارد دودج، وطبع في كولومبيا 1970م.

وتضمنت كتب الطبقات معلومات عن مؤلفات الذين ترجمت لهم، وتضمَّنت كتب الوفيات أسماء مؤلفات الذين ترجمت لهم.

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون

وأشمل المصادر التراثية التي وصلتنا هو كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لمؤلفه العثماني التركي مصطفى بن عبد الله، المعروف عند الأتراك بكاتب جلبي، وعند العرب بحاجي خليفة، الذي بدأ تأليفه في حلب الشهباء سنة 1042هـ/ 1632م، وأتمّ تأليفه سنة 1062هـ/ 1652م، وبيضه بخطه حتى مادة: الدروس، ثم اجتمع ستة رجال فأتموا تبييضه، فشمل الكتاب أسماء 15000 كتاب، وأسماء نحو 9500 مُؤلِّف، وبلغ عدد علومه وفنونه 300 علم وفن.

وحظي كشف الظنون باهتمام العلماء وعشاق الكتب قديما وحديثاً، فاختصره وزاد عليه السيد الحسين العباسي النبهاني الحلبي تـ 1095هـ/ 1684م، وسماه: التذكار الجامع للآثار، ووضعت عليه ذيول كتب أحدها محمد عزتي أفندي بوشنه زاده تـ 1092هـ/ 1681م. وثانيها إبراهيم الرومي العربجي تـ 1189هـ/ 1775م، وثالثها حنيف زاده تـ 1217هـ/ 1802م الذي ضمن ذيله 5000 كتاب، وقد ألحق فلوجل هذا الذيل بالمجلد السادس من طبعته العربية التي أصدرها في ليبسيك مع ترجمة باللاتينية، ما بين سنة 1251 هـ/ 1835م وسنة 1275هـ/ 1858م.

وأعدّ الذيل الرابع شيخ الإسلام عارف حكمت صاحب المكتبة المشهورة في المدينة المنورة تـ 1275هـ/ 1858م ووصل فيه إلى حرف الجيم، والخامس إسماعيل باشا البغدادي تـ1339هـ/ 1921م، وسمى ذيله: إيضاح المكنون، وضمّنه 19000 كتاب، وهذا الذيل طبع في مجلدين مع كشف الظنون، وللبغدادي كتاب في تراجم المؤلفين هو: هدية العارفين، الذي طبع مع كشف الظنون أيضاً في طبعة جامعة إسطنبول سنة 1941م، ولم تتوقف مسيرة التذييل على كشف الظنون حيث ذيل عليه كلّ من إسماعيل صائب سنجر، وجميل العظم، ومحمد الصادق النيفر، ومحمد بن مصطفى البكري، وعلي خيري، ومحمد الخانجي البوسنوي، وذيله مخطوط في كتبة الغازي خسرو بك في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك.

فهارس السلطان عبد الحميد

بويع الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني في 11 شعبان سنة 1293هـ / 31 آب/ أغسطس 1876م، وأدرك أهمية فهرسة المخطوطات، فأصدر أمراً سلطانياًّ (فرمان) يقضي بفهرسة المخطوطات الوقفية في مكتبات السلطنة وجوامعها، وقد طبقت التعليمات السلطانية في إسطنبول، وكتبت فهارس لأكثر من مئة مكتبة تراثية، ومازالت نسخ كثيرة محفوظة من تلك الفهارس التي اعتمدت تثبيت أرقام المخطوطات، وأسماءها، وأسماء المؤلفين، وملاحظات حول وفيات المؤلفين، وتاريخ النسخ.

وقد استفاد من تلك الفهارس جميع الذين كتبوا عن المخطوطات الإسلامية، وأماكن وجودها وأرقامها، وبعدما جُمِعت محتويات أكثر من مئة مكتبة في المكتبة السليمانية في إسطنبول تمَّ اعتماد تلك الفهارس للفرز بين محتويات مكتبة وأخرى، وقد استفاد كارل بروكلمان من تلك الفهارس، ولكن محتويات تلك الفهارس قد تعرضت للتلف والسرقة حينما وقعت إسطنبول تحت الاحتلال الأوروبي في أواخر الحرب العالمية الأولى، وتلت ذلك مرحلة إلغاء السلطنة والخلافة وقيام النظام الجمهوري الذي ألغى استعمال الحروف العربية العثمانية سنة 1928م مما انعكس سلباً على المخطوطات بشكل عام، ثم عاد إليها منذ منتصف القرن العشرين.

دراسة المستشرق كارل بروكلمان الموسوعية

أدرك المستشرق الألماني كارل بروكلمان أهمية التراث الإسلامي ومخطوطاته، فكتب تاريخ الأدب العربي، وذكر فيه ما يقرب من عشرين ألف مخطوطة مع ذكر أماكن وجودها وأرقامها، وصدر من كتابه مجلدان ما بين سنة 1898 وسنة 1902 م، ثم صدر ذيل كتاب بروكلمان في ثلاثة مجلدات ما بين سنة 1927 وسنة 1942 م، ثم أعيدت طباعة المجلدين الأصليين ما بين سنة 1943م وسنة 1949م، فكان عدد صفحات المجلد الأول: 676 صفحة، والثاني: 686 صفحة، والمجلد الأول من الذيل: 973 صفحة، والثاني من الذيل: 1045 صفحة، والثالث من الذيل: 1326 صفحة، وفيه قسم من الذيل مع الفهارس العامة، وبذلك يبلغ عدد صفحات الكتاب: 4706 صفحات.

ترجمات كتاب بروكلمان العربية

اتسمت الهمم العربية بالخمول فيما يخصّ الاهتمام بالتراث العربي والإسلامي، ويعتبر كتاب تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان من الكتب التي حظيت بالاهتمام أكثر من غيرها، ولكن هذا الاهتمام تحت المستوى المطلوب، ومسيرة الاهتمام طويلة ومستمرة، ولكنها غير تامة.

اهتمَّ بترجمة القسم الأول من الكتاب عبد الحليم النجار، وصدر الجزء الأول عن دار المعارف بمصر سنة 1959م بالتعاون مع المنظمة العربية للثقافة والعلوم - جامعة الدول العربية، واقتصرت تلك الترجمة على إصدار ستة أجزاء من مواد المجلد الأول من كتاب بروكلمان، ثم نام المشروع نوم أهل الكهف.

واهتمّ بفهرسة تلك الترجمة المبتسرة معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب، فأصدر فهارس تلك الطبعة التي أعدّتها درية الخطيب فصدر الجزء الأول سنة 1403 هـ/ 1983م، والثاني 1984، والثالث سنة 1985، والرابع سنة 1988م، وصدر الجزء الخامس سنة 1411 هـ/ 1991م، وذلك بعدما كتبته صاحبته سنة 1986م، إلخ..

ثم عادت الروح إلى استكمال ترجمة ونشر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، وتعاونت هيئة الكتاب بالقاهرة مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، فترجم ربع المجلدين الأصليين ما بين سنة 1959م وسنة 1988، وصدر القسم الثاني من الكتاب بالعربية سنة 1993م، وضم الجزئين الثالث والرابع المترجمين سابقاً، وأشرف على الترجمة الدكتور محمود فهمي حجازي، وضم القسم الثالث الجزئين السابقين الخامس والسادس، وصدر القسم الرابع الذي يتكون من الجزء السابع والثامن، والقسم الخامس الذي يتكون من الجزء التاسع، وبذلك يكون قد انتهى المجلد الأول من كتاب تاريخ الأدب العربي لبروكلمان، وذلك سنة 1993م، واستمر العمل به 34 سنة، وذلك بعد صدور الطبعة الألمانية بمدة خمس وتسعين سنة شمسية.

وأصدرت هيئة الكتاب في القاهرة من محتويات المجلد الثاني من تاريخ بروكلمان القسم السادس الذي يتكون من الجزء العاشر والحادي عشر، والقسم السابع، ويتضمن الجزء 12، ومواده منذ سقوط بغداد سنة 656 هـ/ 1258م حتى الفتح العثماني لمصر سنة 1517م، والقسم الثامن الذي يتكون من الجزء 12 والجزء 13، ويتضمن منذ الفتح العثماني لمصر حتى احتلال الحملة الفرنسية سنة 1798م، والقسم التاسع الذي يتكون من الجزء 13، والجزء 14، ويضم منجزات العهد العثماني في شمال الجزيرة العربية، واليمن وعُمان، وشرقي إفريقيا والحبشة، وإيران وطوران والهند والملايو، وبلاد الروم والأناضول، والمغرب وبلاد السودان، وبذلك تتم ترجمة المجلدين الأصليين من تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان.

هذه الترجمة تعني أن ما ترجمه العرب من تاريخ الأدب العربي لبروكلمان هو 1362 صفحة، وبقيت من الكتاب 3344 صفحة دون ترجمة من أصل 4706 صفحات، ونأمل أن تُترجم في ظل عدم وجود تخطيط سليم لإصدار موسوعة تاريخ الأدب العربي اعتماداً على آخر المعلومات حول ما بقي من المخطوطات مع ذكر أسماء الكتب والمؤلفين بشكل سليم بعيداً عن الأخطاء الناتجة عن الترجمة من العربية إلى الألمانية ثم إلى العربية.

تاريخ التراث العربي لسزكين

انتبه الدكتور فؤاد سزكين إلى الكثير من المعلومات التي فاتت بروكلمان، ولذلك ألف تاريخ التراث الإسلامي، وضمن كتابه المعلومات التي وردت عند بروكلمان مع تعديلات واستدراكات وتمحيص جراء مستجدات فهرسة التراث المخطوط، ولاسيما في تركيا، ولكنه قَصَرَ كتابه على المخطوطات التي أُلِّفَتْ قبل سنة 430 هـ/ 1039م.

وصدر المجلد الأول من تاريخ التراث الإسلامي لسزكين عن مطبعة بريل في لايدن سنة 1967م، وتوالى صدور مجلدات الكتاب 2،3، 4، 5، 6، 7، 8، عن مطبعة بريل حتى صدر المجلد التاسع سنة 1984م، ثم صدر مجلد الفهارس عن جامعة فرانكفورت الألمانية سنة 1995م، ثم صدر عن جامعة فرانكفورت المجلد العاشر والمجلد الحادي عشر سنة 2000م، وتضمن المجلدان تاريخ التراث الإسلامي في الرياضيات والفلك والجغرافيا، وصدر المجلد الثاني عشر بحجمه الموسوعي، وورقه المصقول الذي يتضمن مجموعة نادرة من الخرائط الملونة تثبت أن المسلمين هم أساتذة العالم في الجغرافيا ورسم الخرائط.

ترجمة تاريخ التراث الإسلامي

بدأ ترجمة تاريخ التراث الإسلامي لسزكين الدكتور محمود فهمي حجازي، وصدر من ترجمته مجلدان في القاهرة سنة 1974 - 1975م، ثم نام المشروع حتى سنة 1403 هـ/ 1983م، فصدرت طبعة لترجمة الدكتور محمود فهمي حجازي عن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في المملكة العربية السعودية، واقتصرت تلك الترجمة على محتويات المجلدين الأولين من كتاب سزكين، فقد صدرت محتويات المجلد الأول في الأجزاء 1/1 و 1/2 و 1/3 و 1/4 ، وشملت علوم القرآن الكريم، والتدوين التاريخي، والفقه، والعقائد والتصوف. وصدرت محتويات المجلد الثاني في الأجزاء 2/1 و 2/2 ,2/3 و 2/4 و 2/5 ،وشملت الشعر مع مقدمات ودراسات، والشعر في العصر الجاهلي، والشعر في صدر الإسلام، والشعر في العصر العباسي في الشام والعراق والحجاز ومصر والشام والأندلس. ونشر مع هذه الترجمة جزءاً ثالثا حول مجموعات المخطوطات العربية في مكتبات العالم.

يقع المجلدان الأول والثاني من تاريخ سزكين في 1804 صفحات، وقد تمت ترجمتهما إلى اللغة العربية، وبما أن مجموع صفحات الكتاب باللغة الألمانية هو 7334 صفحة، وقد ترجم منها 1804 صفحات، فهذا يعني أنه بقيت 5530 صفحة من الكتاب لم تتمّ ترجمتها إلى اللغة العربية، وهذه نتائج مخيبة للآمال، ومن المحزن أن ما يتوفر من معلومات عن التراث الإسلامي للباحثين الألمان بلغتهم لا يتوفر للباحثين العرب باللغة العربية رغم أنها اللغة الأم للمخطوطات العربية والإسلامية التي تشكل المادة الأساسية لمؤلفات التراث باللغات الأجنبية.


--------------------------------------------------------------------------------

* نشر هذا المقال في في جريدة الحياة، العدد: 15285 صفحة التراث: 15، يوم السبت 5 / 2/ 2005م.

د.فالح العمره
16-04-2005, 12:16 AM
الحصار الاقتصادي الأوروبي لمصر

الوجه الآخر للحروب الصليبية

بقلم: فاطمة حافظ[1]


--------------------------------------------------------------------------------

مثلت الحروب الصليبية ذروة الصراع الدامي بين الغرب المسيحي والشرق المسلم في العصور الوسطى ، وعلى الرغم من قسوة الحرب واستمرارها قرابة قرنين من الزمان إلا أنها لم تنجح في حسم الصراع لصالح الغرب الذي حاول استخدام كل أنواع الضغط على الدولة الإسلامية ومن بينها فرض حصار اقتصادي عليها بغية إنهاء الصراع لصالحه .

ومع بدايات الحرب أعلنت الباباوية عن تطبيقها حصاراً اقتصادياً على الدولة الإسلامية في مصر والشام لتكون عاملاً مساعداً في الحرب ، وبمرور الوقت تحول هذا الحصار وما استتبعه من فرض مقاطعة شاملة للدولة الإسلامية وكل من يتعامل معها تجارياً ليصبح الملمح الأبرز للحروب الصليبية وذلك بعد انقضاء العمليات العسكرية باقتلاع الصليبيين من جيوبهم الإستيطانية في الشام أواخر القرن الثالث عشر . وكان من المفهوم أن الغرب يستهدف من وراء حصاره أن ينقل ساحة المواجهة من الميدان العسكري إلى الميدان الاقتصادي ليحقق عن طريق الإقتصاد ما لم يستطع تحقيقه عن طريق الحرب العسكرية.

وينبغي الإشارة إلى أن المراسيم الباباوية بإيقاف التعامل مع مصر وفرض الحظر التجاري عليها قد تعددت خلال فترة الحروب الصليبية ، وذلك نظراً للخروقات الكثيرة التي تعرضت لها هذه المراسيم من جانب التجار الأوروبيين ، وكان الحديث يتجدد في الغرب عن ضروريات فرض الحصار والتشدد في تطبيقه مع كل هزيمة تلحق بالصليببين في الشام ، مما يحملنا على الإعتقاد أن الحصار الاقتصادي أصبح ورقة الضغط الوحيدة أمام الباباوية والغرب ككل لمعاقبة مصر على حربها ضد الصليبيين .

خلفية تاريخية

قبل الشروع في استعراض المحطات الأساسية للحصار الأوروبي علينا أن نوضح أولاً الدور الذي مثلته التجارة بالنسبة للدولتي الأيوبية ثم المملوكية – وهما الدولتان اللتان تعاقبتا على حكم مصر والشام إبان هذه الفترة - فالمعروف أن الأهمية التجارية لمصر قد ازدادت بشكل ملحوظ نتيجة حركة توسع المغول التي نتج عنها توقف طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب والتي كانت تمر بالخليج العربي أو البحر الأسود ثم فارس ولم يعد آمناً من هذه الطرق سوى طريق البحر الأحمر ومصر وهو ما جنى منه سلاطين مصر الربح الوفير ومكنهم من توفير الإعتمادات المالية الكفيلة بتمويل حربهم ضد الصليبيين ، وقد نتج عن ذلك أن تحكمت مصر بطريق التجارة العالمي ، باعتبارها البوابة التي تمر من خلالها البضائع الشرقية إلى الغرب كما تمر بها أيضا البضائع الغربية للشرق .

وكان التبادل التجاري بين الشرق والغرب قد شهد زيادة ملحوظة خلال هذه الفترة على عكس المتوقع ؛ فقد أسهمت إقامة الصليبيين في الشام في التعرف عن قرب على السلع الشرقية المميزة - وبخاصة التوابل - وتطلع أبناء الغرب الأوروبي للحصول على هذه السلع ولعل هذا يفسر لنا مشاركة المدن التجارية الغربية مثل جنوة وبيزا والبندقية في الحرب ، وقد حقق أبناء هذه المدن مكاسب طائلة نظير قيامهم بالتوسط بين الشرق والغرب كما قاموا بعقد الكثير من الصفقات التجارية الرابحة مع التجار الشرقيين .

الباباوية والقرصنة باسم الدين

غداة قيام الحروب الصليبية سارعت الباباوية بإعلانها عن مقاطعة تجارية شاملة لمصر وكل من يتعامل تجارياً معها ، ونجحت في إقناع المدن التجارية الإيطالية الشريك التجاري الرئيسي لمصر بتطبيق هذه المقاطعة ، غير أن هذه المدن تضررت تضرراً اقتصادياً واضحاً من جراء ذلك وهو ما دفعها للضرب بتعليمات الباباوية عرض الحائط وإعادة إرسال السفن الإيطالية إلى الموانئ المصرية ، وجدير بالذكر أن سلاطين مصر بصفة عامة قد تسامحوا مع التجار الأوروبيين ، وعلى سبيل المثال أبدى صلاح الدين الأيوبي "سلطان مصر" سعة صدر في التعامل معهم ، وبرغم استمرار الحرب وتجريد الصليبيين الحملات العسكرية في الشام إلا أنه لم يشأ معاقبتهم لاشتراك مدنهم في القتال لجانب الصليبيين ، بل على العكس أظهر قدراً غير قليل من الترحاب بهم وبسفنهم في الموانئ المصرية ، الأمر الذي شجعهم على تحدي قرارات الباباوية الخاصة بمقاطعة مصر ، وإعادة العلاقات التجارية إلى سابق عهدها وتوقيع عدة معاهدات تجارية بين الطرفين .

عادت الباباوية وجددت الإعلان عن فرض حظر اقتصادي شامل على مصر وتشددت في تطبيقه بسبب النجاحات العسكرية المتوالية التي حققتها الدولة المملوكية في مصر ضد الصليبيين والتي انتهت بتصفية آخر الجيوب الإستيطانية الصليبية في الشام بإسقاط عكا عام 1291 ميلادية ، وعلى الفور أصدر البابا نيقولا الرابع مرسوماً حرم فيه على العالم المسيحي التجارة مع مصر مع توقيع قرار الحرمان الكنسي على كل من يخالف هذا القرار فضلاً عن مصادرة جميع أمواله وممتلكاته ، والمعلوم أن القرار كان موجهاً بالأساس ضد التجار الأوروبيين المتعاملين مع الدولة المملوكية والذين أمدوها ببعض المواد الحربية الأساسية مثل الحديد والأخشاب والقار والكبريت . ويبدو أن هذه القرارات لم تردع التجار وتحملهم على إيقاف تعاملهم مع مصر ، الأمر الذي ألجأ البابا إلى إتخاذ أسلوب أكثر حزماً فأمر بتجهيز عشر سفن حربية تجول في البحر المتوسط وآسيا الصغرى ومصر ، وهي التي صارت تعرف باسم "فرسان القديس يوحنا" وقد ازداد عددها حتى وصلت إلى خمس وثلاثون سفينة في نهاية فترة الحظر ، وقد قامت هذه السفن بمهمة إرهاب السفن المسيحية التي تخرق الحظر التجاري على مصر ، وكذلك مهاجمة السفن المسلمة التي تجوب البحر المتوسط وسرقة ونهب محتوياتها ، وقد اتسع نشاط هذه السفن مع نهايات الحروب الصليبية وتكررت اعتداءاتها على الموانئ المصرية وبخاصة مينائي الإسكندرية ودمياط ، وكانت تقوم بالسطو على السفن الراسية فيهما واقتيادها في بعض الأحيان إلى قبرص مقر قوات "فرسان القديس يوحنا".

ولاشك أن موقف الباباوية المتشدد تجاه التعامل التجاري مع مصر بحاجة إلى بعض التوضيح فالمعروف أن إخفاق الصليبيين في تكوين بؤر إستيطانية تستوطن فلسطين ، والفشل في هزيمة المماليك عسكرياً قد جعل الباباوية تؤمن بأن النجاح الذي تؤمله لن يتحقق بالحرب وإنما يتحقق عن طريق تطويق مصر اقتصادياً في البحر المتوسط ، وقد أفصحت الباباوية عن خطتها في رسالة تحت عنوان "أسرار حماة الصليب" وهي الرسالة التي أعدها أحد الفرسان الصليبيين وتبناها البابا ونشرت على العالم المسيحي عام 1321 ميلادية ، وقد جاء بها أن الحملة الصليبية الناجحة لابد وأن تمر بثلاث مراحل: أولها إضعاف قوة مصر الاقتصادية عن طريق فرض حصار بحري كامل لمدة ثلاث سنوات ، وثانيها مرحلة إرسال الحملة العامة ، وثالثها مرحلة الصمود في الأرض المفتوحة والاحتفاظ بالأرض المقدسة في أيدي الصليبيين.

وكما أن الحرب التي أعلنت على الإسلام واتخذت من الصليب شعاراً لها بعيدة كل البعد أن تكون ذات منطلق ديني فكذلك القرارات الباباوية المتعلقة بالحظر الاقتصادي وفرض المقاطعة على الدولة الإسلامية في مصر ، فقد أراد بعض الباباوات من وراء إصدار هذه القرارات أن يحصلوا على بعض المكاسب المادية ، إذ أن المدن الإيطالية والتجار الأوروبيين في سبيل رفع الحصار التجاري عن مصر ، والذي عصف باقتصادياتهم وكبدهم خسائر فادحة اضطروا للجوء إلى دفع الأموال للباباوية نظير الحصول على بعض التراخيص التي تجيز لهم التعامل مع مصر . وكانت مدينة البندقية الإيطالية قد دفعت أموالاً طائلة نظير الحصول على هذه التراخيص ، وذلك بعد أن تقدمت بعدة شكاوي توضح فيها أنها قد تضررت أبلغ الضرر من جراء فرض الحصار على مصر ، وأن لها الحق في أن تحمل إلى مصر البضائع التي لا تدعم قوة المماليك الحربية غير أن الباباوية تمسكت بموقفها في حظر كافة أشكال التعامل حتى وإن كانت السلع المراد تصديرها لا تخدم قوة المماليك العسكرية ، وقد ظلت الباباوية تتشدد في هذه المقاطعة والحظر ما يربو على العشرين عاماً «1323 -1344م» ولم يحملها على تغيير موقفها إلا ما بذلته البندقية من أموال طائلة – وبعبارة أدق رشاوٍ- فقامت بإصدار بعض التراخيص التي تجيز التعامل التجاري مع مصر ، مع استمرار حظر تصدير المواد التي يمكن أن تدعم قوتها العسكرية.

التحالف ضد مصر

إذا كانت المدن الإيطالية قد تعارضت مصالحها مع الباباوية فإن الأخيرة لم تعدم وجود مؤيدين لسياستها من الدول المسيحية فقد دخلت في تحالف طويل الأمد مع مملكة قبرص المسيحية والتي كانت خاضعة آنذاك لأسرة آل لوزجنان والتي جمعت لفترة من الوقت بين تاجي قبرص وإمارة بيت المقدس الصليبية في عكا ، وهو الأمر الذي جعلها تضطلع بدور هام في محاولة تأديب الدولة المملوكية وخنق اقتصادها. وكان بطرس الأول ملك قبرص قد دعا الدول الأوروبية في عام 1365 ميلادية للمشاركة في تجريد حملة صليبية إلى الإسكندرية بقصد الإستيلاء على المدينة وتهديد طريق التجارة العالمي الذي يمر بها ، وقد فطن النويري- أحد مؤرخي ذلك العصر- إلى هذا البعد الاقتصادي الكامن وراء هذه الحملة حين ذكر أن غايتها قطع الطريق على المراكب الآتية إلى الإسكندرية على الرغم من تسترها بستار الصليب ، وقد بارك هذه الحملة البابا أوربان الثاني الذي قام بجمع أموال الأديرة والكنائس للاستعانة بها في تجهيزها ووعد القساوسة بأنه سيردها لهم من غنيمته لأموال المسلمين. وما إن وصلت الحملة إلى الإسكندرية حتى قامت بنهب محتويات السفن الراسية في البحر ، ولم تكتف بهذا بل هاجمت منازل الأهالي والتجار وقامت بنهب محتوياتها هي الأخرى بعد أن أشاعت الروع في قلوب المصريين.

وهكذا نهضت قبرص بالعبء الأكبر في الحملة الاقتصادية الموجهة ضد المماليك وشن ملوكها حرباً شعواء ضد التجار الأوروبيين الذين ظلوا يتاجرون مع مصر، كما مارس القبارصة أعمال القرصنة في البحر المتوسط وقطعوا الطرق على المراكب الآتية إلى دمياط والاسكندرية ، واستطاعوا تجنيد عدد من التجار الأوروبيين المتعاملين مع مصر، وذلك بقصد الحصول على معلومات عن التحصينات بالسواحل والموانئ المصرية، ومواعيد وصول سفن التجار المسلمين. وقد دفعت تلك الأعمال العدائية المتكررة الدولة المملوكية إلى محاولة غزو قبرص ونجحت في الاستيلاء عليها عام 1426 ميلادية.

مشروعات استعمارية لتحويل مجرى النيل

لاشك أن خروج قبرص من حلبة الصراع قد أضعف كثيراً من إمكانيات نجاح الحظر الاقتصادي عبر البحر المتوسط شمالاً ، لذا حاول الصليبيون أن يمدوا الحصار إلى البحر الأحمر في الجنوب حتى تكتمل محاولات تطويق مصر اقتصادياً، ولم تجد الباباوية أفضل من مملكة الحبشة المسيحية لتؤازرها في مخططاتها لذلك أرسل البابا عدة رهبان ومبشرين إلى الحبشة من أجل إقناع ملكها بفرض حصار اقتصادي على مصر من الجنوب، وقد نجح رسل البابا في إقناع ملك الحبشة بالانضمام إلى الشركاء الأوروبيين الذين يفرضون حصاراً حول مصر ، كما اقترحوا أن تقوم الحبشة باستغلال موقعها المتحكم في منابع النيل وتعمل على تحويل مجرى نهر النيل، إلا أن الاقتراح لم يلق قبولاً من الحبشيين خشية رد الفعل المصري.

وقد ظلت فكرة تحويل منابع مجرى نهر النيل تراود عقول الدعاة الصليبيين فقد أرسل ملك أراجون – والتي توحدت مع قشتالة فيما بعد وصارت تعرف باسم مملكة إسبانيا – إلى ملك الحبشة عام 1450 ميلادية يطلب منه العمل على تحويل مجرى النيل ومهاجمة مصر من الجنوب. كما لاقت الفكرة قبولاً من البرتغاليين الذين كانوا قد شرعوا في الالتفاف حول أفريقيا في محاولة لاكتشاف طريق بديل لطريق مصر التجاري. وقد عقد البرتغاليون تحالفاً مع الحبشة التي توافدت عليها البعثات الأوروبية والدعاة الصليبيون من كل حدب وصوب، وعقب اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح 1498 ميلادية طلب قائد الأسطول البرتغالي من ملك البرتغال إمداده بعدد من العمال المدربين على قطع الصخور وحفر الأرض للعمل على تحويل مجرى النيل، وعلى الرغم من أن هذه المشروعات لم يكتب لها النجاح إلا أنها تظهر مدى تصميم الأوروبيين الصليبييين على القضاء على اقتصاديات الدولة المملوكية قضاءً مبرماً، وهو ما يؤكد استمرار الحروب الصليبية واستقرارها في شكل اقتصادي.

ويمكن القول أن فكرة الحصار الاقتصادي التي تم تطبيقها من جانب الغرب لم تنجح في خنق الاقتصاد المصري تماماً إلا بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، فقد استطاع البرتغاليون باكتشافهم هذا الطريق تحقيق أهداف الحرب الاقتصادية، وعلى الرغم من طول الطريق وكثرة تكاليفه مقارنة بطريق مصر القصير فقد أقبل الغرب على ارتياده وعزف عن المرور بمصر ، واستطاع الحصول على الحاصلات الشرقية وبخاصة التوابل من الهند وإيران مباشرة دون الاحتياج إلى وساطة مصر ، الأمر الذي ألحق أفدح الخسائر باقتصاد مصر وترتب عليه إضعافها عسكرياً. وباكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح يكون الستار قد أسدل بصورة نهائية على هذه الحروب التي اتخذت من الدين شعاراً لها لتخفي وراءه دوافعها المادية البحتة.




--------------------------------------------------------------------------------



المصادر:

سعيد عبد الفتاح عاشور : الظاهر بيبرس ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 2001.

سعيد عبد الفتاح عاشور : الحصار الإقتصادي الأوروبي على مصر ، 1962.

عثمان علي محمد عطا : الأزمات الإقتصادية في مصر في العصر المملوكي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب،2002.

علي السيد علي : المرأة المصرية والشامية في عصر الحروب الصليبية ، المجلس الأعلى للثقافة ، 2002.

محمد عبد الغني الأشقر : تجار التوابل في مصر في العصر المملوكي ، 1997.

ياسر حلمي أحمد عبده : طبقة التجار في مصر في عهد دولة المماليك ، القاهرة ، 1996.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] طالبة دكتوراه في التاريخ.

د.فالح العمره
16-04-2005, 11:49 PM
حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني (1517-1524م)

والنتائج المترتبة عليها



د. أسامة محمد أبو نحل
الأستاذ المساعد في التاريخ الحديث ورئيس قسم التاريخ
كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة الأزهر ـ غزة


1424هـ/2003م



--------------------------------------------------------------------------------


ملخص


تؤرّخ هذه الدراسة مرحلةٍ مهمة من تاريخ مصر العثمانية، التي شهِدت مرحلة التمرد في مصر في بداية العهد العثماني (1517 ـ1524م) والنتائج المترتبة عليها. فقد أفاض كثيرٌ من المؤرخين والباحثين في التأريخ لاستيلاء العثمانيين على مصر، غير إن قلة منهم تحدّثت باقتضاب عن حركات التمرد التي اشتعلت ضد الوجود العثماني فيها في بداية عهدهم بها، بينما تجاهلها الآخرون تجاهلاً يكاد يكون تاماً رغم أهميتها على قِصر مدتها الزمنية.

لم يبيّن هؤلاء المؤرخون الدوافع الرئيسة لتلك الحركات، مثل حركة تمرد المماليك عام 928هـ/1522م بزعامة جانم السيفي وأينال السيفي، وحركة تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن عام 930هـ/1524م.

أما النتائج التي ترتبت على تلك الحركات، فقد أسهبت الروايات التاريخية في سردها، وكان أهمها على الإطلاق ما أصدره السلطان سليمان القانوني من مجموعة تنظيمات إدارية، أو ما أُطلق عليه اسم "قانون نامه مصر".



المقدمة
أفاض الكثير من المؤرخين والباحثين في التأريخ لاستيلاء العثمانيين على مصر، وأفاضوا في سرد تفاصيل التنظيمات الإدارية التي اتبعوها في هذه الولاية المهمة، غير إن قلة منهم اهتمت ببحث حركات التمرد التي اشتعل أوارها ضد الوجود العثماني في مصر، بينما لم يولِها الكثير أدنى اهتمام، بل تجاهلوها تماماً رغم أهميتها على قِصر مدتها الزمنية.

وأهم ما ترتّب على تلك الحركات اهتمام العثمانيين من جديد بأهمية مصر وموقعها وخشيتهم من فقدانها، فقرر السلطان العثماني سليمان القانوني إصدار ما سُمي "بقانون نامه مصر"، في محاولةٍ للحد من نفوذ السلطات الإدارية المختلفة في الولاية المصرية، خاصة سلطة المماليك.

وأولى الاضطرابات التي برزت في مصر مع مطلع الحكم العثماني لها، قادها الشيخ عبد الدايم بن أحمد بن بقر، شيخ العرب في إقليم الشرقية، وذلك في عام 924هـ/1518م، بعدما خرج عن طاعة والي مصر خاير بك. وكان من قبل قد خرج عن طاعة السلطان المملوكي قانصوه الغوري من قبل.

ومما يلفت النظر أن حركة التمرد التي قادها المماليك بزعامة جانم السيفي وأينال السيفي عام 928هـ/1522م، لم يوضّح المؤرخون الذين أرّخوا لها الدوافع التي من أجلها قام المماليك بها، ويأتي على رأسها عداء الأمراء المماليك للسلطة الحاكمة الجديدة، وإحساسهم بفقدان امتيازاتهم، وأنهم أصبحوا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين.

وفيما يخص حركة التمرد التي قادها والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن، فقد أهمل المؤرخون السبب الذي دعاه للقيام بها، وهو حقده على الصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي سلبه هذا المنصب من وجهة نظره، فقرر الانتقام منه ومن الدولة بإعلان استقلاله بمصر وتحالفه مع شيخ العرب في إقليم الشرقية عبد الدايم بن بقر.

أما النتائج التي ترتّبت على تلك الحركات فقد أسهبت الروايات التاريخية في سردها، وكان أهمها إصدار السلطان العثماني سليمان القانوني مجموعة من التنظيمات الإدارية والقوانين ما سُمى "بقانون نامه مصر".

منهج الدراسة:

اعتمدت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي للروايات التاريخية الخاصة بموضوع البحث على قلتها مع عدم إغفال المنهج السردي للأحداث التاريخية لِما لذلك من أهمية. وقد اعتمدت الدراسة على عددٍ من المصادر الأوّلية مثل: أخبار الأُول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول لمحمد ابن عبد المعطي الإسحاقي، والنزهة الزهية في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية، والمنح الرحمانية في الدولة العثمانية، مخطوطين لمحمد بن أبي السرور البكري الصديقي، ونزهة الناظرين فيمن ولي مصر من الخلفاء والسلاطين، مخطوط لمرعي بن يوسف الحنبلي، وأوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات، مخطوط لأحمد شلبي عبد الغني.

وكذلك المراجع الثانوية، مثل: العرب والعثمانيون لعبد الكريم رافق، وجذور مصر الحديثة لدانيال كريسيليوس، والحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر لإستيف.

إرهاصات حركات التمرد في مصر العثمانية:

بات من الأدبيات التاريخية ما يمكن اعتباره أن الفتح العثماني للأقاليم العربية التي كانت خاضعة من قبل لسيطرة السلطنة المملوكية، قد أصبح بداية عهد لأوج الدولة العثمانية، غير أن الباحث لتلك الفترة التاريخية المهمة في تاريخ المنطقة يجد أن العثمانيين قد ارتكبوا أخطاءً إداريةً كان أهمها في الإقليم المصري ما جعل نفوذهم فيه في مهب الريح لفترةٍ من الزمن.

صحيح أن الفتح العثماني للأقاليم العربية 922-923هـ (1516-1517م)، قد وضع نهايةً مؤلمة للسلطنة المملوكية في الشام ومصر، وبالتالي أعاد تشكيل شخصية واهتمامات الدولة العثمانية ذاتها، غير أن الاعتبارات والمصالح العثمانية تقدّمت على المصالح الطبيعية لمصر في الأقاليم المجاورة لمدةٍ طويلةٍ من الزمن، ومع ذلك فقد ظلت مصر هي القاعدة التي يشع منها النفوذ العثماني على أغلب هذه المناطق ذات الأهمية التاريخية بالنسبة لمصر(1).

ومما يجدر ذكره أن استيلاء العثمانيين على مصر وغيرها من الأقاليم العربية، قد حدث عندما وصلت دولتهم ذروة مجدها، وكادت تصل إلى أقصى حدود اتساعها، أي أن الاهتمام العثماني بالمنطقة العربية إنما حدث عندما اجتازت دولتهم عهد الشباب الدافق، ودخلت في طور الكهولة المكتملة، فوصلت إلى حدود التوسع والاعتلاء من الوجهتين المادية والمعنوية(2)، وهذا ما يؤكّد صحة ما ذكرناه آنفاً.

ولمّا استولى العثمانيون على مصر وغيرها من الأقاليم العربية لم يحاولوا صِبغة أهالي هذه الأقاليم بالصِبغة العثمانية أو يربطوهم برباط الحضارة العثمانية أو حتى أن يوجدوا بينهم شيئاً من التعاون المتبادل أو لوناً من النشاط المشترك، بل اتبعوا المبدأ نفسه الذي ساروا عليه في كل أملاكهم تقريباً، وذلك بأن تركوا العناصر الأصليّة في حكم البلاد المفتوحة بعد إجراء بعض التعديلات التي تضمن لهم بقاء السيادة والسيطرة، بحيث سارت شعوبها على ما ألِفته من عادات وتقاليد لا يضيرها إلاَّ تعسف ولاتها في بعض الأحيان ومفاسد الحكم والإدارة، وكانت عناصر هذا الفساد في أغلبها موروثة عن فترة الحكم المملوكي وليست كلها مستحدثة في العصر العثماني(3).

إن ما تميّز به الحكم العثماني في بداية عهده لمصر؛ أنه كان حكماً غير مباشر رغم مركزيته، لكنّه غير شامل، فالنظام الذي أسسه العثمانيون في مصر كان في حقيقته خليطاً من عناصر عثمانية ومملوكية، فالقوات المملوكية التي بقيت بعد هزائمها في مرج دابق في الشام والريدانية في مصر أُعطيت لها واجبات وتم دمجها في الوحدات العسكرية العثمانية أو شُكّلت في وحدات منفصلة خاصة واُستعين بها كقواتٍ احتياطية بمعرفة القادة العسكريين العثمانيين. ونجح النظام الإداري العثماني الجديد في امتصاص كل الموظفين العاملين في النظام المملوكي المهزوم، ويبدو أن الهدف من وراء هذا الدمج والامتصاص كان توفير الخبرة والاستمرار للنظام العثماني الجديد(4).

لقد منحت الإدارة العثمانية في مصر حكومات الأقاليم المصرية أو ما يُطلق عليه اسم السنجقيات والكاشفيات لبكواتٍ من المماليك، رغم أن العنصر المملوكي لم يكن عنصراً أصيلاً في حكم مصر، لكنه على أية حال أقدم من العنصر العثماني، والسيادة المملوكية على مصر كانت أسبق من السيادة العثمانية. وقد ظلت مصر تحيا الحياة التي كانت تحياها في عصر سلاطين المماليك فيما عدا الخزنة السنوية والخطبة والسكّة وملكية السلطان نظرياً للأرض(5). ومن أهم البكوات المماليك الذين تسلّموا منصب الكشوفية في بداية العهد العثماني لمصر، أينال السيفي وجانم السيفي(6).

يتضح لنا مما سبق ذكره أن تعيين البكوات المماليك في تلك المناصب المهمة؛ إنما كان تمشّياً مع مبدأ العثمانيين في إيجاد نوعٍ من التوازن بين القوى الحاكمة في مصر، لبقائها دوماً تحت سيطرتهم.

استمر السلطان سليم الأول في إدارة شؤون مصر وضبط خراجها في أثناء وجوده بها، رغم تعيينه لأحد وزرائه وهو يونس باشا كنائبٍ عنه في حكم الإقليم المصري، وكان يُلقّب بنائب السلطنة طيلة وجود سليم في مصر؛ لكن الأخير قُبيل مغادرته الأراضي المصرية عام 923هـ/1517م، عزل يونس باشا وعيّن عِوضاً عنه الأمير خاير بك أحد أمراء السلطان المملوكي قانصوه الغوري، بعدما أثبت له إخلاصه وأبقى على لقبه الذي كان يُلقّب به من قبل وهو "ملك الأمراء"(7). ويبدو أن سليماً وافق على جعل مصر تحت حكم خاير بك طيلة حياته(8) بعدما ترك له بها من القوات العثمانية نحو خمسة آلاف فارس، إضافةً إلى نحو خمسمائة من الرماة(9).

نجح خاير بك إبان ولايته على مصر في استتباب الأمن فيها بعدما أطلق سراح عدد كبير من المماليك الجراكسة ومنحهم الأمان، وفي هذا يقول المؤرخ ابن إياس: "… وفي يوم السبت خامس عشرينه (أي شهر شعبان 923هـ) نادى خاير بك في القاهرة بأن المماليك الجراكسة تظهر وعليهم أمان الله تعالى. فظهر منهم الجمّ الغفير وهم في سوء حال"(10).

ويبدو أن خاير بك جابه خلال فترة ولايته اضطراباً أمنياً محدوداً من جانب القبائل العربية في إقليم الشرقية قادها شيخ العرب عبد الدايم بن بقر، وقد فشل خاير بك في استمالته، مما اضطره إلى تعيين والده الشيخ أحمد بن بقر في مشيخة جهات الشرقية، فازدادت الاضطرابات بعدما نهب الشيخ عبد الدايم وأعوانه منية غمر وأحرقها وغيرها من القرى في الشرقية، ويؤكّد ابن إياس ذلك بقوله: "وفي يوم السبت تاسعه (أي شهر صفر 924هـ) قويت الإشاعات بعصيان عبد الدايم؛ وأن قد التفّ عليه عربان كثيرة من الشرقية والغربية، وطرد أباه الأمير أحمد من الشرقية، واضطربت أحوال الشرقية إلى الغاية"(11).

وبعدما توفى خاير بك عام 928هـ/1522م، تعاقب على حكم مصر عدة ولاة منهم مصطفى باشا زوج أخت السلطان سليمان القانوني الذي نعته البعض بأنه عنجهيٌ، متعاظم على المصريين، ومترفّعٌ عن التعرّف بهم(12). بينما نعته آخرون بأنه متديّنٌ، محبٌ لعمله، وحسن السيرة(13)، وفي عهد هذا الوالي حدث أول تمرد مملوكي في مصر، وهو ما سنأتي على تفاصيله.

تمرد أينال السيفي وجانم السيفي على الحكم العثماني:

يحق للمرء التساؤل عن الدوافع التي دعت اثنين من قادة المماليك للتمرد والثورة على الحكم العثماني في مصر. فالدافع الأول لهذا التمرد هو أن بعضاً من الأمراء المماليك رغم انهيار سلطنتهم تماماً عام 923هـ/1517م، فإنهم ظلوا يكنّون العداء والضغينة للعثمانيين؛ ومما يدلّل على ذلك انضمام الكثيرين منهم لحركة التمرد التي قادها والي الشام جان بردي الغزالي، الأمير المملوكي الذي عيّنه السلطان سليم الأول في أثناء عودته للآستانة، وهؤلاء كانوا من المماليك الناقمين على والي مصر خاير بك، الذي بطش بهم فيما بعد(14).

أما الدافع الثاني أن بعضاً من المماليك قد أحسّوا؛ أنهم في ظل العهد الجديد قد فقدوا امتيازاتهم وجاههم، بينما قبِل البعض الآخر سياسة الأمر الواقع بالخضوع للحكم العثماني(15). ويتمثّل الدافع الثالث وهو الأهم؛ أن متزعمي التمرد كانوا من المخلصين لآخر سلاطينهم طومان باي حتى بعد إعدامه حيث عمد أحدهم وهو أينال السيفي لقتل الشيخ حسن بن مرعي وأخيه شُكر وهما اللذان سلما السلطان طومان باي للسلطات العثمانية لتقوم بدورها بإعدامه(16).

نستنتج مما سبق ذكره أن ولاء المماليك المهزومين للحكام الجدد لم يكن قد ترسّخ بعد، مما دعاهم للقيام بحركات تمرد ضدهم في محاولةٍ لإعادة مجدهم الذي داسه العثمانيون، فأصبحوا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين، لهم الصولة والجولة.

ومهما يكن من أمر، فإنه طيلة فترة ولاية خاير بك على مصر لم تأخذ أية ثورة على السيادة العثمانية مكانها، لكن بعد وفاته أصبحت سلطة السلطان الجديد سليمان القانوني على المحك، حيث بدأ بمجابهة حركات التمرد التي لم تظهر في عهد أبيه سليم، فقضى في عام 927هـ/1521م على حركة والي الشام الأمير جان بردي الغزالي، وبعدها بعام جوبه بحركة جديدة في مصر تزعمها اثنان من قادة المماليك هما أينال السيفي كاشف الغربية التي تقع في الجزء الغربي من الدلتا على الضفة اليمنى لفرع رشيد من النيل، وجانم السيفي كاشف البهنسا والفيوم في مصر الوسطى(17). وكان تعيين السلطان سليمان لمصطفى باشا والياًَ على مصر بعد خاير بك في محله، فقد كان ذا شأنٍ بما فيه الكفاية؛ إذ لم يكن من نخبة المماليك وإنما عثمانياً ذا مكانة سامية مرموقة وصهراً للسلطان وكفواً لمواجهة الخطر المحدق بأهم الولايات العثمانية في الشرق(18).

ويبدو أن قادة التمرد قد استحسنوا التعبير عن رؤيتهم للنخبة العسكرية لقدامى المماليك وذلك بتباهيهم بشجاعتهم وبسالتهم وازدرائهم للأسلحة النارية الحديثة التي بواسطتها تمكّن العثمانيون من قهر سلطنتهم، وتقليلهم من شأن السلطان سليمان الذي كان صغير في السن، وذلك بقولهم أنه لو قدِم بنفسه لمحاربتنا فسوف نهزمه، فنحن لن نترك هذه البلاد لهؤلاء التركمان الذين لا يعرفون قتال الفروسية(19).

وجاهر الثائرون بعدم طاعتهم للسلطان العثماني وتوجهوا نحو إقليم الشرقية الواقع إلى الشرق من دلتا النيل وهي منطقة استراتيجية حيث يكون في مقدورهم قطع المواصلات بين مصر وبلاد الشام، كما أنهم تحكموا بطريق المواصلات والمؤن بين الصعيد والقاهرة(20).

وكان أينال السيفي قد وصل إلى الشرقية قبل جانم السيفي، وقد انضم إليه بعض المماليك وبعض القبائل العربية بالشرقية، فصمم الوالي مصطفى باشا على قمع هذا التمرد قبل أن يتفاقم أمره ويخرج عن السيطرة والتوجه بنفسه لمقاتلتهم، غير أن القاضي موسى بن بركات والمعروف في المصادر التاريخية باسم الزيني بركات(21) ألحّ على الباشا بالتريث في شأن القتال، وطلب منه أن يكتب لزعماء التمرّد كتاباً بالأمان والعفو ووعده بإحضارهم إليه، فاستجاب الباشا لطلبه، وتوجه إلى معسكر المتمردين لإقناعهم بالتسليم، غير أن فصاحته فشلت في إغراء أينال السيفي، الذي قطع رأسه كخائنٍ للقضية المملوكية(22).

وفي اليوم التالي انضم جانم السيفي إلى حليفه أينال وبقيا معاً في الشرقية في انتظار وصول أعيان المماليك الذين كانوا على علمٍ مسبق بالمؤامرة وتخلّفوا عنهم، ولمّا سمع مصطفى باشا بمقتل الزيني بركات اشتاط غضباً وأمر بتشكيل حملة مسلحة مؤلفة بالكامل من الفرق العثمانية وجعل قيادتها لموسى أغا الإنكشارية وسليمان أغا التفكنجية، وفي الشرقية دارت رحى معركة انتهت بمقتل جانم بعدما تعثّر عن فرسه ووقع فقطع العثمانيون رأسه، بينما تمكن أينال من الفرار باتجاه غزة واختفى نهائياً ولم يعُدْ له ذكر، وادّعى البعض من الجهلة السذّج، أنه ارتدى طاقية غير مرئية لا يراه أحد إذا لبسها(23).

أمر مصطفى باشا بتعليق رأس جانم السيفي على باب زويلة في القاهرة لإرهاب من تسوّل له نفسه من المماليك في الخروج عن طاعة السلطة العثمانية، ثم أرسلها فيما بعد إلى السلطان سليمان في الآستانة، الذي شكره بدوره على صنيعه وأرسل له قفطاناً هديةً وأمر بترقية جميع العساكر الذين أسهموا في القضاء على التمرد(24).

تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن

بعد أن تمكن مصطفى باشا من إنهاء حركة التمرد التي قادها المماليك هدأت الأمور في مصر؛ لكنه هدوءاً مؤقتاً؛ إذ سرعان ما تفاقمت حركة تمرد جديدة بعد ما يزيد عن العام، فبعد عام وعشرة أشهر من تولي مصطفى باشا الولاية في مصر تم عزله في 16 ذي الحجة 928هـ، وحلّ محله قاسم جزل باشا الذي بقي والياً على مصر لمدة عام واحد فقط ثم عُزل وتولى منصبه أحمد باشا في صفر 930هـ(25).

وثمة سببٌ أدّى إلى تولي أحمد باشا ولاية مصر، فقد أسهم المذكور في الفتوحات العثمانية في أوروبا، خاصةً في البلقان، وطمِع في تولي منصب الصدارة العظمى بسبب المرض العضال الذي ألمّ بالصدر الأعظم محمد باشا الصدّيقي، فأعجزه عن الحركة وطلب إعفائه من الخدمة، وعيّن مكانه "أود باشا"، وكان أحمد باشا أقدم منه وكان يتوقع أن يتولى هو المنصب، غير أن منافسه إبراهيم باشا نجح في الحصول على هذا المنصب؛ ولكي يُبعِد أحمد باشا عن الآستانة، عيّنه والياً على مصر بعد موافقة السلطان تعزيةً له عن المنصب الأهم ـ الصدارة العظمى، ويبدو أن هذا التعيين لم يمنع حالة العداء المستحكم بين الرجلين لفارق الأهمية بين منصبيهما(26).

ومهما يكن من أمر؛ فقد استمر أحمد باشا فور توليه حكم مصر في إلحاق الموظفين والقوات المملوكية في جهازه(27) لأمرٍ دبّر له على ما يبدو هو الانتقام لذاته من الخيبة في الحصول على منصب الصدارة العظمى.

ويبدو أن أحمد باشا كان من الرعونة بمكان، أنه تعجّل إعلان تمرده على السلطان العثماني قبل أن يُكمل استعداداته بفعل قوة الحقد والعداء الذي يكنّه للصدر الأعظم إبراهيم باشا فانفجر في أعماقه الضغط النفسي الدفين وتذرّع بذريعةٍ واهيةٍ لإعلان تمرده لكسب الأنصار من حوله؛ بادّعائه أن السلطان سليمان أرسل تعليماتٍ لقائد الإنكشارية في القاهرة باغتياله وقتل أمراء المماليك، كما ادّعى أنه ألقى القبض على حامل الكتاب الذي به تلك التعليمات، ومن ثمّ أصبح ذا مزاجٍ حاد ومستبد، وقام بمصادرة ثروات أعيان مصر وأمر بقتل كبار الضباط العسكريين(28).

وقد توفر لأحمد باشا في مصر العديد من عناصر الثورة والتمرد الضرورية، في مقدمتها بُعد مصر الجغرافي عن مركز الدولة العثمانية، ثم يلي ذلك ما تتمتع به مصر من غنىً وكِبر مساحتها، ووجود المماليك الناقمين فيها على الحكم العثماني، والذين يجمع بينهم وبينه النسب الجركسي القوقازي(29)، متوهماً أن تلك العناصر كفيلة بتحقيق نجاحٍ باهرٍ في تهديد الوجود العثماني في مصر.

ومن بين الذين استهدفهم غضب أحمد باشا، الأمير جانم الحمزاوي(30) ذو الأصل المملوكي ومن كبار الأمراء في مصر ومحمود بك، وعندما حاول قائد الإنكشارية التوسّط لديه من أجل إطلاق سراح جانم الحمزاوي، اعتقله بدوره ثم قتله(31). والواقع إن تخلص أحمد باشا من قائد الإنكشارية لم يكن حادثاً عرضياً بل متعمداً لسببين اثنين هما: اعتقاده أولاً بأن هذا القائد هو الذي رشحه السلطان سليمان لتولي نيابة مصر عوضاً عنه بعد التخلص منه. وثانياً أن فرق الإنكشارية كانت موالية للسلطان العثماني وتمكنت من كسب ثقته بصورةٍ مطلقة، ويبدو أن أحمد باشا أراد تحطيم الروح المعنوية لتلك الفرق العسكرية عن طريق قتل قائدهم(32).

إن الإجراءات السالف ذكرها أقنعت أحمد باشا أن علاقته بالسلطة المركزية العثمانية قد وصلت إلى نقطةٍ لا يجوز له العودة عنها، وأن قانون المرحلة يقتضي منه الاندفاع قُدماً في مخططه إلى آخر الشوط مهما كلفه الأمر، معتمداً على أعوانه الذين ربما منّوا أنفسهم بإمكانية تحقيق الانفصال عن الدولة العثمانية، وأن يُصبح لهم شأوٌ ذو أهمية في الدولة المنتظرة.

انتقل أحمد باشا فيما بعد للشروع في الثورة، في مطالبته بحقه في سلطنة مصر وإصراره على امتيازاته الملكية في ذكر اسمه في خطبة الجمعة وسك اسمه على العملة. وفي تلك الأثناء ابتنى جيشاً خاصاً به غالبيته إلى حدٍ بعيد من المماليك، وطلب من الإنكشارية التي تحصّنت في قلعة القاهرة بالانصياع له، فلما رفضت فرض عليها الحصار، وأمام قسوة الحصار اضطر هؤلاء من شق طريقهم عن طريق نفقٍ سري تحت الأرض داخل الحصن، فسقطت القلعة بيد أحمد باشا في 7 شباط (فبراير) 1524م، ثم أعلن نفسه سلطاناً في الثاني عشر من الشهر نفسه، وذكر اسمه في الخطبة وعلى السكّة(33).

بعدما تغلّب أحمد باشا على مناوئيه الخطيرين، حاول فعل أي شيء لإضفاء الشرعية على مركزه ومنصبه الجديد؛ بأن طلب من فقهاء المذاهب الأربعة في مصر ومن سليل البيت العباسي ابن آخر خليفة عباسي مهمش حلف اليمين له. ولم تذكر المصادر التاريخية إطلاقاً كم كان عدد المؤيدين لحركته والذين وثِقوا به؛ لكن الواضح أنه أكثر من مصادرة الأملاك وممارسة الابتزاز ضد اليهود والمسيحيين، كما عمد لكسب حلفاء جدد له من خارج القاهرة فمنح حق ضرائب الأراضي الزراعية لمنطقة الشرقية لشيخ العرب عبد الدايم بن بقر، الذي كان قد ثار من قبل على حكومة خاير بك، وقد أدّى هذا التحالف إلى تهديد الحدود المصريةـ الشامية(34).

وأمام تفاقم الأوضاع في مصر وتدهورها وخشية السلطة المركزية العثمانية من فقدان أهم ولاياتها في الشرق الإسلامي عمدت إلى استخدام سلاح لا يقل خطورة عن السلاح الذي يُستخدم في المعارك الحربية؛ إن لم يضاهه أهميةً ويفوقه وهو سلاح الدعاية (أو ما يُطلق عليه في أيامنا باسم حرب الشائعات). ويبدو أن العثمانيين نجحوا في استخدامه إلى حدٍّ بعيد، حيث أشاع العثمانيون في القاهرة أن أحمد باشا الذي تم تلقيبه بالخائن على علاقةٍ وطيدة بالصفويين الذين يحكمون في بلاد فارس ويعتنقون المذهب الشيعي، وأنه تحت إغراء ظهير الدين الأردبيلي تحوّل عن المذهب السّنّي، وأصبح من أتباع الشاه إسماعيل الصفوي. وكان ظهير الدين الأردبيلي قد استقر في إحدى المقاطعات العثمانية وتظاهر بولائه للمذهب السُنّي وقد رأى الأردبيلي أن من المناسب الكشف عن سرّه وماهيته وإظهار حقيقة أمره لكي يُحوّل أحمد باشا إلى اعتناق المذهب الشيعي، وليؤكّد بأن أملاك السّنّة قد أصبحت غنائم شرعية(35).

ويبدو أن العثمانيين استخدموا تلك الوسيلة الدعائية بمهارة لتشويه سمعة أحمد باشا بين أتباعه من ناحية والأهلين في مصر من ناحية أخرى؛ ذلك لخشيتهم من قيام تحالفٍ فعلي بين والي مصر والشاه إسماعيل الصفوي(36). ونجحت الدعاية بالفعل واتت أُكلها رغم افتقارها إلى الدليل المادي في إثارة الأهلين ضد أحمد باشا، وأعلن قضاة المذاهب الأربعة كفره وأوصوا بالجهاد ضده(37).

وكان من النتائج التي ترتبت على هذه الدعاية انهيار قوة أحمد باشا بشكلٍ فُجائي وعلى نحوٍ دراماتيكي؛ إذ حدث انقلابٌ مضاد تم تخطيطه من جانب الأمير جانم الحمزاوي الذي نجح في فك أسره مع أحد المسئولين العثمانيين إضافةً لأحد الأعيان المماليك، فنصبا صنجقاً (رايةً) سلطانياً، وناديا من أطاع الله ورسوله والسلطان فليقف تحت هذا الصنجق، وتمكنا من جمع الكثير من الأهلين وفاجأوا أحمد باشا في 23 شباط (فبراير) 1524م/930هـ، وهو في الحمّام. وبينما كانت قواتهم تشتبك مع مؤيديه نجح في الفرار من خلال الأسطح ولم يكن بعد قد أتمّ حلاقة رأسه، وتمكن من الوصول إلى الشرقية والتجأ عند الشيخ عبد الدايم بن بقر، ونهب أعداؤه كل ما يملكه من عتادٍ وسلاح(38).

تمكن أحمد باشا خلال وجوده في الشرقية من تأسيس قوة عسكرية قوامها في الغالب من العربان والجراكسة وبعض العثمانيين، وتعهّد لهم باسترداد القاهرة ونهبها، كما كفل للقبائل العربية الإعفاء التام من الضرائب لمدة ثلاث سنوات، وفي تلك الأثناء كان المجلس السياسي الموالي للعثمانيين في القاهرة قد تولّى الإدارة، وعيّن مجلسُ الأعيان العسكريُّ الأمير جانم الحمزاوي لقيادة الإنكشارية وزملاءهُ المماليك لقيادة قوات الخيالة الجراكسة، كما تم تعيين القائد العثماني كحاكمٍ للقلعة، وأُعلنت في القاهرة التعبئة العامة للجيش للمشاركة في التخلص من أحمد باشا الذي تم وصمه بالخيانة والكُفر لموالاته الشاه إسماعيل الصفوي(39).

تسارعت الأحداث فيما بعد بصورةٍ حثيثة وأرسلت الحكومة الجديدة التي تم تعيينها في القاهرة حملة صغيرة لإلقاء القبض على أحمد باشا، لكنها باءت بالفشل، مما اضطر الأمير جانم الحمزاوي لقيادة حملة عسكرية مؤلفة من ألف مقاتل مع تسعة مدافع لمواجهة المتمردين. ويبدو أن تلك الحملة ساعدها الحظ في النجاح بسبب الانشقاق الذي دبّ بين الجماعات العربية المنشقة المنافسة التي ترامى لمسامعها أن نحو ألف من الجند الإنكشارية قد نزلوا إلى الإسكندرية، فحثّ كلاً من والد الشيخ عبد الدايم وأحد أبنائه، عبد الدايم عن التخلي عن أحمد باشا لكي يحفظوا أنفسهم من الدمار والقتل الذي سيلحقه بهم العثمانيون.

وأمام إلحاح أقاربه اضطر الشيخ عبد الدايم للإذعان، فأخذت قوات أحمد باشا بالتلاشي تدريجياً، مما أدّى إلى إلقاء القبض عليه في أثناء القتال وقطع رأسه في 6 آذار 1524م/930هـ، وحُملت رأسه إلى القاهرة وتم تعليقها على باب زويلة، وبعد فترة تم إرسالها إلى الآستانة ليتأكد السلطان من الإجهاز على تمرده، ويعتبر أحمد باشا الأول من عدة ولاة حمل لقب ثابت وبارز هو الخائن(40).

وقد شاءت الصدفة أن يُلاقي أحمد باشا مصيره بالقتل بعد أسبوع فقط من مقتل ظهير الدين الأردبيلي، الذي قُتل في 20 ربيع الأول 93هـ/26 شباط (فبراير) 1524م(41).

النتائج المترتبة على حركات التمرد:

أدّى القضاء على حركات التمرد السالفة الذكر إلى نتائجَ غايةً في الأهمية؛ فقد أحسّت السلطة المركزية في الآستانة بضرورة إجراء تعديلات إدارية في أنماط الحكم في مصر خشيةً من فقدانها للأبد، أو استهانة المماليك والولاة ذوي النزعة الانفصالية في مقدرة الدولة العثمانية على إبقاء مصر تحت سيطرتها، فاستلزم الأمر من العثمانيين إعادة فتح مصر مرة أخرى، لكن هذه المرة ليس فتحاً عسكرياً بل إدارياً، فأرسلت الدولة جيشاً عثمانياً تحت قيادة الصدر الأعظم "إبراهيم باشا" الذي حمل لقب والي مصر أيضاً، كما منحته الدولة أيضاً حق إجراء تنظيم البلاد من جديد بواسطة مجموعة التنظيمات الصادرة تحت رعاية السلطان سليمان القانوني والمُسماة "قانون نامه مصر" عام 1524م(42).

بقي إبراهيم باشا في مصر أسابيع عدّة فقط (شهرين وأربعة وعشرين يوماً)، لكنه ترك فيها ذكرى طيبة لولايته من خلال قانون نامه مصر، هذا المرسوم الذي جمع القوانين الإدارية ونسّقها وعمل على تطبيقها(43). وقد أكّد محمد بن أبي السرور البكري الصديقي بقوله: "وقد أحاط (أي إبراهيم باشا) بأحوال مصر ورتّب الديوان والعساكر والجيوش وكتب قانوناً لطيفاً وارتفاع الأقاليم وضبط مقاطعاتها وطينها من السلطاني والأوقاف، وجعل لها قطايع معلومة بموجب دفاتر الجراكسة القديمة (السلطنة المملوكية السابقة) وأودعها ديوان مصر"(44).

وبناءً على ما سبق، فالدولة العثمانية قررت بذلك وضع نظام معقّد من التوازنات والاختبارات العسكرية والبيروقراطية في محاولةٍ منها لتقليل فرص طموحات ولاتها في مصر في المستقبل(45).

ويتكوّن قانون نامه مصر من جزء ين رئيسين: الأول ـ يتناول المؤسسة العسكرية في مصر، وتألّف من ست فرق من الجنود أو ما سُمي بالأوجاقات(46)، وبيانها كالتالي:

1ـ أوجاق الإنكشارية (المستحفظان): ووظيفته حراسة القاهرة ومداخلها، إضافةً إلى تولي مهام الشرطة في العاصمة وبعض المدن المصرية الكبرى.

2ـ أوجاق العزبان: ومهامه كثيرة ومماثلة لمهام المستحفظان. وهذا الأوجاق يتولى حراسة أعمال الدورية في النيل بالقوارب، لكن هذا الأوجاق أقل عدداً ورواتبَ من المستحفظان.

3ـ أوجاق الجاووشان (الجاويشية): ويعمل كحرسٍ خاص للوالي ويؤدي وظيفة حمل الأوامر الصادرة عن الوالي إلى الجهات المُرسلة إليها.

4ـ أوجاق التفنكجيان (التفقنجية): وهم عبارة عن رماة.

5ـ أوجاق الجوكلليان (الهجّانة): وينطقها المصريون "الجموليان" بمعنى راكبي الجمال، وهم من المتطوعين الذين عملوا في الأقاليم.

6ـ أوجاق الجراكسة: وهم الخيّالة من بقايا النظام المملوكي ومهمتها مشابهة لمهام أوجاقي الخيّالة التفنكجيان والجوكلليان.

وقد أُضيفت فيما بعد لتلك الأوجاقات، أوجاق آخر في عام 1554م هو المتفرّقة وهو الحرس الخاص للوالي أيضاً بحيث مكّنه من المحافظة على سلطته بين الأوجاقات العسكرية حتى القرن السابع عشر الميلادي(47).

والواضح أن السلطان سليمان إنما أراد بتأسيس تلك الأوجاقات ودعمها، أن تكون بمثابة جيشٍ احتياطي(48) يمكن الاستعانة به وقت الحاجة إليه في حروب الدولة العثمانية الخارجية.

أما الجزء الآخر من هذا القانون فهو وصف للإدارة المدنية التي ورثت بعض السمات من السلطنة المملوكية السابقة(49)، وهي مختصة بإدارة البلاد. ويكون على رأس هرم هذه الإدارة والٍ يقيم في قلعة القاهرة وهو الموظف التنفيذي الأول وممثل السلطان العثماني في ولاية مصر، ويحمل لقب باشا، وله القيادة الاسمية لقوات الحامية العثمانية فيها؛ لأن سلطته على هذه القوات كانت غامضة وضعيفة. وكان يتم اختياره وتعيينه بواسطة الديوان السلطاني في الآستانة من بين الوزراء الكبار في الدولة، ومن المهام الصعبة المُلقاة على كاهله في مصر المحافظة على النظام والانضباط بين قوات الحامية العسكرية، وكشف أية مطامح عسكرية لدى الزعامات المملوكية(50).

كان الوالي بناءً على قانون نامه يباشر مهامه ويُصدر أوامره من خلال الديوان(51) في مصر، وهو مجلس مكوّن من كبار الموظفين الدينيين والإداريين والعسكريين في الجهاز العثماني في ولاية مصر(52)، وسلطة الوالي (الباشا) متمثلة في رئاسته للديوان والتصديق على قراراته وإعطاء الأوامر لوضعها موضع التنفيذ، وكان الهدف من إنشاء هذا الديوان الحد من سلطة الباشا(53)، الذي كان يساعده في الحكم الكيخيا (الكتخدا)(54) والدفتردار(55) حيث كانا يتلقيان منه الأوامر قبل المداولات ثم يحيطانه علماً بالقرارات التي أعقبت أوامره(56).

لم يكتفِ السلطان بوضع والٍ على مصر يحكمها نيابةً عنه؛ لذا أنشأ سلطات عدّة أخرى للحد من نفوذه، فكان قاضي القضاة هو الموظف القانوني الأول في الولاية ويتم انتخابه من بين طائفة العلماء بواسطة السلطات في الآستانة، ثم يتم إرساله إلى مصر لإدارة النظام في المحاكم العثمانية، وكان من بين واجبات قاضي القضاة مراقبة أعمال الوالي والتأكّد من صحة تنفيذه الأوامر السلطانية وإحاطة الديوان السلطاني علماً بسلوك هذا الوالي، وكان احتجاج قاضي القضاة إلى الديوان السلطاني بشأن تصرفات الوالي كفيلاً بإقالة الأخير من منصبه وإعادته إلى الآستانة(57).

وهنالك الروزنامجي(58) الذي كان رئيس الديوان المختص بجمع الأموال الأميرية التي يتم تحصيلها من الأرض والجمارك، ويُسمى هذا الديوان ديوان الروزنامة. ويُشار إلى أن الروزنامجي كان يتم تعيينه من الآستانة مباشرةً حتى النصف الثاني من القرن السابع عشر، عندما تدهورت الإدارة العثمانية في مصر، فوقع المنصب تحت سيطرة البيوت المملوكية خلال القرن الثامن عشر(59).

كما أنشأ السلطان سليمان مناصب إدارية جديدة قوامها 24 رتبة "بك طبلخانة" ـ أي يكون لأصحابها الحق في أن تصحبهم فرقة موسيقية. وقد أُسندت لاثني عشر منهم مهام خاصة ومحددة ، بينما أُوكلت للآخرين مهامٌّ استثنائيةٌ أو أن يحلّوا محل زملائهم الذين كانت تزول عنهم وظائفهم بعد مضي عام من ممارستهم لها. والإثنا عشر بكاً الأوائل فهم الذين تتشكّل منهم الإدارة المحلية لمصر وهم: كيخيا الباشا ـ أي نائبه، وأمير الحج ووظيفته مراقبة شؤون الحج ومرافقة الحجاج وتوزيع الهبات على فقراء المدن المقدسة في الحجاز، والخازندار ومهمته حمل الخراج سنوياً إلى الآستانة ويُسمى أمير الخزنة، والقبودانات وعددهم ثلاثة يحكمون ثغور الإسكندرية ودمياط والسويس، إضافةً إلى الروزنامجي كما سبق الإشارة(60).

ولم يكن كل البكوات الكبار وعددهم 24 بكاً والذين رُفّعوا إلى هذه الرتبة من جانب الدولة العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي من طبقة المماليك، فقد كان البعض كالدفتردار والقبودانات الثلاثة قادة الأساطيل في المدن المذكورة آنفاً يتم تعيينهم من بين أصحاب الرُّتب العثمانيين(61).

ويبدو أن المماليك رغم حركة التمرد التي قادها جانم السيفي وأينال السيفي لم تهتز مكانتهم كثيراً، ولم يتأثروا بنتائج تلك الحركة، فقانون نامه مصر قد يوحي للوهلةِ الأولى بهيمنة النظام العثماني وسيطرته على البناء المملوكي المهزوم، إلاَّ أن هذا النظام كان في حقيقته نوعاً من الحكم العثماني ـ المملوكي الثنائي؛ لأن المماليك تم منحهم مناصب سلطوية رفيعة في هذا النظام الجديد، بل اندمجت السلطة العثمانية واقعياً مع القوة العسكرية والإدارية المملوكية، ورغم أن تقدماً ملموساً وملحوظاً قد تم في أعقاب إعلان قانون نامه مصر فيما يتعلق بعثمنة الإدارة في مصر وخاصةً في شأن إجراءات جمع الإيرادات فإن عدم قدرة النظام العثماني الجديد على كبح جماح المطامح السياسية المملوكية أدّى فيما بعد إلى فقدان الدولة العثمانية السيطرة الفعّالة على مصر بشكلٍ عام مع مطلع القرن السابع عشر(62).

والحقيقة التي لا يختلف بشأنها اثنان أن السلطة التنفيذية بقيت في أيدي البكوات المماليك، فأسند إليهم السلطان حكم مديريات الولاية المصرية، لكنه حرمهم من التعيين في الديوان. وما كان ذلك من جانب السلطان إلاَّ لخلق عدة قوى متنافسة أحياناً ومتصارعة أحياناً أخرى، ولكي يصعُب عليها الاتفاق فيما بينها على سياسةٍ واحدةٍ تتعارض مع سياسة الدولة العليا(63).

وقد استمر هؤلاء البكوات المماليك الذين أصبحوا يحكمون مديريات الولاية المصرية يُسمون بنفس ألقابهم القديمة زمن السلطنة المملوكية ـ أي كُشّافاً وتُسمى مديرياتهم سناجق، وكانت واجباتهم الرئيسية تتعلق بصيانة أعمال الري التي يعتمد عليه رخاء البلد، وجمع الضرائب التي يدفعها الفلاحون، وإقامة الترع والمصارف والجسور، لِما لذلك من أهميةٍ تتعلق بنمو الحاصلات الزراعية التي تُعتبر عماد ثروة البلاد(64).

وشملت قوائم قانون نامه مصر أسماء أربعة عشر من نواب الولايات باسم كُشّاف. ثلاثة عشر منهم حكموا في مصر السفلى ومصر الوسطى وآخر حكم في واحة الخارجة النائية في الصحراء الغربية، بينما بقيت مصر العليا من أسيوط جنوباً تُحكم إدارياً بواسطة شيوخ العرب من بني عُمر الذين وُصفوا في قانون نامه بأنهم يؤدون مهاماً شبيهةً بوظائف الكُشّاف. ورغم أنه كان يقع بين الفينة والأخرى اصطدامٌ بين الإدارة العثمانية ومشايخ القبيلة، فإنهم لم يُجرّدوا من نفوذهم إلاَّ عام 1576م، عندما تم تعيين أحد البكوات كحاكمٍ على مصر العليا(65).

وبناء على سياسة العثمانيين تجاه المماليك وعدم القضاء عليهم وعلى نفوذهم، بل عدم الممانعة في جلب الكثير منهم إلى مصر ستتكرّر ثوراتهم ضد الوجود العثماني في المستقبل(66) وسيزداد نفوذ البيوت المملوكية مما أدّى إلى حركات تمرد واسعة النطاق بعد منتصف القرن الثامن عشر، كحركة شيخ البلد المملوكي علي بك الكبير، وازدياد نفوذ كلٍّ من إبراهيم بك ومراد بك حتى وصول الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م.

وتبقى الإشارة إلى أنه قامت في مصر في أعقاب الفتح العثماني لها عدة ثورات للقبائل البدوية، لكنها لا تتساوى من حيث الأهمية مع ثورات المماليك، لكونها مألوفة في تاريخ المنطقة التي شهدت باستمرار الصراع الأزلي بين سلطات المدن والقوى البدوية. ويكون رجحان طرفٍ على الآخر بمقدار ما يكون عليه كلٌّ منهما من قوةٍ وضعف، كما أنه من الطبيعي أن تكثُر ثورات البدو عندما تنتقل السلطة من دولةٍ إلى أخرى، بغُية الحصول على ما يمكنها من امتيازات. وكان من الطبيعي ألاَّ تقف الدولة العثمانية موقف المتفرج إزاء تلك الثورات كي لا تتطور الأمور إلى الأسوأ، وقد لعبت القبائل العربية في مناطق الشرقية والغربية والبحيرة حيث سيطر على التوالي بنو بقر وبنو بغداد وبنو مرعي دوراً مهماً في تأييد أو تقويض قوة الثائرين على سلطة الدولة العثمانية، كما كان الحال في حركة تمرد المماليك بزعامة أينال السيفي وجانم السيفي أولاً وحركة تمرد والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن ثانياً(67).



خاتمة الدراسة

بالإمكان استنتاج نتائج عدّة ترتبت على هذه الدراسة منها:

أن الاضطرابات التي جابهت والي مصر العثماني خاير بك مع بداية حكمه والتي قادها الشيخ عبد الدايم بن بقر كانت محدودة، لكونها لم تخرج عن نطاق مناطق إقليم الشرقية.

أن سياسة العثمانيين في تعيينهم للبكوات المماليك في المناصب المهمة؛ إنما كان تمشياً مع مبدأهم في إيجاد نوعٍ من التوازن بين القوى الحاكمة في مصر، لبقائها دوماً تحت سيطرتهم.

وفيما يخص حركة تمرد المماليك بزعامة أينال السيفي وجانم السيفي، فثمة دوافع عدة أدّت إلى هذا التمرد منها أن الكثيرين من الأمراء المماليك بعد انهيار سلطنتهم ظلّوا يكنّون العداء للعثمانيين، وأن بعضهم أحسّ في ظل العهد العثماني الجديد بفقدان الامتيازات التي كان قد اكتسبها من قبل، إضافةً إلى أن متزعمي حركة التمرد كانوا من أشد المخلصين لآخر سلاطينهم طومان باي المملوكي حتى بعد وفاته، وقد اشمأزوا من كونهم قد صاروا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين لهم الصولة والجولة.

أما حركة التمرد الأخرى التي قادها والي مصر العثماني أحمد باشا الذي لُقّب بالخائن، فيبدو أن فشله في الحصول على منصب الصدارة العظمى في الآستانة، فقرر الانتقام لذاته بعدما انفجرت في أعماقه قوة الضغط النفسي الدفين للتنفيس عن حقده وعداءه للصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي سلبه هذا المنصب من وجهة نظره.

وكان السبب الرئيس لفشل حركة أحمد باشا الخائن، استخدام الدولة العثمانية سلاح الدعاية أو الشائعات ضده، وهو سلاح لا يقل خطورةً عن السلاح الذي يُستخدم في المعارك الحربية؛ إن لم يوازه أهميةً ويفوقه. ذلك أن العثمانيين أشاعوا في مصر اعتناق أحمد باشا للمذهب الشيعي، وأنه أصبح من أتباع الشاه إسماعيل الصفوي، العدو اللدود والمركزي للدولة العثمانية.

وقد أدّى القضاء على تلك الحركات إلى نتائج غاية في الأهمية، فالسلطة المركزية العثمانية في الآستانة شعرت بضرورة إجراء تعديلات إدارية في أنماط الحكم في مصر خشيةً من فقدانها مرة أخرى، لذلك أصدرت مجموعةً من القوانين الإدارية سُميت "بقانون نامه مصر" عام 1524م، تم تقسيمه إلى جزأين. الأول ـ خاص بالتنظيمات العسكرية. والآخر خاص بالإدارة المدنية.

والنتيجة المهمة التي لا يجب تجاهلها، أن العثمانيين رغم محاولاتهم الدؤوبة للحد من نفوذ المماليك، فإنهم فشلوا في القضاء عليهم تماماً، بل بقيت أعداد كبيرة من المماليك الجدد تفِد إلى مصر عن طريق الشراء، مما أدّى إلى تكرار ثوراتهم في المستقبل ضد الوجود العثماني خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر.




--------------------------------------------------------------------------------



الحواشي

(1) كريسيليوس، دانيال: جذور مصر الحديثة. ترجمة: د.عبد الوهاب بكر، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة 1985، ص42-43.

(2) الحصري، ساطع: البلاد العربية والدولة العثمانية. ط2، دار العلم للملايين، بيروت 1960، ص11-12.

(3) رمضان، محمد رفعت: علي بك الكبير. دار الفكر العربي، القاهرة 1950، ص6.

(4) كريسيليوس: المرجع السابق، ص46.

(5) رمضان: المرجع السابق، ص8-9، أنيس، محمد: الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914). مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1985، ص142.

(6) رافق، عبد الكريم: العرب والعثمانيون 1516-1916. ط1، دمشق 1974، ص64.

(7) ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور. تحقيق: د. محمد مصطفى، 5 أجزاء، ج5، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1404هـ (1984م)، ص202-203، ونخلة، محمد عرابي: تاريخ العرب الحديث. ط1، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمّان 1998، ص53.

(8) الإسحاقي، محمد بن عبد المعطي: أخبار الأُول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول. القاهرة 1315هـ، ص164.

(9) الصديقي، محمد بن أبي السرور البكري: النزهة الزهية في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية. مخطوط في دار الكتب المصرية، رقم 2266، ورقة 21أ.

(10) ابن إياس: المرجع السابق، ص205، 208، الإسحاقي: المرجع السابق، ص158، وبكر، عبد الوهاب: الدولة العثمانية ومصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ط1، دار المعارف، القاهرة 1982، ص11.

(11) ابن إياس: المرجع السابق، ص221، 240.

ومما يجدُر ذكره أن الشيخ عبد الدايم بن بقر هذا كان قد استغل فرصة انشغال السلطنة المملوكية بالتصدي للتوسع العثماني، سواء في الشام أم في مصر، فقام بتخريب أغلب مناطق إقليم الشرقية ونهب أموالها وأموال التجار، كما عمل على قتل الكثير من جنود المماليك واستولى على ما يملكونه من خيولٍ وسلاح. ويُضاف إلى ذلك أنه استغلَّ فرصة هزيمة الجيش المملوكي في الريدانية وتشتت أمرائه في مناطق إقليم الشرقية، فصار حسب ما ذكره ابن إياس: "يأخذ ما عليهم من الثياب والسلاح والخيول وغير ذلك، وفرح بأموال وتحف ما لا فرح به آباؤه ولا أجداده، وقد غنم أموال التجار وأموال العسكر من المماليك الجراكسة وغيرها من أموال المقطعين من البلاد، وعمل من المفاسد في الشرقية ما لا يُسمع بمثلها".

المرجع السابق، ص221.

(12) شلبي، أحمد: موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، ج5، ط4، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1979، ص269.

(13) الصديقي: المرجع السابق، ورقة 22أ.

(14) ابن إياس: المرجع السابق، ص319، ورافق: المرجع السابق، ص85.

(15) بكر: المرجع السابق، والصفحة نفسها.

(16) ابن إياس: ص295-296 (بتصرف).

(17) كان خاير بك قد عيّن جانم السيفي في عام 928هـ/1522م أميراً لقافلة الحج المصري للمرة الثالثة.

المرجع السابق، ص443.

(18) Holt (P.M.), Egypt and The Fertile Crescent, 1516-1922, Cornell University Press, New York 1966, pp.47-48.

وابن زنبل، أحمد: تاريخ مصر. مخطوط في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم cod. Arab 4111 ، ورقة 137ب.

(19) Op.Cit, p. 48.

(20) رافق، المرجع السابق، ص85، وابن زنبل: الورقة نفسها، و Ibid. .

(21) الزيني بركات: كان موظفاً بيروقراطياً رفيع الشأن في أثناء فترتي حكم المماليك والعثمانيين، وكان قد تولى قيادة قافلة الحج عام 1518م.

Ibid.

(22) لمزيد من التفاصيل. أنظر: ابن زنبل: ورقة 137ب – 138أ، ونخلة: المرجع السابق، ص54.

(23) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

ابن زنبل: ورقة 138أ، عبد الغني، أحمد شلبي: أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات. مخطوط في The Beinecke Rare and Manuscript Library بجامعة Yale بالولايات المتحدة الأمريكية، رقم Land berg. 3 ، ورقة 3ب.

يذكر محمد بن أبي السرور البكري الصديقي أن أينال السيفي قد قُتل في المعركة نفسها، ويبدو أنه الوحيد الذي ذكر هذه الرواية.

المنح الرحمانية في الدولة العثمانية. مخطوط في دار الكتب المصرية ، رقم 1926 ، ورقة 37ب.

(24) ابن زنبل: ورقة 138أ-138ب.

(25) الإسحاقي: المرجع السابق، ص164. بينما يذكر أحمد شلبي عبد الغني، أن أحمد باشا تولى حكم مصر في 4 شوال 930هـ.

أوضح الإشارات، ورقة 3ب.

(26) الإسحاقي، المرجع السابق، والصفحة نفسها، ورافق، المرجع السابق، ص85-86، والشهابي، حيدر: تاريخ الأمير حيدر الشهابي. علّق على حواشيه: د. مارون رعد، 4 أجزاء، ج3، دار نظير عبود، بيروت 1993، ص789.

(27) كريسيليوس: المرجع السابق، ص46، عبد اللطيف، ليلي: الإدارة في مصر في العهد العثماني. مطبعة جامعة عين شمس، القاهرة 1978، ص431.

(28) الحنبلي، مرعي بن يوسف: نزهة الناظرين فيمن تولى مصر من الخلفاء والسلاطين. مخطوط في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab. 889 ، ورقة 206أ ، والإسحاقي: المرجع السابق، ص164-165، وعبد الغني، أحمد شلبي: المرجع السابق، ورقة 3ب، والشهابي: المرجع السابق ، ص790 ، Holt, Op. Cit. Pp. 48-49.

(29) رافق: المرجع السابق، ص86، و Op. Cit. P. 48.

(30) الأمير جانم الحمزاوي: هو جانم بن يوسف بن أركماس السيفي قاني باي الحمزاوي، الذي تولى نيابة الشام من قبل، وقيل أنه وُلد بمدينة حلب. وقد أرتفع شأنه في أثناء فترة حكم خاير بك على مصر وصار من أصحاب الحل والعقد بها، كما أنه لعب دور مهم في السنوات الأولى من الحكم العثماني لمصر حيث اشتغل على ما يبدو كضابط اتصال بين السلاطين وحاشية الوالي في مصر.

ابن إياس: المرجع السابق، ص352، و Op. Cit. P. 49.

(31) الإسحاقي: المرجع السابق، 165، و Ibid. .

(32) Ibid.

(33) رافق: المرجع السابق، والصفحة نفسها، و Ibid. .

(34) Op.Cit. Pp.49-50.

(35) Op.Cit. p.50.

(36) Ibid.

(37) رافق: الصفحة نفسها، والشهالي، علي بن حسن: نزهة الناظرين فيمن تولى مصر من البشوات والسلاطين. مخطوط في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 8376، ورقة 13ب.

(38) الحنبلي: المرجع السابق، ورقة 207أ، والإسحاقي: المرجع السابق، ص165، والشهابي: المرجع السابق، ص790، والصديقي: النزهة الزهية، ورقة 22أ-22ب.

(39) Ibid.

(40) الحنبلي: الورقة نفسها، وعبد الغني، أحمد شلبي: المرجع السابق، ورقة 3أ، الصديقي: النزهة الزهية، ورقة 22أ، والصديقي: المنح الرحمانية، ورقة 41أ، و Ibid. .

(41) رافق: ص86.

(42) كريسيليوس: المرجع السابق، ص46.

(43) الصديقي: النزهة الزهية، ورقة 22ب.

(44) نفسه.

(45) كريسيليوس: الصفحة نفسها.

(46) الأوجاقات (جمع أوجاق): أقسام عسكرية، والأوجاق كمصطلح يعني وعاء النار بالتركية.

بكر: المرجع السابق، ص11.

(47) كريسيليوس: ص51-53. ولمزيد من التفاصيل عن الإدارة العثمانية في مصر في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي. أنظر: عبد اللطيف، ليلى: المرجع السابق، ص37-49.

(48) يحيى، جلال: المُجمل في تاريخ مصر الحديثة. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، بدون تاريخ، ص59.

(49) Ibid.

(50) بكر: ص12، وكريسيليوس: ص47.

(51) استبدل السلطان سليمان القانوني الديوان بديوانين. الأول هو الديوان الكبير الذي يتشكّل من كبار ضباط الحامية وكبار الموظفين وله الحق المطلق في البت في شؤون البلاد العامة. والثاني هو الديوان الصغير الذي ينعقد يومياً في القلعة ويساعد الوالي في النظر في الأمور العادية ويتألّف من رؤساء فرق الجيش ونائب الوالي، ومهمته تسيير الشؤون الجارية بحيث تدخل كافة نواحي الإدارة ضمن اختصاصاته فيما عدا الأمور التي لا بد من معالجتها بمعرفة الديوان الكبير.

يحيى: المرجع السابق، ص59، واستيف: الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر (النظام المالي والإداري في مصر العثمانية) من مجموعة كتب وصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية. ترجمة: زهير الشايب، ج2، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة 1979، ص52.

(52) كريسيليوس: الصفحة نفسها.

(53) استيف: المرجع السابق، ص51-52.

(54) الكيخيا أو الكتخدا: وظيفته الأساسية أنه يكون بمثابة نائباً أو وكيلاً عن الوالي.

المرجع السابق، ص53.

(55) الدفتردار: هو ناظر الأموال والمسؤول الأول عن مالية الولاية، وهو أحد المناصب العثمانية المهمة في البناء الإداري العثماني. أي أن الدفتردار وظيفته ضبط الحسابات وحفظ الدفاتر والسجلات، ولا يُنفّذ أمر بيع عقار إلاَّ بعد توقيعه عليه، إشارة إلى تسجيله في دفاتره.

كريسيليوس: ص78، وعوض، أحمد حافظ: فتح مصر الحديث. القاهرة 1926، ص23.

(56) استيف: الصفحة نفسها.

(57) كريسيليوس: ص47.

(58) الروزنامجي: مهمته إدارة الخراج وضرائب الأطيان. والروزنامة مصطلح فارسي مركّب (روز بمعنى يوم ونامة بمعنى كتاب)، أي كتاب اليوم أو دفتر اليومية. وكان للروزنامجي عدة مساعدين هم المباشرين أو الخلفا أو القلفا وأهم هؤلاء الباش مباشر، وهو وكيل الروزنامجي الأول ويحل محله عند إقالته، وهؤلاء يشرفون على أعمال موظفين يُسمون الأفندية. وهناك مساعدون آخرون يُسمون صبيان شاكردية وكيسه دار.

أنظر: استيف: ص54، وعبد اللطيف، ليلى: ص196، وسليمان، أحمد السعيد: تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل. دار المعارف، القاهرة 1979، ص117-118.

(59) كريسيليوس: ص48.

(60) استيف: ص53-54.

(61) كريسيليوس: ص56.

(62) نفس المرجع، ص55-56.

(63) يحيى: ص59.

(64) نفس المرجع، ص60، ونخلة: ص54، و Op. Cit. P.51.

(65) Ibid.

(66) رافق: ص85.

(67) نفس المرجع، ص86-88.




--------------------------------------------------------------------------------



ثبت المصادر والمراجع



أولاً ـ المخطوطات:

1ـ الحنبلي، مرعي بن يوسف: نزهة الناظرين فيمن ولى مصر من الخلفاء والسلاطين. موجود في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab.889.

2ـ ابن زنبل، أحمد: تاريخ مصر. موجود في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab. 411 .

3ـ الشهالي، علي بن حسن: نزهة الناظرين فيمن تولى مصر من البشوات والسلاطين. موجود في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 8376.

4ـ الصديقي، محمد بن أبي السرور البكري: النزهة الزهيّة في ذكر ولاة مصر والقاهرة المعزية. موجود في دار الكتب المصرية، رقم 2266.

5ـ ــــــ : المنح الرحمانية في الدولة العثمانية. موجود في دار الكتب المصرية، رقم 1926.

6ـ عبد الغني، أحمد شلبي: أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات. موجود في The Beinecke Rare and Manuscript Library بجامعة Yale بالولايات المتحدة الأمريكية، رقم Land berg.3 .

ثانياً ـ المصادر الأوليّة:

1ـ الإسحاقي، محمد بن عبد المعطي: أخبار الأُول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول. القاهرة 1315هـ.

2ـ ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور. تحقيق: د. محمد مصطفى، 5 أجزاء، ج5، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1404هـ (1984م).

3ـ الشهابي، حيدر: تاريخ الأمير حيدر الشهابي. علّق على حواشيه: د. مارون رعد، 4 أجزاء، ج3، دار نظير عبود، بيروت 1993.

ثالثاُ ـ المراجع العربية والمترجمة:

1ـ استيف: الحياة الاقتصادية في مصر في القرن الثامن عشر (النظام المالي والإداري في مصر العثمانية). من مجموعة كتب وصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية. ترجمة : زهير الشايب ، ج2 ، ط1 ، مكتبة الخانجي ، القاهرة 1979.

2ـ أنيس، محمد (الدكتور): الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914). مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1985.

3ـ بكر، عبد الوهاب (الدكتور): الدولة العثمانية ومصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ط1، دار المعارف، القاهرة 1982.

4ـ الحصري، ساطع: البلاد العربية والدولة العثمانية. ط2، دار العلم للملايين، بيروت 1960.

5ـ رافق، عبد الكريم (الدكتور): العرب والعثمانيون 1516-1916. ط1، دمشق 1974.

6ـ رمضان، محمد رفعت: علي بك الكبير. دار الفكر العربي، القاهرة 1950.

7ـ سليمان، أحمد السعيد (الدكتور): تأصيل ما ورد في تاريخ الجبرتي من الدخيل. دار المعارف، القاهرة 1979.

8ـ عبد اللطيف، ليلى (الدكتورة): الإدارة في مصر في العهد العثماني. مطبعة جامعة عين شمس، القاهرة 1978.

9ـ عوض، أحمد حافظ: فتح مصر الحديث. القاهرة 1926.

10ـ كريسيليوس، دانيال (الدكتور): جذور مصر الحديثة. ترجمة: د. عبد الوهاب بكر، مكتبة نهضة الشرق، القاهرة 1985.

11ـ نخلة، محمد عرابي (الدكتور): تاريخ العرب الحديث. ط1، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمّان 1998.

12ـ يحيى، جلال (الدكتور): المُجمل في تاريخ مصر الحديثة. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، بدون تاريخ.

رابعاً ـ المراجع الأجنبية:

1- Holt (P.M.), Egypt and the Fertile Crescent, 1516-1922, Cornell University Press, New York 1966.

د.فالح العمره
16-04-2005, 11:54 PM
علاقة الأمير فخر الدين المعني الثاني بالزعامات المحلية الفلسطينية وموقف الدولة العثمانية منه

999 –1043 هـ /1590 –1633 م

د. أسامة محمد أبو نحل

الأستاذ المساعد في التاريخ الحديث

ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية

جامعة الأزهرـ غزة

1423هـ /2003م

osamabunahel@hotmail.com


--------------------------------------------------------------------------------

ملخص

تتناول هذه الدراسة فترة مهمة من تاريخ لبنان وفلسطين العثماني، حيث حاولت شخصية بارزة كشخصية الأمير فخر الدين المعني الثاني، إقامة إمارة إقليمية على حساب الدولة العثمانية، وقد أسميت هذه الدراسة: "علاقة الأمير فخر الدين المعني الثاني بالزعامات المحلية الفلسطينية 999 ـ1043هـ/1590ـ1633م".

وأهمية هذه الدراسة ناجمة عن قلة المراجع التي تناولت علاقة فخر الدين الثاني بالزعامات والأسر الفلسطينية، كما تنبع أهميتها في بيان الدافع الرئيسي لفخر الدين الذي جعله يضع فلسطين على سلم أولوياته السياسية والعسكرية، وقد نفت هذه الدراسة عن فخر الدين صفة المغامرة، وأرجعت تصرفاته التوسعية في فلسطين تحديداً إلي طموحه في بناء مجد ذاتي يخلده رغم محدودية الإمكانيات المتاحة لديه.

وقد حاولت من خلال هذه الدراسة إعادة الأمور إلي نصابها الحقيقي، وعدم الانسياق وراء الدراسات التي تبنت نتائج مفادها أن مشاريع فخر الدين التوسعية في الأراضي الفلسطينية كانت ناجمة عن استشراء نفوذه السياسي والعسكري في لبنان، وأوضحت أن المرة الوحيدة التي كان لفخر الدين نفوذ مؤقت في فلسطين كان ناجماً عن سياسته الحكيمة في شراء المناصب من الباب العالي، والتي تمكن من خلالها أن يصبح حاكماً علي كل عربستان من حدود حلب إلى القدس.

المقدمة
رغم وفرة المصادر والمراجع التاريخية التي تناولت سيرة حياة الأمير اللبناني فخر الدين المعني الثاني، إلاّ أن معظمها تناول أهم أعماله في لبنان مع لفتةٍ موجزةٍ لاهتماماته بضم فلسطين إلى ممتلكاته، وقليلة جداً تلك المراجع التي تناولت مشاريعه التوسعية بفلسطين مع بعض الإسهاب، والحقيقة أن معظم هذه المراجع كان يعوزها التحليل.

وفيما يخص المراجع التي اهتمت بتفاصيل حملات فخر الدين الثاني على الأراضي الفلسطينية، فقد اشتطّ بعضها في ذكر دوافع تلك الحملات وأعادها إلى دوافع طائفية في المقام الأول، غير أن الدراسة التي بين أيدينا نفت ذلك، وأرجعت تلك الدوافع لأسبابٍ حزبية ليس إلاّ.

ولماّ تقاعست المراجع التاريخية في بيان أهمية فلسطين في مشروع فخر الدين الثاني التوسعي، وجدنا أنه لا بأس من التطرق لتلك الفكرة في محاولة متواضعة لكشف اللثام عما أغفله البعض، صحيح أن شخصية كفخر الدين لم تكن مجهولة أو مغمورة، بل بالغة الصيت ومرموقة، حتى أن صيته وسمعته وصلت أوروبا قبل أن يصلها بجسده، ولا ندّعي لأنفسنا إضافة الكثير لتلك الشخصية التي تستحق الدراسة أكثر من مرة؛ وإن اختلفنا معها في تحليل دوافعها ونتائج تصرفاتها.

أما المنهج الذي اعتمدته الدراسة، فهو مزيج من السرد التاريخي والتحليل الوصفي نظراً لأهميتهما في إيصال الفكرة للقارئ بشكل سلس مباشر ومبسط، ودون الإخلال بالوقائع التاريخية الأخرى، التي وقعت أحداثها خارج فلسطين وكان لها ردود أفعال سياسية تأثرت بها الساحة الفلسطينية كموقعة عنجر الشهيرة عام 1033هـ/1623 م.

وما يخص مصادر ومراجع الدراسة فهي كثيرة ومتنوعة، بعضها كانت فائدته بصورة مباشرة ككتاب تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني لأحمد بن محمد الخالدي الصفدي، وتاريخ حيدر الشهابي للأمير حيدر الشهابي، وخلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر لمحمد الأمين المحبي، وتراجم الأعيان من أبناء الزمان للحسن بن محمد البوريني، و العرب والعثمانيون لعبد الكريم رافق، وغير ذلك من المراجع الأجنبية مثل:

Holt (P.M), Egypt and the Fertile Crescent 1516-1922.

تمهيد

أصبح من الأمور المسلم بها في المصادر التاريخية، أن بلاد الشام كانت تابعة لسلطة السلطان العثماني تبعية اسمية، حيث ترك العثمانيون الحكم في تلك الأنحاء لأصحاب السطوة والنفوذ المنتمين لبيوتات تمتلك الكثير من مقوّمات القوة والزعامة، واكتفوا بتعيين والٍ لإقرار الأمن والنظام في الولايات الثلاث التي أقاموها وهي: دمشق وطرابلس وحلب، إضافة إلى بعض المأمورين (1). كما أصبح من الأمور المسلم بها أيضاً، أن العثمانيين ذوي الباع الطويل في المسائل العسكرية وبحكم خبراتهم السابقة في نظم الإدارة، خاصة العسكرية منها في الميدان الأوروبي، وبحكم انشغالهم في الحروب المتتالية في أوروبا وعلى كافة الأصعدة، كانوا أكثر ميلاً لترك أمور الحكم للأُسر الإقطاعية المتواجدة بكثرة في كافة أرجاء بلاد الشام مكتفين باعتراف تلك الأُسر بسيادتهم على المناطق التي يحكمونها؛ لأنهم في نهاية المطاف يحصلون على مشروعيّة حكمهم من الولاة العثمانيين في دمشق وطرابلس فيما عدا شمال سورية التي بقيت تحت الحكم العثماني المباشر.

ومن هنا فان مصلحة السلطان العثماني سليم الأول اقتضت بعد استيلائه على دمشق الاعتراف بزعامة الأمراء اللبنانيين مثل الأمير فخر الدين المعني الثاني حاكم جبل الشوف (لبنان)، بعد اشتراكه إلى جانب العثمانيين في موقعة مرج دابق عام 922 هـ/1516 م (2)، وجعله حاكماً على لبنان من يافا إلى طرابلس(3).

ومهما يكن من أمر، يجب أن نضع نصب أعيننا حقيقة لا يمكن تجاهلها، مفادها أن الطائفة الدرزية في لبنان كانت تتمتع بحس سياسي يتسم بالذكاء المطلق نتيجة لتواجدها في منطقة تتقاطع فيها الانتماءات المذهبية والسياسية، فلبنان على صغر مساحته، يضم بين دفتيه العديد من المذاهب الدينية المختلفة، وكان الدروز تائهين بين الاستقلالية الدينية وانتمائهم الإسلامي.

هذا الحس السياسي، جعل من الدروزـ إن جاز التعبيرـ أساتذة في المكيافيللية (الانتهازية) على مدار تاريخهم حتى قبل ظهور ساسة البندقية بزمن طويل(4)، وفي حالة الأمير فخر الدين الأول يؤكد حيدر الشهابي صحة هذا الوصف، بأنه لم يشارك منذ الوهلة الأولى في موقعة مرج دابق، بل آثر البقاء على الحياد بين الطرفين المتحاربين (أي العثمانيين والمماليك) حتى يرى لمن ستكون الغلبة، ثم يدخل القتال إلى جانب الطرف المنتصر(5)، ليبدو في مظهر المسعف له، وبالتالي يحصل على ثمن مساعدته له.

ويقول عادل إسماعيل؛ أنه كان لدى سليم الأول من الحكمة ما جعله يوافق على أن يحكم الدروز أمراء منهم، فأعطى فخر الدين الأول إمارة الشوف التي بقيت خاضعة لنفوذ المعنيين حتى القرن السابع عشر(6). والحقيقة أن الحكمة التي دفعت سليماً وما تلاه من سلاطين العثمانيين لجعل حكام لبنان يحكمون مناطقهم، لا يعود في المقام الأول لضعف السلطة العثمانية في توطيد نفوذها في لبنان بقدر ما يعود إلى خشيتها من التورط في المستنقع اللبناني الآسن المليء بالتناقضات المذهبية والسياسية، لذا وجد السلطان سليم نفسه في غنى عن هذا التورط الذي قد يبذل من أجله خسائر جسيمة قد تؤثر على موقف دولته في أوروبا.

ويستطرد عادل إسماعيل في القول: "بينما أعطيت بقية المقاطعات السورية واللبنانية في هذا العهد إلى حكام أجانب"(7)؛ لكن هذا القول تعوزه الدقة فيما يخص لبنان وفلسطين باستثناء مناطق سورية الشمالية، فمن المعلوم أن وادي التيم اللبناني كانت تحكمه الأسرة الشهابية، والبقاع يحكمه آل حرفوش الشيعة، وجبل عامل كان يحكمه عدة أسر إقطاعية شيعية. وفي فلسطين كانت الأسر الإقطاعية هي من تتولى إدارة زمامها، وإن كانت مؤيدة ومحالفة للسلطة العثمانية.

ويؤكد البعض صحة هذا الطرح؛ بأنه لم يقع تحت سلطة الحكم العثماني المباشر سوى القليل من مدن الشام وضواحيها، حيث ظل الكثير من المناطق خاصة المناطق الجبلية تحت حكم أمرائها وشيوخها المتوارثين، الذين كانوا كالسابق يعقدون الكونفدراليات فيما بينهم، ويقومون بالحملات مع قواتهم، ويخوضون الحروب ضد بعضهم البعض، كما أن لبنان كان في بداية العهد العثماني لبلاد الشام بمثابة إمارة ذات استقلال ذاتي تحت سيطرة الأسرة المعنية(8).

وكما الحال مع أمراء لبنان، فان النهج نفسه اتبعه السلطان سليم الأول مع الزعامات المحلية في فلسطين وهي ذات مرتكزات بدوية وإقطاعية، وقد وازنت السلطات العثمانية فيما بين هذه الزعامات واستغلتها كأدوات في الحكم، وفي تصريف الشؤون الإدارية المحلية، وكانت فلسطين تتبع إدارياً ولاية دمشق، وقسمت إلي خمسة سناجق(9) أو ألوية هي: القدس وغزة وصفد ونابلس واللجون، إضافة إلى سنجقي عجلون والكرك مع الشوبك في شرقي الأردن(10).

واللافت للنظر، أن العثمانيين قسّموا فلسطين وحدها على صغر مساحتها إلى خمسة سناجق، بينما بقية ولاية الشام كانت تضم على اتساعها أربعة سناجق فقط، وهذا يعود لأهمية موقع فلسطين وحيويته؛ فهي تربط دمشق بمصر والحجاز، أي أنها محور الطرق الرئيسية وعصبها، فقرب فلسطين من الطريق السلطاني الذي كانت تستخدمه قافلة الحج الشامي المتجهة من دمشق إلي الحجاز، زاد من أهميتها الأمنية بالنسبة لهذه القافلة؛ لأن عدداً من القبائل الموجودة فيها أو القريبة منها كان يهدد طريق الحج، وكانت هذه القافلة عندما تشعر بخطر تلك القبائل في طريق العودة من الحجاز، تضطر لتحويل طريقها السلطاني إلى غزة، حيث الطريق التجاري بين مصر ودمشق وهو أكثر أمناً، وهو الطريق الذي أصطلح على تسميته"بالطريق الغزاوي"(11).

ولتحقيق الأمن في فلسطين، حرص العثمانيون على الإكثار من ألويتها، نظراً لكثرة الزعماء المحليين فيها، وهم بمعظمهم من أصول بدوية وبعضهم من بقايا المماليك، وكان من شأن هذه الألوية إحكام الرقابة على هؤلاء الزعماء، أو تقريبهم من السلطة بتعيينهم حكاما عليها، ومن أشهر الزعماء المحليين الذين استقطبهم العثمانيون، طراباي ابن قراجا، أحد زعماء نابلس الذي عيّنوه أميراً على منطقة اللجون، وكان استقطاب هؤلاء الزعماء من عوامل الاستقرار البارزة في فلسطين في بداية العهد العثماني، نظراً لخبراتهم بطبيعة المنطقة وظروف سكانها، وتمتعهم بأفضل الأساليب الإدارية الملائمة لطبيعة هؤلاء السكان(12).

بقي أن نشير إلى مسألة غاية في الأهمية، هي أن الإقطاع في لبنان اختلف عن بقية المناطق السورية الأخرى، إذ كان في الغالب ذا طابع طائفي، حيث كان فيها أرسخ جذوراً أقوى من الإقطاع الحكومي(13).

طموح فخر الدين الثاني(14)بتكوين إمارة إقليمية:

سبق التنويه إلى أن السلطان سليم كان قد أقر الأمير فخر الدين الأول على حكم جبل لبنان وسماه "سلطان البر"؛ لكن الأخير حاول الاستقلال بالجبل، فقتله العثمانيون سنة 951 هـ/1544 م، ودفنوا معه طموحاته، لكنهم لم يقضوا على النفوذ القبلي والطائفي للمعنيين، وخلف الأمير قرقماز والده في الحكم؛ لكنه لم يستوعب الدرس الذي مرّ به والده، وحاول بدوره أن يحقق طموحاً سياسياً إقليمياً في بعض نواحي الشام وفلسطين، فدفع هو الآخر حياته ثمناً لمغامرته عام 993هـ/1585م، في إحدى مغارات جزّين في سفوح جبل الشوف(15).

تولى فخر الدين الثاني مقاليد الحكم في جبل لبنان عام 999 هـ/1590 م، وكان عمره وقتذاك ثمانية عشر عاما(16)، وبذلك فتحت صفحة جديدة من تاريخ لبنان الحديث، فقد اتصف فخر الدين بأنه سياسي ماهر، بارع في حبك الدسائس، كما كانت له عيون في الآستانة وفي قصور الباشوات ودور الأتباع، وبذر الشقاق في صفوف أعدائه، ولإرضاء السلطان العثماني عنه، قام بدفع أموال ضخمة لخزينة الدولة، وتقاسم معه الغنائم الحربية(17).

ولم يتوان فخر الدين بعد ذلك في إعادة بناء موقع أسرته في الشوف بثبات، ومن ثمّ تمكن من الحصول على قيادة لا ينازعه فيها أحد على كامل جبل لبنان والمقاطعات المجاورة، وإتباعاً لسياسته الحكيمة، فقد اتخذ من الأسرة الشهابية حكام وادي التيم حلفاء مخلصين له(18).

وقبل التطرق إلى كيفية تمكن فخر الدين من إقامة إمارة معنية مترامية الأطراف على شكل مؤقت، نجد لزاماً علينا بسط الخريطة السياسية اللبنانية والفلسطينية بما عليها من قوى محلية متصارعة وتكتّلات متحالفة، لنعرف المدى الذي نجح من خلاله في إقامة تلك الإمارة. ففي منطقة بعلبك وسهل البقاع اللبناني، كان آل حرفوش الشيعة (1000-1282 هـ/1591ـ1865 م ) يتمتعون بشبه استقلال سياسي في مقاطعاتهم. ولم يقتصر نفوذ الحرافشة على البقاع، بل كثيراً ما كانوا يتدخلون في شؤون المقاطعات المجاورة لهم(19)، وفي جبل عامل بيوتات إقطاعية شيعية أيضاً كبني صعب في مقاطعة الشقيف، وبني منكر في مقاطعة الشومر، وبني علي الصغير في بلاد بشارة، حيث تمتعوا هم الآخرون بحكم ذاتي تحت قيادة شيوخهم(20).

وفي شمال لبنان كان آل سيفا ذوو الأصل الكردي يحكمون في طرابلس، وأشهر حكامها يوسف باشا سيفا الذي عينته الدولة العثمانية والياً على طرابلس عام 987 هـ/1579 م، واشتهر بعدائه الشديد لفخر الدين الثاني، فقد كان لعدائهما الشخصي مدلول حزبي؛ فآل سيفا كانوا من اليمنية(21)، بينما آل معن من القيسية رغم أنهم كانوا في الأصل يمنيين(22)، وتمكن فخر الدين من الحصول على أول نصر له على يوسف باشا سيفا في موقعة نهر الكلب عام 1007 هـ/1598 م، غير أنه لم ينجح في تملّك الإقليم الشمالي لأكثر من سنة؛ لأن العثمانيين كانوا يدعمون يوسف باشا دعماً معنوياً(23).

أما في فلسطين، فقد عاصرت زعامات محلية فيها تولي فخر الدين الثاني مقاليد السلطة، وقد تنافرت بينها وبين فخر الدين المصالح؛ نظراً لأطماع الأخير في الاستيلاء على ممتلكاتهم، ففي منطقة اللجون كان آل طراباي لهم السيادة والزعامة، واشتهر منهم الأمير أحمد بن طراباي (979 ـ1057 هـ/1571 ـ1647 م) الذي حكم لمدة نصف قرن تقريباً (1010 ـ1057 هـ/1601 ـ1647 م)(24)، ودارت بين الزعيمين عدة مواقع سنأتي على ذكرها.

وثمة أسرة من أصل شركسي كان زعماؤها حكاما على نابلس والقدس، هم آل فرّوخ، وكانت تلك الأسرة حلقة الوصل بين آل طراباي في شمال فلسطين وآل رضوان في الجنوب (غزة)، وقد شغل أفراد آل فرّوخ وظيفة إمارة الحج الشامي لعدة أعوام، وتعاونوا مع حلفائهم على منع فخر الدين الثاني من الاستيلاء على القدس كما خطط لذلك، وقاموا بحماية الحجاج كل عام، ومن أشهر آل فرّوخ الذين تصدّوا لتوسعات فخر الدين، الأمير محمد بن فرّوخ الذي تولى الحكم بعد وفاة أبيه الأمير فرّوخ بن عبد الله وهو في طريقه إلى مكة على رأس قافلة الحج الشامي. وكان محمد قد عزل عن نابلس عدة مرات، ثم عاد إليها بفضل الدعم الذي لقيه من العثمانيين ضد عدوه الأمير فخر الدين الذي طمع بمنح حكومة نابلس لأبنائه وأعوانه، وتولى محمد بن فرّوخ إمارة الحج الشامي في معظم الفترة ما بين 1031 هـ/1622 م إلى 1048 هـ/1639 م، تاريخ وفاته(25).

أما مركز القوى الثالث في فلسطين فكان آل رضوان حكّام غزة ذوو الأصل التركي، الذين توارثوا حكم سنجق غزة بضعة أجيال من منتصف القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي إلى أواخر القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، أي قرابة القرن ونصف القرن(26)، وكان آل رضوان أبرز وأقوى أمراء الحلف الثلاثي الذي ضمهم مع آل طراباي وآل فرّوخ، حيث واجهوا فخر الدين ومخططاته، وأهم أمراؤهم الذي يعنينا في هذه الدراسة، حسن بن أحمد رضوان (1009 ـ1054 هـ/1600 ـ1644 م) بسبب دوره في صد خطر فخر الدين(27).

ومهما يكن من أمر، فثمة أسباب عدة دعت فخر الدين فور توليه مقاليد السلطة للنظر إلى أبعد من إمكانياته المتاحة لديه ولأسرته منها:

طموحه بإقامة لبنان على نطاق أوسع، وبالتالي قطع أخر صلة له بالدولة العثمانية.
السير في إمارته نحو التطور والازدهار(28).
علاقته المتميزة مع المسيحيين خاصة الموارنة منهم، بعدما شعر بعدم ارتياحهم لسياسة آل سيفا تجاههم. وكان ذلك حافزاً له يعطيه القدرة على تحقيق مطامحه في التوسع.
تجاوزات آل سيفا وانتقاصهم من حقوق أسرته بالاعتداء على ممتلكاتها وامتيازاتها.
طموحه بتحقيق أمجاد جده فخر الدين الأول التي لم يستطع استكمالها بسبب مقتله(29).
استغلاله لبوادر الضعف والترهل التي بدأت تظهر على جسد الدولة العثمانية خاصة عندما تم السماح لغير الإنكشاريين من الفلاحين والحرفيين بالانخراط في سلك الانكشارية بعد أن كانت حكراً لهم(30).
كما استفاد فخر الدين كذلك من المواهب التي منحته إياها الطبيعة، فاندفع بخطىً حثيثة نحو الميدان السياسي الذي شغف به، وسرعان ما استطاع أن يحكم بنفسه، فأظهر مقدرة فائقة في تسيير دفة الحكم مستلهماً السياسة والمخططات التي اتبعها وسار عليها أسلافه من الأمراء واتبع منهجها بعدما وجدها ترضي طموحه البعيد المدى(31).

بعدما استهل فخر الدين الثاني حكمه على جبل لبنان تسلّم من السلطان العثماني سنجقي بيروت وصيدا. وبدأ طموحه السياسي يتّقد في توسيع رقعة إمارته، فساعد العثمانيين في القضاء على عدوه الأمير منصور بن الفريخ حاكم البقاع ونابلس وصفد وعجلون بعدما خشيت السلطات العثمانية، خاصة والي دمشق مراد باشا، من ازدياد قوته ونفوذه، فتم قتله في 13ربيع الأول 1002هـ/7كانون الأول (ديسمبر) 1593م(32).

كما حمل فخر الدين على جاره ووالد زوجته، يوسف باشا سيفا، وبعد معارك عدة أشهرها موقعة نهر الكلب عام 1007هـ/1598م ـ كما أسلفنا الإشارة ـ تمكن من السيطرة المؤقتة على شمال لبنان، ولم يلبث أن خضع له بنو حرفوش في بعلبك، وزعماء البدو في البقاع وفي المنطقة الجنوبية حتى الجليل، مستغلاً فترة انشغال السلطان أحمد بقتال المجريين في أوروبا والصفويين في بلاد فارس(33).

ورغم أن العثمانيين لم يتخذوا موقفاً بعينه من فخر الدين بعد تحرشه بيوسف باشا حليفهم الرئيسي في لبنان، إلا أنهم سرعان ما انقلبوا عليه بعد تحالفه مع علي باشا جانبولاد (جنبلاط)(34) أحد أفراد الأسرة الكردية الحاكمة في كِلّس والذي كان قد اغتصب السلطة في حلب عام 1015هـ/1606م، وكان علي باشا هذا مناوئاً ليوسف باشا سيفا منافس فخر الدين، لذلك عندما هُزم ابن جنبلاط من العثمانيين آثر فخر الدين إيجاد تسوية عاجلة مع العثمانيين، غير أن الوقت كان قد أدركه، فالخصومة المحلية بين آل معن وآل سيفا كانت قد كلفت فخر الدين توريط نفسه في الاشتراك في تواطؤ خطير مع المتمردين على الحكم العثماني، الأمر الذي سيكلفه فيا بعد فقدان إمارته لبعض الوقت(35).

فلسطين ومشروع فخر الدين الإقليمي التوسعي:

ليس بوسع أيّ من الباحثين قراءة أهمية فلسطين في المخطط التوسعي الذي وضعه الأمير فخر الدين إلاّ من خلال زاوية الصراع القيسي ـ اليمني الذي اشتعلت أواره حتى قبل استيلاء العثمانيين على بلاد الشام، هذا الصراع الذي شمل مساحة واسعة من لبنان وفلسطين، لسيادة النظام القبلي فيهما.

وبناءً عليه؛ فإن أبرز السمات التي ميّزت المجتمع في المقاطعات اللبنانية في العهد المعني، هي انقسام هذا المجتمع انقساماً حزبياً لا طائفياً، بحيث يلتقي في الحزب القيسي كما في الحزب اليمني أُسر ورجال من جميع الطوائف دون عقد طائفية ولا حساسيات مذهبية، وكانا هما الحزبان الوحيدان اللذان عُرفا في ذلك العهد، وبمعنى آخر كان الحزب الواحد يضم أتباعاً من مذاهب مختلفة، كالسنّة والمتاولة (الشيعة) والموارنة المسيحيين والدروز(36)، وفي الوقت نفسه كان الحزب الآخر يضم أيضاً أتباعًا من المذاهب ذاتها، وخلاصة الأمر أن ولاء الفرد كان للحزب الذي ينضم إليه، وليس للمذهب الديني الذي ينتمي إليه.

أما في فلسطين ونظراً لعدم وجود اختلافات مذهبية عميقة كشأن لبنان، ونظراً لديانة معظم القبائل العربية فيها بالإسلام، خاصة المذهب السنّي، فقد كان الانقسام فيها إلى حزبين اثنين أيضاً وتحت ذات المسمى، القيسي واليمني؛ ولكن على أساس الأصول الأولى لتلك القبائل.

ومهما يكن من أمر، فقد استطاع الأمير فخر الدين والمعنيون رغم هذا الانقسام الاجتماعي إلى إثبات نفوذهم في لبنان الجنوبي(37) أولاً، ثم في شمال فلسطين ثانياً، وكان بعض الأمراء المحليين في فلسطين قد استفادوا من انشغال فخر الدين في تقوية نفسه لمواجهة ولاة دمشق المتعاقبين وأعدائه التقليديين آل سيفا، فتنفسوا الصعداء على إثر القضاء على حكم آل فرّيخ الذين سبق أن وسّعوا نفوذهم على حسابهم، وأشهر هؤلاء الأمراء أحمد بن رضوان حاكم غزة الذي توفي عام 1015هـ/1606 ـ1607م(38)، وحمدان بن قانصوه أمير عجلون والكرك، وطراباي بن قراجا حاكم اللجون الذي خلفه بعد وفاته عام 1010هـ/1601 ـ1602م، ابنه أحمد(39)، والأمير فرّوخ بن عبد الله حاكم نابلس والقدس(40).

وكانت إمارة الحج الشامي تنتقل بين هؤلاء الأمراء المحليين، حسب قوتهم ورضى الدولة عنهم، ولكن فيما بعد تعرض هؤلاء الأمراء لضغط فخر الدين وقتاله لهم، بعد أن ازدادت قوته وترسّخ نفوذه، وكان ضغطه يخف عنهم عندما ينشغل بالقتال مع الولاة العثمانيين أو آل سيفا(41).

غير أن هؤلاء الحكام لم يكونوا على قدر من القوة الكافية لبسط نفوذهم على مساحات من الأرض، كما كانت سلطاتهم غير ثابتة ومعرضة للتغيير من حين لآخر؛ بسبب سياسة الباب العالي، وبما أن جبل لبنان وجنوبه كان يرضخ لنفوذ الأسرة المعنية التي تميّزت بطموحها السياسي الإقليمي على زمن فخر الدين الثاني؛ فإنه من الطبيعي أن تتعرض فلسطين لتجاذب القوى المحلية والإقليمية، وأن تترك الأسرة المعنية آثارها السياسية على مساحات واسعة من أراضيها، وبخاصة في المناطق الساحلية والشمالية(42).

ويعزو البعض السبب الذي دعا المعنيين بزعامة فخر الدين للاهتمام بمنطقة شمال فلسطين، إلى وجود عدد من الروابط الاجتماعية والقبلية والطائفية بين المعنيين وبعض الأسر الدرزية الفلسطينية التي تقطن صفد وبعض نواحي الجليل، حيث كان لهذه الروابط دورها وأثرها الخاص في صياغة الطموح المعني في فلسطين؛ وبالتالي في تشكيل طبيعة العلاقة السياسية التي ربطت ولازالت تربط بين الإقليمين، ويتأكد ذلك إذا علمنا أن زعامة المعنيين في لبنان نفسها كانت مهددة في كثير من الأحيان، بعددٍ من المنافسين الأقوياء سواء كانوا منافسين قبليين أم من الطوائف الدينية الأخرى(43).

هذا السبب السابق ذكره ليس كافياً لزعيمٍ في حجم فخر الدين للاهتمام بأمور شمال فلسطين، لكي يشنّ عدة حملات متتالية كان هدفها الاستيلاء على كامل فلسطين لا الجزء الشمالي منه فحسب، وبالإمكان إيراد بعض النقاط التي تهدم الفكرة من أساسها:

أن القتال خلال القرون الثلاثة السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر لم تكن لأسباب طائفية، بل حزبية في المقام الأول، متعلقة بالصراع بين الحزبين القيسي واليمني، وبالتالي ليس كل الدروز من القيسية لكي يناصرهم فخر الدين، فهنالك دروز ينتمون للحزب اليمني كآل علم الدين المنافسين للمعنيين، لذلك كان من الممكن أن يدخل فخر الدين نفسه في صراع مع أسرة درزية مغايرة له في الانتماء الحزبي لو كانت مصالحه تتعارض مع مصالحها.
لا يُعقل أن يرهن فخر الدين مصيره السياسي كله ويضحي بمجمل ما حققه من مكتسبات في لبنان من أجل عدد من الأسر الدرزية التي تسكن منطقة الجليل الفلسطيني، ولا يُعقل أساساً أن يكون قد صاغ مخططاته وطموحاته من أجل تلك الأسر فقط، خاصة إذا ما علمنا أن الطائفة الدرزية في شمال فلسطين لم تكن آنذاك معرضة للخطر أو أية ابتزازات سياسية من الطوائف الأخرى، حيث لم يرد في أيّ من المصادر التاريخية ما أفاد عكس ما قررناه.
أن العلاقة السياسية التي ربطت بين لبنان وفلسطين في عهد فخر الدين جد مختلفة؛ ففي لبنان ثائر انفصالي حاول قصارى جهده فصل لبنان عن محيطه العثماني، وفي فلسطين زعامات محلية موالية تماماً للسلطات العثمانية وتأتمر بأمرها. وما محاولة فخر الدين للاستيلاء على فلسطين، إلاَّ نوع من الطمع والشبق في الاستحواذ على أملاك الآخرين من أمراء فلسطين المحليين.
ليس من المقبول منطقياً في العُرف السياسي والعسكري أن تكون زعامة أسرة مهددة في كثير من الأحيان بعدد من المنافسين الأقوياء في منطقة ما؛ أن تدفع عنها هذا التهديد بالتوجه نحو مناطق أخرى للاستيلاء عليها، وفخر الدين ليس ساذجاً إلى هذا الحد ليورط نفسه في مشاكل جديدة؛ لأنه بذلك يدفع مصيره السياسي ومستقبل أسرته نحو الهاوية؛ فالذي يتعرض لمشاكل داخلية في بلده حري به معالجتها والقضاء عليها قبل التوجه للغزو خارجها، وكما ستكشف الدراسة؛ فإن الأوقات التي جرّد فيها فخر الدين حملاته على فلسطين وشرقي نهر الأردن كانت فيها سلطته قوية بعدما يكون قد انتصر على أحد منافسيه في لبنان أو حتى على والي الشام نفسه، ومع هذا فإن معظم حروبه في فلسطين انتهت بهزيمته.
ومهما يكن من أمر، فأولى اهتمامات فخر الدين لبسط سيادته علي فلسطين كانت عقب استيلائه على منطقة البقاع الغنية، مستغلا فرصة القضاء على حكامها من آل فريخ، فمد نفوذه من البقاع حتى صفد في شمال فلسطين(44)، ويلاحظ هنا أن امتداد نفوذ فخر الدين إلى صفد كان ناجما عن استيلائه لمنطقة كانت تخضع لنفوذ أسرة إقطاعية (آل فريخ) كان حكمها يمتد من البقاع إلى صفد ونابلس وعجلون، أو إن جاز التعبير، فقد ورث ممتلكات آل فريخ حتى صفد في المرحلة الأولى، وليس بسبب ارتباطه الطائفي بإخوانه الدروز في شمال فلسطين.

وأدى زوال حكم آل فريخ الذين كانوا يشكّلون قوة عازلة بين ولاة دمشق وفخر الدين وامتداد نفوذ الأخير على البقاع إلى ازدياد الاحتكاك والمنافسة بين الطرفين، خاصة وأن المناطق التي أصبح فخر الدين يسيطر عليها كانت تمر فيها الطرق الرئيسية التي تربط بين دمشق والساحل، وبين دمشق وفلسطين ومصر؛ وبالتالي تتحكّم في سلامة قافلة الحج الشامي، ومن ثمّ بدأت المشاحنات والصراعات بين فخر الدين وولاة دمشق(45).

ورويداً رويداً، رسّخ فخر الدين موقعه السياسي باللعب بمهارة على وتر جشع وخلافات نُخب الحكم العثماني. وكانت سياسة "فرّق تسُد" إحدى السياسات التي مارسها بدقة فائقة، بل وأكثر انتظاماً مما مارسها العثمانيون أنفسهم، حيث كان أعوانه ووكلاؤه في الآستانة يسارعون في إحباط وتفادي أية معارضة من جانب مسئولي الدولة بالرشاوى الباهظة(46)، كما أنه عمد إلى تكوين جيشٍ خاصٍ من السكّبان(47) المرتزقة، إضافة إلى أتباعه من الدروز والقيسية، وحصّن القلاع في منطقته، وأجرى اتصالات مع آل مديتشي Midici حكّام دوقية توسكانيا Tuscany في فلورنسا(48) الإيطالية للحصول منهم على مساعدة عسكرية وفنية، إضافة إلى تنشيط التبادل التجاري بين إمارته معهم، خاصة تجارة الحرير، التي كانت مزدهرة في منطقة الشوف(49).

وفي ظل هذه الظروف تعرّض شمال فلسطين عند مطلع القرن السابع عشر لنفوذ الأسرة المعنية إلى حدٍ كبير، فقد كان من أهم أهداف سياسة فخر الدين توسيع مجال نفوذه إلى ما وراء جبل لبنان ليشمل أراضٍ جبلية أخرى، خاصة حوران في سوريا ونابلس وعجلون في فلسطين وشرقي نهر الأردن، وكانت هذه المناطق شأنها شأن لبنان نفسه تسكنها أقوام مضطربة ومتمردة وسلطة العثمانيين عليها هشّة، وتمكن فخر الدين من اصطناع أعوان له بين رؤساء ووجهاء تلك المناطق ودعمهم ضد منافسيهم، مما شكّل تحدٍ مباشر للولاة العثمانيين المتعاقبين في دمشق بعدما أصبح بمقدوره تهديد طريق الحج إلى الحجاز، وقد واصل فخر الدين بوجه عام سياسته الشمالية بثبات بحيث لم يجعل من نفسه شخصاً غير مرغوب فيه لدى السلطات العثمانية، لكنه تحرّك في الجنوب بصعوبة محاولاً قدر الإمكان عدم الإثارة ولفت الانتباه لما يقوم به من توسّع(50).

ومهما يكن من أمر، فقد نجح فخر الدين في استرضاء الباب العالي وانتزع ببراعته وحنكته السياسية فرماناً سلطانياً عام 1012هـ/1603م يقضي بتوليه على كل لبنان، وعلى الأجزاء الشمالية من فلسطين وتملكه على بلاد صفد، في مقابل تعهده للباب العالي بتقديم المستحقات المالية المترتبة عليه، بالإضافة إلى وعده للسلطان العثماني بمقاسمته في كل ما يحصل عليه من أموالٍ وغنائمٍ في حروبه المقبلة(51).

ويرى البعض أن هذا الاتفاق قد أباح لفخر الدين ولو بصورة غير مباشرة بسط نفوذه على القوى المجاورة في فلسطين، حتى وان كانت هذه القوى معينة من قبل الباب العالي وموالية له(52)، غير أن هذا الرأي ينافي تماماً صحة ما سبق أن ذكرناه آنفاً، من أن تقدم فخر الدين نحو فلسطين واصطناعه للأعوان بين زعمائها، قد أثار حفيظة ولاة دمشق العثمانيين، نظراً للتهديد المباشر الذي سيشكّله فخر الدين في حال نجاحه في مشروعه التوسعي من تهديد لطريق قافلة الحج الشامي، ناهيك عن مصلحة السلطان العثماني في ذاك الوقت، التي تقتضي استقرار الأوضاع الأمنية في منطقة حساسة بالنسبة لإمبراطوريته وتعتبر من أهم مفاصلها الرئيسية، خاصة وأن الصراع العثماني ـ الصفوي مازال مستعراً، من هنا، فإن مصلحة العثمانيين اقتضت دعم أعوانهم في فلسطين لا إثارة قوى جديدة ضدهم، وهو ما حدث بالفعل كما قررت المصادر التاريخية، الأمر الذي سوف نفصله لاحقاً.

وسرعان ما توترت العلاقات بين فخر الدين والدولة العثمانية بعد صلحها مع النمسا عام 1015هـ/1606م، وقضائها على تمرد علي باشا جنبلاط ـ الذي كان متحالفاً مع فخر الدين ـ في شمال سوريا في العام التالي، فكلّفت ولاة دمشق بالتصدي له خوفاً من استشراء نفوذه، وتهديده للطرق الرئيسية، بالإضافة لخشية الدولة من طعنه لها في الخلف في أثناء انشغالها في حروب الصفويين(53).

والظاهر أن الأمير أحمد بن طراباي الحارثي حاكم اللجون أقحم نفسه في الصراع الذي دار بين العثمانيين ومعهم يوسف باشا سيفا والي طرابلس وعلي باشا جنبلاط؛ فبعد هزيمة يوسف باشا أمام قوات ابن جنبلاط قرب حماة 1015هـ/ 1606م استقبله الأمير أحمد بكل حفاوة وإكرام، ورفض تسليمه لابن جنبلاط، لأن ابن سيفا كان حليفه الطبيعي تجاه مطامع فخر الدين في الأجزاء الشمالية من سورية الجنوبية، وبصفة خاصة بعدما استولى فخر الدين على سنجق صفد، وأظهر طمعه بسنجق عجلون، إضافة إلى أن هذا التصرف من جانب ابن طراباي كان منسجماً مع ميوله اليمنية مقابل ميول فخر الدين القيسية، وأخيراً موالاته للسلطة العثمانية مقابل تمرد فخر الدين عليها(54).

وبناءً على ما سبق؛ فإن الصراع في بلاد الشام عامة وفي لبنان وفلسطين خاصة لم يكن وقتذاك ذا نعرة طائفية بقدر ما كان تنافس على الإقطاع والسلطة والنفوذ والمطامع التوسعيّة بين القوى المحلية المنقسمة إلى حزبي القيسية واليمنية.

ويبدو أن الأمير أحمد بن طراباي رغم مناصرته للعثمانيين في حربهم ضد ابن جنبلاط، قد آثر عدم الانضمام إلى حملة مراد باشا والي دمشق على الأخير، معتذراً عن السفر ومكتفياً بإرسال رسول وهدية، بعدما رأى أن لا مصلحة له في حرب بعيدة عن حدوده، خاصة وأن خطر فخر الدين محدق به وأطماعه مجاورة له، بعد أن مدّ الأخير نفوذه على سناجق صيدا وبيروت وغزير(55).

ولمواجهة الخطر الذي شكله فخر الدين على نفوذ العثمانيين في فلسطين، وللحد من نفوذه المتصاعد، عيّن الباب العالي والياً جديداً على دمشق عام 1018هـ/1609م هو أحمد باشا الحافظ، الذي جعل كل همّه مقاومة فخر الدين، وقد بدأ أحمد باشا عهده بإثارة الأمراء المحليين المعادين لفخر الدين ضده(56)، مع العلم أنه نادراً ما كان يحدث اتفاق وإجماع بين مناوئ فخر الدين المحليين ووالي دمشق والحكومة المركزية في الآستانة، وقد أدّى هذا الاتفاق إلى إمكانية وجود عمل جماعي مؤثر ضد فخر الدين(57).

عمد أحمد باشا الحافظ إلى تشجيع آل سيفا حكّام طرابلس وأثار الاضطرابات على فخر الدين في منطقتي البقاع وعجلون الخاضعتين لسيطرته ونفوذه، كما حاول القضاء على حلفاء فخر الدين مثل الأمير يونس الحرفوش حاكم بعلبك والأمير أحمد الشهابي حاكم وادي التيم؛ لكنه فشل في مسعاه بعدما أرسل فخر الدين النجدة لهما. هذا الفشل الذي لقيه أحمد باشا دعاه إلى طلب مقابلة الصدر الأعظم نصوح باشا في حلب ـ الذي كان بدوره معادياً لفخر الدين ـ والاشتكاء له من تصرفات فخر الدين، وممن رافق الوالي في المقابلة المذكورة الأمير فرّوخ بن عبد الله الذي أنعم عليه نصوح باشا بسنجقية نابلس وعجلون والكرك عوضاً عن حمدان بن قانصوه(58)، كما عزل الصدر الأعظم الشيخ عمرو شيخ عرب المفارجة عن بلاد حوران وأعطاها للشيخ رشيد شيخ عرب السرديّة، ما دعا الزعيمين المعزولين لطلب النجدة والمساعدة من فخر الدين، لكنه تلكّأ في نجدتهما وطلب منهما إمهاله بعض الوقت لتسوية الأمر مع الصدر الأعظم(59).

ويبدو أن الأمير فخر الدين واجه ضغوطاً من جانب رجال حاشيته، فاضطر لتجريد حملة عسكرية جعل قيادتها لولده الأمير علي ذو الخمسة عشر عاما ً، فتمكن من إلحاق الهزيمة بفرّوخ وعرب السرديّة في المزيريب بأرض حوران في غرة ربيع الثاني 1022هـ/1613م، ونجح الأمير علي وأعوانه من دخول عين جالوت في بلاد عجلون، فأعاد الأمير حمدان بن قانصوه إلى عمله السابق في سنجقية عجلون(60).

ولما كان الوقت في غير صالح فخر الدين بعدما تكالبت القوى المعادية له لا للحد من نفوذه فحسب، بل للقضاء المبرم عليه وعلى إمارته، فقد أصدرت السلطات العثمانية الأوامر لأحمد باشا الحافظ بالزحف على فخر الدين، وانضم إليه الأمراء المحليون كالأمير فرّوخ، والأمير أحمد بن طراباي، وآل سيفا، ومدّه السلطان بقواتٍ من حلب والأناضول، كما أُرسلت مجموعة من السفن الحربية إلى الساحل اللبناني، فاكتسحت القوات العثمانية فخر الدين.

ولما رأى فخر الدين ألاَّ طاقة له بالتصدّي لقوة والي الشام وحزبه، ورأى شدة حصاره لقلعة الشقيف في جنوب لبنان المحصنة، وإلى إرساله لقوات أخرى ضد الشوف نفسه معقل فخر الدين، إضافة إلى تيقّن الأخير من عجز حلفائه وعدم اكتراثهم به وبمصيره، عند ذاك اضطر إلى التوجه إلى صيدا، ومنها سافر بحراً إلى ليغهورن Leghorn أحد مرافئ دوقية توسكانيا الإيطالية في غرة شعبان 1022هـ/أيلول (سبتمبر) 1613م، حيث ظل فيها مدة خمسة أعوام عند أصدقائه من آل مديتشي، وخلفه ابنه الأمير علي في إمارة الشوف بمساعدة عمه الأمير يونس المعني، وبهذا التصرف أنقذ فخر الدين الإمارة المعنية من الانهيار لتبقى تحت تصرف عائلته(61).

ترتب على فرار فخر الدين إلي إيطاليا أن ولّت الدولة العثمانية على صفد بستانجي حسن باشا، بالإضافة إلى صيدا وبيروت وغزير في جمادى الأول 1023هـ/1614م، كما حاولت الدولة في العام نفسه إجراء تنظيم إداري جديد في ولاية دمشق، فاقتطعت ناحيتي صيدا وبيروت ولواء صفد وشكّلت منهم ولاية جديدة عُرفت باسم "ولاية صيدا"، لكن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح، فصرفت الدولة العثمانية النظر عنها وأعادت الولاية الجديدة إلى ما كانت عليه في السابق من حيث تبعيتها لولاية دمشق(62).

لم يؤدِ اختفاء فخر الدين المؤقت عن الساحة اللبنانية إلي خفت وميض المعنيين السياسي، فقد واصل الأمير علي بن فخر الدين سياسة والده التوسعية لاستعادة ما تم فقدانه، وانتهز فرصة تعيين والٍ جديد على دمشق نشانجي أحمد باشا عام 1027هـ/1617م، فطلب منه سنجقية صفد كما كانت قبل سفر والده إلى أوروبا، فصدر فرماناً سلطانياً بتقرير سنجق صفد وصيدا وبيروت وغزير للأمير علي(63).

ويبدو أن حكّام فلسطين المحليين قد تنفسوا الصعداء خلال فترة الخمس سنوات التي قضاها فخر الدين في أوروبا، فاستراحوا خلالها من الضغوط التي كان يمارسها عليهم، كما أن ابنه الأمير علي كان مشغولاً بترتيب بيته من الداخل. وعلى أية حال، فخلال الفترة التي أمضاها فخر الدين في أوروبا، كان الوضع في الدولة العثمانية قد بدأ يتغيّر لصالحه، فعدوه اللدود نصوح باشا عُزل عن الصدارة العظمى، وأحمد باشا الحافظ والي دمشق ترك منصبه، والدولة نفسها منهمكة في حروبها مع الصفويين، وبوساطة مستشاره والأمير يونس الحرفوش أمير البقاع حصل من الدولة العثمانية على عفو، وعاد إلى لبنان عام 1027هـ/1618م(64).

وتجدر الإشارة إلى أن عودة فخر الدين من أوروبا لم تكن مباشرة إلى أحد المرافئ اللبنانية كصيدا أو بيروت، وإنما رست السفينة التي أقلته في مرفأ عكا(65) الفلسطيني، وقد يحتار المرء لهكذا تصرف من جانب فخر الدين، فيقيناً هو يعلم مسبقاً بأن بيروت وصيدا تخضعان لنفوذ ابنه "علي"، وبالتالي فبإمكانه النزول في إحدى هاتين المدينتين، ويرى الباحث أن اختيار فخر الدين لعكا لتكون أول بقعة تطأها قدمه بعد عودته من منفاه الاختياري، لها رمزية خاصة لديه، تبيّن أهمية فلسطين في مشروعه التوسعي سواء كان قبل مغادرته إلى أوروبا أو في مخطّطاته اللاحقة التي نوى أن يشرع في تنفيذها، هذا من جانب، أما من جانب آخر، فهي توضح بجلاء أن عكا وقتذاك كانت تحت سيطرة ابنه الأمير علي، وفخر الدين يقيناً على علمٍ بذلك مسبقاً.

وللتدليل على صحة ما سبق الإشارة إليه، فقد أوردت بعض المصادر التاريخية، أن فخر الدين لما نزل عكا سأل عمن يحكم في تلك المنطقة، فأخبره مستقبلوه بأن ولده عليّاً هو الحاكم فيها، وأنه يقوم الآن بجولة في قرية أبي سنان الفلسطينية ليجمع المال منها، فأرسل فخر الدين في استدعائه(66).

والحقيقة أنه رغم التأكيد بأن المرفأ الذي نزل فيه فخر الدين هو عكا، لكن من غير المعقول هو تصديق ما أورده كلٌ من الخالدي الصفدي وحيدر الشهابي من عدم معرفة فخر الدين لحاكم عكا وقتذاك، الأمر الذي يدعو للحيرة واللبس، فالمنطق يحتم علينا الجزم بمعرفته المسبقة لهذا الحاكم قبل أن تطأ قدماه منطقة نفوذه لسببين اثنين هما:

يُفترض أن عودة فخر الدين من منفاه الاختياري إلى الشرق قد تمت بتنسيق مسبق مع أعوانه وعلى رأسهم ولده "عليّاً.
لو لم يكن يعلم أن ابنه "عليّاً" هو الحاكم الفعلي لعكا، لِما أقدم على هذا الأمر خشية وقوعه في أيدي أعدائه من زعماء فلسطين المحليين.
وما أورده الخالدي الصفدي وحيدر الشهابي لا يعدو أكثر من مبالغة لإظهار فخر الدين بمظهر الزعيم القوي الذي لا يخشى بأس أعدائه، والعائد لاسترداد ممتلكاته التي افتقدها من قبل.

ومهما يكن من أمر، فقد بدأ فخر الدين إثر عودته من أوروبا بتوطيد سلطته من جديد، فاهتم بتطوير اقتصاديات بلاده، خاصة في مجال الزراعة، واستخدم عائدات الجمارك في بيروت وصيدا لتمويل جيشه(67)، وعمد بعض مناوئيه إلى استرضائه، فأرسلوا له الهدايا كالأمير أحمد بن طراباي، والأمير أحمد بن حمدان بن قانصوه، والأمير أحمد بن الحرفوش، ويوسف باشا سيفا، وقد قبل فخر الدين جميع الهدايا المقدمة له من الأمراء عدا هدية يوسف باشا التي ردّها عليه(68)، تعبيراً عما يكّن في صدره من عداوة له.

ويؤخذ على فخر الدين أنه بدأ العمل بنشاطٍ وهمّةٍ لتحقيق أهدافه القديمة متبعاً الأسلوب القديم الذي كان قد اتبعه من قبل(69)، ففي غرة رجب 1028هـ/1618م عزل العثمانيون الأمير أحمد بن حمدان بن قانصوه عن سنجق عجلون، كما عزلوا الشيخ عمرو عن مشيخة حوران، وولوا مكانهما ابن قلاوون وهو من أصل تركي والشيخ رشيد، واضطر الأميران المعزولين لطلب النجدة من فخر الدين لإعادتهما إلى منصبيهما السابق، فنجح في استصدار فرمان من الباب العالي بهذا الشأن في شوال من العام نفسه(70).

ويبدو أن الأمير أحمد بن طراباي قد شعر في تلك الأثناء بأن موازين القوى آخذة في التغيير لصالح فخر الدين، فبعد نجاح الأخير في مسعاه السابق بإعادة أعوانه إلى مناصبهم، انتهز فرصة وجود فخر الدين في تل الهريج بالقرب من صفد، وأرسل إليه ابنه الأمير طراباي ومعه هدية قبلها فخر الدين، فازدادت بينهما أواصر الأُلفة والمودة(71).

وفي عام 1030هـ/1620م وفي أثناء وجود الأمير فرّوخ أمير الحج الشامي في الآستانة بدعوة من السلطان عثمان الثاني، كلّفه السلطان المذكور ببناء قلعة في الطريق الذي تسلكه قافلة الحج يُسمى "المُعظّم"، ورصد لذلك المشروع خمسين ألف غرش، وانتهز فرّوخ باشا تلك المناسبة والتمس من السلطان تعيين الأمير بشير عم الأمير أحمد بن قانصوه حاكماً على سنجق عجلون لكونه أحد مرافقيه وحلفائه، ليساعده في بناء القلعة، وتعيين الشيخ رشيد لمشيخة حوران، فتم له ذلك.

ومرة أخرى استنجد الأمير أحمد بن قانصوه والشيخ عمرو بالأمير فخر الدين لمساعدتهما على العودة إلي منصبيهما، لكنه هذه المرة كان حازماً في رفضه لطلبهما خشية اتهامه بتعطيل بناء القلعة التي أُوكل لفرّوخ باشا بإنجازها من جهة، وللبرود الذي كان قد اكتنف علاقته بالأمير أحمد والشيخ عمرو بسبب قتل فخر الدين لسلطان كتخدا الأمير أحمد، فاضطرا للتوجه إلى بلاد الأمير أحمد بن طراباي حيث توفى الشيخ عمرو في دياره، ثم توجه ابن قانصوه للآستانة في محاولة لاستعادة سنجقه(72).

وتلاحقت الأحداث فيما بعد بصورة دراماتيكية بين مدٍ وجزر بين القوى المحلية في ادعاء كلاً منها بملكيته للسناجق، فالأمير أحمد بن قانصوه نجح في الحصول على قرارٍ بعودته إلى سنجق عجلون، لكن باشا دمشق لم ينفذه لحلول موعد خروج قافلة الحج الشامي، وخشيته من عزل الأمير بشير والشيخ رشيد في ذلك الوقت حتى لا يعطّلا سير القافلة، وهو الموقف نفسه الذي سلكه فخر الدين معه عندما استنجد به، وكان فخر الدين يحاول قدر الإمكان تعطيل تسلّم الأمير أحمد بن قانصوه لسنجق عجلون طمعاً منه بمنحها لابنه الأمير حسين(73).

توجه الأمير أحمد بن قانصوه إلى ديار الأمير أحمد بن طراباي مرة أخرى طلباً للاستقرار فيها، وخلال إقامته عند ابن طراباي تعرّض لهجومٍ من جانب عمه الأمير بشير، فتضايق ابن طراباي من تلك الفعلة وكتب لفخر الدين ملتمساً منه مساعدة أحمد بن قانصوه في استعادة سنجقه، ويبدو أن فخر الدين قد يئس من وصول فرمان من الآستانة بمنحه سنجقية عجلون لابنه حسين، فخشي من وجود أعداء مجاورين لمناطق نفوذه، وقرّر بالفعل مساعدة أحمد بن قانصوه وجرّد حملة في ذي القعدة 1031هـ/1621م على الأمير بشير، ضمت الأمير قاسم ابن الأمير علي الشهابي، والأمير طراباي ابن الأمير أحمد بن طراباي، فلما سمع الأمير بشير بوصول التحالف المذكور إلى جسر المجامع هرب مع الشيخ رشيد، واستعاد أحمد بن قانصوه سنجقية عجلون الذي قام فيما بعد ـ اعترافاً منه بالجميل ـ بتأجير منطقة الغور الغربي نواحي بيسان للأمير علي بن فخر الدين(74).

أضحت قوة فخر الدين طاغية لدرجة أن والي دمشق في العام التالي التمس منه تقديم إعانة مالية لقافلة الحج والخروج لملاقاتها في طريق عودتها، كما منحه سنجقية عجلون باسم ابنه الأمير حسين بعد أن كان قد قنط تماماً من حصوله عليها. ويبدو أن الأمير أحمد بن قانصوه قد قبِل هذا الأمر مُكرهاً، وفي ذلك يقول الخالدي الصفدي: "وكان جواب الأمير أحمد السمع والطاعة لله ولرسوله ولولي أمره، ولكن كأنما في قلبه الجمر. وقال: أنا أولاً وآخراً منك وإليك وبسنجق وغير سنجق محسوب عليك". ثم غادر عجلون وتوجه بـأهله إلى بلاد حوران في ضيافة الشيخ حسين بن عمرو(75).

ولما كان الأمير فرّوخ حاكم نابلس قد تُوفي في مكة أثناء قيادته لقافلة الحج الشامي في 1030هـ/1621م، أصدر الصدر الأعظم "مرّه حسين" أحكاماً بتعيين محمد بن فرّوخ محل أبيه، لكن مصطفى باشا والي الشام رفض التصديق على تلك الأحكام، ما دعا ابن فرّوخ للتوجه للآستانة للمطالبة بحقه بسنجقية نابلس حتى تمكن من الحصول عليها، لكنه لم يهنأ طويلاً بمنصبه الجديد، فسرعان ما سيحصل الأمير حسين بن فخر الدين على فرمانٍ بتوليه سنجقي نابلس وعجلون. ومرة أخرى توجه ابن فرّوخ للآستانة وحصل من الصدر الأعظم على قرارٍ بتوليه إمارة الحج وتقرير سنجق نابلس عليه، كما تم منح سنجق عجلون للأمير بشير بن قانصوه، وصفد لبوستانجي باشا رغم محاولات فخر الدين الحثيثة للحصول على حكم هذه السناجق(76).

استمر فخر الدين في مناصرة أعوانه في فلسطين وشرقي نهر الأردن، خاصة وأن الخلافات قد عادت إلى السطح بين الأمير أحمد بن طراباي وفخر الدين عام 1032هـ/1622م عندما ساند الأول الأمير يونس الحرفوش في صراعه ضد فخر الدين، وعندما شعر ابن طراباي بأطماع فخر الدين التوسعيّة، رغم محاولات ابن طراباي الإصلاحية بين الشيخ عاصي أحد مشايخ نابلس ومصطفى كتخدا أحد أعوان فخر الدين، ونجاحه في إيقاف الاقتتال بينهما، كما مدّ ابن طراباي حكمه على بلاد عجلون واربد ونابلس وأعطى الحكم فيها لمشايخ موالين له في المناطق المجاورة، فاضطر فخر الدين لمهاجمة الأراضي الخاضعة لحكم أحمد بن طراباي واستولى على برج حيفا، وأمر بإحراق قرى الكرمل، وإزاء هذا الاجتياح المدمّر رحل ابن طراباي والأمير بشير بن قانصوه باتجاه نهر العوجا على حدود غزّة(77).

حاول فخر الدين التوغّل جنوباً للحاق بابن طراباي، وتمكن من إحراز نصراً مؤقتاً، إلى أن دارت رحى معركة عنيفة اشترك فيها عرب المفارجة إلى جانب فخر الدين، وعرب السوالمة إلى جانب ابن طراباي، حقق الأخير فيها نصراً مدوّياً، واسترجع وحلفاؤه ما سبق أن فقدوه، بل ولاحقوا فلول جيش فخر الدين، وألحقوا به الكثير من الإصابات رغم محاولات المؤرخ الخالدي الصفدي التقليل من شأن هذا الانتصار بقوله: "وصارت هزيمة من جانب الحق سبحانه وتعالى، وليس هذا ما يعيب الأمير فخر الدين لأن الحرب سجال تارة وتارة والرجال في الحرب لم تزل غدارة…"(78).

وفي الوقت الذي كانت فيه ممتلكات فخر الدين في لبنان مهددة من جانب يوسف باشا سيفا والأمير يونس الحرفوش اللذان بدأا بمهاجمتها مستغلين فرصة عدم وجود فخر الدين فيها، قرر الأخير العودة لمواجهة الموقف الجديد، وفي أثناء ذلك أغار الأمير علي بن طراباي شقيق الأمير أحمد، على ساحل عكا، وفي طريق عودته إلى بلاده مرّ بحيفا واصطدم بأحد أعوان فخر الدين، نصوح بلوكباشي وسكمانيته، فقتله ولجأ أعوانه الباقون إلى برج حيفا ثم فرّوا بحراً إلى عكا، كما تلاحقت اغارات أحمد بن طراباي ضد أتباع فخر الدين، خاصة في قرية كفر كنّا(79).

تلاحقت الأحداث وبدأت الأمور تتجه نحو أزمة جديدة، فالعداوات القديمة بين فخر الدين والأمير يونس الحرفوش زعيم البقاع اندلعت من جديد، وكان الأمير يونس في وضعٍ سيئ، وتمكن فخر الدين من الاستيلاء على بلدة قب الياس الاستراتيجية التي من خلالها بسط تحكمه على الطريق الرئيسي المهم الذي يربط دمشق ببيروت، علماً بأن الأمير يونس هذا كان حليفاً لفخر الدين من قبل وساعده في العودة إلى لبنان بعد توسطه لدى الباب العالي، ولكنها السياسة بكل تقلباتها.

أدى ازدياد قوة فخر الدين إلى تنبيه مصطفى باشا والي دمشق الذي عمل على التحالف مع الأمير يونس الحرفوش ويوسف باشا سيفا للإطاحة بغريمهم، ومهما يكن من أمر، فقد نجح فخر الدين في بادئ الأمر عن طريق إغداق الرشاوى الباهظة على حاشية الباب العالي في الآستانة، في الحيلــول دون تدخّل الحكومة المركزية، كما تمكن كذلك من تثبيت امتلاكه لصفد ونابلس وعجلون(80).

غير أن سياسة الباب العالي المعتدلة تجاه فخر الدين لم تستمر طويلاً لصالحه فقد أعاد الأخير صلاته بحكومة توسكانيا وسمح لتجارها بالنزول في موانيه، وأعاد جيش السكّبان الذي بلغ مائة ألف من شعوبٍ شتى، عندئذ منح الباب العالي الإذن لوالي دمشق وحلفائه بمهاجمة فخر الدين لتحجيم دوره، وفي هذا السياق دارت معركة شهيرة في تاريخ لبنان الحديث، هي موقعة عنجر عام 1033هـ/1623م هُزم خلالها مصطفى باشا وتم أسره، أما حلفاؤه فقد دُحروا وتشتت فلولهم تماماً، ثم أُطلق سراح الباشا ـ بوساطة وفدٍ من علماء دمشق ـ الذي اضطر فيما بعد للاعتراف بسلطة فخر الدين وممتلكاته، وبذلك بلغ نفوذه الذروة(81).

كانت موقعة عنجر علامة فارقة في تاريخ فخر الدين الثاني، فآل سيفا قبِلوا أخيراً الخضوع المطلق لسلطته وتقديم المال إليه بعد استيلائه على عكار وهدم قلعتها، ومدّ نفوذه شمالاً حتى حدود إنطاكية(82)، أما الوضع في فلسطين فكان مختلفاً تماماً، فالأمراء المحليون فيها رفضوا الانصياع والرضوخ لسلطته، فهاجم أحمد بن طراباي في العام نفسه أعوان فخر الدين الذين يتولون السناجق الفلسطينية وشرقي نهر الأردن وحوران، واستولى على ممتلكات الأمير أحمد بن قانصوه حاكم عجلون والشيخ حسين بن عمرو حاكم حوران ومنح سناجقهما للأمير بشير عم أحمد بن قانصوه والشيخ رشيد، غير أن فخر الدين لم يُسلّم للأمر الواقع بل ساعد أعوانه في استرداد أملاكهم فيما بعد(83).

وتمكن فخر الدين من الحصول على قلعة الصلت (السلط) وعيّن فيها نائباً عنه، كما استولى على نابلس وعزل محمد بن فرّوخ عنها، وبلغ الأمر بفخر الدين مداه بعدما حصل لابنه الأمير منصور على سنجق اللجون بما فيه مدينة جنين مركز آل طراباي الرئيسي، الأمر الذي لم يتقبله الأمير أحمد بن طراباي فكانت ردة فعله أن شكّل تحالفاً من عرب السوالمة وخيالة نابلس وبلاد عجلون والغور بقيادة محمد بن فرّوخ وعرب غزّة الخاضعين لسلطة حسن باشا رضوان حاكم غزّة، لمهاجمة حلفاء فخر الدين من عرب المفارجة، كما هاجم سواحل عكا وأعمل فيها النهب والتخريب، واستمرت المعارك بين الطرفين سجالاً، وأثبتت القبائل العربية بإمرة ابن طراباي ومؤيديه صلابة في المقاومة تجاه فخر الدين وقواته من السكمانية المرتزقة، خاصة في الموقعة التي دارت عند نهر العوجا قرب يافا عام 1033هـ/1623م، التي انتصر فيها ابن طراباي واسترجع مدينة جنين، وألحق الكثير من الخسائر في جيش خصمه، وقد أشار المؤرخ المحبي لهذه الموقعة بقوله:"أشهر وقعاته (أي أحمد بن طراباي) وقعة يافا، ومعه حسن باشا (رضوان) حاكم غزة، والأمير محمد بن فرّوخ أمير نابلس، فقتل من جماعة معن مقتلة عظيمة"(84).

وتوالت هجمات أحمد بن طراباي على ممتلكات الأمير فخر الدين وتخريبها، واستولى على قرية أبي سنان التابعة لسنجق عكا، وحقق عدة انتصارات أذهلت فخر الدين وولده الأمير علي، ولما كانت تكاليف القتال باهظة على الطرفين المتحاربين فقررا التعايش وفتح صفحة جديدة من الوفاق السلمي أو ما يُصطلح على تسميته في التاريخ المعاصر بالحرب الباردة، وقامت بين الطرفين مفاوضات أسفرت عن صلحٍ في شوال من العام نفسه، من أهم شروطه أن تنسحب قوات فخر الدين من حيفا وبرجها بعد هدمه، وأن يمنع ابن طراباي عربانه عن تخريب بلاد صفد التابعة لفخر الدين، كما يتعهد أيضاً بتأمين الطريق بين بلاد صفد وبلاد حارثة، وتخلّى فخر الدين عن جبل نابلس لابن طراباي، واعترف بامتداد حدود سلطته إلى حيفا، وبذلك لم يعُد أي من الطرفين يتعرض للطرف الآخر(85).

ويبدو أن المتاعب التي واجهت فخر الدين في فلسطين وشرقها قد ازدادت فيما بعد، ففي العام نفسه تعرضت قلعتي الصلت وعجلون لخطر داهم من جانب الأمير بشير بن قانصوه بعدما فرض عليهما حصاراً خانقاً، دعا القائمين على أمرها لتسليمهما له، ولما كان الأمير بشير يدرك أن فخر الدين لن يدعه يهنأ بما حصل عليه من مكاسب أرسل في طلب الصلح معه، وبعد المباحثات التي تمت بين الطرفين، اتفقا على أن يكون الأمير بشير حاكماً على سنجق عجلون نائباً عن الأمير حسين بن فخر الدين(86).

وبحلول عام 1034هـ/1624م استتب الأمر لفخر الدين في فلسطين وما جاورها بعد تيقنه من استمرار أواصر المودة وعلاقته الحسنة بالأمير أحمد بن طراباي، وبشير بن قانصوه، واحتفاظ ابنه الأمير علي بسنجق صفد الاستراتيجي، ووفاة منافسه التقليدي يوسف باشا سيفا(87)، هذا الأمر جعل العثمانيين في موقفٍ صعب لا قِبل لهم بمواجهته بسبب انشغالهم آنذاك بمحاربة الصفويين، لذلك اضطر السلطان مراد الرابع للاعتراف بسلطة فخر الدين ومنحه فرماناً ولاه بموجبه على بلاد عربستان(88) من حدود حلب إلى القدس، كما منحه لقب سلطان البرـ الذي حمله جدّه فخر الدين الأول من قبل ـ شريطة أن يقوم بتقديم مال الميري لخزينة الدولة، وأن يحافظ على الأمن في منطقته، هذا الفرمان المهم حصل عليه فخر الدين مقابل ما دفعه من ثمنٍ غالِ ومرتفع(89).

استمرت سياسة الوفاق بين فخر الدين وأحمد بن طراباي حوالي عشرة سنوات، لكن التوتر عاد بينهما عام 1043هـ/1633م عندما حرّض الأمير علي بن فخر الدين عرب الوحيدات ضد آل طراباي، ويبدو أن فخر الدين كان على دراية بما قام به ولده، فرّد آل طراباي بمساعدة الأمير محمد بن فرّوخ بمهاجمة بلاد صفد التابعة للأمير علي ونهبها، وكان والي دمشق أحمد باشا كوجك قد لعب دوراً مشبوهاً في تأجيج التوتر بين القوى المحلية من جديد، مما أدى إلى مقتل الأمير علي بن فخر الدين(90)، والظاهر أن المهمة التي قام بها والي دمشق جاءت كرد فعل من جانب الباب العالي لعدم سماح فخر الدين لفرقة عسكرية عثمانية كانت متجهة لحرب الصفويين عام 1041هـ/1631م من قضاء فصل الشتاء في دياره، بل وصل الأمر لحد طرده لهذه الفرقة بقوة السلاح(91).

شعر فخر الدين أن ساعة الحسم بينه وبين السلطات العثمانية قد حانت، فبدأ بتعزيز دفاعاته، فبنى حصناً في المنطقة الواقعة بين حلب وإنطاكية، وحُصناً اُخر في قب الياس في البقاع، وبانياس في الجنوب، وتدمر ما زال يُعرف باسمه، وإذا كان السلطان مراد الرابع قد اضطر في بداية عهده لمنح فخر الدين سلطات واسعة في بلاد الشام، لِصغر سنه؛ لكنه عمد فيما بعد إلى إحكام سيطرة الدولة وإبراز هيبتها بعدما بدت عليها بعض الإشارات التي تنمُّ عن تجديد حيويتها، وبعدما خشي من الترتيبات الدفاعية التي قام بها فخر الدين، واستمرار اتصالاته مع الأوروبيين. تلك الأمور مجتمعة دعت السلطان مراد الرابع إلى توجيه أمرٍ لأحمد باشا كوجك عام 1043هـ/1633م بالتوجه لقتال فخر الدين على رأس جيشٍ كبير من جنود الأناضول ومصر، كما أرسل أسطولاً بحرياً لمهاجمة المرافئ والحصون الساحلية، مما أدى لهزيمة فخر الدين واختبائه في قلعة نيحا بضعة أشهر ثم انتقاله إلى كهفٍ حصين قرب جزّين، حتى تمكن العثمانيون أخيراً من إلقاء القبض عليه وإرساله إلى الآستانة أسيراً، ثم إعدامه فيها في 13 نيسان (أبريل) 1635م/1045هـ(92).

أدّى القضاء على فخر الدين وحركته الانفصالية الطموحة لإقامة كيان مستقل عن الدولة العثمانية إلى حدوث فوضى شاملة في لبنان وفلسطين؛ ففي لبنان تجددت العداوات القديمة بين الأُسر الإقطاعية التي كانت تخضع لسلطة المعنيين(93)، كما عمد العثمانيون إلى فصل صيدا عن دمشق، وجعلوا منها ولاية مستقلة عام 1071هـ/1660م لمراقبة شؤون لبنان، وتم فصل بيروت كذلك وألحقوها بدمشق، ولم يظهر في البيت المعني شخصية قوية من طراز فخر الدين الثاني تواصل سياسته(94)، أما في فلسطين، فقد كان فخر الدين قد أضعف في أثناء فترة حكمه بطريقٍ مباشر أو غير مباشر، الأمراءَ المحليين فيها، وبعد مقتله كانت بعض هذه الأُسر الحاكمة قد تلاشت على يديه، بينما بعضها الآخر كان في طريقه للانحلال بفعل تأثيره(95).

وتجدر الإشارة إلى أن بعض الأُسر الحاكمة في فلسطين تصرّفت طوال فترة حكم فخر الدين تصرف الندّ له، خاصة الأمير أحمد بن طراباي الذي كانت ممتلكاته مجاورة لمناطق نفوذ فخر الدين من ناحية، ولأنه هو الآخر كانت له مطامحه في السيادة على الجزء الشمالي من فلسطين كله؛ فكان بذلك شوكة في خاصرة فخر الدين ومنافساً له(96).

وبمقتل فخر الدين الثاني انتبهت الدولة العثمانية لجنوب الشام ولطريق الحج التي تعطّلت بسببه، فأرسلت حملة بقيادة عبد الله باشا النمر أحد قادة منطقة نابلس، حيث تمكن هو وأولاده وأحفاده فيما بعد من إقامة إمارة مستقرة، موالية للحكم العثماني(97).

وفي هذا المضمار تجدر الإشارة أيضاً إلى عدة عوامل دفعت الأمراء المحليين في فلسطين من سيطرة فخر الدين عليهم، منها:

إحساسهم العميق بأنه ينافسهم على السيادة أو الزعامة القبلية، ويريد أن يفرض سيادة قبيلته عليهم، في الوقت الذي كانوا يشعرون فيه أنهم ليسوا أقل منه كفاءة ولا أضعف منه عصبية قبلية.
أنهم كانوا يدركون حقيقة أطماعه ونواياه التوسعية تجاه سناجقهم من ضم وسيطرة.
أن ولاة دمشق المتعاقبين لم يرغبوا في الاستسلام لرغبات فخر الدين وأطماعه في ولايتهم بسهولة، وقد دفعهم هذا الموقف للتنسيق مع حكّام الألوية الخاضعة لنفوذهم، للقيام بعمل عسكري بهدف الحد من نفوذه وتغيير الوضع السياسي الذي فرضه عليهم(98).
بقي أن نشير إلى الوجه الحضاري الذي خلفه فخر الدين في فلسطين، على قلته، فقد اهتم بتشجيع التجارة مع أوروبا، ولهذا الغرض ابتنى في عكا حصناً وخاناً لإقامة التجار الأجانب بعد أن اتخذ عدداً من التجار الفرنسيين والإنكليز والهولنديين من عكا مركزاً لتجارة القطن. فقد أشار حيدر الشهابي في حوادث سنة 1032هـ/1622م إلى وصول مركبين تجاريين فرنسيين إلي عكا لشحن القطن(99)، كما كانت فرنسا تستورد في السنوات التي بها جفاف كميات كبيرة من القمح والأرز من عكا وحيفا، حيث شوهدت في ميناء عكا 32 مركباً حمولة أصغرها 150 طناً، وحمولة أكبرها 600 طن، قدمت لشحن القمح(100)، كما سمح فخر الدين لمجموعة من التجار الفرنسيين باستيطان عكا في الفترة ما بين 1034ـ1043هـ/1624ـ1633م(101).

وفي صفد شيّد فخر الدين مغارة الحمام سنة 1022هـ/1613م، وسُميت قلعة ابن معن، كما أنجز سور تل الهريج بالقرب من صفد(102)، أما يافا فلم تشهد في عهد فخر الدين سِوى أثراً عمرانياً وحيداً هو القلعة وعمل على ترميم أسوارها(103).

وتحسنت أحوال المسيحيين في الناصرة زمن فخر الدين نتيجة لسياسة التسامح الديني التي انتهجها؛ ففي عام 1030هـ/1620م سمح للرهبان الفرنسيسكان بترميم كنيستها القديمة المعروفة بالسانتا، وبناء ديرٍ بالقرب منها؛ ولكن في عام 1040هـ/1630م قبيل القضاء على فخر الدين، بدأت أحوال المسيحيين في الناصرة بالتدهور نتيجة لاستيلاء آل طراباي على جزءٍ كبير من الجليل، حيث شرعوا في مضايقة الرهبان نكاية بفخر الدين(104).

خاتمة الدراسة

نستطيع القول، أن طموح فخر الدين المعني الثاني لإقامة إمارة إقليمية يكون هو زعيمها، لم تكن وليدة الصدفة أو نتاج التراكمات السياسية التي جعلت من بلاد الشام عامة ولبنان وفلسطين خاصة مرتعاً للكثير من الحكّام المحليين الذين كان كلٌ منهم يحكم منطقة بعينها، لكن هذا الطموح كان بالدرجة الأولى يعود لخططٍ طموحة من جانب أسلافه، كجده فخر الدين المعني الأول ثم والده قرقماز، ورغم أن أسلافه فشلوا مبكراً في تحقيق أي من أهدافهم، إلا أن فخر الدين الثاني تمكن من تحقيق كل النجاح في لبنان، وقضى على منافسيه الأقوياء، وحقق بعض النجاحات المؤقتة في فلسطين، لكنه لم يستطع فرض كامل سلطته عليها.

والسبب المباشر والرئيسي لاهتمام فخر الدين الثاني بالتوسع في فلسطين لا يعود في المقام الأول لدوافع طائفية كما ذكر البعض، وإنما لأسباب حزبية بحتة، ولا سيما الصراع بين الحزبين الرئيسيين في بلاد الشام، القيسي واليمني، حيث اشتعلت أوار الحروب والمنازعات بين هذين الحزبين من أجل سيادة النظام القبلي، خاصة في لبنان وفلسطين.

وأثبتت الدراسة أن تدخل فخر الدين الثاني في شؤون فلسطين العثمانية، كان لأهدافٍ شخصيةٍ بحتة لا لمصلحة قومية عليا كقمع ثائر متمرد على السلطة المركزية على سبيل المثال، فجلّ حكّام فلسطين المحليين كانوا من الموالين للسلطات العثمانية سواء في دمشق أو في الآستانة نفسها، وكان هدف فخر الدين هو منح السناجق الفلسطينية سواء في شرقي نهر الأردن أو في غربه إما لأبنائه أو لأعوانه الموالين له.

وشخصية فخر الدين الثاني لم تكن تصرفاتها تنم عن اتجاه مغامر كما يحلو للبعض وصفه بذلك، ولكنها تصرفات رجل طموح شابت أفعاله الكثير من الأطماع لبناء مجدٍ ذاتي يخلده في المدونات التاريخية، ورجل بمثل تلك المواصفات يصعب عليه المقامرة بمستقبله ومشروعه السياسي التوسعي في خضم مغامرة قد تنجح وغالباً ما ستفشل، وما يحُسب لفخر الدين أنه كان متأنياً في اتخاذ القرارات فحقق الكثير من النجاحات.

كما أثبتت الدراسة أن عودة فخر الدين من أوروبا ـ منفاه الاختياري ـ واختياره لمرفأ عكا لتكون أول بقعة في الشرق تطأه قدماه، لها رمزية خاصة لديه، تبيّن أهمية فلسطين في مشروعه التوسعي سواء كان قبل مغادرته إلى أوروبا أو في مخططاته اللاحقة التي نوى الشروع في تنفيذها.

ومما يجدر ذكره أن موقعة عنجر عام 1033هـ/1623م كانت علامة فارقة في تاريخ فخر الدين، فحكّام لبنان المحليون والموالون للسلطات العثمانية خضعوا بعدها لنفوذه، وازدادت محاولاته للحصول على أكبر قدر ممكن من الكاسب في السناجق الفلسطينية، وأكثر من ذلك اضطرت الدولة العثمانية للاعتراف بسلطته بعد أربعة وثلاثين عاماً من صراعه الطويل مع ممثليها، ومنحته فرماناً يكون بموجبه حاكماً على بلاد عربستان من حدود حلب إلى القدس، كما منحته لقب سلطان البر وهو اللقب نفسه الذي منحته من قبل لجده فخر الدين الأول.

ولم تسِرْ العلاقة بين فخر الدين والزعامات المحلية الفلسطينية على وتيرة واحدة، فهي دوماً صدامية بين الطرفين تتجاذبها حالتي المد والجزر؛ وان كانت هذه الزعامات قد حققت الكثير من الانتصارات على فخر الدين، أما بعض المكاسب التي حققها الأخير في فلسطين؛ فإنما تعود لسياسته الحكيمة في بعض الأحيان لا لقوته العسكرية وذلك من خلال وكلائه في الآستانة حيث أغدق عليهم الأموال الطائلة ليسهّلوا له مهمة شراء المناصب وتعيينه على بعض السناجق في فلسطين وشرقي نهر الأردن، وأحياناً قليلة كانت سياسة الوفاق ترجح بين فخر الدين من ناحية والأمير أحمد بن طراباي حاكم اللجون من ناحية أخرى، لكنها فشلت في النهاية لعدم وجود دعائم ترسّخها، وأُخذ على فخر الدين أنه فشل في الاحتفاظ بفلسطين بسبب عدم محاولته رأب الصدع بين الحزبين المتنافسين وقتذاك، وكان هو شخصياً زعيماً لإحداهما ولم ينجح في التقريب بين وجهات نظرهما، وبالتالي فشل في أن يطوي زعماء فلسطين بين جناحيه.


--------------------------------------------------------------------------------

الحواشي

(1) علي، محمد كرد: خطط الشام.ج3، دمشق 1343هـ (1925م). ص236. والعابدي، محمود: صفد في التاريخ. عمان1977، ص64-65.

(2) الشهابي، حيدر (الأمير): تاريخ الأمير حيدر الشهابي. علق على حواشيه: د.مارون رعد، 4 أجزاء، ج3، دار نظير عبود، بيروت 1993، ص738.

(3) تشرشل، تشارلز: جبل لبنان (عشر سنوات إقامة) 1842-1852. ترجمة: فندي الشعار، دار المروج للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1985، ص56.

(4) حتي، فيليب: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين. ترجمة: د.كمال اليازجي، جزءان، ج 2، دار الثقافة، بيروت1959، ص279.

(5) الشهابي، حيدر: نفس الصفحة.

واستطراداً لما ذهبنا إليه من ذكاء فخر الدين الأول؛ أنه لما دخل على السلطان سليم في دمشق، دعا له دعاءً بليغاً. وقد أدهشت بلاغته سليماً فكرّمه ومنحه شرف الأولوية على كل أمراء الشام، ومنحه لقب سلطان البر.

نفس المرجع، ص740-741.

(6) Ismail,Adel,Histoire du Liban du xvII siècle a nos jours, vol.1,Le Liban au temps de Fakhr-eddin II (1590-1633), Paris1955,p.54.

(7) Ibid.

(8) بازيلي، قسطنطين: سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني. ترجمة: طارق معصراني، دار التقدم، موسكو1989، ص28. ولوتسكي، فلاديمير: تاريخ الأقطار العربية الحديث. ترجمة: د.عفيفة البستاني، مراجعة: يوري روشين، ط8، دار الفارابي، بيروت 1985، ص14.

(9) السنجق أو الصنجق: لفظ تركي استعمل بمعنى العَلَم، أو الراية، وبمعنى الرمح، أو اللواء. والسنجق وحدة إدارية ضمن الولاية، عُرف حاكمه بلقب سنجق بك بالتركية وأمير لواء بالعربية، وعُرفت المنطقة التي يحكمها بالسنجق أو اللواء. وكان السنجق يُقّسم إلى عددٍ من النواحي، ويُسمى السنجق أو اللواء عادة باسم عاصمته وهي أكبر مدنه مثل سنجق القدس وغزّة…الخ. أما لواء اللجون فلم يُسمَّ نسبة إلى مدينة؛ لأنه استحُدث بخاصة لأسرة طراباي الحارثية وأبناؤها من زعماء بني حارثة التي كانت تتصرف بالمنطقة كإقطاع.

انظر: دهمان، محمد أحمد: معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي. ط1، دار الفكر، دمشق1410هـ (1990م)، ص93. ورافق، عبد الكريم: فلسطين في عهد العثمانيين (1). الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني-الدراسات الخاصة، المجلد الثاني، الدراسات التاريخية، ط1، بيروت 1990، ص699.

(10) رافق: المرجع السابق، ص698-699.

(11) لمزيد من التفاصيل عن طريق الحج الغزّاوي، أنظر:هيئة الموسوعة الفلسطينية: الموسوعة الفلسطينية. القسم العام، 4 أجزاء، ج3، ط1، دمشق 1984، ص112-113.

(12) رافق: المرجع السابق، ص700-702.

(13) عبد الكريم، أحمد عزت: "التقسيم الإداري لسورية في العهد العثماني". حوليات كلية الآداب، جامعة عين شمس، المجلد الأول، مايو 1951، ص134، 173-175. وبولياك: الإقطاعية في مصر وسورية وفلسطين ولبنان. ترجمة: عاطف كرم ، بيروت1948، ص137-146.

(14) وُلد فخر الدين المعني الثاني عام 980هـ/1572م في بعقلين عاصمة الإمارة المعنية آنذاك، من أم تنوخية ذات شخصية فذّة وصيت نبيل هي "الست نسب" شقيقة الأمير سيف الدين التنوخي. وكان والده الأمير قرقماز قد ورث الإمارة عن أبيه الأمير فخر الدين الأول ، فترعرع فخر الدين الثاني مع أخيه يونس في كنف والديه حتى بلغ الثانية عشرة من عمره عام 992هـ/1584م. وبعد موت أبيهما احتضنتهما أمهما الست نسب وخالهما الأمير سيف الدين التنوخي. ولما بلغ فخر الدين الثامنة عشرة من عمره عام 999هـ/1590م ولاه خاله المذكور إمارة أبيه، فأصبح فخر الدين أميراً للدروز والشوف.

انظر: الشهابي ، حيدر: نفس المرجع ، ج3، ص807. وسويد، ياسين: التاريخ العسكري للمقاطعات اللبنانية في عهد الإمارتين. جزءان، ج1، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت1985، ص153.

بينما يذكر تشارلز تشرشل، أن الأمير فخر الدين وأخوه الأمير يونس كانا بعد وفاة أبيهما تحت رعاية الشيخ أبو نادر الخازن الماروني، الذي أسندت إليه أمهما العناية بهما لإنقاذهما من أعوان العثمانيين.

جبل لبنان، ص61.

(15) مجهول المؤلف: نزهة الزمان في حوادث لبنان. مخطوط في المكتبة الوطنية بباريس، رقم Arabe 1684 ، ورقة 17أ-17ب. والشهابي، حيدر: المرجع السابق، ص806. والحتّوني، منصور طنوس: نبذة تاريخية في المقاطعة الكسروانية. بدون بيانات نشر، بدون تاريخ، ص60-61.

(16) سويد: المرجع السابق، ص153. و:

-Holt (P.M.),Egypt and the Fertile Crescent1516-1922,Cornell University press, New York 1966,p.115.

(17) لوتسكي: المرجع السابق، ص35-36.

(18)Ibid.

(19) المعلوف، عيسى اسكندر: "الأمراء الحرفشيون". مجلة العرفان، مجلد9 (من ربيع الأول إلى ذي الحجة 1342هـ )، ص291-297.

(20) العورة، إبراهيم: تاريخ ولاية سليمان باشا العادل. نشره وعلق عليه: قسطنطين الباشا المخلصي، صيدا 1936، ص111. و:

-Charles-Roux (F.), Les Echelles des Syrie et de Palestine au XV III siècle, Paris 1928, p207.

(21) Lammens (S.J.), La Syrie précis Historique, vol.II, Beyrouth 1921, pp.71-72.

-Holt,op.cit,p.115.

(22) الصليبي، كمال: تاريخ لبنان الحديث. ط2، دار النهار للنشر، بيروت 1969، ص34-35. والمعلوف، عيسى اسكندر: تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني. ط2، منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1966، ص56.

ويبدو أن السبب الذي دعا المعنيون للتخلي عن الحزب اليمني والتحالف مع الحزب القيسي، يعود لخلاف حصل بين فخر الدين الأول والأمير جمال الدين الأرسلاني، وكلاهما من اليمنية بسبب التنازع على حكم الشوف والغرب وغير ذلك من الأمور، فانحاز فخر الدين الأول إلى القيسية ومعه كامل أسرته ومن خلفه منها في الحكم بعده.

المعلوف: المرجع السابق والصفحة نفسها.

(23) الحتّوني: المرجع السابق، ص63. و:Holt, op.cit, p.115.

.(24) الموسوعة الفلسطينية، ج1، ص100.

ولمزيد من التفاصيل عن أسرة طراباي الحارثية. أنظر:

كرمل ، ألكس: تاريخ حيفا في عهد الأتراك العثمانيين. ترجمة: تيسير الياس، دار المشرق، حيفا1979، ص47-48. ومناع، عادل: تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700-1918 (قراءة جديدة). ط1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1999، ص11-12. والصباغ، ليلى: فلسطين في مذكرات الفارس دارفيو. ط1، مؤسسة المصادر للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، بيروت 1416هـ (1996م)، ص172-173. والبوريني، الحسن بن محمد: تراجم الأعيان من أبناء الزمان. تحقيق: د.صلاح الدين المنجد، جزءان، ج2، دمشق 1959، 1966، ص273. والمحبي، محمد الأمين: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر. 4 أجزاء، ج1، القاهرة 1284هـ (1869م)، ص221. وابن طولون، محمد: مفاكهة الخلاّن في حوادث الزمان. نشر: محمد مصطفى، جزءان، ج1، ص22 وج2، ص43، 72، 79، 145، القاهرة62-1964.

(25) المحبي: المرجع السابق، ج1، ص187 وج2، ص417 وج3، ص271. والخالدي الصفدي: المرجع السابق، ص102. والبوريني: ج1، ص202 وج2، ص289. ومناع: المرجع السابق، ص13.

ولمزيد من التفاصيل عن فرّوخ بن عبد الله الشركسي. أنظر:

المحبي: ج3، ص271. والخالدي الصفدي: ص7. والمقاري، محمد بن جمعة: الباشات والقضاة في العهد العثماني. جمعها وحققها ونشرها: د. صلاح الدين المنجد ، في كتاب: ولاة دمشق في العهد العثماني ، دمشق1949، ص18. والدباغ، مصطفى مراد: بلادنا فلسطين. القسم الثاني، ج2، في الديار النابلسية (1)، دار الهدى، كفر قرع 1991، ص145.

(26) الموسوعة الفلسطينية، ج2، ص460. والمبيض، سليم عرفات: وقفية موسى باشا آل رضوان سنة1081 هـ، مكتبة ابن سينا للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة2000، ص19.

(27) الموسوعة الفلسطينية، ج2، ص460-461. ومناع: المرجع السابق، ص9-10.

ولمزيد من التفاصيل عن أسرة آل رضوان. أنظر:

البوريني: ج1، ص 112، 191. ورافق، عبد الكريم: بلاد الشام ومصر من الفتح العثماني إلى حملة نابليون بونابرت (1516-1798). ط1، دمشق 1967، ص164.

(28) حتي: تاريخ سورية، ج2، ص327.

(29) تشرشل: المرجع السابق، ص61.

(30) رافق، عبد الكريم: العرب والعثمانيون 1516-1916. ط1، دمشق 1974، ص148. وعوض، عبد العزيز محمد: الإدارة العثمانية في ولاية سورية1864-1914. تقديم: د.أحمد عزت عبد الكريم، دار المعارف، القاهرة1969، ص13.

(31) دي سان بيير، بيجيه: الدولة الدرزية. ترجمة: حافظ أبو مصلح، ط1، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت 1983، ص39.

استخدم فخر الدين الثاني عدة وسائل لتحقيق طموحاته منها: التزاوج والدس والرشوة وإقامة التحالفات والتورط في القتال وتحريض الأهالي بالتمرد على موظفي الدولة العثمانية وآل سيفا.

حتي: المرجع السابق والصفحة نفسها. وتشرشل: المرجع السابق والصفحة نفسها.

(32) المحبي: ج4، ص426-428. والغزّي، نجم الدين محمد بن بدر الدين: لطف السحر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر، أو ذيل الكواكب السائرة بمناقب أعيان المائة العاشرة، مخطوط موجود في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 3406، ورقة 212أ -212ب. والأنصاري، شرف الدين بن موسى: نزهة الخاطر وبهجة الناظر. مخطوط في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 7814، ورقة 117ب-119ب. والنمر، إحسان: تاريخ جبل نابلس والبلقاء. ج1، ط2، نابلس1395هـ (1975م)، ص32-33.

(33) حتي: المرجع السابق، ص327. والدبس، يوسف: تاريخ سورية. راجعه ودققه: د.مارون رعد، 10 أجزاء ، ج7، دار نظير عبود، بيروت، بدون تاريخ، ص152.

(34) تقطن هذه الأسرة الكردية الأصل الآن في لبنان بعدما تم القضاء على ثورة علي باشا جنبلاط ومقتله. وقد تحولت إلى العقيدة الدرزية بعدما كان أفرادها مسلمون سُنَّة.

لمزيد من التفاصيل عن تمرد آل جنبلاط في شمال سورية. أنظر:

رافق: العرب، ص156-162.

(35) الغزّي: المرجع السابق، ورقة 211أ-211ب. وحتي: المرجع السابق والصفحة نفسها. وHolt,op.Cit, p.116.

(36) سويد: المرجع السابق، ص77. ورافق: المرجع السابق، ص151.

(37) رافق: المرجع السابق والصفحة نفسها.

(38) المحبي: ج1، ص187-189. والبوريني: ج1، ص191-192.

(39) المحبي: ج1، ص221. والبوريني: ج2، ص273-289.

(40) المحبي: ج2، ص127. والبوريني: ج1، ص202 وج2، ص289.

(41) رافق: المرجع السابق، ص154.

(42) الأسطل، رياض محمود: تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر. ط2، غزة 2000، ص39.

(43) نفس المرجع، ص44.

(44) رافق: المرجع السابق، ص153.

(45) نفسه.

(46) Holt, op.cit, p.116.

(47) السكَّبان أو السجَّمان: لفظة من أصل فارسي بمعنى (سكّ) الكلب و(بان) الحافظ والصاحب، والسكَّبان هو المتولّي أمر كلاب الصيد. فالسكبانية في الدولة العثمانية بعد عام 1350م كانوا مستقلين عن الإنكشارية، ويرافقون السلطان في الحرب والصيد.

دهمان: معجم الألفاظ التاريخية، ص89.

(48) في النصف الأول من القرن الخامس عشر تمكنت أسرة من التجار وأصحاب البنوك تُدعى أسرة مديتشي Midici من الاستيلاء على الحكم عندما تمكن أحد رؤسائها ويُسمى كوزيمو دي مديتشي في عام 1434م أن يقوم بثورة ضد الحاكم ويؤسس جمهورية توالى على حكمها رؤساء من تلك الأسرة.

طهبوب، فائق وحمدان، محمد سعيد: تاريخ العالم الحديث والمعاصر. ط2، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمان 1998، ص100. والنمر: المرجع السابق، ج1، ص33.

(49) Ismail, op.cit, pp.77-78.

(50) Holt, op.cit, p.116.

(51) الأسطل: المرجع السابق، ص48. والشهابي، حيدر: المرجع السابق، ص812. وبروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية. ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط13، دار العلم للملايين، بيروت 1998، ص513.

(52) الأسطل: نفس الصفحة.

(53) رافق: العرب، ص163.

(54) الشهابي، حيدر: المرجع السابق، ص816-817. والموسوعة الفلسطينية، ج1، ص100. والدباغ: بلادنا فلسطين، القسم الثاني، ج3، في الديار النابلسية (2)، ص38-39.

(55) الخالدي الصفدي: المرجع السابق، ص6. والشهابي، حيدر: ص817. والموسوعة الفلسطينية، ج1، ص100.

(56) رافق: المرجع السابق، ص163. والمقاري، محمد بن جمعة: المرجع السابق، ص29.

(57) Ibid.

(58) الخالدي: ص7-8. والشهابي: نفس الصفحة. والدبس: المرجع السابق، ج7، ص153.

تضارب الخالدي الصفدي وحيدر الشهابي في ذكرهما ابن قانصوه الذي تم عزله عن عجلون والكرك، فتارة يذكرون أنه حمدان بن قانصوه وتارة أخرى يذكرون أنه أحمد بن قانصوه، والأرجح أن يكون حمدان؛ لأن المصدرين نفسيهما قد استقرا فيما بعد على حمدان.

(59) الخالدي: ص8-9. والشهابي: ص817-818. و Holt, op.Cit, p.117.

(60) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

الخالدي: ص9-10. والشهابي: ص818-820.

(61) لمزيد من التفاصيل.انظر:

الخالدي: ص15-16. والشهابي: ص820-823. والمحبي: ج1، ص380-382 وج3، ص266-267. والدبس: المرجع السابق ، ج7، ص154. والبوريني: ج1، ص201-210. والحتّوني: المرجع السابق، ص67-68. والمعلوف: المرجع السابق، ص90-110. و Holt, op.Cit, p.117.

(62) الخالدي: ص33. والشهابي: ص829. والبخيت، محمد عدنان: "من تاريخ حيفا العثمانية: دراسة في أحوال الساحل الشامي". مجلة شؤون فلسطينية (94)، أيلول (سبتمبر) 1979، ص100.

(63) لمزيد من التفاصيل حول جهود الأمير علي لاسترداد أملاك أبيه فخر الدين. أنظر:

الخالدي: ص19-65. والشهابي: ص823-851.

(64) رافق: العرب، ص164. و Ibid.

يذكر إحسان النمر أن الصدر الأعظم محمد باشا الخازندار الذي خلف نصوح باشا، كان مرتشياً من حكومة توسكانيا، فكان له دور في إصدار عفو عن فخر الدين وغيره من الثائرين على الدولة العثمانية.

جبل نابلس، ج1، ص39.

ويبدو أن فخر الدين قد قام في عام 1615م بزيارة قصيرة للبنان ثم عاد بعدها إلى أوروبا. وفترة الخمس سنوات التي قضاها المذكور في أوروبا زار خلالها ليغهورن وفلورنسا حيث أعدّ له البلاط الفلورنسي استقبالاً حافلاً، ونابولي وبالرمو ومسينا ومالطة وغيرها من المدن. وقد أثار ظهور فخر الدين أمير الدروز فضول أوروبا التي كانت لا تزال تجهل أية معلومات عنهم. كما شاعت في الغرب أسطورة تزعم أن اسم الدروز نفسه مشتقاً من اسم كونت صليبي يُدعى دي ديريه Dreux، أي أن الدروز هم أعقاب الصليبيين الذين تاهوا في جبال لبنان. ويبدو أن فخر الدين كان يؤكد هذه الأسطورة التي جعلته محط الأنظار والاهتمام الشديد في الغرب.

وبالإضافة إلى ما سبق؛ فإن فخر الدين رغم أنه أُصيب بخيبة أمل في فشل مساعيه للعودة من أوروبا مصحوباً بحملة من الدول الأوروبية والبابا لمساعدته في حرب العثمانيين، غير أنه استفاد من الغرب كثيراً حيث تشرّب فيها من الأفكار ما قوّى اعتقاده بصحة المبادئ التي عمل في السابق بوحيها، بدلاً من أن يِضعفه بشأنها ويحوله عنها. حتي: تاريخ سورية، ج2، ص329. وبازيلي: تاريخ سورية، ص31.

(65) الخالدي: ص69. والشهابي: ص855. والحتّوني: ص71.

(66) الخالدي: نفس الصفحة. والشهابي: ص856.

(67) رافق: العرب، ص164.

(68) الخالدي: ص69-70.

(69) Holt, p.117.

(70) الخالدي: ص84-87. والشهابي: ص863-864.

(71) الخالدي: ص87.

(72) نفس المرجع ، ص95-96 ، 104-105.

(73) نفس المرجع ، ص112.

(74) نفس المرجع ، ص113-116. والشهابي: ص877-878.

(75) الخالدي: ص117-120. و Ibid.

(76) نفس المرجع، ص124-125، 130-133. والدباغ: القسم الثاني، ج2، في الديار النابلسية (1)، ص146.

(77) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

الخالدي: ص129-139. والشهابي: ص885-890. والدباغ: ق2، ج3، ص40.

(78) الخالدي: ص139-141. والشهابي: ص890-892.

(79) الخالدي: ص142.

(80) Holt, op.cit, pp.117-118.

(81) Ibid. والنمر: المرجع السابق، ج1، ص39- 40.

(82) رافق: العرب، ص165. وتشرشل: المرجع السابق، ص77.

(83) الخالدي: ص177،183-184. والشهابي: ص910-911.

(84) لمزيد من التفاصيل عن حروب أحمد بن طراباي مع فخر الدين. أنظر:

الخالدي: ص184-194. والمحبي: ج1، ص221-222 وج3، ص267 وج 4، ص295. والشهابي: ص912 - 915. والدباغ: المرجع السابق، ق 2، ج2، في الديار النابلسية (1)، ص147.

(85) الخالدي: ص196-198. والشهابي: ص916-917.

(86) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

الخالدي: ص201-204. والشهابي: ص918-920.

(87) الخالدي: ص205-206.

(88) بلاد عربستان: هي المنطقة التي تقع من حدود حلب شمال سورية إلى حدود القدس، أي المناطق القبلية الواقعة خارج نطاق المقاطعات والمدن التي يديرها الولاة العثمانيين.

Holt, p.118.

(89) الخالدي: ص242. والحتّوني: ص76. و Ibid.

(90) الخالدي: ص245-247.

(91) بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ص514. والنمر: المرجع السابق، ج1، ص40.

(92) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

المحبي: ج1، ص385-388 وج 3، ص267-268. والمقاري ، محمد بن جمعة: المرجع السابق ، ص32. والمعلوف: المرجع السابق، ص188-243، 247، 302. ومجهول المؤلف: نزهة الزمان، ورقة 23ب. وتشرشل: جبل لبنان، ص89-90. وحتي: المرجع السابق، ص332-333. و Holt, pp.118-119.

(93) حتي، فيليب: مختصر تاريخ لبنان. ترجمة: فؤاد جرجس نصار، ط1، دار الثقافة، بيروت1968، ص188.

(94) نفسه. وأنيس، محمد: الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914). القاهرة 1977، ص156. والبخيت: من تاريخ حيفا، ص100. و Lammens, op.Cit, p.60.

(95) رافق: العرب، ص168.

(96) الموسوعة الفلسطينية، ج1، ص101 (بتصرف).

(97) النمر: تاريخ جبل نابلس، ج1، ص40-41.

(98) الأسطل: المرجع السابق، ص48-50.

(99) الشهابي: ص822. وغنايم، زهير: لواء عكا في عهد التنظيمات العثمانية 1281-1337هـ/1864-1918م. ط 1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1999، ص20.

(100) الصباغ، ليلى: الجاليات الأوروبية في بلاد الشام في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ج1، بيروت 1409هـ (1989م)، ص291.

(101) الكردي، فايز: عكا بين الماضي والحاضر. دار البشير، عكا 1972، ص66.

(102) الخالدي: ص87. والعابدي: المرجع السابق، ص66.

(103) الموسوعة الفلسطينية، ج4، ص611-612.

(104) منصور أسعد: تاريخ الناصرة. القاهرة 1924 ، ص45-46. والمعلوف، عيسى اسكندر: دواني القطوف في تاريخ آل المعلوف، زحلة1908، ص129.


--------------------------------------------------------------------------------

مصادر ومراجع الدراسة

أولاً- المخطوطات:-

(1) الأنصاري، شرف الدين بن موسى: نزهة الخاطر وبهجة الناظر. موجود في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 7814.

(2) الغزّي، نجم الدين محمد بن بدر الدين: لطف السحر وقطف الثمر من تراجم أعيان الطبقة الأولى من القرن الحادي عشر، أو ذيل الكواكب السائرة بمناقب أعيان المائة العاشرة، موجود في مكتبة الأسد بدمشق، رقم 3406.

(3) مجهول المؤلف: نزهة الزمان في حوادث جبل لبنان. موجود في المكتبة الوطنية بباريس. رقم Arabe1684 .

ثانياً- المصادر الأوليّة:-

(1) البوريني، الحسن بن محمد: تراجم الأعيان من أبناء الزمان. تحقيق: د.صلاح الدين المنجد، جزءان، دمشق 1959، 1966.

(2) الحتّوني، منصور طنوس: نبذة تاريخية في المقاطعة الكسروانية. بدون بيانات نشر، بدون تاريخ.

(3) الخالدي الصفدي، أحمد بن محمد: لبنان في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني. نشره: د.أسد رستم وفؤاد افرام البستاني، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1969.

(4) الدبس، يوسف (المطران): تاريخ سورية. راجعه وحققه: د.مارون رعد ، عشرة أجزاء، ج7، دار نظير عبود، بيروت، بدون تاريخ.

(5) الشهابي، حيدر أحمد (الأمير): تاريخ الأمير حيدر الشهابي. علق على حواشيه: د.مارون رعد، 4 أجزاء، ج 3، دار نظير عبود، بيروت 1993.

(6) ابن طولون، محمد: مفاكهة الخلاّن في حوادث الزمان. نشره: محمد مصطفى، جزءان، القاهرة 62-1964.

(7) العورة، إبراهيم (المعلم): تاريخ ولاية سليمان باشا العادل. نشره وعلق عليه: قسطنطين الباشا المخلصي، صيدا 1936.

(8) المحبي، محمد الأمين: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر. 4 أجزاء، القاهرة 1284هـ (1869م).

(9) المقاري، محمد بن جمعة: الباشات والقضاة. جمعها وحققها ونشرها: د.صلاح الدين المنجد، في كتاب: ولاة دمشق في العهد العثماني، دمشق 1949.

ثالثاً-المراجع العربية الثانوية والمترجمة:-

(1) الأسطل، رياض محمود (الدكتور): تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر. ط2، غزة 2000.

(2) أنيس، محمد (الدكتور): الدولة العثمانية والشرق العربي (1514-1914). القاهرة 1977.

(3) بازيلي، قسطنطين: سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني. ترجمة: طارق معصراني، دار التقدم، موسكو 1989.

(4) بروكلمان، كارل: تاريخ الشعوب الإسلامية. ترجمة: نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي، ط13، دار العلم للملايين، بيروت 1998.

(5) بولياك: الإقطاعية في مصر وسورية وفلسطين ولبنان. ترجمة: عاطف كرم، بيروت 1948.

(6) تشرشل، تشارلز: جبل لبنان (عشر سنوات إقامة) 1842-1852، دراسة لديانة وعادات وتقاليد أهل الجبل. ترجمة: فندي الشعار، دار المروج للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1985.

(7) حتي، فيليب (الدكتور): تاريخ سورية ولبنان وفلسطين. ترجمة: د.كمال اليازجي، أشرف على مراجعته وتحريره: د.جبرائيل جبور، جزءان، ج 2، دار الثقافة، بيروت 1959.

(8) ـــــــ: مختصر تاريخ لبنان. ترجمة: فؤاد جرجس نصار، ط1، دار الثقافة، بيروت 1968.

(9) الدباغ، مصطفى مراد: بلادنا فلسطين. القسم الثاني، ج2، 3، في الديار النابلسية (1)، (2)، دار الهدى، كفر قرع 1991.

(10) دي سان بيير، بيجيه: الدولة الدرزية. ترجمة: حافظ أبو مصلح، ط1، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت 1983.

(11) رافق، عبد الكريم (الدكتور): العرب والعثمانيون1516-1916. ط1، دمشق 1974.

(12) ـــــــــ: بلاد الشام ومصر من الفتح العثماني إلى حملة نابليون0 بونابرت (1516-1798). ط1، دمشق 1967.

(13) سويد، ياسين (الدكتور): التاريخ العسكري للمقاطعات اللبنانية في عهد الإمارتين. جزءان، ج1، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت 1985.

(14) الصباغ، ليلى (الدكتورة): الجاليات الأوروبية في بلاد السام في القرنين السادس عشر والسابع عشر. جزءان، ج1، بيروت 1409هـ (1989م).

(15) ـــــــــ : فلسطين في مذكرات الفارس دارفيو. ط1، مؤسسة المصادر للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، بيروت 1416هـ (1996).

(16) الصليبي، كمال (الدكتور): تاريخ لبنان الحديث. ط2، دار النهار للنشر، بيروت 1969.

(17) طهبوب، فائق وحمدان، محمد سعيد (الدكتور): تاريخ العالم الحديث والمعاصر. ط2، منشورات جامعة القدس المفتوحة، عمان 1998.

(18) العابدي، محمود: صفد في التاريخ. عمان 1977.

(19) علي، محمد كرد: خطط الشام. ج3، دمشق 1343هـ (1925م).

(20) عوض، عبد العزيز محمد (الدكتور): الإدارة العثمانية في ولاية سورية1864-1914. تقديم: د.أحمد عزت عبد الكريم، دار المعارف، القاهرة 1969.

(21) غنايم، زهير: لواء عكا في عهد التنظيمات العثمانية1281-1337هـ/1864-1918م. ط1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1999.

(22) الكردي، فايز: عكا بين الماضي والحاضر. دار البشير، عكا 1972.

(23) كرمل، ألكس (الدكتور): تاريخ حيفا في عهد الأتراك العثمانيين. ترجمة: تيسير الياس، مراجعة: د.بطرس أبو منه، دار المشرق، حيفا 1979.

(24) لوتسكي، فلاديمير: تاريخ الأقطار العربية الحديث. ترجمة: د.عفيفة البستاني، مراجعة: يوري روشين، ط8، دار الفارابي، بيروت 1985.

(25) المبيض، سليم عرفات: وقفية موسى باشا آل رضوان سنة 1081هـ (الأسرة التي حكمت غزة ومعظم فلسطين قرن ونصف 1530-1681م). مكتبة ابن سينا للنشر والتوزيع والتصدير، القاهرة 2000.

(26) المعلوف، عيسى اسكندر: تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني. ط2، منشورات المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1966.

(27) ـــــــــ : دواني القطوف في تاريخ آل المعلوف. زحلة 1908.

(28) مناع، عادل (الدكتور): تاريخ فلسطين في أواخر العهد العثماني 1700-1918(قراءة جديدة). ط1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1999.

(29) منصور، أسعد (القس): تاريخ الناصرة. القاهرة 1924.

(30) النمر، إحسان: تاريخ جبل نابلس والبلقاء. ج1، ط2، نابلس 1395هـ (1975م).

رابعاً-الدوريات والمعاجم والموسوعات:-

(1) البخيت، محمد عدنان: "من تاريخ حيفا العثمانية: دراسة في أحوال الساحل الشامي". مجلة شؤون فلسطينية (94)، أيلول (سبتمبر) 1979.

(2) دهمان، محمد أحمد: معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي. ط1، دار الفكر، دمشق 1410هـ (1990).

(3) رافق، عبد الكريم (الدكتور): فلسطين في عهد العثمانيين(1). الموسوعة الفلسطينية، القسم الثاني-الدراسات الخاصة، المجلد الثاني، الدراسات التاريخية، ط1، بيروت 1990.

(4)عبد الكريم، أحمد عزت (الدكتور): "التقسيم الإداري لسورية في العهد العثماني". حوليات كلية الآداب، جامعة عين شمس، المجلد الأول، مايو 1951.

(5) المعلوف، عيسى اسكندر: "الأمراء الحرفشيون". مجلة العرفان، مجلد 9، (من ربيع الأول إلى ذي الحجة 1342هـ).

(6) هيئة الموسوعة الفلسطينية: الموسوعة الفلسطينية. القسم العام، 4 أجزاء، ط1، دمشق 1984.

خامساً- المراجع الأجنبية:-

1. Charles-Roux (F.), Les Echelles des Syrie et de Palestine au XV III siècle, Paris 1928.

2. Holt (P.M.), Egypt and the Fertile Crescent 1516-1922,Cornell University press, New York 1966.

3. Ismail (Adel),Histoire du Liban du XV II siècle a nos jours, vol.1,Le Liban au temps de Fakhr-eddin II (1590-1633),Paris 1955.

4. Lammens (S.J.), La Syrie précis Historique, vol.II, Beyrouth 1921.






اشترك معنا

ضع بريدك هنا

د.فالح العمره
16-04-2005, 11:57 PM
جان بردي الغزالي المملوكي والدولة العثمانية
رؤية تاريخية جديدة


د. أسامة محمد أبو نحل

الأستاذ المساعد في التاريخ الحديث

ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية

جامعة الأزهر – غزة



1423هـ/2002م




--------------------------------------------------------------------------------



ملخص

تتناول هذه الدراسة شخصية مملوكية مهمة نسجت حولها العديد من الروايات التاريخية التي تلصق بها تهمة الخيانة والتواطؤ لحساب الدولة العثمانية وقد أسميت هذه الدراسة: "جان بردي الغزالي المملوكي والدولة العثمانية: رؤية تاريخية جديدة".

وأهمية هذه الدراسة تنبع من قصور بعض الباحثين في إظهار الحقيقة، وتسليمهم المطلق بما أورده المؤرخون القدامى دون تتبع لأهواءهم الشخصية، وإلقاء تلك التهمة الصعبة على شخص الأمير جان بردي الغزالي يدخل ضمن نطاق هذا القصور، فالباحثون نقلوا عن هؤلاء المؤرخين دون التحقق من أصل الروايات التي يتناقلونها، حتى غدت حقيقة واقعة مسلم بها ودون إدراك أن أصلها واحد.

وقد حاولت بهذا العمل أن أكون موضوعياً لكشف اللثام عن شخصية جان بردي الغزالي، متقصّياً الدوافع التي دعت المؤرخين لإلصاق تهمة الخيانة والتواطؤ به، لذلك فهذه الدراسة تعتبر رؤية تاريخية جديدة لقضية اعتاد الباحثون على جعلها أمراً مسلماً به غير قابلة للتغيير والدراسة.

المقدمة
دأبت المصادر والمراجع التاريخية على إلصاق تهمة "الخيانة" بالأمير المملوكي جان بردي الغزالي وغيره من أفراد المماليك، وأول من رمى الغزالي بتلك التهمة محمد ابن إياس وأحمد بن زنبل في محاولة منهما لإلقاء تبعة هزيمة المماليك في موقعة مرج دابق عام 922هـ/1516م، إلى عنصر الخيانة الذي كان موجوداً بالفعل داخل البيت المملوكي، وصبّا جام غضبهما على الغزالي وخاير بك على أساس أنهما كانا أكثر المتواطئين لحساب العثمانيين، علماً بأن العوامل والأسباب التي أدت إلى هذه الهزيمة عديدة ولا تقتصر على الخيانة.

وما فتأ بقيمة المؤرخين اللاحقين لابن إياس وابن زنبل حتى أخذوا في نقل تلك الروايات بعضهم عن بعض أو من الغير دون التحقق من صحة أصل الروايات التي يتناقلونها، حتى غدت حقيقة واقعة مسلماً بها دون إدراك أن أصلها واحد.

وأهمية هذه الدراسة تنبع من قصور بعض الباحثين في إظهار الحقيقة، وتسليمهم بما أورده المؤرخون القدامى دون تتبع لأهواءهم الشخصية، وإلقاء تهمة الخيانة والتواطؤ على شخص الأمير جان بردي الغزالي يدخل ضمن نطاق هذا القصور الذي ذهبنا إليه، فالباحثون تجاهلوا في كتابات ابن إياس وابن زنبل تعاطفهما مع السلطات المملوكية التي حكمت في مصر والشام.

وهذه الدراسة مجرد محاولة متواضعة لكشف اللثام عن شخصية الغزالي لإعطائه ما له وما عليه، كما أنها رؤية جديدة لأحداث تلك الفترة المهمة في تاريخ العالم الإسلامي الحديث.

وفيما يخص منهج البحث في هذه الدراسة، فقد جمع أساساً بين المنهجين الوصفي والتحليلي، مع عدم إهمال سرد الأحداث الذي يساعد عملية التحليل التاريخي.

أما مراجع البحث، فهي عديدة وكان جلّ الاعتماد على مؤلف ابن إياس المسمى بدائع الزهور في وقائع الدهور ومخطوط ابن زنبل المسمى تاريخ مصر، إضافة إلى عدد من المراجع الثانوية أهمها كتاب الفتح العثماني للشام ومصر لأحمد فؤاد متولي، حيث أفادت تلك المراجع البحث في كثير من جزئيا ته.

الأوضاع السياسية في عصر جان بردي الغزالي (توطئة لتحليل حالة):

قبل أن نُحمّل جان بردي الغزالي أو نحمِل عليه فيما يتعلق بهزيمة المماليك في موقعة مرج دابق، ينبغي أن نتعرّف على الظروف السياسية والعسكرية المحيطة والتي شكّلت عناصر النصر والهزيمة، عناصر النصر العثماني وعناصر الهزيمة المملوكية، لأن ذلك يساهم إلى حدٍ كبير في كشف الحقيقة التاريخية ويُلقي الضوء على ما يرمي إليه هذا البحث من تجلية موقف الغزالي، وبيان حقيقة دوره التاريخي.

وكانت السلطنة المملوكية قد أصابها في أواخر أيامها ما أصاب غيرها من الدول السابقة لها، فتخلى الأمراء والمماليك عن روح الشجاعة والوفاء والطاعة التي تحلى بها أسلافهم، وغدت روح التمرد والعصيان تغلب عليهم، كما أخذ الكثير من كبار الأمراء بالتطلع للفوز بمنصب السلطنة، فاتصل بعضهم بخصوم السلطان وأعدائه أحياناً، مما سبب لدولتهم تصدعاً شديداً(1).

وثمة عوامل عدة أدت إلى تصدّع الدولة المملوكية وتقويضها، ليس بالإمكان إيرادها هنا، لكن سنكتفي بإبراز أهمها، ومنها فرار فلاحي قرى مصرية بكاملها من الأرياف إلى المدن الرئيسة مخلّفين وراءهم المحاصيل التي لم يجمعوها، وإقفال الخياطين في القاهرة ورشهم، ونفس الشيء قام به صانعو الأسلحة، كما تعالت في الشوارع التهديدات والشتائم الموجهة ضد شخص السلطان المملوكي(2)، بينما كان الوضع في الشام أشد سوءاً لبعد الإدارة المركزية عنها، حيث كره الأهلون المماليك وعمد الفلاحون للقيام بأعمال معادية للسلطنة المملوكية بصورة مباشرة، وخرجت قرى عدة ومناطق بأسرها عن الطاعة، ما دعا أمراء المماليك فيها إلى الكتابة للسلطان قانصوه الغوري وإبلاغه بخطورة الموقف في الشام قائلين: "أيها السلطان، أرض حلب أفلتت من أيدينا وانتقلت إلى أيدي ابن عثمان (السلطان سليم الأول) فاسمه يذكر هناك في خطبة الجمعة وينُقش على النقود"(3).

لم تنتشر المشاعر المعادية للحكومة المملوكية بين أوساط السكان فحسب، بل انتقلت إلى صفوف الجيش، فانخفضت درجة الانضباط به بصورة لم يسبق لها مثيل، وارتفعت أصوات الجند تطالب السلطان بالمال والمكافآت، وبدأوا بالتمرد وعاثوا في الشوارع العامة فساداً، وصرخوا في وجه السلطان قبل معركة مرج دابق بأشهر قليلة:"ليش ما تمشي (لماذا لا تسير) على طريقة الملوك السالفة تقلّ(تقلل) من هذا الظلم؟"(4).

وازداد التفسخ واستشرت المشاكل الداخلية وتفاقمت في أوساط المماليك، ويؤكد البعض ذلك التفسخ بأن البطل عند المماليك أصبح من يستطيع تدبير مؤامرة ناجحة لا الذي يكسب معركة حامية، ومما عمق هذا النهج في نفوسهم، عدم اشتباكهم في حرب خارجية لعدة سنوات طويلة، باستثناء تلك الحرب القصيرة التي وقعت بين المماليك والعثمانيين في أواخر القرن الخامس عشر(5) . وبذلك تحولت هذه الكتل المملوكية المترابطة إلى التنافس المميت فيما بينها، ولجأ السلطان لدعم سلطته إلى الاعتماد أكثر فأكثر على مشترواته أو ما يطلق عليها الجلبان(6)، وإلى ضرب الكتل الأخرى ببعضها لإضعافها، وزاد في العداء بين طوائف المماليك تكتّل كل طائفة على نفسها بفعل رابطة الخشداشية، أو ما يُعرف بولاء المملوك لزميله المباشر، الذي شُري ودرس وأعُتق معه(7)

والأهم من كل ذلك، أن السلطنة المملوكية باتت تواجه دولاً متطورة من طراز جديد تقوم إما على أساس الفكر المذهبي مثل الدولة الصفوية الشيعية في بلاد فارس، أو على أساس الجهاد الديني مثل الدولة العثمانية في الأناضول والبلقان، أو على أساس اقتصادي مثل البرتغاليين(8). ذلك في الوقت الذي أخذت فيه السلطنة المملوكية بالانحطاط -كما أسلفنا الذكر. كما أن العثمانيين نجحوا في تقويض طاقة تلك السلطنة العسكرية، بعد ما وضعوا العراقيل على طريق شراء المماليك الفتيان من أسواق البحر الأسود لنقلهم إلى مصر(9).

في الوقت الذي كان فيه المماليك يطوون آخر صفحات دولتهم، كانت الفتوحات العثمانية تتوسع في أوروبا من إقليم إلى آخر، من البلقان إلى أوروبا الوسطى إلى شمال نهر الدانوب، غير أن أبصار العثمانيين اتجهت فيما بعد نحو البلاد الإسلامية المتاخمة لحدودهم في آسيا الصغرى، وراحوا يمنّون أنفسهم بالسيادة على العالم الإسلامي، بعدما انتشرت بينهم أواخر القرن الخامس عشر حماسة دينية، توجهت أولاً لقتال الصفويين الشيعة في فارس، واشتد العداء في ذلك الوقت بين الشاه إسماعيل الصفوي(10) و الدولة العثمانية، بعد وفاة السلطان العثماني محمد الثاني، حيث انتهز الشاه النزاع الذي نشب حول السلطة بين أبناء البيت العثماني، وحرّض الشيعة بآسيا الصغرى على الثورة والتمرد على العثمانيين السنيين، كما أغرى أمراء الأطراف المجاورين لدولته بالخروج على السلطنة العثمانية(11).

وعندما اعتلى السلطان سليم الأول عرش الدولة العثمانية عام 1512م، تدهورت علاقته بالشاه إسماعيل الذي احتضن أبناء البيت العثماني المناوئين لسليم، فبدأ الأخير عهده بإخماد ثورة الشيعة في آسيا الصغرى واضطهادهم فهجم الشاه على آسيا الصغرى دفاعاً عن الشيعة، وأصبح العداء سافراً بين الطرفين، مما أدى إلى مهاجمة سليم لممتلكات الشاه سنة 920هـ/1514 م، والاستيلاء على ديار بكر وكُردستان، والتوغل شرقاً في فارس، وملاقاة الجيش الصفوي أخيراً عند تشالديران بالقرب من تبريز، ودارت رحى معركة انتهت بهزيمة الشاه إسماعيل في 23 آب (أغسطس)1514م، ودخول سليم تبريز وإقامة صلاة الجمعة والخطبة له فيها(12).

ويبدو أن السلطان سليم كان قبل حربه مع الصفويين قد طلب المساعدة في قتالهم من السلطان قانصوه الغوري، ومع أنه كان بإمكان السلطنة المملوكية تقديم يد العون للعثمانيين، وكان بإمكان السلطان الغوري بصفته زعيماً للمسلمين السنّة، شنّ حملة ضد الحكام الصفويين، غير أنه فضّل اتخاذ موقف المراقب من بعيد للأمور، وترك العثمانيين السنيّين وحيدين في مواجهة الصفويين(13).

يتضح مما سبق الإشارة إليه، أن المماليك أرادوا بموقفهم الحيادي هذا استفزاز العثمانيين لإثارة الصدام بينهم وبين الصفويين، لكي يتحطم أحد العدوين بيد الآخر، ويسهل لهم فيما بعد التدخل والقيام بدور المنقذين للسُنّة، وربما وراثة ممتلكات الدولة العثمانية نفسها.

مهما يكن من أمر، فقد أدى التوسع العثماني في أجزاء من بلاد فارس إلى امتداد أملاك الدولة العثمانية إلى منطقة الأطراف التابعة للسلطنة المملوكية وهي المنطقة الممتدة من جبال طوروس في الشمال الغربي من الشام إلى مدينة ملطّية بآسيا الصغرى والخاضعة لحكم الأمير علاء الدولة دلغاضر المشمول بحماية المماليك والذي وقف من الجيش العثماني المتوجه لحرب الصفويين موقف الحياد المسلح، فاتهمه سليم بالعداء واستولى على بلاده سنة 1515م(14). وبذلك أضحى العثمانيون على مقربة من الأراضي المملوكية في الشام.

أحسّ السلطان الغوري بالخطر المحدق بدولته بعد الاعتداءات العثمانية واستخفاف العثمانيين بحماية المماليك على إمارة دلغاضر (ألبستان) وضمها إلى أملاكهم دون مجاملة، كما بدأ سليم يسيء الظن بالمماليك بعدما رفضوا مساندته في حربه ضد الصفويين(15).

وفي أوائل عام 1516م /922هـ، وصلت الأخبار إلى القاهرة باستعدادات العثمانيين في أستا نبول للحرب، وأدرك الغوري أن دولته هي المقصودة بهذه الاستعدادات، فأعدّ جيشه وخرج به إلى حلب بالشام في 15 بيع الآخر 922هـ / تموز (يوليه) 1516م، وأردف هذا العمل بإرسال رسولٍ إلى سليم يؤكد رغبته بالصلح وعدم الحرب، لكن سليماً رفض الحديث في أمر الصلح وقال للرسول: "قل لأُستاذك يلاقيني على مرج دابق"(16) داخل الأراضي الشامية الخاضعة لسلطنة المماليك.

ويبدو أن سليماً قد عقد العزم على تسوية حساب قديم مع المماليك الذين هزموا من قبل جيوش العثمانيين داخل الأراضي العثمانية أواخر القرن الخامس عشر- كما أسلفنا القول.

جان بردي الغزالي ومصلحته الشخصية:

شاءت الظروف أن ترتبط الصفحة الأخيرة في تاريخ السلطنة المملوكية بعددٍ من الأمراء مثل خاير بك(17) وجان بردي الغزالي اللذين اتهمتهما المصادر والمراجع بالخيانة والتواطؤ لحساب العثمانيين عند دخولهم بلاد الشام ومصر بين عامي 16-1517م / 22 – 923هـ.

وتشمل هذه الدراسة تتبعاً لحياة جان بردي الغزالي في محاولة جادة لإلقاء الضوء عليها من خلال المصادر والمراجع التاريخية التي تناولت شخصيته سواء من قريب أو من بعيد، لكشف اللثام عن حقيقة هذا الاتهام الخطير وجذوره.

لم يُعرف للأمير جان بردي الغزالي تاريخٌ لميلاده، وهو أصلاً من مماليك السلطان الأشرف قايتباي، وكان قد اشتراه ثم اعتقه، وأخذ في الارتقاء في المناصب في سلّم السلطنة المملوكية، وعُيّن فيما بعد كاشفاً(18) لمنطقة في الشرقية تسمى "منية غزال"، فنُسب إليها(19)، ثم جعله الأشرف قايتباي جمداراً(20) وقرره في كشف الشرقية(21).

وفي أواخر أيام حكم قايتباي رُقيَّ الغزالي إلى أمير عشرة(22). وفي بداية حكم السلطان قانصوه الغوري عُينّ محتسباً للقاهرة عوضاً عن الأمير قرقماس المقري، ثم حاجباً(23) لحلب في الشام، فنائباً لصفد عام 917هـ ، ثم حماة بعد ذلك بعام، واستمر بهذا المنصب حتى هزيمة المماليك في موقعة مرج دابق عام 922هـ/1516م(24).

وصف ابن إياس، الأمير جان بردي الغزالي بالرعونة "وكان الغزالي عنده رهج وخفة زائدة، أهوج الطبع ليس له رأي سديد، رهّاج في الأمور، ليس له تأمل في العواقب"(25). هذا الوصف يبدو أنه يناقض تماماً ما ذهب إليه ابن إياس نفسه عندما تكلم عن فترة حكم الغزالي للشام بعدما ولاه السلطان العثماني سليم الأول عليها، إذ قال: "وكان لما ولي نيابة الشام في غاية العظمة من الحرمة الوافرة والكلمة النافذة، وقد أصلح (أي الغزالي) الجهات الشامية في أيامه حتى مشى فيها الذئب والغنم سواء"(26) وهذا إن دلّ إنما يدل على العدل الذي اتصف به الغزالي أثناء فترة حكمه للشام قبل تمرده على الحكم العثماني فيما بعد.

وقبيل موقعة مرج دابق التي أنهى فيها العثمانيون نفوذ دولة المماليك تماماً من الشام، اختلفت آراء الأمراء المماليك حول كيفية مواجهة العثمانيين فرأى الغزالي نائب حماة ضرورة التقهقر إلى دمشق وحرق المحاصيل الزراعية التي في الطريق حتى لا تستفيد منها القوات العثمانية، فيطول عليهم الطريق ولا يجدوا طعاماً لهم أو لدوابهم، وبالتالي يتمكن الصفويون المتربصون بالعثمانيين من مهاجمتهم والإطباق عليهم، وإفنائهم عن آخرهم، لكن بعض الأمراء لم يقتنعوا على ما يبدو بهذا الرأي لشكّهم في ولاء الغزالي، فتم رفضه(27).

والواقع، أن أيُ من المصادر والمراجع التاريخية لم تعطِ دليلاً ملموساً للشك في ولاء الغزالي وخيانته لسلطانه الغوري، فكل ما ذُكر حول التشكيك في ولاء الغزالي أو خيانته، كان في مجمله كلاماً مبهماً يعوزه التوضيح، الأمر الذي سوف نتطرق إليه خلال هذه الدراسة.

ومهما يكن من أمر، فقد دارت موقعة مرج دابق عام 922هـ/1516م، وهّزم المماليك وقتل السلطان الغوري(28). وزال الحكم المملوكي نهائياً عن الشام، وشرع المؤرخون يرصدون العوامل والأسباب التي أدت إلى تلك النتيجة، فعزا كل من ابن إياس وابن زنبل الرمال المعاصرين لتلك الفترة، الهزيمة إلى عنصر الخيانة الذي كان متواجداً داخل البيت المملوكي، وصبّا جام غضبهما على جان بردي الغزالي وخاير بك على أساس أنهما كانا أكثر المتواطئين لحساب السلطان العثماني سليم الأول، وما فتأ بقية المؤرخين اللاحقين لابن إياس وابن زنبل أن أخذوا في نقل تلك الروايات بعضهم عن بعض أو من الغير دون إعمال جهدهم في التثبت من صحة أصل الرواية، حتى غدت تلك الروايات التي اقتبسوها حقيقة واقعة دون إدراك أن أصلها واحد.

لم يشر كل من ابن إياس وابن زنبل للدور الذي لعبه الأمراء اللبنانيون، خاصة الأمير فخر الدين المعني الأول في موقعة مرج دابق، فقد وقف هؤلاء الأمراء أثناء المعركة موقف المتفرج انتظاراً لما ستسفر عنه من نتائج لينضمّوا للفريق المنتصر. ويؤكد هذا الموقف حيدر الشهابي بقوله: "فقال الأمير فخر الدين لمن معه من رجاله وقومه دعونا لننظر لمن تكون النصرة فنقاتل معه"(29). أو بمعنى آخر كان هناك عوامل أخرى لهزيمة المماليك في مرج دابق غير عنصر الخيانة الذي كان موجوداً في الصف المملوكي.

وفي هذه الدراسة لن نتوقف فيها بإسهاب لما قيل حول خيانة الأمير خاير بك، إلاّ إذا اقتضت الدراسة التوقف عنده من خلال علاقته بالأمير جان بردي الغزالي.

إن أول اتهام تم توجيهه للغزالي بالخيانة والتواطؤ ما ذكره ابن زنبل، عندما اكتشف الأمير سيباي نائب دمشق تخابر الأمير خاير بك نائب حلب مع السلطان سليم قبل وقعة مرج دابق، فألقى القبض عليه وسلمه للسلطان الغوري الذي صمم على قتله(30). ولكن الغزالي تدخل لمصلحة زميله خاير بك ودافع عنه، وأظهر أن قتله في هذا الوقت وفي ظل الموقف العصيب الذي يمر به المماليك سوف يشعل فتنة بين الجند "فقام الأمير جان بردي الغزالي وقال: يا مولانا السلطان لا تفتنوا العسكر وتبدوا (وتبدأوا) في قتال بعضكم بعضاً وتذهب أخباركم إلى عدوكم، فيزداد طمعاً فيكم وتضعف شوكتكم، والرأي لكم، وتأخر من مكانه، وكانت هذه مكيدة من الغزالي، وإلاَّ كان خاير بكل قد هلك"(31)، وهذا يعني أن الغوري قد تراجع عن قراره وأبقى على خاير بك.

وبصرف النظر عن حقيقة خيانة خاير بك وتخابره مع العثمانيين، إلاّ أننا لا نستطيع إثبات صحة تدخل الغزالي لصالح زميله خاير بك، فربما كان تدخل الغزالي في هذا الموقف كان للمصلحة العامة، خشية أن ينتشر التمرد داخل الجيش المملوكي، خاصة بين أعوان خاير بك نفسه لو تم قتله بالفعل. وبما أن السلطان الغوري في موقف لا يحسد عليه ومقبل على الحرب، فلو صحت رواية خيانة خاير بك هذه، لكان بإمكان السلطان عزل خاير بك من منصبه، وإلقاء القبض عليه لحين الانتهاء من أمر القتال مع العثمانيين.

ومن خلال ما سطره ابن زنبل في مجمل ما كتبه عن تاريخ دولة المماليك وانحيازه الواضح لسلاطين المماليك، نستنتج أنه ذكر تلك الرواية وكأن عنصر الخيانة هو المسبب الوحيد لهزيمة المماليك وليس أي شيء أخر، ودون أن يؤكد بالقرائن صحة تواطؤ الغزالي لمصلحة زميله خاير بك.

وتشير بعض المصادر إلى دور الغزالي وغيره في خيانة الجيش المملوكي أثناء القتال في موقعة مرج دابق، فيشير ابن زنبل إلى أن النصر كان لصالح المماليك حتى تقهقر خاير بك الذي كان يقود الميسرة والغزالي مع الفلول المنهزمة من الجيش، ودخلوا وطاق(32) السلطان الغوري، فنادى خاير بك بأعلى صوته بضرورة الفرار لأن السلطان قد قُتل، وأن العثمانيين قد هجموا، فصدقوه، وفرّ إلى حلب برفقة أغلب المماليك الجلبان وما كان ذلك إلاَّ مكيدة منه لتشتيت شمل الجيش المملوكي(33).

ويؤكد أنور زقلمة أن الغزالي سار على درب خاير بك وانسحب من المعركة بجزء آخر من الجيش، فاختلّ نظام المماليك بعدما استخدم العثمانيون المدفعية التي لم يكونوا قد بدأوا باستعمالها قبل ذلك، فحصدت الكثير من القوات المملوكية(34).

إن المتمعن في رواية ابن زنبل السالفة الذكر لا يجد بها دليلاً على خيانة الغزالي وفراره من المعركة، بل كل ما ذكره يخص خاير بك بمفرده، أما رواية أنور زقلمة فهي ضعيفة لأنه لم يحدد الوقت الصحيح الذي انسحب فيه الغزالي من ساحة القتال، وأغلب الظن أن هذا الانسحاب أو التقهقر قد تم بالفعل، لكن بعد مقتل السلطان الغوري واختلال نظام الجيش المملوكي بالكامل، والتيقّن من حتمية الهزيمة، فخشي على نفسه وعلى جنده، فقرّر الفرار.

وبالإمكان التدليل على صحة ما ذهبنا إليه، بأن الغزالي لم يكن الوحيد الذي فرّ بعد التحقق من الهزيمة، إنما تبعه محمد ابن السلطان الغوري نفسه، الذي توجه إلى دمشق برفقة الغزالي(35). إذ لا يُعقل أن يهرب ابن السلطان من ساحة القتال تاركاً أبيه لمصيره دون الدفاع عنه، إلاّ إذا كان بالفعل قد تحقق من مقتل والده.

وإذا كان الأمير خاير بك قد انضم للعثمانيين بعد المعركة وتوجه إلى حماة وسار بركبهم(36)، فإن الأمير جان بردى الغزالي لم يقم بالشيء ذاته، وهذا ما يدل على أنه لم يكن بعد قد انضم للعثمانيين، فقد أكدت المصادر التاريخية أن الغزالي تم تعيينه نائباً على دمشق بموافقة المماليك المنهزمين(37). في حين أن البعض ذكر أن الغزالي أراد التسلطن في دمشق، لكن رفاقه من المماليك المهزومين اعترضوا على ذلك وقالوا بأن الأولى أن تكون السلطنة لمحمد ابن السلطان الغوري، ثم أجمعوا رأيهم على العودة إلى مصر مقر السلطنة وهناك يتم اختيار السلطان من أحد الأمراء الأكفاء المتسمين بالشجاعة، وأوكلوا حكم دمشق لأحد الأعيان من شيوخ العربان هو الأمير ناصر الدين بن الحنش بإيعاز من الغزالي الذي قال للحاكم الجديد: "البلاد بلادك، تسلم حفظها حتى ننظر الأمر كيف يكون"(38).

بينما يذكر ابن إياس في مدوناته أنه بعد وقعة مرج دابق انقطعت أخبار الشام عن مصر لمدة أربعين يوماً "لم يرد فيها خير صحيح، وكثر القال والقيل في ذلك على أنواع شتى ، ومن جملة ما أُشيع أن جان بردي الغزالي نائب الشام منع الأخبار أن لا تصل (أن تصل) إلى مصر وعوّق العسكر بالشام"(39).

بالإمكان أن نستنتج من رواية ابن إياس عدة أمور جديرة بالملاحظة منها:

1- أن الغزالي حسب ابن إياس وابن طولون تم تعيينه نائباً للمماليك في دمشق، بينما يناقضهما ابن زنبل ولم يذكر إطلاقاً أن الغزالي تولى هذا المنصب، بل حاول التسلطن بها، وفشل لاعتراض زملائه على تلك الفكرة – كما أسلفنا الإشارة.

2- أن ابن إياس يقول "ومن جملة ما أُشيع" أن الغزالي نائب الشام منع الأخبار من الوصول إلى مصر، وعمل على إعاقة عودة المماليك إلى مصر، ويلاحظ هنا قوله "ومن جملة ما أُشيع …" أي أن ابن إياس لم يجزم بتواطؤ الغزالي، وإنما اعتمد فحسب على الشائعات التي ترددت بهذا الصدد، بينما رواية ابن زنبل – الذي كانت رواياته وروايات ابن إياس المصدر الرئيسي لما قيل عن خيانة وتواطؤ الغزالي – تناقض ذلك، بدلالة أنه ذكر أن الأخير قد نزل عند رغبة رفاقه المماليك ونزلوا جميعاً إلى مصر دون إبطاء.

3- أن ابن إياس في روايته السابقة بخصوص ما أُشيع عن إعاقة الغزالي للمماليك الفارين من العودة إلى مصر يناقض نفسه في رواية أخرى مفادها أن أهل الشام لما تأكدوا من مقتل السلطان الغوري لم يعد هناك ما يردعهم عن مهاجمة بعضهم البعض، وقيام زُعّر(40) الشام بنهب حارة السمرة، واضطراب الوضع الأمني في دمشق(41). فإذا كانت الأوضاع الأمنية في الشام هكذا سيئة للغاية، فالأولى بالغزالي العودة وزملائه إلى مصر لا البقاء في هذه الأجواء المضطربة.

4- إن ما ذكره ابن إياس عن منع الغزالي لوصول الأخبار التي تحدث في الشام إلى مصر أمر مبالغ به، فالظروف الصعبة التي مرّ بها المماليك الفارون من وجه العثمانيين جعلتهم في شغل شاغل عن مكاتبة حكومتهم في القاهرة، خاصة وأنه لم يصلهم أي مساعدة منها يستطيعون بها إعادة ترتيب أمورهم من جديد لمواجهة الخطر العثماني الداهم.

وثمة رواية ضعيفة لم تقم أيٌ من المصادر التاريخية بإيرادها، تذكر أنه بعد انتصار السلطان سليم في مرج دابق بمساعدة خاير بك والغزالي وعدهما بتوليتهما مصر والشام. وتضيف تلك الرواية أن سليماً عندما قرر التوجه إلى دمشق، أخلى الأميران المذكوران تلك المدينة له، وخرجا لملاقاته ثم دعوا له فأكرمهم(42).

والضعف في الرواية السابقة واضح للعيان ولا يحتاج إلى ردٍ عليها، لأن خاير بك ببساطة لم يذهب إلى دمشق كما فعل الغزالي وغيره، بل اتجه إلى حماة – كما أسلفنا القول.

على أية حال عادت الفلول المملوكية التي نجت من وقعة مرج دابق إلى مصر في رمضان 922هـ/1516م، وهم في أسوأ حال، واتفق رأي جميع الأمراء المماليك على تعيين طومان باي(43) الدوادار(44) سلطاناً عليهم رغم اعتراضه الشديد لهذا التعيين(45)، ويبدو أن اعتراض طومان باي يعود للظروف الصعبة التي مرت بها السلطنة المملوكية في ذاك الوقت، وإحساسه بأنه لن يستطيع القيام بدورٍ ما لصد الخطر العثماني على مصر.

وبناءً على ما أورده ابن زنبل، فإن الغزالي عندما رفض زملاؤه تعيينه سلطاناً عليهم في دمشق، اشتاط غضباً، وأضمر لبنى جنسه الغدر، وبالتالي مال قلبه إلى رأى زميله خاير بك في تحريض السلطان سليم بالاستيلاء على مصر، بعدما كان السلطان العثماني قد نوى عدم الاستيلاء عليها والعودة إلى استانبول، والهدف من هذا التحريض كما يقول ابن زنبل هو أن يمنح سليم مصر لخاير بك والغزالي معاً(46).

ويؤكد ابن زنبل ذلك بقوله: "وكذلك السلطان سليم لما اخذ بر الشام وحلب قصد الرجوع إلى بلاده، فأغواه خاير بك وقنبردي (جان بردي) الغزالي وناصر الدين بن الحنش بالتوجه إلى مصر، وضمن له خاير بك أخذ مصر وذلك مكراً منه، فإنه علم إن رجع السلطان سليم إلى بلاده فلم (فلن) تُبقى الجراكسة على خاير بك ولو ذهب في تخوم الأرض…"(47).

بالإمكان القول أن جان بردى الغزالي قد حنق لرفض زملائه تعيينه سلطاناً عليهم، لكن ابن زنبل أو غيره من المؤرخين لم يعطِ دليلاً ملموساً على ميل الغزالي لرأي خاير بك، ولا كيف اتصل به ليعطيه الموافقة على تحريض السلطان العثماني، فكل ما ذكره ابن زنبل كلام عام يعوزه الإثبات للتثبت من تواطؤ الغزالي – كما أسلفنا الإشارة.

أما قوله أن كلاً من خاير بك والغزالي وناصر الدين بن الحنش قد أقنعوا السلطان سليم بالتوجه لمصر والاستيلاء عليها، فهو عار عن الصحة لأن ابن الحنش هذا لم تكن تربطه بالسلطان العثماني أية علاقة حميمة، مما سوف يؤدي إلى قتله – كما سيتم التطرق إليه لاحقاً.

ويبدو أن سليماً لم يكن بالفعل في تلك الأثناء، مهتماً كثيراً بفتح مصر بعدما حطم إمكانية قيام تحالف صفوي مملوكي، وأصبحت بلاد الشام تحت سيطرته المباشرة، ناهيك عن اعتقاده بأن حملته على مصر سوف تعرضه لمخاطر اجتياز صحراء سيناء، وبالتالي إمكانية تعرض قواته لهجمات القبائل البدوية فيها، إضافة إلى طول خطوط مواصلاته. وكان المماليك في مصر قد حشدوا قواتهم تحت زعامة السلطان طومان باي، الذي حصل على البيعة من والد الخليفة العباسي، بعدما احتجز العثمانيون الخليفة نفسه بعد وقعة مرج دابق(48).

وثمة أسباب أخرى دعت السلطان سليم للتريث في اتخاذ قرار بالزحف إلى مصر، منها: أن توجه العثمانيين إلى مصر من شأنه تشجيع الصفويين على استغلال ذلك والعمل على مهاجمة أملاكهم، وربما قطع الطريق على قواته التي سوف تتجه إلى مصر. كما أن استيلائه على مصر سترتب عليه مسئوليات دفاعية كبيرة، مثل التصادم بالبرتغاليين المتواجدين في البحر الأحمر والمحيط الهندي.

لكل هذه الأسباب مجتمعة ارتأى سليم المتواجد في دمشق، ضرورة مراسلة طومان باي لإقناعه بالبقاء في حكم مصر شريطة أن يُذكر اسمه في خطبة الجمعة وأن يُصك اسمه على النقود. لكن طومان باي رفض هذا العرض بضغطٍ من الأمراء المماليك، لأنه يعني تبعيتهم التامة للحكم العثماني، فاضطر سليم لإكمال مشروعه التوسعي بعدما ألحّ عليه خاير بك بالقيام به، بعدما خشي الأخير على حياته من بقاء السلطنة المملوكية(49).

ويبدو أن سليماً قد راسل طومان باي، عندما عيّن الأخير جان بردي الغزالي على رأس الحملة المملوكية المتجهة إلى غزة للدفاع عن حدود مصر الشرقية. وهذا ما يتضح من نص رسالة سليم لطومان باي، حيث جاء على لسان سليم: "ولما سمعنا ما يقال عن شخص جركسي يدعى جان بردي في ولاية غزة القريبة من مصر القاهرة اعتاد إفساد أشخاص كثيرين، صدر الفرمان إلى الوزير الأعظم سنان باشا بالاستعداد للتحرك بعددٍ من العساكر المنصورة. كذلك صدر حكم عالي الشأن بهذا الخصوص من العتبة العليا وأرسل إلى جان بردي المذكور"(50).

إن ما سبق الإشارة إليه دليل على أن الغزالي لم يكون له بعد أية صلة أو علاقة بالسلطان العثماني بدلالة طلب السلطان سليم من طومان باي بأن يرسل للغزالي بعدم الإفساد ضد العثمانيين في غزة. كما أن اختيار طومان باي لترأس الغزالي لحملة غزة دليل إضافي على أن الأخير كان عند حُسن ظن سلطانه به. فلو كانت هناك شائعات بتواطؤ الغزالي مع العثمانيين من قبل، لما أقبل طومان باي على اختياره لتلك المهمة التي سوف يتوقف عليها مصير السلطنة المملوكية في مصر فيما بعد.

وللتدليل على عدم صحة تخابر الغزالي بأي شكل من الأشكال مع العثمانيين قبل ذلك التاريخ، أن بعض الوزراء العثمانيين قاموا بإرسال عدة رسائل إلى جان بردي الغزالي وبعض الأمراء الجراكسة لحثهم على تقديم الطاعة والولاء للعثمانيين. وكانت هذه المراسلات تنفيذاً لأوامر السلطان سليم نفسه وبإيعاز من خاير بك الذي أرسل بدوره عدة رسائل إلى بعض أمراء الجراكسة حثهم فيها أن يحذوا حذوه، ورغبّهم في الدخول تحت طاعة السلطان العثماني الذي أطنب في وصف محاسنه وعدله(51).

لم يردّ الغزالي على جميع هذه الرسائل ولم يكترث بها، ونظراً لأهمية دور الغزالي في النظام الحاكم في مصر، قرر سليم نفسه أن يكتب إليه. وفي تلك الرسالة يذكر سليم أنه سمع من خاير بك ومن محمد أغا بن قرقماس أمير حماة السابق مدحاً كثيراً فيه (أي في الغزالي) لهذا يدعوه لتسليم نفسه ومن معه من الأمراء وتقديم الولاء له. يقول السلطان سليم في كتابه للغزالي: "عندما يصل في هذه المرة حكمي الشريف واجب الطاعة عجلوا بالمجيء نظراً لما سمعناه عنكم من كمال إخلاصكم وتمام اختصاصكم، ومرغوا الوجه عند موطئ سرير مصير العالم عندي. ولتسعوا سعياً جميلاً وتجدّوا جدّاً جزيلاً لكي تتشرفوا بتقبيل أناملي الكريمة. إذا جئتم إن شاء الله الكريم فعند لقاءكم تشملكم رعايتنا ويتم قبولكم بأنواع العناية السلطانية الجميلة وأصناف الرعاية العلية الشاهانية أكثر مما في تصوركم"(52) .

نستنتج من نص كتاب السلطان العثماني لجان بردي الغزالي عدة أمور حريٌ بنا إيرادها:

1- أن هذا الكتاب يختلف في أسلوب صياغته عن الكتاب الذي أُرسل من قبل إلى السلطان طومان باي، فهو رقيق التعبير يخاطب فيه الغزالي بضمير المخاطبين على الدوام، على الرغم من أن مرسله هو السلطان العثماني نفسه ومتلقيها هو أمير غزة جان بردي(53) .

2- أن هذا الكتاب يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن انضمام الغزالي للعثمانيين لم يكن قد حدث بعد، وهو ما ينفي صحة تعامل الغزالي مع العثمانيين في مرج دابق.

3- رغبة السلطان سليم المُلحة في ضم الغزالي إلى صفوفه، لأهمية موقعه في الساحة المملوكية من جهة، ولشق صفوف الأمراء المماليك وإثارة نوع من البلبلة تؤدي إلى سهولة تحركاته فيما بعد من جهة أخرى.

4- أن هدف سليم الأساسي هو مجيء الغزالي بنفسه لتقديم الطاعة له، وليس كما ذكر البعض أن الغزالي كان بالفعل قد قّدم ولائه للعثمانيين خلال وقعة مرج دابق.

ومهما يكن من أمر، فطومان باي والغزالي لم يعيرا كتب سليم لهما أي أهمية، ولم يردا عليها. بل صمم طومان باي على تصعيد الموقف وملاقاة العثمانيين مهما كانت النتائج. فلم يجد سليم مفراً أمامه سوى إكمال مهمته بالاستيلاء على مصر، فأمر الصدر الأعظم سنان باشا في 3 ذي القعدة 922هـ/ 27 تشرين ثاني (نوفمبر) 1516م، بالتحرك على رأس جيش قوامه أربعة آلاف جندي للاستيلاء على غزة(54).

وفي القاهرة، تم الاتفاق بين الأمراء المماليك على تعيين الغزالي قائداً للحملة المتجهة إلى غزة لمقاتلة العثمانيين ومنحه صلاحيات حكم تلك المنطقة، وكان يرافقه عشرة آلاف عسكري(55). ذلك في الوقت الذي وصلت فيه الأخبار من الشام بسوء أحوال العثمانيين نتيجة لتزايد الاضطرابات ضدهم ومن أهمها ثورة ناصر الدين بن الحنش الذي "ضيق عليه (أي على السلطان سليم) في الطرقات وصارت العربان تقتل كل من انفرد من عسكره في الضياع"(56).

ويروى ابن إياس أن ناصر الدين بن الحنش أرسل للسلطان طومان باي يستحثه على إرسال حملة عسكرية في أسرع وقت إلى الشام لمنع السلطان سليم من الوصول إلى غزة(57).

وفي 2 ذي الحجة / 26 كانون أول (ديسمبر) من العام نفسه، تلاقي سنان باشا مع جيش الغزالي داخل الأراضي الفلسطينية بالقرب من غزة، ودارت بينهما معركة حامية بدأت من الصباح وانتهت ساعة العصر بانتصار العثمانيين وهزيمة الغزالي. واستيلائهم على غزة وتعيين محمد بك بن عيسى حاكماً عليها بعد فتحها. وتؤكد المصادر العثمانية المعاصرة للأحداث أن الغزالي هرب بعد هزيمته في غزة(58)، وبذلك باتت الطريق إلى مصر أمام السلطان سليم مشرعة الأبواب لا تمنعه أي مقاومة.

وإذا كانت المصادر العثمانية قد أكدت هرب الغزالي بعد هزيمته، نجد المصادر العربية المعاصرة لنفس الفترة تذكر أن الغزالي بعد هزيمته تم أسره ثم تمكن من الفرار بمساعدة غلمانه بعد أن قتلوا من العثمانيين أعداداً كبيرة(59) .

رغم أن المصادر العربية لم تذكر شيئاً عن خيانة الغزالي في غزة، بل أكدت أنه قاتل قتال المستميت، وأبلى بلاءً حسناً في قتاله، إلاّ أننا نستغرب مما تسطره المراجع الحديثة التي تحاول إلصاق تلك الهزيمة في غزة للغزالي متهمة إياه بالتواطؤ عن عمد، مصممة على أنه قد بدأ تواطؤه لا في مرج دابق بل قبلها، وأنه قابل العثمانيين بقوة صغيرة هزمته قبل وصوله لغزة لأنه لم يقاتل قتالاً جدياً(60). وهذا غير مطابق للواقع التاريخي فالمصادر التركية ذكرت أن المعركة دارت في جلجولية بالقرب من غزة، بينما ابن إياس أكد أن المعركة بين الطرفين دارت نواحي بيسان، أي داخل الأراضي الفلسطينية لا في مصر.

ويزيد البعض أن الغزالي بعد عودته إلى مصر مهزوماً، لعب دوراً مزدوجاً، فهو إلى جانب السلطان طومان باي بالظاهر، وعلى اتصال خفي بالسلطان سليم وخاير بك في الباطن كما أنه زوّد العثمانيين عشية معركة الريدانية عام 1517م، بمعلومات مفصلة عن تنظيم الجيش المملوكي(61).

والواقع أنه لا يوجد مصدر معاصر لتلك الفترة عربياً كان أم عثمانياً أكد تلك الرواية، أي أن الغزالي كان حتى ذلك الوقت لا تربطه بالعثمانيين أي صلة لا من قريب ولا من بعيد.

ويذكر مصدر تركي – اعتمد عليه أحمد فؤاد متولي في دراسته- أن السلطان سليم قال في رسالة الفتوح التي بعثها إلى ابنه الأمير سليمان متناولاً معركة غزة: "أبدى جان بردى المذكور بعض مظاهر الإخلاص في هذه النواحي (غزة)، ثم تراجع وهرب إلى مصر، والتقى بطومان باي"(62).

ويستنتج أحمد فؤاد متولي من سياق كلام السلطان سليم، أن الغزالي ساعد على انتصار العثمانيين في غزة، ثم تراجع بعد أن تحقق النصر لهم وهرب إلى مصر. وربما رجع إلى مصر ليعمل من وراء خطوط المماليك لصالح العثمانيين(63).

لكن المتمعن في كلام السلطان سليم لا يجد تسليماً بتواطؤ الغزالي لحسابه فقوله أن الغزالي أبدى بعض مظاهر الإخلاص في غزة ربما يفهمها البعض على أن الغزالي قد أخلص في القتال ضد الجيش العثماني بدلالة قول السلطان سليم نفسه في رسالة الفتوح: "ذكر طومان باي أنه أعطى إيالة الشام لجان بردي الغزالي المهزوم. ولما علمنا أنه أرسله إلى غزة، بعثت إليه بوزيري سنان باشا … على رأس الجيوش لكي يلاقيه. دارت المعارك وانتصر الوزير المشار إليه بعناية الله تعالى. وهُزمت الطائفة المذكورة وتشتت"(64). ولم يُشر سليم على الإطلاق لعودة الغزالي إلى مصر ليعمل من وراء خطوط المماليك لحسابه.

ومهما يكن من أمر، فقد التحم العثمانيون بالجيش المملوكي في معركة فاصلة في صحراء الريدانية على أطراف القاهرة في 22 كانون الثاني (يناير) 1517م، انتهت بهزيمة المماليك ودخول العثمانيين للقاهرة، وخُطب للسلطان سليم في جوامعها، وفرَّ طومان باي إلى خارج القاهرة(65).

لم يكن دخول العثمانيين القاهرة معناه نهاية الحرب، وأن الأمور سُويت لصالحهم، فقد استمرت المعارك في الشوارع لعدة أيام، مما اضطر السلطان سليم لمنح العفو للمماليك سواء كانوا في القاهرة أم خارجها ومنهم بطبيعة الحال جان بردي الغزالي(66)، الذي أكرمه سليم بحُسن الاستقبال، لما أبداه من البسالة في مقاتلة العثمانيين في الريدانية(67).

وفي رسالة الفتوح التي أرسلها السلطان سليم لابنه سليمان تأكيد لنفس المعنى، إذ يقول سليم: "… تحققنا في هذه الأثناء من مصطفى باشا أمير الرملي (الرومللي) السابق ومن الجراكسة، أن جان بردي الغزالي جاء في ذلك الوقت، وأدى فروض الطاعة وأظهر العبودية والخضوع بإخلاص"(68).

ويبدو أن سليماً أراد بمنحه العفو عن مقاتلي المماليك بصفة عامة وجان بردي الغزالي بصفة خاصة، التفرغ فيما بعد للقضاء على آخر مقاومة لطومان باي خارج القاهرة الذي تسلح بالقبائل البدوية، وندلل على ذلك بما أورده ابن زنبل من قوله:"وأما ما كان من السلطان سليم فإنه ضاق صدره وندم على دخوله مصر، وخشي أن يطول عليه المطال ويدخل عليه الشتاء وينقطع عنه خبر بلاده من أمر النصارى (أي القوى المسيحية في أوروبا) ليلا (لكي لا) يدبروا أمراً في غيبته على أخذ القسطنطينية، فاشتغل فكره"(69).

إذن، دخل جان بردي الغزالي أخيراً في طاعة السلطان العثماني سليم الأول بعد نهاية موقعة الريدانية، بعدما بات مقتنعاً بأن آخر صفحة من صفحات تاريخ دولة المماليك في مصر قد طُويت، وانفرط عقد سلطنتها. ولم يعد أمامه من حيلة سوى تسليم نفسه للسلطة الجديدة الحاكمة في القاهرة، محاولاً أن يُنقذ نفسه من التصفية الجسدية التي كانت في انتظاره لو تأخر أكثر من ذلك. أو بتعبير آخر، فإن الغزالي آثر تبدية مصلحته الشخصية في ذاك الوقت، وتلك سمة تختلج أغوار الكثير من القادة والجند بعد هزيمتهم وإيثارهم السلامة علّهم يحصلون على منصبٍ جديد في الدولة الجديدة.

إن تصرف الغزالي هذا لا يمكن اعتباره بأي حالٍ من الأحوال تصرفاً انتهازياً. فلو كان الغزالي انتهازياً بالفعل، لانضم قبل ذلك التاريخ للعثمانيين للاستفادة والحصول على منصب في الدولة العثمانية، لكن نظراً لحاجة العثمانيين إليه ولمهارته، قبلوا العفو عنه وأسندوا له بعض المهام العسكرية في مصر لسببين: أولهما لاختبار صدقه في طاعة دولتهم. وثانيهما لمعرفته بأحوال مصر.

ونظراً لازدياد إحساس السلطان سليم بتورطه في المستنقع المصري، بعدما خرجت الكثير من المناطق المصرية عن طاعة العثمانيين، خاصة القبائل البدوية التي تعاطفت مع طومان باي، قرر إرسال حملة عسكرية إلى منطقة أطفيح وغيرها في دلتا مصر للقضاء على تمردها. وعيّن عليها جان بردي الغزالي لمعرفته بأحوال تلك المنطقة، ولخبرته السابقة في محاربة العربان. وتمكن الغزالي بالفعل من إلحاق هزيمة قاسية بتلك القبائل، وشتت شملهم، وأمر بنهب نجوعهم، وأسر نساءهم وأولادهم، وأرسلهم إلى السلطان سليم الذي أمر ببيعهم بالقاهرة بأبخس الأثمان(70).

أمر السلطان سليم، الغزالي بشن الهجمات على طومان باي وأعوانه، فأخذ يلاحقه من مكان لآخر، وألحق بقواته الكثير من الخسائر بمساعدة قبيلة بدوية تُسمى عرب غزالة، إلى أن تمكن طومان باي من إلقاء القبض عليه، لكنه سرعان ما عفا عنه بعد أن أخذ عليه عهداً بعدم محاربة مماليكه، "فقام الغزالي وهو ينفض التراب من على رأسه وجا{ء} إلى رجل السلطان (طومان باي) وقبلها في الركاب وهو يبكي ونادم على ما فعل، وسار إلى فرسه وركبه وأشار إلى جماعته ارجعوا عن القتال فقد حلفت له أني لا أقاتله"(71).

لكن الغزالي حنث بيمينه فيما بعد، وأشار على سليم بخطة حربية يستطيع بموجبها تحقيق النصر بسهولة على طومان باي ومن تبقى معه، وهي خطة تسمى في التعبير العسكري المعاصر فكي كماشة. وقد استطاعوا من خلال تطبيقها إلحاق الكثير من الخسائر بفلول طومان باي في منطقة الوردان التي تبعد 50 كيلو متراً إلى الشمال من القاهرة، وذلك في 2 نيسان 1517م، ما دعا ابن زنبل للقول: "وافترقوا على هذا الحال وقد قلت الجراكسة عن بعضها ورجعوا وهم لا يعرفون بعضهم بعضاً من شدة ما حصل من ذلك اليوم" (72).

أدت كثرة الضربات التي وجهت لطومان باي إلى اقتناعه بأن نهاية الحرب مع العثمانيين باتت وشيكة، فلم يجد مناصاً سوى اللجوء إلى الشيخ حسن بن مرعي شيخ بدو البحيرة، وأخذ منه عهداً بعدم خيانته وتسليمه للسلطات العثمانية، لكن الشيخ المذكور خشي على نفسه وسلّمه للعثمانيين الذين شنقوه على باب زويلة بالقاهرة في ربيع الأول 923هـ/ 13 نيسان(أبريل) 1517م(73).

وكانت نية السلطان سليم ترمى إلى عدم قتل طومان باي إعجاباً به، لما أبداه من صنوف الشجاعة، كما كان في نيته كذلك أخذه معه إلى أستا نبول بعد أن يأخذ منه تعهّداً بعدم الخروج عن طاعته، لكن خاير بك والغزالي خشيا على نفسيهما فيما لو تحسنت العلاقات بين سليم وطومان باي، فألحّا على السلطان سليم في قتله(74).

جان بردي الغزالي وطموحه الانفصالي:

بعد أن استتبت الأمور في مصر لصالح العثمانيين، عيّن السلطان سليم الأمير خاير بك المملوكي نائباً عنه فيها مكافأة له على وقوفه معه ومساعدته في الاستيلاء عليها، ثم بدأ رحلة العودة إلى أستا نبول في 23 شعبان 923هـ/10 أيلول (سبتمبر) 1517م، وأبقى مع خاير بك خمسة آلاف جندي انكشاري، إضافة إلى العسكر الخيالة لحفظ النظام(75).

أما الأمير جان بردي الغزالي الذي أثبت للسلطان العثماني ولائه وإخلاصه، فقد رافقه في رحلة العودة، وعندما وصل الركب السلطاني إلى غزة في 9 رمضان / 25 أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، منح السلطان سليم حكم ولايات صفد والقدس وغزة والكرك ونابلس للغزالي(76).

وقبيل وصول سليم إلى دمشق في 6 شوال /22 تشرين أول (أكتوبر)، كانت الثورات في بلاد الشام قد اشتعلت بسبب الإجراءات العثمانية الجديدة كإبطال العملة القديمة وإصدار عملة جديدة وتشديد الإجراءات لضمان الأمن(77). وأعقب العثمانيون تلك الإجراءات بإجراء آخر شقّ على سكان دمشق قبوله وهو تخفيض سعر العملة العثمانية الجديدة بمقدار النصف، مما أدى إلى تضرر السكان. كما اتخذوا إجراءات أمن مشددة لردع الزُعّر الذين نشطوا في دمشق في أعقاب الأنباء المتضاربة عن مصير العثمانيين في مصر(78).

ويبدو أن تلك الاضطرابات قد أقنعت السلطان سليم عند دخوله دمشق بضرورة تعيين والٍ جديد عليها، يكون بإمكانه إخمادها، ووجد ضالته المنشودة في شخص جان بردي الغزالي. وشرع الاثنان معاً في القضاء على المناوئين للحكم العثماني في الشام، فتوجها في 26 ذي الحجة 923هـ/8 كانون ثاني (يناير) 1518م، إلى الأمير ناصر الدين بن الحنش للقبض عليه، ولكنهما فشلا في مهمتهما وعادا إلى دمشق وأصدر السلطان سليم قراراً بعزل ابن الحنش حاكم البقاع اللبناني وحماة وصيدا وتولية محمد أغا بن قرقماس الجركسي مكانه(79).

غادر السلطان سليم دمشق في 27 محرم 924هـ/8 شباط (فبراير)1518م، تاركاً فيها الغزالي والياً عليها مع منحه إياها إقطاعاً له حتى وفاته، ولم يفرض عليه دفع أي مال لخزينة الدولة العثمانية، بعد أن آنس فيه الإخلاص والولاء(80). وسمح له بتملك قوات عسكرية خاصة به(81).

ومهما يكن من أمر، فإن الغزالي في بداية عهده طبق السياسة العثمانية بحذافيرها، وظل على ولائه التام للسلطان سليم، وسرعان ما قضى على تمرد ناصر الدين بن الحنش وحليفه ابن الحرفوش – الذي لم تذكر له المصادر التاريخية اسماً- قرب بعلبك في 26 ربيع الأول 924هـ /7 نيسان (إبريل) 1518م، وقطع رأسيهما ، وأرسل بهما إلى السلطان في حلب الذي عجز من قبل من قتله. وهذا ما دعا ابن إياس للقول: "ولولا تحيّل الغزالي على ابن الحنش وقتله بحيلة صعدت من يده لما قدر على قتل ابن الحنش أبداً، وقد عجزت عن ذلك سلاطين مصر والأمراء" (82).

وبطش الغزالي أيضاً ببعض الأمراء المحليين في نابلس وغيرها منهم قراجا بن طراباي الحارثي، وأخضعهم للسلطة العثمانية(83). وشن عدة حملات ضد القبائل البدوية في حوران وعجلون، الذين دأبوا دوماً على التعرض لقافلة الحج الشامي عند طريق غزة، وانتصر عليهم وقتل الكثير منهم، وغنم أموالهم، وأعاد ما كانوا قد سلبوه من قافلة الحج(84). وبذلك امتدت ولاية الغزالي من معرّة النعمان إلى العريش بمصر(85).

ويُحسب للغزالي أيضاً، تمكنه من هزيمة القراصنة الإفرنج الذين نزلوا ساحل بيروت عام 926هـ/1520م، ومكثوا بها ثلاثة أيام، حيث استولى منهم على عدة مغانم وأسر ثلاثمائة من رجالهم إضافة إلى ثلاث سفن كبيرة(86). ويبدو أن هؤلاء الإفرنج هم فرسان القديس يوحنا الأورشليمي، الذين كانوا وقتذاك يستقرون في جزيرة رودس بالبحر المتوسط قبل أن يستولي عليها السلطان سليمان القانوني فيما بعد ويطردهم إلى جزيرة مالطة.

إن هذه الانتصارات التي حققها الغزالي، أدت إلى إعجاب السلطان سليم به، وسروره منه خاصة فيما يتعلق بحمايته لقافلة الحج الشامي. وأغدق عليه الخلع، فازداد نفوذه في دمشق واكتملت هيبته في كافة أنحاء الولاية الخاضعة لحكمه(87).

لكن وفاة السلطان سليم في 9 شوال 926هـ/ 22 أيلول (سبتمبر) 1520م، أدت إلى استيقاظ الحلم الدفين داخل أعماق جان بردي الغزالي، المتمثل في إقامة دولة مستقلة في الشام تحت قيادته، بعيدة عن السيادة العثمانية(88). ذلك الحلم الذي راوده يوماً بعد مرج دابق وفشل في تحقيقه – كما أسلفنا الإشارة. وقد فتحت وفاة سليم الباب على مصراعيه لاحتمالات مغرية من جهة وكذلك وخيمة العواقب من جهة أخرى بالنسبة للغزالي(89).

ويبدو أن الغزالي كان قد بدأ قبل وفاة السلطان سليم في إعادة بعض العادات المملوكية، التي كان العثمانيون قد أبطلوها، مثل دق الطبل في القلعة وعلى أبواب مدينة دمشق، وأعاد الشهود إلى المحاكم كالسابق. واستقطب السكان من حوله، وذلك بمعاقبة الجنود العثمانيين الذين تعرضوا لهم، كما قوّى الدفاع عن دمشق بتحصينه أبواب المدينة(90)، وازدادت علاقته سوءاً بقاضي دمشق الحنفي ولي الدين بن الفرفور المعروف بولائه للسلطات العثمانية، واضطره للهروب إلى حلب(91).

استضعف الغزالي، السلطان العثماني الجديد سليمان الملقب بالقانوني لصغر سنه، وبدأ يُمنّي نفسه بالتسلطن في الشام. ويبدو أنه قد كشف عما يجول في سويداء قلبه من تلك الأماني أمام المقربين إليه، فعارضوه لقلة قواته العسكرية التي يمكن أن تصمد في وجه أي رد فعل عثماني مذكرّين إياه بانتصارات العثمانيين السابقة في مرج دابق والريدانية، وأشاروا عليه بالكتابة لنائب مصر خاير بك، ليساعده فيما نوى القيام به(92).

لكن الغزالي قلّل من شأن الانتصارات العثمانية السابقة فقد أورد ابن زنبل رد الغزالي للمقربين إليه: "إنما كان ذلك من السلطان سليم، وإنما هذا (أي السلطان سليمان) ولد صغير، وليس له قدرة على فعل شيء من ذلك ولا أظنه يتم سنته في المملكة"(93).

إن هكذا تصرف من جانب الغزالي إن دلّ، إنما يدل على مدى رعونته التي أشار إليها ابن إياس سابقاً، ولعدم تقديره للمعطيات السياسية والعسكرية التي كانت موجودة وقتذاك في المنطقة. فقد اعتقد الغزالي أنه بإمكانه تحقيق نتائج عجزت قوى كبرى عنها. والواضح من رواية ابن زنبل أن الغزالي رهن مستقبله السياسي في الشام، على أن السلطان الجديد للدولة العثمانية صغير السن لن يكون له حول ولا قوة. وقد نسى أو تناسى أن هذا السلطان له مستشارون وقياديون يسيّرون أمور الدولة نيابة عنه .

قرر الغزالي بالفعل مراسلة نائب مصر خاير بك ليحثه على الانضمام إليه في تمرده ضد السلطات العثمانية. ويبدو أن المصادر التاريخية تباينت في إيرادها لمضمون الخطابات المتبادلة بين الغزالي وخاير بك. فابن زنبل على سبيل المثال يقرر أن خاير بك حاول إثناء الغزالي عن عزمه، غير أن الأخير كرر المراسلة مع نائب مصر وهدده بأنه في حالة عدم إطاعته، فسوف يجّرد عليه جيشاً لقتاله. ويقرر ابن زنبل أيضاً، أن خاير بك لما رأى إصرار الغزالي على رأيه "أرسل يخادعه ويقول له إن كان وإلاّ … اذهب إلى حلب وخذها، فإن ملكتها، كنت أنا مساعدك فيما تريد وموافق لك على ما تقول"(94) .

والواضح أن خاير بك كان من الخُبث والدهاء في رده على ما طلبه منه الغزالي، فاشتراطه للانضمام إلى التمرد مرهون باستيلاء الغزالي على مدينة حلب المهمة والتي تعتبر مفتاح الشام. وخاير بك يبدو أنه كان متأكداً من عدم قدرة الغزالي في الاستيلاء عليها بسب تحصيناتها – كما سيرد بيانه .

والرواية الأخرى، فقد تبناها ابن إياس الذي ذكر أن جان بردي الغزالي أرسل كتاباً إلى خاير بك مع رسول يسمى خشقدم اليحياوي يعلمه فيه بنيته للخروج عن طاعة السلطان العثماني الجديد سليمان. وحسب ما ذكره ابن إياس، فإن مزاج خاير بك قد تبدل بعد قراءته للكتاب، وأمر باعتقال رسول الغزالي، وشرع في تحصين قلعة القاهرة، ثم بعث رسول الغزالي وصحبته الكتاب المذكور إلى استانبول، ليُعلم السلطان سليمان بتمرد الغزالي بالشام(95).

من خلال ما أورده ابن إياس بالإمكان أن نستنتج أنه بالفعل قد حصل من الغزالي مراسلات مع خاير بك، لكن ابن إياس يختلف في روايته عن ابن زنبل في عملية التعاطي بين الأميرين، فالأول لم يُورد مطلقاً أن خاير بك قد ردّ على كتاب الغزالي له بل أرسل هذا الكتاب إلى السلطان العثماني ليطلعه على تمرد الغزالي.

ومهما يكن من أمر، فمن الممكن التوفيق بين الروايتين السابقتين، بأن خاير بك كان يود بالفعل لو أنحسر الحكم العثماني عن الشام ومصر، ويوّد أيضاً لو نجح الغزالي في تمرده، أو إن جاز التعبير لو نجح في حركته الانفصالية، ليقوم هو بدوره بثورة في مصر يتخلص بها من الحكم العثماني أيضاً. ويبدو أنه انتظر ليرى ما سوف تسفر عنه الأحداث حتى يجرؤ على إعلان الثورة(96)، خشية أن يورّط نفسه في أمرٍ من الصعب عليه تداركه فيما بعد، فيخسر بدوره مقاليد الحكم في مصر أهم الولايات العثمانية في المشرق الإسلامي.

والظاهر، أن خاير بك لم يكن يساوره أدنى شك، أن محاولة زميله الغزالي الانفصالية سوف يكون مصيرها الفشل، لذلك أرسل له موافقته المشروطة للانضمام إلى تلك المحاولة، بالاستيلاء على حلب. علماً بأنه كان قد نصحه من قبل من مغبة القيام بهذا الأمر –كما أسلفنا الإشارة. ثم نراه يرسل كتاب الغزالي الذي أعلن فيه عزمه عن الانفصال إلى السلطان سليمان.

ويبدو أن الغزالي اغتنم فرصة الخلاف الناشب بين العثمانيين والصفويين، واستعداد الأخيرين على الحدود لمهاجمة الدولة العثمانية بعد وفاة السلطان سليم، فأعلن الثورة على الحكم العثماني وشرع بمحاصرة قلعة دمشق التي كانت تحت سيطرة الانكشارية واحتلها وارتكب مذبحة مروعة بحق الجنود العثمانيين. ومنع خطباء المساجد من ذكر اسم السلطان سليمان على المنابر، وأمر بالدعاء له شخصياً في خطبة الجمعة، ونقش اسمه على النقود المصكوكة في دمشق(97). واتخذ لنفسه لقباً مملوكياً هو "الملك الأشرف"(98).

وفي محاولة من الغزالي لجمع المؤيدين حوله، أعاد آل الحنش إلى حكم البقاع وولى أحمد بن الحنش مكان الأمير سنان باشا. والتف من حوله في دمشق بقايا المماليك وشبان الحارات من الزُعّر، الذين اغتنموا الفرصة كعادتهم لإبراز قوتهم(99)، كما تمكن من الاستيلاء على طرابلس وحمص وحماة وغير ذلك من المدن(100).وثمة وثيقة عثمانية تبيّن استعداد الشاه إسماعيل الصفوي لمساندة حركة الغزالي الانفصالية، ومده بالجنود بعد اتصالات تمت بين الطرفين، فقد ورد على لسان الغزالي في إحدى رسائله للشاه إسماعيل: "تعال يا ابن أردبيل (أي الشاه إسماعيل) بنفسك أو أرسل إلينا عسكراً، إننا نفتح هذه الولاية (الشام)، ولتعلم أن من بمصر (أي نائبها خاير بك) معنا أيضاً"، وتذكر الوثيقة أن الشاه إسماعيل تمكن من جمع حوالي اثني عشر ألف جندي لمساعدة الغزالي في تمرده(101).

وعلى أية حال، لم تذكر المصادر التاريخية المعاصرة للأحداث شيئاً عن رد الفعل لدى الشاه إسماعيل الصفوي فيما يخص تمرد الغزالي في دمشق. ومن المحتمل أن يكون الشاه قد جمع هذا العدد الكبير من الجند انتظاراً لما ستسفر عنه حركة الغزالي، فإذا ما تأكد من نجاحها دخل المعركة مناصراً له ضد العثمانيين، لأنه كان يعلم جيداً منذ هزيمته في تشالديران قوة بأس الجنود العثمانيين ويخشى جانبهم(102).

ويظهر من خلال ما ورد في الوثيقة السابقة، رغبة الشاه الصفوي الجامحة في تحطيم قوة العثمانيين في الشام، لاستعادة مجده الغابر في بلاد فارس والمناطق الأخرى التي كانت تحت سيطرته قبل وقعة تشالديران بعد أن مرّغ العثمانيون سمعته في التراب، وبالتالي يكون بمقدوره التغلب عليهم بسهولة، وربما يكون بإمكانه القضاء على نفوذهم في آسيا الصغرى.

لم يبق في الشام من الحصون القوية أمام جان بردي الغزالي سوى قلعة حلب، فجهز حملة كبيرة من الدروز وبدو جبل نابلس ومن الأكراد وبعض القبائل الأخرى(103). كما أن فرسان القديس يوحنا في جزيرة رودس أرسلوا له بعض قطع المدفعية لمساندته، وحشد الغزالي قرابة 23 ألف مقاتل لتلك الحملة(104).

وفي 14 ذي الحجة 926هـ/25 تشرين ثاني (نوفمبر) 1520م، توجه الغزالي بنفسه من دمشق صوب حلب للاستيلاء عليها. وشرع والي حلب قراجا باشا العثماني الأصل بالاستعداد للدفاع عن مدينته، وأرسل للسلطان سليمان يطلب منه المساعدة. وفرض الغزالي حصاراً حولها استمر لمدة اثني عشر يوماً، وتمكن من إحراز النصر، لكنه لم يتمكن من الاستيلاء عليها، على الرغم من أنه قطع القناة التي تدخل الماء إلى المدينة. لكنه اضطر فيما بعد لرفع الحصار عن حلب بسبب دخول فصل الشتاء القارص وخشيته من وصول إمدادات عثمانية لدعم الحماية العثمانية في حلب، ولفشله في الحصول على دعم كان يتوقعه من نائب مصر خاير بك، وعاد إلى دمشق(105).

ويورد ابن إياس في مدوناته، أن نية خاير بك اتجهت إلى تجريد حملة عسكرية على جان بردي الغزالي في ذي الحجة 926هـ، أي في ذات الوقت الذي بدأ فيه الغزالي حصاره لمدينة حلب، غير أن خلافاً نشب بينه وبين الجنود العثمانيين المتواجدين في مصر، جعله يعدل عن رأيه، بعدما قالوا له: "نحن ما نخرج إلى قتال نائب الشام (أي الغزالي) إلاّ بمرسوم من عند السلطان سليمان بن عثمان، ونحن ما علينا إلاّ حفظ القلعة والمدينة(106) (أي القاهرة).

إن ما أورده ابن إياس يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن خاير بك بعدما أيقن بفشل استيلاء الغزالي على حلب، أراد أن يثبت للسلطان العثماني سليمان مدى إخلاصه وصدقه في مساعدة الدولة العثمانية، فقرر إرسال تلك الحملة دون إذنٍ مسبق من السلطان نفسه، وبالتالي لإبعاد أي شبهة ممكن أن تحوم حول نيته في مساعدة الغزالي في تمرده.

على أية حال، وصل تمرد الغزالي إلى نهايته المحتومة، فقد أرسل السلطان سليمان حملة ضخمة لرسم السيناريو المنتظر لهذه النهاية، وإن اختلفت الروايات التاريخية حول القائد العثماني الذي ترأس تلك الحملة، فبينما يجعله ابن زنبل، إياس باشا(107)، يجعله محمد بن جمعة المقاري، فرهاد (فرحات) باشا(108)، وهو ما يميل إليه المؤرخون المحدثون. ويذكر ابن إياس أن السلطان سليمان كتب لخاير بك في مصر يوصيه بعدم إرسال أي تجريدة إلى الشام لثقته بأن الحملة التي أرسلها سوق تحقق أهدافها دون الحاجة لمساعدة خاير بك(109).

ومع وصول الحشود العثمانية إلى الشام، بدأت أطراف مقاطعات الغزالي بالتفتت، فقد فرّ نوابه من طرابلس وبيروت وغيرهما من المدن(110). وذلك في الوقت الذي طلب فيه الغزالي من أهالي دمشق مساندته ضد الهجوم العثماني، حيث قال لهم: "لا تقاتلوا الأروام (العثمانيين) لأجلي، وإنما قاتلوهم خوفاً على حريمكم"(111).

وفي 26 صفر 927هـ/27 كانون ثاني (يناير)1521م، نشبت معركة عند قرية الدوير شرقي قرية برزة بالقرب من دمشق، انتهت بهزيمة قوات الغزالي الذي تنّكر فيما بعد في زي درويش وحاول الهرب، لكنه وقع في الأسر وأعُدم في 6 شباط (فبراير) من العام نفسه، وأرسلت رأسه إلى استانبول، وأحتل العثمانيون دمشق. وكانت هذه الثورة آخر ثورة قام بها المماليك في بلاد الشام(112). وكانت مدة ولاية الغزالي على الشام ثلاث سنين وسبعة أشهر(113).

وقد نتج عن فشل حركة الغزالي الانفصالية تلك عدة نتائج أهمها:

1- ألغى العثمانيون الحكم الذاتي في الشام، وتم تقسيمها إلى ثلاث ولايات هي: دمشق وحلب وطرابلس، ووضعت منذ ذلك الحين تحت إدارة الولاة العثمانيين وخضعت لسلطة الباب العالي مباشرة(114).

2- أقرّ السلطان سليمان، إياس باشا في نيابة دمشق عوضاً عن الغزالي، وفرهاد (فرحات) باشا في ولاية طرابلس(115).

3- ألقى خاير بك نائب مصر القبض على المماليك الذين كانوا عند الغزالي وأمر بقتل بعضهم(116).

خاتمة الدراسة

بعد الانتهاء من هذه الدراسة بالإمكان تدوين عدد من النتائج والملاحظات الجديرة بالذكر منها:

أنه يَصعُب على أي باحث اتهام الأمير المملوكي جان بردي الغزالي بخيانة السلطنة المملوكية والتواطؤ لحساب السلطان العثماني سليم الأول، دون إيراد دليل ملموس على هذا التواطؤ. فقد أثبتت الدراسة أنه لم يكن للغزالي يد في هزيمة المماليك في مرج دابق، وإنما ترك ساحة القتال بعد أن تأكد من مقتل السلطان المملوكي قانصوه الغوري.

كما أن الغزالي ظل يعمل بإخلاص لحساب السلطان المملوكي الجديد طومان باي، بعدما اختاره الأخير ليقود الحملة العسكرية المتجهة إلى غزة لصد التقدم العثماني في اتجاه مصر. إذ لا يُعقل أن يختار طومان باي، الغزالي لهذه المهمة الصعبة، وهو يعلم بخيانته لبني جنسه من قبل في مرج دابق.

ثم أن دخول الغزالي في خدمة السلطان العثماني سليم الأول، تم بعد نهاية معركة الريدانية الفاصلة بين المماليك والعثمانيين، وبعد ما بات مقتنعاً بأن آخر صفحة من صفحات دولة المماليك في مصر قد طُويت، وانفرط عقد سلطنتها، فلم يعد أمامه من حيلة سوى تسليم نفسه للسلطة الحاكمة الجديدة في القاهرة لينقذ نفسه من التصفية الجسدية التي كانت في انتظاره فيما لو تأخر أكثر من ذلك. أو بتعبير آخر، فإن الغزالي آثر تبدية مصلحته الشخصية، لذلك فقد أثبت البحث، أن ما قام به الغزالي لم يكن من قبيل الخيانة أو التواطؤ مع أعداء قومه الذين هم في الأساس مسلمون سُنيّون.

وكان لإخلاص الغزالي لولي نعمته الجديد، السلطان سليم، أن دعاه لتعيينه نائباً عنه في دمشق ليخلصه من أعدائه في بلاد الشام.

لكن ما قام به الغزالي فيما بعد بإعلان الثورة والتمرد على حكم الدولة العثمانية بعد وفاة السلطان سليم وتعيين ابنه السلطان سليمان مكانه، لم يكن أيضاً من باب الخيانة، بل المغامرة الانفصالية، التي لم يحسب الغزالي عواقبها، مغتراً بقوته المحدودة التي سرعان ما سوف تنهار بعد فشله في الحصول على حلب. وعلى أية حال، فإن تلك المغامرات الانفصالية ستكون فيما بعد سمة عامة من سمات المماليك بمصر في ظل حكم الدولة العثمانية، مثل الحركات التي قام بها جانم السيفي، وأينال السيفي، وعلي بك الكبير.



--------------------------------------------------------------------------------

(1) حمزة، عادل عبد الحافظ: "دور خاير بك المملوكي في موقعة مرج دابق 922هـ/1516م: رؤية تاريخية". المجلة التاريخية المصرية، مج36 ، 1989، ص241-242.

(2) ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور، ط3، 5 أجزاء، تحقيق: محمد مصطفى، ج5، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 1404هـ (1984م)، ص 28، 31.

(3) نفس المرجع، ج4، ص 463.

(4) نفس المرجع، ج4، ص 485.

(5) لمزيد من التفاصيل. أنظر:

ابن طولون، محمد: مفاكهة الخلان في حوادث الزمان. جزءان، نشر: محمد مصطفى، ج1، القاهرة 1962-1964، ص43-53. ونوار، عبد العزيز سليمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، دار الفكر العربي، القاهرة بدون تاريخ، ص 79. ومتولي، أحمد فؤاد: الفتح العثماني للشام ومصر، ط1، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة 1414هـ(1995م)، ص45-51.

(6) الجُلبان: هم المماليك الذين جُلبوا حديثاً.

دهمان، محمد أحمد: معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي. ط1، دار الفكر، دمشق 1410هـ (1990م)، ص53.

(7) رافق، عبد الكريم: العرب والعثمانيون (1516-1916). ط1، دمشق 1974، ص6.

(8) نوار: المرجع السابق، ص77.

(9) إيفانوف، نيقولاي: الفتح العثماني للأقطار العربية 1516-1574. ط1، نقله إلى العربية: يوسف عطا الله. راجعه وقدّم له: د. مسعود ضاهر، دار الفارابي، بيروت 1988، ص55-56.

(10) بعد أن وجد الشاه إسماعيل الصفوي نفسه سيد بغداد والعراق دون أن تتحرّك ضدّه أي من الدولتين الكبيرتين السُنتين (العثمانية والمملوكية)، منّى نفسه بتوسيع رقعة دولته إلى ما وراء العراق لعلّه يستطيع تحقيق آمال الشيعة في إقامة دولة كبرى في المنطقة. وحاول الشاه إسماعيل إيجاد حلفاء له في أوروبا، فكتب إلى البنادقة والبرتغاليين وفاوضهم في طلب المساعدة والاشتراك معاً في مقاتلة السلطنة المملوكية في مصر واقتسام ممتلكاتها، بحيث يأخذ هو الشام ليطلّ على البحر المتوسط، بينما يستحوذ البنادقة على مصر.

الحنبلي، مرعى بن يوسف: نزهة الناظرين فيمن ولى مصر من الأمراء والسلاطين، مخطوط موجود في المكتبة الوطنية بميونخ رقم Cod.Arab.889، ورقة 206أ. وابن طولون: مفاكهة الخلان، ج1، ص 343. وابن إياس: بدائع الزهور، ج4، ص191، 205. والعدوي، إبراهيم: مصر والشرق العربي درع الإسلام. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1985، ص183. ونوار: المرجع السابق ، ص68.

(11) العدوي: المرجع السابق، ص175.

(12) نفس المرجع، ص175- 176. والحلاق، محمد بن يوسف: تحفة الأحباب بمن ملك مصر من الملوك والنواب، مخطوط موجود في مكتبة The Beinecke Rare Book and manuscript Library، بجامعةYale بالولايات المتحدة الأمريكية، رقم 229 Land berg ، ورقة 73ب.

(13) ابن إياس: المرجع السابق، ج4، ص372-373. وإيفانوف: المرجع السابق، ص57.

(14) لمزيد من التفاصيل أنظر:

ابن إياس: المرجع السابق، ص 435 –438، 446، 462-463.

كان سليم عندما بدأ بالتقدم عبر الأناضول في اتجاه المقاطعات الصفوية، يأمل من علاء الدولة أمير "ألبستان" تقديم المساعدة للجيش العثماني- وكان علاء الدولة جداً لسليم من أمه – لكن علاء الدولة على ما يبدو تعرض إلى قوافل المؤن والإمدادات الحربية العثمانية المتجهة نحو الجبهة الصفوية، كما سمح لتركمانه بالإغارة على القوات العثمانية.

Holt (p.m.), Egypt and the Fertile Crescent, 1516-1922, Cornell University press, New York 1966, p.36.

وزقلمة، أنور: المماليك في مصر، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة 1415هـ (1995م) ص 100.

(15) العدوي: المرجع السابق، ص176.

(16) لمزيد من التفاصيل أنظر:

ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 22-34، 38-39، 45، 53، 60-68.

(17) ولُد خاير بك عام 868هـ/1463م، في قرية "صمصوم" بالقرب من بلاد الكرج، وهو من أصل جركسي، وكان أبوه يُدعى مال باي أو ملباي الجركسي، قدّمه إلى السلطان الأشرف قايتباي. ثم تولى خاير بك عدّة وظائف في دولة المماليك فغدا صاحب نفوذ وكلمة مسموعة في البلاط المملوكي.

وقد واكبت فترة ترقّي خاير بك السابقة، الصدامات التي وقعت بين المماليك والعثمانيين على أطراف الحدود الشمالية للسلطنة المملوكية، وتواجد جواسيس للعثمانيين بمصر سنة 894هـ/1489م، خاصة من أهالي حلب يراسلون السلطان العثماني.

ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 483، 265.

(18) الكاشف: هو وكيل السنجق حيث يحكم أحد الأقاليم المصرية الصغيرة. وكان الكاشف يتم اختياره من بين المماليك ويعينه الوالي بموافقة الديوان.

يحيي، جلال: المجمل في تاريخ مصر الحديثة. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، بدون تاريخ، ص60.

(19) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص383.

وجان بردي الغزالي سلافي الأصل من كُرواتيا، كان قد وقع في أسر العثمانيين في عهد السلطان بايزيد الثاني والد السلطان سليم الأول عند فتح منطقة البلُقان (الروملي). ثم أُرسل ضمن مجموعة من الأسرى هديةً إلى السلطان المملوكي الأشرف قايتباي في القاهرة الذي أعتقه حتى وصل إلى درجة الأمارة في عهد السلطان قانصوه الغوري وطومان باي. وجان بمعنى: الروح، وبردي: تعني أعطى.

حرب، محمد: العثمانيون في التاريخ والحضارة. ط1، دار القلم، دمشق 1409هـ (1989م)، ص143-144.

(20) الجمدار: من الجمدارية وهو الذي يتولى إلباس السلطان أو الأمير ثيابه وأصل اللفظة جاما دار، فارسية، بمعنى اللباس داخل البيت ومنها البيجاما.

دهمان: المرجع السابق، ص54. وعاشور: المرجع السابق، ص427.

(21) ابن إياس: المرجع السابق، نفس الصفحة. وهيئة الموسوعة الفلسطينية: الموسوعة الفلسطينية. القسم العام، 4 أجزاء، ج2، دمشق 1984، ص6.

(22) أمير عشرة: رتبة عسكرية في الجيش المملوكي، يكون في خدمة صاحبها عشرة فرسان، ومن هذه الطبقة يتم تعيين صغار الولاة.

دهمان: المرجع السابق، ص22. وعاشور: المرجع السابق، ص415.

(23) حاجب الحجاب: منصب مملوكي، كان صاحبه يقوم مقام النائب في الولايات، وإليه يشير السلطان، وإليه يرجع عرض الجند وما شابه ذلك، وإليه تُقدّم العروض.

دهمان: المرجع السابق، ص59.

(24) ابن إياس: المرجع السابق، نفس الصفحة.

(25) نفس المرجع، ص 382.

(26) نفسه.

(27) حمزة: دور خاير بك، ص 247-248.

(28) لمزيد من التفاصيل حول موقعة مرج دابق، أنظر:

ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 68 – 73، 86-87. و ابن طولون: إعلام الورى بمن ولى نائباً من الأتراك بدمشق الشام الكبرى. تحقيق وتقديم: عبد العظيم حامد خطاب، القاهرة 1973م، ص240-241.

(29) الشهابي، حيدر أحمد (الأمير): تاريخ الأمير حيدر أحمد الشهابي، 4 أجزاء، ج3 علقّ على حواشيه: د.مارون رعد، إشراف: نظير عبود، دار نظير عبود، بيروت 1993، ص738.

(30) ابن زنبل، أحمد: تاريخ مصر، مخطوط موجود في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab.411 ، ورقة 14 أ.

(31) نفسه.

(32) الوطاق: لفظ تركي بمعنى الخيمة الكبيرة أو المخيم التي يستقر بها السلطان.

دهمان: المرجع السابق، ص 155.

(33) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 19أ-19ب.

(34) زقلمة: المرجع السابق: ص 104.

(35) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 25أ. وابن طولون: إعلام الورى، ص241.

(36) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 76.

(37) نفس المرجع، ص 82. و ابن طولون:المرجع السابق، ص 241-242.

(38) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 25 أ – 26ب.

(39) ابن إياس: المرجع السابق، ص 82.

(40) مصطلح الزُعّر الذي يستخدم في بلاد الشام يقابله مصطلح الفتوات في مصر والقبضايات في لبنان.

(41) ابن إياس: المرجع السابق، ص 84.

(42) الحنبلي: المرجع السابق، ورقة 206 ب.

(43) طومان باي: أصله من كتابيّة السلطان الأشرف قايتباي، اشتراه السلطان قانصوه الغوري وكان بينهما قرابة. ثم قدمه لقايتباي، وطومان باي يعتبر السلطان السابع والأربعون من سلاطين المماليك في مصر وأخرهم.

ابن إياس: المرجع السابق: ج5، ص 102.

(44) الدوادار: هو الذي يحمل دواة السلطان أو الأمير، ويتولى أمرها مع ما ينضم لذلك من الأمور اللازمة لهذا المعنى من حكم وتنفيذ أمور وغير ذلك بحسب ما يقتضيه الحال.

دهمان: المرجع السابق، ص 77.

(45) ابن إياس: المرجع السابق، ص 85-86.

(46) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 26 ب.

(47) نفس المرجع، ورقة 31 أ – 31ب.

(48) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص102-105. و الصديقي، محمد بن محمد أبي السرور البكري: التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية. مخطوط موجود في المكتبة الوطنية في فيينا، رقم Cod. Arab. 925. A.F. 283 ، ورقة 21 أ – 23 أ.

(49) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 124 – 125. وابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 31 ب – 34أ. وابن أبي السرور: المرجع السابق، ورقة 29 أ –33ب.

(50) أنظر ترجمة نص رسالة السلطان سليم لطومان باي كاملة في:

متولي: الفتح العثماني للشام ومصر، ص 176 – 178 (الذي اعتمد على مخطوط لجلال زاده قوجه نشانجي مصطفى بعنوان: مآثر سليم خاني طاب ثراه. وهذا المخطوط موجود في مكتبة طوبقبو سرايي، رقم 415، ورقة 133 أ – 134ب).

(51) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 125.

(52) أنظر ترجمة نص رسالة السلطان سليم لجان بردى الغزالي كاملة في:

متولي: المرجع السابق، ص 179 – 181 (اعتماداً على نفس المصدر التركي السابق ورقة 134ب – 135ب).

(53) متولي: المرجع السابق، ص 181.

(54) نفس المرجع، ص 182.

(55) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 34 أ – 34 ب. وابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 108.

(56) ابن إياس: المرجع السابق، ص 116 – 117.

(57) نفس المرجع، ص 117.

(58) متولي: المرجع السابق، ص 185، اعتماداً على المصادر التركية التي رجع إليها.

(59) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 35. وابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 128 – 131.

(60) العدوي: المرجع السابق، ص 177 –178. وزقلمة: المماليك في مصر، ص 106.

(61) هيئة الموسوعة الفلسطينية: الموسوعة الفلسطينية، ج2، ص6.

وإيفانوف: المرجع السابق، ص 69.

(62) متولي: المرجع السابق، ص 186 (الذي اعتمد على مخطوط لأحمد فريدون بعنوان: منشآت الملوك والسلاطين، موجود بمكتبة طوبقبو سرايي، رقمR 1960، ورقة 594ب – 598ب).

(63) متولي: نفس المرجع، ص 186.

(64) نفس المرجع، ص 204–205 (الذي أورد ترجمة كاملة لنص رسالة الفتوح، ص 204 - 209).

(65) أنظر تفاصيل معركة الريدانية:

ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 144 – 148.

(66) نفس المرجع، ص 159 – 160.

(67) زقلمة: المرجع السابق، ص 108.

(68) أنظر رسالة الفتوح في: متولي: المرجع السابق، ص 208.

(69) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 69 أ.

(70) نفس المرجع، ورقة 69 أ – 73 ب. وابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 168.

(71) أنظر تفاصيل تلك الهجمات في: ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 93 ب –100ب.

(72) نفس المرجع، ورقة 102 ب – 103ب. وإيفانوف: المرجع السابق، ص 70.

(73) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 174 – 177.

وابن أبى السرور البكري الصديقي: المرجع السابق، ورقة 29 أ – 33ب.

(74) أنظر ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 122 أ – 123 أ. والحنبلي: المرجع السابق، ورقة 206 ب.

(75) أنظر: ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 128 ب. وابن إياس: المرجع السابق، ص 203. ومتولي: المرجع السابق، ص 234.

(76) متولي: المرجع السابق، نفس الصفحة.

(77) ابن طولون: مفاكهة الخلان في حوادث الزمان، ج2، ص 43-47، 58 -59.

(78) نفس المرجع، ج2، ص 41 – 43.

(79) متولي: المرجع السابق، ص 234 (اعتماداً على المصادر التركية).

وابن جمعة، محمد: الباشات والقضاة في دمشق في: صلاح الدين المنجد: ولاة دمشق في العهد العثماني، دمشق 1949، ص1.

ولمزيد من التفاصيل عن المعركة التي دارت بين الغزالي وناصر الدين بن الحنش.

أنظر:

سويد، ياسين: التاريخ العسكري للمقاطعات اللبنانية في عهد الإمارتين. جزءان، ج1، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت 1985، ص129 – 130.

(80) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 130 ب. وابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 244.

(81) إيفانوف: المرجع السابق، ص 77.

(82) أنظر: ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 252 – 253. وابن طولون: إعلام الورى: ص 255 – 256. وسويد: المرجع السابق، ص130. و Lammens (S.J.), La Syrie precis Historique, vol.II, Beyrouth 1921, p.56.

(83) ابن طولون: مفاكهة الخلان، ج2، ص 119 – 121. وابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 295.

(84) ابن طولون: إعلام الورى، ص 258. وابن إياس: ص 293.

(85) ابن طولون: إعلام الورى، ص 255. والموسوعة الفلسطينية، ج2، ص 6.

(86) ابن إياس: ص 359 – 360. وابن طولون: المرجع السابق، ص 259.

(87) رافق: المرجع السابق، ص 65.

(88) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 130 ب. ومتولي: المرجع السابق، ص244.

(89) Holt, op.cit,p. 43.

(90) ابن طولون: إعلام الورى، ص 260. ورافق: المرجع السابق، ص 83 – 84.

(91) ابن طولون، محمد: الثغر البسام في ذكر من ولي قضاء الشام، تحقيق: د.صلاح الدين المنجد، دمشق 1956، ص 309.

(92) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 130 ب – 131أ.

(93) نفس المرجع، ورقة 131 أ.

(94) نفس المرجع، ورقة 131 أ – 131 ب.

(95) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 367 – 368.

(96) متولي: المرجع السابق، ص 244.

(97) أنظر: ابن جمعة: المرجع السابق، ص 1. وابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 133 أ – 133ب. وابن طولون: إعلام الورى، ص 260. وإيفانوف: المرجع السابق، ص 78.

(98)ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 370.

(99) متولي: المرجع السابق، ص 247. ورافق: المرجع السابق، ص 84.

(100) ابن جمعة: المرجع السابق، نفس الصفحة.

(101) أنظر نص الوثيقة في:

متولي: المرجع السابق، ص 244 – 246.

(102) نفس المرجع، ص 246.

(103) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 131 ب.

(104) إيفانوف: المرجع السابق، ص 78.

(105) أنظر: ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 131ب – 132ب. وابن طولون: إعلام الورى، ص 262 – 265. ومتولي: المرجع السابق، ص 251.

(106) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 373-375.

(107) ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 133ب.

(108) ابن جمعة: المرجع السابق، ص 3.

(109) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 376 – 377.

(110) إيفانوف: المرجع السابق، ص 78. و Holt, op.cit, p.47.

(111) ابن جمعة: المرجع السابق، ص 2.

(112) أنظر تفاصيل الحملة العثمانية على الغزالي في:

ابن زنبل: المرجع السابق، ورقة 133ب – 136 أ. وابن جمعة: المرجع السابق، ص 3 – 4.

(113) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 382.

(114) إيفانوف: المرجع السابق: ص 78 – 79.

(115) ابن إياس: المرجع السابق، ج5، ص 391.

(116) نفس المرجع، ص 387 – 388.



مراجع البحث



أولاً: المخطوطات:

1- الحلاق، محمد بن يوسف: تحفة الأحباب بمن ملك مصر من الملوك والنواب. موجود في The Beinecke Rare Book and Manuscript Libraryبجامعة Yale بالولايات المتحدة الأمريكية رقم Landberg 229.

2- الحنبلي، مرعى بن يوسف: نزهة الناظرين فيمن ولى مصر من الأمراء والسلاطين. موجود في المكتبة الوطنية بميونخ، رقم Cod. Arab. 889.

3- ابن زنبل، أحمد: تاريخ مصر، موجود في المكتبة الوطنية بميونخ رقم Cod. .Arab. 411

4- الصديقي، محمد بن محمد أبي السرور البكري: التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية. موجود في المكتبة الوطنية في فيينا، رقمCod Arab.925, A.F. 283 .

ثانياً: المصادر الأوّلية:

1ـ ابن إياس، محمد بن أحمد: بدائع الزهور في وقائع الدهور، ط3، 5 أجزاء، تحقيق: محمد مصطفى، ج4،5، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 1404هـ (1984م).

2ـ ابن جمعة، محمد: الباشات والقضاة في دمشق في د.صلاح الدين المنجد: ولاة دمشق في العهد العثماني، دمشق 1949.

3ـ الشهابي، حيدر أحمد (الأمير): تاريخ الأمير حيدر أحمد الشهابي، 4 أجزاء، ج3، علقّ على حواشيه: د.مارون رعد، إشراف: نظير عبود، دار نظير عبود، بيروت 1993.

4ـ ابن طولون، محمد: إعلام الورى بمن ولى نائباً من الأتراك بدمشق الشام الكبرى، تحقيق وتقديم: عبد العظيم حامد خطاب، القاهرة 1973.

5ـ ابن طولون، محمد: الثغر البسام في ذكر من ولى قضاء الشام، تحقيق : د.صلاح الدين المنجد، دمشق 1956.

6ـ ابن طولون، محمد: مفاكهة الخلاّن في حوادث الزمان، جزءان، نشر: محمد مصطفى، ج2، القاهرة 62 – 1964.

ثالثاً: المراجع الثانوية والدوريات والموسوعات:

1ـ إيفانوف، نيقولاي: الفتح العثماني للأقطار العربية 1516- 1574. ط1، ترجمة: يوسف عطا الله، راجعه وقدّم له: د.مسعود ضاهر، دار الفارابي، بيروت 1988.

2ـ حرب، محمد (الدكتور): العثمانيون في التاريخ والحضارة. ط1، دار القلم، دمشق 1409 هـ (1989م).

3ـ حمزة، عادل عبد الحافظ (الدكتور): "دور خاير بك المملوكي في موقعة مرج دابق 922هـ/1516م. رؤية جديدة ". المجلة التاريخية المصرية، مج 36، 1989، ص 241 – 257.

4ـ دهمان، محمد أحمد: معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي. ط1، دار الفكر، دمشق 1410هـ (1990م).

5ـ رافق، عبد الكريم (الدكتور): العرب والعثمانيون (1516-1916)، ط1، دمشق 1974.

6ـ زقلمة، أنور: المماليك في مصر. ط1 مكتبة مدبولي، القاهرة 1415هـ (1995م).

7ـ سويد، ياسين (الدكتور): التاريخ العسكري للمقاطعات اللبنانية في عهد الإمارتين. جزءان، ج1، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 1985.

8ـ عاشور، سعيد عبد الفتاح (الدكتور): العصر المماليكي في مصر والشام. ط2، دار النهضة العربية، القاهرة 1976.

9ـ العدوي، إبراهيم (الدكتور): مصر والشرق العربي درع الإسلام. مكتبة الأنجلو المصرية القاهرة 1985.

10ـ نوار، عبد العزيز سليمان (الدكتور): تاريخ الشعوب الإسلامية. دار الفكر العربي، القاهرة، بدون تاريخ.

11ـ هيئة الموسوعة الفلسطينية: الموسوعة الفلسطينية، القسم العام، 4 أجزاء، ج2، دمشق 1984.

12ـ يحيي، جلال (الدكتور): المجمل في تاريخ مصر الحديثة. المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية، بدون تاريخ.

رابعاً: المراجع الأجنبية:

1. Holt (P.M.), Egypt and the Fertile Crescent, 1516- 1922, Cornell university press, New York 1966.

2. Lammens (S.J.), La Syrie, Precis Historique, vol.11, Beyrouth 1921.

د.فالح العمره
16-04-2005, 11:59 PM
الرملة.. عاصمة فلسطين المنسية


--------------------------------------------------------------------------------

كانت مدينة الرملة -والتي تبعد أقل من خمسة أكيال مترية عن مطار تل أبيب الدولي- مرة عاصمة لفلسطين. لكنها اليوم مدينة خربة تحت الاحتلال الإسرائيلي. أسسها الأمير الأموي سليمان بن عبد الملك (والذي أصبح خليفة فيما بعد) في بداية القرن الثامن الميلادي.

والرملة – كما هو واضح من اسمها- مشتقة من كلمة الرمل، وكانت قد بنيت على أرض رملية محاذية لمدينة اللد (ليدا) القديمة، والتي منها أخذت الرملةُ سكانها ومواد بنائها. وقد توسعت مدينة الرملة وازدهرت سريعاً لا لتصبح أكبر مدينة بفلسطين فحسب، وإنما لتصبح عاصمتها حيث بلغ عدد سكانها أكثر من 25 ألف نسمة. ولمدة 300 سنة، لم تكن الرملة أكبر مدينة بفلسطين فحسب وإنما واحدة من المدن الرئيسية في العالم الإسلامي، تضاهي مدن كبغداد، والقاهرة، ودمشق. ويرجع إزدهار الرملة وغناها إلى صناعة صباغة الأنسجة والتجارة العالمية، وهذا راجع جزئياً إلى موقعها المهم بين تقاطع طريقين تجاريين مفضَّلين: شمال-جنوب (ماراً بماريس)، وشرق-غرب من يافا إلى القدس.

لكن قُدِّر لهذه المدينة أن تنعكس أحوالها وذلك في القرن الحادي عشر الميلادي بسبب سلسلة من النوازل الطبيعية والبشرية التي جعلت المدينة مجرد ظلال بالمقارنة مع حالها التي كانت عليها. أول هذه النوازل التي ألمت بالرملة كان زلزال عام 1033م الذي دمر أكثر من ثلثي المدينة وترك آلاف المشردين. ثم تبع ذلك زلزالان في عامي 1068 و1070م على التوالي، وكذلك المناوشات المختلفة بين الفاطميين وأعدائهم كانت لها آثار مزلزلة على المدينة، إلى أن جاء الصليبيون عام 1099م فوجدوا أبواب المدينة مفتوحة فارغة من أهلها، حيث كانوا قد فروا منهم. وعندما استقر الصليبيون في المدينة، بنوا لهم قلعة وكنيسة في أحد جوانبها، ومع الوقت أصبحت هذه المنطقة مركزاً للمدينة حيث صغر حجمها كثيراً. وقد أصاب المدينة بعض التحسن عندما عادت إلى حظيرة الإسلام في عهد المماليك (1260-1516)، حيث بنيت منارة لمسجدها الأبيض، والتي –إلى هذا اليوم- تبدو واضحة ومهيمنة على المباني من حولها. وعلى كل حال، فالمدينة لم تستطع أبداً أن تعود إلى ما كانت عليه من حجمها الأول، وكنتيجة لذلك، فإن المسجد الأبيض فيها الذي كان قائماً في وسطها في القرن الثامن الميلادي، وجد نفسه الآن خارجها.

في أوج ازدهارها، كانت مدينة الرملة تغطي مساحة 2 كليومتر مربع، وهذه حقيقة تؤكدها الحفريات الحديثة التي استطاعت أن تكشف عن المدينة القديمة لمساحة 2 كيلومتر مربع. واستناداً لمؤرخ عربي معاصر، فإن المدينة احتوت على العديد من الأسواق والمساجد والبيوت كلها بنيت بالحجر الكلسي الأبيض والرخام. وقد بينت الحفريات لأحد أسواق المدينة كيف أن محلاته ودكاكينه بنيت على شكل مستطيلات أمام المسجد الأبيض ، وكشفت أيضاً عن خزانة من العملات الذهبية ترجع إلى القرن العاشر الميلادي وتحمل نقش شجرة النخيل، رمز سكة الرملة.

وقد كشف الحفريات أيضاً عن خوابي مستطيلة الشكل كبيرة تحتوي على آثار صبغة حمراء اللون كانت تستعمل لصبغ الأقمشة، والتي كانت مصدر أكثر ثراء المدينة. ودلائل أخرى على النشاطات الصناعية في المدينة وجدت في بقايا أربعة محلات للخزف على الأقل، وتحتوي على قوالب مصابيح، وهروات وصوانٍ تحتوي على طبقة عازلة لامعة وملونة. ويبدو ازدهار المدينة واضح أيضاً من الهندسة المعمارية فيها، حيث تظهر مجموعات من النقوش الهندسية على البيوت.

كل هذا يجعلها نتعجب عن سبب تدهور مدينة الرملة بهذا الشكل السريع والذي يوحي أن المدينة قد هجرت في نهاية القرن الحادي عشر! لعل أحد أسباب هذه التدهور هو التجزئة السياسية لتلك الحقبة التاريخية حيث جعلتها هدفاً بين عدة جيوش متصارعة. وسبب آخر قد يشير إلى العديد من الزلازل التي ذكرناها، لكن كلا هذين العاملين يجب أن يكونا قد أثَّرا على بقية المدن في المنطقة التي استطاعت أن تسترد وضعها الأول. تشير الأبحاث الحديثة أن تدهور المدينة على الأرجح هو نتيجة اعتمادها على نظام مائي اصطناعي هش.

ليس لمدينة الرملة مصدر طبيعي للماء، وكانت تستمد ماءها عن طريق شبكة من القنوات، كان أهمها قناة بنت الكافر، والتي تشبه نهر بردى الذي يجري في وسط مدينة دمشق. وقد اكتشفت آثار لهذه القناة في الحقول الواقعة إلى شرق وجنوب المدينة وهي تمتد لمسافة أكثر من 15 كيلومتراً. وهذه القناة تزود بالماء سلسلة من الأحواض ، حيث أن أشهرها كان حوض أو بركة العنازية، والتي ما زالت موجودة إلى الآن في الناحية الشمالية من المدينة القديمة. وهذه البركة تحوي نقوشاً محفورة في الجص يرجع تاريخها إلى عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد (786-809م). هذه البركة مغطاة بستة أعمدة ذات قناطر معتمدة على أرصفة مصلبة، وهي مهمة كما هو معروف من الاستعمالات السابقة والمستمرة للأقواس القوطية المحدبة.

من الواضح أن مثل هذا النظام المائي المحكم كان مكلفاً، وأنه كان يتطلب جواً سياسياً مستقراً مع استثمار الدولة في متابعة العناية به. ولكن ، وبمجيء القرن الحادي عشر الميلادي، لم تعد هذه هي الحال. لقد وصف الرحالة الفارسي ناصر خسرو (1003-1060م) كيف أن بيوت الرملة كان لها ماؤها الخاص بها، لأنه لم يكن هناك مصدر يعتمد عليه. ومما يؤكد الحالة المتردية لبرك الماء العامة في الرملة هو ما يرويه الرحالة الفرنسي جونفيل في القرن الثالث عشر الميلادي ، عندما وصف المناوشات بين الصليبيين والمسلمين قرب الرملة عندما وقع رجل وخيول ثلاثة في إحدى البرك المهملة.

إن مسألة ازدهار الرملة السريع وترديها ربما يحمل في طياته مضامين لسكان المنطقة الحاليين الذين هم أيضاً معتمدين على نظام مائي غير طبيعي للاستمرار في حياتهم.



مقتبس من مجلة التاريخ اليوم، عدد شهر مايو 2004

بقلم: أندرو بترسون

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:08 AM
المنطلق الأساسي في التاريخ الإسلامي

للأستاذ محمود شاكر


--------------------------------------------------------------------------------

الخلفاء

إن الخلفية التي لدينا عن كثير من الخلفاء غير صحيحة، وهي مهزوزة جداً وذلك لأننا أخذناها مما درسنا من كتب ليست بذات ثقة، وكُتبت بأيدٍ مغرضة كانت معادية للمسلمين الذين تسلموا الخلافة سواء أكانوا راشدين أم أمويين أم عباسيين. وكثيراً ما وصلت إلينا حياة الخلفاء من جانب واحد وغالباً ما يتعارض مع المنصب الذي يتسلّمه. فالخليفة ليس رجل حكمٍ فقط يجلس في مركز الخلافة يُعطي الأوامر، ويجيب على الرسائل، يتلقّى التهاني، ويستمع إلى الشعراء يكيلون له الثناء، وهذا الجانب الذي دُوِّنَ لنا وشُوِّه أيضاً، وإنما كان الخليفة إمامَ المسلمين في الصلاة، وخطيبهم في الجمع والأعياد، وقائدهم في الجهاد، والمفتي للخاصة، والمسؤول من العامة، يستنبط من الأحكام، ويُناقش الفقهاء، ويتداول الرأي مع العلماء وهذا الجانب لم يرد إلينا من هلال ما كُتِب لنا، ونحن -مع الأسف- لم نفكّر فيه أبداً، واكتفينا بما قرأنا، وقرأنا ذلك مكرّراً في عدد من الكتب وعلى مستوياتٍ مختلفة حتى رسخت هذه الصورة في عقولنا، بل ونُقِشَتْ في أفكارنا وأصبح من الصعب التخلّص منها.

الدولة الأموية

لننظُرْ إلى الجانب الثاني جانب مقتضيات منصب الخلافة من الإمامة، والخطابة، والقيادة، ولْننظُرْ إلى أحد هؤلاء الخلفاء وليكُن يزيد بن معاوية الذي لا تزيد الخَلفية عنه أنه كان من عامة الناس غير مُبالٍ بشؤون الحكم، فلما آل إليه السلطان تسلّمه ولم يحسن التصرّفَ به، فوقعت أحداث أساءت إليه، وإلى أسرته، وكانت سبباً في شنّ الهجوم عليه وعلى آله حتّى مات غير مَأسوف عليه. هذه النظرة العامة إليه دون الحديث عما بالغ في ذلك مبغضوه. ولكن لننظر إلى مركزه الذي تسلّمه في ذلك العصر الذي يضمّ كثيراً من الصحابة، ومعظمه من التابعين، ولنأخذ المرحلة التي سبقت خلافته. لقد أرسله أبوه سنة خمسين للهجرة على رأس حملة كبيرة لدعم المجاهدين الذين يحاصرون القسطنطينية، لقد سار على رأس الحملة وفيها عدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمثال أبي أيوب الأنصاري، وعبادة بن الصامت، وأوس بن شدّاد، وعبد الله بن عمر ابن الخطاب، وعبد الله بن عبّاس بن عبد المطلب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهم جميعاً. فكان يزيد قائدهم، وخطيبهم، وإمامهم فما طعن أحد منهم في قيادته، ولا تكلّم أحد عن إمامته، ولا انتقده أحدهم في خطبته، واستمرت الحملة على ما يزيد على ثمانية شهور، ولو طعن أحد في ناحية من نواحي حياة يزيد أو إمامته أو قيادته أو خطبه لعجّت الكتب بذلك، ولضجّ الرافضةُ في هذا الموضوع،ولكن لم يحدث شيء.

وجاء عهده بالخلافة واستمرّ ما يزيد على أربع سنوات، وكان يمارس خلالها كل ما يمارسه الخليفة ولم يحدث أي طعن فيه أو انتقاد له، ومع هذا فلا نقول: إنّه كان الخليفة المثالي، لا، وإنما كان أحد ملوك المسلمين، فلا يُحَبّ ولا يُسَبّ -كما قال عنه ابن تيمية رحمه الله- فلم تكن أيامه فجوراً فيُسَبّ، ولا أيام عدل ورخاء فيُحبّ، ولم تنطلق في عهده الفتوحات فيُثْنى عليه. وإنما كان ملكاً عادياً. وقد وقعت في عهده حادثتان كان لهما أكبر الأثر في توجبه اللوم عليه وانتقاده وهما: حداثة كربلاء التي استشهد فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما، ووقعة الحرّة ودخول المدينة المنوّرة من قبل جنده. وإذا كان بعضهم يحمّل المسؤولية للقادة لصعوبة الاتصال معهم في تلك الأيام، إلاّ أنّه كخليفة يتحمّل القسط الأكبر من المسؤولية، ولكن لا نُغالي في الكلام عنه كما تفعل الرافضة.

وكما طُعِنَ في يزيد بن معاوية طُعِنَ في بقية خلفاء بني أمية لم يُستَثْنَ منهم خليفة واحد، اللهم إلا إذا كان عمر بن عبد العزيز، وهذا لم يُطعَن، به لصلاحه كما يتصوّر بعضهم، وإنما لِقِصَرِ مدّة خلافته التي لم تزد علي السنتين (99-101 هـ)، ولأنّ الذين يوجّهون الطُّعون أرادوا أن يظهروا بالعدل والإنصاف إذا استثنوا بعض الخلفاء، ومع ذلك كنا نسمع من المدرسين العلمانيين على هذا الخليفة الصالح أنه أراد تطبيق الإسلام وقد نسي أنه قد مضى عليه قرن من الزمن، الأمر الذي يدلّ على غبائه.

وعدمُ تَرْكِ خليفةٍ دون هجوم عليه لأنّ الطعن لم يكن موجّهاً بالحقيقة إلى أشخاصٍ بأعينهم، وإنما كان القصد الهجوم على الإسلام من خلال الطعن بالخلفاء والمسؤولين عن الدولة لذا جاء الهجوم عاماً، وإن كان يختلف من خليفة إلى آخر حسبما يجدون من ثغرات أو بالأصح حيث يجدون منفذاً يَلِجونَ منه وينفثون في داخله من سمومهم. فالخليفة الذي تقع في عهده أحداث يمكن الدسّ من خلالها يأخذون بالافتراء والكذب، فمثلاً: موت الحسن بن علي بن أبي طالب، وموت الأشتر النخعي، ومقتل حجر بن عدي، وبيعة خليفة قبل موت الخليفة القائم خوفاً من الأحداث، كل هذه الوقائع يتّهمون فيها معاوية بن أبي سفيان، ويهاجمونه أعنف الهجوم، وينسون صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفتوحات في عهده، وحسنَ إدارته، وحكمته.

ويزيد بن معاوية طعنوا فيه من خلال حادثتي كربلاء، ووقعة الحرّة.

وهشام بن عبد الملك من خلال ثورة زيد ين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وابنه يحيى ابن زيد.

ومن لم تقع في عهده أحداثٌ يهاجمونه من خلال وُلاتِهِ، كما هي حال عبد الملك بن مروان الذين يسلّطون الأضواء في عهده على شدّة الحجّاج بن يوسف الثقفي.

وإذا مات خليفةٌ صغيراً اتّهموا به من بعدَه بقتله، حيث اتّهموا يزيد بن عبد الملك بدَسّ السّمّ لعمر ابن عبد العزيز، وإذا كان الخليفة ضعيفاً لم يهاجموه على ضعفه بل اتّهموه بالخَنا والمجون، وتأثير النساء عليه، والجري وراء شهواته، كالوليد بن يزيد.

وإذا مات قائد ولو بلغ من السنّ عِتيَّاً اتّهموا الخليفة به، فسليمان بن عبد الملك رثى لحال موسى بن نصير قائد الفتح في الأندلس الذي يُلقي بنفسه في المعارك، وقد زادت سنّه على الثمانين، فأراد إكرامه والإفادة من خبراته، فاستقدمه إلى دمشق واصطحبه معه لأداء فريضة الحجّ فوافاه أجله في المدينة فاتّهموا الخليفة بالخلاص منه.

حتّى لم ينجُ منهم معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية الذي تنازل عن الخلافة وجعلها شورى للمسلمين كما يجب أن يفعله كل مسلم، فوجّهوا إليه سهام الضعف وعدم القدرة. ووجدوا أن مروان ابن محمد قد جاء إلى دمشق وأنهى موضوع الصراع على السلطة، وتسلّم الخلافة، وأخذ الأمر بالحزم، ولكن حطّت به الأيام للضعف الذي كانت قد وصلت إليه دولته وقوة خصمها الجديد اليانع العنيد فهاجموه، ولِقُوَّتِهِ أطلقوا عليه ‘الحمار’. فالضعيفُ جبانٌ، والقويُّ حِمارٌ، ومن مات في عهدهم كانوا هم ملك الموت، والذين يوزّعون بطاقات الموت، و...

وعبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي عَدُّوهُ ثائِراً، ولم يَجِدوا ثَغْرَةً في سُلوكهِ فاتَّهَموه بالبُخلِ.

بنى عبد الملك فكان عند الأعداء بِناءً سياسيّاً لتحويل المسلمين من الحجّ إلى مكة إلى الحجّ إلى بيت المقدس، وعدّوا ما جاء من أحاديث صحيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في شدِّ الرِّحال إلى المسجد الأقصى موضوعةً ونسبوها للزُّهري الذي وضعها تزلُّفاً لبني مروان.

وبنى الوليد بن عبد الملك فعدُّوا ذلك تبذيراً وإسرافاً.

وبهذا لم يسلم أحد من أقلام الحاقدين وألسنة المغرضين، وهذا أمر طبيعي ما داموا أعداءً للإسلام. ولكن الغريب كل الغرابة أن يكون ما تُدَوِّنُه أقلامهم ثقافةً لأجيالنا الذين يريدون أن يُواجهونهم فكريَّاً، وأن تكون مواطن فخر أحفادنا في التاريخ من تدوين أعدائهم، وأن يكون الجيلُ الثاني لتطبيق الإسلام أوّلَ من تخلّى عنه، بل إنّ كثيراً من الجيل الأوّل قد شهد هذا الابتعاد عنه ووافق عليه.

علينا أن ننظر في هذه الوقائع والأحداث، ونرى رُواتَها ومدى الثقة بهم، ونفسّرها بعد ذلك تفسيراً إيمانياً حسب منطلقات الأمة ونرى ما يتّفق مع هذه المنطلقات وما يتباين معها، فالأحداث ليست سوى ترجمة للمنطلقات وتطبيقاً لها.

الدولة العبّاسيّة

إنّ الذي شَنُّوا هجماتهم على الدولة الأموية هم أنفسهم الذين طعنوا في خلفاء بني العبَّاس، ولا شكّ أنّ الهجوم لا يكون على الضعفاء الذين لا يَأْبَهُ بهم أحدٌ، وإنّما على الأقوياء الذين يؤثِّرون في المجتمعات، ويكونوا أنموذجاً لتطبيق منطلقات الأمة، ومن هنا كان الهجوم على خلفاء الدور الأول من العهد العباسي.

لقد خرقوا سِترَ هارون الرشيد ووصلوا إلى المكان الذي لا تصل إليه إلاّ زوجاته، ونظروا في موضع سرّه الذي لا يعلمه إلاّ اللهُ وزوجاتُه، واختلقوا قصصاً واضحةَ الكذب، وربّما كانت هي السبب في اكتشاف أكاذيب الذين عملوا في تدوين التاريخ من أعداء الإسلام لما فيها من وضع مكشوفٍ وخاصة فيما يتعلّق بأبي نوّاس الذي لم يره الرشيد طوال حياته مع أن قصصه معه هي الشائعة وتكاد تكون من المسَلَّمات بها!

وإذا كان هؤلاء قد توصّلوا إلى داخل بيت الرشيد فرأوا ما لم يعلمه إلاّ الله وأذاعوه على الناس لكنهم في الوقت نفسه قد عموا عما يراه الناس جميعاً وأخفوه، لقد أعماهم اللهُ عن جهاده، وعن حجِّه، وعن بكائه من خشية الله عندما يذكِّرُهُ أهلُ التقوى بالله... وسكتوا عن هذا... ليفضحَ اللهُ أمرَهم.

ولم يكن هارون الرشيد ضحيَّتَهم الوحيدة، بل لم تترك ألسنتُهم أحداً من العباسيين كما لم تبتعد عن أحد من أبناء عمومتهم الأمويين السابقين لهم في السلطة، حتى لِيَتَّضِحَ أنّ الهدفَ لم يكن الخلفاء وإنما كان الإسلام الذي يمثّله الخلفاءُ.

الشعراء
كان الشاعر سِجِلَ ذاته، وسجل معاصريه، وسجل عصره، ولو كان كل شاعر قد برع في فن، وبه عُرف واشتهر، وبذلك تباين الشعراء واختلفوا، كما اختلفوا في قول الصدق، وحسن السريرة، فمنهم المسلم الذي نذر حياته للدفاع عن الإسلام والردّ على المشركين، وذلك في أيام الإسلام الأولى كحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، و... ومنهم من أخذ ينافح في تلك المرحلة عن الجاهلية،وأوثانها، وسدنتها، وسادتها الكفار. وفي عصر بني أمية أخذ بعض الشعراء اتجاهات معينة، وأكثرهم يمدحون من يحبون منهم محبة وصدقاً، ومنهم نوالاً واستجداءً، ويبدو أن هذا الصنف هو الذي يظهر في كل عصر وسيبقى ما دام التزلّف قائماً، وما دام حب المال والمنصب موجوداً. كما أن هناك الحكيم والهجَّاء، ومن انصرف إلى الغزل يرضي بذلك نفسه وهواه لا يبغي وراءهما شيئاً، ومنهم من يسير مع المجاهدين تفيض نفسه حباً بقتال الطغاة ويطلب نيل الشهادة فيدوّن مبتغاه.

غير أن هناك صنفاً آخر من الشعراء، وهو الذي لا يستطيع أن يجاهر بما يؤمن به إن كان يخالف عقيدة المجتمع، فما ينظمه من شعر يبقى سرَّاً حتى ينكشف أمره بعد حين سواء أكان عاجلاً في حياته فينال عقابه، أم آجلاً بعد وفاته فيُعرف ما كان عليه. وقد لا يستطيع الشاعر أيضاً أن يُظهر ما ينظمه من شعر عندما يسبح في خياله بعيداً يتتبع عورات الناس أو يشبّب في نساء المجتمع الفاضلات، فهو يسير وراء شيطان شعره، ويتكلم وينظم من الشعر ما شاء له هواه، ولكن يبقى هذا سرَّاً حتى ينكشف أمره بعد حين، وهذا الصنف من هؤلاء الشعراء هو الذي أعنيه وأقصده لا سواه.

إن وجود شاعر واحد أو أكثر في بيئة معينة من هذا النوع لا يعني فساد هذه البيئة بل ربما الشاعر نفسه لم يكن سيئاً ما دام الكلام لم يخرج إلى حيّز التنفيذ، وإنما يبقى مكتوباً على الورق ومكتوماً في النفس، فما هو إلا ارتسام في الخيال، بل لو كان الشاعر فاسداً، إلا أن الأمر سريّ فلا فاحشة تشيع ولا حرمات تنتهك، وهو في وسط مجتمع واسع لا يعادل شيئاً ولا يدل على طبيعة المجتمع وصلاحه أو فساده فالبيئة لا يُحكم عليها من خلال فرد واحد.

ومن ناحية ثانية لو أن شاعراً لمح ابنة الخليفة أو رآها فهامَ بها، وأخذ ينظم الشعر بها، ويسبح في خياله بلقاءات معها، وهي لا تدري، فهل نحكم من خلال شعره بعد زمن على أخلاقها ونتّهمها بالسوء وأنه كانت لقاءات بينهما وأنها كانت تبادله العواطف نفسها، وتسعى على الاجتماع به، وتحبك الحيل في ذلك؟ وأن الاجتماعات كانت تتمّ ليلاً في غرفة دار الخلافة، أو في الحرم حيث يستحيل ذلك. أقول يستحيل لأن الحرم مكان مقدّس لا يُسمح بأن يحدث فيه مثل هذا في أكثر الأوقات تحرُّراً من القيم الدينية، وربما قُتل من حاول العبث فيه بأيدي من فيه من الحجاج والمعتمرين، وهو لا يخلو في وقت من الأوقات من أعداد كثيرة من المسلمين يؤدُّون فيه بعض المناسك سواء أكان ذلك في الموسم أم في غيره، وإن كان في الموسم أكثر بكثير، فما بالك في عصر الإسلام حيث كانت الحماسة للعقيدة أكثر، والتقيُّد بقيم الإسلام واحترام الآداب أكبر.

وهذا شأن عمر بن أبي ربيعة المخزومي الذي حُكِمَ على المجتمع الإسلامي من خلال شعره الذي لم يتعدَّ أن يكون شعراً خيالياً نسَجَهُ في خياله ونظَمَه شِعراً، ووُجِد بعد وفاته، وربّما اطلع عليه في حياته بعض خلاّنه فشاع الشعر وانتشر، وحكموا على صحّة ما جاء فيه على الرغم من أن أبسط العقول تتنبّه إلى أنه خيال لم يتعدّ ذلك، ولكن المغرضين يريدون غير ذلك، يريدون التهديم والطعن في الحكم القائم يومذاك وتصويره أنه بعيد عن الإسلام كل البعد، وبعدها يريدون الطعن في الإسلام على أنه غير صالح للحكم إذ لم تلبث أن انهارت دعائمه، وابتعد أهله عن المثاليات التي جاء بها، واتجه الناس أول ما اتجهوا إلى اللهو والعبث في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مكة المكرمة، بل وفي الحرم أكثر الأماكن قدسيَّةً.

ومما يظهر أن الأمر خيالي تماماً:

1- ما جاء في ديوان عمر بن أبي ربيعة نفسه أثناء الكلام عن مناسبة نظم بعض القصائد، فقد ورد أن ابن أبي عتيق قد وصف لعمر بن أبي ربيعة عقلَ ابنة عمه زينب بنت موسى الجمحية وأدبها وجمالها فشُغِفَ بها وفُتِنَ دون أن يراها، ونظم فيها القصائد الطوال.

2- إن اللواتي ذكرهن في شعره هن كل السيّدات المعروفات في مجتمعه، ومن أشهرهن: سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله التي أمها أمّ كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وسعدى بنت عبد الرحمن بن عوف، ولُبابة بنت عبد الله بن العباس، وفاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز، ورملة بنت مروان بن الحكم، وأم محمد بنت مروان بن الحكم، وفاطمة بنت محمد بن الأشعث، سكينة بنت خالد بن مصعب، كلثُم بنت سعد المخزومية، الثريا بنت عبد الله بن الحارث ابن أمية الأصغر، وهي زوج سهيل بن عبد العزيز بن مروان، ونُعَم الجمحية، ورملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية، وزينب بنت موسى الجمحية. فهل كان على صلة بهن كلهن؟ ويعني إن كان ذلك أن المجتمع كله عابث فاسد، وقد زال كل أثر للإيمان منه، وهذا ما يريد أن يتوصل إليه أعداء الإسلام لذلك يروّجون هذا الشعر ويؤكّدون عليه. وما هو في الواقع إلا شيطان شاعرٍ يسبح في الخيال.

3- كان بعض من ذكرهن بعيدات عنه كلّ البعد، وربما بعضهن من لم يرهنّ في حياته، فقد كانت سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة تعيشان في العراق مع زوجهما مصعب بن الزبير، وكانت فاطمة بنت مروان تعيش في مصر والشام، وكانت أم محمد بنت مروان تعيش في مصر، وربما سمع عن إحداهن فنظم الشعر بها- كما قلنا-.

4- مجيء أخت الخليفة عبد الملك بن مروان إلى الموسم وحدها، وهي رملة، لتلتقي بعمر بن أبي ربيعة. متى كانت الأعراف تسمح أن تسير أخت الخليفة وحدها؟ ومتى كان يحدث هذا؟

متى وجِدت امرأة في تاريخ البشرية تنطلق من دمشق إلى مكة وحدها، تنطلق مسافة ألفي كيلومتر في الفيافي والقفار؟

ومن المعلوم أن المرأة المسلمة لا يصحّ أن تحجّ دون محرِم، ووجود المُحرِم شرط أساسي للحجّ أو العمرة، ويُعدّ عدم وجوده عدم استطاعة الحج، وتعتَبر المرأة غير مكلَّفة بأداء الفريضة حينذاك.

5- البيت الحرام أكثر بقاع الأرض قدسية فهل يمكن للمسلمين أن يتخذوه مكاناً للهو والعبث؟ وهل يمكن للمسلمين أن يروا رجلاً أو امرأة يعبث هناك ويسكتون عنه، وخاصة إن كان ذلك العبث من هذا النوع الرخيص؟ وإنه ليلفت الانتباه كثيراً لأنه مع سيدات معروفات تتجه نحوهن الأنظار.

6- إن آباء هذه السيدات التي يُعبَث بهن ويعبثن هم من ذؤابة القوم، فهل يقبلوا أن تُداس كرامتهم، وهم يسمعون، وتنتهك حرماتهم وهم ينظرون، وبيدهم الأمر، فمنهم الخليفة، ومنهم الوالي، ومنهم السيد المطاع، ومنهم جليل القدر المحترم بين الناس جميعاً.

وهذا كله يدل على أن عمر بن أبي ربيعة كان يتغزّل بهذه النساء بالخيال، وينظم الشعر فيهن من السماع، ولم يُعرف هذا الشعر إلا بعد مدّة ولا ندري لعله أُضيف إليه الكثير من الشعر المنحول؟ ولو كان عُرف هذا الشعر في أيام عمر بن أبي ربيعة لنال جزاءه مباشرة من الخليفة الذي هتك عرضه أو من السادة الذين هتك سترهم و....

وجاء المغرضون من الرافضة ووجدوا فيه ضالّتهم إذ وجَّهوا سهامهم على حكم بني أمية، واتهموهم بالإساءة والإفساد حتى قالوا إن الغزل والغناء قد دخل في أيامهم مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تجاوز ذلك فوصل العبث داخل بيت الله الحرام من عمر بن أبي ربيعة وبعض نساء قريش، وادَّعوا أن بني أمية قد سكتوا على ذلك، وغضُّوا الطرف عنه في ذلك، وقبل المجتمع هذا الانفتاح لتشجيع الحكام له، والحكم بالدرجة الأولى، ثم من وراء ذلك كله الإسلام.

والغريب أن المسلمين لم يردّوا على ذلك بل يبدو أنهم قبلوه، وغدوا يتناقلونه، ثم أصبحوا يدرسونه، ويعدّون أن المجتمع الإسلامي قد أخذ يبتعد عن القيم التي يُمْليها عليه دينه، ويطعنون في بني أمية ولم يدروا أنهم يهاجمون الإسلام، ولا تزال المدارس والجامعات في العالم الإسلامي تدرس هذا، ولم يحاول النقّاد التعرّض لهذا لأنهم لم ينتبهوا إلى المنطلقات الإسلامية بل هذا لا يهمّهم، وإن الذين يهمُّهم الأمر إنما هم الدعاة من أساتذة الأدب ولكنهم لم يصلوا إلى هذا الجانب حيث لا يزالون يردِّدون ما تعلَّموه.

وقد آن الأوان لتُجلَى فيه الحقيقة ويجب على كل مسلم أن يسدّ الثغرة التي يقف عليها، لتأخذ الصحوة الفعلية مكانها وتتخطّى الصحوة الكلامية.

القادة
ولعل طارق بن زياد من القادة الذين تحدث عنهم المؤرخون من جانب الأدب فقط أو من جانب القيادة فقط فوقعوا في أخطاء كبيرة لأنهم لم يبحثوا عن المنطلقات العقيدية.

خطبة طارق

قالوا لا يمكن أن يقولها رجل بربري، لم يمضِ على إسلامه إلا قليلاً، ولم يخالط العرب إلا يسيراً، إذ كان مولىً لموسى بن نصير. ولنذكر الخطبة من أكثر المصادر إطناباً فيها، وأكثرها إظهاراً لبيانها، وأوسعها تبياناً لقوة معانيها، وهي مما رواه أحمد المقري التلمساني في كتابه (نفح الطيب).

(أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم، وليس لكم -والله- إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوّكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم -ولم تُنجزوا لكم أمراً- ذهبت ريحكم، وتعوَّضت قلوبكم من رُعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم بأمر أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم دوني على خطة أرخص متاعٍ فيها النفوس. أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفه الألذّ طويلاً، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكم لملوك هذه الأرض أصهاراً وأختاناً، ثقةً منه بارتياحكم للطعان، وسماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ودون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي إنجازكم على ما يكون لكم ذكر في الدارين.

واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم (لذريق) فقاتِلُه -إن شاء الله تعالى- فاحملوا معي،فإن هلكت بعده فقد كُفيتُم أمره، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه، و إن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهمّ من فتح هذه الجزيرة بقتله).

قالوا إن طارقاً بربري حديث الاستعراب لا يمكنه أن يقول مثل هذه الخطبة ارتجالاً، تذكروا هذا ونسوا أن أباه هو الذي استعرب، وهو مسلم أصلاً، ونشأ طارق في وسط عربي عند موسى بن نصير. قالوا هذا، ونسوا أهم نقطة، وهي كلمة الفصل، وهي أن طارقاً قائد الجيش، وإمامهم في الصلاة، وخطيبهم في الجمعة والأعياد، وفي كل ميدانٍ يقتضي فيه الحديث والكلام، وهذا واجب على قائد الجيش، ولا تصح إمرة مَن لا تتوفر فيه هذه الصفات إذ فيها مخالفة للمنطلقات الإسلامية. ولا يمكن لموسى بن نصير أن يختاره للقيادة إذا كانت لا تتوفر فيه هذه المؤهلات، وهو أدرى الناس به.

وأغرب من هذا أن يقول أحدهم: كيف تكون هذه خطبة لقائد أكثر جيشه من البربر، وأن يرتجلها ارتجالاً. وهل خطيب الجمعة يتكلم بالعامية إن كان أكثر الحضور من العامة؟ وهل يصعب عليه أن يرتجل خطبة كهذه وهو خطيب الجمعة والأعياد وقد تمرّس على الكلام والارتجال؟

تكلم الأدباء عن بيان الخطبة وأسلوبها، والعصر الذي وُضِعت فيه، وعدم إمكانية طارق بن زياد البربري الحديث بالعربية أن يقول مثلها، وكتب المؤرخون عن شبهها بأساطير كثيرة عندما يكون النصر كبيراً، إذ لم يكن جيش المسلمين ليزيد على اثنتي عشر ألفاً، على حين كان جيش (القوط) يزيد على المائة ألف، وقالوا: إن الفرس عندما دخلوا اليمن بقيادة (وهرز) مع سيف بن ذي يزن قد نسبوا لقائدهم مثل هذه الخطبة، كما نسبوا له إحراق السفن، وأن الإسبان عندما دخلوا المكسيك مستعمرين نسبوا لقائدهم قولاً مثل كلام طارق، كما قالوا: إنه أحرق السفن. كما تكلموا عن تأخّر المؤرخين الذين نقلوها، وعدم ذكرها عند المؤرخين الأقدم زمناً، قالوا كل هذا، وناقشوا كل ذلك ولكن لم يتحدَّثوا عن أهم نقطة وهي أن طارقاً كان إمام الجند وخطيبهم، فليس غريباً أن تكون هذه الخطبة من كلام طارق بن زياد الذي مارس الإمامة والخطابة.

إحراق السفن

انطلق المسلمون إلى البلدان فاتحين. انطلقوا بروح إسلامية مجاهدين، وعلى هذا فإن ما يُنسب إلى قادتهم إنما يُنظَر إليه ويُحلل من وجهة نظر إسلامية، فإن انسجمت تصرفاتهم مع منطلقاتهم فهذا الأمر السليم، وإن اختلفت دُرِسَت حسب المنطلقات لتعرف أكان صحيحاً ما نُسب إليهم أم كذباً وافتراءً. لا شكّ قد تقع أخطاء فما من إنسان بعد الرسل بمعصوم، ولكن تُعرف مثل هذه الأخطاء وتشتهر لأن القادة يسألونهم عنها، والخلفاء يحاسبونهم عليها حتى ولو كانت تهمة أو شائعة فيبرّرون هم بأنفسهم تصرفاتهم، أو يلقون العقاب. فقد سئل خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكان تصرّفه في كلا الحالتين اجتهاداً، وهو اجتهاد في محله، وكان تصرُّف من تكلم عنه اجتهاداً، وهو في محله أيضاً، وقد سُكت عنه كذلك، وهذا شأن المسلمين.

ولنرجع إلى قضية سفن طارق، فإنه لم يقم بإحراقها أبداً، لا يمكن ذلك، ولو فعل لسُئل وحوسب وعوقب، فإن عملها يكلف الكثير من المال، ويستغرق الكثير من الوقت، ولم يُعرف عن المسلمين الأوائل إهدار المال وإضاعة ما قد أنشؤوه. وهذا الأساس بالموضوع والعلمية، ومع ذلك فلنناقش الموضوعَ منطقياً.

أ) لم يقل طارق أني أحرقت السفن أو أمرت بذلك، وإنما فهم بعض المتأخرين ذلك من خطبته (أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو من أمامكم...) فهموا من هذا الكلام أن البحر وراءهم وليس فيه وسيلة نقل تنقلهم إلى العدوة المغربية، وهو فهم فيه شيء من السقم.

ب) لم يقل أحد من جنده أو معاصريه عن هذا شيئاً، وإنما قيلت بعده بعدة قرون.

ج) السفن ليست ملكاً له ليتصرف بها كيف يشاء، فهي إما لـ (يولْيان) الذي قدم للمسلمين عدداً منها لنقلهم إلى العدوة الأندلسية لفتحها انتقاماً لنفسه من ملك القوط، وإما للمسلمين يحاسبه على تصرف قادتهم. فقد سئل خالد بن الوليد رضي الله عنه، عن إعطائه المال للأشعب الكندي لما أبداه من مهارة وتضحية في حرب الروم، وكان العطاء من ماله الخاص، ويقصد السائل -وهو أمير المؤمنين- أن في ذلك العطاء تبذيراً.

د) لم يحاسب طارقاً أحدٌ من قادته سواء أكان القائد العام موسى بن نصير أم الخليفة الوليد بن عبد الملك، مع العلم أن طارقاً كان مولىً لموسى بن نصير فليس له حق التصرّف الذي قد يفعله أبناء السادة المغرورين عند غير المسلمين.

هـ) ألا يمكنه أن يأمر بالسفن فتعود إلى العدوة المغربية فيصل إلى النتيجة نفسها؟ وهذا ما تم، وذلك أفضل من أن يقوم بإحراقها ويخسرها المسلمون.

و) لا يمكن لقائد واسع النظر أمثال طارق أن لا ينظر إلى المستقبل فيترك جيشه الصغير في بلاد الأندلس الواسعة، والتي من ورائها أوربا تدعمها، وبين مخالب دولة القوط الحاقدة المتربصة بالمسلمين التي تنتظر الفرصة لتعمل مخالبها فيهم.

ز) ألا يتوقَّع طارق مدداً؟ وهذا ما حدث، فعلى أي شيء يُنقل المدد، لقد انتقل المدد على السفن نفسها.

ح) من أين جاء موسى بن نصير بالسفن التي انتقل عليها إلى الأندلس مع بقية الجيش عندما خاف على المسلمين الذين توغّلوا بعيداً داخل الأندلس؟ لقد انتقل على السفن نفسها.

ط) لم تكن عملية إحراق السفن بالطريقة التي تُلقي الحماسة في نفوس المسلمين، لقد عُرف الموضوع عندهم بالتذكير بإحدى الحسينين، فلا شيء يدفعهم مثل ذلك، فهم من أجل هذا خرجوا، ولعلنا نذكر الآن ما قاله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مؤتة عندما رأى المسلمون كثرة الروم حيث كان يزيد جمعهم على مائتي ألف ولم يكن عدد المسلمين ليصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف، فتخوَّف الناس على الجيش، وأخذوا يدرسون الموقف، وكأن شيئاً قد وقع في نفوسهم، فقال لهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: "إنّ الذي تخافون للذي خرجتم تطلبون، والله ما انتصرنا بكثرة ولا بقوة سلاح وإنما بما نحمل بين أظهرنا.." فتشجع الناس وأقبلوا.

ك) إحراق السفن لا يفيد عندما يقع الهلع في النفوس. وقد كانت العرب في الجاهلية وربما بعض الأمم الأخرى إذا خرجوا للقتال أخذوا معهم نساءهم وأبناءهم كي لا يفرّوا خوفاً على النساء والذراري من أن تقع في السبي، ولكن إذا حمي الوطيس، واحمرت الحدق، ووقع الرعب في القلوب، فرّوا لا يلوون على شيء، وما غزوة حنين بخافية على أحد، إذ وقعت نساء وذراري هوازن في السبي حتى أخلى سبيلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن جاء أهلوهم أذلاء راجين العفو. فإذا كانت الذراري لا يلتفت إليها أهلها فهل يهم الخائف وجود سفن أو لا؟ إذ لا يفكر الخائف إلا بالنجاة من المأزق الذي هو فيه، وبعدها يبحث في طريق الوصول إلى المأمن.

إذن، لم يحرق طارق السفن، وبقيت لدى المسلمين، وانتقل المدد إلى الأندلس عليها، وانتقل قائدهم مع بقية الجيش إلى الأندلس عليها، وقضية إحراق السفن فرية وضعها بعضهم لإبراز فكرة التضحية والإقدام عند طارق، وروّجها أو أسهم في وضعها الذين لهم أهداف بعيدة في تشجيع المسلمين على مخالفة الإسلام، والقيام بمثل هذه الأعمال الانتحارية، وحرمان المسلمين من بعض وسائل الحرب لديهم بالتفريط فيها وإضاعتها.

طبخ لحوم القتلى

روى بعض المؤرخين قصة غريبة، ومنهم ابنُ القوطية في كتابه (افتتاح الأندلس)، وابنُ الكردبوس في كتابه (تاريخ الأندلس) مع أن الأول متَّهَم بالشعوبية وإعطاء صفات للقوط تفوق صفات غيرهم من الشعوب، فإن الثاني مولع بإيراد الغرائب والقصص المنسوجة من الخيال. ولْننقل ما قاله ابن الكردبوس: “ورحل لذريق قاصداً قرطبة يريد طارقاً، فلما تدانَيا، تخَيَّر لذريقُ رجلاً شجاعاً عارفاً بالحروب ومكائدها، وأمرَه أن يدخل في عسكر طارق فيرى صفاتهم وهيئاتهم، فمضى حتى دخل في محلة المسلمين، فأحس به طارق فأمر ببعض القتلى أن تقطع لحومهم وتُطبخ، فأخذ الناس القتلى فقطعوا لحومهم وطبخوها، ولم يشك رسولُ لذريق في أنهم يأكلونها. فلما جَنَّ الليلُ أمر طارق بهرق تلك اللحوم ودفنها، وذبْحِ بقرٍ وغنمٍ وجعل لحومها في تلك القدور. وأصبح الناس فنُودي فيهم بالاجتماع إلى الطعام فأكلوا عنده، ورسول لذريق يأكل معهم. فلما فرغوا انصرف الرسول إلى لذريق، وقال له: أتتك أمة تأكل لحوم الموتى من بني آدم، صفاتهم الصفات التي وجدناها في البيت المقفل، قد أحرقوا مراكبهم ووطَّنوا أنفسهم على الموت والفتح. فداخَلَ لذريق وجيشه من الجزع ما لم يظنّوا".

ومن الأمور الغريبة أن يخترع الإنسان قصة لغرض ما ولا يحبكها بشكل جيد حيث يتركها مخالفة للمنطلقات الأساسية التي قام عليها القائد إيماناً بها وإيمان أمته بها، وربما كان ذلك حكمة كي يفضح الله أمره. ومن الغريب أيضاً أن ينقل بعض الذين يدوّنون الأحداث التاريخية أمثال هذه القصص دون النظر فيها ومن غير البحث في صحتها، وإنما يكتفون بسرد الأحداث والقصة على أنها أمور مسلّم بصحتها، وأغرب من هذا وذاك أن ترد أمثال هذه القصص مباشرة دون مناقشة، ومن غير تعليق عليها، وأعتقد أنه من الأفضل ألا نورد أمثال هذه القصة ولا نناقشها إلا إذا كانت الكتب لمستويات معينة.

إن هذه القصة قد وردت إلينا عن طريق غير ثقة إذ ذكرها ابن القوطية وعنه نقلها بعض المؤرخين، وإن هذه القصة وأمثالها سواء اتُّخِذَت وسيلة للحيلة وإلقاء الرعب في نفوس الأعداء أم لغيره فإنها لا تصح، لأن تقطيع لحوم الموتى والعبث فيها إنما هو نوع من المُثْلة وهو لا يصح في ديننا إذ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.

إن أول عمل يقوم به المسلمون بعد انتهاء المعركة وقبل غسل السيوف ومسحها إنما هو دفن الموتى، سواء أكانوا شهداءهم أم قتلى أعدائهم، ولكن القصة تروي أن الجاسوس قد جاء والجثث لا تزال ملقاة على الأرض، فهل جاء أثناء المعركة؟ هل جاء والمسلمون جالسون بين القتلى تنطلق منهم الروائح؟ أم..

ولم تحدّد القصة هوية الجاسوس زيادة في الغموض، ولكن يستبعد أن يكون من القوط لأنه لا يمكن أن يدخل إنسان عسكراً لا يعرف لغتهم، ولا يطَّلع على أوضاعهم، ويجلس ليأكل معهم في الصباح، ولم ينتبه أحد إليه، إذ لم ينتبه إلا القائد، فهل جاء يعرض نفسه على القائد، ويعرّف بنفسه؟ غير أن سرْد الرواية يدل على أنه من القوط إذ تقول: "تخير لذريق رجلاً شجاعاً عارفاً بالحروب ومكائدها" حيث يعني هذا أنه يعرفه حق المعرفة وهو من جنده وهذا يستحيل، وهذا ما يوضح كذب القصة من أساسها. والمفروض في حالة كهذه إن كانت صحيحة أن يكون رجلاً من البربر مقرّباً إلى لذريق، وهذا مالا تورده القصة لأنها غير صحيحة. فلو ذكرت ذلك لكانت أقرب إلى التصديق، ومع ذلك فهناك اعتراض قوي إذ لا يمكن لبربري غريب أن يدخل في مجموعة من البربر انتقلوا مجاهدين وكل منهم يعرف الآخر لقلة عددهم، وكل مجموعة يعرف أفرادها بعضهم بعضاً، ويمكن أن يُكشف أمره مباشرة.

كانت أخبار المسلمين تسبق جيوشهم الفاتحة، وكانت أخبار أخلاقهم وسلوكياتهم تملأ المنطقة قبل أن تطرقها أقدام الفاتحين، ويبقى المسلمون في المغرب أكثر من أربعين سنة وهم في صراع مع الروم، ومع المتعصبين من البربر، وحاكم الأندلس على مقربة منهم ولا يعرف عنهم شيئاً، ولو كانوا يأكلون لحوم الموتى ويقتاتون بجثث قتلى حروبهم لذاع هذا الخبر وانتشر ولعمّ العالم يومذاك، ولساعد هذا على الوقوف في وجههم، ولو أن القتلى لا يؤلمها تقطيع لحومها، ولكن يقفون أمامهم لهذه لوحشية. فالقصة عارية عن الصحة تماماً.

لو كانت القصة صحيحةً لكانت مخالفة واضحة من القائد طارق، ولضجّ بها الجند، ووصلت إلى القيادة بل وإلى أمير المؤمنين، ولسُئِل طارق وحوسب، ونال ما يستحق من عقوبة عل هذه المخالفة لتعاليم الإسلام -إذ ليس غريباً أن تقع مخالفة أو يرتكب قائد خطأ فهو ليس بمعصوم-، غير أنه لم تكلم أحد في هذا القصة ممن كان في جنده، أو من الثقة في ذلك العصر،ولم يُسأل طارق، ولم يحدث ما يُشير من قريب أو من بعيد عن وقوع القصة. وقد دوَّنها فقط ووصلت إلينا عن طريق غير الثقاة. فالحادثة مختَلَقَة لا صحة لها أبداً.

لقد وُضِعت هذه القصة من أناس يمتُّون إلى القوط بصلة، وقد هالهم ذلك النصر العظيم، نصر اثني عشر ألفاً على مائة ألف، فأرادوا أن يخفِّفوا من أثر ذلك النصر، ويجدوا المبررات للقوط في تلك الهزيمة المخزية بأنه قد وقع من الرعب في نفوسهم الشيء الكثير بالحيلة والخديعة التي لجأ إليها طارق، وما كانوا ليُهزَموا لولا تلك الحيلة. فنصر المسلمين كان نصر خديعة، لا نصر قوة وشجاعة وتضحية وفداء، وهزيمة القوط لم تكن هزيمة ضعف وخوار وإنما كانت هزيمة حيلة ومكر، ولم تكن تعوزهم الشجاعة ولا الدفاع المستميت عن أوطانهم.

وقد ساير بعض المسلمين رواة هذه القصة في قبولها، ونظروا إليها نظرة ثانية مخالفة لنظرة القوط ومَن دافع عنهم وشايعهم، حيث نظروا إليها من جانب ذكاء القائد المسلم ومعرفته بنفسية القوط، واللقاء بهم بعد أن زعزع الروح المعنوية عندهم بإلقاء الرعب في نفوسهم، والصدام معهم بهذه القلة التي معه مع كثرتهم إنما هي نوع من أنواع التضحية والفداء، واعتماداً على الروح المعنوية العالية عند جنده في حب الجهاد والنيل بإحدى الحسنيين، وضعف الروح المعنوية عند خصمه استطاع إحراز النصر. وهذا التحليل أو التعليل غير صحيح لأنه مخالف للمنطلقات التي لا تقبل التمثيل بالأعداء ولا بجثث الشهداء من الأصدقاء، لذا فهي مرفوضة، والقصة غير مقبولة، وهي من وضع الذين أحبّوا الدفاع عن القوط بمحاولة إيجاد مبررات لهزيمتهم النكراء.

ولقد كان انتصار المسلمين بإذن الله بما وضع في نفوسهم من روح معنوية عالية في حب الجهاد والاندفاع نحو الأعداء لتحقيق النصر أو لنيل الشهادة، فكتب لهم النصر، وأعطى رتبة الشهادة من استحقّها.

لقد كان قادة المسلمين الأوائل أئمة جندهم وخطباءهم، والمفتين لهم، والمرجع لهم في أمور الدين، لذل فقد كانوا على معرفة بكتاب الله وسنة نبيه وسلوك صحابته، وعلى علم باللغة العربية لإمكانية الاستنباط، لذا فإن القادة الأوائل كانوا جميعاً من العرب ولا يمكن أن يكونوا إلا كذلك، وما فعله الأمويون من تولية الولاة، وإعطاء القيادات للعرب لم يكن إلا بحكم الضرورة للمحافظة على المنطلقات الإسلامية، ولم يكن تعصباً للجنس العربي أبداً. ولقد كان طارق بن زياد من أوائل الذين استطاعوا تحصيل هذه المعرفة من غير العرب، فأهَّله ذلك لتسلّم القيادة وكان أهلاً لها، وقد حافظ على المستوى العام للقائد المسلم، ولم يرتكب مخالفة أبداً، لا حيلة ولا جهلاً، فلم يحرّق سفن المسلمين ويجعلهم يتكبدون خسائر كبيرة، ولم يمثِّل بالأعداء، وكان خطيباً، ووصلت إلينا خطبته، وهو أهل لقولها ولأمثالها.

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:09 AM
منهج التوثيق وإثبات الحقائق

في دراسة التاريخ الإسلامي

د. محمد أمحزون


--------------------------------------------------------------------------------

أ- دراسة الإسناد

الإسناد لغةً هو المعتمد، وسمي كذلك لأن المتن يشتد إليه ويعتمد عليه[1]. أما في الاصطلاح فهو سلسلة الرواة الذين نقلوا الخبر واحداً بعد واحد إلى أن يصلوا بالرواية إلى مصدرها الأصلي[2].

ويعتبر الإسناد في المنهج الإسلامي العمود الفقري للخبر، فهو الوسيلة لنقد الأخبار، إذ بمعرفة النقلة يعرف قيمة الخبر. والإسناد المتصل الصحيح من خصائص الأمة الإسلامية، وميزته أنه يعطي طمأنينة وثقة بما يتم نقله عن هذا الطريق، إذ يمثل شهادة مجموعة من الرجال العدول الثقات الضابطين، مما يؤكد صحة الخبر المنقول وضبطه.

وميزة السند أيضاً أن الروايات المسندة أفضل بكثير من الروايات والأخبار غير المسندة، لأن فيها ما يدلُّ على أصلها، ويمكن التحكُّم في نقدها وفحصها بصورة أفضل من الأخبار الخالية من السند[3]. وهكذا يبقى الهدف من السند هو تصحيح النصوص والأخبار، ومحاربة الوضع والكذب فيها. ولأهمية الإسناد فإن استعماله لم يعد قاصراً على الحديث النبوي، وإنما شاع استعماله في علوم أخرى كالتفسير والتاريخ والأدب حتى صار يمثل الصفة الغالبة على منهج تدوين العلوم الإسلامية المختلفة.

وفي مجال التاريخ لما كان ذكره يساعد على التحقيق من صحة الرواية ونقد الأخبار، فلذلك حافظ عليه العلماء الأعلام الذين قاموا بالجمع والتدوين سواء في السيرة النبوية أم في الأخبار التاريخية: كما فعل أبان بن عثمان [4] عروة بن الزبير[5] والزُّهري وخليفة بن الخياط [6] ويعقوب بن سفيان الفسوي[7] وأبو زرعة الدمشقي [8] والطبري وغيرهم.

وقد بدأ الاهتمام بالإسناد والسؤال عنه في فترة مبكرة، وذلك في أعقاب الفتنة التي شهدها صدر الإسلام في عهد عثمان -رضي الله عنه- وترتّب عليها ظهور الفرق ذات الآراء السياسية المتعارضة والأهواء المذهبية المتعصّبة، ففشا الكذب وظهر الوضع، ولجأ أتباع هذه الفرق إلى الوضع في الحديث وفي الأخبار. وهذا ما جعل العلماء يؤكّدون على ضرورة التثبُّت في مصادر الرواية، ويسألون عن الرجال الذين اشتركوا في نقلها، خصوصاً وأن القرآن الكريم والسنّة النبوية يأمران بالتبيّن والتثبّت في خبر الفاسق دون العدل الثقة حتى لا يُصاب أحد بجهالة أو ظلم أو قالَة سوء. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالةٍ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) [الحجرات: 6]. وجاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظنَّ، فإن الظن أكذب الحديث".[9] وقوله: "كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع"[10].

وفي شأن الإسناد قال ابن سيرين: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فلينظر إلى أهل السنة فيأخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فلا يأخذ حديثهم".

وهكذا فإن ابن سيرين جعل قيام الفتنة بداية التفتيش عن الإسناد لتوثيق الأحاديث والأخبار، وقبل ذلك لم يكن يتشدد في السؤال عن الأسانيد، بل كانت الرواية تقبل، وإن كانت مرسلة ثقة بالرواة.

ومما يدل على هذا قول ابن عباس رضي الله عنه: "إنا كنا نحدِّث عن رسول الله e إذ لم يكن يُكذَب عليه، فلما ركب الناس الصعبَ والذلول تركنا الحديث عنه"[11] فعبّر ابن عباس هنا عن الفتنة بقوله ركوب الناس الصعب والذلول، ولذا كان لا يقبل إلا ما يعرف.

وقال ابن المبارك: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"[12]. وقال الحاكم متعقّباً: "فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم على حفظه لَدُرِسَ منارُ الإسلام ولتمكَّن أهل الإلحاد والبدع بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرَّتْ عن وجود الأسانيد كانت بتراء" [13].

وقد اتخذت جهود العلماء المسلمين لمقاومة الكذب في الخبر جانبين: جانباً نظرياً، وهو وضعهم للقواعد الدالّة على الكذب؛ وجانباً عملياً، وذلك ببيانهم الأشخاص المتهمين بالكذب وتعريف الناس بهم ليُحتاط منهم. ففي الجانب النظري بلغ المنهج النقدي عند العلماء المسلمين في وضع قواعد علم الرواية من الدقة والإحكام أرقى ما يمكن أن تصل إليه الطاقة البشرية والمقدرة الإنسانية. ويكفي لمعرفة دقة المنهج العلمي الذيث اتبعه العلماء المسلمون أصحاب هذا الفن الإطلاع على ما كتبوه في قواعد الجرح والتعديل، ومعنى ألفاظهما، ومراتب هذه الألفاظ من أعلى مراتب التعديل إلى أدنى مراتب الجرح، وشروط قبول الرواية، حيث اشترطوا في من تُقبَل روايته شرطين أساسيين وهما:

العدالة: ويعنون بها أن يكون الراوي: مسلماً، بالغاً، عاقلاً، صادقاً، بريئاً من أسباب الفسق، سليماً من خوارم المروءة.

الضبط: وهو إتقان ما يرويه الراوي، حافظاً لروايته إن روى من حفظه، ضابطاً لكتابه إن روي من الكتاب عالماً بمعنى ما يرويه، متيقِّظاً غير مُغفل.

فمن قواعد الرواية كراهة النقل من الضعفاء واختيار السماع من الأمناء، واشتراط الصدق، وأن السفه والكذب يوجبان إسقاط العدالة، وترك السماع ممن اختلط وتغيَّر، ومن غلب على حديثه وروايته الشواذ والمناكير والغرائب لايُحتَج بروايته، وترك الاحتجاج بمن كثر غلطه وكان الوهم غالباً على روايته، وردّ حديث أهل الغفلة ومن عُرِف بالتساهل في روايته، وكراهية الرواية عن أهل المجون والخلاعة.

أما الجانب العملي المتمثِّل في بيان الرواة والتعريف بهم، فقد ألَّف العلماء المتخصصون عدداً كبيراً من المؤلفات منها ما أُفرِد لذكر الثقات،ومنها ما أُفرِد لذكر الضعفاء، ومنها ما جمع بين الثقات والضعفاء، مع ذكر ألفاظ الجرح والتعديل المنطبقة على كل راوٍ. وفيما يأتي بعض الأمثلة على أصناف هذه الكتب.

-كتب الثقات:

1. كتاب الثقات لأبي الحسن أحمد بن عبد الله العِجلي.

2. كتاب الثقات لعمر بن أحمد بن شاهين.

-كتب الضعفاء:

1. كتاب الضعفاء الصغير والضعفاء الكبير لمحمد بن إسماعيل البخاري.

2. كتاب الضعفاء والمتروكين لأبي زرعة الرازي.

-الكتب الجامعة بين الثقات والضعفاء:

1. الجرح والتعديل لعبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي.

2. تواريخ الإمام البخاري الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير.

ومما لا شك فيه أن المصنَّفات في قواعد الرواية وفي الرجال قدَّمت خدمة جليلة للسنّة المظهرة، ويمكن الاستفادة منها في حقل التاريخ الإسلامي إلى حد ما، إذ تكشف النقاب عن قواعد التحديث وأحوال الرواة، لتمييز القوي نم الضعيف والصادق من الكاذب، وبذلك يمكن للباحث أو المؤرخ أن يعرف لكل خبر قيمته، فيستبعد الأخبار الضعيفة والموضوعة ويُنَبِّه عليها ليتجنَّبها الناس، ويستخرج الروايات الصحيحة ويبيِّنها، خصوصاً وأن الهدف من الدراسات التاريخية هو إبراز الحقائق التي تُعتَبر هدفاً منشوداً يتوخَّاه كل باحث نزيه.

ب- دراسة المتن
المتن لغةً ما صلب وارتفع من الأرض، واصطلاحاً ما ينتهي إليه السند من الكلام بمعنى نصّ الخبر.

ويراد بدراسة المتن دراسة النص من جوانب متعددة، منها ما يهدف إلى التأكد من صحة النص بأن لا يخالف الأصول الشرعية والقواعد المقررة، أو يخالف طبيعة العصر المتحدَّث عنه وأعراف الناس وعاداتهم وقيمهم، أو يخالف طبائع الأشياء والمعلومات التاريخية المستفيضة، أو يشمل على أمر منكر أو مستحيل، إلى غير ذلك من الأمور. ومنها ما يهدف إلى فهم النص وفقهه، سواء فهم أحكامه ودلالتها أو فهم لغته وألفاظه.

وجدير بالذكر أن جهود العلماء المسلمين لم تكن منصبّة فقط على نقد السند، وإنما كانت منصبة أيضاً على المتن، لأن العلة كما تكون في السند قد تكون في المتن، على أنه لا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، وكذلك لا يلزم من صحة السند صحة المتن؛ فقد يكون السند ضعيفاً والمتن صحيحاً لوروده من طرق أخرى تشهد بصحته، كما أنه قد يصح السند ولا يصح المتن لشذوذ أو علة قادحة فيه.

ولذلك أصَّلوا في هذا الشأن منهجاً علمياً دقيقاً، فهم لا يحكمون بالضعف على كل أخبار راوٍ ضعيف، فقد يكون مصيباً أو صادقاً في رواية ما بعينها، وفي هذا ردٌّ للحق، إذ قد يصيب الضعيف، وقد يَهِمُ الصادق. ولهذا يستشهد علماء الحديث في بعض الأحيان بأحاديث في أسانيدها ضعفاء- لكنهم غير متهمين بالكذب والوضع- عند ثبوت متن الحديث أو أصل الخبر من غير تلك الطريق.

وهذا يعني أنهم نظروا إلى متن الحديث كما نظروا إلى سنده، إذ قبول ذلك المتن بذلك الإسناد على ما فيه من ضعف يدل دلالة واضحة على عمق نظرهم في نقد النصوص، وأن الإسناد الضعيف لا يمنعهم من قبول المتن الصحيح أو المعروف من طريق آخر.

وقد كان منهج الصحابة -رضوان الله عليهم- التثبّت في الرواية والتأكد من صحة النص مع أنهم لا يتهمون رواتها بالكذب.

فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- حين سئل عن الجَدَّة هل ترث؟ فأجابه المغيرة ابن شعبة -رضي الله عنه- أنها ترث السدس، فطلب منه أن يأتيه بشاهد، فشهد محمد بن مسلمة -رضي الله عنه-.

وكذلك اعتذر عمر بن الخطاب من أبي ابن كعب عندما حدثه بحديث، فطلب منه أن يأتيه ببينة على ما يقوله، فلما أتاه بذلك قال له: أما إني لم أتهمك، ولكني أحببت أن أتثبت.

وفيما استدركته عائشة -رضي الله عنها- على الصحابة أنها سمعت حديث عمر بن الخطاب وابنه عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله e قال: “إن الميت ليعذَّب ببكاء أهله عليه.” فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله e أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد، ولكن قال: “إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه”؛ وقالت: حسبكم القرآن: (ولا تزر وازرة وزر أخرى). وفي رواية مسلم أنها قالت: إنكم لتحدثوني غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ.

وبالنظر إلى نقد المنون عند الصحابة والفقهاء والمحدثين يلاحظ في هذا الباب تأصيلهم لبعض المقاييس لنقد النص كعرضهم المتن على القرآن، فإذا خالفه مخالفة لا يمكن معها الجمع حكموا بردّه إذا تعذر تأويله أو توجيهه، ثم عرض السنة بعضها على بعض، حيث كان المحدثون يعرضون الروايات الواردة في موضوع واحد بعضها على بعض. ويظهر لهم من هذه المقابلة عدة نتائج تلعب دوراً في تصحيح النص مما يمكن أن يعلق به من زيادات أو إدراجات الرواة وأوهامهم. كما كان من مقاييسهم ردّ المتن إذا تعارض مع الأصول الشرعية المقررة، وما عرف من أحكام الدين، وكذا استعمال النظر العقلي والمعلومات التاريخية الثابتة في نقد بعض المتون.

ومثال ذلك ما حدث في عام 447 هـ أن أظهر بعض اليهود كتاباً، وزعموا أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة بعض الصحابة -رضي الله عنه- فلما رفع الكتاب إلى وزير الخليفة القائم العباسي أحاله على المؤرخ الحافظ الحجة أبي بكر الخطيب البغدادي، فتأمله ثم قال: هذا مزوّر. فقيل له: من أين لك هذا؟ قال: فيه شهادة معاوية، وهو إنما أسلم عام الفتح (سنة 8 هـ)، وفتح خيبر كان سنة (7 هـ)، وفيه شهادة سعد بن معاذ، وهو قد مات يوم بني قريظة (سنة 5 هـ) قبل فتح خيبر بسنتين.

وهكذا تمكن الخطيب البغدادي بفضل استعانته بالمعلومات التاريخية الثابتة من اكتشاف تزوير نص هذه الوثيقة، واعتمد الوزير ما قاله المؤرخ، ولم يجز اليهود على ما في كتابهم. وينطبق على هذا الحادث وأشباهه ما سبق أن قاله سفيان الثوري: لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ.

ومما يلاحظ أن القواعد التي وضعها العلماء المسلمون للتوصل إلى معرفة النص الصحيح - وإن كانت في الأصل خاصة بالحديث النبوي- صالحة للتطبيق في مختلف العلوم الإسلامية، وخاصة التاريخ الإسلامي، لأن المؤرخين الأوائل نسجوا على منوال المحدثين في طريقة العرض وسرد الروايات بالأسانيد، كما أن التاريخ عبارة عن أخبار ووثائق ونصوص لا طريق للتثبت من صحتها إلا بتطبيق هذه القواعد المنهجية.

وقد أدرك عدد من المؤرخين المعاصرين إيجابيات هذا المنهج ودقة قواعده النقدية، فدعوا في مؤلفاتهم إلى الإقتداء به، واقتبسوا فصولاً من مؤلفات علماء المصطلح مثل الخطيب البغدادي وابن عبد البر باسم المصطلح الذي يستعمله علماء الحديث.

ج- شروط الرواية المقبولة
من العسير تطبيق منهج النقد عند المحدثين بكل خطواته على جميع الأخبار التاريخية، وإن اشترط العلماء في المؤرخ ما اشترطوه في راوي الحديث من أربعة أمور: العقل والضبط والإسلام والعدالة، لأن الأخبار التاريخية لا تصل في ثبوتها وعدالة رواتها واتصال أسانيدها إلى درجة الأحاديث النبوية إلا فيما يتعلق ببعض المرويات في السيرة والخلافة الراشدة مما تأكدت صحته عن طريق مصنفات السنة. أما أكثرها فمحمول عن الإخباريين بأسانيد منقطعة يكثر فيها المجاهيل والضعفاء والمتروكون.

ولهذا فرق العلماء بين ما يتشدد فيه من الأخبار وبين ما يتساهل فيه تبعاً لطبيعة ما يُروى، على أن تطبيق قواعد نقد الحديث في التاريخ أمر نسبي تحدده طبيعة الروايات.

فإذا كان المروي متعلقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بأحد من الصحابة رضي الله عنهم، فإنه يجب التدقيق في رواته والاعتناء بنقدهم.

ويلحق بهذا ما إذا كان الأمر يتعلق بقضية في العقيدة أو موضوع شرعي كتحليل وتحريم، فإنه لا بد من التثبت من رواته ومعرفة نقلته، ولا يؤخذ في هذا الباب إلا من الثقات الضابطين. يقول الدكتور أكرم ضياء العمري في هذا الشأن : كما أن استعمال قواعد المصطلح في نقد الروايات التاريخية ينبغي أن يشتد على قدر تعلق المادة بالأحداث الخطيرة التي تؤثر فيها الأهواء ويشتط عندها الرواة، كأن تكون الروايات لها مساس بالعقائد كالفتن التي حدثت في جيل الصحابة، أو ذات صلة بالأحكام الشرعية كالسوابق الفقهية، فإن التشدد في قبولها يجعل استعمال قواعد الحديث بدقة أمراً مقبولاً. اهـ

أما إذا كان الخبر المروي لا يتعلق بشيء من الأحكام الشرعية - وإن كان الواجب التثبت في الكل- فإنه يتساهل فيه قياساً على ما اصطلح عليه علماء الحديث في باب التشدد في أحاديث الأحكام والتساهل في فضائل الأعمال.

روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يضع حكماً أو يرفعه تساهلنا في الأسانيد. اهـ

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا التساهل لا يعني الرواية عن المعروفين بالكذب وساقطي العدالة، لأن ساقط العدالة لا يحمل عنه أصلاً، وإنما قصد العلماء بالتساهل إمرار أو قبول رواية من ضعف ضبطه بسبب الغفلة أو كثرة الغلط أو التغير والاختلاط ونحو ذلك، أو عدم اتصال السند كالرواية المرسلة أو المنقطعة. ووفق هذه القاعدة جوّز بعض الفقهاء العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب.

وبناءً على ذلك إذا كانت الرواية التاريخية لا تتعلق بإثبات أمر شرعي أو نفيه سواء كان لذلك صلة بالأشخاص - كالصحابة رضوان الله عليهم- أو الأحكام -الحلال والحرام- فإن الأمر عندئذ يختلف، فيقبل في هذا الباب من الروايات الضعيفة ما لا يقبل في سابقه، فيستشهد بها، لأنها قد تشترك مع الروايات الصحيحة في أصل الحادثة، وربما يستدل بها على بعض التفصيلات ويُحاول الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي أوثق سنداً.

يقول الكافيجي في هذا الصدد: يجوز للمؤرخ أن يروي في تاريخه قولاً ضعيفاً في باب الترغيب والترهيب والاعتبار مع التنبيه على ضعفه، ولكن لا يجوز له ذلك في ذات البارئ عز وجل وفي صفاته ولا في الأحكام، وهكذا جواز رواية الحديث الضعيف على ما ذكر من التفصيل المذكور. اهـ

ويقول أكرم ضياء العمري أيضاً: أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسف كثير، والخطر الناجم عنه كبير، لأن الروايات التاريخية التي دوَّنها أسلافنا المؤرخون لم تُعامَل معاملة الأحاديث بل تمّ التساهل فيها، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل هوة سحيقة بيننا وبين ماضينا مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع… لكن ذلك لا يعني التخلي عن منهج المحدِّثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا. ولكن الإفادة ينبغي أن تتم بمرونة آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة. اهـ

وهذا التفريق بين ما يتشدد فيه من الأخبار ويتساهل فيه نلحظه بوضوح في تصرف الحافظ ابن حجر العسقلاني في جمعه بين الروايات في كتابه "الفتح".

ففي الوقت الذي يقرر فيه رفض رواية محمد بن إسحاق إذا عنعن ولم يصرح بالتحديث، ورفض رواية الواقدي، لأنه متروك عند علماء الجرح والتعديل فضلاً عن غيرهما من الإخباريين الذين ليس لهم رواية في كتب السنة من أمثال عوانة والمدائني فإنه يستشهد برواياتهم، ويستدل بها على بعض التفصيلات، ويحاول الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي أوثق إسناداً.

وهذا يدل على قبوله لأخبارهم فيما تخصصوا فيه من العناية بالسير والأخبار، وهو منهج معتبر عند العلماء المحققين وإن لم يقبلوا رواياتهم في الأحكام الشرعية. فنجد ابن حجر يقول في محمد بن إسحاق: "إمام في المغازي صدوق يدلِّس"؛ ويقول في الواقدي: "متروك مع سعة علمه"؛ ويقول في سيف بن عمر: "ضعيف في الحديث. عمدة في التاريخ".

وفيما يلي بعض النماذج من تصرف ابن حجر واعتباره لروايات الإخباريين:

في (كتاب المغازي، باب غزوة العشيرة):

ذكر عدد غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وعدد بعوثه وسراياه، وعدد الغزوات التي وقع فيها القتال، فاستشهد بأقوال أهل السير مثل ابن إسحاق والواقدي وابن سعد، وذكر خلافهم وجمع بين أقوالهم وأقوال من هم أوثق منهم من رواة الصحيح.

في (كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل):

جعل رواية ابن إسحاق جامعة بين الروايات رغم مخالفتها لما في الصحيح، وذلك في قصة مقتل أبي جهل يوم بدر في قوله: "فهذا الذي رواه ابن إسحاق يجمع بين الأحاديث، لكنه يخالف ما في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- أنه رأى معاذاً ومعوذاً- رضي الله عنهما- شدَّا عليه حتى طرحاه- يعني أبا جهل".

في (كتاب المغازي، باب حديث بني النضير):

في قصة بني النضير ومتى كان حصارهم، ذكر ابن إسحاق أنها كانت بعد أُحُد، وبعد استشهاد القرّاء في بئر معونة. والذي في البخاري عن عروة أنها كانت على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، أي قبل أُحُد. وقد مال ابن حجر إلى ترجيح رواية ابن إسحاق رغم إيراده سبباً للغزوة غير الذي ذكره ابن إسحاق وصححه بقوله: "فهذا أقوى مما ذكر ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير طلبُه e أن يعينوه في دية الرجلين، لكن وافق ابن إسحاق أهل المغازي".

من كتاب (تحقيق مواقف الصحابة في الفتن من روايات الطبري والمحدثين) للدكتور محمد أمحزون.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] محمود الطحان: (أصول التخريج ودراسة الأسانيد) ص157

[2] فاروق حمادة: (المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل) ص 231

[3] أكرم ضياء العمري: (دراسات تاريخية) ص26

[4] ابن عفان الفقيه الأمير، توفي سنة 105هـ، كان من رواة الحديث وفقهاء المدينة.[5] ابن العوام، كان أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وكان محدِّثاً عالماً بالسيرة والمغازي. توفي عام 93هـ.

[6] كان من الثقات ومن متيقظي رواة الحديث. وكان حافظاً عارفاً بالتواريخ وأيام الناس. توفي عام 240هـ.

[7] الإمام الحافظ الحجة. له كتب في التاريخ؛ توفي عام 277هـ.

[8] هو عبد الرحمن بن عمرو النصري، من العارفين بالحديث ورجاله وعلله. توفي عام 280هـ.

[9] متفق عليه.

[10] رواه مسلم وغيره.

[11] رواه مسلم في الصحيح.

[12] المصدر نفسه.

[13] الحاكم، كتاب (معرفة علوم الحديث) ص6

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:34 AM
المراجع الأولى في تاريخنا

تاريخ الأُمَم والمُلوك

لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري 224-310 هـ

محبّ الدين الخطيب


--------------------------------------------------------------------------------

مفارقات
من عجيب المفارقات في تاريخنا وتواريخ الأمم الأخرى، وفي موقفنا من تاريخنا ومواقف الأمم الأخرى من تاريخها، أن نكون أغناهن جميعاً في كل ما يبنى به تاريخ الأمة من أنباء ونصوص ومراجع وقرائن وإشارات وتحقيقات، ثم نبقى أفقرهن وأقلهن انتفاعاً بهذه الثروة في إقامة معالم تاريخنا على أساسها، بينما الآخرون قد أحدثوا - حتى من الأوهام - مكتبات جديدة لأجيالهم وجماهير قرائهم، حافلة بالطلي الشهي من صفحات ماضيهم، فوثّقوا أواصر خلفهم بسلفهم، ويسروا لهم القدوة الحسنة بعظمة العظماء من نوابغهم، وبعثوا لهم من ذلك الماضي صوراً حية ترتفع الرءوس بأمجادها، وتمتلئ القلوب بإجلالها واحترامها، وتطمئن العقول إلى تعليل تصرفاتهم والاعتبار بها ومواصلة السير نحو أهدافها.

مواطن ضعف

ومواطن الضعف -التي أدَّت ببعض معاصرينا من حملة أمانة التاريخ العربي والإسلامي إلى أن يكون انتفاعهم بهذه التركة ضئيلاً- لا يكاد يأتي على حصر، ومما يتبادر إلى الذهن منها الآن أمران:

أولهما- أن الذين تثقفوا منا بثقافة أجنبية عنا قد غلب عليهم الوهم بأنهم ِ غرباءُ عن هذا الماضي، وأن موقفهم من رجاله كموقف وكلاء النيابة من المتهمين. بل لقد أوغل بعضهم في الحرص على الظهور أمام الأغيار بمظهر المتجرد عن كل آصرة له بماضي العروبة والإسلام، لئلا يتّهم في زعمه بالعصبية لهما، فوضع نفسه موضع التهمة بالتحامل عليهما، جرياً وراء بعض المستشرقين في ارتيابهم حيث تحسن الطمأنينة، وفي ميلهم مع الهوى عندما يدعوهم الحق إلى التثبّت، وفي إنشائهم الحكم وارتياحهم إليه قبل أن تكون في أيديهم أشباه الدلائل عليه. ولو أنَّ إخواننا هؤلاء نشأوا على الإيمان بأنهم هم أصحاب هذه ِ التَّرِكَةُ وأن هذا الماضي ماضيهم، وأن جيلنا حلقة في سلسلة هذا الماضي، وأن أحداثه ثروة لنا في القدوة والاعتبار، لنظروا إليه بعين الأم إلى ابنها، إن لم ينظروا إليه بعين الابن إلى أمه، ولا يكون ذلك إلا بتبنِّي هذا التاريخ، والحرمة له، وبثّ الحياة في أمجاده، والحرص على استجلاء جماله، وإبراز فضائله، وتحرّي مواطن العظة والاعتبار في أخطائه، وحُسْن التعليل لذلك بالرفق والإنصاف وكمال التقدير. على أنه إذا كان هذا حال أهل الصبر منا على البحث والدرس، فما بالك بالآخرين الذين قد تقع أنظار الواحد منهم على بحث لمستشرق ناشئ أو منسى، فينتحل ذلك البحث من غير تعب، ويزعم لقرائنا مبتكراً من عنده، وينقله محرّف الأعلام، متضارب الأحكام، مزدوج العي، ملتهب الحماسة في التحامل حتى على الفضائل عندما ينظر إليها -بعينه أو بعين من ترجم عنه- من وراء منظار أسود.

ذلك أحد مواطن الضعف في دراستنا لتاريخ العروبة والإسلام. أما الموطن الآخر فهو ما لاحظتُه على بعض المعاصرين لنا مِن اشتباه الأدلة التاريخية عليهم، وحيرتهم بين جيّدها وأجودها، بل فيهم من لا يميّز بين الجيد منها والردئ، مع أن ذلك كان في متناول يده لو سبق له معرفة موازين رواتنا في النقد، أو وقَفَ على مناهجهم في التأليف ومصطلحاتهم في الرواية، ومراميهم في الاستشهاد.

وقد اخترت اليوم من هذه المراجع كتاب (تاريخ الأمم والملوك) للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (224-310 هـ) لأتحدّث عنه إلى إخواني المشتغلين بالتاريخ، ممن يحاولون الانتفاع به في الاستدلال والنقل، لأني رأيت منهم من يظنّ أن إيراد الطبري لخبر من الأخبار كاف لتحميل هذا الإمام مسئولية الخبر الذي أورده، واعتباره هو المصدر لهذا الخبر، وأن الأخبار التي يوردها سواء كلها في ميزان الصحة عنده، وأن عزوهم الخبر إلى الطبري ودلالتهم على موضعه من تاريخه تتم بهما مهمتهم من الاستدلال، وتبرأ بذلك ذمتهم من عهدة هذا الخبر، ويبقى الطبري هو المتحمّل لمسئولية ما يترتب على ذلك في الحكم على أحداث التاريخ وعلى أقدار رجاله وتصرفاتهم.

إن ظنهم هذا لا يغني من الحق شيئاً، وإن الطبري ليس هو صاحب الأخبار التي يوردها بل لها أصحاب آخرون أبرأَ هو ذمتَه بتسميتهم، وهؤلاء متفاوتون في الأقدار، وأخبارهم ليست سواء في قيمتها العلمية، ولا يتم اعتبار الطبري مرجعاً في التاريخ إلا بإكمال المهمة التي بدأ بها، وهي تقدير أخباره بأقدار أصحابها، وفيها ما يعد من سلسلة الذهب، وفيها ما لا تزيد قيمته على قيمة الخزف، ولكل ذلك نقّاده وصيارفته وتجّاره، وهم يعرفون أقدار هذه الأخبار عند التعريف بأقدار أهلها، وقديماً قيل: ِ وما آفة الأخبار إلا رواتُهاُ .

أنَّى لك هذا؟
إن كل خبر في تاريخ الطبري، بل كل نص يتناقله أهل العلم في أجيال الإسلام، له عند أهله قيمة رفيعة أو وضيعة، على قدر شرفه أو خسَّته بالرواة الذين ينسب إليهم ذلك الخبر أو ذلك النص. فشرف الخبر في التراث الإسلامي تبع لصدق راويه ومنزلته من الأمانة والعدالة والتثبّت. لذلك امتازت كتب سلفنا الأول بتسمية الرجل المسئول عن أي حديث نبوي يوردونه فيها، وبيان المصدر الذي جاءوا منه بأي خبر تحدّثوا به إلى الناس. ولو لم يسمُّوا الرجل المسئول عن الحديث النبوي عن إيراده، ولو لم يبينوا المصدر الذي حصلوا منه على أي خبر يودّون ذيوعه بين الناس، لطالبَهم بذلك علماء الثقافة الإسلامية بأشد من مطالبة المحاكم من يدّعي ملكية العقار أو الحقل بما يثبت ملكيته له ومن أين صار ذلك إليه.

وإذا كان مبدأ (أنَّى لكَ هذا؟) مما سنَّه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مشروعية امتلاك الأموال، فإن أبناء الجيل الذي منه عمر بن الخطاب هم الذين سنّوا للناس بعدهم وجوب بيان مصادر العلم، كما سنّوا لهم وجوب بيان مصادر المال، والعلم أثمن عندهم من المال وأشرف، وأنفع منه وأبقى.

نحن نعتبر تاريخ الطبري الآن من أقدم مصادرنا، وكان تاريخ الطبري في النصف الثاني من القرن الثالث (أي قبل أحد عشر قرناً) يعدّ من مصادر التاريخ الإسلامي الحديثة بالنسبة إلى المصنفات التي دُوِّنَتْ قبله بثلاثة بطون، بل بأربعة. ولعلّ أقدمها ِ مغازيُ مؤرخ المدينة موسى بن عقبة الأسدي المتوفي سنة 140 هـ، وهو الذي يقول فيه الإمام مالك: “عليكم بمغازي ابن عقبة فإنه ثقة، وهي أصح المغازي”. وابن عقبة من تلاميذ عروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص الليثي. ومن طبقة تلاميذه العراقيين سيف بن عمر التميمي الكوفي المتوفى بعد سنة 170 هـ، وله في سنن الترمذي حديث واحد، والطبري يروي عنه بواسطتين، أي عن طريق شيوخه وهم عن شيوخهم الذين كانوا تلاميذ لسيف. ومن طبقة تلاميذ موسى بن عقبة مؤرخ الشام أبو إسحاق الفزاري الحافظ المتوفى سنة 186 هـ، وهو حفيد أسماء بن خارجة الفزاري وكان له كتاب في التاريخ أثني عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في (مقدمة أصول التفسير) بعد أن قال: ”إن أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق. وأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم. ولهذا أعظم الناسُ كتابَ أبي إسحاق الفزاري الذي صنّفه في ذلك. وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار". ويأتي بعد تلاميذ موسى بن عقبة طبقة يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد ابن العاص الأموي المتوفى سنة 194هـ، ومن مؤرخي الشام الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي مولى الأمويين المتوفى سنة 195 هـ، ومحمد بن عمر الواقدي المدني قاضي العراق المتوفى سنة 207 هـ، ثم كاتبه المؤرخ الحافظ الثقة محمد بن سعد بن منيع البصري (168-230 هـ)، ومن هذا الجو العلمي استمدّ أبو جعفر الطبري هديته الكبرى إلى الأمم الإسلامية بما سجله وخلَّده من جهود شيوخه وشيوخ شيوخه ومن سبقهم إلى زمن التابعين والصحابة، فلم يترك مهماً من أخبار سلف الأمة مما أُثِر عن الأئمة الذين سمَّيْنا بعضهم إلا وقد دوّن طرفاً منه، ناسِباً كل خبر إلى صاحبه وإلى من يرويه عنهم صاحب ذلك الخبر من شيوخه وأسلافهم.

الأخبار الضعيفة عند الطبري
لم يقتصر الطبري على المصادر التي أشرت إلى بعضها، بل أراد أن يقف قارئه على مختلف وجهات النظر، فأخذ عن مصادر أخرى قد لا يثق بها هو بأكثرها، إلا أنها تفيد عند معارضتها بالأخبار القوية، وقد تكمل بعض ما فيها من نقص. كما صنع بنقله كثيراً من أخبار مخنف لوط بن يحيى الأزدي الذي قال فيه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال: "أخباريٌّ تالف لا يوثَق به، تركه أبو حاتم وغيره. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن عدي: شيعي محترق صاحب أخبارهم. مات قبل السبعين ومائة". فقد نقل الطبري من أخباره في مئات المواضع، ولو أن الذين ينقلون عن الطبري ويقفون عنده، استقوا أخبارهم من لوط بن يحيى هذا واكتفوا بعزوها إلى الطبري لظلموا الطبري بذلك، وهو لا ذنب له بعد أن بيَّن لقارئه مصادر أخباره، وعليهم أن يعرفوا نزعات أصحاب هذه المصادر ويزِنُوها بالموازين العادلة اللائقة بهم وبها.

إن مثل الطبري ومن في طبقته من العلماء الثقات المتثبّتين - في إيرادهم الأخبار الضعيفة - كمثل رجال النيابة الآن إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية فإنهم يجمعون كل ما تصل إليه أيديهم من الأدلة والشواهد المتصلة بها، مع علمهم بتفاهة بعضها أو ضعفه، اعتماداً منهم على أن كل شيء سيقدَّر بقدره. وهكذا الطبري وكبار حملة الأخبار من سلفنا كانوا لا يفرّطون في خبر مهما علموا من ضعفِ ناقله خشية أن يفوتهم بإهماله شيء من العلم ولو من بعض النواحي، إلا أنهم يردُّون كل خبر معْزواً إلى راويه ليعرف القارئ قوة الخبر من كون رواته ثقات أو ضعفَه من كون رواته لا يوثَق بهم، وبذلك يرَوْنَ أنهم أدُّوا الأمانة، ووضعوا بين أيدي القرّاء كل ما وصلت إليه أيديهم. قال الحافظ ابن حجر في ترجمة الطبراني من لسان الميزان: "إن الحفّاظ الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة مع سكوتهم عنها على ذكرهم الأسانيد، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد بَرِئوا من عهدته، وأسندوا أمره إلى النظر في إسناده".

ومن فوائد إيراد الحادث الواحد بأخبار من طرق شتى وإن كانت ضعيفة قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة تفسير القرآن (ص 30-31): "إن تعدُّد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون القول (أي بالقدر المشترك في أصل الخبر) لكن هذا يُنتَفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين (أي نزعاتهم والجهة التي يحتمل أن يتعصب لها بعضهم)، وفي مثل هذا يُنتَفع برواية المجهول، والسيئ الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو ذلك، ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون: إنه لا يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره. قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره".

ومن الإنصاف أن نشير إلى أن اتساع صدور أئمة السنة - من أمثال أبي جعفر الطبري - لإيراد أخبار المخالفين من الشيعة وغيرهم، دليل على حريتهم، وأمانتهم، ورغبتهم في تمكين قرّائهم من أن يطّلعوا على كل ما في الباب، واثقين من أن القارئ الحصيف لا يفوته أن يعلم أن مثل أبي مخنف موضع تهمة - هو ورواته- فيما يتصل بكل ما هم متعصبون له، لأن التعصب يبعد صاحبه عن الحق. أما سعة الصدر في إيراد أخبار المخالفين فهي دليل على عكس ذلك. وعلى القارئ الحصيف أن يأخذ ما صفا ويدع ما ... أن يستخلص الحق عندما يكون موزعاً أو معقداً.

الانتفاع بأخبار الطبري
إنما ينتفع بأخبار الطبري من يرجع إلى تراجم رواته في كتب الجرح والتعديل. فتراجم شيوخه مباشرة وشيوخهم توجد في الأكثر في مثل تذكرة الحفاظ للذهبي. وتراجم الرواة الذين كانوا إلى أواخر المائة الثانية توجد في خلاصة تذهيب الكمال للصفي الخزرجي وتقريب التهذيب، وتهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر. والذين تناولهم الجرح من الضعفاء يترجم لهم الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال والحافظ ابن حجر في لسان الميزان. وفي طبقات ابن سعد وتاريخ بغداد وتاريخ دمشق لابن عساكر وتاريخ الإسلام للذهبي والبداية والنهاية لابن كثير. وإن كتب مصطلح الحديث تبين الصفات اللازمة للراوي ومتى يجوز الأخذ برواية المخالف. ولا نعرف أمة عنى مؤرخوها بتمحيص الأخبار وبيان درجاتها وشروط الانتفاع بها كما عنى بذلك علماء المسلمين. وإن العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي، أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم، ولا يتعرفون إلى رواتها، ويكتفون بأن يشيروا في ذيل الخبر إلى أن الطبري رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك، فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي من ألوف الأخبار. ولو أنهم تمكنوا من علم مصطلح الحديث، وأَنِسوا بكتب الجرح والتعديل، واهتموا برواة كل خبر كاهتمامهم بذلك الخبر لاستطاعوا أن يعيشوا في جو التاريخ الإسلامي، ولتمكنوا من التمييز بين غثّ الأخبار وسمينها، ولعرفوا للأخبار أقدارها بوقوفهم على أقدار أصحابها.

وبعد فإن تَرِكَة سلف هذه الأمة - في كل ضرب من ضروب المعرفة - من أنفس ما وَرِثت عن أسلافها. وقد كانت لعلمائنا الأقدمين مشاركة في علوم كثيرة، فجاءت مؤلفاتهم مرتبطاً بعضها ببعض ومكمّلاً بعضها لبعض. والذي ألّفوه في التاريخ واعتمدوا فيه على الرواية، مبالغةً منهم في أداء الأمانة كاملة وافية، لا يجوز لمن ينقله عنهم أن يقصر في عرض تلك الأخبار على قواعد علم الرواية وعلى المعاجم المؤلفة في الرُّواة، وإن لم يفعل أخطأ الطريق، وكان عمله خارجاً عن مناهج العلماء.

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:38 AM
العقيدة العسكرية الإسلامية
بقلم اللواء الركن

محمد جمال الدين محفوظ


--------------------------------------------------------------------------------

ماهية العقيدة العسكرية
يعبر اصلاح »العقيدة العسكرية« [1]عن السياسة العسكرية المرسومة التي تعبر عن وجهات النظر الرسمية للدولة في أمور الصراع المسلح، ويشمل كل ما يتعلق بطبيعة الحرب وغايتها (من وجهة نظرها) وطرق إدارتها، والأسس الجوهرية لإعداد البلاد والقوات المسلحة للحرب. وعلى هذا الأساس فإن العقيدة العسكرية لأية دولة تقوم بصياغتها القيادة السياسية والعسكرية العليا، ذلك لأننا في عصر لا تقتصر فيه الحروب على القتال بين الجيوش في ميدان القتال، بل إن الدولة برمتها »تدخل الحرب« بكل قدرتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية بالإضافة إلى قوتها المسلحة.
وتتحول عناصر العقيدة العسكرية للدولة إلى قوانين ومبادئ ونظريات تدرس لقادة ورجال الجيش في الكليات والمعاهد والمدارس العسكرية المختلفة، كما يتم التدريب عليها في وقت السلم سواء في خلال التدريب اليومي أو المناورات السنوية، وأخيراً تطبق هذه القوانين والمبادئ والنظريات عملياً في الحرب إذا نشبت بين دولة وأعدائها، وتعد الحرب في هذه الحالة بوتقة اختبار لسلامة العقيدة العسكرية ونظرياتها، وهذا مبدأ معروف في العلم العسكري، حتى إذا انتهت الحرب شرع كل طرف في استخلاص الدروس المستفادة وإدخال ما يلزم من تحسين وتطوير لنظرياته ومبادئه الحربية.
وبديهي أن يكون لكل دولة عقيدتها العسكرية الخاصة بها وذلك بالنظر لظروفها الاقتصادية والجغرافية وأهدافها السياسية إلى غير ذلك من العوامل الاستراتيجية.
الإسلام وتنظيم شؤون الحرب
والواقع أن الإسلام باعتباره حضارة كاملة، وأنه نظم كافة أمور الحياة ديناً ودنيا، قد عالج أمور الحرب باعتبارها ظاهرة اجتماعية، ووضع خير المناهج والمبادئ بكل ما يتصل بها من حيث أهدافها وقوانينها وآدابها. والباحث المحقق لا يجد في الإسلام كل ما تحتويه النظريات العسكرية المعمول بها في الشرق أو الغرب فحسب، بل إنه ليكتشف بالتحليل والمقارنة أن نظريات الإسلام الحربية تتجاوز تلك النظريات وتتفوق عليها سواء من الناحية الفنية البحتة أو من حيث نبل المقاصد والأهداف.
وقد نشأت في المدينة بعد الهجرة أول مدرسة عسكرية في تاريخ العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائدها ومعلمها الأول، وعلى أساس مبادئ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة القولية والعملية والتقريرية قامت نظريات العسكرية الإسلامية في مختلف شؤون الحرب والقتال[2]، مثل: أسباب الحرب وأهدافها –آداب الحرب- بناء الجيش القوي – بناء المقاتل – إعداد القادة – التدريب على القتال – الحرب النفسية – المخابرات والأمن ومقاومة الجاسوسية – الانضباط والجندية وتقاليدها – بناء الروح المعنوية وإرادة القتال – إعداد الأمة للحرب – الصناعة الحربية واقتصاديات الحرب... الخ
وهكذا تكوّن أول جيش في تاريخ الإسلام والمسلمين، وتعلم رجاله في المدرسة العسكرية الإسلامية على يد قائدها ومعلمها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذِنَ اللهُ لهم بالقتال طبّقوا ما تعلموه في المعركة فكانوا مضرب الأمثال في الكفاية القتالية والشجاعة والعبقرية الحربية، وكانوا دائماً منصورين على أعدائهم بإذن الله.
وجملة القول أن تنظيم الإسلام لأمور الحرب قامت عليه وعلى نظرياته المدرسةُ العسكرية الإسلامية كما قام أيضاً جيش الإسلام بقادته ورجاله، ودخل الجيش الإسلامي »بوتقة الحرب« فماذا كانت النتيجة؟
انجازات العسكرية الإسلامية في التاريخ
إن أعظم الأدلة التي تبرز النتائجَ التي حققتها العسكرية الإسلامية شهادةُ التاريخ.. فلقد حققت الجيوش الإسلامية من المهام والانجازات ما أصبح من الحقائق التاريخية التي لا تنازع والتي نذكر منها على سبيل المثال:

أولاً – تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية:

وهذا ما حققه جيش الإسلام في عصر النبوة، الذي حارب فيه المسلمون أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم، وكانوا في كل معاركهم يواجهون عدواً متفوقاً عليهم في العدد والعدة، لكن نصر الله كان حليفهم.

ثانياً – الفتوحات الإسلامية:

وفي أقل من مائة عام امتدت الفتوحات الإسلامية من حدود الصين شرقاً إلى شاطئ الأطلسي غرباً، وقد بلغ عدد القادة الفاتحين في أيام الفتح الإسلامي ستة وخمسين ومائتي قائد (256) منهم ستة عشر ومائتا (216) من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم مؤسس المدرسة العسكرية الإسلامية ومعلمها الأول، وأربعون من التابعين بإحسان رضي الله عنهم.

ولو أردنا أن نلخص ما ينطوي عليه هذا الانجاز العظيم في تاريخ المسلمين في كلمة واحدة فإننا نقول إن معناه الواضح هو أن »العسكرية الإسلامية« قد هزمت كلا من العسكرية الفارسية والعسكرية البيزنطية.

ثالثاً – إتقان الحرب البحرية:

ولقد أتقن العرب – أبناء البادية – بناء الأساطيل وفنون الحرب البحرية، وبلغوا درجة من الكفاية استطاعوا بها هزيمة أسطول بيزنطة وهو أعظم قوة بحرية في زمانهم. يقول ابن خلدون: »إن المسلمين تغلبوا على لجة بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وإن أساطيلهم سارت فيها جائية وذاهبة من صقلية إلى تونس، والرومان والصقالبة والفرنجة تهرب أساطليهم أمام البحرية العربية، ولا تحاول الدنو من أساطيل المسلمين التي ضريت[3] عليه كضراء الأسد على فريسته«.

رابعاً – القدرة على الحرب في جبهتين:

ومن أعظم إنجازات العسكرية الإسلامية أن الأمة الإسلامية الناشئة استطاعت أن تفتح جبهتين وأن تدير دفة الحرب في كل منهما بكل كفاية واقتدار، وكان ذلك في مواجهة أعظم قوتين عالميتين في ذلك الوقت هما فارس وبيزنطة.. وذلك مثل فريد في التاريخ الحربي لم تبلغه أقوى الأمم وأعظمها خبرة في الحروب..

فالمعروف من وجهة نظر فن الحرب أن الحرب في جبتهين من أصعب المواقف التي تواجه القيادة، فهي تنطوي على مشكلات بالغة الصعوبة والتعقيد وتتطلب كفاية إلى أقصى حد في الإدراة والتخطيط والقتال، ويكفي أن نعلم أن العسكرية الألمانية لم تهزم في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) إلا حين فتح الحلفاء أمامها جبهة ثانية للقتال.

خامساً – اتقان كل أشكال العمليات الحربية:

ولقد أثبت المسلمون عملياً أنهم – طبقاً للمعايير المقررة في العلم العسكري – قادرون على القيام بجميع العمليات الحربية على اختلاف أشكالها ومستوياتها بكفاية عالية مثل الدفاع والهجوم والمطاردة والانسحاب والقتال في المدن والقرى ومهاجمة المواقع الحصينة والحصار واقتحام الأسوار وعبور الأنهار ومسير الاقتراب الطويل وأعمال الوقاية والحراسة وأعمال المخابرات والحرب النفسية ومفازر (دوريات) الاستطلاع والقتال والإغارة.. الخ.

ويقول كلاوزفير: »يمكن للقوات العسكرية المدربة جيداً أن تقوم بجميع الأعمال الحربية..«

سادساً – الحرب فوق مختلف أنواع الأراضي:

والمعروف أن أساليب القتال تختلف طبقاً لطبيعة الأرض التي يجري فوقها القتال، فهناك مثلاً فرق كبير بين القتال في الأراضي الصحراوية والقتال في الأراضي الزراعية وهكذا.. ويحتاج كل نوع من هذه الأراضي إلى إعداد خاص للقوات التي تقاتل عليه من حيث التدريب والتسليح وتشكيلات القتال..

ولقد أثبت المسلمون قدرتهم الفائقة على القتال فوق مختلف أنواع الأراضي، فلقد حاربوا فوق الأراضي الصحراوية والجبلية والزراعية، وحاربوا داخل المدن والقرى وواجهوا الموانع المائية كالأنهار فعبروها، هذا فضلاً على الحرب البحرية.

سابعاً – مواجهة كل أشكال التنظيم الحربي:

حارب المسلمون أشكالاً مختلفة من أشكال التنظيم الحربي، فقد واجهوا الجيوش المنظمة وغير المنظمة، وحتى الجيوش المنظمة لم تكن على نمط واحد من التنظيم، فبدهي أن تنظيم جيوش فارس كان مختلفاً عن تنظيم جيوش بيزنطة، فضلاً عن اختلاف نظريات كل جيش في إدارة المعارك. وعلى الرغم مما ينطوي عليه ذلك من مشاكل معقدة فإن المسلمين استطاعوا أن يقهروا أعداءهم على اختلاف تنظيماتهم.. كذلك أثبت المسلمون قدرتهم وكفايتهم في إدارة البلاد المفتوحة وهو أمر ينطوي على الكفاية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية بالإضافة إلى الكفاية العسكرية..

دراسة العسكرية الإسلامية واجب حضاري
أرأيت عظمة الإنجازات العسكرية الإسلامية؟

أليس في كل ذلك ما يستحق الدراسة على النحو الذي يتكافأ وقدر هذه الأمة وبطولاتها الخالدة؟

أليس من الأمور الغريبة التي تلفت النظر أن رجال العسكرية في كثير من الدول العربية والإسلامية لا يدرسون إلا ما يُنقل إليهم من الغرب أو الشرق من نظريات حربية وأعمال قادة وتاريخ حربي؟

إن أخطر ما يترتب على ذلك من آثار هو أن يرسخ في الأذهان الاعتقاد الخاطئ بأنه ليس للإسلام نظريات حربية، ولا أعمال قادة، ولا تاريخ حربي يستحق الدراسة، وهو أمر لا تخفى بواعثه على الفطن »والمؤمن كيّس فطن«، فإن ترسيخ هذا الاعتقاد هو جانب من الحرب الحضارية التي تستهدف طمس معالم الحضارة الإسلامية، ومنع قيامها من جديد، كما تستهدف طمس معالم العسكرية الإسلامية التي هي بحق أحد الجوانب الرائدة من حضارة الإسلام.

من أجل ذلك فإن واجب الأمة الإسلامية وهي تسعى نحو بناء نهضتها الحضارية الشاملة أن تتصدى لكل محاولة تستهدف تحويل أبنائها عن مقوماتهم الأساسية وقطعهم عن كل ما هو أصيل من حياتهم، وتحويل اتجاهاتهم بعيداً عن كل ما يتصل بالقيم والدين والأخلاق والكيان النفسي الذاتي.. يقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: »كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني إنها شرف آبائكم فلا تضيّعوا ذكرها«.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد الرابع، ربيع الآخر 1401 هـ

--------------------------------------------------------------------------------

[1] لفظ »العقيدة العسكرية« تعريب كلمة (Doctrine) وهي لاتينية الأصل وتعني: »النظرية العملية والفسلفية«. وقد ورد في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية أن »العقيدة« هي الحكم الذي لا يقبل الشك فيه لدى معتقده.

[2] انظر كتابنا »المدخل إلى العقيدة والاستراتجية العسكرية الإسلامية« للتعرف على نظريات العسكرية الإسلامية.

[3] ضَرِيَ عليه: يعني لزمه أو أولع به. والمراد أن أساطيل المسلمين كانت دائماً تلاحق وتطارد أساطيل الأعداء.

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:43 AM
أمانة إعداد القوة بين السلف والخلف

بقلم اللواء الركن

محمد جمال الدين محفوظ


--------------------------------------------------------------------------------

في حجة الوداع قال الرسول القائد صلى الله عليه وسلم: »تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي.«

والعسكرية الإسلامية قامت على تعاليم كتاب الله وسنة رسوله القولية والعملية والتقريرية، فهي بذلك مما ينطوي عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم..

والحق أنه لم يترك نبي من الأنبياء أمته على مثل ما ترك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من القوة والمنعة، مما يعد أمانة عظمى في أعناق المسلمين، عليهم أن يحملوها في كل عصر إلى أن تقوم الساعة.

فلقد شاءت إرادة الله عز وجل أن يلحق الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وقد أعد أمته لمواجهة أقوى تحديات عصرها وقهرها، ولعل أبرز تلك التحديات مواجهة أكبر قوتين عالميتين في ذلك العصر هما: فارس وبيزنطة، تلك المواجهة التي حدثت على الفور وفي عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ولا بد لنا – أمام هذه الحقيقة البارزة من حقائق التاريخ- أن نحلل القدرة الدفاعية الإسلامية التي بناها الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، وتركها أمانة في أعناق المسلمين من بعده إلى عناصرها الأساسية، ثم نتأمل فيما فعل المسلمون بها، لكي نستخلص الدرس والعبرة لحاضرنا ومستقبلنا، فالله تعالى يقول: »فاعتبروا يا أولي الأبصار« (الحشر: 2).

فمن عناصر تلك القدرة الدفاعية ما يلي على سبيل المثال:

1- جيش قادر على الردع وتحقيق الأهداف الاستراتيجية..

ليس من شك أن في الجيش الإسلامي في عصر النبوة قد حقق الهدف الاستراتيجي وهو تأمين الدعوة وقيام الدولة الإسلامية وتوفير الأمن والاستقرار لها لكي تؤدي رسالتها السامية لخير البشرية.

ولقد حدد الرسول القائد صلوات الله وسلامه عليه هذا الهدف منذ اللحظة الأولى من الصراع مع المشركين حين رفع يديه بالدعاء إلى ربه بعد أن نظم صفوف الجيش في بدر وقال: »اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض..« بهذا الوضوح والتحديد ربط عليه الصلاة والسلام برباط وثيق بين الدعوة وبين القدرة على الدفاع عنها وتأمينها، فكان من ذلك الهدف الاستراتيجي واضحاً ومحدداً.

وفي سبيل تحقيق هذا الهدف حارب المسلمون أكثر من ستين عملية من عمليات القتال قاد منها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه ثماني وعشرين غزوة، وقد واجه المسلمون –وهم قلة في العدد والعدة- في تلك العمليات أكثر من عدو، فقد حاربوا المشركين واليهود والروم.

وكان الردع هو جوهر الاستراتيجية الحربية للجيش كما يلي:

§ بإيقاع الرهبة في قلب العدو وإخافته من عاقبة عدوانه على المسلمين تطبيقاً للتوجيه القرآني: »وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم..« (الأنفال: 60) وللحديث: »نُصِرت بالرعب مسيرة شهر.« (من حديث البخاري). ودليل ذلك أن القتال لم ينشب إلا في تسع عشرة غزوة خوفاً من مواجهة قوة المسلمين.

§ وبقدرة الجيش علىالتعرف على نوايا العدو، وعلى الحركة السريعة لمواجهة الخطر وإجهاض تدابير العدو للعدوان، وقد قام الجيش بعدة عمليات من هذا النوع كان أبلغ دليل على نجاحها أن الأعداء كانوا يفاجأون بها، فيتركون أموالهم وديارهم للمسلمين (مثل غزوة بني سليم – ذي أمر – بحران – ذات الرقاع – دومة الجندل – بني المصطلق – بني لحيان).

2- جيش على مستوى عصره..

في فترة وجيزة لا تتجاوز سبع سنوات لحق جيش الإسلام الأول بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضيات عصره من حيث تكوين القوة الضاربة والتنظيم والتسليح:

§ فلقد كانت الاستراتيجية العسكرية العالمية المعاصرة لعصر النبوة (فارس وبيزنطة) تقوم على أساس أن تشكل القوة الضاربة للجيش من الفرسان بنسبة الثلث تقريباً من مجموع قوته.

وكان جيش الإسلام في بادئ الأمر يفتقر إلى الفرسان، ففي أولى الغزوات مثلاً –وهي بدر – كانت لدى الجيش فرَسان فقط، فعُني الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب المسلمين على الفروسية وحثهم على اقتناء الخيول حتى قفزت قوة الفرسان إلى المعدل العالمي وهو الثلث، ففي آخر غزوة -وهي تبوك- كان عدد الفرسان عشرة آلاف في جيش قوامه ثلاثون ألف مقاتل.

§ وتطور تسليح الجيش بأن أضاف إلى أسلحته المنجنيق والعرادات والدبابات، وهي أسلحة خاصة بالحصار ودك الحصون والأسوار. فقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعثة من اثنين من المسلمين إلى جرش في الشام فتعلما صنعة هذه الأسلحة، ثم استخدمها الرسول صلوات الله وسلامه عليه في حصار الطائف وخيبر.

§ وبهذا كان الجيش معداً لمواجهة جيوش فارس والروم فوراً ومن عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما ذكرنا.

3- مدرسة عسكرية كاملة..

وترك الرسول القائد صلى الله عليه وسلم مدرسة عسكرية كاملة لها مبادئها ونظرياتها في أسباب الحرب ودوافعها وآدابها، ونظرياتها في إعداد الأمة للحرب، وفي إعداد المقاتلين وإعداد القادة، وفي الاستطلاع والأمن ومقاومة الجاسوسية، ونظرياتها في الحرب النفسية والتدريب على القتال واقتصاديات الحرب [1]، وترك لنا أيضاً شهادة من التاريخ بأن الجيوش التي تطبق هذه المبادئ تصبح قوة لا تقهر.

4- جيل من القادة الخبراء بفن الحرب..

بلغ عدد قادة الفتوحات الإسلامية ستة وخمسين ومائتي قائد، كان منهم ستة عشر ومائتا قائد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين تعلموا على يديه وفي مدرسته، وليس هذا فحسب، بل باشروا القيادة تحت إشرافه وتوجيهه بصور شتى، فعملوا تحت قيادته العليا قادة للوحدات الفرعية التي يتألف منها الجيش، وقادوا السرايا الحربية قيادة مستقلة، وشاركوا في التخطيط الحربي فأصبحوا خبراء في التخطيط والقيادة معاً [2]. والمعروف أن القادة الذين اكتسبوا خبرة عملية في الحرب يعدون من أثمن الثروات الاستراتيجية لأمتهم.

5- شخصية إسلامية قوية راسخة العقيدة..

ومن أهم ما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك البناء الشامخ للشخصية الإسلامية التي أسلمت وجهها لله وملآت قلبها بعقيدة الإيمان بوحدانية الله، وتخلقت بالأخلاق التي أمر بها سبحانه وتحررت من رق العبودية لغير الله..

ولقد نشأت هذه الشخصية في مجتمع إسلامي، قام أفراده بواجبهم نحو ربهم، وجمعتهم رحمة الأخوة وسماحة التآلف وكرم الإيثار، وباعوا أنفسهم وأموالهم صادقين مطمئنين لقاء ما أعطاهم ربهم من جنته ومغفرته ورضوانه، وملك حب الله قلوبهم فأحبوا من أحبه وعادوا من عاداه ولو كان أقرب الناس إليهم.. وهكذا تهيأ المناخ الصالح للشخصية الإسلامية لإظهار كل طاقاتها المدخرة فيها.

كيف حافظ أجدادنا على هذه الأمانة؟
ومن أهم ما ينفع المسلمين اليوم من دروس التاريخ أن يتأملوا فيما فعل أجدادنا الأوائل في تلك الأمانة التي تركها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحق أن أجدادنا قد فعلوا ما هو أكثر من المحافظة عليها، فعملوا بسنة التطور التي نبهها إليها دينهم، لكي تبقى لجيش الإسلام قوة الردع في عصرهم وفي كل عصر، مدركين تمام الإدراك أن تخلف القوة الإسلامية عن مقتضيات عصرها، يفقدها القدرة على الردع وعلى إرهاب الأعداء.. ولنتخذ على ذلك مثلاً مما تم في عصر الخلفاء الراشدين:

1- تدريب الأجيال الجديدة على مبادئ المدرسة العسكرية الإسلامية:

ويكفي أن نذكر في هذا المقام ما روي عن زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم قال: »كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسم كما نعلم السور من القرآن«، وعن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم: »كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول: يا بني، إنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها«.

2- تطوير الجيش:

فقد أخذ المسلمون بأسباب التقدم والتطور في الكفاءة القتالية للجيش، فأدخلوا على أسلحة الحصار مثلاً كثيراً من التحسين والتهذيب، وكثر حصارهم بها للمدن المحصنة ذات الأسوار العالية في حروب العراق والشام وفتح مصر، كما تطور الجيش أيضاً في التركيب التنظيمي وتشكيلات القتال وإدارة المعارك، ومن أمثلة ذلك نظام الكراديس [3] الذي ظهر في معركة اليرموك، ومن ذلك أيضاً وضع الديوان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو نظام لتسجيل أسماء المسلمين وتحديد أرزاقهم وتدوين البيانات الخاصة بكل منهم مثل النسب والقبيلة والملامح واللون لكي يسهل استدعاؤه، وهو ما يعرف اليوم بنظام السجلات العسكرية ونظام التعبئة.. إلخ.

ولقد شهدد الإمبراطور البيزنظي ليو لجيش الإسلام بتطوره وملاحقته لعصره فنقل عنه فون كريمر في كتابه الشرق تحت حكم الخلفاء أنه قال: »إن الجندي العربي ما كان يفترق عن الجندي البيزنطي في المؤن والسلاح..« إلخ.

3- إضافة نظريات حربية جديدة..

وذلك نتيجة لخوض المسلمين أشكالاً جديدة من العمليات الحربية لم يألفوها في عصر النبوة، مثل عمليات عبور الأنهار والموانع المائية، وعمليات الحصار الطويلة، والمسير الطويل، وتأمين خطوط المواصلات والإمداد الطويلة، وإقامة المعسكرات والثغور والقواعد الحربية والإدارية، وإدارة شؤون البلاد المفتوحة في جميع المجالات.

4- اكتساب القدرة على إدارة الحرب في جبهتين في وقت واحد..

فلقد أثبتت القيادة الإسلامية كفاءة لا نظير لها في إدارة دقة الحرب في جبهتين استراجيتين في وقت واحد وفي مواجهة أكبر قوتين عالميتين في عصرهما هما فارس وبيزنطة، وذلك مثل فريد في التاريخ لم تبلغه أقوى الأمم وأوسعها خبرة بفنون الحرب، فالمعروف أن الحرب في جبهتين من أصعب المواقف التي تواجه القيادة، فهو تنطوي على مشكلات بالغة الصعوبة والتعقيد، وتتطلب كفاءة عالية جداً في التخطيط والسيطرة وإدارة العمليات، ويكفي أن نعلم أن الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) لم يستطيعوا أن يهزموا العسكرية الألمانية إلا عن طريق فتح جبهة ثانية..

5- إنشاء الأسطول الحربي الإسلامي لأول مرة في التاريخ..

فقد اقتحم المسلمون بكل اقتدار مجالاً جديداً تماماً من مجالات الصراع هو الحرب البحرية فدخل السلاح البحري في الاستراتيجية العسكرية الإسلامية لأول مرة في التاريخ، ومن أجل ذلك أقام المسلمون دور الصناعة لبناء السفن الحربية، وأتقنوا فنون الحرب في البحار وعمليات الإبرار الحربي، وبلغت كفاءتهم في هذا المجال حداً أنهم انتصروا في المعركة البحرية على أساطيل بيزنطة التي كانت أعظم قوة بحرية في زمانها، فكانت هذه الأساطيل كما يقول ابن خلدون: »تهرب أما البحرية الإسلامية التي ضريت عليهم (أي لزمتهم وطاردتهم) كضراء الأسد على فريسته«.

6- إنزال فارس وبيزنطة عن عرش الفن الحربي..

فالمحصلة النهائية لإنجازات أجدادنا الحربية في عصر الفتوح هو انتصار العسكرية الإسلامية على كل من العسكرية الفارسية والعسكرية البيزنطية بكل ما وراءهما من تاريخ حربي طويل، وخبرة واسعة بفنون الحرب والقتال.

7- فتح الطريق لتأسيس الحضارة الإسلامية..

وهو فضل سجله التاريخ لأجدادنا الأوائل الذين جاهدوا في الله حق جهاده، واسترخصوا المال والنفس والولد في سبيل الله، فشقوا الطريق لتلك الحضارة التي أنارت الطريق للبشرية في ميادين العلوم الطبيعية والاجتماعية، ولولا ذلك لتخلفت مواكب الحضارة الحديثة عن الظهور.

المسلمون قوم لا يُقهَرون..

تحت هذا العنوان قال مونتجمري في كتابه الحرب عبر التاريخ:

»في غضون مائة سنة امتدت الدولة الإسلامية من بحر الأورال إلى أعالي النيل، ومن تخوم الصين إلى خليج بسكاي، ولم تكن هناك سوى قوة واحدة لديها القدرة على مقاومة المسلمين في ذلك الوقت وهي الإمبراطورية البيزنطية [4] بالرغم من فقدها الجزء الجنوبي الشرقي من إمبراطوريتها، وفي عام 636م حشد الإمبراطور البيزنطي جيشاً مكوناً من خمسين ألفاً ليقاتل به العرب، وكان جيشهم نصف عدد الجيش البيزنطي وبقيادة خالد بن الوليد، والتقى الجيشان عند اليرموك، وقد أسفرت المعركة عن هزيمة الجيش البيزنطي، وتشتت صفوفه ولاقوا حتفهم على أيدي أهل الصحراء، وأدى هذا إلى تقلص جبهة البيزنطيين حتى وصلت جبال طوروس، كما سقت الإسكندرية في قبضة عمرو بن العاص..«

وفي موضع آخر يقول مونتجمري: »كان العرب يندفعون نحو القتال، تحركهم أقوى دوافع الحرب ألا وهو الإيمان والعقيدة.. كانوا يؤمنون إيماناً راسخاً بالدعوة الإسلامية ويتحمسون لها ويغارون عليها، ويعتنقون مبدأ صلباً هو الجهاد في سبيل الله، وقد تغلغل في قلوبهم..«.

واجب المسلمين اليوم..

والمتأمل في حال المسلمين اليوم لا يمكنه أن يقول: إنهم حافظوا على أمانة إعداد القوة مثلما حافظ عليها أجدادهم عليها، ويكفي أن نتساءل على سبيل المثال:

§ هل لدى المسلمين اليوم القوة الذاتية القادرة على الردع وتحقيق الأهداف الاستراتيجية؟

§ وهل جيوش الأمة الإسلامية اليوم على مستوى عصرها من التطور والتقدم تنظيماً وتسليحاً وكفاءة للقتال؟

§ هل يدرس أبناء المسلمين اليوم في الكليات العسكرية مبادئ ونظريات العسكرية الإسلامية؟ أم أنهم يدرسون العلم العسكري نقلاً عن الغرب أو الشرق حتى أصبحوا مقطوعين عن مقوماتهم الأساسية الأصيلة؟

§ هل تملأ الروح الجهادية وحب الجندية قوب شبابنا اليوم؟ وهل يقبلون على العلم والعمل والانتاج باذلين أقصى ما لديهم من طاقات معنوية ومادية لبناء أمتهم وبناء قدراتها الدفاعية؟

هذه الأسئلة وعشارت غيرها لابد أن تدور في عقولنا وقلوبنا اليوم، لأن الإجابة عليها ترشدنا بسرعة وبصورة محددة إلى ما ينبغي عمله لحاضرنا ومستقبلنا.

ولا ينبغي في هذا المقام أن تغيب عنا الرؤية التاريخية، ففي التاريخ – وقد ذكرنا جانباً منه آنفاً – العبرة التي يسترشد بها، والتجارب التي ينتفع بها، ثم إن لنا من تعاليم ديننا ما يغنينا عن البحث عن نظرية تحقق لنا في عصرنا – وفي كل عصر – الأمن والسلامة، وبناء القوة التي تحمينا وتدفع العدوان عنا، وتعيد إلى أمتنا الإسلامية مكانتها اللائقة بها، وسابق عهدها: أمة مرهوبة الجانب، وخير أمة أخرجت للناس.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 30، جمادى الآخرة، 1403 هـ


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر كتابنا (المدخل إلى العقيدة العسكرية الإسلامية) للتعرف على نظريات المدرسة العسكرية تفصيلاً.

[2] راجع فصل »إعداد القادة« في المرجع السابق.

نظام الكراديس هو تركيب تنظيمي يقوم علىبناء وحدات متساوية في القوة من الفرسان والرماة، دون النظر إلى أصل أو نسب، وهو الأسلوب المعمول به في الجيوش النظامية.[3]

[4] إن إغفال مونتجمري لقوة فارس لا يخفى على الفطن، كما أن ذلك – من الناحية العلمية- تقصير من مؤرخ في تناول التاريخ بطريقة موضوعية، ثم إنه لا يمحو من صفحات التاريخ معارك القادسية والمدائن ونهاوند وغيرها من معارك فتوح العراق وإيران.






اشترك معنا

ضع بريدك هنا

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:46 AM
الهجرة النبوية

معناها وأهدافها

بقلم الأستاذ: نبيه عبد ربه


--------------------------------------------------------------------------------

يعتبر حادث الهجرة فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، ولقد كان لهذه الحادث آثار جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضاً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته.

فسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تحد آثارها بحدود الزمان والمكان، وخاصة أنها سيرة القدوة الحسنة والقيادة الراشدة قيادة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وما نتج عن هذه الهجرة من أحكام ليست منسوخة ولكنها تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان ما دام حال المسلمين مشابهاً للحال التي كانت عليها حالهم أيام الهجرة إلى يثرب.

وعلى هذا فإن من معاني الهجرة يمكن أن يأخذ بها المسلمون في زماننا هذا، بل إن الأخذ بها ضرورة حياتية، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال، إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة، ومن حالة الجمود إلى الحركة.

فالهجرة تعني لغة ترك شي إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال، أو من بلد إلى بلد، يقول تعالى: »والرجزَ فاهجرْ« (المزمل 5)، وقال أيضاً: »واهجرهم هجراً جميلاً« (المزمل 10)، وتعني بمعناها الاصطلاحي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وهذه هي الهجرة المادية، أما الهجرة الشعورية فتعني الانتقال بالنفسية الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة أخرى بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى كالانتقال من حالة التفرقة إلى حالة الوحدة، أو تعتبر مكملة لها كالانتقال بالدعوة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.

فالهجرة المادية من بلد لا يحكم بالإسلام إلى بلد تحكمه شريعة القرآن ليست منسوخة، بل هي واجبة على جميع المسلمين إذا خشوا أن يفتنهم الذين كفروا في دينهم وعقيدتهم، لأن هدف المسلم في الحياة أن يعيش في مجتمع يساعده على طاعة الله والالتزام بأوامره وأحكامه، أو على الأقل لا يحارب بعقيدته، لأن الفتنة في الدين هي الفتنة الكبرى، فالله تبارك وتعالى يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولكن لا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، أو كمال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتتم هجرة المسلم من بلد إلى آخر لعدة أهداف:

- فقد يهاجر المسلم فراراً بدينه وعقيدته، حتى لا يرده الحكام الكافرون إلى الكفر، كما فعل بعض مسلمي الجمهوريات الإسلامية حينما هاجروا من بلادهم فراراً من الشيوعية الملحدة. يقول تعالى: »يا عبادي إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون« (العنكبوت 56)، ويقول صلى الله عليه وسلم: »من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً منها وجبت له الجنة وكان رفيقاً لأبيه إبراهيم.«

- وقد يهاجر المسلم فراراً من ظلم اجتماعي أو اقتصادي لحق به وخشي إن لم يهاجر أن يمتد ذلك الظلم إلى دينه، يقول تعالى: »والذين هاجر في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون« (النحل 41) وقال تعالى: »ومن يهاجر في سبيل الله يجدْ في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموتُ فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً« (النساء 100).

وروى الإمام أحمد عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »البلاد بلادُ الله والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيراً فأقم.« وقد توعد القرآن الكريم المسلمين الذين لم يهاجروا إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما توعد الأعراب الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة حرصاً على أموالهم وديارهم، فقال تعالى: »إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً« (النساء 98). وكانت نتيجة ذلك أن بعض هؤلاء فتن في دينه واضطر إلى إظهار التقية، ولكن هذه التقية كانت جائزة يوم أن لم تكن للإسلام دولة، أما بعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأقام فيها دولة الإسلام، فلم يعد لهؤلاء عذر، بل وجبت عليهم الهجرة، ولهذا نجد القرآن الكريم لا يفرض علىالمسلمين ولاية هؤلاء، لأنهم ليسوا أعضاء في المجتمع الإسلامي، وإذا كانت تربطهم بالمسلمين رابطة العقيدة، فإن نصرتهم تكون بناء على طلب منهم، يقول تعالى: »والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق« (الأنفال 72).

ويتحتم على المسلم أن يهاجر من أرض الشرك إلى أرض الإسلام حينما تقوم الدولة الإسلامية ويتكون المجتمع الإسلامي، والهجرة هنا حسب مقتضيات الحال، إذ أن الهدف هنا تدعيم الدولة الإسلامية الجديدة بقوى بشرية وتقنية وعلمية، ولكن تقدير هذا كله متروك لقادة هذه الدولة، لأن الهجرة العشوائية قد تترك آثاراً سلبية على هذه الدولة فتصبح عقبة في طريق قوتها وانطلاقها.

أما الهجرة الشعورية، فتعني اصطلاحاً انكار ومعاداة كل ما لا يرضي الله أو يخالف شريعة الله، ويظهر المسلم هذا العداء بكل الوسائل الممكنة، بالجوارح أو باللسان أو بالقلب، ويعمل على تغييرها بكل الامكانات المتاحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: »من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان.« وأساس هذه الهجرة النية، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: »إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه«. ومن هذا نرى الشارع الحكيم قد حدد نوعين من الهجرة لا ثالث لهما: هجرة إلى الله، وهجرة لغير الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: »الهجرة خصلتان، إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرة أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة.«

إذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة الشعورية واجبة على كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة. ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: »قد مضت الهجرةُ بأهلها« قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »على الإسلام والجهاد والخير«. ويقول صلى الله عليه وسلم: »لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها«. أما قوله صلى الله عليه وسلم: »لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية« فالمراد بها هنا أن لا هجرة واجبة بعد الفتح، وقد زاد مسلم »وإذا استنفرتم فانفروا«.

والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحل اله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: »وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون« (الذاريات 56)، وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟ ولهذا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: »المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه«. (رواه البخاري) وفي رواية (ابن حبان): »المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده«.

والمعنى الذي حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية، فتقيمها على أسس قويمة، أسس تقوم على أساس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية، ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية المعذبة إلى شاطئ الأمان والاطمئنان. فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية منها والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد، ولهذا أكد الحديث على (كف اللسان واليد) إذ أنهما الأعضاء التي تصدر عنها المفاسد القولية والفعلية، وإذا كانت هذه الأعضاء سلاحاً ذا حديثن يمكن أن يصدر عنها الخير كما يمكن أن يصدر عنها الشر، فإن إمكانية صدور الشر عنها أرجح من صدور الخير، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: »من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت« (متفق عليه).

واللسان اسم العضو الذي يصدر عنه الكلام، وعبر الحديث باللسان عن الكلام ليندرج تحته كل أنواع الكلام، وقدم الحديث اللسان على اليد لأن الإيذاء باللسان أسهل وأشد تأثيراً على النفس من الإيذاء باليد. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: »اهجُ المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبال«. ورحم الله من قال:

جراحاتُ السنانِ لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسانُ

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللهُ تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه« (رواه مالك والترمذي).

واليد اسم العضو الذي تصدر عنه الأفعال، حسية كانت أم معنوية، فالحسية: كالضرب والسرقة والكتابة والاشارة. والمعنوية: كأكل مال الناس بالباطل، والاستيلاء على حقوق الآخرين بغير حق، واليد مظهر السلطة الفعلية، ففيها يحدث الأخذ والمنع، والبطش والقهر، فإذا أضفنا إلى هذين العضوين عضواً ثالثاً هو (الفرج) نجد أن الإسلام أقام الحياة الإنسانية على دعائم قوية من تقوى الله والخلق الحسن والأمان والاطمئنان. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: »تقوى الله وحسن الخلق«. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: »الفم والفرج« (رواه الترمذي وابن حبان والبيهقي).

وكان الهدف من الهجرة هدفاً عظيماً، وهو الانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، والمؤرخون يقسمون سيرة الدعوة الإسلامية إلى مرحلتين متميزتين: العهد المكي الذي يمثل مرحلة الدعوة، والعهد المدني الذي مثل مرحلة الدولة. ولكنني أرى أن بين هاتين المرحلتين مرحلة انتقالية تمثل مرحلة الثورة، لأنها نقلت الدعوة الإسلامية نقلة هائلة سريعة من مؤحلة كان هدفها تربية الفرد المسلم إلى مرحلة أصبح هدفها تكوين المجتمع المسلم. ومن دعوة كانت مجرد عقيدة وفكرة إلى دعوة أصبحت شريعة ودولة، ومن حركة محدودة الآثار إلى حركة عالمية الأهداف، ومن دعوةأتباعها قلة مستضعفون إلى دعوة أتباعها سادة فاتحون. ولهذا كانت الهجرة ثورة عقائدية، بكل ما تحمله هذه العبارة من معان إيجابية، لأنها غيرت أحوال المسلمين تغييراً جذرياً، فنقلتهم من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الانحصار إلى الانتشار، ومن الاندحار إلى الانتصار، ولم تقف آثارها عند هذا الحد بل كانت ثورة على كل ما يخالف شريعة السماء وفطرة الإنسان السليمة، فشملت آثارها النواحي العقائدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

لقد كان هدف المصطفى صلى الله عليه وسلم من هجرته إلى المدينة إيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولقد كانت هذا الهدف أملاً يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مرة لأصحابه: »رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب«.

كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة، لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود ويذلل في طريقها الكثير من الصعاب، والمجال الخصب الذي تتحقق فيه الأهداف، والمنطلق الذي تنطلق من الطاقات، ولهذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث (مصعب بن عمير) إلى المدينة ليعلم الأنصار الإسلام وينشر دعوة الله فيها. ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة حثّ أصحابه إلى الهجرة إليها وقال لهم: »هاجروا إلى يثرب فقد جعل الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها«.

كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة، فقد كان وضعاً أن يكون الرسول القائد في مكة، والأنصار والمهاجرون في المدينة، ولهذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بين ظهراني أتباعه، لأن الجماعة بدون قائد كالجسد بلا رأس، ولأن تحقيق أهداف الإسلام الكبرى لا يتم إلا بوجود جماعة مؤمنة منظمة، تغذ السير إلى أهدافها بخطى وئيدة.

فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرة إلى الله ورسوله: هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، باتباع سنته، والاقتداء بسيرته، فإن فعلوا ذلك فقد بدأوا السسير في الطريق الصحيح، وبدأوا يأخذون بأسباب النصر، وما النصر إلى من عند الله.

ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد الأول، محرم 1401 هـ

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:47 AM
طرد المسلمين من إسبانيا
بقلم: روجر بواس[1]

Roger Boase

يلقي روجر بوس في مقاله هذا نظرة على النموذج الإسباني للتطهير العرقي والديني.


--------------------------------------------------------------------------------

لكل شيء إذا ما تم نقصان * فلا يغر بطيب العيش إنسان

وهذه الدار لا تبقي على أحد * ولا يدوم على حال لها شانُ

تبكي الحنيفيةَ البيضاءَ من أسفٍ * كما بكى لفراق الإلف هيمانُ

حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ * حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ

حتى المساجدُ قد اضحتْ كنائسَ ما * فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهُمُ * أحال حالهمْ جورُ وطغيانُ

بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم *واليومَ هم في بلاد الضدِّ عبدانُ

ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ * لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ

يا ربَّ أمٍّ وطفلٍ حيلَ بينهما * كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ

وطفلةٍ مثل حسنِ الشمسِ * إذ طلعت كأنما ياقوتٌ ومرجانُ

يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً * والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ

لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ * إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ


--------------------------------------------------------------------------------

هذه كانت الكلمات التي كتبها الشاعر " أبو البقاء الرندي" بعد وقوع إشبيلية في يد ملك كاستيل "فردناند الثالث"، وذلك في ديسمبر عام 1248.

فقد تم في ذلك الوقت الاستيلاء على العديد من المدن الأخرى ومن ضمنها بلنسية، مرسية،جيان، وقرطبة.وقد بدا أن نهاية إسبانيا المسلمة على وشك الحدوث.

ومع ذلك، فلم تقع مملكة غرناطة التي كان يحكمها المغاربة في يد "فردناند" و "إيزابيلا" إلا في عام 1492، ولم يتم طرد المسلمين الأخير إلا في القرن التالي ما بين عامي 1609 و 1610 .وهذا يعني أنه كان هناك عدد كبير من المغاربة المسلمين يقطنون في إسبانيا بعد بلوغ الثقافة الأندلسية أوجها والتي استمرت خمسمائة عام وذلك في القرن الحادي عشر.

وقد يكون الشاعر أبو البقاء قد تأثر كثيراً لمعاناة إخوانه في الدين، وذلك بعد سقوط غرناطة ، أو خلال فترة طرد المسلمين حيث ارتكب بحقهم كثير من الأعمال الوحشية: دمرت المنازل وهُجرت، وتحولت المساجد إلى كنائس، وأبعدت الأمهات عن أطفالهن، وسلبت ثروات الناس وتم إذلالهم، وتحول الثائرون المسلحون إلى عبيد.

وبحلول القرن السادس عشر أصبح المغاربة مواطنين إسبانيين، وكان بعضهم مسيحيين بالأصل، وكان العديد منهم مثل شخصية "ريكوت" وهو جار "سانشو بازا" في رواية "الدونكيشوت" (1605-1615) وطنيون لدرجة كبيرة، وكانوا يعتبرون أنفسهم مثل ذلك المغربي في تلك الرواية. إلا أنهم كانوا جميعاً ضحايا سياسة الدولة التي كانت مبنية على النزاعات العنصرية الدينية، والتي كانت يدعمها المجلس الملكي، والكنيسة، حيث كان طرد اليهود عام 1492 يمثل حادثة مماثلة شرعية في ذلك الوقت.

وحسب بنود المعاهدة التي أبرمت عام 1492، والتي نصت على السماح لرعايا الملك على الاحتفاظ بمساجدهم ومعاهدهم الدينية، ولهم حق استخدام لغتهم والاستمرار بالالتزام بقوانينهم وعاداتهم، إلا أن بنود تلك المعاهدة قد نقضت خلال السنوات السبع التالية. وقد حدث ذلك عندما جرى استبدال النهج التبشيري المعتدل لرئيس أساقفة غرناطة "هيرناندو دو تالفيرا" (1428-1507)، بالنهج التعصبي للكاردينال "سيزيزوس" (1518-1436) الذي قام بتنظيم اعتناقات جماعية للدين المسيحي، وقام بحرق جميع الكتب الدينية باللغة العربية، وجرى ذلك أثناء التمرد الأول للبوجراسيين[2] (1500-1499) وعقب اغتيال أحد نواب الكاردينال.

وهذا بالتالي منح العذر للملوك الكاثوليك لأن ينكثوا بوعودهم. وفي عام 1499 أجبر قادة الدين الإسلاميين في غرناطة على تسليم أكثر من 5000 كتاب تتميز بتجليدات زخرفية لا تقدر بثمن، فقد تمّ حرقها وبقي منها بعض الكتب الطبية فقط.

وبعد عام 1502 تم تخيير المغاربة في جنوب الأندلس، وبلنسية، وكاتالونيا، وأراغون بعد عام 1526 بين التعميد أو النفي. فكان التعميد بالنسبة للأغلبية هو الخيار الشكلي. وأصبح المسلمون الإسبان فيما بعد المسيحيين الجدد (نظريا) وهم بذلك أضحوا خاضعين للسلطة القضائية للمحكمة الكاثوليكية التي يترأسها البابا "سكستوس" السادس في عام 1478.

إلا أن معظم هذا الاعتناق الديني كان بالاسم فقط: إذ كان المسلمون يمارسون الطقوس الدينية المسيحية التي لا وزن لها، إلا أنهم استمروا في تطبيق الدين الإسلامي سراً. فمثلاً، بعد أن يتم تعميد الطفل، كان يؤخذ إلى البيت ويتم تغسيله بالماء الحار لإبطال قدسية التعميد.

كان المسلمون الأوائل قادرين على أن يحيوا حياة مزدوجة بضمير حي، نظرا لوجود بعض الأحكام الدينية الإسلامية التي تجيز للمسلمين الرازخين تحت وطأة الإكراه أو من كانت حياتهم في خطر، التظاهر بالتقية حفاظاً على حياتهم.

واستجابة لطلب من المسلمين الإسبان، أصدر المفتي الأكبر لمدينة وهران[3] أحمد بن أبو جمعة حكما بجواز احتساء المسلمين الخمر، وتناول لحم الخنزير، أو القيام بأي فعل محرم إذا أجبروا على القيام بذلك ولم يكن في نيتهم فعل هذا العمل الآثم. كما أفتى أيضا بجواز إنكار الرسول محمد بألسنتهم شريطة أن يكنوا له في الوقت نفسه المحبة في قلوبهم، إلا أنه لم يوافق جميع العلماء المسلمين على هذا الإفتاء.

وبذلك، فإن سقوط غرناطة كان بمثابة المرحلة الجديدة في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين .

لقد كان حال المسلمين تحت الحكم المسيحي وخلال فترة القرون الوسطى، يشابه حال المسيحيين الذين كانوا تحت حكم المسلمين[4]: حيث كانوا ينتمون إلى أغلبية محمية تحافظ على قوانينها، وعاداتها مقابل دفع الجزية. وبالنسبة للوضع القانوني لليهود والمسلمين تحت الحكم المسيحي، فلم يكن على أساس كتبهم المقدسة بل كانوا يخضعون إلى نزوات الحكام، وإلى تحيزات عامة الناس ومعارضة الرهبان.

وقبل اكتمال فترة إعادة الاستيلاء، كان من مصلحة ملكي "أراغون" و "كاستيل" احترام تلك القوانين والاتفاقيات.

ومع ذلك ، نرى الآن أن إسبانيا لم تصبح نظريا على الأقل أمة مسيحية بصورة كاملة، وإنما هناك تماثل أيضا من حيث نقاء الإيمان مع صفاء الدماء ، بحيث صنف جميع المسيحيين الجدد أو المتحولين عن دينهم ، سواء أكانوا من أصل إسلامي أم يهودي، صنف هؤلاء بالمارقين المتسترين.

وبما أن المغربي عضو في الأقلية المقهورة ذات البيئة الثقافية الأجنبية، فقد أصبح هذا المغربي "مغربيا ضعيفا"، وأضحى كل مظهر من مظاهر حياته : لغته، ملبسه، وعاداته الاجتماعية يحكم عليها بأنها غير حضارية و وثنية. فالفرد الذي يرفض احتساء الخمر ، أو تناول لحم الخنزير قد تتهمه المحكمة الكاثوليكية بأنه مسلم، وتعتبر المحكمة الكاثوليكية والرأي العام أن تصرفات مثل تناول "الكوسكس"، واستخدام الحناء ، و رمي الحلوى خلال حفلات الزفاف، والرقص على إبقاع الموسيقى البربرية، كل ذلك يعتبر حسب نظرهم عادات غير مسيحية، وعلى الفرد أن يعاقب نفسه تكفيراً عن خطيئته.

وبالنسبة للمغاربة الذين كانوا مسيحيين أصليين، فقد كانوا يعتبرون كمواطنين من الدرجة الثانية، وكانوا يتعرضون للنقد من قبل المسلمين والمسيحيين على حد سواء. وعلى الرغم من أن إطلاق اسم Morisco على المغربي يعتبر لفظا ينتقص من قدره، إلا أن المؤرخين يرون أن هذا الاسم مناسباً لتمييز العرب أو المغاربة الذين بقوا في إسبانيا بعد سقوط غرناطة.

قام "فيليب الثاني" في عام 1567 بتجديد مرسوم لم يتم تنفيذه بإحكام من قبل. وهو ينص على عدم شرعية استخدام اللغة العربية، وحظر الدين الإسلامي واللباس والعادات الإسلامية. وقد صدر هذا المرسوم في فترة التمرد الثانية للبوجراسيين (1568-1570) والذي بدا أنه قام بمؤامرة سرية مع الأتراك. وتم القضاء على الانتفاضة بوحشية من قبل نبيل النمسا "الدون جوان".

وكان من أكثر الأعمال الوحشية التي ارتكبها هو تدمير مدينة "غاليرا" وحتى شرق غرناطة ومحوها تماماً، حيث قام بمذبحة راح ضحيتها 2500 امرأة وطفل، وإلى تشتيت شمل حوالي 80000 مغربي متواجدين في غرناطة والذين ذهبوا فيما بعد إلى المناطق الأخرى من إسبانيا، واستقر المسيحيون القدامى، وهم من شمال إسبانيا، في مدنهم.

وبحلول عام 1582، اقترح مجلس دولة الملك فيليب الثاني فكرة طرد المسلمين، ورأى المجلس أن ذلك هو الحل الوحيد للصراع القائم بين الجاليات، على الرغم من وجود بعض المخاوف من حدوث حالة تردي اقتصادي مؤذ حيث سيفتقَد إلى المهارة الحرفية، وسيكون هناك نقص في الخبرة والقوة البشرية العاملة في الزراعة.

وبما أن هناك معارضة من قبل بعض النبلاء، ونظرا لأن الملك كان مشغولاً بالأحداث العالمية، فإنه لم يتم اتخاذ قرار بهذا الشأن حتى عام (1609-1610) حيث أصدر فيليب الثالث (1626-1598) مرسوم الطرد.

وقد قامت الكنيسة بسنّ القوانين الملكية الخاصة بالمسلمين بكل مراحلها. فقد أصبح "جوان دوربيرا" (1611-1542) وهو كبير رئيس الأساقفة والذي كان في البداية يؤمن إيماناً راسخاً في فعالية العمل التبشيري، أصبح في أيامه الأخيرة المؤيد الرئيسي للطرد. وقد قال في خطبة دينية في 27 سبتمبر عام 1609 أن "الأرض لن تزدهر ثانية مالم يتم طرد هؤلاء الزنادقة".

وتغير أيضا موقف دوق "ليرما"، وهو الوزير الأول للملك فيليب الثالث (1618-1598)، عندما تمت الموافقة بمنح لوردات بلنسية أراضي المسلمين المطرودين، وذلك تعويضاً عن خسارتهم لسفنهم.

وتم بالإجماع المباشرة بتطبيق قرار الطرد من قبل مجلس الدولة، وذلك في 30 يناير عام 1608، على الرغم من أنه لم يتم التوقيع الفعلي على المرسوم من قبل الملك إلا في الرابع من إبريل عام 1609. وتم إعداد أسطول السفن الشراعية الإسبانية سراً، وانضم إليه فيما بعد العديد من السفن التجارية الأجنبية وقد جاء البعض منها من إنجلترا.

وفي الحادي عشر من سبتمبر، أعلِن في بلدة بلنسية عن قرار الطرد، و غادرت أول قافلة من دانية عند حلول الظلام ، وذلك في الثاني من أكتوبر ووصلت إلى وهران في أقل من 3 أيام.

وتسلم مسلموا أراغون وقشتالة وجنوب الأندلس، و "اكستير مادورا" أوامر الطرد خلال فترة السنة التالية. واستقرت أغلبية المهاجرين المطرودين في المغرب، أو على الساحل البربري وخاصة في وهران، تونس، تلمسان، تطوان، الرباط، وسَلا.

وقد سافر العديد منهم براً إلى فرنسا، إلا أنهم أجبروا على الهجرة إلى إيطاليا، وصقلية، أو اسطنبول إثر اغتيال "هنري" ملك "نافار" على يد "رافيلاك" وذلك في مايو عام 1610.

هناك تضارب شديد حول عدد سكان المغاربة. فقد قدر عالم الديموغرافيا الفرنسي "هنري لابيري"، وذلك من خلال تقارير الإحصاء الرسمية للسكان، ومن خلال قوائم المسافرين على متن السفن، أن هناك حوالي 275000 مسلم إسباني قد هاجروا خلال السنوات 1614-1609 من مجموع 300000 مسلم إسباني.

ولا يتساوى هذا التقدير المعتدل مع الروايات المعاصرة العديدة التي تقدر عدد المسلمين بحوالي 600000 مسلم، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن العدد الكامل لسكان إسبانيا في ذلك الوقت كان بحدود سبعة ملايين ونصف المليون نسمة فقط، فهذا يشكل بحد ذاته نقصاً حاداً في القوة البشرية المنتجة، وفي ريع الضرائب.

وفي مملكة بلنسية التي فقدت حوالي الثلث من سكانها ، فقد هُجرت نصف قراها في عام 1638.

وهناك تضارب مماثل حول عدد المسلمين الذين قتلوا خلال التمرد المسلح، أو أثناء رحلتهم إلى المنفى. وأفاد السيد "بيدرو أزنار كاردونا" الذي برّر في بحثه مسألة الطرد والذي نشر في عام 1612، أنه توفي أكثر من 50000 مسلم، وذلك بين شهري تشرين الأول/أكتوبر 1609 وتموز/يوليو 1611 أثناء محاولتهم مقاومة طردهم، في حين أنه توفي أكثر من 60000 مسلم أثناء رحيلهم خارج البلاد سواء براً، أم بحراً ، أو على أيدي إخوانهم في الدين بعد أن تم إنزالهم على الساحل الشمالي الإفريقي

وإذا ما كانت هذه الأرقام صحيحة، نجد أن أكثر من سدس المسلمين قد أبيدوا خلال فترة السنتين. وقد أشار "هنري تشارلز لي" بعد دراسة المصادر المعاصرة أن نسبة وفاة المسلمين تقع ما بين ثلثي و ثلاثة أرباع مجموع عددهم.

استغل "جوان دو ريبيرا" العامل الديموغرافي كأحد الحجج المؤكدة في تأييد مسألة الطرد. و حذر "فيليب الثالث" أنه مالم يتخِذ إجراءً سريعاً، فقد يجد المسيحيون الإسبان أنفسهم عاجلاً أنهم أقل عدداً من المسلمين، حيث أن المغاربة يتزوجون ولديهم أسر كبيرة، في حين أن ثلث أو ربع المسيحيين غير متزوجين، وذلك بعد دخولهم في خدمة الكنيسة الكاثوليكية، أو بسبب انخراطهم في الخدمة العسكرية.

وأفاد "ريبيرا" أن كل ما يفكر به المسلمون هو الزيادة والحفاظ على نسلهم، في حين أن اعتدالهم في المأكل والمشرب يطيل من أعمارهم. ومما زاد من مخاوف "ريبيرا" هو الإحصاء السكاني الذي أجري لسكان بلنسية والذي أشرف عليه هو شخصياً في العام نفسه، والذي أظهر أن عدد المغاربة قد ازداد بنسبة الثلث.

وخلال اجتماع عقد لمجلس الدولة في كانون الأول/يناير 1608، عزا الكوماندور "دوليون" انخفاض عدد السكان المسيحيين الأصليين إلى كرههم لتحمل الأعباء الاقتصادية للزواج في وقت ترتفع فيه تكاليف الحياة. كما حذر أيضا من أن المسلمين سيتمكنون عاجلاً من تحقيق أهدافهم بكل سهولة بسبب ازدياد عددهم وذلك دون اللجوء إلى استخدام السلاح أو تلقي مساعدة من الخارج.

وحانت اللحظة المناسبة لاتخاذ عمل صارم إزاء هذا الموضوع، بسبب انشغال تركيا بالحرب، وضعف كل من فارس ( إيران أو شمال إفريقيا) من جراء تفشي مرض الطاعون والجفاف والحرب الأهلية.

ففي ذلك الحين أفاد كونت "ألبا دوليستَ"، من خلال مزيد من التحريف لمسألة الديموغرافية، لو يرسل الملك، برحمته، المسملين إلى شمال إفريقيا فإن ذلك يكون بمثابة ضرب من أنواع الحكم عليهم بالموت، لأنهم إنْ لم يموتوا بسبب الجفاف أو الجوع فإنهم سيصبحون عقماء.

نجد في مخيلة العديد من الناس أن مسألة خصوبة المسلمين لها علاقة بالتعاليم الدينية الإسلامية بالنسبة للانغماس في الشهوات واستباحة المحرمات. و يعزى فشل الكنيسة في جهودها التبشيرية – كما يقولون- إلى موقف الإسلام من المتعة الدنيوية، والحساب في دار الآخرة. وجسّد المسلمون إثم الطبيعة البشرية فيما بعد بطريقة رومانسية في تخيلاتهم للمرأة الشرقية. إلا أنهم كانوا عرضة لخطيئة "الأنا العليا" مثل الغرور، النفاق، المكر، الجشع، و اغتنام الفرص، وتعزى كل هذه الصفات إلى اليهود.

إن المتعصبين لن يترددوا في استخدام الأنماط المماثلة لتبرير كرههم للمسلمين، وهذا أمر لا ريب فيه بالنسبة للعديد من الكتّاب الإسبان في القرن السابع عشر الذين يصفون المغاربة بأنهم كسولين، إلا أنهم كادحون، وغير مسرفين ولكنهم فاسقون ، وبخلاء وفي الوقت نفسه مبذرون، وخونة ، إلا أنهم محاربون أشداء، وجاهلون وحريصون على التعلم كي يتفوقوا.

وكما رأينا أن هناك أسبابا حقيقية للخوف والغيرة من المغاربة: فعدد سكانهم يتزايد بسرعة، فأصبح البعض منهم تجاراً وأصحاب محال ناجحين، على الرغم من محاولات إقصائهم عن هذه المهن، وهم يضربون مثلاً رائعاً في سلوكهم في التجارة والاقتصاد في الإنفاق والعمل المضنين، وتعمل الأغلبية منهم ظاهرياً وفقاً للمتطلبات الدينية المفروضة عليهم، إلا أنهم استمروا –عن طرق الحيلة- بالاحتفال بأعيادهم وبتطبيق الشعائر الدينية الأساسية الإسلام.

وقد أدى رفضهم للتعاليم الداعية للتخلي عن طابعهم الديني والثقافي إلى أن يكرههم العديد من المسيحيين القدامى. فلم تكن هناك محاولة جادة لفهم ثقافة و دين المسلمين.

إن أية روايات يشوبها تشويه سمعة الإسلام، وأي تلميحات بإهانته، و أي تحريف لإحدى حقائقه، كان يعتبر مقبولاً، إذ كان يخدم ما يعتبره هؤلاء المسيحيون هدفاً جديراً بالثناء عليه لتشويه صورة الإسلام. كان مفهوم التنوع الثقافي يعتبر غريباً، واستيعاب هذا التنوع غير مقبول على نحو متساو.

تتباين معاناة المغاربة بشكل كبير من منطقة إلى أخرى. فقد سادت في بعض أرجاء إسبانيا علاقات مميزة بين المسيحيين القدامى والجدد. وقد أظهرت دراسة مفصلة أجراها "فيلاروبيا" في "لامانشا" –والتي يشكل فيها المسلمون نسبة 20% من السكان، ويمتلكون أفضل المزارع وقد اندمجوا ضمن المجتمع هناك- أظهرت أن جيران المسلمين من المسيحيين القدامى كانوا يقومون بحمايتهم من الزيارات غير المرغوب بها من قبل مفتشي الحكومة. و قد استطاع العديد من أؤلئك الذين تم طردهم من العودة ثانية إلى إسبانيا وقطع مئات الأميال للوصول إلى وطنهم.

ولم يتم سرد القصة الكاملة للمعاناة التي تحمّلها المغاربة: كيف وصل أولئك الذين نجوا بحياتهم إلى بلادهم، وهم يعانون من الجوع والحرمان لأن اللصوص والمحتالين سلبوا منهم المال وضرورات الحياة التي سمح لهم بأخذها معهم، وكيف أن الذين سافروا براً إلى فرنسا قد أرغموا من قبل المزارعين أن يدفعوا مالاً إذا شربوا من نهر، أو جلسوا تحت ظل شجرة، وكيف حاول الآلاف منهم المقاومة، وأن الذين نجوا بحياتهم كانت خاتمتهم أنهم أصبحوا عبيداً في السفن، وكيف كان أؤلئك الذين ينتظرون الصعود إلى السفينة جوعى بحيث أنهم وافقوا على بيع أطفالهم مقابل الحصول على الخبز، وكيف كانت السياسة الرسمية للكنيسة هي فصل الأطفال المسلمين عن والديهم.

وكان هدف "جوان دو ريبيرا" منذ البداية والذي صادق عليه مجلس الدولة في الأول من كانون الثاني/ديسمبر عام 1609، أن يبقى الأطفال الذين كانت أعمارهم بين العاشرة أو أقل في إسبانيا ليقوم الرهبان أو أي أشخاص آخرين موثوق بهم بتعليمهم، حيث يقومون بالإشراف عليهم حتى بلوغهم سن الخامسة والعشرين، أو الثلاثين مقابل تأمين المسكن والطعام والملبس لهم، وأن يسلم الأطفال الرضع إلى المرضعات المسيحيات القدامى حسب الشروط السابقة الذكر.

وفي الشهر التالي تم تخفيض سن الأطفال من عشر سنوات إلى خمس سنوات أو أقل من ذلك. وجرى تنفيذ هذه السياسة بشكل جزئي، إلا أنه ثبت أنه من المستحيل تنفيذها بشكل كامل. وبدا أنه فقِد حوالي 14000 طفل مسلم - إذا افترض أنه كان لكل أسرة طفلان – من مجموع المسلمين الذين ركبوا سفينة "اليكانت" في الأندلس وذلك في فترة ما بين السادس من تشرين الأول/أكتوبر ، والسابع من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1609.

وحسبما جاء في الويثقة المؤرخة في 17 إبريل عام 1610، فقد أرسل من مملكة بلنسية حوالي 1832 من الصبية والفتيات المسلمين وأعمارهم ما بين السابعة أو أدنى- وكان ذلك ضد رغبة أوصيائهم- إلى قشتالة لخدمة الأساقفة و كبار قوم المملكة.

وفي تموز/يوليو عام 1610، أوصت الكنيسة بأن يتم بيع جميع الأطفال المسلمين من هم فوق سن السابعة الموجودين في مملكة بلنسية إلى المسيحيين القدامى بشكل دائم، وهم: أيتام المتمردين، والأطفال الذين استحوذ عليهم الجنود وآخرين لم يفصح عن هويتهم، كانوا يظنون أنهم بذلك يفعلون الخير.

وأقر العلماء اللاهوتيون الذين وقعّوا على هذه الوثيقة بأن الرق لم يبرر أخلاقياً فحسب، بل هو مجدٍ من الناحية الروحية، أي أن هؤلاء الأطفال من غير المحتمل أن يصبحوا مرتدين عن دينهم، بما أن أسيادهم ضمنوا بقاءهم كرومان كاثوليك، وأن العبيد نادراً ما يتزوجون، فهذا منهج آخر للتخلص من "العرق الشرير" في إسبانيا.

فما هي أهمية تحديد مسألة السن؟ كان يعتقد أن الطفل إذا تجاوز سن السادسة أو السابعة فإنه يبدأ في فَقْد براءته، ويصبح من الصعوبة تلقينه تعاليم مذهب ما، في حين أن الطفل الأصغر سناً لا يدري شيئاً عن أصوله. و جرى تبرير هذه السياسة بأن الأطفال الأبرياء الذين تم تعميدهم كمسيحيين ينبغي عدم معاقبتهم بسبب آثام آبائهم، مع أنه ذلك يعتبر تناقضاً، لأن مبدأ توارث الخطيئة مقبول كمبرر لطرد جميع البالغين سواء أكانوا مسيحيين أم لا.

بالإضافة إلى ذلك، قيل أن طرد الأطفال مع والديهم غير النصرانيين هو بمثابة التأكيد على أنهم مسلمون، وكان لزاماً على الأطفال المسلمين ألا يتلقوا تعليماً يفوق طبقتهم الاعتيادية، وبذلك يتم عزلهم عن الطلاب الذين يتهيئون لمنصب الكهانة، ونجد أن هؤلاء الأطفال المسلمين تتم تربيتهم من قبل الحرفيين، وعمال المزارع، وبالتأكيد كان لا يسمح لهم بدراسة الأدب. وبهذه الطريقة كان يؤمل أن تمحى ذكريات الإسلام في إسبانيا للأبد. وقد أعجب "فيليب الثالث" إعجابا شديداً بهذه النقطة.

لقد كتِب الكثير عن هجرة اليهود الإسبان الجماعية في عام 1492، أو عن المعاناة التي لاقاها العديد من اليهود المتحولين الذين لاقوا معاناة من قبل المحكمة الكاثوليكية، إلا أنه لم يلق المسلمون الإسبان المعاملة نفسها.

ترتبط في أذهان معظم الناس أن المحكمة الكاثوليكية الإسبانية تقوم باضطهاد اليهود، فلم يعرف كثير عن تعذيب المسلمين من قبل المحكمة، وأنهم كانوا ضحية للمفهوم المعادي للسامية.

واتهمت المحكمة الكاثوليكية حوالي 12000 مسلم بتهمة الارتداد عن المسيحية أي بنسبة قدرها 50%، قبل أن يتم طردهم بحوالي 30 سنة.

ولم يتجل التعصب الديني والعنصري في أي مكان كما تجلى في تقارير اجتماعات مجلس دولة الملك "فيليب"، وكذلك في الكتب التي ألفت وذلك من أجل تبرير الحاجة إلى سياسة الطرد. و يلمس المرء في تلك المؤلفات التي كتب معظمها رهبان محبطون تبشيريون من الدومنيك، تعصباً لاهوتياً غير أصلي مدعوماً بحوادث سابقة من الإنجيل وهي محاولة "تهويد" الإسلام، ووصف المسيحيين الإسبان القدامى أنهم "العرق المختار" المنشغلون في حرب صليبية لاستعادة "الأرض الموعودة" من محمد.

فقد ادعى أحد المؤلفين بأن النبي ما هو إلا ثمرة علاقة زنى بين والدته وعمه، وكلاهما –كما ادعى- يهوديان، وذلك تحقيقاً للنبوءة القائلة بأن المسيح الدجال سوف يولد لأم غير طاهرة.[5]

من السخرية أنه لم يستشهد فقط المدافعون عن سياسة الطرد الجماعي للمغاربة بنصوص العهد القديم التي استخدمت لدعم نظرية أن فلسطين هي الأرض اليهودية الموعودة، وإنما أيضا استشهد بتلك النصوص اللاهوتيون المعادون لليهودية وذلك تأييداً للحاجة إلى قوانين لتنقية الدماء.

وقد اعتبر هؤلاء المؤلفون الإسبان المسيحيين القدامى كوريث روحي لأطفال إسرائيل، وشبهوا الملك فيليب الثالث بإبراهيم، و موسى و الملك داود، وأطلقوا عليه اسم "إبراهيم الثاني" وأفادوا أنه [يعني النبي إبراهيم][6] كان ملزماً بطرد ابنه غير الشرعي، أي العرب المسلمين، أحفاد "هاجر" الأمَة المصرية.

وكانت أفضل النصوص الواردة من الإنجيل التي يفضلونها هي رسالة الله إلى موسى التي سلمها للإسرائيليين، عندما كانوا على وشك الدخول إلى الأرض الموعودة والتي كانت كما يلي: "إنكم لن تدعوا أحداً على قيد الحياة في مدن تلك الأمم التي منحها الله هذه الأرض، إنكم سوف تبيدون الحثيين، والعموريين، والكنعانيين، وأهالي بير زيت، وحيفا و... كما أمركم الله ، بحيث لا يعلمونكم أن تقلدوا الأفعال البغيضة التي قاموا بها إزاء آلهتكم وبذلك يجعلونكم ترتكبون الآثام ضد إلهكم .."

وقد استشهد اليهود بهذا النص الذين كانوا يقودون حملة لتوسع إسرائيل الكبرى الممتدة من الفرات وحتى البحر الأحمر، وقد استخدم هذا النص أيضا من قبل المتطهرون The Puritans في شمال أمريكا في القرن السابع عشر، وذلك لتبرير المجزرة التي جرت ضد سكان أمريكا الأصليين.

وعقب هذا التشابه اليهودي-المغربي، أوضح أحد الشعراء المعاصرين حول مسألة الطرد الجماعي للمغاربة فأفاد بما يلي: سوف يغادر المغاربة أرض إسبانيا المقدسة مغادرة لا عودة بعدها، وسيعودون إلى مصر أرض جهنم.

وقد اقترح الراهب البرتغالي الدومنيكي "داميان فونسيكا" بأن الله كان يتوقع من جلالة الملك الكاثوليكي أن يبذل سعيا حثيثاً في تهدئة العقاب الإلهي. وقد استخدمت هذه الجملة في عام 1611 وهي ( المحرقة المقبولة).

ويعتبر هؤلاء المعاديون للسامية أن اليهود ينحدرون من يهوذا الذي خان المسيح وليس من يهوذا ابن يعقوب. ولم يعترفوا بأن عيسى يهودي أرسله الله ليعظ نعاج بيت إسرائيل التائهة. ونتيجة للقدر الذي كتبه الله لهم، لم يعد اليهود شعب الله المختار، وورثوا خطيئة قتل الإله فحكم عليهم أن يتيهوا في الأرض.

إن أبسط طريقة للحط من قدر ما تبقى من أثر للعرب الإسبان هو تصوير الإسلام على شكل بدعة يهودية مزيفة. فاقترح القسيس الملكي" جيم بليدا" ، وهو من المجادلين المعاديين للمسلمين ـ اقترح أن الغزو الإسلامي لإسبانيا ما كان إلا بمثابة العقاب الإلهي لسياسة الملك" ويتزا" (698-710) المؤيدة لليهود، حيث أنه أبطل المراسيم التي أصدرها والده عن طريق إعتاق اليهود من الرق، و رد أراضيهم وامتيازا تهم إليهم.

وقد استشهد بذلك كحادثة سابقة شرعية جرى تطبيقها على المسلمين، وذلك في الاجتماع الذي عقده مجلس الدولة في 30 كانون الأول/يناير 1608. وعلى أية حال، كان الحدث التاريخي المباشر هو طرد اليهود في عام 1492.

وفي شهر إبريل من عام 1605، حث "بليدا" فيليب الثالث إلى أن يحذو حذو سلفه الملك "فرديناند"، والملكة " إيزابيلا" الذين أقنعهما "فيراي دو تركومات" بطرد اليهود من مملكتهما، وأن يقوما بالفعل نفسه إزاء المغاربة إذا رفضوا عملية التعميد، وأضاف بأن الله قد كافأ أسلافهم الكاثوليك نظراً لحماسهم للدين المسيحي فمنحهم العالم الجديد.

إن الكثير من التوبيخات القاسية التي وجهها "بيلدا" و مجادلون آخرون إلى المسلمين قد وجهت سابقاً إلى اليهود. وقيل عن المسلمين واليهود أنهم يتوارثون ارتكاب الآثام، وأنهم دخلاء على المجتمع، ولا يمكن إصلاح إلحادهم المتأصل، وأن فسقهم الراديكالي هو بمثابة العدوى السريعة الانتشار، والتي يجب القضاء عليها.

لقد وُصِفَ "فيليب" الثالث بأنه "جالينوس"[7] كاثوليكي، وعهد إليه مهمة تطهير إسبانيا من الداخل من السموم والفساد.

وقد دفعت إسبانيا الثمن غاليا لحرمان المسلمين واليهود ولفترة طويلة من هويتهم الثقافية، إلا أنه منذ وفاة "فرانكو" عام 1975 تم إرساء حرية العبادة بالتدريج.

وهناك اليوم حاجة لكتابة نسخة جديدة من التاريخ الأوروبي، حيث هناك تعدد عرقي و ديني في أوروبا (هناك حوالي 30 مليون مسلم، ومليون و نصف مليون يهودي في أوروبا) كما أن هناك حاجة لبيان إنجازات ومحن المسلمين واليهود الأوروبيين.

وبإمكان الفاتيكان أن يفعل الكثير وهو الاعتراف بالوحشية المرتكبة باسم الكنيسة. ومن الصعب أن نصدق أنه تقرر في نهاية عام 1960 وجوب إضافة اسم "جوان دو ريبيرا" إلى قائمة القديسيين. فقد تم على الأقل مؤخراً إسقاط تقديس الملكة "إيزابيلا". فالقديسيون الحقيقيون هم أؤلئك الذين عرّضوا حياتهم للخطر من أجل حماية أناس اضطهدوا من أجل معتقداتهم، أو بسبب معتقدات أسلافهم، أو ماتوا لأنهم رفضوا خيانة آخرين من أجل المحكمة الكاثوليكية، والذين لم يرتدوا عن إيمانهم وماتوا أثناء المقاومة المسلحة.

فقد كان هؤلاء القديسيون منشغلين بما يطلق عليه المسلمون "الجهاد"، والذي يعني النضال الداخلي، والواجب في مقاومة الشر، والمضي قدماً في النضال في الطريق الديني، كما يقصد به النضال الخارجي أي أن هناك واجب نصرة المظلومين والذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، لأنهم رفضوا الارتداد عن دينهم، والدفاع سواء عن النفس أو عن الآخرين.

ويمكن التعبير عن ذلك من القرآن بقوله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ..". [الحج:40][8]



إحراق الكتب العربية العلمية: من هواة الدومينيكان النصارى في الأندلس



دخول إيزابيلا وفرديناند إلى غرناطة عشية سقوطها



المرسوم الذي أصدره فرديناند وإيزابيلا عام 1497 والذي يقضي بطرد المسلمين من البرتغال ونقلهم إلى إسبانيا



تعميد نساء المسلمين جبراً بعد سقوط غرناطة


--------------------------------------------------------------------------------

Baose, Roger, “The Muslim Expulsion from Spain,” History Today, Vol.52, no.4

خدمة الفسطاط للترجمة


--------------------------------------------------------------------------------

[1] روجر بوس حاصل على الزمالة الفخرية في البحوث في كلية الملكة "ماري" في جامعة لندن، وهو مؤلف كتاب" معنى وأصل الهوى في البلاط الملكي" (مانشستر 1977).



[2] البوجراسيون alpujrras هم المقاتلون المسلمون الذي حاربوا الإسبان وكانت جبال البوجراس في جنوب الأندلس معقلهم فنسبوا إليها، وتدعى بجبال البشرات بالعربية.

[3] وهي في الجزائر.

[4] لا يوافَق الكاتب على رأيه هذا، فليس هناك وجه للمقارنة بين وضع أهل الكتاب تحت حكم المسلمين، وبين وضع المسلمين تحت حكم الكاثوليك الذين تفننوا في تعذيب المسلمين وإجبارهم إما على اعتناق النصرانية أو الهجرة أو القتل. فأي تشابه هناك بين الوضعين؟ [ف]

[5] خسئوا والله، فهو النبي محمد الذي حفظ الله نسبه، فكان من أشرف بيوت قريش، وأفضلهم نسباً، صلى الله عليه وسلم. رفع الله ذكره في الأرض، وجعل أمته خير الأمم، وجعله خاتم النبيين، لا يقبل الله من أحد أتى بعده ديناً إلا دينه الذي ارتضاه للناس، فكل يهودي ونصراني سمع به ولم يؤمن به إلا أدخله الله النار، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم. [ف]

[6] هكذا يحترم أهل الكتاب أنبياء الله عز وجل. قاتلهم الله أنى يؤفكون! [ف]

[7] جالينوس: حكيم وطبيب ومشرح يوناني قديم، بقيت كتبه أساساً للطب الأوروبي حتى عصور التنوير. [ف]

[8] والآية بتمامها: )الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز(.

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:49 AM
الرسالة القبرصية

شيخ الإ سلام أحمد بن تيمية


--------------------------------------------------------------------------------

بسم الله الرحمن الرحيم

من أحمد بن تيمية إلى سرجواس عظيم أهل ملّته، ومن تحوط به عنايته من رؤساء الدين، وعظماء القسيسين والرهبان والأمراء والكتاب وأتباعهم: سلام على من اتبع الهدى..

أما بعد: فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، إله إبراهيم وآل عمران، ونسأله أن يصلي على عباده المصطفيْن وأبنيائه المرسَلين، ويخصّ بصلاته وسلامه أولي العزم الذين هم سادة الخلق وقادة الأمم، الذين خُصُّوا بأخْذِ الميثاق، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، كما سمّاهم الله تعالى في كتابه، فقال عز وجل: (شرعَ لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليكَ وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) [الشورى: 13]، وقال تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً. ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً) [الأحزاب: 7].

ونسأله أن يخصّ بشرائف صلاته وسلامه خاتَم المرسلين، وخطيبهم إذا وفدوا على ربّهم، وإمامهم إذا اجتمعوا، شفيعَ الخلائق يوم القيامة، نبي الرحمة ونبي الملحمة، الجامع محاسن الأنبياء، الذي بشّر به عبد الله وروحه، وكلمتُه التي ألقاها إلى الصّدّيقة الطاهرة البتول، التي لم يمسّها بشرٌ قطّ، مريم ابنة عمران. ذلك مسيح الهدى عيسى ابن مريم، الوجيه في الدنيا والآخرة، المقرّب عند الله، المنعوت بنعت الجمال والرحمة، لمّا اتّجرَ بنو إسرائيل فيما بُعِثَ موسى من نعت الجلالة والشّدّة، وبُعِثّ الخاتَم الجامع بنعت الكمال، المشتمل على الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين، والمحتوي على محاسن الشرائع والمناهج التي كانت قبله، صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله خلق الخلائق بقدرته، وأظهر فيهم آثار مشيئته وحكمته ورحمته، وجعل المقصور الذي خُلِقوا له فيما أمرهم به، هو عبادته، وأصل ذلك هو معرفته ومحبته، فمن هداه الله صراطه المستقيم، آتاه رحمة وعلماً ومعرفة بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ورزقه الإنابة إليه والوجل لذكره، والخشوع له والتأله له، فحنّ إليه حنين النسور إلى أوكارها، وكلف بحبه كلَف الصبي بأمه، لا يعبد إلا إياه، رغبة ورهبة ومحبة، وأخلص دينه لمن الدنيا والآخرة له، رب الأولين والآخرين، مالك يوم الدين، خالق ما تبصرون وما لا تبصرون، عالم الغيب والشهادة، الذي أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. لم يتخذ من دونه أنداداً كالذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله، والذين آمنوا أشد حباً لله، ولم يشرك بربه أحداً، ولم يتخذ من دونه ولياً ولا شفيعاً، لا ملَكاً ولا نبيّاً ولا صدّيقاً، فإن كل من في السموات والأرض إلا آتي الحرمن عبداً، لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً. فهنالك اجتباه مولاه واصطفاه وآتاه رشده، وهذاه لمنا اختُلِف فيه من الحق بإذنه، فإنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وذلك أن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام، وقبل نوح عليه السلام، على التوحيد والإخلاص، كما كان عليه أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام. حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان، بدعة من تلقاء نفوسهم، لم ينزل الله بها كتاباً، ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زيّنها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة، والفلسفة الحائدة: قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية، والدرجات الفلكية، والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين، وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين، وقوم على مذاهب أخر.

وأكثرهم لرؤساهم مقلدون، وعن سبيل الهدى ناكبون، فابتعث الله نبيه نوحاً عليه السلام، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وإن زعموا أنهم يعبدونهم ليتقرّبوا إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء. فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلما أعلمه الله أن لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، دعا عليهم، فأغرق الله تعالى أهل الأرض بدعوته، وجاءت الرسل بعده تترى إلىأن عمّ دين الصابئة والمشركين، لما كان النماردة والفراعنة ملوك الأرض شرقاً وغرباً، فبعث الله تعالى إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية، إبراهيم خليل الرحمن، فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام، وقال: (إني وجهتُ وجهيَ للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) وقال لقومه: (أفرأيتم ما كنتم تعبدون. أنتم وآباؤكم الأولون. فإنهم عدو لي إلا ربّ العالمين. الذي خلقني فهو يهدين. والذي يطعمني ويسقين. وإذا مرضتُ فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) [الشعراء: 75-82].

وقال إبراهيم عليه السلام ومن معه من قومه: (إنا برآءُ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) [الممتحنة: 4] فجعل الله الأنبياء والمرسلين من أهل بيته، وجعل لكل منهم خصائص، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، وآتى كلاً منهم من الآيات ما آمن على مثله البشر.

فجعل لموسى العصا حية حتى ابتلعت ما صنعت السحرة الفلاسفة من الحبال والعصي، وكانت شيئاً كثيراً، وفلق له البحر حتى صار يابساً، والماء واقفاً حاجزاً بين اثني عشر طريقاً على عدد الأسباط، وأرسل معه القُمَّل والضفادع والدم، وظلل عليه وعلى قومه الغمام الأبيض يسير معهم، وأنزل عليهم صبيحة كل يوم المنّ والسلوى، وإذا عطشوا ضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كل أناس مشربهم. وبعث بعده أنبياء من بني إسرائيل، منهم من أحيا الله على يديه الموتى، ومنهم من شفى الله على يده المرضى، ومنهم من أطلعه على ما شاء من غيبه، ومنه من سخّر له المخلوقات، ومنهم من بعثه بأنواع المعجزات.

وهذا مما اتفق عليه جميع أهل الملل، وفي الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى، والنبوات التي عندهم، وأخبار الأنبياء عليهم السلام، مثل أشعياء وأرمياء ودانيال وحبقوق وداود وسليمان وغيرهم، وكتاب سِفر الملوك وغيره من الكتب ما فيه معتَبر.

وكانت بنو إسرائيل أمة قاسية عاصية، تارة يعبدون الأصنام والأوثان، وتارة يعبدون الله، وتارة يقتلون النبيين بغير الحق، وتارة يستحلون محارم الله بأدنى الحيل، فلُعِنوا أولاً على لسان داود، وكان من خراب بيت المقدس ما هو معروف عند أهل الملل كلهم.

ثم بعث الله المسيح ابن مريم، رسولاً قد خلت من قبله الرسل، وجعله وأمه آية للناس، حيث خلقه من غير أب إظهاراً لكمال قدرته، وشمول كلمته، حيث قسم النوع الإنساني الأقسام الأربعة: فجعل آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجه حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق المسيح ابن مريم من أنثى بلا ذكر، وخلق سائرهم من الزوجين الذكر والأنثى، وآتى عبده المسيح من الآيات البينات ما جرت به سننه فأحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، وأنبأ الناس بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم، ودعا إلى الله وإلى عبادته متّبعاً سنّة إخوانه المرسَلين، مصدّقاً لمن قبله ومبشراً بمن يأتي بعده.

وكان بنو إسرائيل قد عتوا وتمرّدوا، وكان غالب أمره اللين والرحمة والعفو والصفح، وجُعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، وجُعل منهم قسيسين ورهباناً، فتفرق الناس في المسيح عليه السلام ومن اتّبعه من الحواريين ثلاثة أحزاب: قوم كذبوه وكفروا به وزعموا أنه ابن بغيّ، ورموا أمّه بالفرية ونسبوه إلى يوسف النجّار، وزعموا أن شريعة التوراة لم يُنسَخ منها شيء، وأن الله لم ينسخ ما شرَعه بعدما فعلوه بالأنبياء، وما كان عليهم من الآصار في النجاسات والمطاعم. وقوم غلوْا فيه، وزعموا أنه الله وابن الله، وأن اللاهوت تدّرع الناسوت، وأن رب العالمين نزل وأنزل ابنه ليُصلَب ويُقتَل فداة لخطيئة آدم عليه السلام، وجعلوا الإله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، قد وُلِد، وأنه إله حي عليم قدير جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، وأن الواحد منها أقنوم الكلمة وهي العلم، وهي تدرعت الناسوت البشري، مع العلم بأن أحدهما لا يمكن انفصاله عن الآخرين إلا إذا جعلوه ثلاثة إلهات متباينة، وذلك مالا يقولونه.

وتفرقوا في التثليث والاتحاد تفرقاً، وتشتتوا تشتتاً لا يُقرّ به عاقل، ولم يجيء به نقلٌ، إلا كلمات متشابهة في الإنجيل وما قبله من الكتب، قد بيّنتها كلماتٌ محكمات في الإنجيل وما قبله، كلها تنطق بعبودية المسيح وعبادته لله وحده ودعائه وتضرّعه.

ولما كان أصل الدين هو الإيمان بالله ورسله، كما قال خاتم النبيين والمرسلين: (أمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله) [البخاري ومسلم] وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله)، كان أمر الدين توحيد الله والإقرار برسله. ولهذا كان الصابئون والمشركون، كالبراهمة ونحوهم من منكري النبوات، مشركين بالله في إقرارهم وعبادتهم وفاسدي الاعتقاد في رسله.

فأرباب التثليث في الوحدانية، والاتحاد في الرسالة، قد دخل في أصل دينهم من الفساد ما هو بيّن بفطرة الله التي فطر الناس عليها، وبكتب الله التي أنزلها.

ولهذا كان عامة رؤساهم، من القسيسين والرهبان، وما يدخل فيهم من البطارقة والمطارنة، والأساقفة، إذا صار الرجل منهم فاضلاً مميّزاً، فإنه يَنْحَلُ عن دينه، ويصير منافقاً لملوك أهل دينه وعامّتهم، رضىً بالرياسة عليهم، وبما يناله من الحظوظ. كالذي كان لبيت المقدس، الذي يقال له ابن البوري والذي كان بدمشق، الذي كان يقال له ابن القف، والذي بقسطنطينية وهو البابا عندهم، وخلق كثير من كبار البابوات والمطارنة والأساقفة، لما خاطبهم قوم من الفضلاء، أقرّوا لهم بأهم ليسوا على عقيدة النصارى، وإنما بقاؤهم على ما هم عليه لأجل العادة والرياسة، كبقاء الملوك والأغنياء على ملكهم وغناهم، ولهذا تجد غالب فضلائهم، إنما همة أحدهم نوع من العلم الرياضي، كالمنطق والهئية والحساب والنجوم، أو الطبيعي كالطب ومعرفة الأركان، أو التكلم في الإلهي على طريقة الصابئة الفلاسفة الذي بُعِثَ إليهم إبراهيم الخيل عليه السلام، قد نبذوا دين المسيح والرسل الذي قبله وبعده وراء ظهورهم، وحفظوا رسوم الدين لأجل الملوك والعامة.

وأما الرهبان، فأحدثوا من أنواع المكر والحيل بالعامة ما يظهر لكل عاقل، حتى صنّف الفضلاء في حيل الرهبان كتباً، مثل النار التي كان تصنع بقمامة، يدهنون خيطاً دقيقاً بسندروس، ويلقون النار عليه بشرعة، فتنزل فيعتقد الجهال أنها نزلت من السماء، ويأخذونها إلى البحر وهي صنعة ذلك الراهب، يراه الناس عُياناً وقد اعترف هو وغيره أنهم يصنعونها.[1]

وقد اتفق أهل الحق من جميع الطوائف، على أنه لا تجوز عبادة الله تعالى بشيء ليس له حقيقة. وقد يظن المنافقون، أن ما ينقل عن المسيح وغيره من المعجزات، من جنس النار المصنوعة، وكذلك حيلهم في تعليق الصليب، وفي بكاء التماثيل، التي يصوّرونها على صورة المسيح وأمّه وغيرهما، ونحو ذلك. كل ذلك، يعلم كل عاقل أنه إفك مفترى، وأن جميع أنبياء الله وصالحي عباده برآء من كل زور باطل وإفك كبرائهم من سحر سحرة فرعون.

ثم إن هؤلاء عمدوا إلى الشريعة التي يعبدونها الله بها، فناقضوا الأولين من اليهود فيها، مع أنهم يأمرون بالتمسك بالتوراة إلا ما نسخه المسيح. قصّر هؤلاء في الأنبياء حتى قتلوهم؛ وغلا هؤلاء فيهم حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم، وقال أولئك: إن الله لا يصلح له أن يغير ما أمر به فينسخه، لا في وقت آخر، ولا على لسان نبي آخر، وقال هؤلاء: بل الأحبار والقسيسون يغيّرون ما شاؤوا ويحرّمون ما رأوا، ومن أذنب ذنباً، وظّفوا عليه ما رأوا من العبادات، وغفروا له. ومنهم من يزعم أن ينفخ في المرأة من روح القدس، فيجعل البخور قرباناً. وقال أولئك: حُرِّم علينا أشياء كثير. وقال هؤلاء ما بين البقّة والفيل حلال، كُلْ ما شئتَ ودعْ ما شئت. وقال أولئك: النجاسات مغلظة، حتى أن الحائض لا يُقعد معها، ولا يؤكل معها. وهؤلاء يقولون ما عليك شيء نجس، ولا يأمرون بختان، ولا غسل من جنابة، ولا إزالة نجاسة، مع أن المسيح والحواريين كانوا على شريعة التوراة.

ثم إن الصلاة إلى المشرق لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون، وإنما ابتدعها قسطنطين أو غيره. وكذلك الصليب، إنما ابتدعه قسطنطين برأيه وبمنام زعم أنه رآه. وأما المسيح والحواريون فلم يأمروا بشيء من ذلك.

والدين الذي يتقرب العباد به إلى الله، لا بدّ أن يكون الله أمر به، وشرَعه على ألسنة رسله وأنبيائه، وإلا فالبدع كلها ضلالة، وما عُبدت الأوثان إلا بالبدع. وكذلك إدخال الألحان في الصلوات، لم يأمر بها المسيح ولا الحواريون. وبالجملة:

فعامة أنواع العبادات والأعياد التي هم عليها، لم ينزل بها الله كتاباً، ولا بعث لها رسولاً، لكن فيهم رأفة ورحمة، وهذا من دين الله. بخلاف الأولين، فإن فيهم قسوة ومقتاً، وهذا مما حرّمه الله تعالى. لكن الأولون لهم تمييز وعقل مع العناد والكبر، والآخرون فيهم ضلال عن الحق وجهل بطريق الله.

ثم إن هاتين الأمتين تفرّقتا أحزاباً كثيراً في أصل دينهم واعتقادهم، في معبودهم ورسولهم: هذايقول إن جوهر اللاهوت والناسوت صاراً جوهراً واحداً، وطبيعة واحدة، وأقنوماً واحداً، وهم اليعقوبية؛ وهذا يقول بل هما جوهران وطبيعتان وأقنومان، وهم النسطورية؛ وهذا يقول بالاتحاد من وجه دون وجه، وهم الملكانية.

وقد آمن جماعات من علماء أهل الكتاب قديماً وحديثاً، وهاجروا إلى الله ورسوله وصنفوا في كتب الله من دلالات نبوة النبي خاتم المرسلين، وما في التوراة والزبور والإنجيل من مواضع لم يدبِّروها، وكذلك الحواريون. فلما اختلف الأحزاب من بينهم، هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فبعث النبيَّ الذي بشّر به المسيحُ ومن قبله من الأنبياء، داعياً إلى ملة إبراهيم، ودين المرسلين قبله وبعده، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص الدين كله لله، وطهَّر الأرض من عبادة الأوثان، ونزَّه الدين عن الشرك دقِّه وجلِّه، بعدما كانت الأصنام تُعبَد في أرض الشام وغيرها، في دولة بني إسرائيل، ودولة الذين قالوا (إنَّا نصارى)، وأمَرَ بالإيمان بجميع كتب الله المنزلة، كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وبجميع أنبياء الله من آدم إلى محمد.

قال الله تعالى: (وقالوا: كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، قل: بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين. قولوا: آمنَّا بالله وما أنزِل إلينا وما أنزِل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتيَ موسى وعيسى وما أوتِيَ النبيونَ من ربِّهم لا نفرِّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولَّوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم. صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة ونحن له عابدون) [البقرة:135-138].

وأمر الله ذلك الرسولَ بدعوة الخلق إلى توحيده بالعدل، فقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبدَ إلا الله ولا نشركَ به شيئاً ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله فإنْ تولّوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون) [آل عمران: 64]. وقال تعالى: (وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلاَّ وحياً أو من وارء حجابٍ) [الشورى: 51]. وقال تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحكمَ والنبوّة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون اللهِ ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلِّمون الكتابَ وبما كنتم تدرسون. ولا يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعدَ إذ أنتم مسلمون) [آل عمران: 79-80].

وأمرَه أن تكون صلاتُه وحجُّه إلى بيت الله الحرام الذي بناه خليله إبراهيم أبو الأنبياء، وإمام الحنفاء، وجعل أمته وسطاً، فلم يغلوا في الأنبياء كغلوّ من عدلَهم بالله، وجعل فيهم شيئاً من الإلهية، وعبدهم، وجعلهم شفعاء. ولم يجْفوا جفاء من آذاهم، واستخفّ بحرماتهم، وأعرض عن طاعتهم. بل عزّروا الأنبياء، أي عظّموهم ونصروهم، وآمنوا بما جاءوا به، وأطاعوهم واتَّبعوهم،وائتموا بهم وأحبوهم وأجَلُّوهم، ولم يعبدوا إلا الله، فلم يتّكلوا إلا عليه، ولم يستعينوا إلا به، مخلصين له الدين حنفاء.

وكذلك في الشرائع، قالوا: ما أمرَنا الله به أطعناه، وما نهانا عنه انتهينا، وإذا نهانا عما كان أحلّه، كما نهى بني إسرائيل عما كان أباحه ليعقوب، أو أباح لنا ما كان حراماً كما أباح المسيح بعضَ الذي حُرِّم على بني إسرائيل، سمعنا وأطعنا.

وأما غير رسل الله وأنبيائه، فليس له أن يبدلوا دين الله، ولا يبتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله. والرسل إنما قالوا تبليغاً عن الله، فإنه سبحانه له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيرُه لا يأمر غيرُه: (إنِ الحكمُ إلاَّ للهِ أمرَ ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاه ذلك الدينُ القيّمُ ولكنّ أكثر الناسِ لا يعلمونَ) [يوسف: 40].

وتوسطت هذه الأمة في الطهارة والنجاسة، وفي الحلال والحرام، وفي الأخلاق، ولم يجرِّدوا الشدة كما فعله الأولون، ولم يجردوا الرأفة كما فعله الآخِرون. بل عاملوا أعداء الله بالشدة، وعاملوا أولياء الله بالرأفة والرحمة؛ وقالوا في المسيح ما قاله سبحانه وتعالى، وما قاله المسيح والحواريون، لا ما ابتدعه الغافلون والجافون.

وقد أخبر الحواريون عن خاتَم المرسلين أن يُبعَث من أرض اليمن، وأنه يُبعَث بقضيب الأدب وهو السيف. وأخبر المسيح أنه يجيء بالبينات والتأويل، وأن المسيح جاء بالأمثال.

وهذا باب يطول شرحُه. وإنما نَبَهَ الداعي لعظيم ملَّته وأهله [يقصد هنا ملك قبرص]، لما بلغني ما عنده من الديانة والفضل، ومحبة العلم وطلب المذاكرة، ورأيت الشيخ أبا العباس المقدسي شاكراً من الملك من رفقِه ولطفه وإقباله عليه، وشاكراً من القسيسين ونحوهم.

ونحن قوم نحب الخير لكل أحد، ونحب أن يجمع الله لكم خير الدنيا والآخرة، فإن أعظم ما عُبِدَ الله به نصيحة خلقه، وبذلك بعث اللهُ الأنبياء والمرسلين، ولا نصيحة أعظم من النصيحة فيما بين العبد وبين ربه، فإنه لا بد للعبد من لقاء الله، ولا بد أن الله يحاسب عبده كما قال تعالى: (فلنسألنّ الذين أُرسِلَ إليهم ولنسألنّ المرسَلين) [الأعراف: 6].

وأما الدنيا فأمرها حقير، وكبيرها صغير، وغاية أمرها يعود إلى الرياسة والمال، وغاية ذي رياسة أن يكون كفرعون الذي أغرقه الله في اليم انتقاماً منه، وغاية ذي المال أن يكون كقارون الذي خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، لما آذى نبي الله موسى.

وهذه وصايا المسيح ومن قبله ومن بعده من المرسلين، كلها تأمر بعبادة الله والتجرّد للدار الآخرة، والإعراض عن زهرة الحياة الدنيا. ولما كان أمر الدينا خسيساً، رأيت أنّ أعظم ما يُهدى لعظيم قومه، المفاتحةُ في العلم والدين، بالمذاكرة فيما يقرِّب إلى الله، والكلام في الفروع مبنيٌّ على الأصول، وأنتم تعلمون أن دين الله لا يكون بهوى النفس، ولا بعادات الآباء وأهل المدنيّة،وإنما ينظر العاقل فيما جاءت به الرسلُ، وفيما اتفق الناس عليه وما اختلفوا فيه، ويعامل الله تعالى بينه وبين الله تعالى بالاعتقاد الصحيح والعمل الصالح، وإن كان لا يمكن الإنسان أن يظهر كل ما في نفسه لكل أحد، فينتفع هو بذلك القدر.

وإنْ رأيتُ من الملك رغبة من العلم والخير، كاتبتُه وجاوبتُه عن مسائل يسألها، وقد كان خطر لي أن أجيء إلى قبرص لمصالح في الدين والدنيا، لكن، إذا رأيتُ من الملك ما فيه رضى الله ورسوله، عاملتُه بما يقتضيه عملُه، فإن الملك وقومه يعلمون أن الله قد أظهر من معجزات رسله عامة، ومحمد خاصة، ما أيّد به دينه، وأذلّ الكفار والمنافقين.

ولمّا قدم مقدم مقدّم المغول غازان وأتباعه إلى دمشق، وكان قد انتسب إلى الإسلام، لكن لم يرض الله ورسوله والمؤمنين بما فعلوه، حيث لم يلتزموا دين الله، وقد اجتمعتُ به وبأمرائه، وجرى له معهم فصول يطول شرحها، لا بدّ أن تكون قد بلغت الملك، فأذلّه اللهُ وجنودَه لنا، حتى بقينا نضربهم بأيدينا ونصرخ فيهم بأصواتنا، وكان معهم صاحب سيس[2] مثل أصغر غلام يكون، حتى كان بعض المؤذنين الذين معنا يصرخ عليه ويشتمه، وهو لا يجترئ أن يجاوبه، حتى أن وزراء غازان ذكروا ما ينمّ عليه من فساد النية له، وكنتُ حاضراً لما جاءت رسلكم إلى ناحية الساحل، وأخبرني التتار بالأمر الذي أراد صاحب سيس أن يدخل بينكم وبينه فيه، حيث منّاكم بالغرور، وكان التتار في أعظم الناس شتيمةً لصاحب سيس، وإهانةً له، ومع هذا فإنا كنا نعامل أهل ملّتكم بالإحسان إليهم والذبّ عنهم.

وقد عرف النصارى كلهم أني لما خاطبتُ التتار في إطلاق الأسرى، وأطلقهم غازان وقطلوشاه، وخاطبتُ مولاي فيهم، فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس، فهؤلاء لا يطلقون، فقلتُ له: بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذي هم أهل ذمّتنا، فإنا نفكّهم، ولا ندع أسيراً لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى ما شاء الله، فهذا عملنا وإحساننا والجزاء على الله.

وكذلك السبي الذي بأيدينا من النصارى، يعلم كل أحد إحساننا ورحمتنا ورأفتنا بهم، كما أوصانا خاتم المرسلين حيث قال في آخر حياته: »الصلاة.. وما ملكتُ أيمانُكم«. قال الله تعالى: (ويطعمون الطعامَ على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) [الإنسان: 8].

ومع خضوع التتار لهذه الأمة، وانتسابهم إلى هذه الملة، فلم نخادعهم ولم ننافقهم، بل بيّنّا لهم ما هم عليه من الفساد ، والخروج عن الإسلام الموجب لجهادهم، وأن جنود الله المؤيدة، وعساكره المنصورة، المستقرة بالديار الشامية والمصرية، ما زالت منصورة على من ناوأها، مظفّرة على من عاداها. وفي هذه المدّة، لما شاع عند العام أن التتار مسلمون، أمسك العسكر عن قتالهم، فقُتِل منهم بضعة عشر ألفاً، ولم يقتَل من المسلمين مائتان، فلما انصرف العسكر إلى مصر، وبلغه ما عليه هذه الطائفة الملعونة من الفساد وعدم الدين، خرجتْ جنودُ الله وللأرض منها وئيد، قد ملأت السهل والجبل، في كثرة وقوة وعدة وإيمان وصدق، قد بهرت العقول والألباب، محفوفةً بملائكة الله التي ما زال يمدّ بها الأمة الحنيفية المخلصة لبارئها، فانهزم العدو بين أيديها، ولم يقف لمقابلتها، ثم أقبل العدو ثانياً، فأرسِل عليه من العذاب ما أهلك النفوس والخيل، وانصرف خاسئاً وهو حسير، وصدق الله وعده ونصر عبده. وهو الآن في البلاء الشديد والتعكيس العظيم، والبلاء الذي أحاط به. والإسلام في عزّ متزايد، وخير مترافد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: »إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدّد لها أمر دينها«.

وهذا الدين في إقبال وتجديد، وأنا ناصح للملك وأصحابه، والله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة والإنجيل والفرقان. ويعلم الملك أن وفد نجران كانوا نصارى كلهم، فيهم الأسقف وغيره، لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله ورسوله وإلى الإسلام، خاطبوه في أمر المسيح وناظروه، فلما قامت عليهم الحجة، جعلوا يراوغون، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى المباهلة، كما قال: (فمن حاجّك فيه من بعدِ ما جاءك من العلم فقلْ تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) [آل عمران: 61].

فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك استشوروا بينهم، فقالوا: تعلمون أنه نبيّ وأنه ما باهلَ أحد نبياً فأفلح، فأدّوا إليه الجزية ودخلوا في الذمّة، واستعفوا من المباهلة.

كذلك بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً إلى قيصر، الذي كان ملك النصارى بالشام والبحر إلى القسطنطينية وغيرها، وكان ملكاً فاضلاً، فلما قرأ كتابه وسأل عن علامته، عرف أنه النبي الذي بشّر به المسيح، وهو الذي كان وعَد اللهُ به إبراهيم في ابنه إسماعيل، وجعل يدعو قومه النصارى إلى متابعته، وأكرمَ كتابَه وقبّله ووضعه على عينيه، وقال: »وددتُ أني أخلُص إليه حتى أغسل عن قدميه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبتُ إليه«.

وأما النجاشي ملك الحبشة النصراني، فإنه لما بلغه خبرُ النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه الذي هاجروا إليه، آمن به وصدّقه وبعث إليه ابنه وأصحابه مهاجرين، وصلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه لمّا مات. ولمّا سمع سورة (كهيعص) بكى، ولما أخبروه عما يقولون في المسيح قال: »والله ما يزيد عيسى على هذا مثل هذا العود«، وقال: »إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة«.

وكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنّ من آمن بالله وكتبه ورسله من النصارى صار من أمته، له ما لهم وعليه ما عليهم، وكان له أجران: أجر على إيمانه بالمسيح، وأجر على إيمانه بمحمد. ومن لم يؤمن له من الأمم، فإن الله أمر بقتاله كما قال في كتابه: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللهُ ورسولُه ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتابَ حتى يعطوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون) [التوبة:29].

فمن كان لا يؤمن بالله، بل يسبّ اللهَ ويقول إنه ثالث ثلاثة وأنه صُلِبَ، ولا يؤمن برسله، بل يزعم أن الله حُمِلَ ووُلِد، وكان يأكل ويشرب ويتغوّط وينام، هو الله وابن الله، وأن الله أو ابنه حلّ فيه وتدرّعه، ويجحد ما جاء به محمد خاتم المرسلين، ويحرّف نصوص التوراة والإنجيل، فإن في الأناجيل الأربعة من التناقض والاختلاف، بينما أمر بما أمر اللهُ به وأوجبه من عبادته وطاعته، ولا يحرّم ما حرّم الله ورسوله من الدم والميتة ولحم الخنزير، الذي ما زال حراماً من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ما أباحه نبيٌّ قط، بل علماء النصارى يعلمون أنه محرّم، وما يمنع بعضهم من إظهار ذلك إلا الرغبة والرهبة، وبعضهم يمنعه العناد والعادة عن ذلك، ولا يؤمنون باليوم الآخر لأن عامتهم، وإنْ كانوا يقرّون بقيامة الأبدان، لكنهم لا يقرّون بما أخبره الله به من الأكل والشرب واللباس والنكاح والنعيم والعذاب في الجنة والنار، بل غاية ما يقرّون به من النعيم: السماع والشمّ. ومنهم متفلسفة ينكرون معاد الأجساد، وأكثر علمائهم زنادقة، وهم يضمرون ذلك ويسخرون بعوامّهم لا سيما بالنساء والمترهّبين منهم لضعف عقولهم. فمن هذا حاله، فقد أمر اللهُ رسولَه بجهاده حتى يدخل في دين الله، أو يؤدّي الجزية، وهذا دين محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم المسيح صلوات الله عليه لم يأمر بالجهاد، ولا سيما بجهاد الأمة الحنيفية ولا الحواريون بعده. فيا أيها الملك: كيف تستحلّ سفك الدماء وسبي الحريم وأخذ الأموال بغير حجة من الله ورسله؟

ثم، أمَا يعلم الملك أن بديارنا من النصارى، أهل الذمة والأمان، ما لا يحصي عددهم إلا الله، ومعاملتُنا فيهم معروفة؟ فكيف يعامِلون أسرى المسلمين بهذه المعاملات التي لا يرضى بها ذو مروءة ولا ذو دين؟ لست أقول عن الملك وأهل بيته ولا إخوانه، فإن أبا العباس شاكر لملك ولأهل بيته كثيراً، معترف بما فعلوه معه من الخير، وإنما أقول عن عموم الرعية، أليس الأسرى في رعية الملك؟ أليست عهود المسيح وسائر الأنبياء توصي بالبرّ والإحسان.. فأين ذلك؟

ثم إن كثيراً منهم إنما أُخِذوا غدراً، والغدر حرام في جميع الملل والشرائع والسياسات، فكيف تستحلون أن تستولوا على من أخِذ غدراً؟ أفتأمنون مع هذا أن يقابلكم المسلمون ببعض هذا وتكونوا مغدورين، والله ناصرهم ومعينهم، لاسيما في هذه الأوقات، والأمة قد امتدت للجهاد، واستعدت للجِلادِ، ورغب الصالحون وأولياء الرحمن في طاعته. وقد تولى الثغور الساحلية أمراءٌ ذو بأس شديد، وقد ظهر بعضُ أثرهم، وهم في ازدياد.

ثم عند المسلمين من الرجال الفداوية، الذين يغتالون الملوك في فرشها وعلى أفراسها من قد بلغ الملك خبرُهم قديماً وحديثاً، وفيهم الصالحون الذين لا يردّ اللهُ دعواتهم، ولا يخيّب طلباتهم، الذين يغضب الربّ لغضبهم ويرضى لرضاهم. وهؤلاء التتار، مع كثرتهم وانتسابهم إلى المسلمين، لمّا غضب المسلمون عليهم أحاط بهم من البلاء ما يعظم عن الوصف، فكيف يحسن أيها الملك بقوم يجاورون المسلمين من أكثر الجهات أن يعاملوهم هذه المعاملة التي لا يرضاها عاقل لا مسلم ولا معاهد؟

هذا، وأنت تعلم أن المسلمين لا ذنب لهم أصلاً، بل هم المحمودون على ما فعلوه، فإن الذي أطبقت العقلاء على الإقرار بفضله هو دينهم، حتى الفلاسفة أجمعوا على أنه لم يطرق العالم دين أفضل من هذا الدين، فقد قامت البراهين على وجوب متابعته.

ثم هذه البلاد ما زالت بأيديهم: الساحل، بل وقبرص أيضاً، ما أخِذت منهم إلا من أقل من ثلائمائة سنة[3]، وقد وعدهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنهم لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة، فما يؤمن الملك أن هؤلاء الأسرى المظلومين ببلدته، ينتقم لهم ربُّ العباد والبلاد كما ينتقم لغيرهم؟ وما يؤمنه أن تأخذ المسلمين حميةُ إسلامهم فينالوا فيها ما نالوا من غيرها؟[4] ونحن إذا رأينا من الملك وأصحابه ما يُصلحُ، عاملناهم بالحسنى، وإلا فمن بُغِيَ عليه لينصرنّه اللهُ.

وأنت تعلم أن ذلك من أيسر الأمور على المسلمين، وأنا ما غرضي الساعةَ إلا مخاطبتكم بالتي هي أحسن، والمعاونة على النظر في العلم واتباع الحق وفعل ما يجب، فإن كان عند الملك من يثق بعقله ودينه فلْيبحث معه عن أصول العلم وحقائق الأديان، ولا يرضى أن يكون من هؤلاء النصارى المقلّدين الذين لا يسمعون ولا يعقلون، إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً.

وأصل ذلك أن تستعين بالله وتسأله الهداية وتقول: اللهم أرني الحق حقاً وأعنّي على اتباعه، وأرني الباطلَ باطلاً وأعنّي على اجتنابه، ولا يجعله مستبهَماً علي فأتّبع الهوى. وقل: اللهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنتَ تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لَما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

والكتاب لا يحتمل البسط أكثر من هذا، لكن أنا ما أريد للملك إلا ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وهما شيئان: أحدهما له خاصة، وهو معرفته بالعلم والدين، وانكشاف الحق وزوال الشبهة وعبادة الله كما أمر، فهذا خير له من مُلك الدنيا بحذافيرها، وهو الذي بعث به المسيح، وعلّمه الحواريين. الثاني له وللمسلمين، وهو مساعدته للأسرى الذين في بلاده، وإحسانه إليهم،وأمر رعيته بالإحسان إليهم والمعاونة لنا على خلاصهم، فإن في الإساءة إليهم دركاً على الملك في دينه ودين الله تعالى وعند المسلمين، وكان المسيح أعظم الناس توصيةً بذلك.

ومن العجب كل العجب أن يأسر النصارى قوماً غدراً أو غير غدر ولم يقاتلوهم، والمسيح يقول: »من لطمك على خدّك الأيمن فأدرْ له خدّك الأيسر، ومن أخذ رداءك أعطِهِ قميصك«. وكلما كثرت الأسرى عندكم كان أعظم لغضب الله وغضب عباده المسلمين. فكيف يمكن السكوت على أسرى المسلمين في قبرص، سيّما وعامة هؤلاء الأسرى قوم فقراء وضعفاء ليس لهم من يسعى فيهم. وهذا أبو العباس، مع أنه من عبّاد المسلمين، وله عبادة وفقر، وفيه مشيخة، ومع هذا فما كاد يحصل فداؤه إلا بالشدة. ودين الإسلام يأمرنا أن نعين الفقير والضعيف. فالملك أحق أن يساعد على ذلك من وجوه كثيرة، لا سيّما والمسيحُ يوصي بذلك في الإنجيل، ويأمر بالرحمة العامة والخير الشامل كالشمس والمطر. والملك وأصحابه إذا عاونوننا على تخليص الأسرى والإحسان إليهم، كان الحظ الأوفر لهم في ذلك في الدنيا والآخرة. أما في الآخرة، فإن الله يثيب على ذلك ويأجر عليه، وهذا مما لا ريب فيه عند العلماء المسيحيين الذي لا يتبعون الهوى. بل كل من اتقى الله وأنصف عليم أنهم أُسِروا بغير حق، ولا سيما من أخِذ غدراً. والله تعالى لم يأمر ولا المسيحُ أمرَ ولا أحد من الحواريين ولا من اتبع المسيح على دينه، لا بأسر أهل ملة إبراهيم ولا بقتلهم، كيف وعامة النصارى يقرّون بأن محمداً رسول الأميين، فكيف يجوز أن يقاتَل أهل دين اتبعوا رسولهم؟

فإن قال قائل: هم[5] قاتلونا أول مرة! قيل: هذا باطل فيمن غدرتم به ومَن بدأتموه بالقتال. وأما من بدأكم منهم فهو معذور، لأن الله تعالى أمره بذلك ورسولَه، بل المسيح والحواريون أخذ عليهم المواثيق بذلك. ولا يستوي من عمل بطاعة الله ورسله ودعا إلى عبادته ودينه وأقرّ بجميع الكتب والرسل، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله، ومَن قاتئل في هوى نفسه وطاعة شيطانه، على خلاف الله ورسله.

وما زال في النصارى من الملوك والقسيسين والرهبان والعامة من له مزية على غيره في المعرفة والدين، فيعرف بعض الحق، وينقاد لكثير منه، ويعرف مِن قدر الإسلام وأهله ما يجهله غيره، فيعاملهم معاملة تكون نافعة في الدنيا والآخرة. ثم في فكاك الأسير وثواب العتق من كلام الأنبياء والصدّيقين ما هو معروف لمن طلبه، فمهما عمل الملك معهم وجد ثمرته.

وأما في الدنيا، فإن المسلمين أقدر على المكافأة في الخير والشر من كل أحد، ومن حاربوه فالويل كل الويل له. والملك لا بد أن يكون سمع السِّيَر، وبلغه أن ما زال في المسلين النفر القليل منهم من يغلب أضعافاً مضاعفة من النصارى وغيرهم، فكيف إذا كانوا أضعافهم، وقد بلغه الملاحم المشهورة في قديم الدهر وحديثه، مثل أربعين ألفاً يغلبون من النصارى أكثر من أربعمائة ألف أكثرهم فارس[6]. وما زال المرابطون بالثغور ، مع قلتهم واشتغال ملوك الإسلام عنهم، يدخلون بلاد النصارى، فكيف وقد منّ الله تعالى على المسلمين باجتماع كلمتهم وكثرة جيوشهم، وبأس مقدّميهم وعلوّ هممهم، ورغبتهم فيما يقرّب إلى الله تعالى، واعتقادهم أن الجهاد أفضل الأعمال المطوعة، وتصديقهم بما وعدهم نبيُّهم حيث قال: »يُعطى الشهيد ست خصال: يُغفر له بأول قطرة من دمه، ويُرى معقده في الجنة، ويُكسى حلة الإيمان، ويزوّج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويُوقى فتنة القبر، ويؤمَن من الفزع الأكبر يوم القيامة«.

ثم إن في بلادهم من النصارى أضعاف ما عندكم من المسلمين، فإن فيهم من رؤوس النصارى من ليس في البحر مثلهم إلا قليل. وأما أسراء المسلمين، فليس فيهم من يحتاج إليه المسلمون ولا من ينتفعون به، وإنما نسعى في تخليصهم لأجل الله تعالى، رحمة ً لهم وتقرباً إليه يوم يجزي الله المصّدّقين ولا يضيع أجر المحسنين.

وأبو العباس، حامل هذا الكتاب، قد بثّ محاسن الملك وإخوته عندنا، واستعطف قلوبنا إليه، فلذلك كاتبتُ الملك، لما بلغتني رغبته في الخير وميله إلى العلم والدين، وأنا من نوّاب المسيح وسائر الأنبياء من مناصحة الملك وأصحابه، وطلب الخير لهم، فإنّ أمة محمد خير أمة أخرِجت للناس، يريدون للخلق خير الدنيا والآخرة، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعونهم إلى الله، ويعينونهم على مصالح دينهم ودنياهم. وإن كان الملك قد بلغه بعض الأخبار التي فيها طعن على بعضهم أو طعن على دينهم، فإما أن يكون الخبر كاذباً، أو ما فَهِمَ التأويل وكيّف صورة الحال. وإن كان صادقاً عن بعضهم بنوع من المعاصي والفواحش والظلم، فهذا لا بدّ منه في كل أمّة، بل الذي يوجد في المسلمين من الشرّ أقل مما في غيرهم بكثير، والذي فيهم من الخير لا يوجد مثله في غيرهم.

والملك، وكل عاقل، يعرف أنّ أكثر النصارى خارجون عن وصايا المسيح والحواريين ورسائل بولص وغيره من القديسين، وإنْ كان أكثر ما معهم من النصرانية، شرْب الخمر وأكل الخنزير وتعظيم الصليب، ونواميس مبتدعة ما أنزل اللهُ بها من سلطان، وأنّ بعضهم يستحل بعض ما حرّمتْه الشريعة النصرانية. هذا فيما يقرّون به،وأما مخالفتهم لما لا يقرّون به فكلهم داخل في ذلك، بل قد ثبت عندنا من الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ المسيح عيسى بن مريم ينزل عندنا بالمنارة البيضاء في دمشق، واضعاً يده على منكبي ملكيْن، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل من أحدٍ إلا الإسلام، ويقتل مسيحَ الضلالة، الأعور الدجال، الذي يتبعه اليهود، ويسلَط المسلمون على اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله، وينتقم الله للمسيح بن مريم مسيحِ الهدى من اليهود ما آذوه وكذّبوه لما بُعِثَ إليهم.[7]

أما ما عندنا في أمر النصارى، وما يفعل الله بهم من إدالة المسلمين عليهم، وتسليطه عليهم، فهذا مما لا أخبر به الملك لئلا يضيق صدره، ولكن الذي أنصحه به، أن كل من أسلف إلى المسلمين خيراً ومال إليهم كانت عاقبته معهم حسنة بحسب ما فعله من الخير، فإن الله يقول: (فمن كان يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).

والذي أختم به الكتاب الوصية بالشيخ أبي العباس وبغيره من الأسرى والمساعدة لهم والرفق بمن عندهم من أهل القرآن، والامتناع من تغيير دين واحد منهم، وسوف يرى الملك عاقبة ذلك كله، ونحن نجزي الملك على ذلك بأضعاف ما في نفسه.

والله يعلم أني قاصد للملك الخير، لأن الله تعالى أمرنا بذلك، وشرع لنا أن نريد الخير لكل أحد، ونعطف على خلْق الله، وندعوهم إلى الله وإلى دينه، وندفع عنهم شياطين الإنس والجن.

والله المسؤول أن يعين الملك على مصلحته التي هي عند الله المصلحة، وأن يخيّر له من الأقوال ما هو خير له عند الله، ويختم له بخاتمة خير.

والحمد لله رب العالمين، وصلواته علىأنبيائه المرسلين، ولا سيما محمد خاتم النبيين والمرسَلين، والسلام عليهم أجمعين.


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر حيل الرهبان في مؤلف الشيخ الإسلام الموسوعة: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/337-338

[2] حاكم أرمينيا.

[3] بقيت قبرص تحت حكم المسلمين من وقت فتحها في عهد عثمان رضي الله عنه سنة 28 هجرية إلى سنة 355 هـ.

[4] اعتدى القبارصة الصليبيون –تحت حكم اللاتين- على مصر سنة 767 هـ واستولوا على الإسكندرية. وكانت بينهم وبين المماليك وقائع عدة، فقد جهز المسلمون جيشاً وغزوا الجزيرة سنة 827 هـ وسنة 828 هـ و 829 هـ وافتتحوها وأسروا ملكها (جانوس) وأنهوا وجود الصليبيين فيها، حيث انتقل الآخرون إلى جزيرة رودس لتصبح قاعدة الاسبتارية بعد ذلك. [راجع التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر: ج7].

[5] أي المسلمين.

[6] إن كان ابن تيمية –رحمه الله- يقصد بذلك معركة اليرموك فإن تعداد المسلمين كان أربعين ألفاً وتعداد النصارى –على اختلاف أجناسهم وشعوبهم- كانوا حوالي 240 ألفاً. انظر "ميدان معركة اليرموك" لمحمود شاكر.

[7] انظر كتاب: »فقد جاء أشراطها« فصل: »عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم« في الفسطاط.

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:50 AM
المسلمون وضرورة الوعي التاريخي

بقلم: عبد القادر عبار


--------------------------------------------------------------------------------

تعتبر الصحوة الإسلامية المباركة مرشحة –حضارياً- قبل غيرها للقيام بدورين جدّ بالغين:

الأول: دور »المنقذ من الضلال« للبشرية المصفوعة بمادية الغرب الملحد، وجشع الصهيونية العالمية المدمّرة.

والثاني: دور »المنقذ من التخلف والتبعية« للمسلمين الذي تعصف بهم أطماع الشرق والغرب، وتتربص بهم ا لقوى الغاضبة والحاقدة، وتخطط لتقليص دورهم في حركة التاريخ بإذابة فاعليتهم ونشر الأمية المثلثة في وعيهم، بدءاً بالأمية التاريخية فالدينية فالعقلية.

تعميق البناء الداخلي وبعث الوعي التاريخي
إلا أن هذين الدورين الجليلين والثقيلين –لكي يؤتيا نتائجهما المنشودة ويرتقيا إلى مستوى التأثير والفعالية –مشروطان، أساساً، بتحقيق عاملين هامين: أن يكون المسلمون، أبناء هذه الصحوة المباركة، على مستوى الرسالة التي يحملونها ويجاهدون من أجلها، وفي الوقت نفسه، أن يكونوا على مستوى العصر الذي فيه يعيشون، عصر الوعي والعلم والتقنية.

ولتحقيق العامل الأول نرى وجوب تعميق البناء الداخلي والشامل للفرد المسلم، وبعث الشخصية الإسلامية الفذة من بُعدها العقائدي السليم، وتكوينها الشرعي والعلمي الموسوعي، وفاعليتها المبدعة، وواقعيتها الإيجابية.

وأما عن العامل الثاني فنرى ضرورة بعث الوعي التاريخي والحضاري عموماً مع حذق أسباب النهوض، وأساليب التحدي الحضاري: فكراً وثقافة وتقنية، وفقه كل ما من شأنه أن يعين على توثيق ارتباط المسلم بالسنن الكونية والاجتماعية حتى يستعيد فاعليته وقدرته علىالتغيير والبناء، وتنتفي العشوائية من حركته، والانهزامية من مواقفه: »ذلك أن الإنسان المسلم عبر مسيرته التاريخية، ولا سيما في القرون الأخيرة قد فقد كثيراً من مقومات شخصيته، بفعل عوامل الاحتكاك الحضاري التي واجهته، وهو في حالة لا تؤهله للاستجابة الملائمة للتحدي الحضاري.. ثم إن المسلم في مراحل انزلاقه قد انفكّ ارتباطه بالسنن الكونية والاجتماعية، وسرعان ما وجد أشباه فلاسفة ومتصوفين يقدمون له التبريرات المطلوبة، لفك ارتباطه بالحركة الكونية وللسير عشوائياً على أرض التاريخ، فهو يتحرك دون وعي مسبق، يتحرك غريزياً..« [1] مما يوجب ضرورة بعث الوعي التاريخي، كما أشرت قبل قليل، مع تفهّم طبيعة الواقع الذاتي والموضوعي؛ من خلال التركيز الجاد علىالقراءة المتفهمة للأحداث، وتدبّر السنن المؤثرة والمسيرة لحركة التاريخ.. لدى شبابنا الإسلامي في إ طار الترشيد الثقافي وتعميق التربية وتأصيل التعليم.

فماذا نعني بالوعي التاريخي؟ ثم ما هي المبررات الذاتية والموضوعية التي تلحّ على اكتسابه والتعامل والتحرك من خلاله؟

معنى الوعي التاريخي..

الوعي التاريخي نعني به: ذلك التبصر الدائم والهادف بالتاريخ القريب والبعيد، الذاتي والموضوعي، الحاصل –أي: التبصر- من خلال التوغّل المركّز في قراءة صفحات التجارب البشرية الكثيرة والمتنوعة، وفحصها وتدبّر أبعادها وخلفياتها، واكتشاف المؤثرات والسنن التي ساهمت في بعثها وإيجادها؛ قصد التزوّد والاعتبار، ومحاولة تفهم الأسس السيكولوجية للكثير من الأحداث والصراعات والانفعالات والتأثيرات والحروب.. الحاصلة والمتولدة عبر الأيام في تاريخ البشرية الحافل والطويل.

قيمة الوعي التاريخي..

وقيمة الوعي التاريخي بهذا المفهوم ترجع أساساً إلى كون علم التاريخ ومعرفته تجربة وعبرة، أو كما يعبر عنه علامتنا ابن خلدون: »فن التاريخ: فنّ عزيز المذهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا..« [2] ذلك أن التاريخ في حقيقته: »خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال« [3]

ثم في كونه أيضاً: »تجربة عطاء في شتى مجالات المعرفة والحركة الإنسانية.. وأنه حصيلة سنن تحكم الطبيعة والإنسان والعالم« [4]، ومن هنا نرى القرآن الكريم يولي المسألة التاريخية أهمية كبرى.

القرآن الكريم والدعوة إلى التبصر والتاريخ
كثيراً ما يؤكد القرآن العظيم، وهو الكتاب الحق والخالد، على ضرورة الوعي التاريخي، ويدعو المسلمين إلى التبصر الجاد والمستمر بأحوال الأولين والتمعن في سيرهم للاعتبار والاتعاظ بما جرى لهم حتى لا تتكرر الأخطاء، وحتى يتجنبوا مزالق التيه والضلال التي وقع فيها من سبقهم من الأمم، ومن ثم لينقذوا أنفسهم والبشرية من حولهم بما أنهم شهداء عليها، من سوء العذاب وخسران المصير.

كما أوضح لهم أكثر من مرة أن السنن المسيّرة لحركة التاريخ لا تقتصر على شعب دون شعب ولا على إقليم دون آخر حتى يأخذوا حذرهم.

فالمسائل التاريخية –إذن- المتعلقة بالشعوب السابقة وبمصير الأمم وأحوالها وعلاقاتها الحضارية ثم أسباب سقوطها، وانهيار الحضارات السالفة متوافرة ومطروحة في القرآن الكريم بشكل بارز:

»... إن آياته البينات ترحل بالمؤمنين عبر كل تلاوة في مجرى الزمن، وتحكي لهم عن وقائع التاريخ المزدحمة وأحداثه المتلاحقة ومعطياته المتمخضة عن القيم والعبر والدلالات.. ومعظم سور القرآن تضرب على الوتر نفسه فلا تكاد تخلو من واقعة تاريخية أو حدث ماض أو دعوة لاستلهام المغزى من هذه التجربة أو تلك، إن الامتداد الذهبي والوجداني إلى الماضي يشكل مساحة واسعة في كتاب الله..« [5]

وهذا لا يعني أن القرآن كتاب تاريخ، أو مدوّنة تاريخية ذلك أن كلمة التاريخ لم تذكر لا في القرآن ولا في السنة –كما يؤكد العلامة علال الفاسي- وإنْ قصّ علينا القرآن قصصاً للأولين، لا لنعتبرها تاريخاً بأوقاتها وظروفها ولكن لنتعظ بما فيها من عبرة لأولي الألباب.

قال تعالى:

»ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّنْ لكم وأرسلنا السماءَ عليهم مدراراً وجعلنا الأنهارَ تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرينَ« [الأنعام: 6].

وقال أيضاً:

»وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدُّ منهم بطشاً فنقّبوا في البلاد هل من محيص. إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد« [ق: 36-37].

وقال في موضع آخر:

»قد خلتْ من قبلكم سننٌ فسيروا في الآرض فانظروا كيف كانَ عاقبةُ المكذّبين. هذا بيانٌ للناس وهدى وموعظةٌ للمتقين« [آل عمران: 137-138].

وقد عرض القرآنُ الكريم المرتكزات الأساسية لهذه السنن وطلب النظر والتبصر والسير في الأرض وتحقيق العبرة والاعتبار بأحوال الأمم السابقة وسبب انقراضها وتداعيها لتكون الأمة التي تحمل الرسالة الخاتمة على بينة من أمرها وبصيرة بموضع أقدامها ومعرفة بأعدائها..[6]

وهكذا فإن الدارس للسور القرآنية مكيها ومدنيّها يلاحظ في جلاء عدداً هائلاً من الآيات المتمحورة حول القصص، والحافلة بالعروض التاريخية المتنوعة، والهادفة أساساً إلى: »إثارة الفكر البشري ودفعه إلى التساؤل الدائم والدائب عن الحق، وتقديم خلاصات التجارب البشرية عبراً يسير على هديها أولو الألباب، وإزاحة ستار الغفلة والنسيان في نفس الإنسان وصقل ذاكرته وقدرته على المقاومة لكي تظل في مقدمة قواه الفعالة التي هو بأمس الحاجة إلى تفجير طاقاتها دوماً.«[7]

وقد دعانا القرآن الكريم أكثر من مرة عند سرده للواقعة التاريخية إلى: »تأمّلها واعتماد مدلولاتها في أفعالنا الراهنة ونزوعنا المستقبلي.« [8]

الرسول صلى الله عليه وسلم والتاريخ..

وقد نحا الرسول صلى الله عليه وسلم المنحى القرآني في الدعوة إلى الاعتبار بالأولين وأخْذ الموعظة من تجاربهم، وذلك عند توظيفه للحدث الماضي ضمن قصص حية، مرغّبة ومرهّبة، آمرة وناهية، حتى لقد اشتملت الأحاديث النبوية الشريفة علىأربع وأربعين قصة تاريخية تضم قصصاً عن الرسل والأنبياء وغيرهم، مثل: قصة »أصحاب الأخدود« و»الثلاثة المبتلون« و»أصحاب الغار« وهذا لا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مؤرخاً أو مدوّناً للتاريخ بإيراده هذا العدد الهائل من القصص التاريخي، وإنما أراد أن يضع للمسلمين الإطار الذي عليهم أن يملؤوه بما يكتشفونه من أحداث وما يصنعونه من عمليات.

التاريخ في نظر المسلم..

التاريخ في نظر المسلم حسب تعبير »ولفرد كانتول سميث Welfered Cantel Smith « سجل المحاولات البشرية الدائمة لتحقيق ملكوت الله في الأرض، ومن ثم فكل عمل وكل شعور فردياً كان أو اجتماعياً، ذو أهمية بالغة لأن الحاضر هو نتيجة الماضي، والمستقبل متوقف على الحاضر..

والإنسان في التصور الإسلامي يشكل محور فلسفة التاريخ »بحيث يصبح التاريخ الإنساني من صنع الإنسان وبالتالي إبراز قدرة الإنسان على صنع مصيره دون أن يتعارض ذلك مع قدرة الله على الخلق، وما دام الإنسان يصنع تاريخه بنفسه فالأولى به أن يعي هذا التاريخ ويحاول تدبّر علل ظواهره.« [9] ذلك أن الجبرية غير موجودة في الإسلام –كما يقول العلامة علاّل الفاسي- لأن الإنسان ليس خارج التاريخ بل هو من عوامله الداخلية الفاعلة والمفتعلة وليست عمليات التاريخ دون غاية.

وهذا ما يجعل الإنسان المسلم أشدّ اهتماماً بالتاريخ من غيره، فهو على خلاف الماركسي الذي يؤمن بحتمية التاريخ، وبالتالي يتبع عجلة التاريخ دون أن يوجهها أو يؤثر فيها، ثم هو أيضاً على خلاف النصراني الذي يرى في التاريخ نقطة الضعف البشري وسجل الانحرافات البشرية.

ومن هنا احتلّ الفكر التاريخي مكانة مرموقة في الثقافة الإسلامية، سواء في التكوين الثقافي للرجل المسلم، أو في الحياة الاجتماعية والأدب، أو في النشاطات السياسية.. وهو يتخذ أشكالاً متنوعة من سيَر حياة وبالدرجة الأولى حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاجم سيَر وسجلات مدن أو سلالات ووقائع وقصص..

وباختصار نريد أن نقول، والعبارة للباحث ولفرد كانتول سميث: »إن المسلم يحسّ إحساساً جاداً بالتاريخ، إنه يؤمن بأن الله قد وضع نظاماص عملياً واقعياً يسير البشر في الأرض على مقتضاه، ويحاول دائماً أن يصوغ واقع الأرض في إطاره، ومن ثم فهو دائماً يعيش كل عمل فردي أو اجتماعي، وكل شعور فردي أو اجتماعي بمقدار قربه أو بعده من ذلك النظام الذي وضعه الله والذي ينبغي تحقيقه في واقع الأرض لأنه قابل للتحقيق..« [10]

فأين نحن من هذا الإحساس؟

هل وعينا التاريخ؟
لنصارح أنفسنا فنبادر بالإجابة: لا! لم نعِ بعد تاريخنا، لأننا في الحقيقة لم نشغل أنفسنا بالبحث الجازم في هذه القضية رغم حساسيتها وأهميتها وذلك ناتج –ربما- من تجاهلنا أو عدم وعينا بخطورة تغييبها عن حسّنا وتفكيرنا فيما نخطط وندرس وننظر، وكذلك عدم إدراكنا لمدى مساهمتها وانعكاساتها –سلباً وإيجاباً- على حركتنا وممارساتنا، ومن هنا فيجب علينا ألا نخجل من القول بأننا نعاني جفافاً في التعامل مع التاريخ،وإى فبماذا تفسر ملامح تخلفنا في شتى المجالات، وسلسلة الهزائم والنكسات التي تكبدناها إبّان المواجهات العسكرية والجولات السياسية تجاه أعدائها من يهود وصليبيين وغيرهم؟ فقد اكتفينا أو بالأصح –اكتفى الذي يسطرون سياستنا التعليمية، والساهرون (!) على مواردنا التثقيفية والتربوية والإعلامية- بالسرد السطحي الجاف والمسلي للأحداث التاريخية، والتلميح الهزيل والمعتم إلى الأسس السيكولوجي لصراعنا وتعاملنا مع الغرب شرقيّه وغربيّه، بينما نرى الغرب قد نجح –بذكائه الماكر- في توظيف الحدث التاريخي لخدمة أغراضه رغم خبثها ودناءتها:

»...فخيال الحروب الصليبية –التي نتج عنها تسمم العقل الغربي ضد العالم الإسلامي- لا يزال يرفرف فوق الغرب حتى يومنا هذا. كما أن جميع اتجاهاتها وإرجاعها نحو الإسلام والعالم الإسلامي لا تزال تحمل آثاراً واضحة جليّة من ذلك الشبح العنيد الخالد.«

اليهود ومدى الحرص على التاريخ..

وأما اليهود فقد أدركوا الدور الخطير الذي يلعبه التاريخ في حاضر الشعوب ومستقبلها، ومدى الإسهام والعطاء الذي يمنحه وعي الحدث التاريخي وفقه أبعاده لمن يهتم به: ذلك أن التاريخ هو بمثابة ذاكرة الأمة، وبقدر ما تسلم للأمة ذاكرتها وتحسن التعامل معها، بقدر ما يمتدّ تأثيرها وتبرز قدراتها وتقوى شخصيتها.

ولهذا فإن اليهود، وهم أساتذة المكر المدروس، قد ركّزوا كثيراً على التاريخ احتواءً وتشويهاً، خاصة في إطار المناهج التعليمية والتربوية التي حرصوا منذ وقت مبكر على احتوائها وتوجيهها تنفيذاً لأغراضهم العدوانية، وهذه الشواهد الصارخة من بروتوكولاتهم السامة خير دليل على ذلك؛ فقد جاء في البروتوكول السادس عشر:

»... سنتقدم بدراسة مشكلات المستقبل بدلاً من الكلاسيكات، وبدراسة التاريخ القديم الذي يشتمل على مثل سيئة أكثر من اشتماله على مُثُل حسنة، وسنطمس في ذاكرة الإنسان العصور الماضية التي تكون شؤماً علينا ولا نترك إلا الحقائق التي ستظهر أخطاء الحكومات في ألوان قاتمة...«

وجاء في البروتوكول الرابع عشر:

»... وسنوجه عناية خاصة إلى الأخطاء التاريخية للحكومات الأممية التي عذّبت الإنسانية خلال قرون كثيراً جداً...« أي: إن اليهود سيدرّسون للشباب صفحات التاريخ السوداء ليعرفونهم أن الشعوب عندما كانت محكومة بالنظم القديمة كانت حياتها سيئة، ولا يدرّسون لهم الفترات التي كانت فيها الشعوب سعيدة لكي يقنعوهم بهذه الدراسة الكاذبة الزائفة أن النظام الجديد أفضل من القديم.

وكانت عناية اليهود مركزة، بصفة أدق وأشمل، على التاريخ الإسلامي قصدَ تشويه حقائقه أو تقزيمها، وتضخيم نقاطه السوداء إن وجدت، وإلا فاختلاقها وإلصاقها به سهل يسير على أرباب المكر والدهاء؛ ولهذا فقد خصّصت الصهيونية العالمية مؤتمر »بلتيمور« في الولايات المتحدة من أجل تزييف تاريخ الإسلام، وإثارة الجدل حول قضايا الشعوبية والباطنية، وتوظيف بعض المواقف الهدّامة في التاريخ لإضفاء مصطلحات عصرية »مغلّفة« عليها كما فعلت في وصفها لحركة القرامطة بأنها تمثل حركة العدل الاجتماعي، وحركة الزنج التي استغلها دعاة التفسير المادي، وهم يهود طبعاً لأن جدهم ماركس يهودي، وأبرزوها في ثوب »حركة ثورية تقدمية بروليتارية«.. وغيرها كثير.[11]

وقد وجد هؤلاء اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام.. من القيادات الفكرية التغريبية والرموز الثقافية والإعلامية في العالم العربي والإسلامي مساعدات مجانية مشجعة على مستوى التأليف والدعاية والنشر...

هذه باختصار بعض ملامح الحرص اليهودي علىتشويه ذاكرة الأمم بمسخ تاريخها وتزييفه وتعتيمه، وأما على المستوى الآخر: الذاتي الداخلي لليهود فالأمر جدّ مختلف: فالبرامج التعليمية الخاصة باليهود تركز في جانب كبير على بعث الحس التاريخي والعقيدي وتجذيرهما في النشء اليهودي.. فأول كلمة يتعلمها الطفل اليهودي ضمن محفوظاته اليومية في دور الحضانة لها حس تاريخي »أورشليم حبيبتي« ثم حين يشب الأطفال عندهم يدرسون بدقة وتفصيل وإحكام تاريخ الشعب الإسرائيلي: شعب الله المختار على الأرض!! وحين يذهب شبابهم إلى الجامعات يستمرون في تعميق تعاليم دينهم وأمجاد تاريخهم في دروس يومية لا هوادة فيها.

فأين نحن من هذا؟

وبعد..

فخلاصة القول من كل ما أوردنا تتخلص كالآتي:

أولاً- يجب علينا أن نضع حدّاً للجفاف الذي يصبغ تعاملنا مع التاريخ، وأن نجدّد رؤيتنا وفهمنا ودراستنا لتاريخنا الإسلامي، وأن نعمل على إيجاد صيغ سليمة ومتينة تمكننا من التفاعل الهادف مع التاريخ، ومن التزود الواعي والمستمر من معينه الخصب.. وهذا لن يحصل إلا من خلال دراسة عميقة، واعية ومتكاملة للتاريخ الإسلامي: ».. إن دراسة تاريخ الإسلام في هذه المرحلة من حياتنا ضرورة لا سبيل إلى تجاوزها لفهم الأحداث وتطور المجتمع ولمعرفة مكان العالم الإسلامي والأمة العربية من الحضارة العصرية. فإن نظرتنا إلى الأحداث لا تصدق إلا إذا قامت في ظل مفهوم شامل وفي إطار تاريخ الإسلام نفسه، كما أن اتصلنا بالغرب اليوم يجب أن يقوم على مفهوم مرحلة هي رد فعل لمرحلة قد سبقتها، بحسبان أن هذه الحضارة العصربية الغربية ليست منفصلة عن عالم الإسلام، وإنما قامت قواعدها على المنهج التجريبي الإسلامي وعلى بناء صاغه العلماء المسلمون، فنحن حين نتصل بها اليوم لا نكون غرباء عن جذورها فهي ملك للبشرية كلها التي صاغتها وشاركت في تكوين جوانبها المختلفة..« [12]

وثانياً- يجب أن يتأكد لدينا أن قضية الوعي التاريخي أصبحت ضرورية بل مصيرية يتحتم علينا أن نوليها اهتماماً بالغاً وعناية فائقة لا على مستوى الترف الفكري بتكديس الدراسات وتحبير المقالات، ولكن –وهذا هو الأهم- على مستوى الوعي والتربية والحركة وعلى مستوى التعامل والممارسات اليومية؛ وهذا لن يتيسر إلا ببعث سياسة تعليمية وتربوية متأصلة تركز على بعث الوعي التاريخي الهادف، وتعميق البعد العقيدي في برامجها على طول المراحل التعليمية بدءاً برياض الأطفال وانتهاء بالتعليم العالي؛ ويرادفها –أي هذه السياسة التعليمية- جهاز ثقافي وإعلامي في مستوى العصر تجهيزاً وتقنية، يؤثر ولا يتأثر ويتوخى الصدق والعلمية والموضوعية في كل أعماله.
وبذلك –حسب رأيي- نتمكن من تجاوز كثير من العوائق المادية والمعنوية التي تحول دون تحقيق أهدافنا وغاياتنا: من نشر الدعوة الإسلامية بما فيها من خير وأمن وعدل للإنسانية.. إلى إقامة المجتمع الإسلامي المنشود الذي هو أمل البشرية وربيعها المنتظر..
مجلة الأمة، العدد 42، جمادى الآخرة 1404 هـ

--------------------------------------------------------------------------------

[1] مجلة منار الإسلام، العدد 11، السنة الخامسة، ص 56.

[2] المقدمة، ص 13

[3] المقدمة، ص 57

[4] في النقد الإسلامي المعاصر: ص123، للدكتور عماد الدين خليل

[5] الأمة، العدد 18، ص 8

[6] الأمة، العدد 25، ص5

[7] التفسير الإسلامي للتاريخ: 106 للدكتور عماد الدين خليل.

[8] المصدر السابق: 97

[9] سوسيولوجيا الفكر الإسلامي: ص238، للدكتور محمود إسماعيل

[10] الإسلام والعالم المعاصر، للأستاذ أنور الجندي، ص 163

[11] منار الإسلام، العدد 5، السنة 7، ص: 103

[12] الأسلام وحركة التاريخ، للأستاذ أنور الجندي، ص 485

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:51 AM
هل أسلم بابا روما زمن هرقل؟

(1)

هذا الجسد الضخم الذي يتقلب في الفراش.. ما باله؟ ما حاله؟

ألا يأتيه النوم فيرتاح..؟

لا.. لا.. فالنوم أبعد ما يكون عن جفنيه.. لقد سمع اليوم شيئاً لم يسمعه من قبل:

"أسلمْ تسلمْ.. أسلمْ تسلم.." ويتردد صدى هذه الكلمات في أذنيه.. "أسلم تسلم.."

يا إلهي.. هل محمد رسول الله حقاً؟

ويعاود النداء يردد صداه في أذنيه: "أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين.."

واستسلم الجسم المنهوك للنوم وصدى الأحداث يتردد في أعماقه.

وفي الصباح يصحو هرقل عظيم الروم من نومه وقد أنهكه التفكير.. لقد أتى إلى إيلياء حاجاً شاكراً لله على نصره ضد الفرس وملكهم.. فقد أقسم لئن نصره الله عليهم ليحجّنّ إلى إيلياء ماشياً، وقد فعل. وما إن وصلها حتى أتاه كتاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، حيث دفعه دحية بن خليفة رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم بصرى، ودفعه هذا بدوره إلى هرقل:

"بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسول إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليتَ فإن عليك إثم الأريسيين و (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).

ماذا يفعل بهذا الكتاب.. وكيف يسأل عن مرسله؟

في هذه الأثناء كان أبو سفيان في ركب من قريش تجاراً في الشام فعلم بهم هرقل فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعا بترجمانه –وكان أبو سفيان متكلم القوم- فقال:

-أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أن نبي؟

-أنا أقربهم نسباً.

-ادنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، وإني سائل هذا الرجل، فإن كذَبني فكذّبوه.

وأبو سفيان يقول في نفسه: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه.

ويبدأ الحوار:

-كيف نسبه فيكم؟

-هو فينا ذو نسب.

-فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟

-لا!

-فهل كان من آبائه من ملك؟

-لا!

-فأشراف الناس يتبعونه أو ضعفاؤهم؟

-بل ضعفاؤهم.

-أيزيدون أم ينقصون؟

-بل يزيدون.

-فهل يرتد أحد منهم سخطاً لدينه بعد أن يدخل فيه؟

-لا!

-فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

-لا!

-فهل يغدر؟

-لا، ونحن في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها.

-وهل قاتلتموه؟

-نعم.

-فكيف كان قتالكم إياه؟

-الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.

-ماذا يأمركم؟

-يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم. ويأمرنا الصلاة والصدق والعفاف والصلة.

-سألتك عن نسبه فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعَث في نسب قومها.

وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول، فذكرت أن لا، فقلتُ لو كان أحد قال هذا القول لقلتُ رجل يأتسي بقول قبل قبله.

وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرتَ أن لا، قلتُ: فلو كان من آبائه من ملك قلتُ: رجل يطلب مُلك أبيه.

وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أنْ لا، فقد أعرف أن لم يكن لِيَذرَ الكذب على الناس ويكذب على الله.

وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرتَ: أن ضعفاءهم اتّبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أن ينقصون؟ فذكرتَ: أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حين تخالط بشاشتُه القلوب.

وسألتك: هل يغدر؟ فذكرتَ: أنْ لا، وكذلك الرسل لا تغدر.

وسألتك: بما يأمركم؟ فذكرتَ: أن يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميّ هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلصُ إليه لتجشّمتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ عن قدمه.

ثم دعا هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه. فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات، وأخرج أبو سفيان ومن معه. (البخاري)

لكن هل توقف هرقل عند هذا الحد، أم استمر في بحثه عن الحقيقة..؟

(2)

لم يحرك كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمير هرقل فحسب، بل حرك ضمائر وقلوب كثير من علماء النصرانية. منهم سرجيوس بطريق الكنيسة الشرقية في القسطنطينية وأونوريوس بابا رومية.

لقد كان العالم المسيحي في ذلك الوقت منقسماً على نفسه، ما بين موحد لله، ومشرك به، ومختلف في طبيعة المسيح، عليه السلام، هل هو الله، أم ابن الله، أم ثالث ثلاثة؟ وإذا كان أحد هذه الافتراضات صحيحاً -وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فهل للمسيح طبيعة ناسوتية وأخرى لاهوتية، أم هي طبيعة لاهوتية تجسدت في شخصه؟ وهل له إرادة واحدة أم إرادتان؟ وهل إرادته توافق أم تخالف إرادة الله؟ أسئلة بلا أجوبة تدور في أذهان علماء النصرانية فضلاً عن عامتهم!

كان فكرة "الطبيعة الواحدة" و"الإرادة الواحدة" قد انتشرت مبكراً في العالم المسيحي، وعقدت مجامع كثيرة للعن وطرد من يخالف عقيدة التثليث، حيث كان أولها مجمع نيقية عام 325م، وفيه لعِن أريوس وغيره من البطارقة الذين رفضوا هذه العقيدة الغريبة. وكان الإمبراطور قسطنطين الثاني –وهو أول من تنصر من ملوك الروم- وراء هذا المجمع، والذي فيه أيضاً اعتُمِدت الأناجيل الأربعة المعروفة ورفض غيرها.

وكان سرجيوس، بطريق القسطنطينية، يؤمن بأن المسيح له طبيعة بشرية، وليس فيه من الإلهية شيئاً، وكذلك هرقل، وكثير من بطارقة المشرق، بما فيهم بطريق القدس صفرونيوس. لكن هل كان بطارقة رومية على هذا الاعتقاد؟ الجواب: لا..! بل كانوا يتهمون كل من اعتقد هذا الاعتقاد بالهرطقة ويلعنونه ويحكموا بطرده من رحمة الرب!

* * *

كان بين سرجيوس وأونوريوس بابا رومية في ذلك الوقت مراسلات، نوقشت فيها قضايا متعددة ومن أبرزها قضية "الإرادة الواحدة". واستطاع سرجيوس أخيراً أن يقنع بابا رومية بعقيدته هذه، حيث وافقه الأخير عليها، وبذلك خالف من جاء قبله وبعده من البابوات، وأثبت للعالم المسيحي –وإلى يومنا هذا- أن البابا ليس مقدساً وأنه يخطئ ويصيب!

بقي هرقل في إيلياء –للحج- فترة من الزمن ثم أذن بالرحيل إلى القسطنطينية، لكن خلال وجوده في إيلياء أرسل كتاباً إلى بابا رومية المذكور آنفاً شارحاً له أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما ورد في كتابه إليه، فجاءه الرد من البابا وهو في طريقه إلى القسطنطينية ماراً بحمص "يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي. فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلِّقت، ثم اطّلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلِّقت، فلمّا رأى هرقلُ نفرتَهم وأيسَ من الإيمان قال: ردُّوهم عليّ. وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدّتكم على دينكم، فقد رأيتُ. فسجدوا له ورضوا عنه.. فكان ذلك آخر شأن هرقل.." (البخاري)

* * *

ولِد أونوريوس Honorius في كامبانا Campagna، إيطاليا، لوالدين نبيلين، وكان اسم أبيه بترونيوس Petronius .

كان أونوريوس الطالب الأول للبابا غريغوري الأول (590-604م). ولم يصبح أونوريوس باباً لروما إلا بعد خمسة من البابوات أتوا بعد غريغوري الأول، وهم:

Sabinian سابينيان (604-606م)

Boniface III بونيفيس الثالث (607م)

Boniface IV بونيفيس الرابع (608-615م)

Deusdedit ديوسديديت (أديوداتوس الأول) (615-618م)

Boniface V وَبونيفيس الخامس (619-625م)

وقد بقي أونوريوس باباً لروما مدة 13 سنة، من 625 وحتى وفاته عام 638م.

يصف المؤرخون أونوريوس بأنه شخصية إصلاحية خيّرة، سعى إلى إعمار الكنائس وترميمها وزين كنيسة القديس بطرس. ومن أعماله الخيرية أنه أجرى الماء إلى روما من بحيرة ساباتين التي تبعد 35 ميلاً عن المدينة بعد أن أصلح قناة تاراجان وبنى عليها الطواحين. وكانت له اليد الطولى في بداية انتشار النصرانية في الجزر البريطانيةوإيرلندا.

خلال تولي أونوريوس البابوية في رومية كانت هناك أحداث تغير مستقبل البشرية تأخذ طريقها في المشرق. كان الزحف الإسلامي قد بدأ بالانتشار من المدينة المنورة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عام 632م وبعد أن أعاد أبو بكر -رضي الله عنه- المرتدين إلى حظيرة الإسلام. وما أن استخلف عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حتى تكاثف زحف جيوش المسلمين نحو أراضي الدولتين الفارسية والرومية. وعندما فتح المسلمون إيلياء (أي بيت المقدس) عام 637م كان أسقفها يومئذ صفرونيوس (633-638م)، وكان يؤمن بعقيدة "الإرادة الواحدة" وكذلك خلفُه بيروس Pyrrhus كان على نفس الاعتقاد. فهذه العقيدة –كما ترى- ليست غريبة بين علماء النصارى، بخلاف ما هم عليه الآن.

استمر الصراع بين المسلمين والروم في بلاد الشام والأناضول ومصر وشمالي إفريقية وانتقل إلى الأندلس. وقد حاول المسلمون فتح القسطنطينية مرات كثيرة، أولها كان في سنة 52هـ زمن معاوية بن أبي سفيان، وتكررت المحاولات مرات عديدة، لكن المدينة صمدت حتى أذن الله بفتحها على يد المجاهد العثماني محمد الفاتح رحمه الله عام 1452م.

السؤال الآن هو: هل أسلم أونوريوس أم لا؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال نقول ما يلي:

في عام 681م عُقِدَ في القسطنطينية نفسها مجمع سُمِّيَ فيما بعد بمجمع القسطنطينية، حيث أدين فيه معتقد سرجيوس ومن اعتنقه من البطارقة، ومن ضمنهم كان البابا أونوريوس.

علمنا سابقاً أن أونوريوس أرسل رداً على رسالة هرقل والتي كان يسأله فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في هذا الرد –كما جاء في صحيح البخاري [كتاب التوحيد، حديث رقم 6]- ما "يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي". فهل يعقل من رجل كأونوريوس صاحب علم بالكتاب ومحب للخير ومعتقد ببشرية المسيح، وقد رأى بأم عينيه قبل أن يموت بسنة دخول المسلمين إلى بيت المقدس وهزيمتهم لفارس والروم في كل معركة خاضوها، وعلمه أن النبي المنتظر سيظهر على كل الأمم، وبعد أن وصله كتابُ هرقل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وردّه عليه؛ فهل يعقل من رجل كهذا ألا يكون قد أسلم؟

لكن الجواب النهائي والقطعي عن إسلام أونوريوس سيبقى هكذا معلقاً، وإن كنتُ شخصياً أرجح أنه أسلم، وأن البابوات الذين جاءوا بعده لعنوه وطردوه لهذا السبب، وقد أخفوا حقيقة أمره على بقية النصارى كعادتهم في تحريفهم وتزييفهم للحقائق.

ولعل يوماً من الأيام تفتح مكتبة الفاتيكان أبوابها للباحثين حتى يطلعوا على ما فيها من الكتب والمخطوطات القديمة.. فصفة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وأمته –بلا شك- موجودة في كتبهم.. ولعل هذا اليوم لن يأتي حتى يفتح المسلمون رومية كما بشر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عندما في الحديث الصحيح: عن عمران بن حصين قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً: أقسطنطينية أو رومية؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولاً. يعني القسطنطينية. [حديث صحيح رواه أحمد وغيره].

يقول الله تعالى: (وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) [آل عمران: 199].

والله تعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


--------------------------------------------------------------------------------

مصادر البحث:

فتح الباري بشرح صحيح البخاري

-Pope Encyclopedia, Matthew Bunson, 1995, Crown Publishing -Group, NY, NY.
-The Lives of the Popes in the early middle ages, Rev. Horace K. Mann, Vol. I, Part I, pp 308-345, 2nd edition, London 1925
-Chronicles of the Popes, P. G, Maxwell-Stuart, 1997

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:52 AM
أيها المؤرخون: لا تظلموا العثمانيين المسلمين!

بقلم: زياد محمود أبو غنيمة


--------------------------------------------------------------------------------

قبل أن يدخل الأتراك العثمانيون في الإسلام، لم يكونوا موضع اهتمام جاد من المؤرخين لم يكونوا موضع اهتمام جاد من المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، فلم يردْ ذكرهم إلا من خلال إشارات عابرة.

وحين دخل الأتراك العثمانيون في الإسلام انقلبت الصورة وأصبحوا محط أنظار المؤرخين المسلمين وغير المسلمين، بيد أن المؤرخين من غير المسلمين أبدوا اهتماماً ملحوظاً بدراسة تاريخ الأتراك العثمانيين المسلمين.

ولأول وهلة يخيل للمرء أن اندفاع المؤرخين من غير المسلمين في دراسة تاريخ العثمانيين المسلمين كان ينطلق من منطلق علمي سليم، هدفه تتبع العثمانيين المسلمين بأمانة علمية منصفة، ولكن ما أن يطلع المرء على ما أفرزته جهود المؤرخين من غير المسلمين من دراسات عن تاريخ العثمانيين المسلمين، حتى يكتشف أن الغالبية العظمى منهم قد تجاهلوا، وتناسوا مقتضيات الأمانة العلمية والإنصاف، بل أطلقوا العنان لأحقادهم الظاهرة والباطنة، لتكون هي المنطلق الذي ينطلقون من خلاله في تشويه تاريخ العثمانيين المسلمين وإلصاق عشرات الافتراءات التي لا تسندها أية بينات تاريخية بالأتراك العثمانيين المسلمين.

ولئن كنا لا نستغرب أن تصدر مثل تلك الافتراءات عن أقوام فضح الله عز وجل نواياهم تجاه الإسلام والمسلمين في قوله تعالى جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عنتُّم قد بدتِ البغضاءُ من أفواههم وما تُخفي صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآياتِ إن كنتم تعقلونَ) [آل عمران: 118].

***

ولئن كنا لا نستغرب أن يحمل الحقد الأسود أولئك المؤرخين على تجاهل وتناسي أبسط قواعد مقتضيات الأمانة العلمية في عملية التاريخ للأتراك العثمانيين المسلمين، فإن الذي نستغربه أشد الاستغراب، بل ونستهجنه بشدة أن ينزلق الكثير من المؤرخين المسلمين، في حمأة عملية التزوير والتشويه والبهتان التي ألصقت بتاريخ العثمانيين المسلمين..

من ذلك مثلاً، تلك الفرية اللئيمة التي لا يكاد يخلو منها إلا النذر اليسير من الكتب التي تؤرخ للعثمانيين المسلمين، والتي تزعم أن السلاطين العثمانيين كانوا يملكون الحق، بموجب فتوى شرعية إسلامية، في قتل من يشاؤون من إخوانهم أو بني رحمهم، أو أقاربهم، بحجة الحفاظ على وحدة المسلمين، ولقطع الطريق على أية فتنة يمكن أن تبرز إذا حاول أحدهم المطالبة بالسلطة لنفسه.

وكان آخر ما وقع عليه نظري من ترديد لهذه الفرية ما جاء في مقال للأستاذ إبراهيم محمد الفحام في عدد المحرم 1402 هـ تشرين الثاني (نوفمبر) 1981م من مجلة العربي التي تصدر في الكويت، حيث ذهب إلى القول بأن السلاطين العثمانيين الجدد اعتادوا عند توليهم مقاليد السلطة أن يقتلوا إخوانهم جميعاً، ليأمنوا محاولات اغتصاب الملك، وأن هذه الظاهرة تكررت مراراً في تاريخ الدولة العثمانية حتى شمل القتل الإخوة الأصاغر سناً.

وإن كنتُ لا أنفي ولا أنكر وقوع العديد من حوادث التصارع بين بعض السلاطين العثمانيين وبين بعض إخوانهم، بل وأحياناً بينهم وبين أبنائهم، وأن بعض هذه الصراعات كانت تنتهي بمقتل أحد الأطراف المتصارعة، إلا أنني أنفي، وبكل شدة، وبإصرار، ما يزعمه الزاعمون من وجود فتوى شرعية إسلامية تبيح لكل سلطان عثماني جديد أن يقتل من يشاء من إخوانه، أو بني رحمه، بحجة المحافظة على وحدة المسلمين منعاً لوقوع الفتنة.

أقول هذا.. وأتساءل:

أليس من مقتضيات أمانة التوثيق العلمي والتاريخي أن يقدَّم بين يدي أية رواية تاريخية بالبينات التي تدعم صحتها، من تحديد للأسماء والأمكنة والأزمنة، وتبيين سلسلة الرواة الذين تناقلوا الرواية، إلى أن وصلت إلى راويها الأخير؟

ثم أليس من مقتضيات أمانة التوثيق العلمي والتاريخي، أن لا يُكتَفى بالتعميم المبهم، بعبارات مبهمة، في رواية تحمل تهمة خطيرة لشعب بأسره هو الشعب التركي المسلم، بل الأمة بأسرها، هي أمة الإسلام، بل للإسلام ذاته الذي كان العثمانيون يحملون لواءة ويمثلونه آنذاك..؟

أين نص الفتوى الشرعية التي يزعم الزاعمون أنها تبيح للسلاطين العثمانيين قتْل بني رحمهم من غير أي مسوغ شرعي؟

أين أسماء العلماء المسلمين الذين أفتوا الفتوى المزعومة هذه؟

وفي زمن أي من سلاطين بني عثمان على التحديد صدرت؟

لقد قرأت بضعة وعشرين مرجعاً، عربياً وتركياً وإنجليزياً، تؤرخ للعثمانيين المسلمين، فما وجدت من بينها مرجعاً واحداً يذكر نص الفتوى المزعومة، أو يذكر اسماً لعالم واحد تنسب الفتوى إليه، بل لقد اكتفى كل مرجع عند ذكر هذه الفرية بسردها وكأنها يقين لا يرقى إليه شك، فلا يحتاج إلى توثيق.

وقبل أن أتحدث بشيء من التفصيل عن تلك الأحداث التي تشبث بها الزاعمون ليرفدوا بها فريتهم، يجدر بي أن أؤكد أن الإسلام يرفض رفضاً قاطعاً هذا الهراء، ولا يقبل مطلقاً أن تهون حياة المسلم، أي مسلم، إلى درجة تباح فيها حياته لمجرد شبهة، أو من أجل وساوس وأوهام تتستر وراء الزعم بالغيرة على جماعة المسلمين من أن تقع فتنة مزعومة لم يقم على وقوعها، أو على مجرد الشك بوقوعها دليل شرعي.

إن طبيعة الإسلام، وأخلاق الإسلام، وإنسانية الإسلام، ترفض رفضاً قاطعاً أن تصدر باسم الإسلام فتوى تبيح لأي إنسان مهما بلغ شأنه، أن يقتل مسلماً إلا في الحالات التي نصّ عليها الشرع : الثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة (المرتد)، والقاتل عمداً (النفس بالنفس).

ألا، وإن كل مسلم مهما كان مستوى علم، يعلم أن قتل النفس، أي نفس، محرّم في شرع الله عز وجل إلا ضمن الحدود التي حددها الله عز وجل.

ولقد ندد الله عز وجل أيما تنديد، بتلك الجريمة التي اقترفها قابيل ابن سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام، يوم طوّعت له نفسُه قتلَ أخيه هابيل فقتله:

(واتل عليهم نبأَ ابنيْ آدمَ إذْ قرّبا قرباناً فتقبِّل من أحدهما ولم يُتَقَبَّلْ من الآخر قال لأقتلنكَ قال إنما يتقبّلُ اللهُ من المتقين. لئنْ بسطتَ يديَ لأقتلكَ ما أنا بباسطٍ يديَ إليكَ لأقتلكَ إني أخافُ اللهَ ربَّ العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمكَ فتكونَ من أصحابِ النار وذلك جزاء الظالمين. فطوّعتْ له نفسُه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. فبعثَ اللهُ غراباً يبحثُ في الأرض لِيُريَهُ كيف يواري سوأةَ أخيه قال يا ويلتا أعجزتُ أن أكونَ مثلَ هذا الغرابِ فأواريَ سوأةَ أخي فأصبح من النادمين) [المائدة: 27-31].

بل إن الله عز وجل لم يكتفِ بالتنديد بجريمة قابيل، بل جعلها منطلقاً لحكم رباني يؤكد حرمة النفس البشرية تأكيداً قاطعاً لا لبس فيه ولا غموض:

(من أجل ذلكَ كتبنا على بني إسرائيلَ أنه مَن قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتلَ الناسَ جميعاً) [المائدة: 32].

تلك هي الحقيقة، حقيقة تؤكد براءة الإسلام من تلك الفتوى المزعومة، وتؤكد رفض الإسلام لهذا الهراء.

فمن أين جاءت هذه الفرية إذن؟

وما هي دوافعها، وماذا يقصد مروجوها من ورائها..؟

أما الدوافع التي تكمن وراء ترويج هذه الفريةة، فلا أملك إلا أن أقول: إنها نابعة من الحقد الأسود الذي تمتلئ به قلوب العديد من المؤرخين الصليبيين من أعداء الإسلام، ضد الإسلام والمسلمين..

فلقد انتهز بعض المؤرخين الصليبيين الحاقدين، وقلدهم في ذلك عن قصد أو عن غير قصد، بعضُ المؤرخين الذي يحملون أسماء إسلامية، وقوع بعض حوادث الصراع الدموي على السلطة في الدولة العثمانية، وهو أمر لم تسلم منه أمة ن الأمم على مدار التاريخ، فوجدوا في تلك الأحداث متنفساً لينفثوا من خلاله أحقادهم الدفينة ضد الإسلام والمسلمين، فوجهوا سهام افتراءاتهم ضد العثمانيين المسلمين، وهم في حقيقة الأمر يوجهونها إلى الإسلام الذي كان العثمانيون يمثلونه آنذاك.

أقول هذا، وبين يدي أكثر من دليل.

أبدأ بحادثة مقتل الأمير «دوندار» عمّ السلطان «عثمان»، وهي حادثة أرودها المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني»، الذي ألفه عام 1945م، أي في الوقت الذي كانت فيه أنواء الردة الأتاتوركية في أصخب حالات هبوبها على تركيا، بكل ما تحمله من مشاعر العداء للعثمانيين المسلمين، وزعم فيها أن عثمان بن أرطغرل استشار عمه دوندار البالغ من العمر تسعين عاماً في أمر عزمه على محاربة البيزنطيين، فعارضه عمه في الرأي، فلم يتحمل عثمان معارضة عمه فقام بإعدامه بيده برميه بسهم انتقاماً منه بسبب هذه المعارضة.

ولئن كانت هذه الرواية بنصها هذا من الضعف بحيث خلت منها معظم المراجع التي تؤرخ لعثمان بن أرطغرل، ولئن كان من أجلة ضعفها أن إسماعيل حامي دنشمند لم يؤثق روايته لهذه الحادثة بإيراد اسم المرجع، أو اسم المؤرخ الذي نقل عنه الرواية، فإن الحاقدين على العثمانيين المسلمين، بل على الإسلام الذي يمثله العثمانيون، تلقفوا هذه الحادثة، ونسجوا من حولها من سواد حقدهم ما لا تحتمل، فزعموا، وبئس ما زعموا، أن عثمان قتل عمه دوندار بناءً على فتوى شرعية تبيح له قتله خشية أن يزاحمه على السلطنة، مما قد يؤدي إلى وقوع الفتنة بين المسلمين.

ولئن كان من الإنصاف أن نشير إلى أن ما نقلته معظم المراجع الموثوقة التي أرّخت لعثمان بن أرطغرل، عن شدة تعلّق عثمان بأحكام الشريعة الإسلامية، وعن التزامه الصادق بالإسلام، عبادةً، وخلقاً، وتواضعاً، وما نقلته عن توقيره الشديد لعمه الشيخ الكبير دوندار، يجلعنا نستبعد تصديق مقولة أن عثمان قتل عمه لمجرد معارضته له في الرأي، ويجعلنا نستبعد تصديق مقولة أن عثمان قتل عمه لمجرد معارضته له في الرأي، ويجعلنا على يقين أنه ما فعل ذلك إلا لسبب جلل، أكبر من مجرد الاختلاف في الرأي.

ويرسخ قناعتنا ما أورده المؤرخ التركي المعاصر قادر مصر أوغلو في كتابه «مأساة بني عثمان» المطبوع في إستانبول عام 1979م، في وقت كانت المشاعر الإسلامية في تركيا تشهد فيه شيئاً من أشكال الحرية التي تستطيع معها أن تعبر عن حقيقة رفضها لمشاعر العداء التي حاولت الردة الأتاتوركية ترسيخها ضد العثمانيين المسلمين في نفوس الأتراك.

ففي كتابه ذلك ينقل قادر مصر أوغلو، عن المؤرخ التركي خير الله الهندي الذي عاصر عثمان بن أرطغرل، أن دوندار كان طرفاً في مؤامرة اتفق على تدبيرها بالتعاون مع حاكم مدينة «بيله جك» البيزنطي، تستهدف اغتيال عثمان، تمهيداً لوثوب دوندار إلى الزعامةخلفاً لعثمان، فلما انفضح أمر المؤامرة أصرّ عثمان، وهو الحريص علىتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، على تنفيذ حكم الله في عمه جزاء افترافه لجريمةموالاة أعداء الإسلام، والتآمر معهم ضد جماعة المسلمين.

وتلك لعمري نقطة بيضاء ووقفة شماء شامخة تسجَّل في حسنات عثمان بن أرطغرل، إذ أكّد من خلال حرصه على تطبيق شرع الله في عمه على صدق التزامه بالإسلام، وصدق خضوعه لحكمه، وصدق تفضيله لوشيجة العقيدة وارتباطه بها فوق وشيجة الدم والقرابة.

تلك هي حقيقة السلطان عثمان بن أرطغرل مع عمه دوندار تتهاوى أمامها أباطيل الحاقدين وأراجيف المرجفين.

أما قصة السطان مراد بن أورخان مع ولده الأمير «ساجي» فهي أيضاً علامة بارزة تؤكد صدق التزام مراد بالإسلام، وصدق خضوعه لأحكام شريعته.

ففي الوقت الذي كان السلطان مراد يواجه أشرس الحملات المتلاحقة التي تمثلت في العديد من الأحلاف الصليبية التي تجمع تحت ألويتها ملوك وأمراء المجر والصرب والبلغار والأرناؤوط (ألبانيا)، بمباركة من بابا روما أوربيان الخامس، وبتحريض سافر منه [766هـ/1365م].

وفي الوقت الذي كان فيه السلطان مراد يواجه فيه خطراً تمثل في قيام الأمير الإيطالي آميديو بتجميع جيش من الإيطاليين تحت شعار الانتقام للصليب من العثمانيين المسلمين [770هـ/1368م].

وفي الوقت الذي ازداد فيه الخطر ضد الدولة العثمانية المسلمة، بقيام إمبراطور بيزنطة يوانيس الخامس بزيارة روما عام [771هـ/1369م] مستنجداً بالبابا ضد العثمانيين المسلمين، ومعلناً تحوله عن مذهبه الأرثوذكسي إلى المذهب الكاثوليكي في محاولة لاسترضاء بابا روما لإقناعه بعده بالنجدة التي يطلبها ضد العثمانيين المسلمين.

وفي الوقت الذي كان السلطان مراد يواجه خطراً داهماً جديداً تمثّل في نجاح البابا بتجنيد أكثر من ستين ألف مقاتل صليبي بقيادة ملك بلاد الصرب الجديد ووقاشتين [773هـ/1370م].

وفي الوقت الذي كان السلطان مراد لا يكاد ينجح في التغلب على إحدى مكائد الأعداء، حتى يواجه مكيدة أخرى، كان ولده الأمير ساوجي يتآمر سراً مع الأمير البيزنطي أندرونيقوس، الابن الثاني للإمبراطور يوانيس، لتدبير مؤامرة للإطاحة بالسلطان مراد، وتسليم السلطة للأمير ساوجي، وسرعان ما انتقلت المؤامرة من مرحلة التدبير إلى مرحلة التنفيذ، فسار الأميران ساوجي وأندرونيقوس على رأس جيش كانت غالبية جنوده من البيزنطيين، وتمركزا بجيشهما في منطقة لا تبعد كثيراً عن القسطنطينية، فسارع السلطان مراد لملاقاتهما، فما كاد يقترب منهما حتى خارت معنويات المتآمرين ففر الجنود البيزنطيون من أنصار أندرونيقوس، ولجأ الجنود العثمانيون من أنصار الأمير ساوجي إلى جيش أبيه السلطان مراد، فأصبح ساوجي وأندرونيقوس من غير جيش، فلم يجدا أمامهما مفراً من الهرب، ففرا إلى مدينة »ديمومة«، فلحق بهما السلطان مراد واضطرهما إلى الاستسلام.

وجمع السلطان نخبة من القادة والعلماء والقضاة لمحاكمة ولده ساوجي، فحكوا عليه بالموت جزاء خروجه على طاعة ولي الأمر وجزاء موالاته للكفار أعداء الإسلام والتحالف معهم قولاً وفعلاً في محاربة المسلمين.

وأمر السلطان مراد بتنفيذ حكم الشرع في ولده مسجلاً في ذلك صدق ولائه لحكم الشريعة، وصدق التزامه بالإسلام، ولكأني به وهو يفعل ذلك، كان يستشعر قوله تعالى عز وجل: (لا تجدُ قوماً يؤمنونَ باللهِ واليومِ الآخر يوادّون من حادّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئكَ كتب الله في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي اللهُ عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألاَ إنّ حزبَ الله هم الغالبون) [المجادلة: 22].

ولقد كان من الطبيعي أن يستغل الحاقدون حادثة مقتل ساوجي، فتلقفوها وطفقوا ينسجون من حولها الأقاويل والافتراءات ليرفدوا من خلالها فريتهم عن الفتوى الشرعية المزعومة التي تبيح للسطان العثماني المسلم قتل من يشاء من بني رحمه.

وكان من الطبيعي أن يشتط الحقد بأعداء الإسلام، فينفثوا حقدهم ضد السلطان مراد ويتهمونه بالوحشية، وتحجُّر عاطفة الأبوة في قلبه، وما دروا أن صدق الالتزام بالإسلام يجعل وشيجة العقيدة فوق كل وشيجة. وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد الذي علّم المسلمين هذه الحقيقة الإيمانية حين قال: »واللهِ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها.«

وأنتقلُ إلى حادثة قتل السلطان بايزيد بن مراد (الصاعقة) لأخيه الصغير يعقوب، فلا أجد غضاضة في تأكيد وقوعها، ولا أجد حاجة إلى محاولة تبريرها. فقد استهل يايزيد عهده فعلاً بارتكاب جريمة بشعة حيث أقدم على قتل أخيه الصغير يعقوب بتحريض من بعض أنصاره الذين طفقوا يوغرون صدره ضد أخيه، الذي كان شجاعاً، قوي الشخصية، ووجدتْ وشايةُ المغرضين هوى في نفس بايزيد الذي خشي أن يزاحمه يعقوب على السلطنة، واشتطت به وساوسه حين أخذ الوشاةُ يذكرونه بأن جده أورخان بن عثمان ولي السلطنة رغم كونه الأصغر سناً من أخيه الأمير علاء الدين.

ولئن كنت أنكر أن بايزيد قد ارتكب جريمته البشعة فعلاً، بعد أن غلبه هواه، وزينت له وساوسه أن يقترف تلك الجريمة، وطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. فالجريمة يتحمل وزرها بايزيد وحده، وليس من العدل ولا من المنطق أن يزجّ بالإسلام في عملية تبريرها.

وينبغي أن أشير هنا إلى أن الجفاء كان مستحكماً بين العلماء والسلطان بايزيد، لدرجة أستبعد معها أن يجد بايزيد عالماً واحداً يستجيب له فيصدر تلك الفتوى التي ينسب استصدارها في بعض المراجع إلى بايزيد.

ولقد بلغ من حدة ذلك الجفاء أن العالم المؤمن القاضي شمس الدين محمد حمزة الفناري ردّ شهادة السلطان بايزيد في إحدى القضايا، فلما راجعه بايزيد في ذلك، أجابه القاضي المؤمن بأنه ردّ شهادته لأنه تارك لصلاة الجماعة.

بل لقد بلغ الجفاء بين العلماء والسلطان بايزيد إلى حد أقرب ما يكون إلى القطيعة بسبب استنكارهم لوقوعه تحت سيطرة وتأثير زوجته النصرانية الأميرة أوليفيرا شقيقة ملك الصرب لازار، ونماديه بتحريض منه على إدمان شرب الخمر، وإقامة حفلات اللهو، ويذكر المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه »موسوعة التاريخ العثماني« أن بايزيد ذهب ليتفقد العمل في بناء مسجد »أولو جامع« في بورصة، وكان قد أوشك بناؤه على الانتهاء، فالتقى خلال تجواله في المسجد بالعالم المؤمن محمد شمس الدين البخاري، فسأله على مسمع من الناس عن رأيه في نابء المسجد، وهل يرى في البناء أي نقص..؟ فأجابه العالم المؤمن بجواب ساخر يحمل بين طياته مشاعر عدم الرضى عن سيرة بايزيد المنافية للإسلام، فقال له: بالنسبة لنا نحن المسلمين، فإننا لا نجد أي نقص في بناء المسجد، أما بالنسبة إليك يا بايزيد، فإني أخشى أن تكون قد نسيت أن تضع خزانة تحفظ بها خمورك بجانب المحراب.

أفيعقل بعد هذا أن يجد بايزيد عالماً واحداً يفتي بقتل أخيه من غير مسوّغ شرعي؟

ولقد وجد الحاقدون رافداً جديداً يدعمون به فريتهم فيما وقع من صراع دموي بين أبناء بايزيد الصاعقة، حين قتل محمد بن بايزيد إخوته عيسى ثم سليمان ثم موسى ليتفرد بحكم السلطنة.

ولئن اشتط المغرضون في حقدهم فزعموا أن محمد بن بايزيد قد قتل إخوته بموجب تلك الفتوى الشرعية المزعومة، فإن الحقائق التاريخية تؤكد أن ما جرى بين أبناء بايزيد من اقتتال دموي كان اقتتالاً مصلحياً من أجل الطموحات الشخصية بكل واحد منهم للجلوس على عرش السلطنة، وليس من العدل والإنصاف إن يزج بالإسلام في هذا المقام.

وينبغي أن أشير إلى أن شهوة الجلوس على عرش السلطنة قد اشتطت بأبناء بايزيد لدرجة لم يجدوا معها غضاضة في الاستعانة بأعداء الإسلام من البيزنطيين ضد بعضهم بعضاً، كما فعل سليمان بن بايزيد حين تنازل لملك الروم »إيمانويل الثاني« عن مدينة سلانيك وسواحل البحر الأسود مقابل الوقوف إلى جانبه ضد أخويه الآخرين عيسى ومحمد.

هذا، وينبغي أن أشير إلى أن بعض المؤرخين المغرضي زعموا أن الفتوى الشرعية المزعومة التي تبيح للسلطان قتل بني رحمه من غير مسوغ شرعي هي تلك الفتوى التي أصدرها الشيخ سعيد أحد تلاميذ الشيخ التفتازاني، والتي ورد نصّها على النحو التالي: »من أتاكم وأمركم جميعاً على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جمعكم، فاقتلوه.«

والحقيقة أن هذه الفتوى قد صدرت عام [823هـ/1420م] كما يورد المؤرخ التركي عبد القادر داده أوغلو في كتابه »التاريخ العثماني المصوّر« ضد أحد قضاة العسكر وهو الشيخ بدر الدين الذي ثار على السلطان وتزعم حركة تنادي بإلغاء التفرقة بين الأديان، وبتوزيع الأموال سواسية بين الناس، وقد اندس في حركة الشيخ بدر الين، كما يروي الأستاذ محمد فريد في كتابه «تاريخ الدولة العلية العثمانية»عدد من اليهود والنصارى، وعندما وقع بدر الدين في الأسر بعد معركة حامية الوطيس، حوكم أمام هيئة من كبار العلماء والقضاة، فصدرت بحقه الفتوى بنصها الذي أوردته آنفاً، وبتوقيع الشيخ شعيد، ويروي المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني» أن الشيخ بدر الدين قد وقع بنفسه أيضاً على الفتوى اعترافاً بذنبه، وتم إعدامه شنقاً على ملأ من الناس في السوق الرئيسي في مدينة سراز.

ولقد وجد المغرضون مبرراً آخر لرفد بهتانهم بخصوص الفتوى المزعومة في حادثة إعدام السلطان مراد الثاني لعمه مصطفى بن بايزيد.

وحقيقة الأمر أن مصطفى بن بايزيد كان قد اختفى وانقطعت أخباره بعد هزيمة بايزيد (الصاعقة) في معركة أنقرة أمام تيمورلنك، ثم ظهر فجأة في زمن أخيه السلطان محمد جلبي بن بايزيد مطالباً بالسلطنة لنفسه، واستنجد بأعداء الإسلام من البيزنطيين فأمدوه المساعدات، وأوعزوا لأمير بلاد الفلاخ بإمداده بجيش كبير، ولكن مصطفى فشل في تحقيق أي نجاح، واضطر إلى اللجوء إلى سلانيك التي كان الأمير سليمان بن بايزيد قد أعادها إلى السيطرة البيزنطية مقابل وعدهم له بمساعدته ضد إخوته، كما أسلفت قبل قليل، واتفق السلطان محمد جلبي مع إمبراطور بيزنطة على إبقاء أخيه مصطفى في سلانيك تحت مراقبة الإمبراطور، مقابل مبلغ من المالن استمر الأمر على هذا النحو إلى أن ولي السلطنةمراد الثاني بن جلبي فتحرش به الإمبراطور «إيمانويل الثاني» في محاولة منه لإعادة هيبة الإمبراطورية، وطلب منه عقد معاهدة يتعهد مراد بموجبها بعدم القيام بأية محاولة لغزو القسطنطينية، فلما وقف السلطان مراد موقفاً حازماً في وجه إيمانويل ورفض مطالبه عمد عمانويل إلى استدعاء الأمير مصطفى وأمده بعشر سفن حربية مدججة بالجنود والسلاح، فتمكن مصطفى من الإستيلاء على مدينة وميناء غاليبولي، ثم تمكن من التغلب على الجيش العثماني الذي أرسله السلطان مراد لمحاربته بقيادة وزيره بايزيد باشا، فسار السلطان مراد الثاني بنفسه لملاقاة عمه مصطفى الذي لم يلبث أن وقع في أسر مراد، ليواجه عقوبة الإعدام شنقاً، جزاء خيانته لله ولرسوله وللمؤمنين، وهل من خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين أعظم من موالاة في جماعة المسلمين، ينبري هؤلاء ليزعموا أن الإسلام يبيح للسلطان قتل بني رحمه كيفما يشاء..؟

فرية باطلة ... وبهتان عظيم..

وأجدني هنا مضطراً للتوقف وقفة أردّ بها فرية خبيثة ألصقت بالسلطان محمد الفاتح، فقد درج بعض المؤرخين، وهم يؤرخون لحياته، على الزعم بأنه قام بقتل أخيه الرضيع أحمد جلبي بعد أيام قليلة من تسلمه مسؤولية السلطنة بعد وفاة أبيه السلطان مراد، خشية أن يزاحمه على السلطنة، ومن المؤسف أن هذا الزعم لم يقتصر على المؤرخين غير المسلمين، وإنما وقع في أحبولته عدد من المؤرخين المسلمين.

ولئن كانت هذه الفرية التي ألصقت بالسلطان محمد الفاتح تكون أوهمن من بيت العنكبوت، إلا أنني أجد من الواجب التوقف عندما وتفنيدها، لكي لا يبقى بعد ذلك عذر لأي مؤرخ يحترم نفسه، ويحترم شرف الكلمة التي يؤرخ بها، أن يستمر في ترديد هذا البهتان العظيم ضد السلطان محمد الفاتح.

هل يعقل أن سلطاناً ولي السلطنة في عهد أبيه، وتحت كنفه، ثم وليها من بعد وفاة أبيه، وقد اشتدّ ساعده، ونضجت خبرته، والتفت الأمة من حوله تحوطه بالحب والطاعة، هل يعقل أن هذا السلطان يغار من أخ له رضيع، فيخشى أن ينازعه على السلطة..؟ وكيف يتسنّى لطفل رضيع، وأنى له، أن ينازع على السلطنة، وهو الرضيع الذي إن تأخرت أمه عليه بالحليب يوماً مات جوعاً.

ثم هل يصدق إنسان عاقل، أن محمداً الفاتح، الذي تربى على مائدة القرآن، على يد خيرة علماء عصره، أمثال الشيخ أحمد بن إسماعيل الكوراني الذي كان الفاتح يسميه «أبا حنيفة زمانه»، والشيخ تمجيد أوغلو، والشيخ محمد جلبي زاده، والشيخ مولا إياش، والشيخ الغوراني، والشيخ سراج الدين الحلبي، والشيخ آق شمس الدين، ويمكن أن يفكر بمثل هذا الأمر الفظيع..؟

بل، لنفرض جدلاً أن محمداً الفاتح كان يوجس خيفة أن ينازعه أخوه الرضيع على السلطنة، أفما كان يستطيع أن يحتويه تحت كنفه، ويربيه على الإخلاص له، بدل أن يقتله؟

ولماذ يستبق محمد الفاتح الأمور فيقتل أخاه الرضيع، وقد كان بإمكانه أن ينتظر وهو مطمئن البال بضعة عشر عاماً حتى يكبر أخوه، فيتحقق من نوازعه ونواياه؟

من هنا نستطيع أن نتبين انتفاء المصلحة الشخصية للسلطان محمد الفاتح من قتل أخيه الرضيع.

ولننتقل الآن إلى مناقشة الطريقة التي تمت بها عملية القتل المزعومة، فقد زعم مروّجو هذه الفرية أن السلطان محمداً الفاتح أرسل أحد قواده، واسمه علي بك، إلى جناح النساء لقتل أخيه الرضيع، فلما علم علي بك أن الطفل موجود في حمام النساء حيث تقوم مربيته بغسله، اقتحم الحمام وأمسك بالطفل الرضيع وغطسه تحت الماء حتى مات مختنقاً غرقاً..

هل يصدق عاقل أن محمد الفاتح، وهو الذكي المحنك، يقدم على قتل أخيه الرضيع بهذه الصورة المكشوفة الساذجة؟ وهل كان عاجزاً عن تكليف إحدى النساء، كزوجته، أو إحدى خادماتها، بتنفيذ عملية القتل دون إثارة انتباه أحد، بدل من أن يرسل رجلاً إلى جناح النساء، وهو أمر غير مألوف، بله أن يسمح له بأن يقتحم هذا الرجل حمام النساء، حيث يكنّ فيه متحللات من حجابهن، ومتخففات من كثير من ملابسهن، وفي ذلك ما فيه من خروج مستهجن عن المألوف، من شأنه لو تحقق فعلاً أن يثير من هياج النساء، وضجيجهن، وصخبهن، ما يضطر ذلك الرجل إلى الفرار قبل أن ينفذ مأربه، مهما بلغت به الجرأة والنذالة؟

إذن، ما هي حقيقة هذه الفرية؟

الحقيقة أن المربية التي كان موكلاً إليها أمر العناية بالطفل الرضيع أحمد، انشغلت عنه لبعض شأنها بينما كانت تغسله، فوقع في حوض الماء، فمات مختنقاً غرقاً قبل أن تتداركه الأيدي التي امتدت لإنقاذه بعد فوات الأوان.

وتصادف بعد غرق الطفل بأيام قليلة أن أحد ضباط الجيش، واسمه علي بك، ارتكب جريمة عقابها الإعدام، فلما أعدم، وجد الحاقدون مادة جديدة خيّل إليهم أنهاتدعم بهتانهم، فطفقوا يزعمون أن علي بك هو الذي أغرق الطفل الرضيع أحمد، وأن السلطان محمد الفاتح خشي أن يفشي هذا الرجل سره فقتله، ومن هنا جاءت الفرية على النحو الذي أشرت إليه، وينبغي الإشارة إلى أن «إدوارد سي كريسي» يتبنى هذا الزعم في كتابه «تاريخ العثمانيين الأتراك» المطبوع بالإنجليزية في بيروت في عام 1961م، ويدّعي أن السطان الفاتح أقدم على قتل الضابط علي بك متهماً إياه بقتل أخيه الرضيع دون أن يكون للسلطان علم بذلك.

ولو أنهم توقفوا عند هذه الفرية وحدها لهانَ الأمر، ولكنهم ما برحوا أن بدأوا ينسجون من حولها المزيد من الافتراءات، فزعموا أن محمداً الفاتح، لم يكتف بقتل أخيه، بل أصدر قانوناً أعطى للسلطان الحق في قتل من يشاء من إخوته وأبنائه وأبناء عمومته وخؤولته، لقطع الطريق على أي منهم أن ينافسه على السلطة.

ولقد أوضح المؤرخ التركي المعاصر إسماعيل حامي دنشمند في كتابه «موسوعة التاريخ العثماني» الدافع الذي جعل السلطان محمد الفاتح يصدر هذا القانون فقال:

«حين وجد السلطان محمد الفاتح أن أكبر خطر يهدد الدولة العثمانية في الفترة التي سبقت توليه مقاليد السلطنة، نجم عن تكرار حوادث الانشقاق التي كانت تقع بين الأمراء العثمانيين، والتي كانت تصل في أكثر الأحيان إلى درجة الاقتتال، وتؤدي إلى انقسام الدولة إلى فريقين أو أكثر، مما كان يؤثر على وحدة الدولة، ويغري خصوم الإسلام بها، فقد رأى السلطان محمد الفاتح أن يضع قانوناً أسماه «قانون حفظ النظام للرعية» أكد بموجبه أن الموت سيكون مصير كل من يعلن العصيان المسلح ضد السلطان، ويتعاون مع أعداء الإسلام ضد المسلمين.»

ويردف إسماعيل حامي دنشمند أن هذا القانون كان سبباً في انحسار، أو على الأقل، في تقليص حوادث العصيان المسلح، التي كادت أن تصبح أمراً شائعاً في الدولة العثمانية قبل صدور هذا القانون.

وإن المرء لتتملكه الدهشة، حين يرى أن كل دول الدنيا، قديمها وحديثها، لا تخلو قوانينها من مثل هذا القانون، ومع ذلك لا تجد أحداً يعترض عليها أو يشوه مقاصدها، كما كان يفعل المغرضون تجاه الدولة العثمانية!

وبعد:

فإني أحسب أن القارئ الفطن، يدرك من خلال ما أوردتُ من حقائق، أن الحاقدين إنما يهدفون من وراء التركيز على تحريف تاريخ الأتراك العثمانيين المسلمين إلى الإساءة إلى الإسلام ذاته، ومن خلال الإساءة إلى الأتراك العثمانيين المسلمين، حين يظهرونهم بمظهر القوم المتوحشين الذين انعدمت الرحمة من قلوبهم، ومن خلال الإيحاء بأن مسألة قتل السلاطين لإخوانهم كانت أمراً عادياً مألوفاً عندهم.

أقول هذا، ولا أنفي أن يكون في تاريخ بني عثمان، وخاصة في عصورهم المتأخرة، بعض الأمور التي لا تنسجم مع الإسلام، وتتعارض مع أحكامه، وليس الذنب في ذلك ذنب الإسلام، وإنما ذنب المسيء نفسه.


--------------------------------------------------------------------------------

مجلة الأمة، العدد 53، جمادى الأولى، 1405 هـ

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:55 AM
الجدول الزمني للحروب الصليبية في المشرق

الجزء الأول

الحدث السنة

o مدة الدولة العباسية في بغداد 132-656 هـ

مدة دولة الأدراسة في المغرب
172-364 هـ

مدة الدولة الطولونية في مصر
254-293 هـ

توسع الطولونيين في بلاد الشام
264 هـ

قيام الدولة العبيدية في شمال إفريقية[1]
297-358 هـ

الدولة الإخشيدية في مصر
323-358 هـ

سيطرة البويهيين على الدولة العباسية
334-447 هـ

اندفاع السلاجقة من سهول تركستان
345 هـ

الدولة العبيدية في مصر
362-567 هـ

عهد ملوك الطوائف في الأندلس
422-484 هـ

دخول السلاجقة مرو ونيسابور
429 هـ

دخول طغرلبك السلجوقي بغداد ونهاية حكم البويهيين
447 هـ

مدة الدولة السلجوقية
447-656 هـ

احتلال الوزير البساسيري لبغداد بدعم من المستنصر بالله العبيدي أثناء غياب طغرلبك في إحدى حملاته الجهادية
450 هـ

مقتل البساسيري على يد السلاجقة
451 هـ

وفاة طغرلبك وتولية ابنه ألب أرسلان
455 هـ

دخول السلاجقة مدينة حلب
463 هـ

هزيمة الروم أمام السلاجقة قرب مدينة سيواس (في الأناضول) وأسر قائدهم مانويل كومنين
463 هـ

قتل رومانوس بعد إطلاق سراحه على يد ميخائيل السابع (463-471 هـ) الذي وثب على العرش عندما أسر رومانوس
463 هـ

بداية النزاع بين السلاجقة والعبيديين على بلاد الشام
463 هـ

تأسيس جماعة الاسبتارية Hospitallers في أوروبا للإشراف على المرضى، ثم تحولت إلى منظمة عسكرية حربية
463 هـ

معركة »ملاذكرت« بين السلاجقة والروم البيزنطيين، حيث أسِر رومانوس إمبراطور بيزنطة، ثم أطلق سراحه. كان عدد المسلمين لا يتجاوز 20 ألف جندي، بينما كان الروم زهاء 200 ألف.
464 هـ

فلسطين تدخل تحت حكم السلاجقة بما في ذلك بيت المقدس
464-472 هـ

وفاة ألب أرسلان وتولية ابنه ملكشاه. خلال فترة حكمه ضم الأراضي العربية الواقعة تحت العبيديين في المشرق (الشام والحجاز)، وبلغت دولة السلاجقة أوجها حيث امتدت من حدود الصين شرقاً إلى جورجيا والأراضي المجاورة للقسطنطينية غرباً.
465 هـ

انقطاع الخطبة للعباسيين في مكة
467 هـ

استرداد المسلمين لـ »منبج«
468 هـ

دخول السلاجقة دمشق وعودة الخطبة للعباسيين فيها بعد أن كانت للعبيديين
468 هـ

أرتق بن أكسب (مؤسس بيت الأراتقة) يصبح حاكماً على بيت المقدس

دخول تتش بن ملكشاه دمشق، ومقتل حاكمها أقسيس
472

ألكسيوس كومنين يصبح إمبراطوراً للدولة البيزنطية

عودة الخطبة للعباسيين في مكة
474 هـ

استراجاع السلاجقة لأنطاكية من الروم، وللقدس من العبيديين
477 هـ

سقوط مدينة طليلطة في الأندلس بيد النصارى الصليبيين
478 هـ

معركة الزلاقة في الأندلس بين المرابطين والصليبيين الإسبان وغلبة المسلمين فيها[2]
479 هـ

ضعف الدولة السلجوقية في بلاد الأناضول وتفرق أمرائها
479-485 هـ

مقتل نظام الملك أبي علي الحسن بن إسحاق الطوسي وزير ملكشاه على يد أحد الباطنيين الحشاشين

وفاة ملكشاه
485 هـ

وفاة الخليفة المقتدي
487 هـ

بابا روما أوربان الثاني يبدأ رحلته في فرنسا داعياً إلى الحروب الصليبية

إعلان الحرب على المشرق الإسلامي في كليرمونت

بداية قتل اليهود في أوروبا
488-489 هـ

دولة السلاجقة تنقسم إلى خمس ممالك متنافسة.

تعبئة الغرب لشن الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي

بداية الحروب الصليبية وانهزام الموجات الثلاثة الأولى منها في هنغاريا

وصول الصليبيين إلى الشرق واستيلاؤهم على مدينة نيقية عاصمة سلاجقة الروم، وسقوط ضورليوم، وقونية وقيصرية ومرعش وغيرها من مدن الأناضول، مع ترحيب من الأقليات النصرانية (الأرمن وغيرهم) لهم وتقديم المعونات والدلاّل. ودخل الصليبيون مدينة أنطاكية في نفس السنة وقتلوا وسبوا ما لا يحصى عدده، وتسلم الأرمن أمورها. (اضغط هنا لتقرأ عن الحملة الصليبية الأولى.)

مهادنة حكام بعض المدن للصليبيين ودفعهم الجزية وتقديم العون لهم شريطة ألا يغيروا عليهم، مثل: حاكم شيزر سلطان بن منقذ؛ وكذلك مصياف
490 هـ

البندقية تعدّ 300 سفينة لمساندة الصليبين في حربهم ضد المسلمين
490-499 هـ

زحف العبيديين على مدينة صور
491 هـ

استيلاء الصليبيين على المعرة والبارة بمشاركة النصارى من الأرمن والسريان وقتلوا من أهلها أكثر من مائة ألف وسبوا وجعلوا جامع البارة كنيسة لهم. وقد استنجد أهلها برضوان أمير حلب وجناح الدولة أمير حمص ولكن لم يفعلا شيئاً
491-492 هـ

سقوط حصن الأكراد وطرطوس بيد الصليبيين؛ رفعهم الحصار عن عرقة؛ استسلام جبلة وطرابلس وإعطاء الجزية للصليبيين

أخذ العبيديين بيت المقدس من السلاجقة
492 هـ

احتلال الصليبيين لبيت المقدس وقتلهم مائة ألف من سكانها، وسبي مثلهم؛ ووقوف النصارى العرب إلى جانب الصليبيين. اختيار »جودفري دي بوايون« حاكماً للمدينة المنكوبة و»أرنولف مالكورن« بطريقاً عليها
492 هـ/

1099 م

دخول أهل أرسوف تحت حكم الصليبيين بعد عجز العبيديين عن الدفاع عنها ودفعهم الجزية لهم.

تحصين الصليبيين ليافا

وفاة جودفري ورفع الحصار عن عكا

سقوط حيفا بيد الصليبيين

بلدوين الأول يصبح ملكاً على مملكة القدس
493 هـ

هجوم الصليبيين على أرسوف براً وبحراً بمساعدة الأسطول البندقي وأخذها بالقوة.

احتلال الصليبيين لقيسارية وذبح أهلها من المسلمين
494 هـ

هزيمة العبيديين أمام الصليبيين في الرملة

هزيمة الصليبيين أمام العبيديين قرب الرملة واسترجاع المدينة من الصليبيين

حصار العبيديين للصليبيين في يافا، ومجيء المدد للصلبيبيين من البحر وانهزام العبيديين عن المدينة

سقوط أنطرطوس (طرطوس) بيد الصليبيين بعد أن استردها بنو عمار منهم

مقتل صاحب حمص جناح الدولة على يد الباطنيين وحصار ريموند لحمص ثم ارتداده عنها بعد أخذ الجزية من أهلها
495 هـ

حصار الصليبيين لمدينة عكا وصمودها ثم انهزامهم عنها
496 هـ

أتابك الموصل »جكرمش« والأمير »سقمان بن أرتق« صاحب ماردين، يسيران لقتال الصليبيين في الرها ويتمكنا في إبادة الجيش الصليبي ويأسران »بلدوين« و»جوسلين«

مهاجمة الصليبيين عكا وأخْذ أهلها بالسيف بعد علمهم أن العبيديين لن يأتوا لنجدة أهلها
497 هـ

مهاجمة الصليبيين لطرابلس دون أخذها، واعتداؤهم على أهل جبيل

الصليبيون يهاجمون جبيل بمعاونة الجنوية مستخدمين أبشع الأساليب في قتل المسلمين وإهانتهم وأخذ أموالهم

هلاك ريموند الصنجيلي
498 هـ

القتال بين الصليبيين وجيش العبيديين بين عسقلان ويافا دون انتصار طرف على طرف، ولم يكن للأسطول العبيدي أي دور في المعركة، ثم أنه تعرض لعاصفة قذفت بنحو عشرين سفينة إلى الصليبيين فأخذوها غنيمة باردة
499 هـ

مهاجمة العبيديين لقافلة حجاج صليبيين بين يافا وأرسوف
500 هـ

مهاجمة العبيديين لمدينة الخليل
501 هـ

مهاجمة الصليبيين لمدينة صيدا بمعونة الأساطيل الإيطالية، ولكن وصول الأسطول العبيدي من مصر غير الموقف وكذلك نجدة طغتكين صاحب دمشق
502 هـ

انسحاب الصليبيين من صيدا وأخذهم لطرابلس بمساعدة الأساطيل الإيطالية وتكوين إمارة طرابلس الصليبية وحكمها »برترام بن ريموند الصنجيلي«

حصار بلدوين لبيروت براً وبحراً، وهروب حاكمها ليلاً إلى قبرص فسلم أهلها المدينة بالأمان، ولكن الصيليبيون خانوا العهد كعادتهم وذبحوا أهلها ببشاعة

مساعدة أسطول الجنويين والبيازنة للصليبيين في احتلال طرابلس ومدن أخرى
503 هـ

وصول العبيديين إلى أسوار القدس في إحدى غاراتهم

عودة الصليبيين لمحاصرة صيدا وتسليم المدينة لهم بالأمان
504 هـ

مقتل والي عسقلان للعبيديين »شمس الخلافة« الذي تقرب من الصليبيين واتهِمه المسلمون بالخيانة

مهاجمة الصليبيين لمدينة صور وارتدادهم عنها بعد قتال ضار ودعم »طغتكين« حاكم دمشق لأهلها بالسلاح والرجال

اجتماع مودود حاكم الموصل مع أتراك وأكراد ووفتحوا حصوناً عدة للفرنجة في سنجار، وحاصروا الرها ثم رحلوا عنها
505 هـ

مودود يعبر الفرات من الموصل إلى الشام بطلب من طغتكين حاكم دمشق لدعمه ضد الصليبيين وقد كثرت غاراتهم على دمشق

اجتماع القوات الإسلامية من الموصل ودمشق وغيرها عند السلمية

التقاء المسلمين مع الصليبيين عند طبرية وانهزام الصليبيين وأسر ملكهم بلدوين

مقتل الأمير مودود على يد أحد الباطنيين في مسجد دمشق بعد صلاة الجمعة وكان صائماً رحمه الله
507 هـ

الممتلكات الصليبية في الرها وأنطاكية إلى المصيصة تتعرض لزلازل مدمّرة

»آقسنقر البرسقي« (أبو عماد الدين زنكي) يصبح والياً على الموصل من قبل السلاجقة بعد مقتل الأمير مودود

أقسنقر ينازل الصليبيين في الرها

وفاة رضوان ملك حلب
508 هـ

»بدر الدين لؤلؤ« يحكم حلب بعد قتله لألب أرسلان بن رضوان
508-511 هـ

هزيمة الصليبيين للمسلمين في دانيث
510 هـ

مقتل بدر الدين لؤلؤ على يد أحد أعوانه

حاكم حلب يستنجد بالصليبيين ضد طغتكين (أمير دمشق) وإيلغازي بن أرتق (أمير ماردين) عندما تقدموا تجاه حلب

إيلغازي بن أرتق يتسلم حلب بدعوة من أهلها
511 هـ

تأسيس جماعة فرسان المعبد (الداوية) في بيت المقدس على يد »هيودي باينز« الفرنسي واتخاذهم جزءاً من الأقصى مقراً لهم

هلاك بلدوين (بغدوين) الأول، واستخلاف بلدوين الثاني بعده

اتحاد طغتكين والعبيديين على محاربة الصليبيين لكن هزموا أمامهم

سقوط »حصن الأتارب« و»زردنا« بأيدي المسلمين بعد أن اتحد طغتكين وإيلغازي لمقاتلة الصليبيين

حصول القتال بين إيلغازي والصليبيين في »ذات البقل« من أعمال حلب، وكان الظفر فيها للمسلمين
512 هـ

معركة »البلاط« بين المسلمين والصليبيين بموضع يدعى »تل عفرين« فحصدهم المسلمون فلم يسلم منهم إلا القليل وقتل أمير أنطاكية »روجر الأنطاكي«، وفتحت حصون
513 هـ

مقتل الأفضل وزير العبيديين

استمرار إيلغازي في جهاد الصليبيين
514 هـ

جوسلين دي كورتناي صاحب الرها يقع أسيراً بيد غازي بن بهرام الأرتقي صاحب »خربوط«، وبلدوين الثاني يصبح وصياً على الرها
515 هـ

وفاة إيلغازي بن أرتق، وامتلاك ابنه حسام الدين تمرتاش قلعة ماردين

بلدوين الثاني يهاجم مناطق شمال الشام ويضيق الحصار على حلب مستفيداً من تفكك دولة الأراتقة بعد وفاة الأمير إيلغازي
516 هـ

بلدوين الثاني حاكم القدس يقع أسيراً في أيدي المسلمين ثم يَسلم

أمير حلب سليمان بن عبد الجبار بن أرتق يهادن بلدوين الثاني مقابل ردّ حصن »الأتارب« إلى الصليبيين

المسلمون يأسرون بلدوين الثاني ملك القدس عندما حاول فك أسر جوسلين وسجن معه

تعاوُن الأرمن والمسحيين في تهريب جوسلين من أسره دون غيره، وبداية انتقام جوسلين من المسلمين
517 هـ

الصليبيون يحاصرون صور ويتسلمون المدينة بعد خروج أهلها منها

تحالف أمير حلب »بلك الأرتقي« مع طغتكين لقتال الصليبيين

مقتل بلك الأرتقي بسهم طائش في حصاره لـ»منبج«، وخلفه على حلب ابن عمه حسام الدين تمرتاش وانتقاله إلى ماردين

إطلاق سراح بلدوين لقاء فدية يدفعها وقلاع يسلمها للمسلمين
518 هـ

البرسقي صاحب الموصل يستلم حلب ويوحد القوى الإسلامية بين المدينتين ويهدد القوى الصليبية في شمال بلاد الشام

الصليبيون يتحالفون مع دبيس بن صدقة (أمير شيعي) وبني مزيد وسلطان شاه بن الملك رضوان السلجوقي، وحصارهم حلب ثم انهزامهم عنها لما علموا بقدوم البرسقي إليها

البرسقي يأخذ »كفر طاب«

وقوع القتال بين البرسقي والصليبيين وانهزام المسلمين، وتسليم رهائن الصليبين إلى ذويهم (كان منهم ولد لبلدوين الثاني وجوسلين الصغير وغيرهما..) وإقرار الهدنة بين الطرفين

المسلمون يستردون حصن »رفينة« من الصليبيين وهو واقع على أطراف العاصي بين حمص وحماة
519 هـ

الصليبيون يملكون مدينة صور
519 هـ

بلدوين الثاني يهاجم إمارة دمشق بجمع من الصليبيين عند مرج الصفّر (شقحب) ولكن ينهزمون أمام المسلمين

حصار الصليبيين لـ»رفينة« واستسلامها قبل مجيء نجدة المسلمين إليها

مهاجمة أسطول العبيديين موانئ الصليبيين في فلسطين وإتمام الصلح بين بلدوين والبرسقي

اغتيال البرسقي على يد الباطنية في الموصل بعد إتمام الهدنة بينه وبين الصليبيين

طمع الصليبيين وبعض أمراء المسلمين في أخذ حلب بعض اغتيال البرسقي
520 هـ

عماد الدين زنكي يصبح حاكماً على الموصل
521 هـ

عماد الدين زنكي يبدأ في توحيد الجبهة الإسلامية تحت راية واحدة

مدينة أربيل تدخل تحت حكم عماد زنكي
522 هـ

قوات عماد الدين تأخذ مدينة الرحبة ونصيبين

حلب تنضم إلى الجبهة الإسلامية ضد الصليبيين تحت راية زنكي

تآمر الباطنية [إسماعيلية، ودرزية، ونصيرية] على المسلمين في دمشق، وقتل رئيسهم »المزدقاني«

المسلمون في دمشق يقتلون 6 آلاف باطني متآمر

تأسّف الصليبيين على قتل الباطنية في دمشق

والي قلعة بانياس (في الجولان) يسلم البلد للصليبيين وينتقل هو وأصحابه إلى بلادهم

الصليبيون يسيرون نحو دمشق ويحاصرونها

المسلمون يهزمون الصليبيين حول دمشق ويظفرون بهم ويقلتون منهم مقتلة عظيمة ويغنمون، ولم يفلت من الصليبيين غير مقدم الجيش وأربعون نفر

استيلاء جيش زنكي على مدينة حماة

عماد الدين يحصل على »التواقيع السلطانية« من محمود سلطان السلاجقة في بغداد بامتلاك الجزيرة والشام وما اتصل بهما

عماد الدين يقتل الصليبيين مقتلة عظيمة عند حصن »الأتارب«، ثم يمتلك الحصن ويدكه بالأرض، ويهادن من بقي من الصليبيين بعد أن سألوه الصلح

محاربة بعض أمراء المسلمين لزنكي خوفاً على ممتلكاتهم من أن تدخل تحت حكم زنكي، وانتصار زنكي عليهم
523 هـ

إيلغازي بن الدانشمند (التركماني) صاحب ملطية يواجه بوهيمند الثاني صاحب أنطاكية ويهزمه في سهل »عين زربه« ويقتل بوهيمند ويرسل رأسه إلى الخليفة في بغداد

أنطاكية تدخل تحت وصاية بلدوين الثاني ملك القدس بعد قتل بوهيمند
524 هـ

وفاة السلطان محمود السلجوقي وصراع البيت السلجوقي على السلطنة وانشغال عماد الدين زنكي به عن الصليبيين لفترة من الزمن
525 هـ

استياء الأحوال على عماد الدين في العراق والشام من قبل أمراء المسلمين
526-527 هـ

مسير عماد الدين إلى دمشق ومحاصرتها لأخْذها، ثم رجوعها عنها بعد مصالحة ملكها
529 هـ

مهاجمة جيش عماد الدين زنكي لمدينة اللاذقية بقيادة »أسوار« أمير حلب، وأسرهم سبعة آلاف من الصليبيين وقتل كثير منهم واستيلاؤه على كثير من الغنائم، وعجز الصليبيين عن الرد
530 هـ

قتل الخليفة الراشد على يد الباطنية ومبايعة المقتفي من بعده

تحسين العلاقات بين الخلافة العباسية وعماد الدين

حصار جيش زنكي لمدينة حمص ثم انصرافه عنها

مسير زنكي إلى حصن »بعرين« (بارين) وقتاله للصليبيين وانهزامهم هزيمة منكرة

تسليم الصليبيين حصن »بعرين« لزنكي بعد حصارهم فيه حصاراً شديداً منع عنهم كل شيء حتى الأخبار أن تصلهم

ولادة صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي بقلعة تكريت
531 هـ

اغتيال الخليفة المقتفي على يد الباطنية وهو متوجه إلى همذان

الإمبراطور البيزنطي حنا كومين يهاجم بلاد المسلمين ويتحالف مع الصليبيين ضدهم

تسلّم حنا كومنين مدينة »بزاعة« بالأمان وغدره بأهلها، وقتله لأهلها وتعذيبهم حتى الشيوخ والأطفال والنساء

توجه حنا كومنين إلى حلب وحصارها وتركهم المدينة بعد أن قاتلهم المسلمون قتالاً شديداً وقتلوا منهم خلقاً كثيراً

انصراف الصليبيين عن حلب وحصارهم لحصن »الأتارب« في حين أخلاه المسلمون وأخذه الصليبيون حيث جعلوا فيه سبي »بزاعة« والأسرى المسلمين ثم رحلوا عنه

ابن سوار، نائب حلب، يتوجه إلى الأتارب ويوقع بالروم ويخلص الأسرى والسبي ويعود إلى حلب منتصراً

توجه التحالف البيزنطي-الصليبي إلى »شيزر« ومحاصرتها بالمنجنيقات واستنجاد صاحبها بعماد الدين زنكي

مسير عماد الدين إلى شيزر وتوقيعه بين حنا كومنين والصليبيين بالخديعة حتى رحل عنها كومنين وترك المناجيق وآلات الحصار على حالها، ومهاجمة عساكر زنكي لمؤخرة الجيش البيزنطي وأخذه ما تركه البيزنطيون خلفهم
532 هـ

وصول عماد الدين زنكي إلى حلب راجعاً من شيزر، ثم فتحه لحصن »بزاعة« بالسيف وقتل كل من فيه من الروم
533 هـ

استيلاء عماد الدين على بعلبك وشهرزور ومحاولته دخول دمشق

استمرار القتال بين زنكي والدمشقيين على دمشق وطلب حاكم دمشق العون من الصليبيين ضد عماد الدين

توجه عماد الدين لملاقاة الصليبيين في حوران قبل وصولهم إلى دمشق، وتخلف الصليبيين عن الخروج إليه لما سمعوا بمسيره خوفاً منه

اتفاق معين الدين أنر (مدبر أمور مجير الدين ملك دمشق) مع الصليبيين بتسليمهم قلعة بانياس (وكانت من أملاك زنكي) ويتفق معهم على حرب زنكي

حصار عماد الدين لدمشق مرة أخرى ثم رجوعه عنها دون قتال
534 هـ

عماد الدين زنكي يملك »الحديثة« ويخطب له في آمد

قوات زنكي تهاجم الصليبيين وتقتل منهم
536 هـ

عماد الدين يفتح مدينة »الرها« وانهيار أول إمارة صليبية في الشرق وهي إمارة الرها، وارتفاع معنويات المسلمين

عفو عماد الدين عن أهل الرها من النصارى السريان والأرمن لمواقفهم المخزية ضد المسلمين

حصار زنكي لمدينة »البيرة« ورجوعه عنها

تسليم الصليبيين قلعة »البيرة« لأمير ماردين خوفاً من استيلاء زنكي عليها ليتقوى بها عليهم

عماد الدين يعدم المتآمرين عليه من الأرمن ويطرد جزءاً منهم من الرها بعد مراسلتهم لجوسلين الثاني ليأتي ويوقع بالحامية المسلمة التي تركها زنكي في المدينة بعد فتحها
540 هـ

مقتل عماد الدين زنكي، رحمه الله، وهو محاصر لقلعة جعبر على الفرات. دخل عليه صبي إفرنجي من غلمانه مع جماعة وهو نائم فقتلوه وهربوا إلى القلعة وأخبروا أهلها ففرحوا بقتله

نور الدين محمود يخلف أباه عماد الدين

استغلال الصليبيين وبعض أمراء المسلمين موت عماد الدين ومهاجمتهم لبعض المدن

خروج أسد الدين شيركوه (عم صلاح الدين الأيوبي) لتأديب الصليبيين واستنقاذه لأسرى المسلمين

عصيان أهل الرها على المسلمين ودعوتهم للصليبيين لأخذ البلد

جوسلين الثاني وبلدوين (حاكم مرعش) يهاجمون الرها على غفلة من أهلها ويقتلون من فيها من المسلمين عدا من كان في قلعتها

محاصرة نور الدين للرها وهرب جوسلين بمن معه، لكن يلحقه المسلمون ويقتلون ثلاثة أرباعهم بما فيهم بلدوين، ومعاقبة المتآمرين وأخذ أسرى من أهلها

نور الدين يصالح حاكم دمشق الفعلي »معين الدين أنر« ويتزوج بابنته

نقض الصليبيين الصلح مع »معين الدين أنر« بعد أن وعدوا »التونتاش« حاكم بصرى وصرخد بمساعدته للاستقلال عن دمشق

توجه معين الدين ونور الدين إلى بصرى وصرخد واستيلاؤهم على المنطقة قبل وصول الصليبيين إليها

رجوع معين الدين ونور الدين إلى دمشق ومحاكمة الخائن »التونتاش« وعقابه
541 هـ

وصول الحملة الصليبية الثانية أراضي السلاجقة في آسيا الصغرى واصطدامهم بهم، وكانت مؤلفة من جيش الإمبراطور الألماني كونراد وجيش الملك الفرنسي لويس السابع (كل جيش مؤلف من سبعين ألف)

مسير الجيش الألماني من جهة البر ومهاجمة السلاجقة له وقتلهم كثيراً من رجاله

مسير الجيش الفرنسي جانب البحر لتجنّب غارات السلاجقة في الداخل
542 هـ

استيلاء نور الدين محمود على كثير من قلاع الصليبيين، وخيبة أمل الصليبيين وتجهيز الغرب للحملة الصليبية الثانية
542-543 هـ

مؤتمر كبير للصليبيين في القدس يقرر الهجوم على دمشق

محاصرة الصليبيين لدمشق وفشلهم في أخذها وانهزامهم عنها
543 هـ

نور الدين يتسلم حمص ويزداد نفوذه في الشام

نور الدين يهاجم إمارة أنطاكية ويصطدم مع الصليبيين، ويقتل صاحب أنطاكية ريموند دي بواتيه، و»رينو« صاحب مرعش وكيسوم و »علي بن وفا« زعيم الباطنية الذي كان مرافقاً للصليبيين

نور الدين يتجه بجيشه إلى أنطاكية ويهادن أهلها ويملك كل ما حولها من القلاع والحصون وغيرها من الأماكن المهمة

حضور بلدوين الثالث ملك بيت المقدس إلى أنطاكية وتهدئته لروع أهلها مما أصابهم من الفزع بسبب نور الدين
544 هـ

نور الدين يستولي على حصن أفامية القريب من شيزر وحماة وهادنه الصليبيون مما رأوا من قوته
545 هـ

هزيمة نور الدين أمام جوسلين الثاني وأخذ جوسلين سلاح نور الدين

أسر نور الدين لجوسلين الثاني، واستيلاؤه على أملاكه: تل باشر، عين تاب، عزاز، ومرعش وغيرها وحصون كثيرة
546 هـ

عسقلان تسقط في يد الصليبيين بعد اختلاف أهلها فيما بينهم، وكانت آخر معاقل العبيديين المصريين في فلسطين وتقوى الصليبيون بفتحها وفتح لهم باب مصر

ضعف مملكة دمشق أمام الصليبيين حتى دفعوا لهم الجزية، وثورة أهل دمشق على حاكمهم »مجير الدين!« لتخاذله عن الجهاد وموالاته للصليبيين

نور الدين يهمه أمر دمشق، ويأخذ »مجير الدين« بالحيلة حتى جاء دمشق وفتح له بعض الأحداث باباً من أبوابها فدخلها وحاصر »مجير الدين« في قلعتها إلى أن استسلم قبل أن ينجده أحد من الصليبيين
547 هـ

نور الدين يحاصر حارم التابعة لإمارة أنطاكية، ثم ينصرف عنها بعد أن صالح الصليبيين على أن يعطوه نصف أعمال حارم

نور الدين يتسلم بعلبك
551 هـ

انهزام قوات نور الدين في البقيعة قرب حصن الأكراد بين حمص وطرابلس، وكان عازماً على دخول إمارة طرابلس الصليبية

»شاور« يصبح وزيراً للخليفة العبيدي العاضد وصراعه مع »ضرغام« على الوزارة
558 هـ

مسير »شاور« إلى نور الدين مستغيثاً به على »ضرغام« الذي انتزع الوزارة منه

القوات النورية تتجه إلى مصر لمواجهة »ضرغام« بقيادة أسد الدين شيركوه ومعه صلاح الدين[3]

نور الدين وقواته تلتقي بالصليبيين ويأسرون ملوكهم: بوهيمند أمير أنطاكية، وريموند الثالث أمير طرابلس، وجوسلين الثالث دي كورتناي، وهيو الثامن لوزجنان، وحاكم قيلقيه البيزنطي. وقتلوا ما يزيد على عشرة آلاف صليبي

نور الدين يأخذ حارم ويزحف إلى أنطاكية

الاتفاق على إطلاق سراح بوهيمند الثالث بعد دفع فدية كبيرة وإطلاق الأسرى المسلمين عنده

نور الدين يفتح بانياس (وفي في الجولان)
559 هـ

المسلمون (قوات نور الدين) يفتحون حصن المنيطرة (بين جبيل وبعلبك)
561 هـ

مسير قوات نور الدين ثانية إلى مصر

المسلمون (قوات نور الدين وقطب الدين مودود) يغزون بلاد الصليبيين ويفتحون العزيمة وصافيتا ثم يعودون سالمين
562 هـ

مسير قوات نور الدين إلى مصر للمرة الثالثة

وفاة أسد الدين شيركوه في مصر
564 هـ


1 2 3 4


--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر »لمحة تاريخية عن الدولة العبيدية« في الفسطاط.

[2] انظر » الزلاقة: معركة كسبها الإيمان وضيع ثمارها الخلاف« في الفسطاط

[3] ستأتي تفاصيل الوقائع بين أسد الدين شيركوه وشاور والصليبيين في الجزء الثاني من الجداول الزمنية للحروب الصليبية.

د.فالح العمره
17-04-2005, 12:57 AM
الجدول الزمني للحروب الصليبية في المشرق

2

صلاح الدين الأيوبي

الحدث
السنة

مولد صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب في قلعة تكريت

نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين شيركوه وأهلهم ينتقلون إلى قلعة بعلبك بعد أن استولى عليها عماد الدين زنكي
532 هجرية

صلاح الدين يرافق عمه شيركوه في حملة إلى مصر لأول مرة لإغاثة شاور وزير الفاطميين (العبيديين) ضد ضرغام الذي غلب على الوزارة

شاور يخاف من شيركوه من الإستيلاء على مصر ويهدده باستقدام الصليبيين إن لم يرحل

شيركوه يرحل عن مصر وبرحيله منع دخول الصليبيين مصر

تزايد خوف شاور من استيلاء نور الدين على مصر ومراسلته الصليبيين للقدوم لأخذ مصر

مسير أسد الدين شيركوه ومعه صلاح الدين بقواته إلى مصر وقتاله لشاور والصليبيين في معركة (البابين) وانتصاره عليهم

اتفاق الطرفين برجوع شيركوه إلى الشام والصليبيين إلى بلادهم، وموافقة شيركوه على مضض وذلك لضعف عسكره
558

الصليبيون ينكثون عهدهم مع شيركوه بشأن مصر ويسيرون لأخذها من شاور

الخليفة العبيدي العاضد وشاور يستغيثان بنور الدين

مسير شيركوه بالقوات النورية إلى مصر وأخذها، ورحيل الصليبيين عنها عندما علموا بمسير شيركوه إليها

مقتل شاور بطلب من العاضد والانتهاء من شره وسوء فعله

شيركوه يصبح وزيراً للعاضد

وفاة الوزير شيركوه –رحمه الله- بعد شهرين من ولايته، وتولي صلاح الدين للوزراة بعهد من العاضد

انزعاج الصليبيين من تولي صلاح الدين الوزارة في مصر وتحضيرهم لغزو مصر

الصليبيون ينزلون دمياط ورجوع صلاح الدين من محاصرة الكرك لجهادهم

اشتداد القتال بين المسلمين والصليبيين وانتصار المسلمين عليهم، وانهزام الصليبيين عن دمياط بعد أن قتل منهم الكثير وحرقت مناجيقهم

صلاح الدين يبدأ خطة التغيير في مصر: بالجهاد ضد الصليبيين في شرق الأردن، تقويته لمذهب أهل السنة، تشجيعه على العلم والفقه والدين..

تآمر (مؤتمن الخلافة) المتحكم في قصر العاضد مع الصليبيين للتخلص من صلاح الدين لشعورهم أن دولة بني العبيديين الباطنية آيلة إلى الزوال

اكتشاف صلاح الدين التآمر ضده، ومقتل الخصي (مؤتمن الخلافة)

ثورة السودان في القاهرة لمقتل (مؤتمن الخلافة) وقتال أبي الهيجاء –من قواد صلاح الدين- لهم وتغلبهم عليه

ضعف أمر العاضد ونية صلاح في قطع دابر الخلافة العبيدية
564

إعادة الخطبة للعباسيين في مصر وعودة مصر إلى حظيرة أهل السنة

وفاة العاضد آخر حكام بني عبيد ونهاية الدولة العبيدية الباطنية الإسماعيلية

توزيع الزكوات على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين من بيت المال، وأخذها من الأغنياء، ونشر العدل بين الناس الذي هو أساس إقامة الدول ومصدر قوتها


567

خروج صلاح الدين في أول غزوة من مصر بعد تسلمها إلى الكرك وعودته إليها

ابتداء الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين..

وفاة نجم الدين أيوب أبي صلاح الدين في مصر

قتال صلاح الدين للصليبيين في الكرك والشوبك
568

وفاة نور الدين محمود بن زنكي بدمشق رحمه الله تعالى، وكان مولده سنة 511 هـ، وظهور ضعف ورثته وتعدي ابن أخيه سيف الدين على أملاكه التي تركتها وظلمه للرعية

صلاح الدين يرسل أخاه تورانشاه إلى اليمن وعدن فيفتحها ويخطب فيها للعباسيين بعد انقطاع

مؤامرة كبرى ضد صلاح الدين والإسلام يحيكها بقايا الباطنيين من العبيديين ويراسلون الصليبيين في الشام وصقلية للتوجه إلى مصر لأخذها من صلاح الدين

صلاح الدين يكتشف المؤامرة ويتخلص من رؤسائها ويرد الله كيد الخائنين

انتهاز الصليبيين موت نور الدين وحصارهم لقلعة بانياس وإقرار الصلح بينهم وبين دمشق، واستعظام صلاح الدين لما حدث
569

الصليبيون من صقلية يهجمون على الإسكندرية على حين غفلة من أهلها بقيادة ابن عم ملك صقلية وليم الثاني

أهل الإسكندرية يقاتلون الصليبيين ويرسلون إلى صلاح الدين للدعم والامدادات

مجيء عساكر المسلمين قريباً من الإسكندرية وعساكر صلاح الدين واستمرار القتال بين الطريفين حتى أنزل الله نصره على المؤمنين

اندحار الصليبيين عن الإسكندرية بعد تحري القتل فيهم وأخذ الأسرى منهم وغنيمة المسلمين لأسلتحتهم وما تركوه ورائهم

صلاح الدين يخمد ثورة أحد قادة الفاطميين، ويدعى كنز الدولة، في صعيد مصر

ملك الصليبيين في القدس (عموري الأول) يتحالف مع الباطنية (الحشاشية والإسماعيلية) في الشام للانتقام من المسلمين مقابل تنازل الصليبيين عن الضرائب التي تؤديها الباطنية لهم

صلاح الدين يدخل دمشق ويتسلم قلعتها ويبطل المكوس والمظالم التي أحدثت بعد وفاة نور الدين محمود

صلاح الدين يسير إلى حمص ويترك فيها حامية لمحاصرة قلعتها

صلاح الدين يملك حماة

مسير صلاح الدين نحو حلب وامتناع أهلها لتسليمها تعصباً لابن نور الدين، الملك الصالح، الذي كان عمره 12 سنة

تحالف أهل حلب مع الملاحدة الحشاشين لقتل صلاح الدين حيث بذل سعد الدين كمشتكين الأموال للتخلص منه، وقد حاول الحشاشون الملاحدة قتل صلاح الدين ولكن سلمه الله منهم، ولكن قتلوا أميراً له يدعى ناصح الدين خمارتكين وجرحوا غيره

أهل حلب يطلبون العون من صاحب طرابلس الصليبي للتخلص من صلاح الدين

صاحب طرابلس يسير نحو حمص، وصلاح الدين يترك حصار حلب ويعود إلى حماة

رحيل الصليبيين عن حمص ودخول صلاح الدين إليها وتملكه لقلعتها

صلاح الدين يطلب تفويضاً بالحكم من الخليفة العباسي ببغداد

صلاح الدين يحاصر بعلبك وأهلها يطلبون الأمان فيجيبهم صلاح الدين

تآمر أهل الموصل مع الحلبيين ضد صلاح الدين

اشتباك قوات صلاح الدين مع عسكر الموصل وانهزامهم أمامه

مسير صلاح الدين إلى حلب مباشرة بعد هزيمة عسكر الموصل

أهل حلب يطلبون الصلح مع صلاح الدين ويعترفون به سلطاناً على الشام

وصول رسل الخليفة العباسي المستضيء بنور الله إلى صلاح الدين بالتشريفات السلطانية، وتقليده بما أراد صلاح الدين من سلطات شرعية في كل الولايات التي كانت تابعة لنور الدين

صلاح الدين يستولي على قلعة بقرين قرب حماة من الأمير فخر الدين مسعود بن علي الزعفراني
570

خروج صلاح الدين إلى (مرج الصفّر) وإرسال الصليبيين إليه بطلب الهدنة فيهادنهم بشروط

حلب والموصل تتحالفان ضد صلاح الدين ونقض أهل حلب للمواثيق بتشجيع من أمير الموصل غازي بن مودود بن زنكي

أمير الموصل غازي بن مودود يتجه بقواته إلى حلب ويعسكر خارجها ويستنجد ببعض الأمراء المسلمين، ويحالف الصليبيين ضد صلاح الدين

صلاح الدين يطلب من عسكر مصر التوجه إلى الشام، وعند وصولهم إليه يتجه بهم صلاح الدين إلى حلب

تنفيذ المؤامرة على صلاح الدين بين الزنكيين والصليبيين وانتهاز الصليبيين الفرصة ومهاجمة المناطق التابعة لدمشق

صلاح الدين يجدد الهدنة مع مملكة القدس لئلا يضطر إلى القتال على جبهتين

قوات صلاح الدين تشتبك مع عساكر الموصل وحلب في تل السلطان وانكسار عساكر التحالف وانهزامهم شر هزيمة

انتزاع صلاح الدين لبعض القلاع الهامة بعد ذلك مثل بزاغة؛ وملك مدينة منبج

محاولة الباطنية الإسماعيليين اغتيال صلاح الدين وهو يحاصر قلعة »إعزاز« المنيعة، لكن نجاه الله منهم، واستمر حصار القلعة حتى استسلمت في 11 من ذي الحجة

إتمام الصلح بين صلاح الدين والملك الصالح صاحب حلب حيث دخل في الصلح أيضاً المواصلة وأهل ديار بكر


571

مسير صلاح الدين (في المحرم) إلى مصياف، مقر الباطنية، وقتاله لهم، فقتل وأسر منهم وخرب ديارهم حتى شفع فيهم خالُه صاحب حماة

إغارة الصليبيين على إقليم البقاع لصرف صلاح الدين عن أخذ حلب ومساعدة منهم لأعدائه، لكن الله هزمهم على يد ابن المقدم أمير بعلبك

عودة صلاح الدين إلى مصر لتفقد أحوالها وذلك بعد زواجه من أرملة نور الدين محمود

مهاجمة الصليبيين لأعمال دمشق في غياب صلاح الدين وهزيمة تورانشاه الذي خرج للقائهم

بناء سور القاهرة بأمر صلاح الدين لحمايتها من أي هجوم صليبي، وتعمير أسطول في الإسكندرية، وتحصين ثغرها وثغر دمياط
572

وصول حملة صليبية إلى الشام بقيادة فيليب الإلزاسي دعماً للقوات الصليبية ضد صلاح الدين

مهاجمة الصليبيين لإقليم حمص ومحاصرتهم لمدينة حماة ثم انسحابهم عنها

فشل محاولة إمبراطور بيزنطة التحالف مع الصليبيين لغزو مصر

محاصرة الصليبيين لـقلعة حارم مدة 4 شهور دون جدوى -مع هجوم أهل حلب عليهم- فتركوها بعد أن سمعوا أن صلاح الدين يريد مهاجمة بيت المقدس، فلما تركوها هاجمها جيش الملك الصالح (صاحب حلب) وضمها إليه.

موقعة الرملة بين قوات صلاح الدين والصليبيين (في جمادى الأولى) وانتصار المسلمين فيها، ثم انهزامهم أثناء عودتهم إلى مصر، حيث فاجأهم الصليبيون

مهاجمة الصليبيين لحماة وحصارهم لها، واستبسال أهلها في الدفاع عنها وانتصارهم على الصليبيين الذين ارتدوا عن البلد وحاصروا حارم
573

مسير صلاح الدين إلى الديار الشامية بعد وصول الأخبار إليه أن الصليبيين يحاصرون حارم

بناء الصليبيين لحصن بيت الأحزان (حصن جسر بنات يعقوب) قرب بانياس بين طبرية وصفد

انهزام الصليبيين بقيادة بلدوين في قتالهم مع قوات فرخ شاه ابن أخ صلاح الدين قريباً من بانياس وانضمام صلاح الدين إليهم بعد وصول أخبار القتال إليه

هجوم الصليبيين على حماة واندحارهم أمام القوات الإسلامية
574

الصليبيون يقيمون حصناً آخر إلى الشمال الغربي من بحيرة الحولة على جبل هونين في مواجهة بانياس.

موقعة مرج العيون وفتح حصن بيت الأحزان: حيث انتصر فيها المسلمون انتصاراً عظيماً وأسِروا من الصليبيين أكابرهم، مثل: ابن بيرزان صاحب الرملة ونابلس، وأخ لصاحب جبيل، وصاحب طبرية ومقدم الداوية، ومقدم الاسبتارية، وصاحب جينين وغيرهم. وفي نفس اليوم ظفر الأسطول المصري بسفينة صليبية كبيرة

مسير صلاح الدين مباشرة إلى حصن بيت الأحزان لتدميره، وقد استولى عليه وأسر من فيه ثم دمره وعفى أثره وغنم كثيراً من المال والسلاح والأقوات. وكان لتدمير هذا الحصن الأثر السيء على الصليبيين وفت في عضدهم

متابعة صلاح الدين الجهاد وإغارته على طبرية وصور وبيروت وعلى عكا نفسها

إتمام الهدنة بين صلاح الدين وبلدوين ملك القدس بطلب من الأخير
575

وفاة سيف الدين غازي بن مودود زنكي أتابك الموصل وديار الجزيرة، واختياره أخيه عز الدين مسعود بن مودود خلفاً له، وتفريقه لبعض ملكه في أبنائه سنجر وناصر الدين

صلاح الدين يغزو بلاد الأمرن بسبب اعتدائهم على المسلمين
576

مهاجمة الأسطول المصري مدينة أنطرطوس وإنزال الخسائر بالصليبيين واضطرارهم لطلب الهدنة من صلاح الدين. وبذلك أمن صلاح الدين جانب ريموند الثالث أمير طرابلس وبلدوين الرابع صاحب القدس ليتفرغ للقتال على جبهات أخرى ولتحقيق سياسته في توحيد بلاد الشام تحت قيادته، وخصوصاً حلب والموصل

وفاة الملك الصالح صاحب حلب، واستحلافه للأمراء قبل وفاته لابن عمه عز الدين مسعود بن مودود الزنكي
577

د.فالح العمره
19-04-2005, 12:28 AM
بصائر لكل من يحب التاريخ
إخوتي في الله ، هذه كلمات صاغها قلم المفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار حفظه الله تعالى، و قد وضعها في كتابه المسمى 149 بصيرة في التراث و الماضي و التاريخ و المستقبل و طبائع الأشياء .. و هو عبارة عن كتيب ضمن سلسلة من الكتيبات عددها 13 كتيب تناول فيها شتى المواضيع من دعوة و تربية و تعليم ....

و قد تولى أمر طباعتها و نشرها دار الأعلام في الأردن ، فقمت بنقل ما كتبه عن التاريخ ، و أحلت كل مقولة إلى الصفحة الموجودة فيها أرجو منكم قراءتها بتمعن لتجدوا أنها فعلاً بصائر تشكل زاداً مهماً لكل من يرغب بدراسة التاريخ و التبحر فيه و تشكل منطلقاً هاماً بمشيئة الله تعالى للعودة إلى دينه العظيم .

هذا هو الجزء الأول منها :

التاريخ : في جوهره ليس أكثر من جملة من المبادرات الفذة استتبعت عدداً كبيراً من الاقتداءات و بذلك تشكلت تيارات من الفعل الإنساني المتميز . الصفحة 21 .

شفافية : الذين يقرؤون التاريخ كثيرون و الذين يقرؤونه بطريقة جيدة أقل من القليل و أكثرهم سوءاً هم الذين يفهمون التاريخ عبر آلية تشبه المعادلات الرياضية في صلابتها و ما هكذا يُفهم الإنسان و لا هكذا يقرأ مسجل نشاطاته و إنما يفهم من خلال الشفافية و الخيال و قراءة ما بين السطور و و فق ما نعرفه من سنن الله تعالى في الأنفس و المجتمعات . الصفحة 29 .

غلوّ : يملك التاريخ بوصفه سجلاً للكثير من الأنشطة المتقاطعة و المتباينة قابلية للتجزئة و التوظيف السيئ و المبالغ فيه و قد صار بعض الناس إلى أسوأ ما في تاريخنا من أحداث و وقائع ـ يدينها الإسلام نفسه ـ فأبرزوها على أنها من نتاج الإسلام و معطياته . و كان من جملة ردود الفعل على ذلك أن عمد بعض أهل الغيرة على هذا الدين إلى خير ما في تراثنا فأخرجوه للناس على أنه يمثل التراث كله و ما زال كثيرون ينتظرون القراءة الموضوعية و المتزنة و ربما سيطول انتظارهم . الصفحة 29 ـ 30 .

استخراج صعب : لا تأتي قراءة التاريخ من أجل استخراج النواميس و السنن الكونية منه إلا بالظنون و ذلك لأن معرفتنا بالأسباب الحقيقية التي أدّت إلى ولادة الأحداث الكبرى تظل معرفة ناقصة و جزئية و حين نوفق إلى معرفة ذلك فإن المشكلة التي تواجهنا تكمن في تحديد وزن كل سبب و حجم تأثيره في وقوع تلك الحوادث . الصفحة 30 .

في المنهج : من غير المنهجي أن نتعرف على عظمة أمة من خلال نتائج معركة أو من خلال وقف أوقفه بعض الناس أو من خلال جامعة أو مدرسة محترمة إن هذه الأمور و الأشياء و أشباهها ليست أكثر من مؤشرات محدودة و إن كثيراً من الذين يدرسون تاريخ الأمة على أنه كتل ممزقة يعمدون إلى توظيفه توظيفاً خاطئاً عن قصد و عن غير قصد و نحن نريد دائماً أن نصل إلى الحقيقة كما هي عليه و أن نوظفها التوظيف الذي ينسجم مع باقي الحقائق و المعطيات المتوفرة . الصفحة 31 .

اكتشاف مزدوج : علينا أن نعترف أننا لم نكمل قراءة تاريخنا الإسلامي على النحو المنشود و قد يكون ذلك غير ممكن كما أن اكتشافنا للعوامل الفعالة في بناء حركته لم ينضج بعد . فإذا أضفنا على ذلك أن الوعي البشري لا يكتمل أبداً أدركنا طبيعة العلاقة بين معطيات التاريخ و بين ما يطرحه وعينا من مقولات و فرضيات مما يجعلنا نسعى دائماً إلى اكتشاف مزدوج للتاريخ و بغيتنا الفكرية في آن واحد . الصفحة 31.

تحديات : كثيراً ما يقع الخلط و التحريف و الوهم و المبالغة في التفاصيل الدقيقة و في الجزئيات و الحيثيات التي يسوقها المؤرخ و ليس في الخطوط العريضة للوقائع و المشكل أن كثيراً من الوعاظ و التربويين و أولئك الذين يعتمدون أسلوب الحرفية في فهم التاريخ يهتمون اهتماماً مبالغاً فيه بتلك التفاصيل و الجزئيات مما يجعل الوهم و الإيهام من أوثق حلفائهم . الصفحة 32 .

أسير : كثير من الناس لا يملك بنية عقلية جيدة و من ثم فإنه يقع أسيرا للأخبار و الروايات التاريخية و يحاول فهمها على نحو حرفي و كأن الذي صاغها يملك فيها الكلمة النهائية كما يملك التعبير عنها على أعلى مستوى من الوضوح و القطعية مع أن القرآن الكريم يوجهنا إلى أن نجعل من المعطيات التاريخية أدوات نفتح بها حقولاً جديدة للفهم و بذلك نتجاوزها بدل أن نقع أسرى لها . الصفحة 32 .

فراغ : قد لا يستطيع المؤرخ الحصول على كل المواد و المعلومات و المعطيات التي تمكنه من بناء صورة كاملة لواقعة من الوقائع فيجد نفسه مضطراً إلى تكميلها من خلال روايات لا يرضى عنها تمام الرضا أو من خلال معرفته بطبائع الأشياء و مجريات الأحداث . الصفحة 33 .

عمل الإنسان : الأخبار التاريخية تنقل صوراً مقتبسة لما حدث أو قد كتبتها يد إنسان و يدرسها أيضا إنسان له عواطفه و معاييره و مسلماته و مصالحه و هذا كله يجعل من غير الحكمة إسلاس القيادة للمؤرخ دون أي تحفظ أو نظر أو مراجعة . الصفحة 33 .

زيادة وعي : نحن بحاجة ماسّة إلى أن نزيد درجة وعينا بتاريخنا كما أننا في حاجة إلى أن نُدخل في ثقافتنا العامة بعض المستخلصات المركّزة عن المنعطفات الكبرى في ذلك التاريخ و ذلك لأننا إذا لم نستطع أن نقارب بين رؤانا للماضي لم نستطع أن نقارب في فهم الحاضر و إذا لم تتقارب رؤانا للحاضر لم نستطع التخطيط لشأننا العام في المستقبل . الصفحة 33 .

طرفان : أفرط قوم في تقدير التاريخ حتى صار عندهم علم العلوم و ليس أي علم آخر في نظرهم سوى ظاهرة تاريخية و قال قوم آخرون : إنه لا يصلح أن يكون علماً كما لا يصلح للعمل و التطبيق و لذا فإنه لا شيء . الصفحة 34 .

مجتهد : المؤرخ إذ يرسم صورة لحادثة تاريخية مجتهد يستخدم كل مركّبه العقلي العام و مزاجه و خياله و منهجيته و كل ما يريد من وسائط و أدوات معرفية ، و لهذا فإن عمله بالتالي يحتمل الصواب و الخطأ .
الصفحة 34 .

بناء انتقائي : من أخطر ما يتعرض له العمل التاريخي هو الانتقائية فالروايات المتعددة و المتضاربة أحياناً حول حادثة من الحوادث تملي على المؤرخ أن يختار منها ما يتناسب مع رؤيته العامة لتلك الحادثة و حين تتوفر معلومات كثيرة حول واقعة ما فإن المشكلة لا تزول و لكن تتبدى في ثوب آخر و سيظل على المؤرخ أن يقوم بالترجيح و إلا خنقه سيل الأخبار المجدبة التي لا يربط بينها أي رابط . الصفحة 34.

تعليل و تعميم : من المعلوم جيداً أن اليونان اخترعوا ( التعاليل ) من أجل تلافي الثغرات التي يتركها الاستقراء الناقص و ما يستخدمه المؤرخ من تفسير و تعليل و تأويل في تشخيص الحدث التاريخي قد يعتمد على بعض الحقائق التاريخية لكن المؤرخ يحتاج إلى تعميم المفاهيم المتعلقة بطبيعة الناس و ميولهم و سلوكهم من أجل تمليك القارئ رؤية متماسكة و منطقية للحادثة التاريخية و هذا يجعل المؤرخ في دائرة المجازفة و سوء التقدير .





بصائر لكل من يحب التاريخ ( الجزء الثاني )
إخوتي في الله هذا هو الجزء الثاني و الأخير من ( بصائر لك من يحب التاريخ ) أرجوا لكم النفع و الفائدة فيها أبو خيثمة .

تساؤل : يحتاج فهم ما يكتبه المؤرخ أن نحاول قراءة ما بين السطور و طرح عدد من الأسئلة المتعلقة بعمله و سيكون في إمكاننا أن نتساءل عن مدى قدرة المؤرخ على ترك مسافة واعية بين رأيه الشخصي و بين الأحداث التي يؤرخ لها أي محاولة تجنب الدمج بين رؤيته الشخصية للحدث و بين المعطيات و الحيثيات المكونة له . الصفحة 36 .

التباس : مهما بذل المؤرخ من جهد من أجل تعريفنا بالماضي فإنه لن يستطيع إلا أن ينقل لنا صورة غامضة و ملتبسة و ذلك لأن الأحداث المحكية هي في الغالب على صلة بالإنسان و ما كان كذلك فإنه سيظل بينه و بين الوضوح مسافات طويلة و لا أذكر أنني في يوم من الأيام قرأت معناً تاريخياً يقدم إجابات شافية على كل التساؤلات التي تثور في ذهن القارئ و الحقيقة أن المؤرخ ليس مطالباً بذلك و لا يستطيع تقديمه . الصفحة 36 .

صناعة دقيقة : صناعة التأريخ صناعة دقيقة للغاية والعمل فيها يتطلب شفافية عالية و خبرات متنوعة في عدد من العلوم الاجتماعية كالسياسة و الاجتماع و الاقتصاد و الحقيقة أن الماضي الذي نسرد أخباره و وقائعه يملك على نحو استثنائي أن يكون مصدراً لتجديد وعينا كما يمكن له أن يكون مصدراً لبلبلته و إرباكه . الصفحة 36 .

صياغة جديدة : مهما أتقن المؤرخ عمله فسيظل يحتوي على بعض الثغرات و سيظل هناك ما يمكن استدراكه عليه أو مناقشته فيه و أتصور أنه لا بد للقارئ إذا ما أراد أن يتجاوز عقابيل عمل المؤرخ من أن يكون له دورٌ ما في إعادة صياغة الواقعة التاريخية . الصفحة 37 .

من غير إطار : مهما حاول المؤرخ أن يشرح لنا ملابسات الوقائع و مناسباتها و أسبابها فإنه لن يستطيع توفية ذلك حقه لأسباب تتعلق بالصياغة الفنية و بطبيعة العمل التأريخي و لهذا فإننا سنظل نشعر بنوع من استغلاق الوقائع على أفهامنا كما يستغلق فهم رقم لا نعرف موقعه من المنظومة العددية . الصفحة 37 .

منسيون : يعيش معظم الناس على هذه الأرض و يغادرونها دون أن يتركوا وراءهم أي شيء يثير اهتمام المؤرخ و ذلك لأن التاريخ يصنع من وراء التصدي للمهمات الجليلة و من وراء التغيرات الأساسية التي يدخلها المرء على حياته الشخصية و السواد الأعظم من الناس غير مستعدين لا لهذا و لا لذاك . الصفحة 38 .

صنع التاريخ : لا يكتب التاريخ و لا تعمر الحياة بالخير و النبل و لا يعيش الناس أعزة كراماً من خلال المزيد من الأخذ و الاستحواذ و الكنز و إنما من خلال المزيد من البذل و العطاء و التضحية و إنكار الذات و من أولى من المؤمن الملتزم بهذه المعاني ؟ الصفحة 38 .

بعيون الحاضر : رؤيتنا للماضي بعيون الحاضر تساعدنا على رؤية الأحداث التاريخية من أفق ما كان ينبغي أن تجري عليه و إذا فعلنا ذلك نكون قد طورنا الماضي و زودناه ثراء و جعلناه أكثر قابلية للشرح و الفهم . و لكن علينا أن نتذكر أن رؤية الماضي من أفق ثقافة الحاضر لا تكون منصفة و لا عميقة بالقدر الكافي نظراً لاختلاف المفاهيم و الظروف المنتجة لرؤيتنا الحاضرة عن المفاهيم و الظروف التي اكتنفت الأحداث الماضية . الصفحة 38 .

نفور : إن الذين يتخذون من نظرية المؤامرة أداة في فهم التاريخ ينفرون من الرؤية الكلية و التقييم الجامع حيث يمكّنهم الانتقاء للحوادث و الوقائع من إبراز ما يريدون إبرازه و طمس ما يريدون طمسه الصفحة 39 .

منظار خاص : لعقيدة المؤرخ و تجاربه و انتماءاته و عواطفه و انطباعاته تأثير لا يستهان به في تكوين المنظار الذي يرى من خلاله الأحداث و لهذا فإن من غير الممكن أن ينظر المسلم إلى العصور الوسطى الأوروبية من عين المنظار الذي ينظر منه المؤرخ الأمريكي أو الأوروبي الصفحة 39.

برمجة : البيئات الجغرافية و الاجتماعية و الثقافية بكل ما تحمله من ثوابت و ملامح و معطيات و تقاليد و مفاهيم و أفكار ... تبرمج آلية التفكير و التحليل و التفسير لدى المؤرخ و هو لا يستطيع أن يتخلص من تلك البرمجة لأنها تشكل النافذة التي يعقل من خلالها الأشياء. الصفحة 39 .

موضوعية خاصة : الذي ينتهي إليه من يمعن النظر في أعمال المؤرخين هو أنه ليس في أعمال المؤرخين موضوعية مطلقة و نحن بين خيارين مؤداهما واحد و هو : إما أن نعتقد أن للتاريخ موضوعيته الخاصة به و التي تختلف عن الموضوعية العلمية و إما أن نقول بموضوعية منقوصة . الصفحة 40 .

انقطاع : من المؤسف أن جهود ابن خلدون في نقد الأخبار التاريخية لم تتابع من قبل الذين جاؤوا بعده و لم يجر تطوير قيّم بها بل إن ابن خلدون نفسه لم يستفد كما كان مأمولاً ـ مما سطره في مقدمته ـ من أصول نقدية رائعة حين كتب تاريخه ! الصفحة 40 .

مطواع : التاريخ بنية قابلة للاستخدام و التوظيف المتعدد فكما أنه صالح لأن يكون أداة تحفيز و توجيه نحو الخير و الصلاح و النجاح فإنه كذلك يصلح لأن يستخدم أداة إفساد و تخريب و من المؤسف القول إن معظم استخدامات الناس له استخدامات خاطئة و الذين يقعون في الخطأ يفعلون ذلك غالباً عن حسن نية أي أنهم غير قابلين للتصحيح لأنهم لا يشعرون أنهم يفعلون ما يستلزم التراجع ! الصفحة 40 .

تمت بفضل الله عز و جل و عونه

العنيد
19-04-2005, 07:43 AM
ايها االفاااااضل : فالح العمره...بارك الله فيك يا بو بدر على هذا الموضوع الطيب....وعلى هذه الجهوود المباركة..

لك خالص ودي

د.فالح العمره
19-04-2005, 08:05 AM
مرحبا بك يا العنيد ولا هنت على حضورك يا الغالي

الخليجي
30-04-2005, 08:48 PM
جزالك الله خير

تقبل تحياتي

د.فالح العمره
17-05-2005, 01:52 AM
وجزاك بالمثل يا الغالي

ابن الأخيل
11-08-2007, 05:15 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الاخ فالح العمره



تشكر على هذا المجهود الرائع والجبار

لك منى اجمل التحايا

العـامر
11-08-2007, 07:16 PM
بيض الله وجهك

يابن عمرة

وجعل شيبانك في النعيم


جعل ذا العمل في موازين أعمالك

عـسـاه خـيـر
22-08-2007, 04:36 PM
الاخ فالح العمر
الف شكر وجزاك الله خير.

د.فالح العمره
16-11-2007, 12:24 AM
مرحبا بالجميع

ونفع الله بما نكتب

حيادي
09-11-2010, 11:51 PM
د.فالح العمره جزاك الله خير بحث رااائع