المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دور المسجد في حياة المجتمع


د.فالح العمره
06-04-2005, 12:54 PM
دور المساجد نشر العلم

إن المسجد في المفهوم الإسلامي الخالص هو مقر إعلان العبودية الخالصة لخالقنا
{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً } ، وبما أن العبادة في المفهوم الإسلامي شاملة جامعة لحياة الإنسان العابد لله تعالى { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162-163]

وبما أن العلم في الإسلام شرط أساسي في أداء العبادة الصحيحة بمفهومها الشامل، فلابد إذن من أن يقوم المسجد بدور نشر العلوم بل وأن يصبح منارة ومقصداً علمياً.

وقد قام المسجد بدوره التعليمي منذ أيامه الأولى، وحث رسول الله على هذا الدور العلمي لقوله صلى الله عليه وسلم: « من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان كأجر حاج تاماً حجه » أخرجه الطبراني, وهذا المقصد التعليمي أوضحه وبيَّنه صلى الله عليه وسلم في حديثه ليفرق بينه وبين البعد الشعائري من إقامة الصلوات في المساجد.

ولم يقتصر الدور التعليمي للمسجد على الرجال بل نافست عليه النساء، لما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي: " غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك, فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن " . وفتح المسجد صدره للمرأة تشهد دروس العلم ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم ومشاركة الرجل في الحياة, وقد أُعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين بإقبال الأنصاريات على العلم فقالت: " نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين " .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرف على حلقات العلم التي كانت تنتشر في أرجاء المسجد النبوي الشريف، خاصة في بواكير الصباح حيث حدث عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بمجلسين أحدهما فيه دعاء وإقبال على الله والآخر فيه علم, فأقرَّهما وقعد في مجلس العلم, وشجع رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدام الوسائل المتاحة آنذاك لتوضيح المعاني والدروس سواء كانت بصرية أو سمعية, ومن أمثلة ذلك ما رواه ابن مسعود بقوله: خطَّ لنا رسول الله خطاً بيده ثم قال: « هذا سبيل الله مستقيماً » وخط عن يمينه وشماله ثم قال: « هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه » ثم قرأ { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام:153].

ولو أن الوسائل التعليمية المتاحة لنا في عصرنا هذا وجدت في عصر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لحثَّ على استعمالها، وكان أول من يستعملها صلى الله عليه وسلم.

واستمر المسجد في التطور والنمو جيلاً بعد جيل، ليؤدي مهامه في صناعة الحياة ليصبح جامعات ومنارات علمية وفكرية رائدة, والأمثلة كثيرة نذكر بعضها مثل جوامع الألف -وسميت كذلك لأنه مضى على تأسيسها أكثر من ألف عام- مثل جامع عمرو بن العاص، قلب الفسطاط الفكري، ومهد الحركة العلمية في مصر، والذي كان يشهد مئات الزوايا العلمية, والجامع الأموي في دمشق وجامع المنصور ببغداد, وجامع القرويين في فاس بالمغرب الذي امتاز بالنظام التعليمي الجامعي وطرق التدريس فيه، فكان له شروط دقيقة للتعيين ووظائف التدريس وتخصيص كراسي الأستاذية والإجازات الفخرية, وكان له مساكن جامعية خاصة للطلبة والأساتذة، ومكتبات متخصصة للدارسين الجامعيين، فقصدها المسلمون وغير المسلمين من شتى أرجاء العالم،, أما جامع الزيتونة بتونس فقد أبدع في شتى مجالات العلوم النقلية والعقلية، وضمت مكتبته العامرة مايزيد عن مائتي ألف مجلد, وكذلك كان حال الجامع الأزهر الذي بدأ كغيره كمسجد لإقامة الشعائر التعبدية وسرعان ما أصبح جامعة يدرس فيها العلوم المختلفة، وتخرج فيها علماء عمالقة في كل مجالات الحياة.
واشتركت كل هذه الجامعات العظيمة في تشجيعها لطلبتها على مبدأ المناقشة والمناظرة والتمرس عليها, فأصبح من المألوف أن يخالف الطالب أستاذه في الرأي في إطار الأدب المتعارف عليه, وبهذا أوجدت المدرسة العظيمة التي يطلق عليها بالمسجد -بمفهومه الشامل- أجيالاً ستظل معجزة العالم ومفخرته, ولها فضل على كل علوم الدنيا شرعية أو كونية أو إنسانية, حيث كوَّنت أساس النهضة العلمية والصناعية.





اهمية المسجد الحضاريه


كيف يحتل المسـجد موقعه الطبيعي في حياة المسلمين المعاصرة ؟

تختلف المساجد في أهمّيتها الحضارية ، باختلاف موقعها الروحي ، والاجتماعي والمكاني في دنيا المسلمين .
فالمساجد في حياة المسلمين ليست على وتيرة واحدة من ناحية الأهمّية ، والموقع ، والتأثير ، والمهمّة كذلك ، فمن مساجد المسلمين ما أقيمت بأمر الله عزّ وجلّ لتكون مركز إشعاع للهدى ، والخير في دنيا المسلمين كالمسجد الحرام ، ومسجد النبيّ ، والمسجد الأقصى ، ومسجد الكوفة ، ومسجد قبا ، ومنها ما ارتبط بأمجاد المسلمين ، وعزّتهم كالجامع الأزهر ، ومسجد القرويين ، وجامع الزيتونة ، وأمثالها ...
ومن المساجد ما يكون مسجداً لإقليم من أقاليم المسلمين ، ومنها ما يكون لمدينة ، ومنها ما يكون لقرية أو محلّة ، أو قبيلة ، أو عشيرة ، حتّى يصل الدور إلى مسجد العائلة في الدار ...
وأهمّ المساجد التي أقامها المسلمون بعد مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ; المساجد الجامعة التي أقيمت في حواضر المسلمين ، ومدنهم الكبرى ، وفيها تقام صلاة الجمعة ، ويجتمع فيها المسلمون لأدائها ، وسماع المواعظ فيها ، ثمّ تتدرّج المساجد من حيث الأهمّية ، والتأثير ، والموقع في حياة المسلمين .. وبناء على ذلك فانّه ليس من الطبيعي أن تتشابه المساجد في وظائفها وتأثيرها في حياة المسلمين ...
فقد يؤثر بعض المساجد في حياة الأمّة المسلمة كلّها ، بينما يؤثر مسجد آخر في أحد أقاليم المسلمين ، وآخر في مدينة ، وغيره في قبيلة أو قرية أو محلّة .
وهكذا فليس من الصحيح أن نفترض انّ وظائف المساجد واحدة ، ولكن لا بدّ من وجود مشتركات بينها ، ثمّ تأتي الفروق الكبيرة والصغيرة حسب الأهمّية ، وقدرة التأثير ، وحدوده !
فالمسجد الحرام في مكّة المكرّمة له من المؤهلات الروحية والمادية ما يجعله يؤثر في حياة الأمّة الإسلامية كلّها، ويوفِّر مستلزمات صياغة الكثير من جوانب حياتها باتّجاه الاسلام ، والفضيلة ، والبناء ، فمؤتمرات الحج والعـمرة التي وفّر الله عزّ وجلّ أرضية عقدها في كل عام، فيحضر مواسمها مئات الآلاف من المسلمين من كل لون ، وذوق، ولغة، وثقافة، ومكان، بمقدورها أن توفِّر الكثير من الخطط والمشاريع ، لبناء حضارة الأمّة ، ومجدها عبرَ الأزمان والأجيال ، كما بمقدورها أن تواجه مخططات الأعداء والمنافقين .
إنّ بمقدور بيت الله الحرام ، لو أعطاه المسلمون قيادهم أن يغيِّر حياة المسلمين ، باتِّجاه المجد ، والتحضّر المفعم بالإيمان ، والعدل ، والمتفجر بالخير ، والخصب ، والنماء ...
لقد كان من أكبر مخاوف أوربا الغازية بعد الحرب العالمية الأولى ، انّها لا يمكن أن يقر لها قرار في الشرق ما دام القرآن المجيد والكعبة المشرفة لدى المسلمين ، لأ نّهما كفيلان بتحريك قوى المسلمين ، باتِّجاه النهضة والخلاص(56) !
إنّ هذا الفهم الأوربي صحيح إلى درجة كبيرة ، فبيت الله الحرام إذا لم يكبل عن أداء مهمّته الرِّسالية ، فسوف يكون جديراً بتحقيق الأساس المركزي لنهضة الأمّة كلّما تنكرت لها الأيّام وتداعت عليها الأمم ...
فالمسجد الحـرام جدير بتوفير الفرص للمسلمين أن يفكِّروا في أمورهم وأن يخطّطوا لخلاصهم، ووحدتهم، ونهوضهم الروحي والمادّي. ففي ضوء المكانة الخاصّة لبيت الله الحرام في مكّة المكرّمة ، ومسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنوّرة ، يمكننا أن نفترض أن بوسعهما أن يحقِّقا ما يلي :
1 ـ تبادل التجارب الفكرية والثقافية بين المسلمين في مختلف بقاع الأرض .
2 ـ توفير مستلزمات التقريب ، والتلاقح في الرؤى ، والفهم للأمور السياسيّة ، والتحدِّيات ، ومشاكل المسلمين العامّة ، وتوفير أرضية الاتّفاق على الحلول وطرق المواجهة لمشاكل الأمّة ، وتحدِّياتها .
3 ـ توفير الدراسات ، والأبحاث الفقهية ، والفكرية المقارنة لإستيعاب ما لدى المسلمين من وجهات نظر دينية أو سياسية ، ويمكن أن تقام جامعة علميّة خاصّة لهذا الغرض تلحق ببيت الله الحرام .
4 ـ إقامة المؤتمرات لتبادل وجهات النظر بين العاملين في الحقل الإسلامي السياسي من أجل نهضة المسلمين ، وخلاصهم ، وقد يُقام مركز للعمل الإسلامي العالمي .
5 ـ عقد الاجتماع الدوري لقادة المسلمين في العالم لحل مشاكل المسلمين السياسية الطارئة ، ووضع استراتيجيّات المستقبل .
6 ـ إنشاء دور نشر عالمية للتعريف بالإسلام ، وعلوم القرآن باللّغات الحيّة في العالم .
7 ـ تأسيس إذاعات ومحطّات تلفزيون عالمية للتعريف بالإسلام الحنيف ، وتاريخه ، ورجاله ، وعلومه ، وفق فهم مشترك بين المسلمين .
8 ـ إقامة ندوة العلماء الدائمة ، لتبادل الرأي في مسائل الثقافة الإسلامية ، والعلوم الإسلامية .
9 ـ إنشاء مركز الجاليات الإسلامية في العالم ، لدراسة مشاكلها ، وتحدِّياتها ، وما ينبغي وضعه من خطط لحمايتها ، وضمان استمرار تأثيرها في المجتمعات المختلفة .
10 ـ إنشاء المركز العالمي للمساجد ودور العبادة ، لوضع الخطط لإعادة المسجد إلى موقعه الطبيعي في حركة الأمّة ، وحمايته ، والاهتمام به .
11 ـ إنشاء الصندوق العالمي للزكاة لإسناد الجماعات المسلمة الفقيرة في العالم .
هذه بعض التصوّرات عمّا بمقدور المؤسّستين المباركتين : البيت الحرام ، ومسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تنهضا بها في حياة المسلمين لو توفّرت الظروف المناسبة لأداء دورهما الرِّسالي في الأمّة ...
أمّا المساجد الأخرى في العالم الإسلامي ، فانّها من الطبيعي أن تكون دون ذلك في الأهمّية ، والتأثير في حياة المسلمين العامّة والخاصّة ، ولكن لكلّ منها دوره الذي يمكن أن يؤدِّيه في حدود الواقع ، والممكن ...
وهذه مقترحات أوّلية لمساجد المسلمين في العالم ، نأمل أن يستفيد منها المسلمون كل في وسطه ، وحسب إمكاناته المتاحة مادّياً ، ومعنوياً ، حتّى يعاد المسجد رويداً رويداً إلى موقعه الطبيعي في حركة النهوض الإسلامي :
1 ـ المسجد دار العبادة ومحل الاجتماع : من أولويات مهام المسجد في دنيا المسلمين أن يتّخذه المسلمون موضعاً أساسياً لعبادتهم وتوجّههم إلى الله عزّ وجلّ ، فعندما تحل أوقات الصلاة ينقل الشيوخ والكهول أقدامهم ، قاصدين مساجد الله عزّ وجلّ لأداء الفريضة ، ويتسابق الشباب ، والصبية ، ملبين داعي الله عزّ وجلّ لأداء الصلاة ...
فتنتظم الصفوف ، وتقام صلاة الجماعة بإمامة إمام المسجد أو أحد عدول المؤمنين ...
وينبغي على المؤمنين العاملين ، والآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر أن يحثوا المسلمين على عمارة المساجد بالعبادة ، والاعتكاف ، وقراءة القرآن ، وأن يتعاظم الاهتمام بصلاة الجماعة بخصوص الفرائض ، أو صلاة العيدين أو ما إلى ذلك ...
فانّ هذه العبادات المباركة اضافة إلى أهمّيّتها الذاتية ، فانّ لها آثاراً واقعية من حيث التعارف بين المسلمين ، وشيوع المحبّة ، والتعاون ، والتكافل ، والتزاور ، وتفقد الغائب ، وزيارة المرضى ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من ظواهر المجتمع الإسلامي ، وحسن العلاقات بين المؤمنين في المدن ، والقرى ، والمحلاّت ...
2 ـ ليكن المسجد مناراً للمعرفة ، والتثقيف الإسلامي : ومن المهام التي ينبغي أن تترسّخ في مساجد المسلمين : تعليم المسلمين أحكام دينهم ، وقيم التشريع الإلهي ، من فرائض ، وأخلاق ، وآداب ، وأوامر ، ونواه ، وما إلى ذلك ... ولقد كانت هذه المساجد في عصور المسلمين الزاهرة قبلة للباحثين عن المعرفة ينهلون العلم فيها ، ويتذاكرون المعرفة ، ويتدارسون معاني كتاب الله عزّ وجلّ ...
وهؤلاء العلماء والرواة ، والمفسِّرون ، والمؤرِّخون الذين شهدتهم القرون أيّام ازدهار الحضارة الإسلامية ، قد تخرّجوا في مساجد الحواضر الإسلامية ما بين بخارى شرقاً إلى قرطبة غرباً ، حيث المسجد الحرام ، ومساجد بلاد الشام وفلسطين ، والمسجد النبوي ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة ، والجامع الأزهر ، ومساجد اصفهان ، وقم ، وخراسان ، ومسجد القيروان ، والزيتونة ، والقرويين ، وغيرها كثير ...
انّ تدريس العلوم الإسلامية ، وأحكام الشريعة ، يمكن أن تتّخذ مستويات عديدة أدناها : الحلقة المفتوحة لتدارس موضوع ديني محدّد ، وأعلاها اقامة حوزة علمية ثابتة في المسجد ... ويمكننا أن نتصوّر مجموعة من النشاطات الثقافية في المساجد :
أ ـ إقامة درس ديني مختصر بعد الصلاة يلقيه إمام المسجد أو مَن ينوب عنه ، كشرح آية أو رواية ، أو توجيه معيّن .
ب ـ عقد حلقات علمية يومية في وقت محدّد ، والإعلان عنها ، على شكل محاضرات أو ندوة تدوم ساعة أو أكثر .
ج ـ عقد درس خاص لفئة محدّدة من الناس كطلاّب الجامعة ، أو طلبة الحوزة ، أو طلاّب الثانوية مثلاً ، ويهتمّ البحث بمادّة علمية معيّنة كبحث فقهي أو تاريخي ، أو النظام الاجتماعي في الإسلام ، وما إلى ذلك .
د ـ توزع الدروس حسب المستويات الثقافية ، والأعمار .
هـ ـ عقد دروس للعلوم الإسلامية ، كالفقه ، والأصول ، والتفسير ، وعلم الكلام ، والعقائد ، والأخلاق ، وما إلى ذلك حسب برنامج زمني مُحدّد ، وطلاّب محدّدين ، هذا وهناك مواضيع ثقافية أخرى تحدِّدها الظروف والحاجة .
3 ـ المسجد والدّعاء الجماعي : من العبادات المهمّة لدى المسلمين : عبادة الدّعاء ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر المسلمين دعاءً لله عزّ وجلّ ; يدعو عند الفـرح ، ويدعو عند الحزن ، ويدعو عند الضِّيق ، ويدعو عند الطعام وبعده ، وعند النوم ، وبعده ، وعند الصلاة ، وبعدها ، وعند النعمة ، وعند نزول البلاء ... وكان الأئمّة من آل البيت (عليهم السلام)كثيري الدّعاء ، كذلك كان الصحابة النجباء ، والتابعون ، والصالحون ، والأولياء في هذه الأمّة ، على مدار التاريخ ...
وقد تشتدّ الحاجة إلى الدّعاء عند الحاجة ، والضيق ، والمحنة أكثر من الأوقات العادية، كما يزداد الاهتمام بالدّعاء في مواسم خاصّة كشهر رمضان مثلاً ...
ومن أجل ذلك فانّ المساجد ينبغي أن تهتم بالدّعاء الجماعي، وذلك لأهمّيته الروحية ، والعبادية ، ولاشتمال الأدعية كذلك على مفاهيم ، وقيم دينية عظيمة كالتوحيد، وأدب الخطاب من قبل العبد لربّه تعالى، وذكر الآخرة ، وطلب العون من الله تعالى ، والرِّضا بقضاء الله عزّ وجلّ ، والدّعاء على الظالمين ، وطلب العون عليهم ، إلى غير ذلك ...
ومن المفيد أن تتبع المساجد النظام التالي بخصوص الدّعاء :
أ ـ قراءة الأدعية بصوت مسموع أمام المصلِّين ، وأن يخصص لكل يوم دعاء مثلاً ، ويفضل أن تقرأ الأدعية المأثورة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة الهدى (عليهم السلام) ، وتمثِّل « الصحيفة السّجّادية » التي كانت تسمّى زبور آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أروع النماذج في الأدعية المأثورة عن أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهي صحيفة الإمام السّجّاد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، رواها عنه أبناؤه ، وتوارثوها كابراً عن كابر ...
ب ـ استثمار المناسبات التي تمر بها الأمّة ، لقراءة الدّعاء المناسب للأحداث ، والمناسبات ، كأدعية شهر رمضان ، أو أدعية الجمعة أو أدعية الأعياد وما إلى ذلك ، وفي تراثنا الإسلامي أدعية رائعة في هذا المضمار .
ج ـ يفضل أن تشرح مفردات الأدعية عند قراءتها لتكون أكثر تأثيراً على النفوس .
د ـ تشجيع المصلّين على قراءة الأدعية في البيوت لإشاعة جو روحي في الأسر ، وفي البيوت .
4 ـ لا بدّ للمسجد من مكتبة عامّة : من شروط المسجد المؤثر الفاعل في حياة المسلمين أن يضم مكتبة عامّة للمؤمنين ، وأبنائهم ، ولو كانت صغيرة ، تضم أهمّ الكتب الإسلامية ، والثقافية الضرورية كالمصاحف والتفاسير ، وكتب السيرة ، والفقه ، وكراسات للأطفال ، والنِّساء ، ويتولّى مسؤول المكتبة في المسجد ، تنظيم المطالعة داخل المسجد أو خارجه ، ويمكن أن يقوم المشرفون على المكتبة بالفعاليات التالية :
أ ـ تشجيع المصلّين ، وأسرهم ، وأبنائهم على المطالعة ، لا سيّما قراءة القرآن الكريم .
ب ـ تشجيع الكتابة والتأليف .
ج ـ إقامة ندوات ثقافية ، واحتفالات إسلامية بالمناسبات .
د ـ إصدار منشورات ، وكراسات تشتمل على مواضيع إسلامية واجتماعية نافعة .
هـ ـ إقامة صندوق لجمع المساعدات لدعم مشروع المكتبة مادّياً .
هذا ويمكن أن تكون المكتبة التابعة للمسجد في بناية مجاورة إذا تيسّر ذلك ..
ومن الضروري أن يصدر المسجد من خلال المكتبة العامّة نشرة جدارية ، يساهم فيها القادرون على الكتابة والناشئون منهم على وجه الخصوص ، لنشر المعرفة ، والتدريب على الكتابة ، وإشاعة الحسّ السياسي لدى المصلِّين .
5 ـ السفرات الجماعية : من أجل التأليف بين قلوب المؤمنين ، وتمتين العلاقات الأخويّة بينهم يفضل أن يهتم المسجد في المدن والقرى بالسفرات الجماعية للرِّجال والنِّساء كل على حدّه ، كالذهاب إلى الأماكن المقدّسة أو غيرها كالسفر إلى بلد ما من أجل السياحة ، ولابدّ أن يكون للسفرات برامج ثقافية خاصّة ، كالمسابقات الأدبية ، والثقافية ، وصلاة الجماعة ، والرياضة ، وما إلى ذلك ..
6 ـ المبرات والأعمال الخيرية : والمساجد لدى المسلمين أخصب الأماكن لفعل الخير ، والنشاط الاجتماعي الصالح كتأسيس صندوق القرض الحسن ، وآخر لرعاية أيتام المنطقة وصندوق لإطعام الفقراء أو إكسائهم ، ومساعدات لتزويج العزاب ، أو معالجة المرضى ، وكبار السن ، وغير ذلك .
هذا ومن الجدير بالذِّكر انّ هذه الفعاليات والنشاطات تشمل الرِّجال والنِّساء معاً ، فتقسم فعاليات المكتبة مثلاً على الجنسين ، فبعض الأيّام تخصص للرجال ، وأخرى للنساء ... وكذا الحال في حقل السفرات ، والاجتماعات ، والندوات ، بما يحافظ على خصوصيّات المجتمع الإسلامي النظيف ...
على انّ فعاليات المسجد ونشاطه لا بدّ أن تناط بلجنة خاصّة من الأخيار والمثقّفين المعروفين، لتنفيذ تلك الفعاليات، والحرص على أدائها، والتفكير المستمر برفع شأن المسجد ومن حوله من الناس ، أخلاقياً وتربوياً وروحياً وسياسياً واجتماعياً ... ويفضل أن تنضبط لجنة المسجد بورقة عمل تحدِّد صلاحياتها ، وواجباتها ، ونظام صرف الأموال الواردة للمسجد على شؤونه المذكورة .
فإنّ إناطة ادارة المسـجد إلى لجنة أو هيئة إدارية ، يُساعد على توزيع الأعمال وأدائها بصورة أفضل ، بالاستفادة من الخبرات المتنوِّعة والطاقات المتعدِّدة لأعضاء اللجنة .
كما يُساهم ذلك في استدامة عمل المسجد وسلامة تنفيذ الأعمال ، حيث أنّ الفرد معرّض للحياة والموت والصحّة والمرض والقوّة والضّعف والغنى والفقر ، ووقف عمل المسجد أو سائر الأعمال عليه ، يُهدِّد ذلك العمل أو تلك الأعمال بالأعراف الفردية والآفات التي يمكن أن يتعرّض لها الانسان !
لذا ، فإنّ ادارة الأعمال الخـيرية بواسطة مؤسسـات ذات إدارة جماعية ونظام معيّن ، يضمن لهذه الأعمال الاستمرارية بحيوية ونشاط وفق النهج الذي أسِّست عليه ، بإذن الله تعالى





دور المسجد في بناء المجتمع

إن كيان هذه الأمة والفضائل السمحة التي تتحلى بها نابعة من تراثنا ومن ديننا، فالقيم الروحية والتقاليد الدينية هي التي تحكم حياتنا، وتوجه سلوكنا، وتكسبنا ما نحن عليه اليوم من تماسك وتعاون وتوحد في الفكر والعمل، وقد ظللنا نتوارث ذلك خلفاً عن سلف، يسلمه الأجداد أمانة للآباء وينتقل من الآباء للأبناء، ليتركز مع الزمن، ويصبح دعامة من دعامات المستقبل المشرق بإذن الله. وقد ظلت هذه الأمانة باقية على الزمن طوال هذه القرون تغذي أرواحنا، وتبني شخصياتنا، وتحافظ على وجودنا، رغم كل نكبات الدهر وظروف الفقر والقهر والطغيان التي تعرضت لها أمتنا في تاريخها الطويل. ظلت هذه الروح حية مشرقة دون رعاية من حاكم أو سند من مؤسسة أو جماعة، ولكنها كانت تستمد حيويتها وقوتها من إيمان الناس بأنفسهم وبتراثهم، الذي هو مصدر قوتهم وسبيل بقائهم. وكانت المساجد وخلاوى القرآن الكريم والزوايا هي مراكز الإشعاع في حياة الناس، هي التي حفظت للأمة تراثها، وصانت عقولها وقلوبها من ظلمات الجهل والخرافة، ورفعت أميتها في زمان كان الجهل فيه سمة العصر. إننا أيها الأخوة مدينون لبيوت الله وخلاوى القرآن بكل ما نحن عليه اليوم من صفات، إذ لولا هذه البقاع الطاهرة التي يشع منها نور العلم على حياتنا، دون رعاية من حاكم أو عناية من سلطان، لفقدنا كل تراثنا وانفصلنا عن ماضينا، وصرنا نهباً للمستعمرين والمتسلطين الذين سعوا وما يزالون يسعون لتصبح حياتنا صورة من حياتهم مهما بلغت التكاليف.
وما دامت هذه المراكز الروحية هي سر بقائنا ومصدر عزتنا وكرامتنا، وإليها يرجع الفضل في المحافظة على ماضينا ورعاية تراثنا، فإننا نريدها في حاضرنا أن تؤدي رسالتها كما فعلت بالأمس، وأن تزيد على ذلك بأن تصبح سبيلاً لتطوير حياتنا، ودفعنا إلى الأمام على هدى وبصيرة، حتى يكون تقدمنا نابعاً من أصالتنا ومن تراثنا، وحتى يشترك الشعب بكل طبقاته وأفراده في عملية البناء وتعمير المستقبل، لأنه يحس بالدافع من ضميره ومن أعماق أعماقه. لقد قامت كل هذه المساجد والخلاوى والزوايا بعون الناس وبإيمانهم بالرسالة العظيمة التي تؤديها هذه الأماكن في حياتهم، ولكن ظروف الحياة الحديثة جعلت الكثيرين من الناس، خاصة من الأجيال الناشئة ينصرفون عن هذه المنابع الروحية دون أن يعلموا أن روح أمتهم وسر عظمتها وسبيل بقائها يرتكز على الصلة القوية القائمة بين الجماعة والجامع، فالجامع لم يسم الجامع إلا لهذه الصلة القوية بينه وبين الجماعة، لأنه يجمع شتات الناس، ويوحد ما بينهم حين يجتمعون فيه، وقد تجردوا من كل شيء إلا الإيمان بالله، والعمل لصالح الجماعة، وعلى هذين الأساسين تقوم التضحية ونكران الذات اللذين هما علامة المواطن الصالح. فواجبنا اليوم كأمة تسعى إلى تأكيد ذاتها وإبراز وجهها الحضاري المشرق أن نربط حياتنا أكثر وأكثر بمصدر القوة والإيمان في حياتنا وهو المسجد، وأن نجعل منه مرة أخرى مركز إشعاع في حياتنا مثل ما كان في ماضينا، وأن نستفيد منه روحياً وثقافياً واجتماعياً مثلما نستفيد من كل أوجه النشاط الثقافي الأخرى في حياتنا، ولابد أن نعيد ثقتنا بأنفسنا بعد أن شككنا المستعمِرون في ذلك، ولن نستعيد هذه الثقة بالنفس إلا إذا استعدنا ثقتنا بتراثنا وقدرته على صنع المستقبل، ولن ننجح في صنع المستقبل إلا إذا اعتنينا بأدوات المستقبل، وهم أطفالنا وملأنا أنفسهم بالثقة في ماضي أمتهم، فينشأون وهم فخورون بتراثهم، يفكرون فيه ويسعون لتطويره. ولكننا لابد أن نتطور مع الزمن، ونطور المساجد، حتى تجاري تطور الزمن، وحتى يجد فيها أبناؤنا وشبابنا ما يغريهم بالتردد عليها والاستفادة من إمكانياتها الروحية والاجتماعية. فلذلك رأينا أن يكون المسجد حلقة وصل بين المدرسة والمنزل، وذلك بأن نسعى لأن نجعل من المسجد عبارة عن مجمع لا يقتصر دوره على العبادة فحسب، بل يضم روضة الأطفال حتى يعاد الطفل منذ الصغر على الذهاب للمسجد، ويضم قاعة الدرس للشباب والشيب، ويضم إلى جانب ذلك مختلف أوجه النشاط الاجتماعي والثقافي، وبذلك يسهم المسجد في تأكيد القيم التي ننادي بها في مجتمعنا الجديد.





هذا ايضا حول الدور الاجتماعي:

المسجد و دوره الرسالي في حياة الامة




بقلم /صهيب الزيباري

للمسجد منزلة عظيمة في الإسلام، ومزايا جمة، فهو محراب للعبادة، ومدرسة للعلم، وندوة للأدب، وهو مصحة للأرواح كما هو مشفى للأبدان، وقد جعل اللـه للمساجد قدراً ومكانة، وكفاها فخراً ــ ما جاء بشأنها في القرآن الكريم ــ قول اللـه جلا وعلا: [ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ] [الجن/18] وبين اللـه سبحانه وتعالى لعباده بأن للمساجد مكان لعبادته وحده، والاعتراف بألوهيته وربوبيته، فلا يجوز الالتجاء والتوجه والدعاء إلا له سبحانه وتعالى.. وقد مدح اللـه جل وعلا أولئك الذين يعمرون المساجد بقوله: [ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ] [التوبة:18] وفي بيوت اللـه ترى المؤمنين خشعاً سجداً يسبحون بحمد اللـه، لا تشغلهم هموم الدنيا وما فيها.

علماً أن دور المسجد لم يكن محصوراً عند أداء العبادات، بل كان له ــ كما هو معروف تاريخياً ــ دور سياسي، وثقافي، واجتماعي، وتنظيمي، وقضائي، فالمسجد يربي أبناء الأمة الإسلامية على روح الجماعة والاتحاد، وأنه بمثابة مؤتمر مصغر لطرح مشاكل الأمة، وإيجاد الحلول لها، وغير ذلك من الأدوار الفعالة. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، في بيان قوله تعالى: [ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ] [النور:36-37].

[ فأتصور أن الرفع هنا ليس للدعائم والجدران، إنما هو للساحات الطَّهور التي تخصصت للركَّع السجود، فبعد أن كانت أرضًا عادية يغشاها أي إنسان أضحت أرضًا لا يدخلها إلا متوضئ، وبعد أن كانت لأي غرض عادي أضحت همزة وصل بين الناس ورب الناس، ومهادًا للمعراج الروحي الذي ينقُل البشر من مآربهم القريبة إلى مناجاة الله وتسبيحه وتمجيده! أليس هذا ارتقاءً معنويًّا للأرض نفسها؟].

فلا عجب أن ترى المسجد مهبطاً للملائكة، ومرتعاً لعباد اللـه الصالحين في الأرض، إذا حزبهم أمر هرعوا إليه، ولجأوا فيه إلى اللـه جل وعلا، القادر على كل شيء، والسميع لمن ينادي، والمجيب لمن يدعو، والمغيث للمضطر والملهوف، والشافي لجميع العلل والأسقام، والملاذ لمن يلوذ به، ويربط المسلم في المسجد حبله بحبل السماء الذي لا ينقطع، وفي المسجد تزكّى الأنفس، وتقر الأعين، وتهدأ القلوب، وترتاح الأرواح، ولا يشعر المسلم بالراحة والطمأنينة إلا بمعية اللـه جل وعلا، ومثل المؤمن ــ في بيت من بيوت اللـه ــ كمثل السمكة التي لا تعيش إلا في الماء، فالمسجد مكان خصب لتزكية الأرواح وبرئها من العلل، ويجب على الذاهب إليه أن يتهيأ نفسياً وجسمياً وروحياً من حيث النظافة، وطهارة الجسم والثياب، لأنه يصبح ضيفاً للرحمن خالقه وخالق الأكوان كلها، وكيف أنه إذا دخل على ملك يتهيأ نفسياً؛ فيلبس أجمل أثوابه ويتطيب بأذكى العطور، ويتأدب عنده بأدب جم، حتى أنه ليختار ألفاظه بعناية تامة، علماً أنه مخلوق مثله كسائر المخلوقات، لا حول له ولا قوة وليس بيده أجله ولا رزقه.

وفي المسجد تتصافى النفوس والقلوب، فليس هناك طبقية تمنع دخول المسلم إليه؛ مهما كان لونه وجنسه وقومه ولغته وسنه، ومكانته الاجتماعية، فلا فرق هناك بين ملك ورعية، وبين غني وفقير وعامل ووزير، ولا بين شريف وسوقة، فالكل هناك سواسية كأسنان المشط، وهو مكان أدب ووقار واتزان واستغفار، فلا مجال هناك للرفث والفسوق وقول الزور، والبيع والشراء، والعبث الفارغ، والخلافات والمشاحنات، وما أجدر في هذا المقام أن نذكر قول الإمام البنا ــ رحمه اللـه ــ عندما دخل بيتاً من بيوت اللـه، فوجد هناك خلافاً حول الصيغة الشرعية للأذان، فجمعهم الإمام البنا وسألهم هل الأذان الذي تختلفون عليه سنة أم فرض؟! قالوا: بل الأذان سنة. قال: وهل الحب والأخوة والوحدة، كما قال اللـه تعالى: [ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ] [آل عمران: 103] سنة أم فرض. قالوا: بل فرض. قال: فكيف نترك الفرض في سبيل خلافات على السنة. إذن فيقدم الفرض على السنة، واقتنع الجميع برأي الإمام، وانصرفوا بقلوب ملؤها الحب والرضى.

ويقرر أحد الكتاب في بيان دور المسجد في فصل الخطاب وإصلاح ذات البين: [ فإن سألت عن أسباب التشرذم بين المسلمين، قلت لك: ضياع فقههم لدور المسجد، وإن حيرتك كثرة خلافاتهم لَفَتُّ نظرك إلى تفريطهم بالقيام برسالة المسجد، وإن أذهلك التباين الشديد في آراء كثيرين منهم وتضارب أفكارهم، وبحثتَ عن حل فما أنت بواجد خيرا من المسجد، وإن أردت معالجة العلل وبناء النفوس وتربية الأمة وحمل العقيدة فعليك بالمسجد، وإن آذتك الأنانية الطاغية في الحياة والانهماك في الشهوات، والجفاء عن الخلق والأدب والدين، فاعلم أن بداية الإصلاح من المسجد؛ لا بالحفاظ على جدرانه ومعانيه مفقودة، ولا بتزيينه والقلوب خواء، ولا بملئه بأجسامنا والنفوس معلولة لا تعشق إلا متاع الحياة، بل بإعطائه حقه فيكون هو الفكر الواحد لكل الرؤوس ]. ومن هنا فإن [ أحد ضرورات المسجد بناء الفكر الموحِدِ الموحَدِ الذي يتناصح فيه الجميع رجالا ونساءً في ظلال دوحة إيمانية مباركة ].

كان المسجد في صدر الإسلام وفي القرون التي تلته يؤدي خدمات عدة، بالإضافة إلى تأدية العبادات، فكان يؤدي دور أرقى الجامعات من ناحية تخريج القادة المحنكين والعلماء الأفذاذ، وأصحاب المهن والكفاءات، وكذلك كان يقوم بدور المشافي في معالجة المرضى والمعاقين، ويقوم بدور الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات والصدقات للفقراء والمساكين، وكذلك يقوم بدور الكلية الحربية والأركان والتصنيع العسكري، لتخريج الجنود والجنرالات، وكذلك يقوم بدور مراكز الشباب من ناحية التوجيه والتقويم والإرشاد، وبث روح المحبة والألفة، وجمع الكلمة، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك يقوم بتكوين الأسر، وتربية الأطفال والنشء، كما يقوم برعاية الشؤون الاجتماعية من جميع النواحي، وكان بمثابة ملجأ وملاذ لمن لا مكان له ولا دار، فيجد فيه المسلم المطعم والمشرب، وهكذا أدى المسجد في القرن الأول والذي تلاه خدمات كثيرة؛ لا يستطيع أن يقوم بها في وقتنا الحاضر إلا جهات متخصصة ومؤسسات عدة، لذلك فلا عجب أن يبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام أولاً ــ عند وصوله إلى (بني عمرو بن عوف) عند هجرته إلى المدينة ــ ببناء مسجد قباء، وهو المسجد الذي أشار اللـه إليه جلت قدرته وتباركت أسماؤه في قوله: [ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيه فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ] [التوبة:108].

ومما هو معروف تاريخياً أن جحافل الأمة الإسلامية انطلقت من المسجد كقاعدة للبناء الحضاري، حيث جاء الإسلام رحمة للعالمين، فخرج المسلمون الذين تربوا في جامعة المسجد يتوجهون إلى كافة أصقاع الأرض ينشرون تعاليم الدين الإسلامي، ومن هنا فلا يستطيع المرء أن يكون داعياً ناجحاً ومربياً كفوءاً وأن يواصل المسيرة إلى نهاية المطاف ما لم يكن من خريجي المساجد، لأنه للمسجد مزية خاصة لا تتوافر في أماكن أخرى.. لذلك فالمسجد ــ لكل هذه المزايا ــ يعد أول مؤسسة حضارية وجامعة علمية أقيمت في الدولة الإسلامية بعد الهجرة النبوية.. ويعتبر المسجد قلب المجتمع المسلم وشريان حياته الاجتماعية، وهو يعكس صورة المجتمع المسلم في كل عصر، ويحدد مستوى التلاحم والتضامن بين أبناء الأمة الإسلامية، فإذا وجدت المساجد تكتظ بالمصلين فكن على يقين بأن الأمة الإسلامية هي قاب قوسين أو أدنى من النصر والتمكين، وإن أصبحت المساجد مهجورة ووجدت عند المسلمين فتوراً وبرودة فاعلم أن الهزيمة ستقع لا محالة؛ إن لم تتدارك الأمة أمرها قبل فوات الأوان. وقد تنبه اليهود إلى دور المسجد وأهميته حتى أنهم قالوا: إذا اكتظت المساجد بالمسلمين لصلاة الفجر كصلاة الجمعة، فعندها يأتي نصرهم وتأتي هزيمتنا.

ومما يبين أهمية دور المسجد؛ الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادَى (يستند على غيره لشدة ضعفه) بين الرجلين حتى يقام في الصف).

وقد ورد عن الرسول (عليه الصلاة والسلام) في تنظيم الصفوف بالمساجد من توكيد وتشديد، فتأمل في هذا الحديث: "أقيموا الصفوفَ، وحاذُوا بين المناكب، وسُدُّوا الخَلَل، ولِينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فُرُجات للشيطان، ومَن وصل صفًّا وصله الله، ومن قطعه قطعه الله".

ويذكرنا الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بثمار ذلك فيقول: من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال: آية محكمة وأخا مستفادا وعلما مستطرفا ورحمة منتظرة وكلمة تدله على هدى أو تردعه عن ردى وترك الذنوب حياء أو خشية.

ويؤكد (الشيخ مصطفى ملص) على مكانة المسجد ودوره وأهميته في حياة الجماعة المؤمنة، قائلاً: إن [المسجد الذي أدت تطورات الخلافات والصراع السياسي بين أجنحة وفرقاء المجتمع الإسلامي السياسي إلى تحويله من أهم مؤسسة دينية ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية إلى مؤسسة خاصة ببعض الشعائر والعبادات. فبعدما كانت المساجد بيوتاً للَّه صارت بيوتاً للصلاة، تفتح في أوقات الصلوات الخمس ويوم الجمعة، وتغلق أبوابها لدى انتهاء الناس من تأدية فرائضهم. وهناك فرق شاسع بين أن يكون الجامع بيتاً للَّه وأن يكون بيتاً للصلاة.. أن يكون المسجد بيتاً للَّه تعالى معناه أن يقوم بكل وظائفه، أما أن يكون بيتاً للصلاة فقط فهذا يعني أن المجتمع المسلم قد فقد أهم ركيزة من ركائز بنيانه الأساسية، ودعامة ترابطه الاجتماعي والإيماني]

محمد الشامري
06-04-2005, 01:09 PM
لاهنت يافالح والله يجزااااك خير

ولي رجعه اكمل الموضوع بأذن الله

والله يعطيك العافيه ولايهينك على جهدك

العنيد
06-04-2005, 01:16 PM
مرحبا والله ملايين بفالح العمره...لك خالص معاني الشكر والتقدير على هذ الموضوع الطيب..واحسنت يابن عمره....واسمح لي بهذه المداخلة التى قمت بنقلها من متصفح اسلامي عن دور المسجد:
إن المسجد في المفهوم الإسلامي الخالص هو مقر إعلان العبودية الخالصة لخالقنا
{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً } ، وبما أن العبادة في المفهوم الإسلامي شاملة جامعة لحياة الإنسان العابد لله تعالى { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162-163]

وبما أن العلم في الإسلام شرط أساسي في أداء العبادة الصحيحة بمفهومها الشامل، فلابد إذن من أن يقوم المسجد بدور نشر العلوم بل وأن يصبح منارة ومقصداً علمياً.

وقد قام المسجد بدوره التعليمي منذ أيامه الأولى، وحث رسول الله على هذا الدور العلمي لقوله صلى الله عليه وسلم: « من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان كأجر حاج تاماً حجه » أخرجه الطبراني, وهذا المقصد التعليمي أوضحه وبيَّنه صلى الله عليه وسلم في حديثه ليفرق بينه وبين البعد الشعائري من إقامة الصلوات في المساجد.

ولم يقتصر الدور التعليمي للمسجد على الرجال بل نافست عليه النساء، لما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي: " غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك, فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن " . وفتح المسجد صدره للمرأة تشهد دروس العلم ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم ومشاركة الرجل في الحياة, وقد أُعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين بإقبال الأنصاريات على العلم فقالت: " نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين " .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرف على حلقات العلم التي كانت تنتشر في أرجاء المسجد النبوي الشريف، خاصة في بواكير الصباح حيث حدث عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بمجلسين أحدهما فيه دعاء وإقبال على الله والآخر فيه علم, فأقرَّهما وقعد في مجلس العلم, وشجع رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدام الوسائل المتاحة آنذاك لتوضيح المعاني والدروس سواء كانت بصرية أو سمعية, ومن أمثلة ذلك ما رواه ابن مسعود بقوله: خطَّ لنا رسول الله خطاً بيده ثم قال: « هذا سبيل الله مستقيماً » وخط عن يمينه وشماله ثم قال: « هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه » ثم قرأ { وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام:153].

ولو أن الوسائل التعليمية المتاحة لنا في عصرنا هذا وجدت في عصر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لحثَّ على استعمالها، وكان أول من يستعملها صلى الله عليه وسلم.

واستمر المسجد في التطور والنمو جيلاً بعد جيل، ليؤدي مهامه في صناعة الحياة ليصبح جامعات ومنارات علمية وفكرية رائدة, والأمثلة كثيرة نذكر بعضها مثل جوامع الألف -وسميت كذلك لأنه مضى على تأسيسها أكثر من ألف عام- مثل جامع عمرو بن العاص، قلب الفسطاط الفكري، ومهد الحركة العلمية في مصر، والذي كان يشهد مئات الزوايا العلمية, والجامع الأموي في دمشق وجامع المنصور ببغداد, وجامع القرويين في فاس بالمغرب الذي امتاز بالنظام التعليمي الجامعي وطرق التدريس فيه، فكان له شروط دقيقة للتعيين ووظائف التدريس وتخصيص كراسي الأستاذية والإجازات الفخرية, وكان له مساكن جامعية خاصة للطلبة والأساتذة، ومكتبات متخصصة للدارسين الجامعيين، فقصدها المسلمون وغير المسلمين من شتى أرجاء العالم،, أما جامع الزيتونة بتونس فقد أبدع في شتى مجالات العلوم النقلية والعقلية، وضمت مكتبته العامرة مايزيد عن مائتي ألف مجلد, وكذلك كان حال الجامع الأزهر الذي بدأ كغيره كمسجد لإقامة الشعائر التعبدية وسرعان ما أصبح جامعة يدرس فيها العلوم المختلفة، وتخرج فيها علماء عمالقة في كل مجالات الحياة.
واشتركت كل هذه الجامعات العظيمة في تشجيعها لطلبتها على مبدأ المناقشة والمناظرة والتمرس عليها, فأصبح من المألوف أن يخالف الطالب أستاذه في الرأي في إطار الأدب المتعارف عليه, وبهذا أوجدت المدرسة العظيمة التي يطلق عليها بالمسجد -بمفهومه الشامل- أجيالاً ستظل معجزة العالم ومفخرته, ولها فضل على كل علوم الدنيا شرعية أو كونية أو إنسانية, حيث كوَّنت أساس النهضة العلمية والصناعية.


ولكم خالص شكري

د.فالح العمره
06-04-2005, 01:27 PM
دور المسجد في تحقيق
مفهوم الأمن الاجتماعي



ورقة عمل مقدمة لندوة المجتمع والأمن المنعقدة بكلية الملك فهد الأمنية بالرياض من 21/2 حتى 24/2 من عام 1425هـ :
أ.د/ عبد الكريم بن صنيتان العمري
أستاذ بكلية الشريعة
بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

الجلسة الثانية/ الاثنين 22/2/1425هـ الساعة 10.45 صباحا
الدور الأمني للمسجد
رئيـــس الجلســــــة
معالي الدكتور/ أحمد بن علي المباركي
عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الورقة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن الأمنَ ركيزة أساسية، وقاعدة عظمى تستند عليها حياةُ البشرية، ودعامة كبرى يرتكز عليها إبداع وعطاء الإنسانية، ومقصِدٌ سام، يتطلع لتحقيقه الأفراد والجماعات، وتسعى لتوفيره الدول والحكومات، ويرتبط ما يطمحُ إليه المجتمع من رقي وازدهار، بقدر ما يتحقق في أرجائه من أمنٍ واستقرار، ويتعطشُ المجتمع للأمن كلما حَلَّت المآسي والنكبات، ولامست أرجاءه القلاقل والاضطرابات.
والمجتمع المسلم ينفرد عن غيره من المجتمعات بتشريعاته الفريدة، ونُظُمِه الخاصة، التي يستقيها من عقيدته الصافية، ويستمدها من جوهر شريعته الغراء السامية، فوحدته قوية، ورابطته وثيقة، عَمَّت أفراده على اختلاف ألوانهم، وتعدد أجناسهم، وتفاوت مستوياتهم، وضَمَّتهم جميعاً وشيجة الإيمان، ورابطة العقيدة الإسلامية التي هي أشرف الروابط وأوثقها، وأفضل الوشائج وأكرمها، فطرهم الخالق عليها، فتغذت نفوسُهم بمحاسنها، وأتْرِعَت أفئدتهم بفضائلها، رسّخَ الإسلام أسس حياتهم الاجتماعية، وأرسى دعائمها ثابتةً قوية، فألَّفت بين قلوبهم، ووحدت صفوفهم، ويزداد تماسكهم يوماً بعد آخر، حين يلتقون في المكان الذي شرع الإسلام أن يلتقوا فيه، وتجتمع أعدادهم في رحابه في جنباته تتوثق صِلاتهم، وتترسّخ علاقاتهم، ويتلقون جرعاتٍ إيمانية تهذب نفوسهم، وتقوم سلوكهم، وتحفظ وحدتَهم، تدوى كلمات الأذان لتنشر الأمن في ربوع المجتمع، ومن على منبره تنطلق التوجيهات المباركة داعية إلى التآلف والانسجام، والتماسك والالتئام، وفي صحنه تتغذى النفوس بثمرات الإيمان، خاضعة للواحد الديان.
إن المساجدَ منابع ثَرَّةٌ تفيض بالأمان، ومراكز إشعاعٍ تضيء الطرق لهداية الإنسان، وترسِّخ في نفسه الشعورَ بالارتياح والاطمئنان، ليصبح المجتمع آمناً مستقراً، وتقوى الصلة بين أفراده، وتتوطد العلاقة بين أبنائه، ويعيش الجميع حياةً سعيدة في ظلاله الوارفة.
ولإبراز الأدوار الريادية السامية، التي يضطلع بها المسجد في توطيد دعائم أمن المجتمع، وتوضيح المجالات الفاعلة التي يقوم بها في تثبيت قواعد أمنه وسلامته، كان هذا البحث الذي أحببت أن أسهم فيه لإثراء هذا الموضوع المهم، الذي انبثقت فكرة الكتابة فيه من مركز البحوث والدراسات بكلية الملك فهد الأمنية، فتلقيت دعوة كريمة للمشاركة من القائمين عليها، الذين أشكرهم لإتاحة الفرصة للإسهام بالكتابة في هذا الموضوع، والالتقاء بالأخوة الباحثين والمحاضرين، على مائدة (المجتمع والأمن)، فلهم جزيل الشكر ووافر الامتنان.
وقد جعلت البحث في تمهيد وفصلين وخاتمة، جاءت على النحو الآتي:
التمهيد :
. في بيان مكانة المسجد في الإسلام.
الفصل الأول :
. الوظائف الأمنية للمسجد.
الفصل الثاني :
. دور الإمام والخطيب في تفعيل الوظائف الأمنية للمسجد.
الخاتمة:
. نتائج البحث والتوصيات.
والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، ويهدينا سواء السبيل ويحفظ علينا ديننا، ويحرس بلادنا من كيد الكائدين، ومكر الحاقدين، وأن يعم الأمن سائر أرجائها، وينعم الجميع بالاستقرار في ظلالها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
عبد الكريم بن صنيتان العمري
غرة محرم 1425هـ

تمهيد
مكانة المسجد في الإسلام
ينظرُ الإسلام إلى الحياة نظرةً عامة وشاملة، من حيث اعتبارها ميداناً واسعاً، ومكاناً رحباً، يُعْبَدُ اللَّهُ تعالى في أرجائه، ويطاع في سائر نواحيه وأجزائه، إلا أنه بَوَّأ المسجدَ مكانة خاصة، ومنحه فضائل فريدة، وميَّزَه بخصائص عديدة، باعتباره منطلق الدعوة إلى الخالق جل وعز، ومركز الإشعاع الأول، الذي انطلقت من جنباته أحكام التشريع، وانبعثت من ردهاته أشعة الإيمان.
لقد عَظَّم الإسلامُ المسجد وأعلى مكانتَه، ورسَّخَ في النفوس قدسيتَه، فأضافه اللَّهُ تعالى إليه، إضافةَ تشريفٍ وتكريم.
فكان أن احتل المسجد مرتبةً مميزة في أفئدة المسلمين، تزكو به نفوسُهم، وتطمئن قلوبُهم، وتتآلف أرواحهم، وتصفو أذهانُهم، يجتمعون فيه بقلوبٍ عامرةٍ بالإيمان، خاشعة متذللةٍ للخالق الديان.
إن في بدئه –عليه الصَّلاة والسَّلام- ببناء المسجد لحظة وصوله المدينة، وشروعه في إقامة مسجده في قلبها، ليعطي دلالة كبرى على الدور البارز الذي يقوم به المسجد، ويضطلع به في المجتمع المسلم، وفي حياة المسلمين العامة والخاصة، إذ هو بداية الانطلاق في تكوين لمجتمع الإسلامي، ومركز الإشعاع الفكري والحضاري الأول، الذي انبثقت منه أنوار الهداية والإرشاد، وشَعَّ من قلبه ضياءُ التوفيق والرشاد.
فالمسجد منبع الحضارة الإسلامية الشاملة والضافية، ومصدرُ الضياءِ الفكري والأخلاقي، ومَبْعَثُ الخلق الأدبي والتربوي والاجتماعي، الذي رسم للبشرية طريق السعادة والفلاح، وسبيل التفوق والنجاح،وصاغ حياة الناس على أساسٍ من التوجيه الديني القويم.
إن المسجد لم يكن مكاناً للطاعة والتعبد، ومقراً للصلاة والتهجد، بل هو – بالإضافة إلى ذلك - تاريخ حافل بالإنجاز والمكرمات، وموئل يلتقي فيه المسلمون لتلقي المواعظ والإرشادات، والاستماع إلى النصائح والتوجيهات، وينصتون إلى ما يُلقى فيه من الوصايا والعظات، ويعرضون فيه ما يحدث بينهم من عوائق ومتغيرات، ويتناولون فيه ما يطرأ في مجتمعهم من تغيّر واختلافات، ويتشاورون في جنباته لحل مختلف القضايا والمشكلات.
فرسالة المسجد شاملة ومتنوعة، وضافية ومتعددة، تنتظم مجالاتٍ مختلفة لنشر القيم الإسلامية، وغرس الآداب والأخلاق الحميدة، وإبراز سمو الإنسان وكرامته، والحفاظ على وجوده وحياته، وتقويم سلوكه، وإشعاره بالأمن والطمأنينة، من خلال الأدوار المتعددة، والمجالات المختلفة التي يضطلع بها المسجدُ لتحقيق الأمن الاجتماعي، وتوفير الطمأنينة النفسية والروحية، التي تخفف عن الناس أعباءَ الحياةِ وآلامها، وتكبحُ فيهم جموح الغرائز وشهواتها، وترسّخ أواصر المحبة، وروابط الألفة بين الأفراد، وبسط الأمن الوارف في ربوع المجتمع، ونشر الاستقرار والاطمئنان في أرجائه، وتوطيد قواعده، وتثبيت دعائمه.

أثر المسجد في تحقيق الأمن الاجتماعي
الفصل الأول : ؟ لوظائف ؟ لأمنية للمسجد
وتحته ستة مباحث:
* المبحث الأول : المسجد مصدر الأمان.
* المبحث الثاني : صلاة الجماعة.
* المبحث الثالث : القرآن وحلقات التحفيظ.
* المبحث الرابع : الخطب والمحاضرات.
* المبحث الخامس : التعارف والتآلف.
* المبحث السادس : المساواة وترسيخ الأمن.

إن الصورة المشرقة للمسجد في الفكر الإسلامي، والمكانة الخاصة له في نفوس المسلمين، تجعل منه ذا أثرٍ فاعل ومهم في حياة الناس، حيث يهرع المصلون إلى المسجد لأداء العبادة، ويترددون عليه للقيام بما افترض عليهم، ومن خلال ذلك استقرت في أذهانهم الثقةُ بالمسجد، وتأصلت في نفوسهم قناعة تامة بما يسمعون فيه، وأصبح ذلك مترسخاً في قلوبهم، فما يصدر منه، وما يُلقى فيه محلَّ ثقةِ الجميع واطمئنانهم.
وعند التأمل في الأدوار التي يقوم بها المسجد، والعوامل المرسخّة للأمن، المنبثقة من بين أرجائه وجنباته، يمكن أن نخلُص إلى العديد من المجالات المحققةِ للأمن الاجتماعي من خلال المسجد، ومن أهمّها:


المبحث الأول
المسجد مصدر الأمن والأمان
للمسجد قدسية خاصة، ومكانة فريدة في قلب كل مسلم، فهو المكان الذي تطمئن فيه النفوس، وتهنأ في رحابه القلوب، وتجد فيه الخلاص مما يساورها من قلق، والنجاة مما تشعر به من خوف، والراحة مما تحس به من اضطراب، إذ تتردد في جنباته أسبابُ الاطمئنان، وبواعث الاستقرار والأمان، ومنها ذكر الله تعالى، وتتلى فيه آياتُ القرآن الكريم، ويسمع في أنحائه كلُّ ما يطهر القلوب، ويصفي النفوس، وينقي الأفكار والأذهان، ويزكي الأرواح ويهذبها، ويغذيها ويشحنها بروح اليقظة الإيمانية، والاستقامة السلوكية.
فكلما ازداد تردد المسلم على المسجد، كلما ازداد تعلقاً به، والتصاقاً بخالقه، وقرباً من مولاه وسيده، فارتقى بروحه نحو مرضاة الرب، ومحاسبة النفس، ومراتب الفضيلة، وابتعد عن النوازع العدوانية، والدوافع الإجرامية.
إن الفرد حين يلتصق بالمسجد التصاقاً وثيقاً، ينعكس أثر ذلك إيجاباً على المجتمع بأسره، حين يتلقى في المسجد معاني الفضيلة، وقيم الإسلام السامية، التي تشيع في النفوس الاطمئنان، فتستقيم على المنهج الحق، وتنحسر فيها دواعي الشرور والإفساد.
والمسجدُ موئل يتسابق إليه المسلمون إذا نزلت بهم كارثة، أو حَلَّت بأوطانهم مصيبة، أو داهم ديارهم خطب، أو هددهم خطر، فيلجؤون فيه إلى ربهم، وتخضع نفوسهم لعظمته، ويلحون عليه بالدعاء، ويظهرون له الذل والخضوع والاستكانة، ليفرج كرباتهم، ويزيح أحزانهم، ويكشف بلواءهم، ويدفع عنهم الشرور والأدواء، ويرفع عنهم المصيبة والبلاء، ويفيض عليهم من خيراته، ويعمهم بفضله ورحماته.
فحين تصاب البلاد بالقحط، ويعمها الجدب، وينقطع عنها الغيث، أو يتأخر نزوله، فتغور المياه من الآبار، وتموت الزروع والأشجار، يفزع الجميع إلى المساجد ليصلوا صلاة الاستسقاء، وترتفع أيديهم إلى مجيب الدعوات، ويتضرعون إلى فارج الكربات، ويريقون ماء الأسف على أوراق الذنوب والخطيئات، حتى يفتح عليهم من الفضائل والبركات، ويفيض عليهم من النعم والخيرات، ويغير حالهم من شدة إلى رخاء، ومن عسر إلى يسرٍ وطمأنينةٍ وصفاء.
ويهرع المصلون إلى المساجد، حين يخوفهم ربُّهم بالآيات، وتحل بهم المصائب والنكبات، والتي تهتز من هولها المشاعر، وتقشعر من عِظَمِها الأبدان، كالزلازل والصواعق والفيضان، وكسوف الشمس وخسوف القمر وانفجار البركان، بسبب التمادي في الغي والعصيان، فينطرح الجميع بين يديه، بدعوات خاشعة، وقلوب خاضعة، وعيون دامعة، حتى يكشف ما حل بهم من البلاء، ويرفع ما نزل ببلدانهم من الأضرار وعضال الداء.
ولتكون هذه الآيات موعظة وذكرى، ليأخذوا حذرهم، ويستدركوا ما فات في بقية عمرهم، ويستعدوا لما هو آت، ويَجِدُّوا في إصلاح أنفسهم وتزكيتها، ويجتهدوا في تقويم اعوجاجها وتربيتها، حتى يتحقق لهم موعود ربّهم، فيزول عنهم الحزن، ويذهب عنهم الخوف، وينحسر عنهم القلق، وينعموا بالأمان، ويعمهم الاستقرار والاطمئنان.
** ** **
المبحث الثاني
صلاة الجماعة
المسجد أعظمُ مكان يُقَوّى صلةَ العبد بخالقه، إذ فيه تحقيقٌ للراحة النفسية، والاطمئنان القلبي، والسلامة من الهموم والمنغصات، والخلاص من الغموم والمكدرات، بأداء العبادة، والمواظبة على الطاعة.
إن دوام ارتباط المسلم بهذه البقعة الطاهرة، وتعلقه بها، لا ينفك عنها طوال حياته من شأنه أن يعمق إيمانه، ويُرسّخَ صلته بربه، فهو يؤدي الصلاة المفروضة خمس مرات في اليوم، ويتردد على المسجد ليصلي مع إخوانه، فتتلقى النفس جرعات إيمانية متوالية، تجعلها بعيدة عن الغفلة، منقادة للحق، ساعية في مرضاة الرب، حتى أصبح صلاحها واستقامتها مرتبطاً بالصلاة، وبها انشراحها وسعادتها، وأمنها وأنسها، وفرحها وسرورها، وسكونها وطمأنينتها، كما أن فقدانها سبب في شقائها وتعاستها، وخوفها واضطرابها، وحزنها وقلقها.
فالصلاة مصدر الأمن والاستقرار، وينبوع السعادة والاطمئنان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ~( ):
((القلب فقير بالذات إلى الله تعالى من جهتين: من جهة العبادة، ومن جهة الاستعانة والتوكل.
فالقلب لا يصلح ولا يفلح، ولا ينعم ولا يسر، ولا يلتذ ولا يطيب، ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة، من حيث هو معبوده ومحبوبه، ومرغوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور، واللذة والنعمة، والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيـل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقرٌ إليه حقيقـة انتهى كلامه ~.

فالصلاة تنظم سلوك الفرد، وتجعله يسير وفق منهج الخالق وتشريعاته، وتصقله على الالتزام بهدي المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وتربيه على مقاومة كل ما في نفسه من ضعف، والتغلب على ما يتجاذبها من شهوات، وما ينازعها من الشرور والمفسدات، وما تفكر به من عدوان، فالعبادة تأطرها على أن تكون منبع خير وأمان، ومصدر ضبط واعتدال واتزان.
فإذا اصطبغت بذلك نفوس المصلين، وأصبح سلوكها تبعاً للوحي الإلهي، والنهج القرآني، سار المجتمع بأفراده على الصراط السوي، وسلم –بإذن الله تعالى- من كل ما يعكر صفوه، أو يثير في أوساطه ما يزعزع أمنه.
وبذلك يظهر الأثر القوي، والدور الحيوي للمسجد في ترسيخ دعائم الأمن، وتوطيد قواعد الاستقرار في ربوع المجتمع، فالصلاة ذات أثر مباشر في تقويم سلوك الأفراد، وهي وسيلة فاعلة للوقاية من الانحراف، وعامل قوي للحماية من الجريمة،

المبحث الثالث
القرآن الكريم وحلقات التحفيظ
القرآن الكريم كلام الخالق جل وعز، فيه من الهدى والرشاد، والحكمة والسَّداد، والعبر والمواعظ، ما تلين له الصخور الصماء، وتتيقظ من سباتها القلوب العمياء، وفيه ترغيب في الفضائل، وترهيب من الرذائل، بما يرتقي بالإنسان إلى أعلى الدرجات والمنازل.

وفي بيوت الله، تتلى آيات القرآن الكريم، ويتردد صداها في جنباته، ينطلق من أفواه القراء هذا الذكر الحكيم، أو من المدارسة لآياته، إما في حلقة لتعليم التلاوة والتجويد، أو درس لتفسير آيات الكتاب العزيز، أو تلاوة مع التدبر والتفكر في مواعظ القرآن الكريم وهداياته، أو قراءته من إمام المسجد في صلاة الجماعة.

ولا يخفى على أحدٍ مكانة القرآن في نفوس المسلمين، وأهميته في تحقيق الراحة النفسية، والاطمئنان القلبي، والسلامة من القلق والهموم، والخلاص من الأفكار الذميمة والغموم، وحين تجتمع القلوب على تلاوة آيات القرآن الكريم وتتحلق على مأدبته الفاضلة، في أشرف البقاع، بيوت الله، فإن ذلك يضفي عليها أجواء من السكينة والارتياح، ويكسوها برحمة الخالق فتطمئن بها الأرواح، روى أبو هريرة  أن رسول الله ‘ قال: >ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده<( ).

ومن هذا يتضح فضل قراءة القرآن في المساجد، وأهمية إقامة الحلقات القرآنية فيها، لما لها من أثر فعال في غرس الأمن النفسي في نفوس القراء والمستمعين، وحلول السكينة والطمأنينة، وانعدام القلق والاضطراب، والجنوح إلى الرفق والإحسان، وبعث الارتياح والأمن والاطمئنان
وبالتالي فإنَّ المواظبة على قراءة القرآن وسماعه – وبالأخص في المساجد - مدعاة لاطمئنان القلوب، وأمن النفوس، ووسيلة فاعلة لتحقيق الحياة الطيبة لأفراد المجتمع، وبث الأمن النفسي في أوساطه، وإزالة الخوف والعنف من نفوس أبنائه، وغرس معاني التوكل على الله تعالى، والرضا بقضائه وقدره،والتحلي بالصبر في معالجة المصائب، وصيانة النفوس من الانحراف السلوكي والخروج بها من المصاعب.


إنَّ آيات القرآن الكريم، والتي تتردد على مسامع المصلين في المساجد تمثل دستوراً تربوياً يقي المسلمين وأبناءَهم والأجيال الصاعدة، والنشء اللاحق شرور المخاطر، والانزلاقات الفكرية، والانحرافات العقدية، ومخاطر العادات المقيتة، ويحفظ الجميع من الانسياق وراء الإغراءات الوافدة، والنزعات الفكرية المضللة، ويحميها من الشكوك الزائفة، والشبهات البغيضة، المحركة للفتن المضللة، والصادة عن سبيل اله القويم، والصارفة عن صراطه المستقيم، ولقد عجزت المجتمعات غير المسلمة أن تحقق الأمن في نفوس أفرادها، وفشلت جهودها لترسيخه في مجتمعاتها رغم أجهزتها المتقدمة ونظمها المتطورة، وإمكانياتها الهائلة، لأن الأمن الحقيقي ينبع من داخل النفوس، وينبعث من سويداء القلوب، فيفيض على المجتمع راحة وسلاماً، وسعادة وأمناً واطمئناناً
** ** **

المبحث الرابع
الخطب والمحاضرات
يقوم المسجد بدورٍ مهمٍ في التربية والدعوة، وإرشاد الناس وتوجيههم، وتقوية الوازع الديني، والحفاظ على الوحدة الإسلامية حقيقة ومظهراً.
ولقد كان المصطفى عليه الصلاة والسلام، يجلس بالمسجد النبوي، يعلم الصحابة أحكام دينهم، ويبصرهم بعاقبة أمرهم، حتى كان التنافس بينهم في التسابق إلى حضور مجلسه، والتقدم للظفر بالإنصات إليه، لينهلوا من مناهله الثرة العذبة، فلم يكن المسجد مخصصاً للعبادة فقط، بل كان جامعة علمية للتربية الإسلامية، والعلوم المفيدة، ومنبعاً للثقافة، وتعلم القرآن وفهم آياته وأحكامه التشريعية، ودراسة الأحاديث النبوية الشريفة، والتفقه بنصوصها ومضامينها.
ولا زال المسجد يواصل دوره، ويؤدي رسالته في تعليم أفراد المجتمع وتوجيههم، من خلال النشاط العلمي المقام في جنباته، والذي يتنوع بين الحلقات العلمية والمحاضرات، وخطب الجمعة والندوات، والكلمات المرتجلة التي يلقيها إمام المسجد وخطيبه، أو يستضاف فيها علماء بارزون لهم أسلوبهم المميز في التعليم والإرشاد، فتنظم لقاءات متعددة على مدار الأسبوع، يتناول فيها المتحدثون ما تمس الحاجة إلى معرفته، وما يتصل اتصالاً وثيقاً بأحوال الناس، ومعالجة مشكلاتهم الاجتماعية، وإيضاح العلاج الناجع لها.
فللمسجد روحانية خاصة، وتميز فريد، حيث تتقبل النفوس ما تسمع فيه من كلمات، وتصغي القلوب إلى ما يلقى في رحابه من توجيهات، وتنصت إلى ما ينفعها ويرشدها إلى طريق الهداية والفلاح، ويقوم سلوكها نحو أداء الطاعات، وفعل الخيرات.
فالعلوم المتنوعة، والمعارف المتعددة، الموجهة من صحن المسجد ومنبره، تؤدي أهدافها الشرعية، وأغراضها التربوية في بناء المجتمع الآمن، واستقامة أفراده، وتقويم سلوكهم، وإقامة العدل، وأداء الحقوق، وترابط المجتمع، وتآلف أفراده، وإذابة الفوارق المصطنعة المؤدية إلى إيغار الصدور، وإيجاد النـزاع والشقاق في أوساطه.
فالتعليم في المسجد له سمة فريدة، وخاصية مميزة، عن التعليم المتلقى في أي مكان آخر، فالفرق بين التعلم في المسجد، والتعلم في غيره من وجوه، منها( ):
1- أن التعليم في المسجد يكتنفه جو عبادي، يشعر المعلم فيه والمتعلم والسامع أنهم في بيت من بيوت الله، فيكونون أقرب إلى الإخلاص والتجرد والنية الحسنة، لا يقصدون - في الغالب - من التعلم والتعليم إلا وجه الله تعالى.
2- أن التعليم في المساجد أشمل، حيث يدخل المسجد من شاء من العلماء المؤهلين، ليعلم الناس، كما أنه يدخل من شاء من المتعلمين أو المستمعين، فيستفيد في المسجد جمع غفير، العالم والمتعلم والمستمع.
3- أن علماء المسجد وطلابه أقرب إلى عامة الشعوب من طلاب المدارس والجامعات، حيث تجد عامة الناس يقبلون إلى عالم المسجد وطلابه، ويستفيدون منهم، كما تجد عالم المسجد وطلابه يهتمون بعامة الناس في التعليم والدعوة أكثر من غيرهم.
المبحث الخامس
التعارف والتآلف
يتميز المجتمع الإسلامي بسيادة شعور المحبة والتآخي بين أفراده، وشيوع روح الترابط والتماسك في أوساطه، وقد استمد تلك القيم من مشكاة الوحي وهدي النبوة، فأصبح نسيجاً فريداً في صفاء العلاقات البشرية، وشفافية الروابط الاجتماعية.
وحين نتأملُ انبثاق رابطة التآلف والتآخي السائدة بين المسلمين، والمصدر الذي شعت منه، لوجدنا أن للمسجد أثراً قوياً، ودوراً رئيساً في تكوين تلك الرابطة، فأهل الحي يجتمعون في المسجد كل يوم خمس مرات، يؤدون الصلاة جماعة،ويركعون لربهم ويسجدون، ويخضعون لجلاله ويذلون، وتسود بينهم روح الود والمحبة، والتقارب والألفة، إذ تتكرر رؤية بعضهم لبعض، والتقاؤهم في مكان واحد، وتراهم جميعاً غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، مأمورهم وأميرهم، يقومون جنباً إلى جنب في صف واحد.
إن التقاء المصلين في المسجد يعمق الاتحاد والإخاء بينهم، ويجعل منهم قوة متماسكة، ووحدة متآلفة،
فالمسلم يقابل أخاه في المسجد، فيسلم عليه، ويبادله تحية الإسلام، إحدى شعائر الإسلام الفاضلة، وقيمه السامية، وآدابه السلوكية الرفيعة، التي تتضمن معاني التكريم الصادقة والمودة والألفة، وتعمق روح التضامن بين المسلمين، روى أبو هريرة  أن رسول الله ‘ قال: >أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم<( ).
إن الإسلام ينشد السلام، لأنه الأمن والأمان، ويسعى إلى تعميقه في النفوس، وترسيخه في القلوب، وإشاعته بين الناس، حتى يشعر الجميع بالارتياح والأمان، والاستقرار والاطمئنان، ويسود بينهم الشعور الصادق، والعواطف النبيلة، حيث حَضَّ الإسلام على توطيد تلك الأخوة، وبيَّن مقتضياتها ومستلزماتها في كثير من النصوص،

وقال ‘: صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه<( ).
لقد أوضح المصطفى عليه الصلاة والسلام بثاقب نظرته التربوية، التي استقاها من تأديب ربّه له، أنه لا يستل سخائم الحقد من الصدور، ولا ينتزع أدران التنافس والحسد من النفوس، إلا أخوة صادقة تسود حياة المسلمين، وتعم المجتمع المسلم على أساس من المحبة والتواد، والتناصح والألفة والبِشر( )، وينتفي عنها الكيد والغل، ويزول الحسد والتباغض.
إن المسجد أهم وسيلة تعمق الصلات بين المسلمين، وتفتح قلوبهم للمحبة والتلاقي على الخير، وتغرس بذور المحبة في النفوس، وتتعاهدها بالرعاية على مدار اليوم والليلة، فإذا صفت النفوس، وتآلفت القلوب، عاش الجميع في أمن وسلام، ومحبة ووئام.
** ** **

المبحث السادس
المساواة وترسيخ الأمن في النفوس
يؤدي المسجد درواً مهماً في تهذيب النفوس، وتنقيتها من شوائب الحقد والضغينة، المؤدية إلى التشتت والافتراق، والمثيرة للنـزاع والانقسام والشقاق، إذ يغرس في نفوس الأفراد السلوك الصحيح لتنمية الشعور بأن الجميع أسرة واحدة، تجمعهم رابطة الإسلام، وتضمهم وشيجة الإيمان، وذلك من خلال المساواة التي هي من أبرز القيم التي أصّلها الإسلام في النفوس، والمنبثقة من وحدة الأصل الإنساني.
فقد أعطى الإسلام اهتماماً خاصاً لقيمة المساواة، وجلاَّها في أروع صورِها بين أفراده وهم يمارسون عباداتهم، وظهرت واضحة جلية مطبقة بين المصلين في المساجد.
فالإسلام منذ بزوغ فجره قضى على جميع الفوارق المصطنعة، وأزاح نظرة الاستعلاء التي كانت سائدةً في الحياة الاجتماعية الجاهلية.
فحين تنطلق من مآذن المسجد كلمة التوحيد مدوية في كل اتجاه، يستجيب المؤمنون لنـداء الحـق، ويلبون دعـوة خالق الخلق فإذا تكاملت أعدادهم، والتأمت جموعهم، أعلن المؤذن إقامة الصلاة، فانتظمت جموع المصلين صفوفاً متراصة خلف إمامهم، لا يمتاز شخص على آخر، بل تذوب كل الفوارق، وتزول جميع الحواجز، يضمهم الصف متجاورين، مهما تباينت أحوالهم المادية، ومستوياتهم الثقافية، وحالاتهم الاجتماعية، لا يجد أحدهم غضاضةً أن يقف بجانب أخيه، المأمور بجانب الأمير، والغني إلى جوار الفقير، والأبيض ملاصق للأسود، والتاجر مجاور للعامل، والمثقف مساوٍ للأمي، جميعهم في صفٍ واحد، لا تفاضل في مواقفهم، ولا تمايز في أفعالهم، لا يتقدم واحد بالركوع قبل إمامه حتى يركع، ولا يسجد حتى يسجد، ولا يزيد فعلاً، ولا ينصرف من صلاته قبل انصراف إمامه.
عبادة تتجلى فيها المساواة، وتبرز الوحدة بأسمى صورها، وأجل معانيها، فتعمق في نفوس المصلين انتماءهم إلى أصل واحد، وأنهم أمة نبعت من منبع واحد.
إن هذا المنظر البديع للمصلين، وتلك الصورة الفريدة، لا تتكرر عند غير المسلمين، ولذلك أبهرت المساواة الباحثين من المنصفين الغربيين، الذين عَبَّروا عن إعجابهم بالمعاني الفاضلة، والقيم السامية التي تظهر من خلال أداء الصلاة، والدور الفاعل لها في جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم.
تقول الكاتبة الإنجليزية ساروجيني ناديو في كتاب (محاضرات ومقالات):
إن الدين الإسلامي كان الدين الأول الذي دعا إلى الديمقراطية، وعمل بمبادئها، فلا يرتفع صوت الأذان من منارة مسجد، إلا ويأتي من يريد أن يعبد الله، فيجتمعون في صف واحد خمس مرات في اليوم، ويركعون لله على صوت التكبير، وتتجلى المساواة الإسلامية في أروع أشكالها، إنني شعرت مرة بعد مرة، بأن الإسلام بقوة الوحدة العملية يجمع أفراداً مختلفين من بني آدم، في سلك واحد من الأخوة( ).
ويعترف أحدهم بعظمة الإسلام في إقرار مبدأ المساواة، وتطبيقها عملياً في المجتمع، وأنها ذات أثر كبير في انحسار العدوان، وإزالة الشقاق، وإزاحة الخصام.
يقول المستشرق الإنجليزي روسكين جب، في كتابه (تجاه الإسلام):
لم يحرز مجتمع من المجتمعات البشرية نجاحاً مثل ما أحرزه الإسلام في إقرار المساواة بين الأجيال المختلفة، بصرف النظر عن الطبقات البشرية، وتنوع الفرص وإمكانية العمل، لقد تجلَّت من أوضاع الجالية الإسلامية في عدد من البلدان قدرة الإسلام على إذابة الاختلافات في الأجيال والتقاليد، التي لا تزول على مر القرون، وعلى مدار التاريخ، فإذا كانلا بد من إحلال عاطفة التعاون مكان الصراع والخصومة بين مجتمعي الشرق والغرب الكبيرين، فلا بد في ذلك من الاستعانة بالإسلام والاعتماد عليه في تحقيق هذا المطلوب( ).
إذاً فالمسجد يؤكد المبدأ القويم الذي قرره الإسلام من المساواة بين جميع أفراده، ويؤكد الحقيقة الناصعة من تساوي الناس كلهم أمام خالقٍ واحد، فالكل له عبيد، لا تفاضل بينهم إلا بتقواه، وشدة الخوف منه ورجواه، وهي دعوة إلى نبذ الاستعلاء، وتنقية الصدور من الكبرياء، وتصفيتها من الحنق والشحناء، فجميع الفوارق تتهاوى، وسائر الفواصل تتساقط، وتبقى التقوى الميزة الفريدة التي تسمو بها النفوس وتتسامى.
ووقف رسول الله ‘ أمام الجموع الغفيرة في حجة الوداع ليعلن المساواة ويؤكد عليها، فقال عليه الصلاة والسلام: >إنَّ ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى<( ).
إن المساواة تتكرر في المسجد كل يوم خمس مرات، حتى تترسَّخَ في نفوس المصلين ولا تُنسى، ولتتضاءل في أحاسيسهم كل الفوارق الزائفة، المؤدية إلى تفتيت المجتمع، والنخر في جسد الأمة، وإيغار النفوس، وتمزيق الصفوف، وليزول من المجتمع كل ما يؤدي إلى الضعف والوهن، وتبطل كل نعرة مقيتة تتسلل وتندس بين صفوفه، ويحل محلها المحبة والوئام، والتآلف والانسجام، حتى يبقى المجتمع قوياً آمناً، رصيناً متماسكاً، بعيداً عن كل ما يثير العداوة والشحناء، أو يسبب القطيعة والبغضاء.

الفصل الثاني
دور الإمام و؟لخطيب في تفعيل ؟لوظائف ؟لأمنية للمسجد
وتحته تمهيد وسبعة مباحث:
* المبحث الأول : تقوية الوازع الديني.
* المبحث الثاني : الالتفاف حول ولاة الأمر.
* المبحث الثالث : وحدة المجتمع وتماسكه.
* المبحث الرابع : الاعتدال والوسطية.
* المبحث الخامس : الحماية من الانحراف والجريمة.
* المبحث السادس : التكافل الاجتماعي.
* المبحث السابع : العلاقة مع غير المسلمين.

تمهيد
المسجد مأرز الإيمان، ومنبع النور والتقى، ومنارة الأمن والسلام والهدى، ومركز التنظيم الإسلامي، ودورُه في حياة المجتمع المسلم واضح لا يخفى، وراسخ لا يُنسى، فهو الدعامة الأولى، والركيزة الكبرى لتحقيق الأمن الاجتماعي، وتعميق الوحدة ونبذ الفرقة، وتغذية الأمة بالتوجيه الروحي والفكري.
ولئن كانت تلكم المعاني ثابتة لمن تأمَّل رسالة المسجد، إلا أنها لن تكون ذات أثر فاعل إن لم يعن إمامه وخطيبه بإبراز تلك المعاني، وإظهار القيم السامية لدور المسجد المؤثر في حياة الفرد والمجتمع.
فالمسجد يتردد عليه كل يوم أعداد كبيرة لأداء الصلوات الخمس، وتزداد جموعهم في نهاية الأسبوع لأداء صلاة الجمعة، وتتباين أفهام المصلين، وتتفاوت ثقافتهم، لذلك فهم يحتاجون إلى التذكير والتنبيه، واستغلال حضورهم للإرشاد والتوجيه، ومعالجة مشكلات المجتمع، والإسهام في إصلاح الحياة العامة، وإعادة الفرد إلى قواعد الدين ومبادئه، وإشاعة روح المودة والإصلاح بين الناس.
وإن خطيب المسجد وإمامه أشد فاعلية، وأكثر وقعاً في نفوس الجماهير، من أي وسيلة أخرى يمكن أن تؤثر في المجتمع( )، فهو يقتلع جذور الشر في نفس المجرم، ويبعث في نفسه خشية الله تعالى، وحب الحق، وقبول العدل ومعاونة الناس، وإصلاح الضمائر، وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الأمة، وبناء الضمائر الحية، وتربية الروح على الآداب الفاضلة والأخلاق الحميدة، وتسكين الفتن، وتهدئة النفوس.
ولا يمكن أن ينجح الخطيب في أداء مهمته على الوجه المطلوب، إلا إذا استطاع الأخذ بألباب سامعيه، واستدراجه اللبق لأفهامهم، بالأسلوب البليغ، والكلمة الساحرة، والحجة الظاهرة، والصوت العذب، والخطبة الباهرة، والإثارة والتشويق، والشعور والوجدان.
وأنى للخطيب أن يفيد إن لم يراعِ مقتضى الحال، فلكل مقام مقال، فيجدر به مواكبة الأحدث، ومسايرة الوقائع، وملاءمة موضوع الخطبة للأحداث الجارية، والملابسات الواقعة، فالكلام في حال الأمن، يختلف عنه في حال القلق، واختلاف الظروف وتقلبات الأحوال تتطلب من الخطيب أن يكون فطناً مسايراً لما يحدث حوله، وأن لا يكون في وادٍ، وحال المجتمع في وادٍ آخر، إن خطبة الجمعة من شعائر الإسلام الكبرى، ومعانيها ينبغي أن تنساب إلى النفوس في تلك اللحظات الإيمانية، وموضوعاتها يجدر أن تهدف إلى تحقيق الأغراض الآتية( ):
1- الوعظ والتذكير بالله تعالى، وبحسابه وجزائه في الآخرة، وبالمعاني الربانية، التي تحيا بها القلوب، وتعود إلى خالقها.
2- تفقيه المسلمين وتعليمهم حقائق دينهم من الكتاب والسنة، مع العناية بسلامة العقيدة والعبادة والأخلاق والآداب.
3- تصحيح المفاهيم المغلوطة عن الإسلام، ورد الشبهات والأباطيل التي يثيرها خصومه لبلبلة الأذهان، بأسلوب مقنع حكيم، بعيد عن المهاترة والسباب، ومواجهة الأفكار الهدامة والمضللة، بتقديم الإسلام الصحيح، وإبراز خصائصه من السماحة والشمول والتوازن والعمق والإيجابية.
4- ربط الخطبة بأحداث المجتمع، وبالواقع الذي يعيشه الناس، والتركيز على علاج أمراض المجتمع، وتقديم الحلول لمشكلاته.
5- تثبيت معنى الأخوة الإسلامية، ومقاومة النـزعات والعصبيات العنصرية والإقليمية والمذهبية، المفرقة للأمة، المشتتة لشملها، والمثيرة للأحقاد والبغضاء.
وبالإضافة إلى ما تقدم فإن هناك أسساً ينبغي لأئمة المساجد وخطبائها التركيز عليها في خطبهم، وكلماتهم للمصلين، مما تمس الحياة العامة للناس، وتؤدي إلى أمن المجتمع واستقراره، وإشاعة السلام والطمأنينة في سائر أرجائه، وتخليصه من أسباب الفرقة، وبواعث الشر والخلاف، ومن أهم ما ينبغي طرقه وتذكير الناس به، والتعرض له بين الفينة والأخرى وبالأخص في أوقات المحن والشدائد، ما يأتي:

المبحث الأول
تقوية الوازع الديني
الإيمانُ العميق ركيزةٌ مهمية، ودعامةٌ أساسية، ترسخ في النفس الإنسانية معاني العبودية الحقة، وتنمي فيها الشعور بالخشية من الرب، والخوف من عقابه، ودوام الصلة به ومراقبته، والالتزام بتقواه وطاعته، ويدفع الإيمانُ بالله تعالى المسلمَ إلى العناية بالضرورات التي أَكَّد الإسلام على حفظها، ويحول بين الفرد وبين الوقوع في المحظورات، ويحجزه عن التعدي على حقوق الآخرين وانتهاكها، وينشأ في ضميره وازعٌ داخلي قوي، يهديه إلى الفضائل، ويحميه من مقارفة الجرائم والرذائل، ويسمو بإنسانيته عن التردي إلى الحضيض، أو الوقوع في الهاوية، فينتج عن تشبع النفس بالإيمان، وتغذيها بمعانيه العميقة آثارٌ إيجابية تبرز في حياة الفرد حيث يصبح مرهف الحس، رقيق الشعور، مرتاح النفس، مطمئن القلب، مستشعراً للمراقبة الإلهية، فيسلك المنهج القويم، ويلزم جادة الصواب والصراط المستقيم، ولا يحيد عنها،أو ينجرف عن مسارها، ولايتقبل الأفكار النشاز، ولا المؤثرات الوافدة، ولا يلتفت إلى غير ما حكم به التشريع أو قضى به، وتبرز علامات الإيمان الصادق، ودلالاته الواضحة على الفرد بشعور الآخرين بالاطمئنان للتعامل معه، والثقة به، وأمن جانبه، فلا يخشون من تعدّيه أو ضرره، أو ظلمه أو حيفه، فينعكس أثر إيمانه على أفراد المجتمع، وينعم الجميع بالاستقرار، ويعيشون أخوة متحابين، متراحمين متعاطفين، ويتمكن كلُّ واحد منهم من التمتع بحقوقه الكاملة التي قررها له الإسلام، ويحتفظ بكرامته الإنسانية، ويحس برفعته وعزته، ويأمن على حياته الشخصية التي حفظها وكفلها له.
ومما يوضح أن قوة الإيمان أصلٌ لكل خير وفضيلة، ودرعٌ واقٍ من كل شر وجريمة، وأنه سياج حاجز دون الوقوع في المحظور والرذيلة، ومصدر ثقة للآخرين بصاحبه، ، حيث أخبرت الآية بأسلوب يستبعد احتمال وقوع جريمة القتل من المؤمن على أخيه المؤمن، إلا أن يحدث ذلك عن طريق الخطأ وعدم القصد، لأن جريمة القتل من أبشع الممارسات المنافية للإيمان الصادق، والمخالفة لمنهج الإسلام الداعي إلى ترسيخ الإيمان في القلوب، وتربية ضمير المسلم على التشبع به، والارتواء بفيض نبعه، فجريمة القتل هي التي لا ترتكب وقلب القاتل محشو بكمال الإيمان، وصدق اليقين إذ لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يعلو على رابطة العقيدة الإيمانية، التي تجمع المسلم مع أخيه، وهكذا كلُّ محظور في الإسلام، أو اعتداء على الضرورات لا يصدر إلا من قلبٍ فارغ من الإيمان، روى أبو هريرة  أن رسول الله ‘ قال: >لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينهبها وهو مؤمن<( ).
إن إمام المسجد وخطيبه حين يحفز المصلين على تقوية إيمانهم، وترسيخه في قلوبهم، يثمر الشعور بمراقبة الله تعالى، وخوفَهم من عذابه، وأليم عقابه، ويدعوهم إلى الاستقامة السلوكية، وتصحيح المواقف، وتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع الشرور والمفاسد، وصفاء الأرواح، وطهارة القلوب، والاستقرار النفسي، والاطمئنان القلبي.
** ** **
المبحث الثاني
الالتفاف حول ولاة الأمر
من أبرز الضمانات الأمنية الرشيدة للمجتمع المسلم، وأهم الوسائل الكفيلة بترسيخ أمنه، والمحافظة عليه، طاعةُ ولاة الأمر، فهي أصلٌ مهم، وقاعدة كبرى، ومنهج واضح، وأساسٌ قوي لتحقيق الأمن الاجتماعي، واستقرار البلاد، واطمئنان الرعية.
والمتأمل للنصوص الشرعية، يجد أنها متواترة وقطعية الدلالة في التأكيد على وجوب طاعة ولي الأمر، وتحريم عصيانه أو الخروج عليه، ففي الطاعة اجتماع لكلمة المسلمين، وفي العصيان فسادٌ للأحوال في الدارين، وما نزعت يد من طاعة إلا وصافحها الشيطان، وعرّضها لفتن عمياء، ونزاعات وأهواء، واضطرابات هوجاء، والعاقل يدرك خطورة عصيان ولاة الأمر، وما يجلبه من شرور عظمى، وأخطار ومفاسد كبرى، ويعلم ما في الطاعة من الخير والهدى، وتحقيق السعادة، واستتباب الأمن، وترابط المجتمع وتماسكه، ونصرة المظلوم، ودحر الباطل والجور، والعناية بمصالح العباد والبلاد، وحماية الحياة الاجتماعية من الفوضى والاضطراب، والأخذ على أيدي السفهاء والعابثين، وردع البغاة والمجرمين.
إن طاعة ولي الأمر، واحترام شخصيته وهيبته، مما هو واجب على الرعية لما في مخالفة ذلك من نشر المفاسد، وإثارة الفتن والقلاقل، مما لا يمكن رده ولا دفعه، فذوو العقول السليمة، والفطر المستقيمة، يدركون أهمية الطاعة، ويقدرون العواقب، طريقهم طريق الحق والهدى، ويلتقون على الخير والرشاد والتقوى، وينأون بأنفسهم عن مواطن الشر والأذى، ويحذرون من مزالق الرذيلة والهوى، وطريق المؤمنين حفظ ألسنتهم، والاحتكام إلى كتاب ربهم، وسنة نبيهم ‘، كما أمرهم الخالق جل وعز بذلك، أي ردوا الحكم في ذلك إلى الكتاب والسنة، لأن الحكماء يدعون إلى الخير، وينشرون الفضيلة، ويحضون على الاجتماع والوفاق، ويحذرون من التنازع والافتراق، فهذا فهمُ المؤمنين، لما أمرهم الله به ورسوله، يسمعون لولاة أمرهم، ويطيعون حكامهم، ويناصحونهم وفق آداب النصيحة، وضوابطها المبينة.
إنَّ طَرْقَ موضوع وجوب طاعة ولاة الأمر، من أهم ما يجب أن يذكر به الخطيبُ المصلين بين الحين والآخر، وأن يؤكد عليهم الالتزام بالطاعة، وأن التفاف الأمة حول قيادتها دليلُ وحدتها، وطريق فلاحها، وسبيل رقيها ونهضتها ونجاحها، ومصدر عزتها ومنعتها، ومعاونة ولاة الأمر في أداء مهمتهم، ومساعدتهم في حماية المجتمع من المفاسد والشرور، من أهم ما يلزم الرعية، والإبلاغ عن المشبوهين الذين يتربصون لإحداث الفوضى، واجب كل مسلم حماية للبلاد من السفهاء والمفسدين، وتجنيباً لها من القلق والفوضى، وقطعاً لطمع الطامعين، ودحراً للسفلة والمعتدين.
إن الالتزام بطاعة ولاة الأمر سبيلٌ لنصرة الحق، وإقامة العدل، ورفع الظلم، وردع الظالم، وطريق لاستقرار المجتمع وأمنه، وحفظ لنفوس أفراده، وصيانة لأموالهم وأعراضهم، ورعاية لمقدسات المسلمين، وتوفير لوسائل الطمأنينة والأمان.

المبحث الثالث
وحدة المجتمع وتماسكه
تهدف تعاليم الإسلام إلى بناء مجتمع متماسك، تقوم علاقات أفراده على المودة والالتئام، والمحبة والانسجام، وتنحسر فيه دواعي الفرقة والشتات، والتمزق والاختلاف، والشحناء والعداوة، فوحدةُ المجتمع المسلم لا يقاس بها وحدةُ أي مجتمع آخر، فرابطة الإيمان تجمع بين أفراده، على اختلاف ألوانهم وأجناسهم، وهي أشرف الروابط وأوثقها، وأفضل الوشائج وأكرمها، وقد أكدت النصوص الشرعية أهمية الالتزام بمضامين الروابط الإيمانية، وحذرت من الانقسام والتنازع، فالإسلام يجمع ولا يفرق، ويؤلف ولا ينفر، ويقرب ولا يباعد، فالاجتماع قوة ومنعة، والافتراق ضعف وَخَوَرٌ وفتنة.
لقد أقام الإسلام المجتمع المدني على أساس المحبة والتواصل، والتعاون والتكافل، وألفَّ رسول الله ‘ بين فئات المجتمع المدني كلها، وقارب بينها، وأبعد عنها أسباب الفرقة والتمزق، وما يثير الخلاف والنعرات في أوساطه، وأوضح سمو علاقة المسلم بأخيه، والتي ترتكز على الود والتآلف، وتحمل الأخطاء والزلات، والصفح عن المثالب والهفوات، وذلك من أهم وسائل تعميق الأمن في النفوس، وترسيخه في المجتمع.
إن الإسلام يؤكد مبدأ القوة والترابط بين أفراد المجتمع، وتحقيق معاني الأخوة الإيمانية،
وعندها يشعر الجميع بوحدة الأمة، وترابط مصالحها، وتلك ركيزة عظمى في توفير الأمن للمجتمع، إذ يدرك كلُّ فرد مسؤوليته، ويقوم بواجبه، فتسهر الجماعة على راحة الفرد، ويقوم الفرد بخدمة الجماعة، فيتكاتف الجميع، ويعلمون على احترام أنظمة مجتمعهم، والتزام بتعاليمه، واحترام حقوق الآخرين، ويتعاون الجميع على مكافحة الفساد، وحماية المجتمع من الجريمة، ومكافحة دواعيها، ووقايته من كل ما يؤدي إلى زرع بذور الشر والفتنة، وسَدّ المنافذ التي قد يتسلل منها الأشرار والمفسدون، والبغاة والمرجفون.
والمجتمع المسلم يعتمد في بناء أفراده على قوة الرابطة التي أسسها الإسلام منذ بزوغ فجره، والمتأمل لحقيقة تلك الرابطة يتضح لـه أن العقيدة تحرم الأذى والعدوان، وتمنع الظلم والبغي والإجرام، وتحفظ الحقوق، بحيث يجد المسلم نفسه أمام حدودٍ يجب التوقف عندها، وعدم تجاوزها، ويردعه وازعه الديني عن الوقوع في شيء مما منع منه، ويحس بشعور قوي يربطه بأفراد مجتمعه، ويحجزه من التعدي عليهم، ويدفع به إلى الترابط والتماسك معه.
وخطيب الجامع، وإمام المسجد، عليه أن يعنى بترسيخ معنى الوحدة في نفوس المصلين، وتعميق أواصر المحبة بينهم، ويذكرهم بأن الإسلام اعتمد الأخوة دعامةً لوحدة المجتمع، وركيزة للترابط بين أفراده، فلا يسمح الإسلام بقيام أحزاب أو تجمعات من شأنها تمزيق وحدة المجتمع، وتبديد قوته، وتفريق كلمته، أو بروز خلافات ينتج عنها التناحر، أو تسفر عن القطيعة والتناحر، فذلك شرٌّ عظيم، وخطر جسيم، ينتج عنه الكثير من الأحداث المروعة، والمآسي المفجعة، ويزعزع أمن المجتمع، ويؤدي إلى قلقه واضطرابه، وإن مسارعة الخطيب أو الإمام إلى إزالة أي خلاف قد تظهر بوادره من أبرز ما يجب أن يضطلع به، فيبادر إلى الإصلاح بين الناس في خصوماتهم، وإزالة خلافاتهم، وتوطيد علاقاتهم الأخوية، وترسيخ دواعي الألفة والانسجام، لأن ذلك من أقوى دعائم ترسيخ أمن المجتمع، وضمان الاطمئنان والحياة السعيدة، وعليه أن يذكرهم بأنهم وحدة قائمة، متشابكة متآلفة، كل عضو منه يعمل في سبيل مصلحة الجميع، على نحو قول المصطفى ‘: >مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى<( ).

المبحث الرابع
الاعتدال والوسطية
التوازن والاعتدال من خصائص التشريع الإسلامي، والوسطية من أبرز مزاياه، فلا جفاء ولا غلو فيه،

فالإسلام يمقت كل اتجاه يهدف إلى الغلو في الدين، وينكر المبالغة في التقشف مبالغة تقود إلى التنطع وتجاوز الخطوط المحددة، حيث حَضَّ على الاعتدال، وحّثَّ على التوفيق بين حق العبادة وحق النفس في الحياة، فالغلو والتنطع يتعارضان مع تشريعات الإسلام الداعية على التيسير ورفع الحرج والبعد على المشقة، والمتتبع لما وجد من انحرافات عقدية أو عملية من بعض الأفراد والطوائف عبر العصور، وما أفرزته تلك المعتقدات المخالفة لمنهج الحق من أثرٍ سيءٍ على الأمة، ونكبات أصيبت بها، يدرك أن ذلك حصل بسبب الغلو في الدين، وتجاوز الحدود، والفهم السيئ لنصوص الشريعة الإسلامية، مما أدى إلى إحداث الفتن بين المسلمين عبر العصور، وزرع بذور الفرقة والشقاق، فالإسلام يدعو إلى الاستقامة، وسلوك المنهج الوسط، دون انحراف أو تقصير، ويحرم الغلو ويمقته، سواء كان في الاعتقاد أو العبادة أو المعاملة، وكل تصرف صادر من المغالين والمتنطعين يرده الإسلام، مما يخالف أصول دعوته الصحيحة، ومنهج شريعته القويمة، ويؤكد على وجوب إزالة كافة الأسباب المؤدية إلى الغلو، وسدِّ جميع المنافذ الموصلة إلى العنف.
إن دعوة الإسلام إلى الوسطية والاعتدال من أهم ما يجب أن يتحدث عنه الإمام والخطيب في المسجد، ومن أبرز ما يجب أن يوضحه للناس، وأن يكشف لهم وسطية الإسلام واضحة في سائر تشريعاته، وأن على جميع أفراد المجتمع أن يستشعروا منهج الإسلام الرصين في دعوته إلى التوازن والاعتدال، والواقع يشهد أن المغالين والمتنطعين أضيق الناس صدراً، وأشدهم قلقاً واضطراباً، وأكثرهم غضباً وغلياناً، وربما عمدوا إلى استخدام القوة لحمل الآخرين على موافقتهم في آرائهم، وسلوك منهجهم، وقد انزلق البعض في هذا المسلك، حيث سرى في أوساط فئة من الشباب الحكم بكفر فلان، أو وصفه بالفسق أو العلمنة أو نحو ذلك، وهذا له آثار سيئة تجرع المجتمع آلامها وغصصها، وعاشت الأمة محنها وشرورها، فقد زاغت قلوب تلك الفتن، وطاشت عقولهم، وانحرفت أفهامهم ورغبت أنفسهم عن سلوك المنهج الحق، وأطلقوا لألسنتهم العنان في الحكم على الآخرين بما يرونه، وإخراجهم عن دائرة الإسلام اعتماداً على الأقاويل والشائعات، والشكوك والظنون، والأخبار الكاذبة، والمصادر الواهية.
فلزوم منهج الوسط الذي بنيت عليه الشريعة الإسلامية، هو طريق السعادة الحقة، وأصحابه هم أهل العدل والرحمة، والرفق والتيسير، والتسامح والتعاون، وأحرصهم على تحقيق الأمن والاطمئنان، ونشر الاستقرار والسلام، وأبعدُهم عن إثارة الفتن والفرقة، وهم أهل القرآن وخاصته، الأمة الوسط، الشهداء على الناس، وهم أهل القرآن ومن شرح الله صدره لهذا الدين،

المبحث الخامس
الحماية من الانحراف والجريمة
يواجه الشباب العديد من المخاطر والمستجدات والتغيرات السريعة، والتي بدأت تؤثر في سلوك البعض منهم، وانجرفت بآخرين إلى الانسياق وراء الأفكار المخالفة للإسلام، وأدت إلى انحراف البعض عن جادة الصواب، بسبب بواعث الفساد ونوازع الشر التي أحاطت بالمجتمعات، واكتنفتها من كافة جوانبها. والإسلام وضع القواعد الشرعية التي تحمي الفكر من الانحراف، وتصونه من الزيغ والضلال، وترسّخ في نفس المسلم الثوابت الإيمانية، والاستقامة السلوكية، وتبعده عن الانجراف وراء الأهواء والتقاليد المنافية للدين.
وللخطيب أثر فاعل في توجيه الناس – وبالأخص الشباب - للزوم المنهج الحق، والاستقامة على شرع الله وأمره وصراطه المستقيم، وتقوية الوازع الديني، وإيقاظ الضمير، وتزكية النفس، وبيان محاسن الاستقامة، ومساوئ الانحراف، والتنفير من الإقدام على الجريمة، وإيراد النصوص الشرعية المحذّرة من ارتكابها، المبعدة حتى عن مجرد التفكير فيها، وأن إفلات المجرم من العقوبة الدنيوية لا يعنى أنه سلم ونجا من العقوبة الأخروية، كما أنه لا يستطع الهروب من تأنـيب الضمير، والشعور بالخوف من الله تعالى، ومساورة القلق النفسي، والاضطراب الملازم له طوال حياته، وأَنَّ تظاهره أمام أفراد مجتمعه بالاستخفاف واللامبالاة ، لا يقلل من إحساسه الداخلي بعظم الذنب، وفداحة الجريمة.
كما أن الخطيب يستطيع أن يؤثر في نفوس المصلين، حين يردد على مسامعهم ما أعده الله تعالى من الثواب الجزيل لمن كفَّ عن الأذى والعدوان، وحفظ نفسه من نزغات الشيطان،وعليه أن يوضح لهم حفظ الإسلام للضرورات الخمس >الدين، والنفس، والعقل، والعرض والمال<، وحمايته لها، وتحذيره من العبث بها والاعتداء عليها، وأنه قرر عقوبات جزائية رادعة للنفوس المريضة المعتدية، تمنع تصرفاتها الطائشة التي تتحكم بها الأهواء الفاسدة، والأفكار المنحرفة، والنفس الأمارة بالسوء، وأن تلك العقوبات شرّعت لسدّ منافذ الجريمة، وإغلاق أبواب العدوان، والقضاء على العصابات الإرهابية الباغية، التي تعمل على تخويف الآمنين، وتسعى إلى نشر الخوف في نفوس المسلمين، وبث الرعب والقلق في أوساط المطمئنين، وتعتدي على النفوس البريئة، وتسلبها حقها في الحياة، وتعبث في الأرض فساداً وإفساداً.
إنَّ على الخطيب مسؤولية كبرى في توعية الناس بالضوابط الأمنية المحكمة التي قررها التشريع الإسلامي لحفظ المجتمع من الجريمة، ووقايته من الانحراف، ومحاربة الأعمال الإرهابية، والتصرفات الشاذة التي تسعى إلى الخروج على النظام العام، والإخلال بالأمن، وسفك الدماء، وسلب الأموال، وتدمير الممتلكات، وإثارة الفتن، وتفريق جماعة المسلمين، والعبث بأمن المجتمع واستقراره، وإن كل مخالفة لما جاء في أحكام الشريعة الإسلامية، يعتبر تعدياً، وتصرفاً مقتبساً، وانتهاكاً صارخاً لقدسيتها، يستوجب العقوبة الحاسمة التي قررتها، حتى تستأصل مِن المجتمع دواعي الإجرام، ومسببات الفتنة، وبواعث القلق، ويعيش الجميع في ظلال الإسلام، في أمن وأمان، واستقراره وراحة واطمئنان.

المبحث السادس
التكافل الاجتماعي
تتبوأ العلاقات الاجتماعية في الإسلام مكانة عظيمة، ومركزاً متقدماً واهتماماً واسعاً، لتحقيق معاني التكافل الاجتماعي، ومبادئ الترابط الأخوي، ودعم أجواء الأمن والسلامة، وصيانة المجتمع المسلم من أخطار التعسف والنـزاع، ودواعي الأنانية وحب الذات.
لقد قرر الإسلام التكافل بمجالاته المتعددة، المعنوية والمادية، لإيجاد مجتمع فاضل متعاون، فالأفراد، فيه ليسوا على نسق واحد في الفهم والمستوى المعيشي، بل يتفاوتون في أحوالهم وأوضاعهم، فيحتاجون إلى تنظيم دقيق يضبط أحوالهم، ويرعى شؤونهم، ويحقق التوازن والانسجام بين مختلف الفئات، حتى يشعر كل فرد بعضويته الكاملة في المجتمع، ويشارك في واجباته وينهض بأعبائه، ليتحول المجتمع كله إلى أسرة واحدة، إخاء ومودة، وتعاون ورحمة، ومناصرة وقوة، كما قال ‘: >المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً<( ).
ويمكن لإمام المسجد وخطيبه أن يقوم بدورٍ حيوي لتحقيق تلك المعاني، من خلال حثّه المصلين على القيام بتوطيد العلاقة بينهم، و تجسيد نظام التكافل الاجتماعي، وشعور كل مسلم بمسؤوليته نحو مجتمعه، فيعمل كل فرد على تعميق معاني الأخوة الإيمانية، بتبادل مشاعر المحبة والود، وتصفية النفوس من الشحناء، وتنقيتها من العداوة والبغضاء، وسعي كل عضو لدفع مظاهر السخرية والاحتقار، والعمل على فك الضائقات وتفريج الكربات، بالبذل والإنفاق، وتفقد المحتاجين من أبناء الحي والتبرع لهم، والعطف على المعوزين والمعدمين، والنظر في أحوال المرضى والمعاقين، والرحمة بهم، ومدّ يد العون لأولئك الذين عضتهم أنياب الفقر، وأصابتهم الفاقة، والعناية بمن يحتاجون إلى رعاية مادية ومعنوية.
كما أن إمام المسجد يستطيع –بما يحظى به من ثقة- أن يستقطب الأثرياء وذوي اليسار من أبناء الحي، ليكونوا مصدر تمويلٍ لإخوانهم المحتاجين، للتخفيف من معاناتهم، ومساعدتهم بما أنعم الله عليهم من المال، وسدّ حاجات الفقراء، وبسط أيديهم للإنفاق على العجزة والأيامى، والمكلومين واليتامى، والعاجزين عن التكسب والعمل، والتخفيف من آلامهم، كلُّ ذلك من أجل إقامة جسور من الرحمة والرأفة مع أفراد المجتمع، الذين أدت بهم الظروف المعيشية إلى الوصول إلى هذه الحالة، وإشباعهم وإكفائهم وانتشالهم من مذلة السؤال ومهانته.
إن التكافل الاجتماعي حين يطبق بين أفراد المجتمع، تبرز آثاره التربوية النافعة، في معالجة النفوس، وإصلاح القلوب، وتهذيب السلوك والطباع، والإحساس بالشعور الأخوي بين الجميع، وترسيخ التآلف والتعايش الودي الآمن، والمعالجة العملية لحالات من الفقر والحرمان، والعجز والإعسار.
إنَّ العناية بالتكافل الاجتماعي، وتطبيقه عملياً، يحفظ المجتمع وينقذه من لجوء البعض إلى طريق الإجرام، والوقوع في مزالق الانحراف، ومحاضن الرذيلة، وسلوك السبل الملتوية للوصول إلى تحقيق الهدف، مما يؤدي إلى خلخلة أمن المجتمع، وتفككه واضطرابه، وارتفاع نسبة الجريمة، فالتكافل الاجتماعي لـه دور مهم وفعال في انضباط الأفراد، وتحقيق الأمن الاجتماعي، وترسيخ الاستقرار والاطمئنان، وغرس القيم الإيمانية بين جميع فئات المجتمع، وهي القيم التي تحفظ على المجتمع أمنه وسلامه، وتبث فيه روح الإخاء، وتبعده عن الاستغلال والعدوان، وتنقي النفوس من الأحقاد والعداوات.

المبحث السابع
العلاقة مع غير المسلمين
يقوم المجتمع الإسلامي على عقيدة واضحة، وأحكام ثابتة، تنبثق منها قواعده ونظمه، وآدابه وقيمه، فقد اعتمد الإسلام منهجاً ودستور حياة، ومصدراً لأحكامه وتشريعاته، وحرص على تقوية الوحدة الاجتماعية داخل الوطن الواحد، وأكد على ضرورة تماسكها، دون إثارة حساسات، أو افتعال خلافات.
ومن سمات المجتمع الإسلامي إقراره للتعايش وفق منهجه السمح في تعامله مع المخالفين، والمسالمة مع المسالمين، وقد أولى رسول الله ‘ هذا الجانب عناية فائقة، وجعله من أولى اهتماماته عند تأسيسه الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، ليقيم نظاماً أمنياً مشتركاً مع الفئات الأخرى، حيث اعتبر توفير الأمن من أهم المطالب، ولم يكن المجتمع -إذ ذاك- مقصوراً على المسلمين فحسب، بل ضمَّ فئات مختلفة من أصحاب الديانات الأخرى، لذلك وضع الإسلام قواعد وأحكاماً تنظم علاقة المسلمين معهم، وتبرز التعايش بينهم وبين المسلمين في المجتمعات الإسلامية على مر العصور، وفي مختلف الأزمان.
لقد قرر الإسلام التعايش الاجتماعي الآمن من المخالفين والمسالمين المقيمين في كنف الدولة الإسلامية، وأباح أكل طعامهم، وأحَلَّ ذبائحهم، وجَوَّزَ مصاهرتهم،
وأوصى رسول الله ‘، بحفظ حقوق أهل الكتاب، ورعايتها، وصيانة دمائهم وأموالهم، وعدم الاعتداء عليهم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ‘: >من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً<( ).
وهذا يظهر روح الإسلام السمحة، وعدالته القائمة، وأنها مبذولة للبشرية كلها، لنشر الرحمة، وإشاعة الأجواء الآمنة وتوثيق العلاقات الإنسانية.
إن الإسلام لا يحكم بالفناء على جميع العناصر التي تعيش داخل مجتمعه ممن لا تدين به، بل يوطّد العلاقة بينها وبين المسلمين، ويحترم المواثيق، ويعنى بالعهود، ولا يقبل الغدر والخيانة.
وقرأت كلمة رائعة سطّرها الحافظ ابن الصلاح (ت 643ه‍(، تتصل بالتعامل مع غير المسلمين في المجتمع المسلم، قال رحمه الله:
((إن الأصل إبقاء الكفار وتقريرهم، لأن الله تعالى ما أراد إفناء الخلق، ولا خلقهم ليقتلوا، وإنما أبيح قتلهم لعارض ضرر وجد منهم، لا أنَّ ذلك جزاء على كفرهم، فإن دار الدنيا ليست دار جزاء، بل الجزاء في الآخرة، فإذا دخلوا في الذمة والتزموا أحكامنا، انتفعنا بهم في المعاش في الدنيا وعمارتها، فلم يبق لنا أرب في قتلهم، وحسابهم على الله تعالى، ولأنهم إذا مكنوا من المقام في دار لإسلام، ربما شاهدوا بدائع صنع الله في فطرته، وروائع حكمته في خلقه، وإذا كان الأمر بهذه المثابة لم يجز أن يقال: إن القتل أصلهم))( ).
إنَّ الخطيب عليه أن يبرز مِن على منبر المسجد، ويوضح للناس تلك القيم الإسلامية السامية، والمواقف الحكيمة والعادلة، في نظرة الإسلام إلى غير المسلمين في المجتمع المسلم، وأن وجود جماعات وطوائف عديدة متعايشة مع المسلمين دليل على التزام ظاهرة التسامح، وتجنب الفرقة والاضطهاد، وأن المجتمع الإسلامي لا يعرف النعرات، بل يحرص على إضفاء روح المودة، ونشر الأمن والاطمئنان، والتعايش مع الآخرين لإشاعة أجواء السلام والأمان، وتجنب الخصومات والمنازعات، والبعد عن إثارة الفتن والمنغصات، وما يعصف بأمن المجتمع واستقراره، أو بجلب الضرر لجميع فئاته، أو يزرع الأحقاد والعداوة في صفوفه.

الخاتمة

بعد هذه الرحلة الإيمانية في رحاب المسجد، وإيضاح شيء من الوظائف الأمنية التي يضطلع بها، وبيان الدور المهم الذي يقوم به المسجد لترسيخ الأمن الاجتماعي، وتوطيد دعائمه وأركانه، وإيجاد مجتمع متماسك آمن مستقر، تتضح مكانة المسجد في المجتمع وأهميته.
وإنه لتحقيق الأهداف الأمنية، والأدوار الرئيسة لـه في تحقيق أمن المجتمع، وأداء المسجد لرسالته السامية، فإن الباحث يرى أنه متى تم تفعيل تلك الوظائف على الوجه المطلوب، وقام الإمام والخطيب بدوره على الوجه الأمثل، فإن المجتمع سيبقى –بإذن الله آمناً- وسيجد الفرد في ظلاله الاستقرار والاطمئنان، ولا بد من مراعاة الوسائل الناجعة لقيام المسجد برسالته العظمى،وذلك بمراعاة الآتي:
أولاً: إعداد الإمام والخطيب الصالح، حتى يكون قدوة حسنة ومثالاً يحتذي به الآخرون، بحيث يكون ملتزماً بالحكمة والموعظة الحسنة، ويسير على المنهج الوسط، بعيداً على الغلو والتقصير، والإفراط والتفريط، متحلياً بالإخلاص والصدق والأمانة.
ثانياً: أن يكون الخطيب واعياً لما يدور حوله من أحداث، عارفاً بالمذاهب الفكرية، وملماً بالقضايا العصرية، التي تشغل أفراد المجتمع، قادراً على فهمها والإعداد للحديث عنها، وإيضاحها للناس، ورد الباطل منها، وكشف زيف الأفكار المضللة المخالفة للمنهج الإسلامي القويم.
ثالثاً: أن يقوم الإمام والخطيب بأداء رسالة المسجد الضافية، بحيث يعمل على تبصير أهل الحي، وتثقيفهم وتربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، وتوجيههم للالتزام بآداب الإسلام الفاضلة، وأخلاقه الحميدة، وغرس المعاني الإيمانية في نفوسهم.
رابعاً: استثمار الخطيب لخطبة الجمعة، بعرض الموضوعات المهمة، وطرح المسائل التي تمس المجتمع بأسره، ويتعلق بها مصيره، كالالتفاف حول ولاة الأمر وطاعتهم، والثقة بعلماء الأمة، والتحذير من الخروج على الجماعة.
خامساً: على الخطيب أن يذكّر أفراد المجتمع بين الحين والآخر، بأهمية وحدة المجتمع، وتماسكه وترابطه، وبيان الآثار الإيجابية الناتجة عن التآلف والتقارب، وأنها طريق رقي المجتمع وازدهاره، وترسيخ أمنه واستقراره، وإيضاح العواقب الوخيمة للفرقة والتنافر، وأنها سبيل تمزق المجتمع وانقسامه، فالأخوة الصادقة مفتاح كل خير ومغلاق كل شر، وصمَّام الأمان.
سادساًً: ضرورة إبراز أهمية الأمن في حياة الأفراد والمجتمعات، وأنه مطلب مهم وضروري لاستقرار الحياة الاجتماعية، وأساس في سعادة الإنسان، إذ لا تستقيم حياته إذا فقد الأمن، ولا يهنأ بالعيش وراحة البال إذا عدم الطمأنينة والاستقرار.
سابعاًً: أن يعمل إمام المسجد على تلمس حاجات أفراد الحي، والنظر في مشكلاتهم، والتعرف عليها، وعرض الحلول المناسبة لها والتوفيق بين المتنازعين،والمصالحة بينهم، ودفع كل الأسباب المؤدية إلى إيجاد الخلاف والفرقة.
ثامناًً: حث أفراد المجتمع على الاستقامة على منهج الله تعالى، ولزوم جادة الصواب، والتحذير من الانحراف عن الصراط المستقيم، وأهمية الاستقامة السلوكية، وبيان مساوئ الانحراف والتنفير من الإقدام على الجريمة،وإيضاح العواقب الوخيمة المترتبة على البعد عن المنهج السوي.
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

المصادر والمراجع والدوريات
• أبحاث مؤتمر رسالة المسجد: رابطة العالم الإسلامي (1395ه‍) الطبعة الأولى.
• أبحاث الندوة العالمية للشباب الإسلامي (الإسلام والحضارة) (1399ه‍) الطبعة الثانية.
• الإسلام وأثره في الحضارة: لأبي الحسن الندوي، الطبعة الأولى (1420ه‍).
• دور المسجد في التربية: د. عبد الله الأهدل، الطبعة الأولى (1407ه‍).
• العبادة: لشيخ الإسلام ابن تيمية، الطبعة الأولى.
• عوامل التطرف والغلو والإرهاب: خالد العك، الطبعة الأولى (1418ه‍).
• مجلة البحوث الإسلامية (العدد الثاني).
• المنهج الأمثل لخطبة الجمعة: د. صالح بن حميد.
• الهداية الربانية إلى الضوابط الأمنية: د. أحمد كرزون، الطبعة الأولى (1420ه‍).

د.فالح العمره
06-04-2005, 01:32 PM
الكتاب: دور المسـاجد في حـياة المسـلمين

--------------------------------------------------------------------------------

نظام العـبادة في الإسـلام

من الأهداف المركزية للشرائع السماوية التي بعث الله تعالى بها رسله تترى عبرَ العصور والأجيال ، أن يضعوا البرامج لتنظيم شؤون حياة الإنسان عمـوماً ، وينظِّموا متطلِّبات غرائزه وجوعاته في هذا الإطار ...
فغريزة النوع ، يضع الإسلام الحنيف لها نظاماً خاصّاً لتحقّق أهدافها المناطة بها من قبل الخالق عزّ وجلّ ، حيث تقع مفردات : الزواج ، والنفقة ، وحقوق الزوجين ، والطلاق ، والرضاعة ، والعلاقات بين الجنسين ، وأمثال ذلك ضمن قوانين النظام الإسلامي الخاص بتنظيم شؤون الغريزة الجنسية المذكورة ..
وغريزة التملّك لدى الإنسان تخضع في إطار الشريعة الإسلامية المقدّسة إلى نظام خاص في بنوده ، ومفاهيمه ، وأحكامه مثل : الحقّ الخاص، الرِّبا، التداين ، القرض، الزّكاة، الخمس، زكاة الفطرة، الحيازة ، الغصب ، اللّقطة ، الإجارة ، الغش ، السرقة ، إلى غير ذلك من مفاهيم .
وفي هذا الإطار تأتي غريزة « التديّن » وما تفرضه من ضرورة التقديس والعبادة ، حيث وضع الإسلام الحنيف نظاماً خاصّاً للعبادة ، ينسجم مع واقعية الإسلام في التعامل مع الإنسان بكل قواه ، وغرائزه ، وجوعاته من خلال مبدأ الموازنة بين هذه الطاقات جميعاً دون إفراط ، أو تفريط ، حتّى لا تزيغ بالإنسـان الطرق ، والأساليب ، فتبعده عن الصراط المستقيم ، حيث المادّية المنحرفة أو الصوفية المتطرفة ...
وقد جاء نظام العبادات في الإسلام شاملاً لكل جوانب حياة الإنسان ، حيث العبادات العقلية كالتفكّر بالله ، والمصير الإنساني ، والتفكير بالموت والآخرة وأمثال ذلك .
والعبادات المالية كدفع الزّكاة ، والخمس ، والصدقة المستحبّة ، وغيرها .
والعبادات النفسية ، كالرضا بقضاء الله ، وقدره ، ورجائه ، والخوف منه ، والتوكّل عليه ، وشكره ، والشعور بعبوديته جلّ وعلا .
والعبادات الروحية ـ البدنية كالصلاة ، والصيام ، والحج ، وما إلى ذلك من شؤون .
إنّ نظام العبادات في الإسلام ، قد حرص على الموازنة بين مطالب الجسد والروح ، وما أروع هذا النصّ القرآني الكريم الذي يجسِّد هذه الحقيقة حيث يقول :
(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي ، وَنُسُكِي ، وَمَحْيَايَ ، وَمَمَاتِي للهِِ رَبِّ ا لْعَالَمِـينَ ) .
( الأنعام / 162 )
فالصلاة ، والحج ، والصوم ، والحـياة ، والممات في مقياس المسلم كلّها لله عزّ وجلّ .
وهكذا فانّ عبادة الله عزّ وجلّ تنتظم فيها جوانب الحياة كلّها ، في منطق الشريعة الإسلامية الخاتمة ، فصحيح انّ الصلاة ، والصيام ، والدعاء ، والاستغفار ، والاعتكاف ، والحج ، والصدقة ، وقراءة القرآن الكريم، وما إليها محطّات روحية، تمد جسور الصلة بالله الواحد، الأحد، فتَسْبَح فيها الأشواق الروحية ، مسبِّحةً ، ذاكرة ، فينقلب الإنسان ريّاً ، رويّاً ، راضياً ، إلاّ انّها ليست نهاية المطاف .
فالإسلام الحنيـف يعطي العبادة مفهوماً شاملاً عميقاً أوسع من ذلك ، إذ كل عمل يعمله الإنسان تلبية وطاعة لله عزّ وجلّ فهو عبادة وكلُّ أمر ينـأى ابن آدم عنه تقرّباً وطلباً للثواب فهو عـبادة ، وكلُّ سبيل يسلكه المؤمن وقد ندب الباري عزّ وجلّ إليه ، فهو عبادة .
وهكذا يكون المسـلم الذي هذا نهجـه وكأ نّه في خشـوع دائم ، وتطلُّع دائم إلى الله عزّ وجلّ تجسيداً لقوله تعالى :
(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي ، وَنُسُكِي ، وَمَحْيَايَ ، وَمَمَاتِي للهِِ رَبِّ ا لْعَالَمِـينَ ) .
( الأنعام / 162 )
إنّه في عبادة وهو في محرابه ، كما هو في عبادة وهو في مكتبه ، وهو في عبادة عندما يكون في متجره وعيادته أو قاعة درسه أو ساحة جهاده ، إنّه الاتصال الدائم بالله جلّ وعلا ، واستشعار وجوده وعظمته في كلّ آن .
على أنّ الإسلام الحنيف ، قد وضع محطّات دائمة أخرى على طريق المسيرة الإنسانية هي غير الصلاة والصيام وما إليها ، فهناك :
ـ استشعار وجود الله تعالى فيما حول الإنسان من حقائق وأشياء ومخلوقات تملأ ساحة النفس والآفاق : في السماء والأرض ، والحيوان والنبات والجماد ، وكل دقيق وجليل ، فضلاً عن الإنسان هذا المخلوق العجيب .
ـ المراقبة الدائمة الواعية لله تعالى ، واستشعار مخافته ، والشعور بهيمنته في كلّ حقل ، وفكرة ونشاط .
ـ التوكّل على الله تعالى في الأمور كلّها .
ـ اللّجوء إلى الله ، والتسليم له جلّ شأنه وعلا .
ـ التقوى والعمل الصالح كما شاء الله ربّ العالمين .
إنّ القرآن الكريم مليء بالآيات الموقظة الموحية التي تعمق تلك المبادئ الهادية :
ففي حقل الشعور بعظمة الله عزّ وجلّ من خلال مخلوقاته نقرأ هذا النموذج :
(وَاللهُ خَلَقَكُم مِن تُرَاب ثُمَّ مِن نُطْفَة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّر وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَاب إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * وَمَا يَسْتَوِي ا لْبَحْرَانِ هذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَـائِغٌ شَرَابُهُ وَهذَا مِلْحٌ أُجَـاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلَيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى ا لْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَا لْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لاَِجَل مُسَمّىً ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ ا لْمُلْكُ وَا لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير ) . ( فاطر / 11 ـ 13 )
وفي حقل مراقبة الله تعالى الدائمة للعباد ، يقول عزّ وجلّ :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي ا لاَْرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ ا لْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ ) . ( المجادلة / 7 )
(عَالِمُ ا لْغَيْـبِ وَالشَّهَادَةِ ا لْكَبِيرُ المُـتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ ا لْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْف بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ) .
( الرّعد / 9 ـ 10 )
ويسلّط القرآن الضوء على قيمة الخشوع ، والتقوى لله تعالى ، وآثارها العظيمة في مسيرة المؤمنين ، فيقول تبارك وتعالى :
(قَدْ أَفْلَحَ ا لْمُؤْمِنُونَ * ا لَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَا لَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَا لَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَا لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ ا لْعَادُونَ * وَا لَّذِينَ هُمْ لاَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَا لَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولئِكَ هُمُ ا لْوَارِثُونَ * ا لَّذِينَ يَرِثُونَ ا لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
( المؤمنون / 1 ـ 11 )
وفي القرآن الكريم العديد من الآيات الكريمة التي تحث على التوكل ، والصبر والتسليم لله ربّ العالمين .
ففي أهمّية أركان الإسلام وذكر الله عزّ وجلّ يتحدّث الإمام علي (عليه السلام) ، فيقول :
« إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى الله سبحانه وتعالى ، الإيمان وبه وبرسوله ، والجهاد في سبيله ، فإنّه ذروة الإسلام وكلمة الإخلاص فإنّها الفطرة ، وإقام الصلاة فإنّها الملّة ، وإيتاء الزكاة فإنّها فريضة واجبة ، وصوم شهر رمضان فإنّه جنّة من العقاب ، وحج البيت واعتماره فإنّهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب ، وصلة الرحم فإنّها مثراة في المال ، ومنسأة في الأجل ، وصدقة السر فإنّها تكفر الخطيئة ، وصدقة العلانية فإنّها تدفع ميتة السوء ، وصنائع المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان .
أفيضوا في ذكر الله فإنّه أحسن الذِّكر ، وارغبوا فيما وعد المتّقين فإنّ وعده أصدق الوعد ، واقتدوا بهدي نبيّكم فإنّه أفضل الهدي ، واستنّوا بسنّته فإنّها أهدى السّنن »(5) .
وهكذا شرع الإسلام الحنيف من سبل معرفة الله عزّ وجلّ ، ووسائل الانشداد إليه عزّ وجلّ وطرق الارتباط به الشيء الكثير (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) .
وهنا تتجلّى العلامة الفارقة بين شريعة الله الخاتمة ، والنصرانية الحالية التي تعطي للعبادة لوناً باهتاً محصوراً في إطار طقوس كنسية خاوية لا تستجيب لطموحات الروح ، ولا تروي ظمأها ، ولا تشبع جوعتها ! اضافة إلى أنّ النصرانية المعاصرة تعطي للعبادة مفهوماً ضيقاً لا يتعدّى إطار الطقوس التي يؤدِّيها النصارى في أيّام الآحاد .
وبناءً على ذلك يكون أتباع الكنيسة قد اختطوا اليوم منهجاً غريباً يقضي «بتقسيم الحقوق» بين الإنسان وبين الله تعالى ، فللّه يصلون في الكنيسة ويقرؤون الأناجيل مثلاً، بينما يمكِّنون الإنسان من رسم طريقه في الحياة وفقاً لمشيئته فيشرع حسب مقتضيات مصالحه ويقنن وفقاً لما تملي عليه رغباته وأهواؤه ، دون الالتزام بالأحكام الدينية .
وقد كشف القرآن الكريم عن أخطاء التصوّر النصراني الكنسي ، وأنحى باللاّئمة على النصارى الذين حصروا عبادة الله في زاوية محدودة، في حين أعطوا منظِّريهم وقادة الرأي فيهم حقّ التشريع والتقنين ، قال تعالى :
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِداً لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .
( التوبة / 31 )
ولقد أوضح الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) المفهوم الذي طرحته الآية الكريمة الآنفة الذكر حيث قال (عليه السلام) :
« أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراماً ، وحرّموا عليهم حلالاً ، فعبدوهم من حيث لا يشعرون » (6) .
فالله هو الخالق ، والله هو المدبِّر لشؤون البشر وحياتهم :
(أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ ، وَا لاَْمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) . ( الأعراف / 54 )
(إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) . ( يوسف / 40 )
والمسلم في المنطق الإسـلامي عابد يتلقّى ما يأمره ربّه تعالى بالتسليم والطاعة فليس له أن يخالف منهج الله ، وليس له أن يشرع قبال شرعه الكريم :
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِـيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ، فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً ) . ( الأحزاب / 36 )
على أنّ المشرع الأعلى عزّ وجلّ قد ضـمن للإنسان من جانبه تلبية شريعته الغراء لكل متطلبات الإنسان ، وطموحاته ، واستجابتها لكل حاجاته الفطرية ومشاكله المستجدّة .
وهذا الموقف من الرِّسالة ـ موقف التغطية لكل حاجات الإنسان ـ موقف واقعي بالصميم ، فقد علم الله سبحانه وتعالى أنّ حياة الإنسان واسـعة المطالب والحاجات والطاقات ومن شأن حياته التحوّل ، والتغيير ، والتطوّر كذلك ..
ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الفقهاء اعتادوا على تقسيم الرِّسالة الإسلامية المقدّسة إلى ثلاثة أبواب : 1 ـ العقائد . 2 ـ العبادات . 3 ـ المعاملات .
ورغم انّ العبادات جزء من الأحكام ، والمفاهيم ، والحدود الإلهيّة التي يتقيّد بها العـباد وانّ أداءها جزء من الطاعة لله عزّ وجلّ ، كالالتزام بأحكام المعامـلات ، إلاّ انّ العـبادات تمتاز عن سواها من أحكام لكون « النيّة الخالصة » أحد أركانها الرئيسة ، وانّها بدون النيّة لا يكون العبد قد أدّاها لافتقادها ذلك الركن الأساس .. وهذه أهمّ الخصائص المركزية التي تمـتاز بها الفرائض عن سـواها من أحكام وحدود شرعيّة (7).



المسـجد بين اللّغـة والاصـطلاح

من المفاهيم ما يتزامن ميلاد مصطلحها مع ولادة تلك المفاهيم في الثقافة الإنسانية ، ومن المفاهيم والموضوعات ما يتأخّر مصطلحها كثيراً عن ولادتها ، واستعمالها بين النّاس ..
ومن الموضوعات التي تزامنت ولادتها في الثقافة الإسلامية مع مصطلحها كان « المسجد » .
فالمسجد لغة وعرفاً اسم مكان للموضع المعد للصلاة عند المسلمين ، وأصل هذه اللفظة مأخوذ من كلمة : « سجد » .
يقول المعلِّم بطرس البستاني في «محيط المحيط» ما يلي :
« سجد ، يسجد ، سجوداً ، خضع ، وانحنى ...
السـجود ، التطامن مع خفض الرأس ، وشرعاً وضع الجبهة ، والأنف على الأرض ، وغيرها ...
والمسجد الموضع الذي يُسجَد فيه ، وكل موضع يُتَعَبَّد فيه ، فهو مسجد ... »(8) .
ومع تطوّر الزمن ، واستمرار حياة المسلمين ، أصبح من الطبيعي انّ كلمة « مسجد » حين تطلق ، فانّها تنصرف إلى المبنى الذي يقيم فيه المسلمون : الصلاة ، وقد حدّد الشيخ محمّد حسن النجفي المصطلح الشرعي للمسجد في موسوعته الفقهية ، فقال : «المراد بالمسجد شرعاً المكان الموقوف على كافّة المسلمين للصلاة»(9) .
ولقد علّل بعض المؤرِّخين أنّ سبب تسمية هذه المؤسّسات المقدّسة لدى المسلمين بالمساجد كان ـ نسبة للسجود ـ دون تسميتها بلفظ آخر من الألفاظ والأعمال المكوّنة لكيان الصلاة كالقراءة والذِّكر ، والركوع وغيرها مثلاً لأنّ السجود أشرف حالات المصلِّي التي يقف بها بين يدي الله عزّ وجلّ ، وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « أقرب ما يكون العبد من الله تعالى وهو ساجد »(10) .
ولقد ورد لفظ « المسـجد » في القرآن الكريم في ثمانية وعشرين موضعاً ، أمّا في السنّة النبويّة المشرفة ، فلا تكاد تحصى كثرة(11) .
وهذه بعض النصوص القرآنية الكريمة بهذا الخصوص :
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) . ( الأعراف / 29 )
(لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْم أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا واللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ ) .( التوبة / 108 )
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْـجِد وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ) . ( الأعراف / 31 )
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْـمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ا لاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . ( البقرة / 114 )
(مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ) . ( التوبة / 17 )
(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَا لْيَوْمِ ا لاْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ ) .
( التّوبة / 18 )
(وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) . ( الجنّ / 18 )




بناء المسـاجد مهمّة حضـارية

ومنذ مطالع تاريخ المسلمين ، ونشوء الجماعة المسلمة ، بدأت حركة بناء المساجد في التاريخ مواكبة للتواجد الجغرافي للمسلمين في الأرياف، والمدن ، وفي الحواضر ، والبوادي ، وفي بقاع الأرض المختلفة حيث ترتبط هذه المهمّة الحضارية بعقيدة المسلمين بالله عزّ وجلّ ، وعبادتهم له، وإعلان الخشوع، والضّراعة بين يديه، كما تعبِّر عملية بناء المساجد لدى المسلمين عن « الهويّة الثقافية » لهذه الأمّة ، وتميِّزها عن سواها من الجماعات ، والملل ، والأقوام من الناحية الحضارية ، والثقافية .
ولقد عـبّر القرآن الكريم عن أهمّية إقامة هذه المؤسّسات التوحيدية المتألقة في دنيا الحضارة الإسلامية ، واعتبر انشاءها بإذن من الله تعالى ، لترفع قيمتها المعنوية بالذكر لله ، والتمجيد لاسمه ، والإعلاء لكلمته من خلال الصّلاة ، والدّعاء ، والذِّكر ، وتلاوة الذِّكر الحكيم ، وما إلى ذلك .. يقول تعالى في سورة النّور في كتابه المجيد :
(فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَا لاْصَالِ * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ، وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ ... ) .
( النّور / 36 ـ 37 )
وقد شدد الإسلام الحنيف من خلال بيانات صريحة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهمّية بناء المساجد ، وإعمارها ، ونشرها في الأرض ، أينما وجد المسلمون العابدون لله تعالى ، المتصدّون لرفع ذكره ، والإشادة بحمده ، وعلو شأنه .
فعن الصحابي الجليل أبي ذر الغفّاري (رضي الله عنه) قال : انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « من بنى لله مسجداً قَدْرَ مِفحَصِ قطاة بنى الله له بيتاً في الجنّة »(12) .
وحدّث الإمام أبو عبدالله جعفر بن محمّد بن عليّ الصادق (عليه السلام) ، عن آبائه (عليهم السلام) ، قال : « انّ الله إذا أراد أن يصيب أهل الأرض بعذاب، قال : لولا الّذين يتحابّون فيَّ ، ويعمرون مساجدي ، ويستغفرون بالأسحار ، لولاهم لأنزلت عذابي »(13) .
وحول أسس المهمّة الحضارية للمسجد وإشعاعاتها يتحدّث أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فيقول : « من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان : أخاً مُستفاداً في الله ، أو علماً مُستطرفاً ، أو آية محكمة ، أو يسمع كلمة تدل على هدىً ، أو رحمة منتظرة ، أو كلمة ترده عن ردى ، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً »(14) .
فالمسجد وإن كان أساساً موضعاً للعبادة،والخشوع ، إلاّ انّه مع ذلك يشع الخير ، والمعروف .





المسجد النبـوي :انطلاقة الخير وينبوع البركة

بعد ثلاثة عشر عاماً من البعثة النبويّة المباركة ، قضاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة المكرّمة ، داعياً إلى الله تعالى ، في ذلك الواقع المتحجِّر في طريق الدعوة الإلهيّة ، أمره الله عزّ وجلّ بالهجرة إلى مدينة يثرب التي تقع شمال مكّة على بُعد بضع مئات من الكيلومترات ... بعد أن توفّرت الظروف الموضوعية لتلك الهجرة المباركة ...
وكانت أوّل المؤسّسات التي أقامها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستجدت في هذه البلاد هي : « المسجد » النبوي المبارك ، الذي اختار الله بقعته الشريفة لتكون منطلقاً لذكر الله تعالى ، وإعلاء كلمته في الأرض ، وليكون المنار الثاني للهدى في الأرض ، بعد بيت الله الحرام في مكّة المكرّمة من حيث الشرف ، والمكانة ، والطهر ، والتجرّد لله ربّ العالمين ..
وقد شيّد هذا المسجد المبارك على التقوى ، والإخلاص لله عزّ وجلّ :
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْم أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ) .
( التّوبة / 108 )
وقد أقيم مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أرض طولها خمسة وثلاثون متراً وعرضها ثلاثون متراً ، حيث كان مجموع مساحته يوم تشييده ألفاً وخمسين متراً ، وكان أساسه قد بني بالحجارة ، وجدره أقيمت باللِّبِن ـ وهو الآجر قبل فخره بالنار ـ وكانت أعمدته من جذوع النخيل ، وسقفه من جريدها ...
لقد استغرقت عمليّة بناء هذا المسجد الشريف شهرين(15) وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقيم أثناءها في ضيافة أبي أيّوب الأنصاري (رضي الله عنه)في الطابق الأرضي من داره ، وكان أبو أيّوب يقيم في الطابق الأعلى من الدار ...
لقد تعاون أكثر الصحابة من المهاجرين والأنصار في إقامة هذا المشروع الربّاني ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه قد شارك في العمل أسوة بأصحابه وكانت جموع العاملين تردِّد :
أللّهمّ لا عيش إلاّ عيش الآخره***فاغفر اللّهم للأنصار والمهاجره
لقد كان بناء المسجد النبوي بسيطاً ، لا تكلّف فيه ولا إثارة ، لكي يتناسب مع بساطة الإسلام الحنيف ، في مفاهيمه ، ووضوحه واستقامة مبادئه ، ويسرها ...
ولقد كان المسلمون الأُوَل على اطّلاع على معابد أهل الديانات السابقة على الإسلام من كنائس ، وبيع ، وديّارات سواء ما كان منها في داخل المدينة المنوّرة حيث يتواجد اليهود بكثرة ، ولهم حصونهم ، ومعابدهم ، ومساكنهم ، وتجمّعاتهم التاريخيّة ، كذلك الحال بالنسبة للنصارى الذين يتواجدون هنا وهناك في الجزيرة العربية ، أو على تخوم بلاد الشام القريبة من المدينة المنوّرة ...
انّ معايشة المسلمين لأهل الكتاب ، واطّلاعهم على كيفيّة إقامة معابدهم من حيث الزخرفة ، والتأنّق في البناء ، ومظاهر الأبهة وما إلى ذلك ، لم يحمل المسلمين على التفاخر أو التقليد أو إظهار العظمة في الهيكلية ، والقشور ، والمظاهر أبداً وإنّما التزموا البساطة ، واليسر في عملية بناء أوّل مسجد لهم ، تمسّكاً بيسر الإسلام الحنيف ، وعظمته الواقعية والذاتية ـ كما ذكرنا ـ .
ومن متابعة للتاريخ الإسلامي ، وسيرة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأهل بيته (عليهم السلام) ، وأصحابه نجد انّ ذلك المشروع الربّاني الخالد كانت عمليات توسعته تتناسب مع اتِّساع مساحة المسلمين ، وعددهم ، وكانت أوّل توسعة للمسجد النبوي الشريف قد جرت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أضاف لمساحته عشرة أذرع عرضاً ، وعشرين ذراعاً طولاً ، وقد ذكر المؤرِّخون انّ آخر توسعة للمسجد النبوي الشريف قد بلغت بمساحته في أواخر أيّام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) 5670 ذراعاً مربّعاً ، وهي ما تعادل « 86 و 3280 متراً مربعاً »(16) أي أنّ مساحة المسجد النبـوي قد تضاعفت ـ في حياته الشريفة ـ مرّتين على مساحته الأولى ..
وحول تطوّرات بناء المسجد النبوي الشريف في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسب مقتضيات الحاجة ، والضرورة ، وتطوّرات أوضاع المسلمين يحدِّثنا الإمام أبو عبدالله الصادق (عليه السلام) بهذا الحديث التاريخي الدال : «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنى مسجده بالسّميط ، ثمّ إنّ المسلمين كثروا فقالوا : يا رسو الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو أمرتَ بالمسجد فزيدَ فيه ، فقال : نعم ، فزيد فيه وبناهُ بالسعيدة ، ثمّ إنّ المسلمين كثروا فقالوا : يا رسول الله لو أمرتَ بالمسجد فزيدَ فيه ، فقال : نعم ، فأمر به فزيدَ فيه ، وبنى جداره بالاُنثى والذكر ، ثمّ اشتدّ عليهم الحرّ ، فقالوا : يا رسول الله لو أمرتَ بالمسجد فظلِّل ، فقال : نعم ، فأمرَ به فاُقيمت فيه سواري من
جذوع النخل ، ثمّ طُرحت عليه العوارض والخصف والأذخر ، فعاشوا فيه حتّى أصابتهم الأمـطار ، فجعل المسجد يكفّ عليهم ، فقالوا : يا رسول الله لو أمرتَ بالمسجد فطُيِّن ، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا ، عريش كعريش موسى (عليه السلام)، فلم يزل كذلك حتّى قُبضَ (صلى الله عليه وآله وسلم)وكان جـداره قبل أن يظلّل قامـة ، وكان إذا كان الفيئ ذراعاً وهو قدر مربض عنز صلّى الظّهر فإذا كان ضعف ذلك صلّى العصر» (17) .
هذا ومن الجدير بالذِّكر انّ الصلاة لدى أمّة محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وإن لم تقيّد بمكان ، وموضع معيّن ، لأنّ الأرض كلّها في المفهوم الإسلامي الذي بشّر به خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) جعلها الله للمسلمين مسجداً، وطهوراً، إلاّ ما كان منها مغصوباً أو نجساً .
فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الحديث الصحيح التالي : « اُعطيت خمساً لم يُعطَها أحد قبلي : جُعِلَتْ لي الأرض مسجداً ، وطهوراً ، ونُصرت بالرُّعب ، واُحِلَّ لي المغنم ، واُعطيت جوامع الكَلِم ، واُعطيت الشفاعة »(18) ، ويقول المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً : « جُعلت لي الأرض مسجداً ، وترابها طهوراً ، أينما أدركتني الصلاة صلّيتُ »(19) .
أقول : رغم انّ الصلاة لم تقيّد بموضع معيّن إلاّ انّ إقامة المساجد في الأرض ، والحض على ارتيادها ، والصلاة فيها ، تهدف إلى تحقيق غايات ثقافية ، واجتماعية ، وحضارية لصالح الأمّة الإسلامية المجيدة ـ سنعرضها فيما بعد إن شاء الله تعالى ـ .
انّ المهام العظيمة التي نهض بها المسجد النبوي الشريف في المدينة المنوّرة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعلى مدى عقد من الزمان يمكن أن تشكِّل الصورة المناسبة للمهمّات الحضارية التي ينهض بها المسجد في حياة المسلمين، على مدى الأزمان، وإن تغيّرت تفاصيل النشاطات والفعاليات التي يؤدِّيها المسجد عبرَ الأجيال والأزمان ، حيث تتغيّر الوسائل ، والأدوات ، والإمكانات المستجدة في حياة الناس ، حسب التطوّرات الحاصلة في الزمان ، والمكان ، ويمكننا أن نعطي صورة أوّلية عن الفعاليات التي كانت تؤدِّيها مؤسّسة المسجد النبوي في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :
يقول الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) : « المسجد مركز الحياة الحقيقي عند العرب »(20) .
ويمضي غوستاف لوبون قائلاً : « ... فالعرب يتّخذون من المسجد محلاًّ للاجتماع ، والعبادة ، والتعليم ، والسكن عند الاقتضاء ، وملاجئ للغرباء، ومراجع للمرضى، لا للعبادة فقط كبيَع النصارى ... ومن توابع المساجد على العموم : حمامات ، وفنادق ، وأصابل ، ومشاف ، ومدارس ، وهكذا يتجلّى اختلاط الحياة الدينيّة بالحياة المدنية عند المسلمين ... »(21) .
لقد كان مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النموذج الأمثل لمهمّة المسجد في حياة الجماعة المسلمة ، وفقاً لظروف المسلمين في تلك الحقبة الزمنية من حياتهم .
وهذه بعض الفعاليات والمهام التي كان المسجد ينهض بها في آن واحد :
1 ـ كان مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) موضعاً لإقامة الصلاة الخاشعة لله ربّ العالمين في أوقاتها المعلومة ، إضافة إلى النوافل ، وصلاة العيدين وصلاة الآيات ، وما إلى ذلك من عبادات .
وكانت الصلوات اليومية تقام جماعة بإمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكانت صلوات الجمعة أكثر الصلوات اهتماماً من قِبَل المسلمين ، لأهمّيتها السياسية والاجتماعية في آن واحد ، إضافة إلى عبادة الاعتكاف في المناسبات الخاصّة .
2 ـ وكان المسجد النبوي معهد المسلمين لتعلّم القرآن الكريم ، وتلاوته وتعلّم أحكام الشريعة الإسلامية ، ومفاهيمها، إذ كان بذلك معهد الأجيال وجامعتها العلمية التي خرّجت أئمّة الدِّين ، والصّحابة الملتزمين ، وحفظة الشرع المقدّس .
3 ـ وفي المسجد النبوي يجري الحوار مع الخصوم الفكريين ، والدينيّين من أصحاب الديانات السابقة ، وأصحاب الآراء ، والاجتهادات المخالفة للإسلام كلاًّ أو جزءاً ، كما تجري دعوة هؤلاء ، وأولئك إلى اتِّباع الهدى ، والتمسّك بالإسلام الحنيف .
4 ـ وفي المسجد النبوي الشريف تدار شؤون الدولة الإسلامية ، حيث يشكِّل المسجد يومذاك « دار الحكومة » ، فيه يعيِّن قضاة المناطق ، وموظّفو الدولة ، وجباة الأموال ، وقادة الفرق العسكرية التي تضطلع بشؤون الجهاد في سبيل الله تعالى ، وما إلى ذلك من شؤون .
5 ـ وفي المسجد توزع الأموال ، والمرتبات على الناس ، حسب قواعد التسوية في العطاء التي وضعها الإسلام الحنيف ، ونفّذها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فكان المسجد النبوي بيت المال ، للدولة الإسلامية .
6 ـ ومن المسجد النبوي الشريف تعلن الدعوات للجهاد ، وصدّ العدوان ، ويبلغ الناس عن نتائج الحرب ، نصراً أو إخفاقاً .
7 ـ وفي المسجد النبوي جناح لإيواء المستضعفين الغرباء عن المدينة المنوّرة ، وكان ذلك الجناح يسمّى «الصفة» حيث ضمّ الكثير من فقراء الصحابة ، ومساكينهم ، حتّى صارت الصفة سكناً ، ومعهداً لتخريج المحدِّثين ، وحفّاظ القرآن الكريم ، والعُبّاد ، والزُّهّاد ..
8 ـ وفي هذا المسـجد المقدّس كانت تجري اللِّقاءات بالوفود الرسمية من القبائل ، والدول المعاصرة لدولة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كوفود النجاشي ، وقياصرة الروم ، وحكّام اليمن ، وقبائل العرب المختلفة ، كما كانت تبرم الاتفاقيات ، والمواثيق ، والعهود مع القبائل ، والأقوام المحيطة بالمدينة المقدّسة .. ، كما يجري إرسال الوفود إلى الآفاق من هذا المسجد المبارك .
9 ـ وفي هذا المسجد المقدّس كانت تجري عمليات تكريم أصحاب الفعاليات الإيجابية المميّزة «العمل الصالح ، والإيثار ، والتضحية المميّزة» حيث يثني عليهم القرآن في آي منه ، أو يثني عليهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أحاديثه وكلماته ، حيث يُمثِّل ذلك أوسمة على صدورهم ، ويحضّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين على التزام خطِّهم ، وترسم أعمالهم ، كذلك الحال بالنسبة للمسيئين ، المخربين من الناس الذين ينافقون أو يضرّون عباد الله عزّ وجلّ ، أو يضعون العقبات في طريق خلاص الناس ، من الظلم ، والضلال ، والتخبّط في التيه ، حيث يلعنون أو يكشفون أو تكشف خططهم التخريبية ، وما إلى ذلك .
10 ـ هذا ومن الجدير ذكره انّ مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان دكّة للقضاء العادل ، وانصاف المظلومين من ظالميهم حيث يشكل السلطة القضائية ، ومحكمة العدل الإلهي بين الناس ، ولكنّ الحدود لا تقام فيه عادة احتراماً لمكانته !
11 ـ وفي هذا المسجد الشريف كذلك تجري عمليات التشاور بين المسلمين وقيادتهم الكريمة أو بين المسلمين أنفسهم لإبرام أمر ، واقامة حق ، واشاعة معروف ، أو ابطال باطل ، أو تخطيط لمستقبل ، وهو بذلك دار الشورى ، ومجلس البرلمان .
وهكذا تجتمع في هذه المؤسّسة الربّانية المباركة فعاليات الخير والبركة جميعاً ، وتتعانق فيها النشاطات الاُخرويّة والدنيوية معاً ، وتختلط فيها أشواق الروح العليا ، والحاجات المادية الضرورية لمسيرة الانسان ، والنهضة والتنمية !!
انّها تحمل روح العبادة ، ومضمونها في نظر الإسلام الحنيف ، فكل شيء يطاع الله فيه فهو عبادة في معنى من المعاني ، فالصلاة عبادة ، والاجتماع لاستماع توجيهات الشريعة ، وأوامرها عبادة ، وتعلّم قراءة القرآن الكريم وتدارس العلم عبادة ، والفصل في الخصومات عبادة ، واطعام المساكين والمحتاجين عبادة ، وإقامة المعروف والنهي عن المنكر عبادة ، والحضّ على الجهاد ونشر الاسلام عبادة ...




تطوّر المساجد عبر التاريخ

تشير أقدم المصادر التاريخيّة أنّ نشوء أوّل انسان في الأرض أعقبه اقامة أوّل مسجد لله تعالى في هذا الكوكب ، من أجل عبادة الله الواحد الأحد ، فان أصحّ المعلومات عندنا تؤكِّد انّ بيت الله الحرام في مكّة المكرّمة كان أوّل بيت وضع للناس من أجل عبادة الله عزّ وجلّ ، وكان مؤسِّسه ـ بأمر الله تعالى ـ آدم أبا البشر عليه الصلاة والسلام ...
وأمّا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، فكان مجدداً لبنائه بعد تقادم الأزمان ، وانهيار البناء الأوّل لذلك البيت المعظّم ، وقوله تعالى بهذا الخصوص يؤكِّد هذه الحقيقة :
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا لْقَوَاعِدَ مِنَ ا لْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ ا لْعَلِيمُ ) . ( البقرة / 127 )
فإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) رفعا القواعد من البيت ، التي كانت سابقة لوجودهما (عليهما السلام) ، كما هو مفهوم الآية الكريمة .
وإضافة إلى ذلك ، فانّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يؤكِّد وجود الكعبة المشرّفة منذ عهد آدم (عليه السلام) ، فيقول الإمام (عليه السلام) بهذا الخصوص ما يلي :
« ألا ترون أنّ الله سبحانه ، اختبر الأوّلين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العـالم ، بأحجار لا تضر ، ولا تنفع ، ولا تبصر ، ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام « الذي جعله للناس قياماً » ، ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حَجَراً ، وأقل نتائق الدّنيا مدراً ، وأضيق بطون الأودية قطراً ، بين جبال خشنة .. قفار سحيقة »(22) .
انّ هذا النصّ المبارك ينسجم مع دلالة الآية السابقة ، وهو من أكثر الوثائق المتعلِّقة بهذه الحقيقة دلالة على أنّ بناء الكعبة المشرفة قد سبق إبراهيم الخليل(23) (عليه السلام) .
أمّا روايات المؤرِّخين والقصاصين فإن قوامها من الروايات الإسرائيلية التي لا تفيد علماً .
هذا وتساعد دعوات إبراهيم (عليه السلام) الخاشعة بصدد ذرِّيّته التي تضمّها الآية التالية على الاعتقاد أنّ البيت الحرام كان قائماً قبل إبراهيم النبيّ (عليه السلام) وانّه تضرّر بنـاؤه بسبب حوادث الزمان ، ثمّ جدّده إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) بعد ذلك الدّعاء الخاشع الذي ضرع به إبراهيم (عليه السلام)بعد أن ترك زوجه هاجر وولدها إسماعيل عند البيت الحرام ..
(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِندَ بَيْتِكَ ا لْـمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الـثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) . ( إبراهيم / 37 )



المسجد الحرام منار العبادة ومنطلق المساجد في الأرض :

كانت عملية بناء الكعبة المشرّفة في مكّة المكرّمة إيذاناً بقيام المؤسّسات التوحيدية الكبرى في تاريخ هذا الكوكب ، حيث كان هذا المشروع الإلهي ( البيت العتيق ) إيذاناً بميلاد المساجد في الأرض ، وانتشارها عبر وجود الانسان على ظهر هذا الكوكب الأرضي ، حيث تلا ذلك المشروع مباشرة ظهور المساجد وانتشارها مع انتشار الأنبياء (عليهم السلام) ، والصالحين والركّع السجود في أرض الله الواسعة ابتداء من فجر التاريخ حتّى اليوم .
على أنّ المسجد الحرام في مكّة المكرّمة ، الذي كان أوّل بيت وضع للناس ـ كما وصف القرآن الكريم ـ شاء الله تعالى أن يكون موضع الاجتماع العالمي لأتباع التوحيد والإسلام على وجه الأرض ، من خلال فريضة الحج السنوي التي أذّنَ فيها إبراهيم (عليه السلام) ، فاستجابت له النفوس ، ولا يزال نداؤه تردده الآفاق خصوصاً بعد أن أذّن بتلك الدعوة الربّانية ، حفيده الخاتم المختار محمّد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...
فالكعبة شاء الله تعالى أن تكون موضع الاجتماع العالمي للركع السجود في الأرض عبر الأزمان ، ثمّ تليها المساجد بالانتشار في الأرض ، ليكون هناك مسجد النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومسجد الاقليم ، ومسجد المدينة ، ومسجد القرية ، ومسجد القبيلة ، ومسجد المحلّة ، ومسجد الدائرة ، ومسجد الأسرة ...
وشاء الله ربّ العالمين أن تتأ لّق بعد الكعبة ـ من حيث الأهمّية الدينية ، والانسانية ـ عدّة مساجد كان أبرزها : المسجد النبوي في المدينة المنوّرة ، ومسجد الكوفة ، والمسجد الأقصى ، ثمّ تتوالى المساجد الأخرى حسب قيمتها الحضارية ، وما تقدِّمه للإسلام والنهضة الإسلامية ، وعزّة المسلمين ، كالأزهر الشريف في القاهرة ، ومسجد القرويين في المغرب ، والزيتونة في تونس ، ومسجد البصرة في العراق ، وغيرها .
على أنّ بعض المساجد فقدت قيمتها ، أو كادت بسبب ظروف سياسية ، واجتماعية قاهرة ، كمسجد الزيتونة ، ومسجد البصرة مثلاً ...
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ المساجد بدأت بالظهور في تاريخ الانسان منذ نشوء المسجد الحرام في مكّة المكرّمة إلاّ انّ تغيّر الأسماء لتلك المعابد المقدّسة عند بعض الأمم ، كالدير ، والكنيسة ، والبيع ، كان بسبب التزييف الذي حصل في الأديان بعد أنبيائها (عليهم السلام) ، كما وقع في مفاهيمها وكثير من قيمها ، وشعائرها ، إلاّ أنّ أهمّ المساجد ـ بعد البيت الحرام ومسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنوّرة ـ في تاريخ الإنسانية ما يلي :
1 ـ المسجد الأقصى :
وهو قبلة المسلمين الاُولى ، حيث ولّى المسلمون وجوههم قبله في الصلاة قبل أن يولّوها شطر المسجد الحرام بمكّة ، ويُعتبر الأقصى أهم الأماكن الاسلامية المقدّسة وأقدمها ، لا يتقدّم عليه من حيث المنزلة غير الحرم المكِّي ومسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) . ومن هنا يُعرف بثالث الحرمين واُولى القبلتين . إليه أسرى الله برسوله الكريم ليلة الاسراء ، وقد تحدّث عن ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى :
(سُبحان الّذي أسرى بعبدهِ لَيلاً منَ المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الّذي باركنا حوله لنُريهُ من آياتنا إنّه هو السّميع البصير ).
( الاسراء / 1 )
وعن مكانته قال الامام علي (عليه السلام) : «إنّ الصلاة فيه تعدل ألف صلاة»(23) .
كان قد بناهُ نبي الله يعقوب بن إسحاق (عليه السلام) ، وجدّد بناءه سليمان بن داود (عليه السلام) ، على أن بعض الرّواة يرى أنّ آدم (عليه السلام) هو الذي بناهُ لأوّل مرّة(24). هذا وقد جدّد المسلمون بناءه في عصور اسلامية مختلفة .
كان المسجد الأقـصى وبيت المقدس الذي احتضنته مسرحاً لأحداث مهمّة على مرّ التاريخ لا سيّما في العهود الاسلامية ، وعلى رأس ذلك الغزو الصليبي سنة 1099 م (492 هـ ) . وقد قام الصليبيون بتغيير معالم المسجد لأغراضهم الخاصّة ، فقاموا بتحويل قسم منه إلى كنيسة وانتهكوا حُرمته الدينية ، بينما استخدموا الأروقة الواقعة أسفل المسجد اسطبلاً لخيولهم . وظلّ الوضع كذلك حتّى عاد المسجد إلى السيادة الاسلامية سنة 1187 م (583 هـ ) . والحدث المهم الآخر ، الذي جرى على المسجد الأقصى والقدس الشريف ، هو الاحتلال الصهيوني لهذه البقاع المقدّسة عام 1967 م ، والذي ما زال قائماً حتى يومنا هذا .
2 ـ مسجد الكوفة : الذي بناهُ آدم (عليه السلام) (25) وظلت الأنبياء (عليهم السلام)والأوصياء تتعاهده بالتعظيم والتكريم ، حيث يضمّ قبور أعداد من النبيِّين ، والمرسلين والأوصياء الصادقين (عليهم السلام) ...
وفي الكوفة (مسجد سهيل أو السّهلة) ، كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) : « ... بالكوفة مسجد يُقال له : مسجد السّهلة ، لو أن عمي زيداً أتاه ، فصلّى فيه ، واستجار الله لأجاره عشرين سنة فيه مناخ الراكب ، وبيت إدريس النبي ، وما أتاه مكروب قط ، فصلّى فيه بين العشاءين ودعا الله إلاّ فرّج الله كربته»(26) .
3 ـ مسجد الخيف في منى : وهو من المساجد التي أسّسها إبراهيم الخـليل (عليه السلام) ، وصلّى فيه مئات من الأنبياء (عليهم السلام) ، وسُمِّي بالخيف لارتفاع موضعه عن الوادي(27) ، وقد تأكّد استحباب الصلاة والعبادة فيه .
4 ـ مسجد قبا في المدينة المنوّرة : وقد وردت أحاديث بكونه المسجد الذي اُسِّس على التقوى قبل وصول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنوّرة ، أسّسه الصحابي عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) كما ورد في بعض أحاديث الرواة (28) ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر بالصلاة فيه ، وكان يصلِّي فيه كلّ أسبوع .





مؤسّسات أُخرى للعبادة

وإلى جانب المساجد التي أقامها المسلمون في كل مكان تعبيراً عن هويّتهم الثقافية ومهمّتهم الرِّسالية في التاريخ ، أقام المسلمون هنا ، وهناك مؤسّسات أخرى للعبادة أو اقامة شعائر دينية أخرى ...
ويلاحظ أنّ هذه المؤسّسات التي لاتحمل خصائص المساجد بدرجة ما ، ولا حرمتها ، قد بدأت بالظهور منذ العصور العبّاسية المتأخِّرة ثمّ في العهد العثماني والصفوي ، ولا تزال هذه المؤسّسات تتكاثر هنا ، وهناك ، حتّى انّ بعضها قد يزاحم المساجد في بعض البلدان ، ويؤدِّي وظائفها أحياناً !
ويمكننا أن نحصر هذه المؤسّسات ذات الوظائف العبادية بشكل عام بما يلي :
1 ـ المصلّى : هذه اللّفظة تطلق عادة على الأماكن التي تخصّص للصلاة فحسب، ومنها صلاة العيدين ، وصلاة الأموات ، والاستسقاء ، وما إليها ، وقد اُقيمت في بداياتها في أرض فضاء دون سقف ، ولا حدود ، وكانت تقام عادة في خارج المدن ..
وتشير بعض السِّيَر انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوّل من أوجد المصلّى ، وذلك لإقامة صلاة الأموات ، وصلاة الاستسقاء ، والأعياد ، وكان ذلك المصلّى في عقيق المدينة ، وقد بقي على حالته ، حتّى أيّام الخليفة عمر بن عبدالعزيز ، الذي أمر ببنائه ، وإقامة مسجد على تلك الأرض ، سُمِّي « مسجد المصلّى » ...
ومنذ ذلك التاريخ اتّسعت المصلّيات في بلدان المسلمين المختلفة وتعدّدت ، بعضها لإقامة الصلاة المكتوبة في المدارس أو خارج المدن ، وبعضها لإقامة صلاة العيد فحسب ، وبعضها في الأسواق الموسمية أو في الدوائر الحكومية ، أو عند مواقف السيارات العامّة وما إلى ذلك ..
ومن خصائص المصلّى انّه لا يمتلك الخصائص المسجدية كاملة كوجوب الطهارة من الجنابة أو الحيض بالنسبة لداخليه ، أو حرمة إلغائه ، أو ما إلى ذلك من أمور تتعلّق بأحكام المساجد التي سنشير إليها في الصفحات القادمة ...
وهكذا فانّ المصلّيات أماكن يتّخذها المسلمون للعبادة ، حسب الحاجة والظروف أو تُخصّص لنوع من العبادة ولا تنطبق عليها شروط المساجد بشكل عام .
2 ـ التّكايا : وهي نوع من المـعابد التي ظهرت في العهود الإسلامية المتأخّرة ، وتعززت في أيّام الدولة العثمانية ، ويقيم في هذه المؤسّسات أعداد كبيرة من الدراويش ، فهي معابد لأداء طقوسهم العبادية ، ورياضاتهم الروحية ، كما هي سكن مجّاني لهم ، وكان نظام الدراويش والمتصوِّفين في هذه المؤسّسات يعتمد على تقسيم المنتمين إليها إلى مجموعات ، كل مجموعة منهم يشرف عليهم شيخ ، يعنى بتدريبهم ، وتربيتهم حسب نظام الطريقة التي ينتمون إليها .
ولقد انتشرت التكايا في أقاليم الدولة العثمانية الواسعة ، وشاعت بشكل كبير ، وكانت الدولة تشجع هذه المؤسّسات لأهداف سياسية ، ودينية ، وتشبه التكايا في الدولة العثمانية ، نظيرتها في بلاد فارس ومصر أيّام المماليك ـ مؤسّسات « الخانقاه » ـ التي كانت تكايا القرن الرابع الهجري وما بعده في مصر وبلاد فارس وما إليها ..
3 ـ الزّوايا : كانت بداية الزّوايا بداية علمية ، حيث يتّخذ كل شيخ أو عالم زاوية من زوايا أحد المساجد الكبرى لتعليم الفقه ، وتفسير القرآن الكريم ، وعلوم الاسلام الأخرى ، وكان لكل شيخ مريدوه ، وأتباعه ، وكانت كل زاوية تسمّى باسم شيخها ..
وعند ظهور الطرق الصوفية ، ونموها في العالم الإسلامي ، اختصّت الزوايا بأصحاب الطرق خصوصاً أيّام الدولة العثمانية والمماليك ، حتّى بلغ الحال انّ شيخ الطريقة كان يعيّن من قبل السلطان أو من يليه في السلطة ...
وأهمّ الزوايا الصوفية التي ظهرت في بلاد المسلمين : زاوية الشيخ عبدالقادر الجيلاني التي ظهرت في القرن السابع الهجري في طبرستان ثمّ شملت الهند ، وتركيا ، وأفريقيا ، وكانت تتبنّى المذهب الحنفي فقهياً ..
وزاوية السيِّد أحمد الرفاعي الذي ظهر في واسط في القرن السادس الهجري وقبره الآن في مدينة الرفاعي في وسط العراق ، وكان لهذه الزاوية أثر في الدولة العثمانية ، وكان أبو الهدى الصيادي أحد أحفاد السيِّد أحمد الرفاعي في أيّام السلطان عبدالحميد الثاني ، من المقرّبين للسلطان في عهده ، وكانت له حظوة في سياسة الدولة ، ومكانة عظيمة ، ومذهب هذه الطريقة كان المذهب الشافعي .
ـ زاوية السيِّد أحمد البدوي الحسيني ، التي اشتهرت أيّام بيبرس المملوكي ، ودخل وأتباعه الحرب ضدّ الصليبيّين ، وأبلى بلاء حسناً ، وقبره في مدينة طنطا في مصر من المزارات المشهورة .. وقد ذاع صيت هذه الطريقة أيّام المماليك .
ـ الزاوية الشاذلية ، التي تنتمي إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي ، التي انتشرت في المغرب العربي ومصر ، ولا تزال هذه الطريقة ذات نفوذ مهم في مصر اليوم .
ـ الزاوية التيجانية التي تنتهي إلى أبي العباس أحمد بن المختار التيجاني التي انطلقت من الجزائر إلى بلدان أفريقية .
هذا ومن الجدير بالذكر انّ في بلاد المسلمين زوايا أخرى كثيرة لا يزال بعضها ذا أثر مهم بين أتباعها في الهند ، والباكستان ، والعراق ، وشمال أفريقيا ، والسودان ، وغيرها من البلاد .
4 ـ المقامات ، والمزارات ، والمشاهد ، والعتبات المقدّسة : ودور هذه المؤسّسات متشابه عادة إلاّ في التفاصيل ، وتضمّ عادة قبور بعض الأنبياء وأوصياء الأنبياء والأولياء والصالحين من هذه الأمّة ، وأشهرها قبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبور الأئمّة من آل البيت (عليهم السلام) كأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في النجف الأشرف بالعراق ، وقبر الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين بن عليّ سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كربلاء المقدّسة ، وأخيه أبي الفضل العبّاس بن علي (عليه السلام) ، ومشهد الإمامين العظيمين موسى بن جعفر الكاظم ومحمّد بن عليّ الجواد (عليهما السلام)في بغداد ، ومشهد الإمامين عليّ بن محمّد الهادي ، والحسن بن عليّ العسكري (عليهما السلام) في سامرّاء ـ العراق ، ومراقد أهل البيت (عليهم السلام)في البقيع بالمدينة المنوّرة ، ومشهد الإمام عليّ بن موسى الرِّضا (عليه السلام) في خراسان ، وعشرات غيرها في بلاد الشام ، والعراق ، وشمال أفريقيا ، وإيران ، وبلاد الهند ، وباكستان ، وغيرها .
ويهتمّ المسلمون في كلّ العالم عادة بهذه المراقد المقدّسة التي أقيمت عندها المساجد لعبادة المسلمين ، وذكر الله عزّ وجلّ ، ودعائه ، حيث اعتاد المسلمون عبر التاريخ أن يغتنموا للدُّعاء والذِّكر من أزمنة مقدّسة محدّدة ، وأماكن مقدّسة معلومة ..
وهذه العادة لم تتوقّف على فرقة دون فرقة من المسلمين طوال التاريخ الإسلامي ، إلاّ انّ الفقيه الحنبلي أحمد بن تيمية انفرد برأي رآه ، فأفتى بخلاف غيره من الفقهاء في مسألة زيارة قبور الأولياء ، وذكر الله تعالى عند مراقدهم المقدّسة .. فتعصّب مقلِّدوه لرأيه ولا يزالون !!
وتُعتبر هذه المشاهد اليوم من أهم مراكز العلم ، والعبادة ، والذِّكر ، والدّعاء في العالم الإسلامي كقبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقبور الأنبياء (عليهم السلام) ، كالمشهد الابراهيمي بمدينة الخليل ، وكذلك الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) ممّن ذكرنا ، وممّا لم نذكر اضافة إلى قبور وأضرحة الصحابة وفقهاء المسلمين وعلمائهم ، حيث يزورها المسلمون مُستلهمين من أصحابها الدروس والذكريات والعِبَر .
5 ـ الحسينيّات : مؤسّسات دينية أنشأها أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في العهود الأخيرة ، وقد نشأت في أوّل أمرها في إيران ، والهند ، ثمّ انتشرت إلى العراق وبلاد الشام وغيرها من البلدان التي يقطنها شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ..
ويلاحظ أنّ هذه المؤسّسات نشأت في الوسط الشيعي الإمامي ، كما نشأت قبلها التكايا والزوايا عند أهل السنّة من المسلمين ، فهي تكايا منسوبة لأبي عبدالله الحسين سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتتّخذ هذه الحسينيات أماكن لقراءة سيرة آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، في مناسبات المواليد ، أو في ذكريات وفياتهم (عليهم السلام) ، وأهمّها ذكرى مآسي كربلاء المقدّسة التي جرت على سبط رسول الله الحسين بن عليّ بن أبي طالب ابن فاطمة الزّهراء عليهم الصلاة والسلام ، وأصحابه حيث تُتلى في هذه المواضع سـيرة آل البيت (عليهم السلام) ، وما جرى عليهم من آلام ، كما تقام فيها الاحتفالات في المناسبات المتعلِّقة بهذا الموضوع ..
وتعجّ هذه الحسينيات في الغالب بنشاطات أدبية وثقافية دينية تتعلّق بالقيم التي زرعها أهل بيت الرِّسالة في ثقافة المسلمين ، كما تُقام في هذه الحسينيات كذلك نشاطات عبادية وثقافية مختلفة كاقامة الصلاة ، والأدعية ، والأذكار ، وصلاة العيدين ، وصلاة الجنائز ، ولذا سـمّاها البعض المساجد الحسينية(29)، وتعقد في كثير منها دروس لتعليم القرآن الكريم ، وتفسيره وتتحوّل بعضها إلى حوزات علمية لدراسة التفسير والفقه الاسلامي ، والعلوم الأخرى ..
ومن الراجح انّ هذه المؤسّسات قد اُسِّست لتُقام فيها بعض النشاطات التي قد يتعذّر اقامتها في المساجد التي تتطلّب مراعاة خاصّة، وتفرض قيوداً دينية مميّزة ، كما سنرى ...
انّ هذه المؤسّسات التي يبلغ عددها اليوم عشرات الآلاف في العالم الإسلامي ، وتنفق عليها الأموال الطائلة ، يمكن أن تقوم بدور ثقافي فعّال إنْ اُحسِنَ الاستفادة منها في ضوء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) التي تحمل أعظم مفاخر الاسلام الفكرية والعملية (30) .





من مشاكل المساجد في العصور المتأخِّرة

تأ لّقت المساجد في عصور كثيرة من تاريخ المسلمين ، فكانت منارات للعلم ، ومحطّات للتوجيه ، والثقافة الصحيحة ، ورصّ الصفوف ، وثكنات للمجاهدين، والمرابطين في سبيل الله تعالى ، إضافة إلى كونها مدارس للخير ، ونشر العلم والمعروف والأخلاق الفاضلة ...
وقد تتخلّف المساجد عن رسالتها ، ومهامها ، وأهدافها في بعض العصور ، فلا تؤدِّي دورها في طريق الإصلاح ، وخدمة النهضة ، ونفع الناس ..
وحالات التأ لّق ، والتردِّي للمساجد ، أو لبعضها في عصر من العصور ، أو في بلد من بلدان المسلمين ترتبط بالمسلمين أنفسهم ، فإذا تأ لّق المسلمون في وعيهم ، وزاد عدد المصلحين ، والعلماء ، وأصحاب الشعور بالمسؤولية ، والدعاة الأخيار ، وأخذوا مواقعهم ، في مواقع التوجيه ، والتأثير في الأمّة كالمساجد ، وغيرها من مجامع المسلمين فانّ المساجد تحتل مواقع التأثير الإيجابي في نهضة المسلمين ، وعلو شأنهم ، ورفعتهم ، أمّا إذا ساد الجهل ، وتصدّى النفعيون ، وأصحاب المصالح ، وذوو الادِّعاء للعلم ، والمعرفة ، وصار همُّ الحكومات في بعض البلدان محاربة الوعي الاسلامي ، ومعاداة نهوض الأمّة في إطار قيمها واصالتها ، فقد ينحسر دور المسجد أو يجمد ، وقد يستغل المسجد في الاتجاه المعاكس لدوره ورسالته .
إنّ مساجد المسلمين اليوم ، وفي بلدان كثيرة من بلاد المسلمين تمر في بأزمات شديدة تخرجها عن مهامها الرِّسالية ، وتحول بينها وبين تحقيق أهدافها المناطة بها ، ومن هذه الأزمات والعقبات نذكر ما يلي :
1 ـ تأميم المساجد وأماكن العبادة من قبل بعض الحكومات في العالم الإسلامي ، واخضاعها لمشروع تلك الحكومات في إعاقة رسالة المسجد الحقيقية في توعية المسلمين ، وإطّلاعهم على الحقائق الإلهيّة التي حملتها رسالة الاسلام الحنيف ...
إنّ المساجد في ظل تلك السياسات الخاطئة تتحوّل إلى ما يشبه المتاحف الميتة ، التي تؤدّى فيها العبادات بشكل باهت لا يتفاعل مع حياة الناس ، وواقعهم اليومي ...
وإنّ هذه السياسة التي تنفِّذها بعض الحكومات هي التي تساهم في حمل المسلمين على البحث عن مناهل للوعي الإسلامي ، والتعرّف على حقائق الإسلام، عن طريق المشاريع البديلة، العلنية أو السرّية ...
وإنّ إفراغ المساجد عن أهدافها ، ومهامها ، وتحويلها إلى مؤسّسات تخدم الحكّام وسياساتهم التغريبية في بعض البلدان ، قد كلّف المسلمين في تلك البلدان خسائر فادحة وخلق حالات من التوتّر ، وعدم الثقة ، ثمّ اللّجوء إلى العنف ، لا يزال المسلمون يجنون منها التخلّف ، والاضطراب ، والصراع ، والدماء ..
2 ـ سيطرة الأئمّة والوعّاظ الجهلة على المساجد : ومن مشاكل المساجد لدى بعض البلدان ، سيطرة الجهلة من الوعاظ ، وأئمّة الصلاة عليها ، واكتفاء هؤلاء بما يؤدّونه من وظائف شكلية ، وما يتقاضونه من مرتّبات من دوائر الأوقاف الرسمية في بعض البلدان أو من أصحاب المساجد ، والمتولِّين عليها ...
انّ أمثال هؤلاء الوعّاظ لا يكلفون أنفسهم عناء المطالعة ، والاطّلاع على حقائق الاسلام ولا يعدون أنفسهم بما يناسب هذه المهمّة الرِّسالية الكبيرة التي أنيطت بهم ، رغم انّ هذا المنصب من أكثر المناصب مسؤولية أمام الله تعالى في الآخرة ، خصوصاً إذا فرط الواعظ في حقّ الاسلام الحنيف ، وضلل الأمّة عن حقيقة دين الله عزّ وجلّ وأهدافه العليا ..
إنّ كثيراً من الوعّاظ ، وأئمّة الصلاة في المساجد يكونون عوناً للظالمين ، وإن لم يقصدوا ذلك ، خصوصاً إذا أصبحوا سبباً في صدّ الناس عن المساجد ، وإبعادهم عنها بسبب جهلهم ، وعدم نفعهم للمسلمين بما يطرحـون من أفكار فجّة ، ومفاهيم بعـيدة عن ذوق الناس ، وتطوّرات الحياة ، خصوصاً بالنسبة للشباب اليافع الذي يتطلّع إلى المفاهيم التي تملأ نفسه بالرضى ، والقناعة لا المفاهيم البائدة المشككة بجدارة الاسلام الحنيف ، وقدرته على مسايرة تطوّرات الحياة .. في الوقت الذي نجد فيه أئمة مساجد عاملين ووعّاظاً آخرين مجاهدين يؤدّون دورهم في توعيـة الناس وإرشـادهم على أحسن وجه ، ممّا يجعل عملهم امتداداً لسيرة الأنبياء والأولياء من حملة الهدى الربّاني ومُبلِّغي الرسالات الإلهية .
3 ـ ومن مشاكل المساجد : عدم توفّر برامج حيويّة تهتم بمعاناة الناس ومشاكلهم ، كاهتمام المساجد ـ مثـلاً ـ بمشكلة العزّاب ، أو العاطلين عن العمل ، أو الأيتام ، والمرضى ، وأمثال ذلك ـ على الأقل ـ ممّا يربط الأمّة بالمسجد .
إنّ جمع الزكاة العامّة وزكاة الفطرة ، والصدقات المندوبة ، وتشجيع المحسنين على القيام بمشاريع الإحسان من الأمور التي يمكن أن يؤدِّيها المسجد في أكثر بلاد المسلمين ... ومن المهام الأساسية لإمام المسجد أن يتولّى هذه الأمـور مباشرة أو بالواسـطة لربط الناس بالمسـجد ولإشعار الأمّة بأنّ مساجد الله عزّ وجلّ ، تهتم بمعاناتهم ، وتتحسّس آلامهم ، ممّا يجعلهم يشعرون بأهمّية المسجد ، ودوره الحقيقي في دنيا المسلمين ، والدعوة إلى الخير وإشاعة المعروف والنهي عن المنكر ، إضافة إلى مهامه الأخروية ، كما انّ هذه المشاريع الواقعية وأمثالها تشعر الناس كذلك ، بأنّ الإسلام يجمع بين متطلّبات الدّنيا والآخرة معاً ، وانّ كلمات الوعظ ، والإرشاد ، لا تعلق في فراغ ، وإنّما يهتمّ الواعظ بشؤون الناس ، ومعاناة عباد الله تعالى ..
4 ـ ومن مشاكل المساجد : اخضاعها لدوام رسمي صارم ، حيث انّ المساجد في بعض البلدان المسلمة تفتح عندما يحل وقت الصلاة ، وتغلق بعد ساعة أو ساعتين ، حتّى يعطى انطباع لدى المسلمين في تلك البلدان ، انّ المساجد أقيمت لغرض الصلاة المفروضة ، فحسب ، وبحدود أدائها ، لكي تغيب المهام التي اُنشِئت المساجد من أجلها عن أذهان المسلمين ، ولكي تفصل شؤون العبادة عن الحياة الواقعية ..
إنّ أداء الصلاة في المسجد لا يقتصر على إقامتها أوّل الوقت ، بل يمتدّ لطول وقتها ، خصوصاً لمن لهم عذر من سفر أو انشغال أو غيره . كما لا يقتصر دور المساجد على أداء الصلاة الواجبة ، بل إنّه يشمل الاتيان بالصلاة المستحبّة وقراءة القرآن والدعاء ، وكل ما يمكن أن يُطلق عليه عنوان الذِّكر .
5 ـ ومن المشاكل التي تعاني منها المساجد في بعض البلدان : تعاطي الخرافات والأساطير فيها ، واللغط ، واللهو ، والنوم ، وقضاء الأوقات في الأحاديث الدنيوية ، وربّما تعاطي الغيـبة ، والكذب ، وتناول اعراض المسلمين ، اضافة إلى التدخين في المساجد ، والتسبّب في هتك حرمتها ، وادخال القذارة فيها ...
هذه بعض المشاكل التي تعاني منها المساجد اليوم في بعض بلدان المسلمين .







من أحكام المسـاجد وآدابها

(وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) . ( الجنّ / 18 )
يُراد بأحكام المسـاجد وآدابها ، حين تطلق أو تذكر ، إنّما هي الضوابط التي وضعها الإسلام الحنيف لهذه المؤسّسات الشريفة ، من ناحية الضوابط الخاصّة بها ذاتياً ، والتي تحدِّد قيمتها المعنوية بين المؤسّسات الأخرى ، اضافة إلى كيفيّة التعامل معها سلباً أو إيجاباً من قبل المسلمين ...
ويمكن أن يطلق على هذه الضوابط ، والأحكام ، والآداب ، بالنظام الداخلي في المصلطح الحديث الذي يُحدِّد مكانة المسجد المعنوية وحقوقه وواجبات المسلمين تجاهه ...
فلقد اهتمّت النصوص المقدّسة في الكتاب والسنّة بهذا الموضوع أيّما اهتمام ، كما اهتمّ فقهاء الشريعة الإسلامية ببلورة تلك الضوابط ، وعرضها بشكل دقيق ، ضمن المجامع الفقهية العامّة ، أو في أبحاث فقهية خاصّة بشؤون المساجد ، حتّى انّك لا تكاد تجد كتاباً فقهياً قديماً وحديثاً لايفرد باباً خاصّاً لأحكام المسجد ، وشؤونه ، وآدابه! ...
وهذه أهمّ السنن والآداب التي اهتمّ الشارع المقدّس بعرضها في هذا الشأن :
1 ـ المساجد محور الوحدة بين المسـلمين : من البنود الرئيسة للميثاق الذي وضعته الشريعة الإسلامية المقدّسة للمساجد : انّ المسجد يجب أن يكون لعموم المسلمين ، لا لأتباع مذهب فقهي معيّن ، ولا فرقة ، ولا جماعة ، ولا يخص أهل محلّة بأيّ حال من الأحوال ، فلا يصح في المنطق الإسلامي أن يستأثر أي شخص أو جهة ، أو عنوان من العناوين المذكورة أو سواها بمساجد الله تعالى ، وإنّما هي لله وحده ، يعبده فيها جميع المسلمين ...
فقد ذكر المرحوم الشيخ محمّد حسن النجفي في موسوعته الفقهية « جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام » حول هذا الموضوع ما يلي :
« المراد بالمسجد شرعاً: المكان الموقوف على كافّة المسلمين للصلاة، فلو خصّ بعضاً منهم به لم يكن مسجداً ... » (31) .
ومن أجل ذلك فانّ تعليمات أئمّة المسلمين من أهل البيت (عليهم السلام)تؤكِّد على هذا المضمون عملياً ، كما ورد في النصوص التالية :
ـ فعن أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) ـ يوصي أتباعه بالصلاة خلف مخالفيهم في المذهب من المسلمين ـ يقول : «من صلّى معهم في الصف الأوّل ، كان كمن صلّى خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصف الأوّل »(32) .
ـ وعن إسحاق بن عمّار قال : قال لي أبو عبدالله (الصادق) : « يا إسحاق ! أتصلِّي معهم في المسجد ؟ قلت : نعم ، قال : صلّ معهم ، فانّ المصلِّي معهم في الصف الأوّل كالشاهر سيفه في سبيل الله »(33) .
ـ وعن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) يوصي أصحابه، فيقول: «أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ ، ولا تحملوا الناس على أكتافكم ، فتذلّوا ، انّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )ثمّ قال : عودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، واشهدوا لهم ، وعليهم ، وصلّوا معهم في مساجدهم ... »(34) .
2 ـ يكره لجار المسجد أن يؤدِّي صلاته في غير المسجد ، فقد وردت في ذلك نصوص كثيرة ، تؤكِّد هذا المعنى .
فقد روى رسـول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في مسجده»(35) .
وقد فسّر الشيخ أبو جعفر الطوسي (رضي الله عنه) هذا الحديث ومراد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه : «انّه لا صلاة فاضلة كاملة لجار المسجد إلاّ أن يؤدِّيها في مسجده» .
وهذه الحالة بالطّبع إذا كانت فردية عادية ، أمّا إذا تحوّلت إلى حالة سياسية يُراد منها شقّ الجماعة المسلمة وإثارة الفتنة ، فانّ الأمر يتحوّل إلى الحرمة المشدّدة .
3 ـ استحباب الاختلاف إلى المساجد ، وملازمتها : من أكثر المؤسّسات ، التي حضّ الإسلام الحنيف على ملازمتها ، وضرورة العناية بها ، وإعمارها بالعبادة ، والذِّكر لله عزّ وجلّ كانت المساجد ، التي خصّت في الاسلام بأنّها « بيوت الله » و « مساجد الله » ، ومن النصوص المقدّسة التي رسخت هذه الرعاية الخاصّة بالمساجد نذكر :
(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ، وَا لْيَوْمِ ا لاْخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ، وَآتَى الزَّكَاةَ ، وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُولئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ ) .
( التّوبة / 18 )
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « مَن كان القرآن حديثه ، والمسجد بيته ، بنى الله له بيتاً في الجنّة »(36) .
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « انّ الله تبارك وتعالى ليريد عذاب أهل الأرض جميعاً حتّى لا يحاشي منهم أحداً ، فإذا نظر إلى الشِيّب ناقلي أقدامهم إلى الصلاة ، والولدان ، يتعلّمون القرآن رحمهم الله ، فأخّر ذلك عنهم »(37) .
وعن عليّ أمير المؤمنـين (عليه السلام) قال : « الجلسة في الجامع خير لي من الجلسة في الجنّة ، لأنّ الجنّة فيها رضى نفسي ، والجامع فيه رضى ربِّي »(38) .
وعن أبي عبدالله الصـادق (عليه السلام) قال : « ما عُبِد اللهُ بشيء مثل الصّمت ، والمشي إلى بيته »(39) .
4 ـ ضرورة بناء المساجد ، ونشرها في الأرض : ولم يحثّ الإسلام الحنيف على بناء شيء ، والاهتمام بتكثيره ، وإعماره ، كما حثّ على بناء المساجد وإعمارها في الأرض ، أينما حلّ المسلمون ، وتواجدوا :
ـ فعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) ، عن آبائه ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « انّ الله إذا أراد أن يصيب أهل الأرض بعذاب قال : لولا الّذين يتحابّون فيَّ ، ويعمرون مساجدي ، ويستغفرون بالأسحار ، لولاهم لأنزلت عذابي »(40) .
ـ وعن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين الباقر عليه الصلاة والسلام عن آبائه (عليهم السلام) ، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « مَن بنى مسجداً كمحفصِ قطاة بنى الله له بيتاً في الجنّة »(41) .
5 ـ كراهة إنشاد الشعر ، والحديث في أمور الدّنيا والخوض في الباطل في المساجد : أقيمت المساجد لله تعالى ، أماكن لعبادته ، وبيوتاً لذكره ، لا يدعى فيها غيره .
(وَأَنَّ المَسَاجِدَ للهِِ ، فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) . ( الجنّ / 18 )
ومن أجل ذلك ، نهى الإسلام الحنيف عن البيع فيها والشِّراء ، أو إبرام العقود التجارية، كما نهى عن الانشغال فيها بذكر الدّنيا، وشؤونها، ومن ذلك اللّهو ، وإنشاد الشعر البعـيد عن الله عزّ وجلّ ، وذكره ، وتعظيمه :
فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « مَن سـمعتموه ينشد الشعر في المسجد ، فقولوا فضّ الله فاك ، إنّما نصبت المساجد للقرآن »(42) .
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): « يأتي في آخر الزمان قوم يأتون المساجد، فيقعدون حلقاً ذكرهم الدّنيا ، وحبّ الدّنيا ، لا تجالسوهم ، فليس لله فيهم حاجة »(43) .
وعن أبي ذر الغفّاري (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « يا أبا ذر ! من أجاب داعي الله ، وأحسن عمارة مساجد الله ، كان ثوابه من الله الجنّة ، فقلت : كيف يعمر مساجد الله ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : لا ترفع الأصوات فيها، ولا يخاض فيها بالباطل ، ولا يشترى فيها ، ولا يباع ، واترك اللّغو ما دمت فيها ، فإن لم تفعل ، فلا تلومنّ يوم القيامة إلاّ نفسك»(44) .
6 ـ كراهة النوم في المساجد: ومن ظواهر احترام المساجد، وتعظيمها، كراهة النوم فيها ، فعن زرارة بن أعين قال : قلت لأبي جعفر (عليه السلام) : ما تقول في النوم في المساجد؟ فقال: لا بأس به إلاّ في المسجدين ، مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسجد الحرام ، قال : وكان يأخذ بيدي في بعض اللّيل فيتنحّى ناحية ثمّ يجلس فيتحدّث في المسجد الحرام ، فربّما نامَ هو ونمت ، فقلت له في ذلك ، فقال : إنّما يكره أن ينام في المسجد الحرام ، الذي كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأمّا النّوم في هذا الموضع فليس به بأس »(45) .
7 ـ كراهة دخول المساجد لمن أكل الثوم ، والبصل : ومن مظاهر التكريم لبيوت الله تعالى ، حرص الإسلام الحنيف على إبعاد الروائح الكريهة عنها ، ومنها : منع المتعاطين لأكل البصل ، والثوم ، والكراث من دخول المساجد بسبب رائحتها المنفِّرة ، عند الاختلاط بالمصلِّين .
ـ روى محمّد بن مسلم قال : سألت الإمام أبا جعفر الباقر (عليه السلام)عن أكل الثوم فقال : « إنّما نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه لريحه ، فقال : مَن أكل هذه البقلة الخبيثة ، فلا يقرب مسجدنا ، فامّا من أكله ولم يأت المسجد فلا بأس »(46) .
ـ وسأل أبو بصـير أبا عبدالله الصادق (عليه السلام) عن أكل الثوم ، والبصل ، والكراث ، قال : « لا بأس بأكله نياً ، وفي القدور ، ولا بأس بأن يتداوى بالثوم ولكن إذا أكل ذلك ، فلا يخرج إلى المسجد »(47) .
8 ـ اسـتحباب التطيّب ، وارتداء الملابس النظيفة عند التوجّه للمساجد: ومن ظواهر الاهتمام بهيبة المسجد ، ونظافته ، وجلاله : حثّ الإسلام الحنيف عبرَ توجيهاته الموحية الدالّة على ضرورة مسِّ رواده للطيب،والروائح الذكّية، وارتداء المصلِّين للملابس الطاهرة، النظيفة(48)، حتّى أنّ بعض التوجيهات الدينية الأصيلة حضّتْ على أهمّية أن يكون للمصلِّي ثياب خاصّة للمساجد، غير التي يستعملها في عمله ، وشؤونه العادية ..
9 ـ استحباب الاهتمام بنظافة المسجد ، والاعتناء بكنسه :
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « مَن قمّ مسجداً ، كتب الله له عتق رقبة ، ومن أخرج منه ما يقذي عيـناً ، كتب الله عزّ وجلّ له كفلين من رحمته »(49) .
ويلحق بضرورة العناية بنظافة المساجد ، ضرورة الاهتمام بإضاءتها بما يناسب حاجة المصلِّين لذلك(50) .
10 ـ يندب للمصـلِّين دخول المسـجد على طهارة (51) والدُّعاء بالمأثور :
ومن أدعية دخول المساجد المأثورة :
عند الدخول : « أللّهمّ اغفر لي ، وافتح لي أبواب رحمتك » .
وعند الخروج من المسجد : « أللّهمّ اغفر لي ، وافتح لي أبواب فضلك »(52) .
11 ـ ومن آداب الدخول والخروج للمساجد : تقديم الرجل اليمنى عند الدخول وتقديم اليسرى عند الخروج مع الصلاة على محمّد وآله (صلى الله عليه وآله وسلم) (53) .
12 ـ استحباب إلقاء التحيّة للمسجد بصلاة ركعتين عند دخوله : ومن السنن النبويّة في إكرام المساجد أداء ركعتين تحيّة للمسجد ، فقد حدّث الصحابي الجليل أبو ذر الغفّاري (رضي الله عنه) قال : دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو في المسجد جالس ، فقال لي : « يا أبا ذر ! انّ للمسجد تحيّة ، قلت : وما تحيّته ؟ قال : ركعتان تركعهما ... »(54) .






ضـوابط قانونيّـة ملزمـة

وتدخل ضمن ضوابط المسـجد ، ونظامه الداخلي مجموعة من الالتزامات الواجبة في التعامل مع المسجد أو ضمنه ، من قبل رواده ، وقد أ لِفت أدبيات المسلمين بتسميتها بأحكام المساجد في الأعمّ الأغلب تمييزاً لها عمّا سنّ لها من آداب ، ومستحبّات ، وما وضع من مكروهات .
وهذه الالتزامات الشرعيّة الواجبة تحظى بالأولويّة في ضوابط المسجد مقدّمة على غيرها لكونها من الواجبات الشرعية المفروضة تجاه المسجد ، ولذا رأينا من المناسب أن نؤكِّد عليها في خاتمة هذا العرض الموجز لضوابط المسجد ، فنذكرها على شكل مواد قانونية صرّح بها الشرع الشريف :
1 ـ يحرم بشكل مطلق تنجيس المسجد بأ يّة نجاسة كانت ، لا فرق في ذلك بين أرضه أو جدرانه ، وفراشه ، وسائر أجهزته ، ويجب المبادرة إلى تطهير ما تنجّس منها .
2 ـ يحرم إدخال النجاسات المنصوصة شرعاً إلى المساجد كالكلب ، والخنزير ، والميتة ، والغائط ، وما إلى ذلك ، ويستثنى من ذلك النجاسات التي لا يُعتدّ بها ، كثوب المصلِّي الذي لحقته نجاسة قليلة مثل دم الجروح والقروح ..
3 ـ إذا تنجّس المسجد ، وجب المبادرة إلى تطهيره ، بل وتقديم تطهيره على الصلاة فيـه ، إذا كان في وقت الصلاة سعة بالنسـبة للمصلِّي .
4 ـ إذا عجز المكلّف عن تطهير المسجد ، وجب عليه إخبار الآخرين من أجل أداء الواجب .
5 ـ إذا توقّف تطهير المسجد على بذل مال لذلك ، وجب بذل ذلك المال ، مع مراعاة قدرة المكلّفين بذلك .
6 ـ لو غصب مسجد ، وحوله الغاصبون إلى دار أو دائرة أو متحف أو طريق ، لا يجوز تنجيسه كذلك .
7 ـ إذا تحوّلت معابد الكفّار إلى مساجد جرت عليها أحكام المساجد المذكورة أعلاه أيضاً من حيث الحرمة والقدسية ووجوب الرعاية .
8 ـ يحرم أخذ أيّ شيء ممّا هو خاص بالمسجد من آلات أو فراش أو أجهزة أو ما إلى ذلك ، كما لا يجوز الانتفاع بها أو تملّكها بأي شكل من الأشكال .
9 ـ تقضي ضوابط الإسلام الحنيف بمنع المجنب ، والحائض ، والنّفساء من دخول المساجد إلاّ اجتيازاً ، كأن يدخل من باب ويخرج من آخر ، أمّا المكث فيها فلا يجوز مطلقاً ، ويستثنى من ذلك المسجد الحرام ، ومسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنوّرة حيث يحرم الاجتياز فضلاً عن المكوث فيها (55) .
هذه جملة من الضوابط ، والأحكام ، والآداب التي تشكِّل البنود الرّئيسة للنظام الداخلي للمساجد في الإسلام الحنيف ، والتي تتحدّد في ضوئها مكانة المسجد في الإسلام ، والواجبات التي ينبغي أن يلتزم بها المسلمون تجاهها ، بيوتاً لله تعالى في أرضه ، ومنارات للعمل الصالح ، والذِّكر لله عزّ وجلّ ..








كيف يحتل المسـجد موقعه الطبيعي في حياة المسلمين المعاصرة ؟

تختلف المساجد في أهمّيتها الحضارية ، باختلاف موقعها الروحي ، والاجتماعي والمكاني في دنيا المسلمين .
فالمساجد في حياة المسلمين ليست على وتيرة واحدة من ناحية الأهمّية ، والموقع ، والتأثير ، والمهمّة كذلك ، فمن مساجد المسلمين ما أقيمت بأمر الله عزّ وجلّ لتكون مركز إشعاع للهدى ، والخير في دنيا المسلمين كالمسجد الحرام ، ومسجد النبيّ ، والمسجد الأقصى ، ومسجد الكوفة ، ومسجد قبا ، ومنها ما ارتبط بأمجاد المسلمين ، وعزّتهم كالجامع الأزهر ، ومسجد القرويين ، وجامع الزيتونة ، وأمثالها ...
ومن المساجد ما يكون مسجداً لإقليم من أقاليم المسلمين ، ومنها ما يكون لمدينة ، ومنها ما يكون لقرية أو محلّة ، أو قبيلة ، أو عشيرة ، حتّى يصل الدور إلى مسجد العائلة في الدار ...
وأهمّ المساجد التي أقامها المسلمون بعد مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ; المساجد الجامعة التي أقيمت في حواضر المسلمين ، ومدنهم الكبرى ، وفيها تقام صلاة الجمعة ، ويجتمع فيها المسلمون لأدائها ، وسماع المواعظ فيها ، ثمّ تتدرّج المساجد من حيث الأهمّية ، والتأثير ، والموقع في حياة المسلمين .. وبناء على ذلك فانّه ليس من الطبيعي أن تتشابه المساجد في وظائفها وتأثيرها في حياة المسلمين ...
فقد يؤثر بعض المساجد في حياة الأمّة المسلمة كلّها ، بينما يؤثر مسجد آخر في أحد أقاليم المسلمين ، وآخر في مدينة ، وغيره في قبيلة أو قرية أو محلّة .
وهكذا فليس من الصحيح أن نفترض انّ وظائف المساجد واحدة ، ولكن لا بدّ من وجود مشتركات بينها ، ثمّ تأتي الفروق الكبيرة والصغيرة حسب الأهمّية ، وقدرة التأثير ، وحدوده !
فالمسجد الحرام في مكّة المكرّمة له من المؤهلات الروحية والمادية ما يجعله يؤثر في حياة الأمّة الإسلامية كلّها، ويوفِّر مستلزمات صياغة الكثير من جوانب حياتها باتّجاه الاسلام ، والفضيلة ، والبناء ، فمؤتمرات الحج والعـمرة التي وفّر الله عزّ وجلّ أرضية عقدها في كل عام، فيحضر مواسمها مئات الآلاف من المسلمين من كل لون ، وذوق، ولغة، وثقافة، ومكان، بمقدورها أن توفِّر الكثير من الخطط والمشاريع ، لبناء حضارة الأمّة ، ومجدها عبرَ الأزمان والأجيال ، كما بمقدورها أن تواجه مخططات الأعداء والمنافقين .
إنّ بمقدور بيت الله الحرام ، لو أعطاه المسلمون قيادهم أن يغيِّر حياة المسلمين ، باتِّجاه المجد ، والتحضّر المفعم بالإيمان ، والعدل ، والمتفجر بالخير ، والخصب ، والنماء ...
لقد كان من أكبر مخاوف أوربا الغازية بعد الحرب العالمية الأولى ، انّها لا يمكن أن يقر لها قرار في الشرق ما دام القرآن المجيد والكعبة المشرفة لدى المسلمين ، لأ نّهما كفيلان بتحريك قوى المسلمين ، باتِّجاه النهضة والخلاص(56) !
إنّ هذا الفهم الأوربي صحيح إلى درجة كبيرة ، فبيت الله الحرام إذا لم يكبل عن أداء مهمّته الرِّسالية ، فسوف يكون جديراً بتحقيق الأساس المركزي لنهضة الأمّة كلّما تنكرت لها الأيّام وتداعت عليها الأمم ...
فالمسجد الحـرام جدير بتوفير الفرص للمسلمين أن يفكِّروا في أمورهم وأن يخطّطوا لخلاصهم، ووحدتهم، ونهوضهم الروحي والمادّي. ففي ضوء المكانة الخاصّة لبيت الله الحرام في مكّة المكرّمة ، ومسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنوّرة ، يمكننا أن نفترض أن بوسعهما أن يحقِّقا ما يلي :
1 ـ تبادل التجارب الفكرية والثقافية بين المسلمين في مختلف بقاع الأرض .
2 ـ توفير مستلزمات التقريب ، والتلاقح في الرؤى ، والفهم للأمور السياسيّة ، والتحدِّيات ، ومشاكل المسلمين العامّة ، وتوفير أرضية الاتّفاق على الحلول وطرق المواجهة لمشاكل الأمّة ، وتحدِّياتها .
3 ـ توفير الدراسات ، والأبحاث الفقهية ، والفكرية المقارنة لإستيعاب ما لدى المسلمين من وجهات نظر دينية أو سياسية ، ويمكن أن تقام جامعة علميّة خاصّة لهذا الغرض تلحق ببيت الله الحرام .
4 ـ إقامة المؤتمرات لتبادل وجهات النظر بين العاملين في الحقل الإسلامي السياسي من أجل نهضة المسلمين ، وخلاصهم ، وقد يُقام مركز للعمل الإسلامي العالمي .
5 ـ عقد الاجتماع الدوري لقادة المسلمين في العالم لحل مشاكل المسلمين السياسية الطارئة ، ووضع استراتيجيّات المستقبل .
6 ـ إنشاء دور نشر عالمية للتعريف بالإسلام ، وعلوم القرآن باللّغات الحيّة في العالم .
7 ـ تأسيس إذاعات ومحطّات تلفزيون عالمية للتعريف بالإسلام الحنيف ، وتاريخه ، ورجاله ، وعلومه ، وفق فهم مشترك بين المسلمين .
8 ـ إقامة ندوة العلماء الدائمة ، لتبادل الرأي في مسائل الثقافة الإسلامية ، والعلوم الإسلامية .
9 ـ إنشاء مركز الجاليات الإسلامية في العالم ، لدراسة مشاكلها ، وتحدِّياتها ، وما ينبغي وضعه من خطط لحمايتها ، وضمان استمرار تأثيرها في المجتمعات المختلفة .
10 ـ إنشاء المركز العالمي للمساجد ودور العبادة ، لوضع الخطط لإعادة المسجد إلى موقعه الطبيعي في حركة الأمّة ، وحمايته ، والاهتمام به .
11 ـ إنشاء الصندوق العالمي للزكاة لإسناد الجماعات المسلمة الفقيرة في العالم .
هذه بعض التصوّرات عمّا بمقدور المؤسّستين المباركتين : البيت الحرام ، ومسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تنهضا بها في حياة المسلمين لو توفّرت الظروف المناسبة لأداء دورهما الرِّسالي في الأمّة ...
أمّا المساجد الأخرى في العالم الإسلامي ، فانّها من الطبيعي أن تكون دون ذلك في الأهمّية ، والتأثير في حياة المسلمين العامّة والخاصّة ، ولكن لكلّ منها دوره الذي يمكن أن يؤدِّيه في حدود الواقع ، والممكن ...
وهذه مقترحات أوّلية لمساجد المسلمين في العالم ، نأمل أن يستفيد منها المسلمون كل في وسطه ، وحسب إمكاناته المتاحة مادّياً ، ومعنوياً ، حتّى يعاد المسجد رويداً رويداً إلى موقعه الطبيعي في حركة النهوض الإسلامي :
1 ـ المسجد دار العبادة ومحل الاجتماع : من أولويات مهام المسجد في دنيا المسلمين أن يتّخذه المسلمون موضعاً أساسياً لعبادتهم وتوجّههم إلى الله عزّ وجلّ ، فعندما تحل أوقات الصلاة ينقل الشيوخ والكهول أقدامهم ، قاصدين مساجد الله عزّ وجلّ لأداء الفريضة ، ويتسابق الشباب ، والصبية ، ملبين داعي الله عزّ وجلّ لأداء الصلاة ...
فتنتظم الصفوف ، وتقام صلاة الجماعة بإمامة إمام المسجد أو أحد عدول المؤمنين ...
وينبغي على المؤمنين العاملين ، والآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر أن يحثوا المسلمين على عمارة المساجد بالعبادة ، والاعتكاف ، وقراءة القرآن ، وأن يتعاظم الاهتمام بصلاة الجماعة بخصوص الفرائض ، أو صلاة العيدين أو ما إلى ذلك ...
فانّ هذه العبادات المباركة اضافة إلى أهمّيّتها الذاتية ، فانّ لها آثاراً واقعية من حيث التعارف بين المسلمين ، وشيوع المحبّة ، والتعاون ، والتكافل ، والتزاور ، وتفقد الغائب ، وزيارة المرضى ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وغير ذلك من ظواهر المجتمع الإسلامي ، وحسن العلاقات بين المؤمنين في المدن ، والقرى ، والمحلاّت ...
2 ـ ليكن المسجد مناراً للمعرفة ، والتثقيف الإسلامي : ومن المهام التي ينبغي أن تترسّخ في مساجد المسلمين : تعليم المسلمين أحكام دينهم ، وقيم التشريع الإلهي ، من فرائض ، وأخلاق ، وآداب ، وأوامر ، ونواه ، وما إلى ذلك ... ولقد كانت هذه المساجد في عصور المسلمين الزاهرة قبلة للباحثين عن المعرفة ينهلون العلم فيها ، ويتذاكرون المعرفة ، ويتدارسون معاني كتاب الله عزّ وجلّ ...
وهؤلاء العلماء والرواة ، والمفسِّرون ، والمؤرِّخون الذين شهدتهم القرون أيّام ازدهار الحضارة الإسلامية ، قد تخرّجوا في مساجد الحواضر الإسلامية ما بين بخارى شرقاً إلى قرطبة غرباً ، حيث المسجد الحرام ، ومساجد بلاد الشام وفلسطين ، والمسجد النبوي ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة ، والجامع الأزهر ، ومساجد اصفهان ، وقم ، وخراسان ، ومسجد القيروان ، والزيتونة ، والقرويين ، وغيرها كثير ...
انّ تدريس العلوم الإسلامية ، وأحكام الشريعة ، يمكن أن تتّخذ مستويات عديدة أدناها : الحلقة المفتوحة لتدارس موضوع ديني محدّد ، وأعلاها اقامة حوزة علمية ثابتة في المسجد ... ويمكننا أن نتصوّر مجموعة من النشاطات الثقافية في المساجد :
أ ـ إقامة درس ديني مختصر بعد الصلاة يلقيه إمام المسجد أو مَن ينوب عنه ، كشرح آية أو رواية ، أو توجيه معيّن .
ب ـ عقد حلقات علمية يومية في وقت محدّد ، والإعلان عنها ، على شكل محاضرات أو ندوة تدوم ساعة أو أكثر .
ج ـ عقد درس خاص لفئة محدّدة من الناس كطلاّب الجامعة ، أو طلبة الحوزة ، أو طلاّب الثانوية مثلاً ، ويهتمّ البحث بمادّة علمية معيّنة كبحث فقهي أو تاريخي ، أو النظام الاجتماعي في الإسلام ، وما إلى ذلك .
د ـ توزع الدروس حسب المستويات الثقافية ، والأعمار .
هـ ـ عقد دروس للعلوم الإسلامية ، كالفقه ، والأصول ، والتفسير ، وعلم الكلام ، والعقائد ، والأخلاق ، وما إلى ذلك حسب برنامج زمني مُحدّد ، وطلاّب محدّدين ، هذا وهناك مواضيع ثقافية أخرى تحدِّدها الظروف والحاجة .
3 ـ المسجد والدّعاء الجماعي : من العبادات المهمّة لدى المسلمين : عبادة الدّعاء ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر المسلمين دعاءً لله عزّ وجلّ ; يدعو عند الفـرح ، ويدعو عند الحزن ، ويدعو عند الضِّيق ، ويدعو عند الطعام وبعده ، وعند النوم ، وبعده ، وعند الصلاة ، وبعدها ، وعند النعمة ، وعند نزول البلاء ... وكان الأئمّة من آل البيت (عليهم السلام)كثيري الدّعاء ، كذلك كان الصحابة النجباء ، والتابعون ، والصالحون ، والأولياء في هذه الأمّة ، على مدار التاريخ ...
وقد تشتدّ الحاجة إلى الدّعاء عند الحاجة ، والضيق ، والمحنة أكثر من الأوقات العادية، كما يزداد الاهتمام بالدّعاء في مواسم خاصّة كشهر رمضان مثلاً ...
ومن أجل ذلك فانّ المساجد ينبغي أن تهتم بالدّعاء الجماعي، وذلك لأهمّيته الروحية ، والعبادية ، ولاشتمال الأدعية كذلك على مفاهيم ، وقيم دينية عظيمة كالتوحيد، وأدب الخطاب من قبل العبد لربّه تعالى، وذكر الآخرة ، وطلب العون من الله تعالى ، والرِّضا بقضاء الله عزّ وجلّ ، والدّعاء على الظالمين ، وطلب العون عليهم ، إلى غير ذلك ...
ومن المفيد أن تتبع المساجد النظام التالي بخصوص الدّعاء :
أ ـ قراءة الأدعية بصوت مسموع أمام المصلِّين ، وأن يخصص لكل يوم دعاء مثلاً ، ويفضل أن تقرأ الأدعية المأثورة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة الهدى (عليهم السلام) ، وتمثِّل « الصحيفة السّجّادية » التي كانت تسمّى زبور آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أروع النماذج في الأدعية المأثورة عن أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهي صحيفة الإمام السّجّاد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، رواها عنه أبناؤه ، وتوارثوها كابراً عن كابر ...
ب ـ استثمار المناسبات التي تمر بها الأمّة ، لقراءة الدّعاء المناسب للأحداث ، والمناسبات ، كأدعية شهر رمضان ، أو أدعية الجمعة أو أدعية الأعياد وما إلى ذلك ، وفي تراثنا الإسلامي أدعية رائعة في هذا المضمار .
ج ـ يفضل أن تشرح مفردات الأدعية عند قراءتها لتكون أكثر تأثيراً على النفوس .
د ـ تشجيع المصلّين على قراءة الأدعية في البيوت لإشاعة جو روحي في الأسر ، وفي البيوت .
4 ـ لا بدّ للمسجد من مكتبة عامّة : من شروط المسجد المؤثر الفاعل في حياة المسلمين أن يضم مكتبة عامّة للمؤمنين ، وأبنائهم ، ولو كانت صغيرة ، تضم أهمّ الكتب الإسلامية ، والثقافية الضرورية كالمصاحف والتفاسير ، وكتب السيرة ، والفقه ، وكراسات للأطفال ، والنِّساء ، ويتولّى مسؤول المكتبة في المسجد ، تنظيم المطالعة داخل المسجد أو خارجه ، ويمكن أن يقوم المشرفون على المكتبة بالفعاليات التالية :
أ ـ تشجيع المصلّين ، وأسرهم ، وأبنائهم على المطالعة ، لا سيّما قراءة القرآن الكريم .
ب ـ تشجيع الكتابة والتأليف .
ج ـ إقامة ندوات ثقافية ، واحتفالات إسلامية بالمناسبات .
د ـ إصدار منشورات ، وكراسات تشتمل على مواضيع إسلامية واجتماعية نافعة .
هـ ـ إقامة صندوق لجمع المساعدات لدعم مشروع المكتبة مادّياً .
هذا ويمكن أن تكون المكتبة التابعة للمسجد في بناية مجاورة إذا تيسّر ذلك ..
ومن الضروري أن يصدر المسجد من خلال المكتبة العامّة نشرة جدارية ، يساهم فيها القادرون على الكتابة والناشئون منهم على وجه الخصوص ، لنشر المعرفة ، والتدريب على الكتابة ، وإشاعة الحسّ السياسي لدى المصلِّين .
5 ـ السفرات الجماعية : من أجل التأليف بين قلوب المؤمنين ، وتمتين العلاقات الأخويّة بينهم يفضل أن يهتم المسجد في المدن والقرى بالسفرات الجماعية للرِّجال والنِّساء كل على حدّه ، كالذهاب إلى الأماكن المقدّسة أو غيرها كالسفر إلى بلد ما من أجل السياحة ، ولابدّ أن يكون للسفرات برامج ثقافية خاصّة ، كالمسابقات الأدبية ، والثقافية ، وصلاة الجماعة ، والرياضة ، وما إلى ذلك ..
6 ـ المبرات والأعمال الخيرية : والمساجد لدى المسلمين أخصب الأماكن لفعل الخير ، والنشاط الاجتماعي الصالح كتأسيس صندوق القرض الحسن ، وآخر لرعاية أيتام المنطقة وصندوق لإطعام الفقراء أو إكسائهم ، ومساعدات لتزويج العزاب ، أو معالجة المرضى ، وكبار السن ، وغير ذلك .
هذا ومن الجدير بالذِّكر انّ هذه الفعاليات والنشاطات تشمل الرِّجال والنِّساء معاً ، فتقسم فعاليات المكتبة مثلاً على الجنسين ، فبعض الأيّام تخصص للرجال ، وأخرى للنساء ... وكذا الحال في حقل السفرات ، والاجتماعات ، والندوات ، بما يحافظ على خصوصيّات المجتمع الإسلامي النظيف ...
على انّ فعاليات المسجد ونشاطه لا بدّ أن تناط بلجنة خاصّة من الأخيار والمثقّفين المعروفين، لتنفيذ تلك الفعاليات، والحرص على أدائها، والتفكير المستمر برفع شأن المسجد ومن حوله من الناس ، أخلاقياً وتربوياً وروحياً وسياسياً واجتماعياً ... ويفضل أن تنضبط لجنة المسجد بورقة عمل تحدِّد صلاحياتها ، وواجباتها ، ونظام صرف الأموال الواردة للمسجد على شؤونه المذكورة .
فإنّ إناطة ادارة المسـجد إلى لجنة أو هيئة إدارية ، يُساعد على توزيع الأعمال وأدائها بصورة أفضل ، بالاستفادة من الخبرات المتنوِّعة والطاقات المتعدِّدة لأعضاء اللجنة .
كما يُساهم ذلك في استدامة عمل المسجد وسلامة تنفيذ الأعمال ، حيث أنّ الفرد معرّض للحياة والموت والصحّة والمرض والقوّة والضّعف والغنى والفقر ، ووقف عمل المسجد أو سائر الأعمال عليه ، يُهدِّد ذلك العمل أو تلك الأعمال بالأعراف الفردية والآفات التي يمكن أن يتعرّض لها الانسان !
لذا ، فإنّ ادارة الأعمال الخـيرية بواسطة مؤسسـات ذات إدارة جماعية ونظام معيّن ، يضمن لهذه الأعمال الاستمرارية بحيوية ونشاط وفق النهج الذي أسِّست عليه ، بإذن الله تعالى .







مقترحات للمسجد الجامع في مدينة متوسّـطة الإمكانات

يمكننا أن نتصوّر خطّة لإعادة المسجد إلى موقعه الطبيعي في حياة المسلمين ، من خلال مشروع نتصوّره لمسجد قائم في مدينة مسلمة متوسطة الإمكانات ، كمدينة طرابلس في لبنان أو كراجي في باكستان أو شيراز في إيران أو البصرة في العراق أو اسطنبول في تركيا أو ما إلى ذلك من مدن العالم الإسلامي ...
لنتصوّر انّ ذلك المسجد هو المسجد الجامع في تلك المدن ، حيث يقام في مركز المدينـة ، ليكون محور النشاط والحركة للعديد من الأنشـطة ، والفعاليات الدينية ، والتربوية ، والاجتماعية ، والفنّية ، وما إلى ذلك .
كما يمكننا أن نفترض انّ الفعاليات الإيجابية التي يباشرها المسجد من قريب أو بعيد يمكن أن تمولها عدّة جهات :
ـ صناديق في منازل المصلّين لدعم مشاريع المسجد .
ـ تبرّعات المحسنين .
ـ جمعية الهلال الأحمر في المدينة .
ـ وزارة التربية .
ـ وزارة الأوقاف .
ـ وزارة الإعلام في البلاد .
ـ وزارة المواصلات .
ـ صناديق الزكاة ، والأخماس .
ـ الكفّارات ، والنذور .
ـ الاستفادة من الأوقاف .
وليس من الضروري أن تتوفّر هذه المـوارد كلّها ، حتّى يشرع المسجد بنشاطه ، وإنّما يتدرّج العمل رويداً ، رويداً ...
وقبل الشروع بالفعاليات المذكورة لا بدّ من تشكيل «لجنة عليا» لإدارة هذه النشاطات من إمام المسجد ، ومن الطاقات الفاعلة في منطقة المسجد ، من وجهاء وعلماء ومثقّفين وأصحاب خبرة فيما يُناط بهم من أعمال ، ثمّ تتأ لّف اللِّجان الفرعية لتقوم بكل فعالية على حدة .
ويمكننا أن نفترض الفعاليات المطلوبة على الشكل التالي :
1 ـ اقامة مكتبة عامّة للمسجد ، تضم مختلف الكتب الإسلامية والتربوية ، والعلمية ، مع مراعاة أعمار المواطنين ، ولغتهم ، وتنظّم فيها أوقات المطالعة ، والاستعارة بشكل مناسب لتحقيق الغرض المنشود من انشائها ، وتستفيد هذه المؤسّسة من الجهات ، ومصادر التمويل التي أشرنا إليها أعلاه .
2 ـ تنظيم أوقات الاعتكاف للمؤمنين ، وتشجيع هذه العبادة ، وتحويلها إلى ظاهرة في مجتمعات المسلمين المختلفة، ووضع برامج عبادية وروحية وتربوية للمشاركين في هذه الفعاليات العبادية المباركة .
3 ـ إنشـاء نادي رياضي يلحق بمسجد المدينة ، يحتوي على السباحة، وكرة الطائرة، والقدم، وكرة السلّة ، وكافّة الأنشطة الرياضية المباحة ، وأن يتخلّل هذه النشاطات بعض الفعاليات التربوية الهادفة لخلق أجيال مؤمنة ذات شعور بالمسؤولية تجاه الإسلام ، والمصالح العليا للمسلمين ..
ويفضل أن تكون اشتراكات الشباب في تلك الفعاليات مناسبة لدخل الأفراد في البلد ، غير مجحفة ، ولا منفردة ، ولا مضرّة بالعوائل اقتصادياً ولا تكون سبباً في خلق حالة من التمييز بين الناس حيث تمكِّن الموسرين من المشاركة في هذه النشاطات دون الفقراء مثلاً .
4 ـ إقامة جمعية أو صندوق لرعاية الفقراء ، والمحرومين ، وفق ضوابط محدّدة لا تشجع البطالة وتعمل على تخفيف الحرمان عن الناس ، وتشعرهم بأهمّية التكافل بين المسلمين ...
وحبّذا لو اعتمدت هذه المؤسّسة على نظام الكفالة ، كأن يتولّى كل موسر كفالة فقير أو أكثر أو يتولّى مجموعة أفراد ، كفالة أسرة أو محروم ، ولكن من خلال هذه الجمعية المباركة ..
ويمكن أن تؤدِّي صناديق الزكاة ، والتبرّع من قبل المصلِّين دوراً كبيراً من هذا العمل ، على أن تشكِّل الجمعية المذكورة لجنة متابعة وجباة ومحاسبين لجمع المال ، وصرفه في موارده بدقّة ومسؤوليّة .
5 ـ إقامة مدرسة علمية بإشراف إمام المسجد ، أو من تكلفه اللّجنة العليا المشرفة على شؤون المسجد ، وذلك لتدريس العلوم الإسلامية المألوفة ، من الفقه ، والحديث ، وتفسير القرآن الكريم ، والعقائد الإسلامية ، والنظام الإسلامي ، والأخلاق الدينيّة ، وما إلى ذلك .
6 ـ إصدار مجلّة ثقافية عامّة ، قوامها مفاهيم الإسلام وقضايا التربية ، والفضيلة ، والعمل الصالح ، وأن توفّر لها هيئة تحرير مناسبة للقيام بهذا المشروع المبارك ..
وأن يخصّص اشتراك للراغبين من الناس ، لتقوم المجلّة على الاكتفاء الذاتي ، مع دعم مناسب من امكانات المسجد .
7 ـ إنشاء دائرة للتبليغ الديني ، مقرّها المسـجد المذكور لتتبنّى عدداً من القادرين على تبليغ الناس حقائق الإسـلام ، وتبصيرهم بمسؤوليّاتهم الرِّسالية ، خصوصاً في المناسبات كشهر رمضان المبارك ، ورجب المرجّب ، وشعبان ، وموسم الحج ، وسائر المواسم الدينية ، حيث يوفد هؤلاء المبلِّغون من قبل الدائرة المذكورة إلى مواقع الحاجة ، وما أكثرها في بلدان المسلمين .
8 ـ توفير قاعة تابعة للمسجد يقيم الناس فيها فواتحهم ، ومآتمهم ، والاحتفالات الخاصّة بالزواج ، وأمثالها مع تحديد أجور مناسبة للمستفيدين من ذلك العمل ، تخصّص لميزانية المسجد .
9 ـ مدينة للأطفال : وبمقدور المسجد الجامع أن يوفِّر لأطفال المدينة «مدينة ألعاب» يمارسون فيها ألعابهم ، ونشاطهم البدني ومرحهم البريء ، بأجور مناسبة ، وأن تخصّص أوقات محدودة للتوجيه ، من خلال مكبرات الصوت ، بكلمات واضحة ، وبلغة سهلة ، مفهومة .
10 ـ ويمكن أن يلحق بالمسجد الجامع دار نشر لطبع الكتب الإسلامية النافعة ، فتؤدِّي هذه الدار دورين معاً : دعم ميزانية المسجد ، ونشر الثقافة الإسلامية في المجتمع .
11 ـ وبمقدور المسجد الجامع أن يؤسِّس مؤسّسة للقرض الحسن، لمساعدة المحتاجين ، وأصحاب الفاقة ، ويمكن أن تعتمد هذه المؤسّسة الخيرية على اشتراكات المحسنين وعموم المصلِّين ، خصوصاً إذا كانت الاشتراكات يسيرة .
12 ـ والمسجد الجامع ينبغي أن يتبنّى انشاء مستشفى لعلاج المرضى بأسعار مناسبة .
13 ـ كما بمقدور هيئة المسجد أن تقيم مشروعاً لدعم الأيتام ، وربّما داراً للعجزة ، ومشروعاً لتزويج العزاب مثلاً .
14 ـ والمسجد الجامع بمقدوره أن يقوم بدورات ثقافية ، عقائدية ، فقهية ، أخلاقية ، صحّية ، وللدفاع المدني مثلاً .
15 ـ ويمكن أن يقيم المسجد كذلك دورات للتأهيل العملي ، مثل دورات للطبخ بالنسبة للفتيات ، دورات للخياطة للرجال والنساء ، دورات للكمبيوتر ، دورات للخط والرّسم ، دورات لتعليم اللّغات الحيّة مثلاً ...
وهذه الدورات يمكن أن يدفع نفقاتها نفس الراغبين بالتعلّم .
16 ـ ويمكن أن يقوم المسجد بتوفير سفرات جماعية للشباب ، والشابات ، مثلاً ، وأن تتخلّلها نشاطات ثقافية ، وفعاليات نافعة كالرياضة ، والمسابقات الأدبية ، والفكرية ، وما إلى ذلك .
17 ـ إصدار نشرة خبرية لروّاد المسجد .
إنّ هذه الفعاليات الإيجابية والبنّاءة يمكن أن يشرف عليها المسجد الكبير في أيّة مدينة مسلمة ، في الظروف الطبيعية ، ليكون المسجد بذلك أحد أعمدة البناء الحضاري في حياة المسلمين ، وأحد محاور الحياة الروحية ، والمدنية الفاعلة في دنيا المسلمين ...
ومن المناسب هنا أن نذكر بعض النصوص الدينية المقدّسة التي تعمق مثل هذه الفعاليات الجليلة ، وتوحي بها :
ـ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « من دخل مسجدنا هذا ليعلِّم خيراً أو ليتعلّم كان كالمجاهد في سبيل الله »(57) .
ـ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : « ما من رجل يغدو إلى المسجد لخير يفعله أو يعلِّمه إلاّ كتب الله له أجر مجاهد ، لا ينقلب إلاّ غانماً »(58) .
ـ وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « يا أبا ذر ! كل جلوس في المسجد لغوٌ إلاّ ثلاثة : قراءةُ مصلٍّ ، أو ذاكرُ الله تعالى ، أو مسائل من علم »(59) .
ـ عن الأصبغ بن نباتة ، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)انّه كان يردد : « من اختلف إلى المسجد ، أصابَ إحدى الثمان : أخاً مُستفاداً في الله ، أو علماً مُستطرفاً ، أو آية مُحكمة ، أو يسمع كلمة تدلّ على هدىً ، أو رحمة مُنتظرة ، أو كلمة تردّه عن ردى ، أو يترك ذنباً خشية أو حياءً »(60) .
إنّ هذه النصوص الدينية المقدّسـة تعطي دلالات واضـحة على المهمّات المركزية التي تؤدِّيها المساجد في حياة المسلمين ، كالعبادة لله ، ونشر العلم ، وإقامة المعروف ، وإغاثة الملهوف ، وشحذ الهمم ، ودعم المستضعفين ، ونشر العدل ، ومعرفة الحقوق ، وما إلى ذلك ...
إنّ ما ذكرناه آنفاً من مهمّات المسـجد ، هي قبسـات من هذه النصوص الكريمة ، وأمثالها ، إضافة إلى ما كان يباشره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة الهداة (عليهم السلام) في المساجد في عصورهم المختلفة ، وكلّما تقدّم الزمان ، وتغيّرت تجارب الناس ، كان بمقدور المسجد أن يواكب الحياة من خلال المهمّات التي يباشرها ، في ضوء المستجدات الفنّية ، والإدارية ، والتنظيمية ...
« والحمد لله ربّ العالمين »






الهوامش

1- الفكر الاسلامي ، محمد محمد اسماعيل عبده ، ص12-13.
2- محمد الو المجد ، الاسلام ورسالته الخالدة ، ص 64 - 66 ، ط2 ، الاعلمي ، 1984 ، بيروت.
3- المصدر السابق ونفس الصفحات.
4- انظر معنى ربوبية الأحبار والرهبان في مدلول الللآية الآنفة الذكر في: الميزان في تفسير القرآن ، المرحوم السيد محمد حسين الطباطبائي ، 9/254 ، ط2 ، بيروت مط الاعلمي ، (بحث روائي).
5- نهج البلاغة ، الخطبة رقم 110 ، ص 163.
6- الميزان ، ج9 ، البحث الروائي ، ص 254 ، ط2 ، بيروت ، مط الأعلمي.
7- انظر الرسائل العملية للعلماء قاطبة.
8- المعلم بطرس البستاني ، محيط المحيط ، ص 396 ، لفظة (سجد) من حرف السين ، ط ، بيروت ، 1977. ومثله الراغب الاصفهاني في: المفردات في عريب القرآن ، حرف السِّين (لفظ سجد) مع تفصيل مناسب.
9- جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ، 14/69 ، ط2 ، دار الكتب الاسلامية ، طهران.
10- وسائل الشيعة ، 4/باب 23 من ابواب السجود ، حديث5 (باب استحباب طول السجود).
11- الواسئل ، الصلاة ، 3/477 (احكام المساجد).
12- اعلام الساجد بأحكام المساجد، محمد بن عبد الله الزركشي ، ص38 ، بأسناده. والقطاة : طير صغير ، ومفحص القطاة ، موضع تبين به،وهو محمول على المبالغة،وهو اشارة الى اهمية بناء المسجد مهما كان صغيراً.
13- نفس المصدر والصفحة ، حديث 3.
14- نفس المصدر ، ص480.
15- المساجد: د. حسين مؤنس ، 56 ، ط.كويت ، 1981.
16- المساجد: د. حسين مؤنس ، 57 ، مصدر السابق.
17- الوسائل ، 3/487 ، باب احكام المساجد ، باب 9 ، حديث 1 ، وجواهر الكلام ، 14/75. السميط: لبنة ، لبنة ، السعيدة: لبنة ونصف. الذكر والانثى: لبنتان مختلفتان.
18- الوسائل ، 3/422, ابواب مكان المصلّي ح2 ، ومثله في كتاب اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ، محمد فؤاد عبد الباقي ، ص104 ، ط.الكويت.
19- الوسائل ، 3/433 ، ابواب مكان المصلي ، حديث رقم 5.
20- المساجد في الاسلام ، الشيه طه الولي ، 158 ، ط. بيروت ، 1988م.
21- نفس المصدر ، 159 نقلاً عن (حضارة العرب).
22- نهج البلاغة ، نص 192 ، ص 292 - 293 ، وانظر تاريخ مكة ، ابو الوليد الأرزقي 1: 41-46 ، عن ابن عباس والامام علي بن الحسين السجاد(ع) ، ط1، 1995 ، مكة المكرمة.
23- هناك مجموعة من الروايات والأخبار - غير ما ذكرنا - تفيد ان الكعبة كان قد بناها آدم (ع) في هذا الوادي المقدس ، وما جرى بعد ذلك كان تجديداً لبنائها ، انظر: اعلام الساجد باحكام المساجد ، لمحمد بن عبد الله الزركشي ، ت794 ، تحقيق او الوفا مصطفى المراغي ، ط 4 ، 1996 ، ص43-48.
24- الوسائل ، 3/511, باب 64 ، حديث 2.
25- اعلام الساجد باحكام المساجد ، 29-30.
26- الوسائل ، 3/533 ، باب 44 ، حديث 10.9.8.
27- الوسائل ، 3/533 ، باب 49 , حديث 5.
28- الوسائل ، 3 ، باب 50 ح1 و2و3.
29- اعلام الساجد ، ص31 ، عن ابن الجوزي.
30- المساجد في الاسلام ، طه الولي ، ص125.
31- لمزيد من التفاصيل حول الحسينيات يراجع السيد محسن الأمين العاملي،خطط جبل عامل ، 1/149 ، ط.بيروت .
32- جواهر الكلام ، 14/69.
33- الوسائل ، 5 / 381 ، ح1.
34- الوسائل ، 5 / 382 ، ح7.
35- نفس المصدر ، حديث 8.
36- الوسائل ، 3/478 ، باب كراهة تاخر جيران المسجد عنه , حديث1.
37- نفس المصدر ، ص 481 ، ح2.
38- نفس المصدر والصفحة ، ح3.
39- نفس المصدر ، ص 482 ، حديث 6.
40- نفس المصدر ، ص 483 ، ح2.
41- نفس المصدر ، ص 486 ، حديث 3 بأسانيده.
42- نفس المصدر ، ص 493 ، حديث 1.
43- نفس المصدر والصفحة ، حديث 4.
44- نفس المصدر ، ص 507 ، باب كراهة البيع والشراء ، حديث 3.
45- نفس المصدر ، ص 497 ، باب 18 ، حديث 2.
46- نفس المصدر ، باب 22 ، حديث 1.
47- نفس المصدر ، ص502,حديث2,وفي مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري مثله عن جابر ، حديث 252.
48- نفس المصدر ، ص503،باب23،باب استحباب التطيب ولبس الثياب الفاخرة.
49- نفس المصدر ، ص511،باب استحباب كنس المسجد ، حديث 2.
50- نفس المصدر ، ص513،باب34،باب استحباب الاسراج في المسجد.
51- نفس المصدر ، ص515،باب39،حديث3.2.1.
52- نفس المصدر ، ص516،باب39،حديث5.
53- نفس المصدر ، ص517،باب40،حديث2.1.
54- نفس المصدر ، ص518،باب42،حديث1،ومثله عن أبي قتادة في مختصر صحيح مسلم،حديث248.
55- جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام ، 14/69-135 , وموجز الفتاوي المستنبطة: المرحوم الشيخ ميرزا على الغروي ، باب احكام المساجد ، ص 135-137 ، ط.المنار.
56- كلمة قالها رئيس وزراء بريطانيا غلادستون في بدايات الغزو الأروبي للمنطقة.
57- اعلام المساجد باحكام المساجد ، مصدر سابق ، ص 328، عن ابن ماجة.
58- نفس المصدر ، ص 305.
59- الوسائل ،3/86 , باب 2 ، حديث 8.
60- من لا يحضره الفقيه ، 1/154 ، باب 37 ، حديث 36 ، والوسائل ، 3/480 , حديث 1.


مؤسسة البلاغ

د.فالح العمره
06-04-2005, 01:46 PM
محمد الشامري مرحبا يا الغالي ولا هنت على حضورك

ارحب يا العنيد ولا هنت على الحضور والمشاركه والتفاعل ولكن ما تخلي سوالفك

ذا المره قص لك نظاره يا السنافي فمشاركتك نفس المشاركه الاولى لي ولا هنت يا الغالي

مسفر مبارك
08-04-2007, 12:10 AM
الله لايهينك دكتور _ فالح وجزاك الله خير

الخديدي
09-04-2007, 04:29 PM
بارك الله فيك وفي علمك اخوي فالح لاهنت والله....

د.فالح العمره
11-04-2007, 09:21 PM
ارحب يا مسفر ولا هنت على حضورك يا الغالي

د.فالح العمره
11-04-2007, 09:22 PM
يا مرحبا بك يا الخديدي ولا هنت على حضورك