المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هامشُ التقليد . . هامشُ الحداثة .


د.فالح العمره
19-11-2006, 10:32 PM
هامشُ التقليد . . هامشُ الحداثة .

قراءة المنتوج الإبداعي الأول في ضوء مفهوم التطور الفني .

( مواسم الغربة ) لخليفة بن سلطان العبري نموذجاً.

بقلم : محمد مصطفى سليم .

mmseliem@hotmail.com

محاضر لغة عربية بجامعة الإمارات العربية المتحدة .

العنوان : الإمارات ــــ العـــــين

ص. ب : ( 18589 )

تليفون : موبايل : 7603105 ــ 050

منزل : 7625198 ــ 03

هامشُ التقليد . . هامشُ الحداثة .

قراءة المنتوج الإبداعي الأول في ضوء مفهوم التطور الفني .

( مواسم الغربة ) لخليفة بن سلطان العبري نموذجاً.



بقلم : محمد مصطفى سليم .

محاضر لغة عربية بجامعة الإمارات العربية المتحدة .

mmseliem@hotmail.com

تـوطِـئة :



ثمة انشطارات متناثرة ؛ تبدو مَوَّارة عند الولوج في النقاش المتمركز حول حركية الفن ، والأدب جزء منه ، أو تطوره في الحياة ، إذ تتعدد الآراء حول الموقف من تطور الأدب ، خاصة إذا ما كان التوجه السائد للنقاشِ مُنْصبّاً حول التعامل مع الفن عبر نطاقٍ تراكمِيّ تصاعدِيّ ؛ يَعبأ بتوليد الموروث الفني ، الذي خلفته الجماعة وطُوِّر أيضاً بفعل الجماعات المتتالية ، أو يميل في تحديد موقفه من التطور إلى الاتِّكاء على قفزات المُنجَز الإبداعي ؛ بما ينطوي عليه من آليات مبتكرة ؛ يقف خلفها مبدعٌ فردٌ ذو عبقريةٍ متفردةٍ ، يظل محافظاً على انتمائه للجنس الأدبي الذي يُمارس فيه كتابته ، ويُقَدِّم أشكالاً تجريبية مغايرة ، وقد تصطدم أحياناً بالموروث الفني للجنس نفسه .

وبعبارة أخرى يكاد النقاشُ يتمحور حول المُنْتَج الأدبي ، وطبيعة تطوره ، بوصفه فناً قائماً عبر مراحل زمنية وأجيال إنسانية ؛ إذ توزع موطن الخلاف إلى محورين ؛ أولهما يربط الفنَّ بالحالةِ الجماعيةِ ؛ التي يبدو فيها تطور الفن صنواً لتطور حركة المجتمعات ، منتهجاً لآلياتِ التَّوْليد ، وإذ بنا نقف أمام البنية الاجتماعية الكبرى ( الأم ) التي تفرز بنية ثقافية ، والبنية الثقافية تتولد منها بنية فنية ، والأدب جزء منها ، فيصبحُ خاضعاً للتطور . أما ثانيهما فيرد الفن إلى الذات والطابع الفردي ذي العبقرية المتفردة ، وما تحمله في طَيَّاتها من قدرة ؛ لا تتاح للكثير من الأنماط الاجتماعية الأخرى ، بها تستطيع أن تُلملم الشتات ، وتهضمه ، ثم تكتشف أفقاً فنياً مبتكراً ، وهو ما يسمى بالتطور .

ومن ثم يمكن توضيح ذلك ، ولاسيما المحور الخاص بالبعد الجماعي على أن عملية التطور فُهمت على أنها عملية مستمرة تتأتى عبر التحدر السلالي ، أو الانتقال من جيل إلى جيل آخذة البعد الجسدي في حالة التحدر السلالي ، والبعد الثقافي عن طريق المحاكاة في حالة التحدر الفني([1]) ، بل عدَّ البعض التطور على أنه ( قانون عام من قوانين الطبيعة )([2]) ، وفي ذلك ربط جَلِيٌّ بين التطور المادي للحياة وبين التطور الفني الذي هو مُفْرَزٌ من مُفْرَزات الواقع . وقد أكد ذلك فردينانز بونتيير ؛ إذ عدَّ الأثر الأدبي كائناً عضوياً ؛ يرتقي ثم يضمحل ، كما يفعل الكائن العضوي ، فهو مثل النوع البيولوجي([3]).

وربما كان الموقف أكثر تحديداً لدى أصحاب نظرية الانعكاس، وما يُصَدِّرون به مبادِئَهم من أن عملية الإبداع الأدبي نتاج فعالية اجتماعية([4])، بما يتواءم مع ما ذكره إرنست فيشر وهو بصدد الحديث عن جوهر الفن وتطوره ، حيث أكد على أنه نتاجٌ جماعي ، وليس نتاجاً فردياً؛ لأنه النشاط الاجتماعي المشترك الذي يرفع الجميع فوق مستوى الطبيعة ، وفوق دنيا الحيوان ، ولم يفقد الفن هذا الطابع رغم انخراط المجتمع في تغيرات وتبدلات اجتماعية وطبقية ، فالفردية خطيئةٌ جوهرية([5]).

غير أن هناك من يتبنى رؤية مغايرة ؛ إذ يرى ، فيما سبق ذكره ، أنه يتنافى مع نظرية الإبداع الخاص المستقل ، التي تربط الإبداع بالعبقرية الفردية ، ولا يمكن له ؛ أي الإبداع ، أن يكون نتاجاً تراكمياً([6])، تسهم فيه مجموعة تحت ظرف واحد ، ومن منطلق دافع واحد .

وتولد عن ذلك النقاش سؤال حول ماهية القوانين الخاصة ، أو الكامنة ، في الأدب ، تلك التي تسمح بتطوره . . . وغيرها من الأسئلة ؛ التي لا يمكن لها أن تُقصي حقيقة تاريخية مستقرة ، ألا وهي حقيقة البعد الجماعي ؛ فالكثيرُ من كتب النقد الأدبي الحديث ونظرياته تتناقل ، أو تردد في جانبٍ كبيرٍ منها ، وعلى سبيل المثال ، عبارة ( النهضة الأيرلندية ) بوصفها اصطلاحاً يدلُّ على انتعاش الحركة الأدبية في أيرلندا ، ولا سيما مع القصة القصيرة التي شهدت انتعاشة جديرة بالرصد . وبدا التطور الفني للإبداع الأدبي ، ولأجناسه المختلفة ، وثيق الصلة بالبعد الاجتماعي وحركة التطور المجتمعي التي تفرزه ؛ لذا يبقى من الإنصاف التوفيق بين البعدين ، إذ ربما لا تؤتي الحركات الاجتماعية النهضوية ثمارها الثقافية والفنية إلا إذا توفر لها فصيلٌ من ذوي العبقرية الفردية ؛ التي تستجيب لآفاق التحديث والتطوير ، ومن زاوية أخرى ؛ قد تبهت العبقرية الفردية ، أو تنحرف ، إذا لم يُتَحْ لها المناخ الدَّاعم لانطلاقها المُكَرِّس للتطور والإضافة. كما ينبغي التنويه بأن الإقرار بالبعد الجماعي للتطور لا يعني نفي ، أو انتفاء التميز الفردي للمبدع ، أو المذاق الذاتي للفنان داخل المجموع .

وتبياناً لذلك ، فلقد عزا البعضُ من النقاد([7]) تأخر ظهور القصة القصيرة في عمّان إلى أنها لم تشهد تطوراً ثقافياً وحضارياً ملحوظاً إلا بعد تولي السلطان قابوس سُدَّة الحكم في يوليه 1970م ، إذ بعدها بدأت مسيرة التعليم العام والجامعي ، وظهرت الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام ، وقد أحدثت النهضة الجديدة في عمان ازدهارة ثقافية شاملة بدأت ، في إطارها ، تتحرك مسيرة الأدب بأجناسه المختلفة ، ومنها القصة القصيرة .

وتجلت ثمار التحولات الاجتماعية أو التطور النهضوي في مجال القصة القصيرة إذ قَدَّمت في إهاب مشهدها الإبداعي طرحاً ثرياً متنوعاً ؛ يضمُّ العديد من المواهب التي تسعى بتأنٍ نحو تأسيس ، أو صياغة أكثر وعياً ورصانة للأدب العماني ، إذ منذ ظهور أول مجموعة([8]) تحت عنوان ( سور المنايا ) لأحمد بن بلال بحار عام 1981م ، ثم ( قلب للبيع ) للكاتب الشاعر محمود الخصيبي عام 1983م ، وما تلاهما من أعمال مثل ؛ ( لا يا غريب ) و ( الرجل العائد من الموت ) لأحمد بلال ، و ( صراع مع الأمواج ) للكاتب علي بن عبدالله الكلباني عام 1987م. ، تعددت بعد ذلك المجموعات القصصية المتنوعة ، وطالع القارئ العربي أسماءً عديدة منها : سليمان المعمري ، و محمد علي البلوشي ، و علي بن هلال المعمري ، و سيف الرحبي ، و محمد القرمطي ، و صادق حسن عبدواني ، و حمد بن الرشيد بن راشد ، و سعود بن سعد المظفر ، و إحسان بن صادق بن سعيد ، وعبدالحكيم البلوشي ، و محمد اليحيائي ، و يونس الأخزمي ، و يحيى بن سلام المنذري ، و بدرية بنت إبراهيم الشحي ، و طيبة بنت عبدالله الكندي ، و عائشة بنت علي النعيمي ، و زكية بنت سالم العلوي ، و صفية بنت محمد الحارثي ، و تركية البوسعيدي ،وإبراهيم بن ماجد الفارسي ، وأحمد بن درويش ، وأحمد الزبيدي ، وأحمد المعشني ، وإسماعيل السالمي ، وآمنة بنت ربيع بن سالمين ، وبدر بن علي الشيباني ، وبدر الشيدي ، وجوخة بنت محمد الحارثي ، وحمود بن علي الطوقي ، وحمود العويدي ، وحمد الناصري ، وحمود بن سالم السيابي ، وخالد العزري ، والخطاب المزروعي ، وخميس بن عبدالله الفارسي ، وخولة حمدان الظاهري ، وفاطمة بنت أنور بن خميس ، وزوينة خلفان ، ورفيعة الطالعي ، وطاهرة عبدالخالق ، وسلطان العزري ، وسمير العريمي ، وسلطان الفزاري ، وسالم آل تويه ، وسالم بن عبدالله الحميدي ، وسالم ربيع الغيلاني ، و غيرهم الكثير.

وهكذا ترسمت ملامح المشهد الإبداعي للقصة القصيرة في عمان على يد هؤلاء الكتاب ، وعبر نتاجهم الآخذ في النضج والتجريب ، وقدمت الإبداعات الأولى لمن شكَّلوا خارطة القصة القصيرة في عمان الكثير من سمات الكتابة البائنة في احتواء البنى السردية على قدرٍ من المباشرة في التصوير ، والبساطة في الحكي ، واتضحت في بعض نماذجها الخطابية في التعبير ، وأبرزت من حيث الموقف هَمّاً كبيراً ربط بينها وبين قضايا المجتمع ذات الطابع المحلي ، وخاصة القضايا الناجمة عن التحولات الاجتماعية والصراع المتفاقم بين العادات الأصلية للمجتمع القبلي والعادات المستحدثة / الطارئة في المجتمع المعاصر ، كما حملت القصة بعض الموضوعات الوطنية والإنسانية ، بالإضافة إلى أنها اتسمت بحسٍّ نقدي عالي الدرجة من أجل الإسهام في تجديد مسيرة الحياة([9]) .

غير خافٍ أن التطور الاجتماعي في النموذج العماني حدا بإمكانية التسليم بأن التطور الفني عملٌ جماعيٌّ ، أو فعلٌ جماعيٌّ ، وان التأمل المتأني لهؤلاء المبدعين يعطينا مؤشراً صادقاً للحكم على تطور العناصر الفنية لجنس القصة القصيرة ، كما لا يعني أن الجميع موسومون بالسمات نفسها ؛ إذ لايعدم التمايز الفني الفارق بين قاص وآخر ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه ، وبعد مرور ما يزيد على عقد من الزمان ، بين إصدار أول مجموعة قصصية في الأدب العماني ، وهي ( سور المنايا ) لأحمد بن بلال بحار عام 1981م ، وبين مجموعة ( مواسم الغربة )([10]) للكاتب الصحفي / خليفة بن سلطان العبري ، والسؤال هو : هل أسهمت نصوص المجموعة في اتساع رقعة التطور الفني لجنس القصة القصيرة في عمان أم أنها لم تتخلص بعد من مسالب التجربة الإبداعية الأولى ؟ ، أو بعبارة أخرى ؛ يمكن طرح السؤال على النحو الآتي : كيف يمكن تصنيف العمل الإبداعي الأول فنياً ؟ .

وربما تبدو قيمة التساؤل ثريةً بوصفه ارتحالة مقصودة صوب الوقوف عند ملامح التطور الفني للقصة القصيرة في عمان ، خاصة إذا سلمنا سلفاً بأن ( سور المنايا ) لأحمد بن بلال بحار محملةٌ بالكثير من سمات التجارب الرائدة ؛ مثلها مثل (قلب للبيع ) للخصيبي التي ( تجمع بين الحكاية والحدوتة والقصة القصيرة مع حرص الكاتب على أن تكون النهاية سعيدة ، بغض النظر عن المقدمات ؛ مما يدل على بساطة في التناول )([11]).


وفيما هو آتٍ استكشاف آليات القصِّ في المجموعة موطن الدراسة :

تجليات الحداثة . . تجليات التقليد في ( مواسم الغربة ) :

لم ينل العمل الإبداعي الأول قبولاً فنياً مُقنعاً حتى من مبدعه نفسه ، فالغالبية من كبار الكتاب يبدون ـ أحيانا ـ بعض الخجل ، أو الاعتذار غير المباشر عند ذكر الإصدار الأول ، ومرد رضاهم عنه يعود إلى قناعة محدودة بأنه قدم اسمهم للقارئ ، حيث كان بمثابة بطاقة تعريف أولية ينبغي استثمارها فنياً فيما هو تالٍ من أعمال ، وكأن علماء النفس يقصدون التجربة الإبداعية الأولى عندما فصَّلو القول فيما هو معروف بـ ( العملية الأولية Primary Process) واسمين إياها باللاشعورية واللاعقلانية ؛ فهي ( تجهل حدود الزمان والمكان ، ويتحكم فيها مبدأ اللذة والألم ، فخلالها يندفع المرء تجاه اللذة ويبتعد عن الألم )([12])،إذ يمكن تفسير اللذة بأنها الكتابة ، أو الإشراق ؛ حيث تظهر فيها الأفكار ( بطريقة مفاجئة وغير متوقعة . . ولا تستطيع أن تؤثر فيها بأي مجهود إرادي مباشر ، وهي تحدث بعد عدد كبير من المحاولات والتداعيات غير الناضجة )([13]).

وبالإضافة إلى ذلك ، فإن المخزون الكتابي للعمل الأول موكول إلى الذات ، فهي كتابة ــ في المقام الأول ــ ذاتية ، ومن ثم يكون صوت المؤلف عالياً ، والنبرة الخطابية الوعظية حاضرة في جنبات العمل ، إذ يتبدى له وكأن الكون منقاد إلى الهاوية والخراب ؛ لذا يأتي الصراخ والاستغاثة ، ويُحَمِّل النص أبعاداً شعاراتية بوصفها مسوغات تحتمها ضرورة الانتماء والموقف .

كما تمنح غالبية المكاشفات الفنية لهذه الكتابات مؤشراً واضحاً على أن الكتابة الأولية ليست حرفةً فنية تتصدر السُلَّم التراتبي من حيث ضرورات الكتابة ودوافع الفعل الإبداعي ، وإنما من حيث كونها رؤية الذات للعالم ، فتكون بمثابة الخلاص والانفجار والرغبة المُلِحَّة في اقتحام المجهول . وربما تكمن هنا معادلة اللذة والألم عند النفسيين ؛ فاللذة هي اقتحام المجهول / عالم الكتابة ، وأما البعد عن الألم فينعكس من خلال التركة المُثقلة التي يحملها بغية خلاص العالم ، والبحث عن وجود .

إن ( مواسم الغربة ) باكورة إبداعية للكاتب والصحفي خليفة بن سلطان العبري ؛ تَنَسَّمت وجودَها الفنيَّ بعد أنْ عُبِّدَ لها درب القصة القصيرة العمانية عبر عقد من الزمان أو أكثر ، فكان لها من محاولات التجريب الفني السابق ما يُحقِّقُ أجواءً فنية تسهم ، بشكل أو بآخر ، في إنضاج آليات القص وتعدد مستوياته ، إضافةً إلى انغماس المجتمع العماني وحركته المادية في عالم التطور المُتفاقم والتفجر المعرفي المتزايد ، فجاءت المجموعة وفية لهذه الأجواء من ناحية ، ووفية لتجليات الرواسب المصاحبة للتجربة الإبداعية الأولى ، حيث قلت ، ولم تنعدم ، مسالب التجربة الأولى ، بل ربما يكون الوقوف بها ، وأمامها ، في منطقة وسطى ، أمراً قريباً من الإنصافِ ؛ إذ بقدر ما حققت طفرات تقدمية فنية بقدر ما تمسكت بتلابيب بعض الأداءات الفنية ذات الطابع الكلاسيكي أو التقليدي .

وكان تقديم الناشر للعمل على أنه مركب مزدوج ؛ اختلطت فيه القصة بالقصيدة الشعرية ، لغةً وتصويراً وخيالاً ؛ يتناغم والتعبير الرشيق عن الحال المجسدة ، أو الومضة الموبوسانية الخاطفة ، والمكتظة بالأحاسيس الجوانية ، وهي ــ أي المجموعة ــ ذات تكنيك فني ينتمي إلى آليات القصة الحديثة . . . . . كل هذا لا يمكن التقليل منه ، ولكن في الوقت نفسه يصعب التعامل معه برؤية أحادية القطب ، أو الانكفاء عليها دون إنعام النظر في حرفية القص ووفاء المجموعة لآلياته .

إن التأمل المتأني في القصص العشرة للمجموعة بغية لَمْلَمَة التقنيات الفنية والعناصر المُهَيْكلة لبنية القصة القصيرة الحديثة ، بدءاً من القصة الأولى ( رائحة يوم فائت ) وانتهاءً بقصة ( في قريتنا غريب ) ؛ يشي ــ منذ الوهلة الأولى ــ بأن هناك تجاوراً ثنائياً للعناصر الحداثية ( ويُقصد بها الآفاق التجريبية المواكبة للتطور الفني المضطرد في بنية القصة القصيرة ) مع كلاسيكيات القص ، أو السمات التقليدية لإبداع القصة القصيرة في الأدب العربي عامة ، والأدب العماني خاصة ، وذلك في قصص المجموعة كلها ، وأحيانا يجتمعان في القصة الواحدة ، حتى لكأن المجموعة ، في كونها بنية كلية ، تطمح نحو بناء خصوصية لها بالقدر الذي تحمل فيه أيضاً عناصر هدم تلك البصمة الخاصة .

إن تجليات السمات الحداثية ؛ الساعية صوب كسر هندسة الحكي المُمَنْطَق في بعده التدريجي الصَّاعد بالأحداث ، بما ينطوي عليه من تدرج وصعود متنامٍ بالحالة المُقْتَنَصة ، تبدو بائنة فيما يسمى بالبعثرة المنهجية أو ظاهرة ( التَّفْتِيت Atomization) بالنسبة للحدث المقصوص ، سواء أكان ذلك بارزاً على مستوى الشكل الخارجي كما في قصة ( مواسم الطيور القرمزية ) التي صُدِّع فيها الحدث ، وبعثره الكاتب خليفة بن سلطان العبري عَبْرَ فقرات مُرَقَّمة ، تفاوت حجمها دون معيار يُحْتكم إليه في هذا التفاوت سوى عمق اللقطة ، وقدر حاجتها للتوصيفِ المُكَثِّف ، أو كان مُتَضَفراً ببنية سردية كلية ؛ تُتيح التنقل عبر بنايات جزئية ، مُقَطَّعة الدلالة مثلما هو واضح في قصة ( العودة ) .

كما يوجد اقترابٌ ــ بدرجات متفاوتة ــ من نمط القصة القصيدة في ثوبها اللغوي ، وربما لجأ إليه الكاتب إبرازاً للأجواء النفسية ومنحنيات الذات الداخلية ، على شاكلة ( طويا كل الطرق وراءهما كسِجَّادة . . . وقلق الدروب . . . ضجرها . . . والهمس السوقي . . . والأحاديث التي كُسِرَت كالقدح الذي صار شظايا )([14]). وغيره في كثير من القصص التي قدمت لوحاتٍ تصويريةً للنفس وللذات الإنسانية دون تجاهل عصب هذا النمط وهو الاقتضاب والتكثيف ، بما يصلان إلى حد الشفرة أحياناً ، وكأن خليفة العبري يُفرغ ما بداخله من ضجر فنياً ولغوياً ، إذا جاز لنا ذلك ، حتى يسحب القارئ بلا هوادةٍ إلى عالم القصة ؛ لِيُفَتِّش عما يمكن أن يملأ به الفراغاتِ المتروكةَ له ـ قصداً ـ من قِبَلِ المؤلف .

وتبرز سمة حداثية أخرى متمثلة في البوح بالصورةِ وتجسيد التداعيات بامتطاء الخيال الخصب ، المستمد لمعينه من قرية ( العراقي ) مسقط رأس الكاتب بسلطنة عمان ، فيما ينعكسُ عن المأثور الفولكلوري لمفرداتِ الحياة ، وأنماطها المعيشة ، وتوصيف ظلال المكان والطبيعة القروية الخلابة ، وكذلك التراث الشفهي المتمثل في المثل الشعبي ، والأقوال المتناثرة ، والألفاظ أو المفردة المُغَبَّرة بتراب قرية العراقي ، وكان الكاتب يتكئ ــ أحياناً ــ على المثل الشعبي ، مع الاستفادةِ مما تمنحه القاعدة البلاغية القديمة/الجديدة (بلاغة الحذف أقوى من بلاغة الذكر ) من مدلولاتٍ تَصبُّ في جوهرِ العلاقةِ بين ثالوثِ الفنِّ ( الكاتب / النص / القارئ ) فيطالعنا ــ قاصداً ــ بإيراد الأمثال غير كاملة التركيب ، كما في قصة ( رائحة يوم فائت ) حيث يقول ( يا غراب الباطنة شلني مع . . . . / العِشْرة لا ينساها سوى . . . )([15]) . . وغيرهما الكثير من الدّوال الطارحةِ لوعي المؤلفِ بأنَّه يُقبِلُ على قارئ إيجابيٍّ ؛ ينبغي التعاملُ معه بمبدأ التكثيف ، أو المراوغة الفنية ، التي تُحيلُ القارئُ إلى [ مُرْسِل إليه ] ، وليس [ مستقبل ] فقط ؛ لما في الثانيةِ من إيحاءاتِ دالةٍ على أن [ المُرسلَ ] / الكاتبَ لا يُقَدِّم [ الرسالة ] / النَّص بوصفها قالباً محدداً كامل التكوينِ ، بل على كونها حاملةً لقدرٍ من التشويش ، أو عدم الكمال ، وعلى القارئ [ المرسل إليه ] ، وليس [ المستقبِل ] أن يُتِمَّ ما بها من فراغاتٍ أو نقصانٍ وفق ثقافته ووعيه ، وهنا تتحولُ الرسالةُ إلى شفرةٍ ؛ تسمو بدور القارئ والمُرْسِل .

وكم هي عودة حميدة لممارسة تلك اللعبة الحداثية ، حيث يُعَوِّل الكاتب على القارئ لتحقيق التواصل ، فيستقطبه إلى أجواء النص ليشاركه فعل الإبداع والبحث عن مخرج ، وفي ذلك إبراز لنمط من أنماط التطور الفني ، الذي يتحدّدُ من زاوية تَوَجُّه الكاتب بالعمل الإبداعي للقارئ الواعي ، لا للقارئ السلبي ، في ظل ثورة المعلومات وعصر التراكمات المعرفية ، إذ على القارئ أيضاً أن يُقبل على قراءة العمل وهو مُزَوَّدٌ بمخزونٍ ثقافي وشعبي يُعينه على فك طلاسم العمل ؛ لأن منطق الحدوتة أصبح مُتَجاوزا بالعديد من الأشكال والبنى القصصية العديدة .

وأبان خليفة بن سلطان العبري عن وجه حداثي آخر يتمثل في التقاط اللقطة القصصية الحادة ؛ ذات الأبعاد النفسية المتشابكة ، دون اللجوء إلى تيمات قصصية مستهلكة أو مطروقة من قبل ، ففي قصة ( هاجس شرف ) بُني الحدث على التقاط خيط رفيع يبدو هامشياً وهو أثر البيئة الخارجية في إِحداث التحولات والانقلابات المُغَيِّرة لمسار الشخصية داخل العمل القصصي ؛ فيأخذ هذا الخيط ثم ينتقل به إلى داخل الإنسان ويُفجر به طاقات نفسية ومشاعرية كامنة ، يثيرها بحدة ؛ مما يقود الشخصية إلى تغير حاد أو انقلاب غير متوقع ، خاصة إذا كانت الشخصية قد ضربت سياجاً حول نفسها يمنعها من الانغماس في التفاصيل اليومية للبيئة من حولها ، فـ( صابرة ) الشخصية المحورية في القصة ، والخجولة ، تنقلب إلى الضّد والتمرد بسبب كلام أخيها المستمر عن علاقتها بقاسم الوسيم ؛ الذي حرك بداخلها عاطفةً مكبوتة ، تسببت في تكوين هذه العلاقة بينهما ، وهي التي لم تخرج من بيتها قط .

والغريب أننا نرصد سمات مضادة تماماً لما سبق ذكره ، ومنتزعة لجانب كبير من التجربة الإبداعية في غالبية قصص المجموعة ، بحيث تتجاور سمات الحداثة مع عناصر التقليد ؛ بما يجعلنا نعاين تكافؤ الاتجاهين كثيراً داخل المجموعة ؛ مما يُقلِّلُ ـ في بعض الأحيان ـ من ملامح التطور الفني ، أو من تَرْكِ بصمة قوية على إبداع القصة القصيرة .

في قصة ( دماء الحقيقة ) عودة قويةٌ إلى البنية التقليدية والتكنيك القصصي القديم ، الذي يتقاطع أحيانا مع ماوصلت إليه الأشكال التجريبية القصصية الحديثة . فلقد بنى خليفة العبري قصته وفق طريقة المعالجة السينيمائية التي لم تتخلص من غرابةٍ شديدةٍ في مادة الحدثِ ، أو بناء العقدة في شكلها التقليدي غير مُقنعٍ ، فبطلُ القصة يُجْبَر على الوقوف بسيارته ؛ ليركب شخصٌ مطعون بسكين في بطنه ، وإذ بالبطل يمسك بالسكين ليخرجها من بطنه ، بينما يلتف حوله في اللحظة نفسها البوليس ، ويصبح ببساطة شديدة هو القاتل ، وبسذاجة أشد يعترف أمامهم ، على وعد منهم بأن يتركوه ليعود إلى أبنائه ، ولكنه لا يفيق من ذلك إلا ورأسه محشورة ( داخل كيس صوفي شد عليه من عنقه وثبت على ظهره في عمود صلد )([16]) وبينما يطلق عليه الرصاص تنفيذاً للإعدامِ ينقبض قلب الزوجة في اللحظة ذاتها ، وفجأة ينقلنا نقلةً بصريةً حادة إلى هذا المشهد حيث ( يسقط إبريق الشاي من يدها ، ويحرق أصابع قدمها اليمنى )([17]) دون أن تدري عن زوجها شيئا ، أو يبرزها الكاتب قلقة عليه ، والأدهى من ذلك يختم القصة بعبارات إخبارية تقريرية مباشرة ، ولا تؤدي شيئا سوى التكريس لحالة عدم الاقتناع وفقدان التواصل مع النَّصِّ ، ومع البناء الفني لقصة حديثة ، على شاكلة قوله ( كمية من الدماء خرجت من أحد أجزاء جسده . . وكأن هناك من دفعها بيده لتخط على الأرض أحرفاً لأول مرة يراها الحاضرون بهذا الشكل في هذا المكان في مثل هذه الحالات : م ظ ل و م . ) ([18]) ، وإذا سلمنا بمنطقية المذكور ، فإن حرفية القص مؤسسة على المسار السُّلَمي للحدث بمنحاه التاريخي المُتَصاعد ، لكن الكاتب لم يعتمد في تصاعده بحركية الحدث إلى الأمام على إدغام النقلات والمشاهد الحدثية في بنية سردية تنشغل بأمور الوصف ، وتعطل مكونات القص التقليدي العائد بتوصيف القصة إلى بدايات الجنس الأدبي نفسه ؛ ولعل إدغام البنى الجزئية للحدث في هيكلة سردية هو الذي يُذيبُ هذا التدرج المكشوف لمنطق البناء ، وكم سيكون الأمر مُقنعاً لو أنَّ الكاتبَ لجأ إلى فصل المشاهد الموجودة بالقصة ، وتنقل بينها عبر خلفية دلالية ؛ تتخلق عبر علاقة القارئ الواعي بالكاتب ، ومن ثم يقوم القارئ نفسه بربط هذه المشاهد بعضها ببعض ؛ ليقيمَ نسقاً بنائياًً من الدلالات المتسقة ، وليس هذا النمط بغريبٍ على الكاتب ؛ لأنه مارسه في أكثر من قصة بالمجموعة. بالإضافة إلى أنه أهمل عنصراً فنياً ثري الدلالة ، وهو ما يسمى بعنصر [ الكولاج القصصي ] ، الذي يتطابق تماماً مع عنصر [ المونتاج ] في المجال السينمائي ؛ إذ يرتبط بمحاولة الربط بين المشاهد المتعددة لخلق بنية درامية ذات بعد هرموني متسق .

كما تَكْثر بعض العبارات المستهلَكة ، ذات القوالب اللغوية الجامدة والمطروقة ، دون مبررٍ فنِّيٍّ لها ، مثل ( لا يجود الدهر بمثل هذه الساعة / نافضاً جلَّ غضبه ) ([19]) ، وتنتشر كذلك أدوات العطف التي تُسهم في تمدد النسيج القصصي فيترهل ، إضافة إلى انفلات الأداة اللغوية المحكمة وهو يوصّف الملامح النفسية لبعض الشخصيات ، فحينما يعبر عن ضيق أفق ( صابرة) ومحدودية إدراكها لبعض أمور الحياة ، يقول في عبارة صحفية إخبارية لا تتناسب وطاقات التخييل التي من المفترض أن تتحلى بها القصة الحديثة ( فتاة لا تزال في مرحلة التشكيل الفكري ، إذ تظل الكلمة تعمل في أذنها ([20]) .

وهكذا يدور القاص فنياً بين الصعود والهبوط ، وتتجلى تجربته الإبداعية في الاستقرار عند حيز البحث عن انتماء فني ، مثلما ينشغل مضمونياً ، ومع كل قصة ، بالبحث عن وجود وخلاص للعديد من القضايا ، أوالقلاقل ، الناجمة عن تطور حركة المجتمع .

الهوامش :



(1) شكري عزيز الماضي: في نظرية الأدب، دار المنتخب العربي، بيروت، ط1، 1993م، ص:113،114(بتصرف).

(2) قال بذلك هربت سبنسر نقلاً عن كتاب:

ــ توماس مونرو: التطور في الفنون، ترجمة: محمد أبو درة وآخرون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 1971م،ج1، ص: 75،76.

(3) المرجع السابق : ج1 ، ص: 75،76.وللمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى :ج2، ص:22، 23، 33 .

(4) شكري عزيز الماضي : المرجع السابق ، ص: 120.

(5) إرنست فيشر : ضرورة الفن ، ترجمة : أسعد حليم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1968م، ص:54،55،56(بتصرف).

(6) شكري عزيز الماضي : المرجع السابق ، ص:118:120(بتصرف).

(7) من بين هؤلاء النقاد :

ــ أحمد درويش في كتابه : تطور الأدب في عمان ، دار غريب ، القاهرة ، 1998م.

ــ طــه وادي في كتابه : القصةُ ديوان العرب ، الشركة العالمية للنشر ـ لونجمان ، الجيزة ، 2001م.

ــ يوسف الشاروني في كتابه :في الأدب العماني الحديث ، رياض الريس ، لندن ، 1990م.

ويمكن الرجوع حول الموضوع في طابعه العام إلى : د.سمير هيكل : القصة القصيرة في عمان في عصر النهضة. . دراسة تاريخية موضوعية ، و د.سعيد علوش :أبعاد الأطروحة الوطنية في القصة القصيرة العمانية ، و سعيد يقطين : الواقع والمتخيل في التجربة القصصية في عمان ،وإبراهيم خمود الصبيحي : تاريخ القصة القصيرة وتطورها في عمان ، و إبراهيم اليحمدي : القصة القصيرة في عمان ، و اعتدال عثمان : التجربة القصصية العمانية ، ومحسن الكندي : التجربة القصصية الجديدة في عمان ، ود.عبدالواحد لؤلؤة : رؤية حول القصة القصيرة في عمان ، ود. سعيد مصلح السريحي : القصة القصيرة في عمان ، البدايات : الدور الاجتماعي والقصور الفني .

(8) دار خلاف على العمل القصصي الأول في السلطنة ، إذ نسبه يوسف الشاروني للخصيبي وتبعه الكثير من النقاد دون تمحيص تاريخي لهذا الحكم ، علماً بأن العمل الأول كان من نصيب سور المنايا لأحمد بلال ، وكاتب هذه السطور كان ممن تبع الشاروني ،لولا قراءته لمقال: الدراسات الخاصة بالقصة القصيرة في عمان بين الاجتزاء والاحتذاء، للكاتب شبر بن شرف الموسوي في موقععه: http://www.geocities.com/adaboman1/akhbar1.htm

(9) طه وادي: القصة ديوان العرب، الشركة العالمية للنشر ـ لونجمان، الجيزة، 2001م، ص:139:142(بتصرف).

(10) صادرة عن : المجموعة الصحفية للدراسات والنشر ، القاهرة ، شتاء 1994م.

(11) يوسف الشاروني : في الأدب العماني الحديث ، رياض الريس ، لندن ، 1990م ، ص:20.

(12) شاكر عبدالحميد:الأسس النفسية للإبداع الأدبي في القصة القصيرة،الهيئةالعامة للكتاب،القاهرة،1992م،ص:53

(13) المرجع السابق : ص :44 ، 45 ( بتصرف ).

(14) مواسم الغربة : ص : 28 ، 29 .

(15) مواسم الغربة : ص : 18 .

(16) مواسم الغربة : ص : 42 .

(17) مواسم الغربة : ص : 42 .

(18) مواسم الغربة : ص : 43 .

(19) مواسم الغربة : ص : 49 .

(20) مواسم الغربة : ص : 53 .

الخديدي
02-04-2007, 08:15 AM
لاهنت اخوي فالح
بيض الله وجهك على هالكلام الطيب...

د.فالح العمره
03-04-2007, 04:14 PM
يا مرحبا بك اخي الفاضل الخديدي ولا هنت