المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرسول صلى الله عليه وسلم حياته وغزواته


د.فالح العمره
26-09-2006, 09:15 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى: غزوة بدر الكبرى (1)


عندما سمع الرسول عليه الصلاة والسلام بأبي سفيان مقبلاً من الشام في تجارة لقريش، ندب المسلمين إليه، وقال لهم : ((هذه عير قريش ، فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها)).

وفي رواية عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: ((إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير ، لعل الله يغنمناها ؟ قلنا: نعم. فخرج وخرجنا معه)).

ولم يستنفر الرسول صلى الله عليه وسلم كل الناس، بل طلب أن يخرج معها من كان ظهره حاضراً، ولم يأذن لمن أردا أن يأتي بظهره من علو المدينة، لذا لم يعاتب أحداً تخلف عنها. وكان عددهم ما بين 313 والـ 317 رجلاً، منهم ما بين الـ 82 والـ 86 من المهاجرين و 61 من الأوس و 170 من الخزرج، معهم فَرَسان وسبعون بعيراً، يتعقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد.

وكان أبو لبابة وعلي بن إبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعندما جاء دوره في المشي ، قالا له: ((نحن نمشي عنك)). فقال لهما : ((ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)).

وفي الطريق ، عندما بلغوا الروحاء ، رد الرسول صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وأمّره على المدينة ، وسبق ذلك أن جعل عبدالله بن أم مكتوم على الصلاة ، وأصبح مكانه في زمالة الرسول صلى الله عليه وسلم على البعير ، مرثد بن أبي مرثد. ولذلك فلا خلاف بين رواية ابن إسحاق ورواية أحمد.

وعندما علم أبو سفيان بالخطر المحدق بقافلته ، أرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستنجد بقريش.

وجاء ضمضم مسرعاً إلى مكة ، وعندما دخلها وقف على بعيره ، وقد جدع أنفه ، وحول رحله، وشق قميصه ، وهو يصيح : ((يا معشر قريش ، اللطيمة اللطيمة , أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث ، الغوث)).

وخرجت قريش مسرعة لإنقاذ عيرها ورجالها ، ولتلقي بالمسلمين في حرب تراها قاضية على قوة المسلمين التي ظلت تهدد تجارتهم. ولم يتخلف من أشرافهم سوى أبي لهب ، فإنه أرسل مكانه العاص بن هشام ، مقابل دين كان عليه ، مقداره أربعة آلاف درهم. و لم يتخلف من بطون قريش سوى بني عدي.

وبلغ عددهم في بداية مسيرهم نحو ألف وثلثمائة محارب، معهم مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة، بقيادة أبي جهل.

وعندما خشوا أن تغدر بهم بنوبكر لعدواتها معهم ، كادوا أن يرجعوا عماأرادو ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي ، سيد بني كنانة ، وقال لهم : ((أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فخرجوا من ديارهم كما حكى عنهم القرآن (بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله)).

رأت عاتكة بنت عبدالمطلب فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بخبر أبي سفيان بثلاث ليال ، فقالت : رأيت رجلاً أقبل على بعير له فوقف بالأبطح ، فقال : انفروا يا آل بدر لمصارعكم في ثلاث ، فذكرت المنام وفيه : ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل ، فأقبلت تهوي حتى ترضضت فما بقيت دار ولا بنية إلا ودخل فيها بعضها. وفي القصة إنكار العباس على أبي جهل قوله : ((حتى حدثت فيكم هذه النبية)) ، وإرادة العباس أن يشاتمه ، واشتغال أبي جهل عنه بمجيئ ضمضم يستنفر قريشاً لصد المسلمين عن عيرهم ، فتجهزوا وخرجوا إلى بدر ، فصدق الله رؤيا عاتكة.

لقد كان أبو سفيان متيقظاً للخطر المتكرر من جانب المسلمين. ولذا عندما اقترب من بدر لقى مجدي بن عمرو وسأله عن جيش الرسول صلى الله عليه وسلم، فأفاده مجدي بأنه رأى راكبين أناخا إلى تل، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا ، فبادر أبو سفيان إلى مناخيهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففته ، فعرف منه أنه من علائف المدينة ، فأسرع تاركاً الطريق الرئيس الذي يمر على يسار بدر ، واتجه إلى طريق الساحل غرباً ، ونجا من الخطر. ثم أرسل رسالة أخرى إلى جيش قريش ، وهم بالجحفة ، يخبرهم فيها بنجاته ، ويطلب منهم الرجوع إلى مكة.

وهم جيش مكة بالرجوع ، ولكن أبا جهل رفض ذلك ، قائلا : ((والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم بها ثلاثا ، فننحر الجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف لنا القيان ، وتسمع بنا العرب وبميسرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا. فامضوا)).

فأطاعه القوم ما عدا الأخنس بن شريق ، حيث رجع بقومه بني زهرة ، وطالب بن أبي طالب ، لأن قريشاً في حوارها معه ، اتهمت بني هاشم بأن هواهم مع محمد صلى الله عليه وسلم. وساروا حتى نزلوا قريباً من بدر ، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى ، على حدود وادي بدر.

وبلغ خبر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستشار أصحابه. وخشي فريق منهم المواجهة في وقت لم يتوقعوا فيه حربا كبيرة ، ولم يستعدوا لها بكامل عدتهم وعتادهم ، فجادلوا الرسول صلى الله عليه وسلم ليقنعوه بوجهة نظرهم. وفيهم نزل قول الله تعالى: ((كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهو ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين)).

وتكلم قادة المهاجرين، وأيدوا الرأي القائل بالسير لملاقاة العدو، منهم أبوبكر وعمر والمقداد بن عمرو.و مما قاله المقداد: (( يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه)). وفي رواية قال : ((لا نقول كما قال قوم موسى : اذهب أنت وربك فقاتلا ، ولكننا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك)) ، وسر النبي صلى الله عليه وسلم من قوله.

وبعد سماعه كلام قادة المهاجرين ، قال : ((أشيروا علي أيها الناس)) ، وكان بذلك يريد أن يسمع رأي قادة الأنصار ، لأنهم غالبية جنده ، ولأن نصوص بيعة العقبة الكبرى لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم خارج المدينة ، وأدرك سعد بن معاذ – حامل لواء الأنصاء – مراد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنهض قائلا : ((والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل. قال : فقد آمنا بك فصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله)).

فسر رسول صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا وأبشروا: فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم)).

وفي الطريق وعند بحرة الوبرة أدركه رجل من المشركين ، قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ، أراد أن يحارب معه ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ((ارجع فلن أستعين بمشرك)) ، ثم عرض له مرة ثانية بالشجرة ، ومرة ثالثة بالبيداء ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ما قاله أول مرة ، وأخيراًأقرالإسلام ، فقبله والرسول صلى الله عليه وسلم.

وعندما وصل قريباً من الصفراء ، بعث بسبس بن الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتحسسان له الأخبار عن أبي سفيان وعيره.

ويروى أنه خرج هو وأبوبكر لهذا الغرض ، ولقيا شيخا فسألاه عن جيش قريش ، فاشترط عليهما أن يخبراه ممن هما ، فوافقا ، وطلبا منه أن يخبرهما هو أولاً ، فأخبرهما بأنه قد بلغه أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن صدق الذي أخبره فم اليوم بمكان كذا وكذا – للمكان الذي به جيش المسلمين – وإن صدق الذي أخبره بجيش قريش فهم اليوم بمكان كذا – للمكان الذي به جيش قريش.

ولما فرغ من كلامه قال : ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء ، ثم انصرفا عنه، وتركاه يقول : من ماء ؟ أمن ماء العراق ؟

وفي مساء ذلك اليوم أرسل علياً والزبير وسعداً بن أبي وقاص في نفر من أصحابه لجمع المعلومات عن العدو ، فوجدوا على ماء بدر غلامين يستقيان لجيش مكة ، فأتوا بهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، وأخذوا في استجوابهما. فأفادا أنهما سقاة جيش قريش، فلم يصدقوهما ، وكرهوا هذا الجواب ، ظنا منهم أنهما لأبي سفيان ، إذ لا يزال الأمل يحدوهم في الحصول على العير. وضربوهما حتى قالا إنهما لأبي سفيان.

وعندما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاته عاتب أصحابه لأنهم يضربونهما إذا صدقا، ويتركونهما إذا كذبا. ثم سألهما الرسول صلى الله عليه وسلم عن مكان الجيش المكي ، فقال : هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.
وعندما سألهما عن عدد جيش مكة وعدته لم يستطيعا تحديد ذلك ، لكنهما حددا عدد الجزور التي تنحر يومياً بأنها ما بين التسعة والعشرة ، فاستنتج الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم بين التسعمائة والألف ، وذكرا له من بالجيش من أشراف مكة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ((هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها)). وأشار إلى مكان مصارع جماعة من زعماء قريش ، فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأنزل الله تعالى في هذه الليلة مطراً طهر به المؤمنين وثبت به الأرض تحت أقدامهم ، وجعله وبالاً شديدًا على المشركين. وفي هذا قال تعالى : ((وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم له ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام)).

ومن نعمة على المسلمين يوم بدر أيضاً أن غشيهم النعاس أمنة منه ، كما في صدر آية نعمة إنزال المطر : ((إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام)).

روى في ذلك الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك أن أبا طلحة ، قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم بدر ، فكنت فيمن غشيه النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه.

وزاد الله المؤمنين فضلاً بان أوقع الخلاف في صفوف عدوهم. فقد روى أحمد أن عتبة بن ربيعة أخذ يثني قومه عن القتال محذرا من مغبته ، لأنه علم أن المسلمين سوف يستميتون، فاتهمه أبو جهل بالخوف. وروى البزار ، أن عتبة قال لقومه يومذاك : إن الأقارب سوف تقتل بعضهم بعضاً ، مما يورث في القلوب مرارة لن تزول، فاتهمه أبو جهل بالخوف ، وليريه شجاعته ، دعا أخاه وابنه وخرج بينهما داعياً إلى المبارزة.

وكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى عتبة على جمل أحمر ، فقال : ((إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا)). وشاء الله أن يعصوه ، وضاع رأيه وسط إثارة أبي جهل الثارات القديمة.

سبق الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين إلى ماء بدر، ليحول بينهم وبين الماء. وهنا أبدى الحباب بن المنذر رأيه قائلاً : ((يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ؟ أم هو الرأي والحـرب والمكيدة ؟))قال : (( بل هو الرأي والحرب والمكيدة )) ، قال : ((يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم – قريش – فننزله ونغور – نخرب – ما وراءه من القلب – الآبار ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون )) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لقد أشرت بالرأي)). وفعل ما أشار به الحباب بن المنذر.

وعندما استقروا في المكان ، قال سعد بن معاذ مقترحاً : ((يا نبي الله ، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك)) ، فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الاقتراح.

ويفهم من النصوص الواردة في شأن القتال ببدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم شارك في القتال ، ولم يمض كل وقته داخل هذا العريش أو في الدعاء ، كما فهم بعض كتاب السيرة.

فقد روى الإمام أحمد عن علي ، قال : ((لقد رأيتنا في يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا من العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً)) ، وفي موضع آخر بالسند نفسه : ((لما حضر البأس يوم بدر ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من أشد الناس ، ما كان أو لم يكن أحد أقرب إلى المشركين منه)).

وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : ((لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه)). وقال ابن كثير: ((وقد قاتل بنفسه الكريمة قتالاً شديداً ببدنه ، وكذلك أبوبكر الصديق ، كما كانا في العربش يجاهدان بالدعاء والتضرع ، ثم نزلا فحرضا وحثا على القتال ، وقاتلا بالأبدان جمعاً بين المقامين الشريفين)).





السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية دراسة تحليلية ، لمهدي رزق الله ، ص 337-347

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:16 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى :غزوة بدر الكبرى (2)


بعد أن اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كل الوسائل المادية الممكنة للنصر في حدود الطاقة البشرية ، بات ليلته يتضرع إلى الله تعالى أن ينصره ، ومن دعائه كما جاء في رواية عند مسلم : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آت ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل السلام لا تعبد في الأرض) وتقول الرواية : ( فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبوبكر ، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين).

ومما رواه البخاري من دعائه في ذلك اليوم : ( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم) ، وتقول الرواية : ( فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله ، ألححت على ربك ، وهو يثب في الدرع فخرج وهو يقول : (سيهزم الجمع ويولون الدبر).

وروى ابن حاتم بإسناده إلى عكرمة أنه قال : لما نزلت ( سيهزم الجمع ويولون الدبر) ، قال عمر : أي جمع يهزم ؟ أي جمع يغلب ؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ، وهو يقول : (سيهزم الجمع ويولون الدبر)) فعرفت تأويلها يومئذ.

وفي صباح يوم الجمعة ، السابع عشر من رمضان – السنة الثانية من الهجرة وعندما تراءى الجمعان ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه قائلاً : (اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة).

وعندما وقف المسلمون في صفوف القتال ، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في تعديل صفوفهم وفي يده قدح ، فطعن به سواد بن غزية في بطنه ، لأنه كان متنصلا من الصف ، وقال له : ( استو يا سواد ، فقال سواد : يا رسول الله : أوجعتني فأقدني ، فكشف عن بطنه ؟ قال : استقد ، فاعتنقه سواد وقبل بطنه ، فقال : ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال : يا رسول الله ، قد حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدك جلدي). فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير.

ثم أخذ في توجيههم في أمر الحرب ، قائلا : إذا أكثبوكم – أي قربوا منكم - فارموهم واستبقوا نبلكم. ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. وحرضهم على القتال ، قائلا : ( والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ) ، وفي رواية عند مسلم أنه عندما دنا المشركون قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض). عندما سمع ذلك عمير بن الحمام الأنصاري ، قال : يا رسول الله ! أجنة عرضها السموات والأرض ؟ قال : ( نعم) قال : بخ بخ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما يحملك على قولك بخ بخ) قال : لا ، والله ! يا رسول الله ! إلا رجاءه أن أكون من أهلها. قال : ( فإنك من أهلها ) ، فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن. ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال : فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل.

وقال عوف بن الحارث – بن عفراء - : يا رسول الله ، ما يضحك الرب من عبده ، قال : (غمسه يده في العدو حاسراً ) ، فنزع درعا كانت عليه ، فقذفها ، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل.

وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، قبل بدء المعركة ، ألا يقتلوا نفرا من بني هاشم وغيرهم لأنهم خرجوا مكرهين ، وسمى منهم أبا البختري بن هشام – الذي كان ممن سعى لنقض صحيفة المقاطعة ولم يؤذ النبي صلى الله عليه وسلم – والعباس بن عبدالمطلب. وعندما سمع أبو حذيفة ذلك قال : (أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوننا وعشيرتنا ونترك العباس ، والله لئن لقيته لألحمنه – أو لألجمنه – بالسيف) ، فبلغت مقالته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمر : ( يا أبا حفص ؟ أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالسيف ؟ ) فقال عمر : يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه بالسيف ، فوالله لقد نافق). فكان أبو حذيفة يقول : (ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة) ، فقتل يوم اليمامة شهيداً.

وقبل ابتداء القتال خرج الأسود بن عبدالأسد المخزومي ، فقال : ( أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه) ، وتصدى له حمزة ، وضربه ضربة أطارت قدمه بنصف ساقه ، ثم حبا إلى الحوض مضرجا بدمائه ليبر قسمه ، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

المبارزة:

بعد هذا خرج ثلاثة فرسان قريش يطلبون المبارزة وهو عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة والوليد بن عتبة ، فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث – وأمهما عفراء – وعبدالله بن رواحة ، فلم يقبل فرسان قريش بغير بني أعمامهم من المهاجرين ، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي أن يبارزوهم. وكان حمزة لعتبة ، وعبيدة للوليد ، وعلي لشيبة. وقتل علي وحمزة صاحبيهما وأعانا عبيدة على قتل الوليد ، واحتملا عبيدة الذي أثخنه الوليد بالجراح. وفي هؤلاء الستة نزل قول الله تعالى : (هذان خصمان اختصموا في ربهم ، فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يُصب من فوق رؤوسهم الحميم).
ثم طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من علي أن يناوله كفا من حصى ، فناوله ذلك ، فرمى به وجه القوم ، فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء ، فنزلت الآية الكريمة (وما رميت إذ ميت ولكن الله رمى).

والملائكة تشهد بدراً :

ونزل المسلمون ساحة المعركة بقوة إيمانية كبيرة ، وشدوا على المشركين ، وأخذوا في اقتطاف رؤوسهم، وأمدهم الله بالملائكة لينصرهم على عدوهم ، كما في قوله تعالى : (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) الآيات ، و (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) و (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم ، فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب). الآية .

وكما روى من الأحاديث في هذا الشأن. فقد روى مسلم في هذا : ( بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم ، فنظر إلى المشرك أمامه ، فخر مستلقيا ، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه ، وشق وجهه كضربة السوط ، فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة). وروى أحمد أن رجلا من الأنصار قصير القامة جاء بالعباس أسيراً ، فقال العباس : ( يا رسول الله ، إن هذا والله ما أسرني ، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها ، على فرس أبلق ، ما أراه في القوم) ، فقال الأنصاري : (أنا أسرته يا رسول الله. فقال : (اسكت ، فقد أيدك الله تعالى بملك كريم). وروي الأموي أن الرسول صلى الله عليه وسلم خفق خفقة في العريش ثم انتبه ، فقال : ( أبشر أبا بكر ، أتاك نصر الله ، هذا جبريل معتجر بعمامة ، آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع ، أتاك نصر الله وعدته).

ورويت أحاديث في مشاركة الملائكة المسلمين يوم بدر ولم تصرح بالقتال. فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : (هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب) ، وقال في رواية أخرى : (جاء جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها – قال : وكذلك من شهد بدراً من الملائكة). وروى الحاكم أنه كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء معتجر بها ، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر.

لقد أكرم الله عباده المؤمنين يوم بدر ببعض الكرامات. فقد روى أن عكاشة بن محصن قاتل بسيفه يوم بدر حتى انقطع في يده ، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم جذلاً من حطب ليقاتل به ، فإذا هو في يده سيفاً طويلاً شديد المتن أبيض الحديدة ، فقاتل به يوم ذاك وفي المعارك الأخرى التي شهدها بعد ذلك ، وآخرها يوم اليمامة – أحد أيام حروب الردة – حين قتل شهيداً.

وعندما رأى إبليس – وكان في صورة سراقة بن مالك – ما تفعل الملائكة والمؤمنين بالمشركين ، فر ناكصاً على عقبيه ، حتى ألقى بنفسه في البحر.

مصرع الطغاة :

أ) أبو جهل : روى البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه قال : ( إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن ، فكأني لم آمن بمكانهما ، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه : يا عم ، أرني أبا جهل ، فقلت : يا ابن أخي ، فما تصنع به ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، فتعجبت لذلك. قال : وغمزني الآخر فقال لي مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس ، فقلت : ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه ، قال : فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيكما قتله ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته ، قال : هل مسحتما سيفكما ؟ فقالا : لا . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين ، فقال : كلاكما قتله ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء).

وروى ابن إسحاق ، من حديث معاذ بن الجموح أنه قال : ( سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة – أي الشجرة الكثيرة الأغصان - ، وهم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه ، قال : فلما سمعتها جعلته من شأني ، فصمدت نحوه ، فلما أمكنني حملت عليه ، فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه … وضربني ابنه عكرمة على عاتقي ، فطرح يدي ، فتعلقت بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه ، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي ، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها ، ثم مر بأبي جهل – وهو عقير – معوذ بن عفراء – فضربه حتى ثبته فتركه وبه رمق ، وقاتل معوذ حتى قتل).

وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عندما انجلت المعركة : ( من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد ، قال : أنت أبوجهل ؟ قال : فأخذ بلحيته ، قال : وهل فوق رجل قتلتموه أو رجل قتله قومه ؟ ) وفي رواية أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب مع ابن مسعود ليرى جسد أبي جهل ، وقال : ( كان هذا فرعون هذه الأمة ) . وفي رواية ابن إسحاق إن أبا جهل قال لابن مسعود عندما جثا عليه : (لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم).

ب) أمية بن خلف : تمكن عبد الرحمن بن عوف من أسر أمية ، وعندما رآه بلال معه ، قال : ( رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا ) ،وحاول عبد الرحمن أن يثنيه عن عزمه فلم يستطع ، بل استنفر بلال الأنصار فلحقوا به معه وقتلوه على الرغم من أن ابن عوف ألقى عليه نفسه وأمية بارك.
وعندما طرح قتلى المشركين في القليب ، لم يطرح معهم ، لأنه انتفخ في درعه فملأها ، وعندما ذهبوا ليحركوه تفرقت أعضاؤه ، فتركوه في مكانه ، وألقوا عليه ما غيبه من الحجارة والتراب .

ج) العاص بن هشام بن المغيرة : كان العاص بن هشام بن المغيرة خال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولذا حرص عمر على قتله ، فقتله حتى يعلم أن ليس في قلبه ولاء إلا لله وحده.

لقد انجلت معركة بدر عن نصر كبير للمسلمين. إذ قتلوا سبعين من المشركين ، وأسروا سبعين ، ولم يقتل من المسلمين سوى أربعة عشر رجلا ، ستة من قريش وثمانية من الأنصار.




السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 347

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:18 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى :غزوة بدر الكبرى (3)


دفن قتلى المشركين في القليب :

روى البخاري ومسلم وأحمد وابن إسحاق وغيرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفة الركية فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : ( يا فلان ابن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ ) فقال عمر : ( يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم).

وعندما ألقوا في القليب ، وفيهم عتبة بن ربيعة ، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجه ابنه أبي حذيفة ، فإذا هو كئيب قد تغير لونه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء ) ، فقال : لا والله يا رسول الله ، ما شككت في أبي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر ، بعد الذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك. فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيراً.

وبعد نهاية المعركة وانتصار المسلمين وأخذ الأسرى ، قيل للرسول صلى الله عليه وسلم : (عليك بالعير ، ليس دونها شيء). فناداه العباس أن ذلك لا يصلح له ، قال : ( ولم ؟ ) قال : لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك.

الغنائم :
وقع خلاف بين المسلمين حول الغنائم ، لأن حكمها لم يكن قد شرع يومذاك. وقد حكى عبادة بن الصامت ما حدث ، قائلا : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا. فالتقى الناس ، فهزم الله تبارك وتعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم ، يهزمون ويقتلون ، وأكبت طائفة على المعسكر يحوونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، فنحن نفينا عنها العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا ، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة ، واشتغلنا به ، فنزلت : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فُوَاق المسلمين – أي بالتساوي.

ومما يدل على أن الغنائم قد خمست ووزعت على المشاركين فيها ما رواه البخاري عن علي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ.

وقد أسهم الرسول صلى الله عليه وسلم لتسعة من الصحابة لم يشهدوا بدرا لأعمال كلفوا بها في المدينة أو لأعذار مباحة ، منهم عثمان بن عفان ، لأنه كان يمرض زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان تقسيم الغنائم في منطقة الصفراء في طريق العودة إلى المدينة وأخذت الأسرى إلى المدينة. وقد أرسل زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ليزفا البشرى إلى أهل المدينة. وقد تلقوا النبأ بسرور بالغ مشوب بالحذر من أن لا يكون مؤكداً ، قال أسامة بن زيد : فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى . ودهشت سودة رضي الله عنها عندما رأت سهيل بن عمرو ويداه معقودتان إلى عنقه بحبل فقالت : أبا يزيد ، أعطيتم بأيديكم ، ألا متم كراما !! ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أعلى الله وعلى رسوله) ؟ !! أي تؤلبين – فقالت : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ما ملكت حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بالحبل أن قلت ما قلت.

الأسرى :
استشار الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة في أمر الأسرى. فأشار أبوبكر بأخذ الفدية منهم بحجة أن في ذلك قوة للمسلمين على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم للإسلام. ورأى عمر قتلهم ، لأنهم أئمة الكفر. ومال الرسول صلى الله عليه وسلم لرأي أبي بكر. فنزل القرآن موافقا لرأي عمر ، وهو قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم ، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) إلى قوله تعالى : {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا}.

وكان أخذ الفداء حلالا في أول الإسلام، ثم جعل فيما بعد الخيار للإمام بين القتل أو الفداء أو المنّ ما عدا الأطفال والنساء ، إذ لا يجوز قتلهم ، ما داموا غير محاربين. قال تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها}.

وقد تباين فداء الأسرى. فمن كان ذا مال أخذ فداؤه أربعة آلاف درهم. وممن أخذ منه أربعة آلاف درهم أبو وداعة. وأخذوا من العباس مائة أوقية. ومن عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية ، ودفعها عنه العباس ، وأخذوا من آخرين أربعين أوقية فقط.

وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم سراح عمرو بن أبي سفيان مقابل أن يطلقوا سراح سعد بن النعمان بن أكال ، الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر.

ومن لم يكن لديهم مقدرة على الفداء ، وكانوا يعرفون الكتابة ، جعل فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. فقد روى أحمد عن ابن عباس ، قال : ( كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة ، فجاء غلام يوما يبكي إلى أبيه ، فقال : ما شأنك ؟ قال: ضربني معلمي ، قال : الخبيث ! يطلب بذحل بدر ! – أي بالثأر والعداوة - والله لا تأتيه أبدا) .

وكانوا يقبلون من بعض الأسارى ما عندهم إذا تعذر المفروض ، فقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة لها لتفدي زوجها أبا العاص بن الربيع ، فردوها لها ، وأطلقوا لها أسيرها لمكانتها عند والدها محمد صلى الله عليه وسلم ، وبهذا كان ابن الربيع ممن أطلق بدون فداء ، وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يقدر على الفداء بأي شكل من الأشكال ، منهم : المطلب بن حنطب المخزومي وصيفي بن أبي رفاعة وأبو عزة الشاعر.

ومما يدل على أنه كان بالإمكان إطلاق سراحهم جميعا بدون فداء ، قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له). وذلك لما قام به من حماية للرسول صلى الله عليه وسلم عندما عاد من هجرته إلى الطائف ، ودوره في تمزيق صحيفة المقاطعة.

وعندما استأذن رجال من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم في ترك فداء العباس قال : ( والله لا تذرون منه درهما ) وذلك على الرغم من أن العباس ذكر أنه كان مسلما وأنه خرج مستكرها.

وفي طريق العودة إلى المدينة ، قتل النضر بن الحارث بمنطقة الصفراء – قتله علي – وقتل عقبة بن أبي معيط بمنطقة عرق الظبية – قتله عاصم بن ثابت ، ويقال : قتله علي. وذلك لعدواتهما الشديدة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتلك نهاية الجبروت والشجاعة الزائفة. فقد رأينا عقبة ، لصيق قريش ، واليهودي الأصل ، يعود إلى حقيقته عندما قال للرسول صلى الله عليه وسلم مسترحما : ( من للصبية يا رسول الله ؟ فأجابه : النار) .

أما بقية الأسرى فقد استوصى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم خيراً ، فقد حكى أبو عزيز – شقيق مصعب بن عمير – وهو بين رهط من آسريه الأنصار – أن آسريه كانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوه بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى ، حتى ما تقع في يد أحد هم خبزة إلا ناوله إياها ، فيستحي فيردها على أحدهم ، فيردها عليه ما يمسها.

وأسلم كثير من هؤلاء الأسرى على فترات مختلفة قبل فتح مكة وبعدها ، منهم : العباس ، عقيل بن أبي طالب ، نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، خالد بن هشام ، عبد الله بن السائب ، المطلب بن حنطب بن الحارث ، أو وداعة الحارث بن صبيرة ، الحجاج بن الحارث بن قيس ، عبد الله بن أبي خلف ، وهب بن عمير ، سهيل بن عمرو ، عبد بن زمعة ، قيس بين السائب ، نسطاس مولى أمية بن خلف ...







السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية للدكتور مهدي رزق الله ، ص355

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:19 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى :غزوة بدر الكبرى (4)


كانت موقعة بدر ذات أثر كبير في إعلاء شأن الإسلام ، ولذا سميت في القرآن بيوم الفرقان. وأوضحت الأحاديث فضل البدريين وعلو مقامهم في الجنة. فقد عقد البخاري بابا في فضل من شهدها. وفيه قصة حارثة بن سراقة الذي أصابه سهم طائش يوم بدر ، وهو غلام ، وجاءت أمه تسأل عن مصيره يوم القيامة ، فبشرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن له جنانا كثيرة وأنه في جنة الفردوس.

وفيه قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسل إلى قريش يخبرهم بنية الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، فكشفه الوحي ، وعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال لعمر حين طالب بقتله : ( لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ، أو فقد غفرت لكم). ولما قال عبد من عبيد حاطب : ( يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كذبت ، ولا يدخلها ، فإنه شهيد بدرا والحديبية ).

وكان لبدر الأثر العميق في المدينة وبقية حواضر وبوادي الجزيرة العربية ، وكان لبدر الأثر العميق في المدينة على اليهود وبقايا المشركين. فانخذل اليهود ، وجاهروا بالعداوة مما كان سببا في إجلاء بني قينقاع عن المدينة.
وأسلم من زالت الغشاوة عن عينيه ، ونافق من أضله الله حفاظا على مصالحة الخاصة ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول ، الذي قال حينذاك : ( هذا أمر قد توجه – أي استقر- فلا مطمع في إزالته ).

أحكام وحكم من غزوة بدر :

لقد تضمنت أحداث عزوة بدر أحكاماً وحكما كثيرة ، من أهمها :

1-جواز النكاية بالعدو ، بقتل رجالهم وأخذ أموالهم وإخافة طرقهم التي يسلكونها ، لما في ذلك من إضعافهم معنويا واقتصاديا.

2-جواز استخدام العيون لكشف أحوال العدو وإفشال خططه.

3-تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على مبدأ الشورى لأهل الحل والعقد وعامة المسلمين ، وقد وردت أدلة على حجية الشورى في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وسنة الخلفاء الراشدين.

4-جواز المبارزة بإذن الأمير ، وهذا قول عامة أهل العلم.

5-المساواة بين الجندي وقائده في السلم والحرب سواء ، وقد اتضح ذلك من قصة سواد مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ كشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليقتاد منه سواد.

6-جواز فداء الأسارى أو المن عليهم.

7-لا حرج من قتل الأسير قبل أن يصل إلى يد الإمام ، كما فعل بلال ومن معه من الأنصار عندما قتلوا أمية بن خلف وهو في أسر عبد الرحمن بن عوف.

8-أحلت الغنيمة لهذه الأمة ، وقسمتها على المقاتلين بعد تخميسها.

9-من قتل قتيلا فله سلبه ، على شرط : أن يكون المقتول من المقائلة وليس ممن نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتلهم ، وهم النساء والصبيان والشيوخ الفانون … إلخ ، وأن يكون في المقتول منفعة وغير مثخن بالجراح ، أن يقتله أو يثخنه بجراح تجعله في حكم المقتول ، وأن يقرر بنفسه في قتله فأما إن رماه بسهم من صف المسلمين فقتله فلا سلب له.

10-دلت واقعة قضية الأسرى على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد ، والذين ذهبوا إلى هذا استدلوا على ذلك بمسألة أسرى بدر. وإذا صح للرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتهد ، صح منه بناء على ذلك أن يخطئ في الاجتهاد ويصيب. غير أن الخطأ لا يستمر ، بل لا بد من أن تنزل آية من القرآن تصحح له اجتهاده ، فإذا لم تنزل آية فهو دليل على صحة اجتهاده صلى الله عليه وسلم.

11- الأصل أن يبذل المسلمون كافة جهودهم في الإعداد للمعركة وفي مجابهة العدو ، قال تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل …) ومع ذلك فان الله يؤيد جنده بخوارق لتعينهم على النصر ، إذا كانوا أهلاً له ، كما حصل بإمداد الملائكة في بدر ، وبأن غشى النعاس عيون المؤمنين ، وأنزل عليهم المطر.

12- نبه الله المؤمنين إلى حقيقة هامة وهي أن لا يجعلوا حب المال يسيطر عليهم عند النظر في قضاياهم الكبرى التي قامت على أساس النظرة الدينية وحدها ، مهما كانت الحال والظروف ، ولذا عالج الله تجربة رؤية الغنائم مع الحاجة والفقر واختلافهم فيها ، ومسألة الأسرى ، بوسائل تربوية دقيقة ، كما في قوله تعالى : (يسألونك عن الأنفال ، قل الأنفال لله والرسول ، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم …)،و ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى … تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة…).

13- إن أهل بدر مغفور لهم يوم القيامة ، أما أحكام الدنيا فإنها تؤخذ منهم ، ويعاقبون عليها إن أتوها كما وقع لقدامة بن مظعون ، عندما حد في الخمر.

14- إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء المعركة أن يقيم في العرصة – مكانها – ثلاثة أيام.

15- السنة في الشهداء أن يدفنوا في مضاجعهم ، كما حدث لشهداء بدر وأحد ولا يصلي عليهم كما ثبت بالنسبة لشهدا أحد ، ولم يذكر أنه صلى على شهداء بدر.

16- لقد تجلت في بدر بطولات إيمانية كثيرة : على سبيل المثال ما روي من أن أبا عبيدة عامر بن الجراح قتل والده الجراح يوم بدر. فقد جعل والد أبي عبيدة يتصدى لابنه أبي عبيدة يومذاك فيحيد عنه الابن ، فلما أكثر قصده قتله ، فنزلت الآية : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله…).

وروى ابن إسحاق من حديث أبي عزيز بن عمير ، قال : مر بي أخي معصب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني ، فقال : شد يديك به فإن أمه ذات متاع ، لعلها تفديه منك ! … وزاد ابن هشام على هذه الرواية فقال : فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليسر ، وهو الذي أسره ، ما قال ، قال له أبو عزيز : يا أخي ، هذه وصاتك بي ! فقال له مصعب : إنه أخي دونك.







السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 363

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:22 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى :غزوة أحد (1)


تاريخ الغزوة :
اتفق كتاب السيرة على أنها كانت في شوال من السنة الثالثة الهجرية ، واختلفوا في اليوم الذي وقعت فيه. وأشهر الأقوال أنه السبت ، للنصف من شوال.

أسبابها :
لقد كان السبب المباشر لها ، كما أجمع على ذلك أهل السير ، هو أن قريشاً أرادت أن تنتقم لقتلاها في بدر ، وتستعيد مكانتها التي تزعزعت بين العرب بعد هزيمتها في بدر. أما من بين الأسباب الأخرى الهامة التي يمكن استنتاجها من مجريات الأحداث ، فهي أن قريشاً تريد أن تضع حدا لتهديد المسلمين طرق تجارتهم إلى الشام ، والقضاء على المسلمين قبل أن يصبحوا قوة تهدد وجودهم.

عدة المشركين :
خصصت قريش قافلة أبي سفيان التي نجت من المسلمين ، وأرباحها ، لتجهيز جيشهم لغزوة أحد ، وجمعت ثلاث آلاف مقاتل من قريش ومن أطاعها من كنانة وأهل تهامة ، ومعهم مائتا فرس ، وسبعمائة دارع ، وجعلت على الميمنة خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ، وخرجت معهم مجموعة من النساء لإثارة حماسهم وخوفهم من العار إذا فروا.
وذكر ابن إسحاق أنهن كن ثمانياً ، وقال الواقدي : إنهن كن أربع عشرة ، وقد سمياهن. وقال ابن سعد : إنهن كن خمس عشرة امرأة.

وأري الرسول صلى الله عليه وسلم في منامه ما سيحدث في أحد ، وذكره لأصحابه ، قائلا : ( رأيت في رؤياي أني هززته سيفاً فانقطع صدره ، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد ، ثم هززته أخرى فعاد كأحسن ما كان ، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين ، ورأيت بقرا – والله خير – فإذا هم المؤمنون يوم أحد) وفي رواية أخرى : ( ورأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة). وفسر الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا بأن هزيمته وقتلا سيقعان من أصحابه.

عندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بمجيء جيش مكة لحرب المسلمين ، شاور أصحابه ، بين أن يبقوا داخل المدينة أو يخرجوا لملاقاة العدو خارجها. فقال جماعة من الأنصار: (يا نبي الله ، إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة ، وقد كنا نمتنع من الغزو في الجاهلية ، فبالإسلام أحق أن نمتنع منه ، فابرز إلى القوم ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته. فتلاوم القوم فقالوا : عرض نبي الله صلى الله عليه وسلم بأمر وعرضتم بغيره ، فاذهب يا حمزة فقل للنبي صلى الله عليه وسلم : (أمرنا لأمرك تبع) ، فأتى حمزة فقال : (يا نبي الله ، إن القوم قد تلاوموا فقالوا : أمرنا لأمرك تبع ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز).

إن ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أن عبدالله بن أبي كان موافقاً لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقاء داخل المدينة ، فقد روى الطبري عن السدي خلاف ذلك ، وهو أثر إسناده صحيح ورجاله ثقات ولكنه مرسل ، وفيه من يهم ويكثر الخطأ ، ولذلك رجح الباكري رواية ابن إسحاق لصحتها ولإجماع أهل السير على ذلك ، وأن حجة ابن سلول في الرجوع عن أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطعه.

ومما ذكره أهل السير أن من دوافع الراغبين في الخروج ، إظهار الشجاعة أمام الأعداء والرغبة في المشاركة في الجهاد لما فاتهم من فضل الاشتراك في بدر. أما دوافع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كان على رأيه في البقاء داخل المدينة فهو الاستفادة من حصون المدينة وطاقات كل المواطنين مما يرجح فرصة دحر المهاجمين.

وبعد أن حسم الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الخروج رفعت راية سوداء وثلاثة ألوية : لواء للمهاجرين ، حمله مصعب بن عمير ، وحمله بعد استشهاده علي بن أبي طالب ، ولواء للأوس حمله أسيد بن خضير ، ولواء للخزرج ، حمله الحباب ابن المنذر. وبلغ عدد من سار تحتها ألفاً من المسلمين ومن ظاهرهم ، وكان معهم فرسان ومائة دارع. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرتدي درعين.

وعندما تجاوز الرسول صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى أحد ثنية الوادع رأى كتيبة خشناء ، فقال : ( من هؤلاء ؟ قالوا: هذا عبدالله بن أبي سلول في ستمائة من مواليه من اليهود من أهل قينقاع ، وهو رهط عبدالله بن سلام. قال : وقد أسلموا ؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال : قولوا لهم فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين). وإذا صح هذا الخبر يكون جلاء قينقاع بعد أحد.

وعندما وصل جيش المسلمين الشوط – وهو مكان ملعب التعليم بالمدينة الآن - ، انسحب المنافق ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين ، بحجة أنه لن يقع قتال المشركين ، ومعترضاً على قرار القتال خارج المدينة ، قائلا : ( أطاع الولدان ومن لا رأي له ، أطاعهم وعصاني ، علام نقتل أنفسنا).

ورأت فرقة من الصحابة قتال هؤلاء المنافقين ، ورأت الفرقة الأخرى عدم ذلك ، فنزلت الآية الكريمة :{ فمالكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا}. واتبعهم عبدالله بن عمرو بن حرام عند انسحابهم ، وأخذ يقول لهم : ( أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم ، فقالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه ، قال : أبعدكم الله أعداء الله ، فسيغني الله عنكم نبيه ، وقد أشار القرآن إلى هذا الحوار في قوله تعالى :{ وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين. وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ، قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، والله أعلم بما يكتمون } .
وكادت بنو سلمة – من الخزرج – وبنو حارثة – من الأوس – أن تنخذل مع المنافقين لولا أن الله ثبتهم مع المؤمنين ، وفيهم قال الله عز وجل : { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما … } .





السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 379

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:23 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى : غزوة أحد(2)


ورد الرسول صلى الله عليه وسلم في معسكره بالشيخين جماعة من الفتيان لصغر أسنانهم، إذ كانوا في سن الرابعة عشرة أو دون ذلك، منهم: عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والنعمان بن بشير وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وعرابة بن أوس وأبو سعيد الخدري ، بلغ عددهم أربعة عشر صبيا ، وقد ذكرهم ابن سيد الناس. وقد ثبت أبن عمر كان منهم، وأجاز منهم رافع بن خديج لما قيل له إنه رام ، وسمرة بن جندب لأنه احتج بأنه أقوى من رافع ويصرعه.

وفي تلك الليلة قام ذكوان بن عبد القيس بحراسة الجيش ، ويقال : كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقه.

وعندما تحرك الجيش في صباح السبت لملاقاة العدو ، مروا بحائط مربع بن قيظي ، وكان أعمى البصر منافقا ، فأخذ يحثو التراب في وجوه المسلمين ، ويقول : ( إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي ، والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتلوه ، فهذا الأعمى أعمى القلب ، أعمى البصر) ، وقد شجه سعد بن زيد قبل هذا النهي.

وفي الطريق إلى ميدان المعركة طلب عمر من أخيه زيد أن يأخذ درعه، فقال له زيد: (إني أريد من الشهادة مثل الذي تريد)، فتركاه جميعا.

وعندما وصل جيش المسلمين إلى جبل أحد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم ظهورهم إلى الجبل ووجوههم إلى المدينة. وانتقى خمسين من الرماة تحت إمرة عبد الله بن جبير ، ووضعهم فوق تل عينين المقابل جبل أحد ، خشية أن يطوق المشركون المسلمين. وأصدر أوامره إليهم قائلاً: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم). وبذلك سيطر المسلمون على المرتفعات وتركوا الوادي لجيش مكة ليواجه أحد ظهره إلى المدينة.

وعند التحام الجيشين نادى أبو عامر – عبد عمرو بن صيفي – قومه من الأوس لينضموا معه للحرب في صفوف المشركين ، ولكنهم أغلظوا له في الرد قائلين له : (فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق) ولم يملك أن قال : (لقد أصاب قومي بعدي شر). وأخذ في قتالهم بالحجارة.

وبدأ القتال بمبارزة بين علي وطلحة بن عثمان ، حامل لواء المشركين ، فقتل علي طلحة. ثم التحم الجيشان واشتد القتال ، واستبسل المسلمون حتى تمكنوا من دحر المشركين إلى معسكرهم ، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في زيادة رفع روحهم المعنوية بأن أخذ سيفا وقال : (من يأخذ مني هذا ؟ ) فبسطوا أيديهم ، كل إنسان منهم يقول : أنا أنا. قال: من يأخذه بحقه ؟ فأحجم القوم، فقال أبو دجانة: أنا آخذه بحقه. فأخذه بحقه. فأخذه ففلق به هام المشركين.

وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : أمت ، أمت ، فقد استماتوا تحت هذا الشعار ، وسجل التاريخ استماتة حمزة وبسالته في القتال. فقد تصدى في المبارزة لسباع بن عبدا لعزى فقتله، ولغيره من عتاة المشركين أمثال عثمان بن أبي طلحة، أبي شيبة، أحد حملة لواء المشركين يومذاك. وكان وحشي مولى جبير بن مطعم قد اشترط عليه مولاه أن يعتقه إن هو قتل حمزة ، ثأرا لعمه طعيمة بن عدي ، الذي قتله حمزة يوم بدر ، فمكن لحمزة تحت صخرة ، فلما دنا منه رماه بحربته فقتله غدراً.

وقاتل مصعب بن عمير حتى استشهد ، وأخذ الراية بعده علي ، وصدق المسلمون في اللقاء ، فأوقعوا في المشركين القتل ، وقتلوا أصحاب اللواء ، حتى تركه المشركون وما يدنو منه أحد منهم. وانتصروا عليهم في هذه الجولة الأولى من القتال ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه}.

وعندما انهزم المشركون بنسائهم وقد بدت سوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن، قال أصحاب ابن جبير: الغنيمة ، أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : والله لنأتين الناس فلنصبين من الغنيمة. ثم هرعوا إلى جمع الغنائم.

وكانت هذه فرصة مواتية لابن الوليد ليلتف حول المسلمين ، فيراه المشركون فيعودوا إلى ميدان القتال مرة أخرى ، محيطين بالمسلمين. وارتبك المسلمون إلى الحد الذي لم يقدر أن يميز بعضهم المسلم من الكافر. في هذه اللحظات قتل المسلمون اليمان والد حذيفة، وابنه حذيفة يصرخ فيهم: (أي عباد الله، أبي، ثم قال لهم عندما قتلوه: يغفر الله لكم).

واستشهد من المسلمين خلق كثير ، وغاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن أعينهم ، وشاع أنه قد قتل.

وفر جمع من المسلمين من الميدان. وجلس بعضهم دون قتال ، وتصدى آخرون للمشركين وحرضوا المؤمنين على القتال حتى نالوا الشهادة. ومن هؤلاء: أنس بن النضر الذي كان يتشوق لتعويض ما فاته من فضل بدر. فقال عندما رأى بعض المسلمين قعودًا: (الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد). وعندما انجلت الغمة وجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة ورمية وطعنة، ولم يعرفه أحد إلا أخته الربيع، عرفته ببنانه، وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بعد المعركة ليتفقده، فوجده وبه رمق، فرد سلام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: (أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي من الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شفر يطرف) ودمعت عيناه. ونزلت فيه وفي أمثاله من المجاهدين الصادقين الآية { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا}.

وكان الفارون لا يلوون على شيء على الرغم من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالثبات معه. وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم}. وقد عفا الله عن الذين فروا. قال تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور رحيم}. وذكر ابن الجوزي أن أحد سببي فرارهم هو سماعهم إشاعة مقتل النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان أول من علم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بعد الانتكاسة، هو كعب ابن مالك ، فنادى مبشرا بذلك ، فأسكته الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا ينتبه المشركون له. وتمكن بعض المشركين من الوصول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أفرد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه، قال: ( من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة ؟ فتقدم واحد تلو الآخر للدفاع عنه حتى استشهد الأنصار السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبيه القرشيين: (ما أنصفنا أصحابنا).

وممن قاتل دون الرسول صلى الله عليه وسلم قتالا عظيما سجله التاريخ : طلحة ابن عبيد الله ، حتى شلت يده التي وقي بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وسعد بن أبي وقاص ، الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يناوله السهام ويقول له :( ارم يا سعد فداك أبي وأمي) ولم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك بن أبي وقاص ، كما قال علي رضي الله عنه ، وكما قال هو نفسه، وأبو طلحة الأنصاري ، أمهر الرماة ، والذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا مر به أحد بجعبته نبل ، يقول له ، (انثرها لأبي طلحة) وعندما يشرف النبي صلى الله عليه وسلم على القوم له أبو طلحة : (بأبي أنت وأمي ، لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم ، ونحري دون نحرك) وهو الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم معجبا به : ( لصوت أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة) ، و أبو دجانة ، الذي كان يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم بظهره ، حتى كثر النبل فيه وهو منحن عليه.

وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت طرفها فأخذها قتادة بن النعمان ، فكانت عنده. وأصيب يومئذ عين قتادة حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما.

وفي هذه الظروف العصيبة اضطرت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية أن تدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى جرحها ابن قمئة جرحاً أجوف له غور على عاتقها.

وقاوم الرسول صلى الله عليه وسلم مقاومة شديدة ، فأصيب إصابات كثيرة ، فكسرت رباعيته وشج في وجهه ، وسال دمه ، فجعل يمسحه ويقول : ( كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الإسلام) فأنزل الله عز وجل { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون}. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طمع في إسلامهم: (رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). وفي روايات عند البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يومئذ وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه.

وقال صلى الله عليه وسلم عندما فعل به المشركون ذلك: (اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا بنبيه - يشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله) وفي رواية : (اشتد غضب الله على من قتله النبي في سبيل الله ، اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم ) ، وكانت فاطمة ابنته تغسل دماءه وعلي يسكب الماء بالمجن ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة ، أخذت قطعة من حصير وأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم.

وقد ظهرت بطولات إيمانية كثير في هذه الغزوة ، ومن ذلك :

- قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : (أرأيت إن قتلت فأين أنا ؟ قال : في الجنة) فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى نال الشهادة.

- وقال عبد الله بن جحش ، قبل المعركة : (أني أقسم أن نلقى العدو فإذا لقينا العدو أن يقتلوني ثم يبقروا بطني ثم يمثلوا بي ، فإذا لقيتك سألتني : فيم هذا ؟ فأقول: فيك) وعندما لقي العدو وفعل بهم ما فعل وجدوه بالحالة التي وصفها.

- وشهد عمرو بن الجموح القتال مع أبنائه الأربعة على الرغم من محاولتهم إثناءه عن الخروج بحجة أن الله يعذره لشدة عرجه ، وطلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعوه ما دام راغبا في الشهادة ، ومما قاله للرسول صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن قتلت اليوم أأطأ بعرجتي هذه الجنة قال: ( نعم ) ، قال : فوالذي بعثك بالحق لأطأن بها الجنة اليوم إن شاء الله. ثم قاتل حتى نال ما أراد من الشهادة.

- وعلى الرغم من أن الله قد عذر الشيوخ الضعفاء إلا أن اليمان وثابت بن وقش أبيا البقاء مع الذرية في الحصون فلحقا بالميدان طلباً للشهادة، وقد استشهد ثابت على يد الكفار وقتل المسلمون اليمان خطأ، ووداه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ابنه حذيفة تصدق بدية أبيه، مما زاده عند الرسول صلى الله عليه وسلم خيراً.

- وكان حنظلة بن أبي عامر عروساً ليلة أحد، فعندما سمع النداء عجل بالخروج ولم يغتسل، وقاتل حتى استشهد. وعندما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ( إن صاحبكم لتغسله الملائكة)؛ ولذا عرف بعد ذلك بـ (غسيل الملائكة) أو (الغسيل).

- وقاتل مخيريق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، وكان مثالاً وقدوة حسنة لليهود الذين أسلموا. وحين خرج إلى المعركة قال: (إن أصبت فمالي لمحمد صلى الله عليه وسلم، يصنع فيه ما يشاء) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مخيريق خير يهود).

- وكان أصيرم بني عبدالأشهل عمرو بن أقيش كارها للإسلام حتى كان يوم أحد ، أسلم ولحق المسلمين في أحد ، فقاتل حتى نال الشهادة ، وما صلى لله صلاة واحدة.

- وإن كان قد فات حسان بن ثابت رضي الله عنه شرف الجهاد بالسيف في هذه الغزوة وغيرها، إلا أنه لم يفته شرف الكلمة القوية في تخليد ذكرى بطولات المسلمين في هذه الغزوة وغيرها.

لقد كان حسان من أصحاب الأعذار. فقد ذكر الكلبي أن الجبن لم يكن من عادة حسان، بل كان شجاعا لسناً، فأصابته علة منعته من شهود القتال. وأوضح الواقدي هذه العلة، وهي أن أكحله – عرق في اليد- كان قد قطع، فلم يكن يستطيع الضرب بيد. وهذا يفسر لنا الروايات التي وردت في تخلفه عن القتال، مثل رواية الطبراني التي فيها أنه كان مع الذرية في حصن فارع يوم أحد، فجاء يهودي وأخذ يطل على الحصن، فطلبت صفية بنت عبد المطلب من حسان أن يقوم إليه فيقتله: ما ذاك فيّ لو كان لكنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتلته صفية وطلبت من حسان أن يرمي برأسه إلى اليهود أسفل الحصن، فاعتذر أيضاً ، فرمته إليهم ، فتفرقوا لأنهم ظنوا أن بالحصن رجلا محاربين. وذكر البلاذري واليعقوبي كذلك أن القصة كانت يوم أحد، والذي ذكره إسحاق وغيره أنها كانت يوم الخندق.

لم تأت قصة حسان مع صفية بطريق يحتج بها، ومما يجعلنا نقبل رواية الواقدي والكلبي على ما بهما من علل لأننا نعلم أن حسانا كان يهاجي الشعراء في الجاهلية والإسلام، ولم يرمه أحد منهم بجبن، ولو كان مثل حديث الطبراني صحيحا لكان مما يذكر في الشعر ويذم به كما ذم هو غير واحد، وهجاه بالفرار من القتال والجبن، إضافة إلى أن عدم شهود حسان القتال كان لكبر سنه كما ذكر محققا سيرة ابن هشام . وزاد ابن عبد البر ما قيل في تفسير تخلف حسان عن المواقع ، فقال : (ولهجي بذلك ابنه عبد الرحمن ، فإنه كان كثيرا ما يهاجي الشعراء العرب مثل النجاشي وغيره) .

- وممن قاتل يوم أحد، وليس بنية الجهاد في سبيل الله، ولكن بنية حماية الأحساب، فكان من أهل النار : قزمان ، الذي قتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر له يقول : (إنه لمن أهل النار) ، ولما كان يوم أحد قتل نفسه عندما أثخنته الجراح ، وكان هذا من دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودليل على أن النية في الجهاد هي الأساس.

- لقد رافقت بعض النسوة جيش المسلمين ليسقين العطشى، ذكر منهن أم عمارة، وحمنة بنت جحش الأسدية، وأم سليط ، وأم سليم ، وعائشة أم المؤمنين.

وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء ويداوين الجرحى.

وقد أرسل الله تعالى جبريل وميكائيل ليقاتلا دفاعاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الله قد وعد المؤمنين إن هم صبروا واتقوا وأتوا الأعداء من فورهم فسيمدهم بالملائكة، ولما لم يحصل ذلك منهم فلم يتحقق الوعد، وفي هذا يقول تعالى: { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين. بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص383

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:25 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى : غزوة أحد (3)


وأنزل الله تعالى النعاس على طائفة المؤمنين الذين اغتموا بما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم وإخوانهم يوم بدر فناموا يسيرا ثم أفاقوا وقد قذف الله في قلوبهم الطمأنينة، التي أعادت لهم بعض نشاطهم ليواصلوا الدفاع عن نبيهم.

وكان أبو طلحة الأنصاري فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفه من يده مراراً فيأخذه. وفي ذلك نزل قول الله تعالى: ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم)، أما طائفة المنافقين، سواء التي انسحبت مع ابن سلول أو فلولهم التي سارت مع المؤمنين فقد قال الله عنهم في الآية نفسها: ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يقولون هل لنا من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله ، يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ، يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ).

لقد حاول المشركون جهد طاقتهم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الله عصمه منهم. فقد روي أن أبيا بن خلف كان يتوعد الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة بأنه سيقتله يوما ما، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( بل أنا أقتلك إن شاء الله)، فلما كان يوم أحد لحق النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب وهو يقـول : أي محمد ، لا نجوت إن نجوت ، فقال القوم : يا رسول الله ، أيعطف عليه رجل منا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه. فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة مال منها على فرسه مرارا، ورجع إلى قريش وبه خدش غير كبير، فاحتقن الدم، فقال : ( قتلني والله محمد !) وطمأنة قومه بأن ليس به بأس، فقال لهم ما قال له محمد صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم قال : ( فوالله لو بصق علي لتقلني). فمات عدو الله بسرف، وهم قافلون به إلى مكة. وهذا من علامات ودلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

وعندما صمد المسلمون واستماتوا دفاعا عن النبي صلى الله عليه وسلم فشل المشركون في محاولات الاختراق إليه، وأعيتهم المجالدة، ولم يملك أبو سفيان إلا أن يتوعد المسلمين بحرب أخرى في العام القادم، فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.

وقد ثبت أن أبا سفيان أشرف على المسلمين، وقال: أفي القوم محمد ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ قال: لا تجيبوه ، قال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه، فقال : كذبت يا عدو الله ، أبقى الله عليك ما يحزنك ، قال أبو سفيان : اعل هبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أجيبوه ، قالوا : ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه، قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: والله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال. وتجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني، وفي رواية عند أحمد وابن إسحاق قال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.

وعندما انصرف المشركون مكتفين بما نالوه من المسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب، وقال له: ( اخرج آثار القوم ، فانظر ماذا يصنعون وما يريدون ، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ، فإنهم يريدون مكة ، وإن ركبوا الخيل وساقو الإبل ، فإنهم يريدون المدينة ، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ، ثم لأناجزنهم) ، وفعل علي ما أمر به ، فوجدهم قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة ، وانجلت المعركة عن سبعين شهيداً من المسلمين ، واثنين وعشرين قتيلاً من المشركين.

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به، فجدع أنفه وأذناه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما به: ( لولا أن تحزن صفية، ويكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم)، فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعمل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب. ونزل قول الله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين). فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة.

وعن قصة التمثيل بجثة حمزة رضي الله عنه، فقد روى موسى بن عقبة أن وحشياً بقر عن كبد حمزة وحملها إلى هند بنت عتبة فلاكتها فلم تستطع أن تستسيغها.

وروى ابن إسحاق أن هنداً هي التي بقرت عن كبد حمزة، وزاد أن هنداً اتخذت من آذان الرجال وأنفهم خدماً (أي خلاخل) وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقطرتها وحشياً.

وروى الواقدي أن وحشياً عندما قتل حمزة حمل كبده إلى مكة ليراها سيده جبير بن مطعم.

وذكر الشامي أن الواقدي والمقريزي في الإمتاع رويا أن وحشياً شق بطن حمزة وأخرج كبده وجاء بها إلى هند فمضغتها ثم لفظتها ، ثم جاءت معه إلى حيث جثة حمزة ، فقطعت من كبده وجدعت أنفه وقطعت أذنيه ثم جعلت مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك مكة.

ولعل رواية الواقدي والمقريزي التي أشار إليها الشامي تفيد الجمع بين روايتي ابن عقبة وابن إسحاق، وتوافقهما في المضمون.

أما التمثيل بجثة حمزة فقد ثبت بطرق صحيحة كما ذكرنا، مما يدل على أن قصة بقر كبد حمزة التي ذكرها بعض أهل المغازي والسير لها أصل.

وسجلت لبعض النساء المسلمات مواقف إيمانية رائعة في تقبلهن مصابهن في أهليهن وفرحهن بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر هو وأصحابه بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد ، فلما نعوا لها قالت : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: خيرا يا أم فلان. هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه ؟ فأشير إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل) أي صغيرة.

وعندما أقبلت صفية أخت حمزة لتنظر إليه ، طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من ابنها الزبير أن يرجعها حتى لا ترى ما بأخيها من مثلة ، فقالت : ولم ؟ وقد بلغني أن قد مثل بأخي ، وذلك في الله ، فما أرضانا بما كان من ذلك ! لأ حتسبن ولأصبرن إن شاء الله. وعندما أخبر الزبير النبي صلى الله عليه وسلم بقولها ، أمره بأن يخلي سبيلها ، فأتته فنظرت إليه ، فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له ، ثم أمر به فدفن.

وقد روى البخاري وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: (أيهم أكثر أخذاً للقرآن ؟ فإذا أشير لأحد قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا، ودفن الاثنان والثلاثة في قبر واحد، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا حيث صرعوا، فأعيد من أخذ ليدفن داخل المدينة. وبعد الدفن، صف الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه وأثنى على ربه ثم دعا الله أن يعطيهم نعيم الدنيا والآخرة وأن يقتل الكفرة والمكذبين.

وكان يتمنى أن يمضي شهيدا مع أصحابه الذين استشهدوا يوم أحد، وقد أثنى عليهم عندما سمع عليا يقول لفاطمة: هاك السيف فإنها قد شفتني، فقال له: ( لئن كنت أجدب الضرب بسيفك، لقد أجاد سهل ابن حنيف وأبو دجانة وعاصم بن ثابت الأقلح والحارث بن الصمة.
وبشر الرسول صلى الله عليه وسلم بما نال الشهداء من عظيم الأجر، فقد قال عندما سمع بكاء فاطمة بنت عبدا لله بن عمرو والد جابر: (ولم تبكي ؟ فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه).

ونزل في شهداء أحد قول الله تعالى: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون). فقد روى مسلم أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا ابن مسعود عن هذه الآية، فقال: (أما أنا قد سألنا ذلك. فقال: أرواحهم في جوف طير خضر. لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل)؛ ولذا قال العلماء إن حياة الشهداء حياة محققة حسبما جاء في هذا الحديث.



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، ص395

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:26 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى : غزوة أحد(4)


أحكام وحكم وعظات وعبر من غزوة أحد:

عقد ابن القيم فصلاً فيما اشتملت عليه هذه الغزوة من الأحكام الفقهية، ننقلها هنا باختصار لتعميم الفائدة:

1- إن الجهاد يلزم بالشروع فيه، حتى إن استعد له وتأهب للخروج، وليس له أن يرجع عن ذلك حتى يقاتل عدوه.
2- إنه لا يجب على المسلمين إذا طرقهم عدوهم في ديارهم الخروج إليه، بل يجوز لهم أن يلزموا ديارهم، ويقاتلوهم فيها إذا كان ذلك أنصر لهم على عدوهم، كما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم يوم أحد.
3- جواز سلوك الإمام بالعسكر في أملاك رعيته إذا صادف ذلك طريقة، وإن لم يرض المالك، كما كان حال مربع بن قيظي مع الرسول صلى الله عليه وسلم وجيشه.
4- إنه لا يأذن لمن لا يطيق القتال من الصبيان غير البالغين، بل يردهم إذا خرجوا، كما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر ومن معه.
5- جواز الغزو بالنساء والاستعانة بهن فيما دون القتال مثل السقي والتطبيب.
6- جواز الانغماس في العدو، كما انغمس أنس بن النضر وغيره.
7- إن الإمام إذا أصابته جراحة صلى بأصحابه قاعداً، وصلوا وراءه قعدواً، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمرت على ذلك سنته إلى حين وفاته.
8- جواز دعاء الرجل وتمنيه أن يقتل في سبيل الله، وليس ذلك من تمني الموت المنهي عنه، كما فعل عبد الله بن جحش.
9- إن المسلم، إذا قتل نفسه، فهو من أهل النار، كما في حال قزمان.
10- السنة في الشهيد أن لا يغسل ولا يكفن في غير ثيابه، بل يدفن فيها بدمه، إلا أن يسلبها العدو، فيكفن في غيرها. والحكمة في ذلك كما روى الترمذي ( حتى يلقوا ربهم بكلومهم – جروحهم - ، ريح دمهم ريح المسك ، واستغنوا بإكرام الله لهم). كما روى ابن إسحاق أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن شهداء أحد: (أنا شهيد على هؤلاء ، ما من جريح يجرح في الله ، إلا والله يبعثه يوم القيامة ، يدمى جرحه ، اللون لون الدم والريح ريح مسك).
11- أما الصلاة على الشهيد فقد اختلف فيها العلماء وقد رجح ابن القيم أن الإمام مخير بين الصلاة عليه وتركها لمجيء الآثار بكل واحد من الأمرين.
وقد خرّج محققا الزاد تلك الآثار وبينا درجتها من الصحة ، ثم قالا : ( ففي هذه الأحاديث مشروعية الصلاة على الشهداء لا على سبيل الإيجاب ، لأن كثيرا من الصحابة استشهد في غزوة بدر وغيرها ، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليهم ، ولو فعل لنقل عنه ، وقد جنح المؤلف [ أي ابن القيم ] رحمه الله في (تهذيب السنن : 4/3295) إليه .
12- السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم.
13- إن من عذره الله في التخلف عن الجهاد ، لمرض أو عرج (شديد أو شيخوخة) يجوز له الخروج إليه ، وان لم يجب عليه ، كما خرج عمرو بن الجموح ، وهو أعرج ، (واليمان والد حذيفة وثابت بن وقش وهما شيخان كبيران).
14- إن المسلمين إذا قتلوا واحداً منهم في الجهاد يظنونه كافراً، فعلى الإمام دفع ديته من بيت المال ، كما في واقعة قتل اليمان.

وذكر ابن القيم بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في غزوة أحد.

وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى أمهاتها وأصولها في سورة آل عمران حيث افتتح القصة بقوله: (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال …) إلى تمام ستين آية من هذه السورة.

نذكر هنا باختصار ما ذكره ابن القيم:
1- تعريف المؤمنين بسوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع ، وأن الذي أصابهم هو لذلك السبب ، كما قال تعالى : (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، منكم من يريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة ، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم) فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وتنازعهم وفشلهم ، كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان.
2- إن حكمة الله وسنته في رسله ، وأتباعهم ، جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى ، لكن تكون لهم العاقبة ، فإنهم لو انتصروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة ، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاؤوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة ، خاصة وان هذا من أعلام الرسل كما قال هرقل لأبي سفيان : (هل قاتلتموه ؟ قال : نعم. قال : كيف الحرب بينكم وبينه ؟ قال : سجال ، يدال علينا المرة ، وندال عليه الأخرى. قال : كذلك الرسل تبتلى ، ثم تكون لهم العاقبة).
3- ميزت محنة أحد بين المؤمن والمنافق الذي دخل الإسلام ظاهراً بعد انتصار المسلمين ببدر، وفي ذلك قال تعالى : (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب).
4- استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون ، فهم عبيده حقاً ، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.
5- لا يصلح عباده إلا السراء والضراء، فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته، فهو (سبحانه) إذا أراد أن يعز عبده ، ويجبره ، وينصره ، كسره أولاً ، ويكون جبره له ، ونصره على مقدار ذله وانكساره ، وهذا ما وقع للمسلمين ببدر (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) وبحنين ( يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) .
6- إنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته ، لم تبلغها أعمالهم ، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة ، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه ، كما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها.
7- إن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة ، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والآخرة ، فإذا أراد الله بها الرحمة والكرامة قيض لها من الابتلاء ما فيه دواء وشفاء لذلك المرض.
8- إن الشهادة عند الله من أعلى مراتب أوليائه ، ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو وغيره.
9- إن في الابتلاء من الله تمحيص وتكفير لذنوب عباده وفرصة لهم لنيل الشهادة ، قال تعالى : ( وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ، والله لا يحب الظالمين ، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين).
10- إن الأنبياء (عليهم السلام)، إذا أصيبوا ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام تعظيماً لأجرهم تأسى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره والعاقبة للمتقين ، وهذه سنة الله فيهم.
11- إن اشتراك الرسول صلى الله عليه وسلم في القتال مثله كأي فرد من أفراد جيشه دليل على حرصه صلى الله عليه وسلم على عدم تميزه عن جنده ومساواة نفسه بهم. وفيه دليل على شجاعته وصبره وتحمله الأذى في سبيل دعوته.





السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، د. مهدي رزق الله ، ص 402

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:28 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى : غزوة الخندق (الأحزاب) [1]


تاريخ الغزوة:
وقعت هذه الغزوة في شوال سنة خمس كما قال ابن إسحاق ومن تابعه، وهو قول الجمهور، وقال الواقدي: إنها وقعت في يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة في العام الخامس الهجري، وقال ابن سعد: إن الله استجاب لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فهزم الأحزاب يوم أربعاء من شهر ذي القعدة سنة خمس من مهاجره. ونقل الزهري ومالك بن أنس وموسى بن عقبة أنها وقعت سنة أربع هجرية.

ويرى العلماء أن القائلين بأنها وقعت سنة أربع كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، فتكون غزوة بدر عندهم في السنة الأولى، وأحد في الثانية والخندق في الرابعة، وهو مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة. وجزم ابن جزم أنها وقعت سنة أربع لقول ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رده يوم أحد وهي في السنة الثالثة باتفاق وهو ابن أربع عشرة سنة. ولكن البيهقي وابن حجر وغيرهما فسروا ذلك بأن ابن عمر كان يوم أحد في بداية الرابعة عشرة ويوم الخندق في نهاية الخامسة عشرة وهو الموافق لقول جمهور العلماء.

سبب الغزوة:

لم تضع الحرب أوزارها بين مشركي مكة والمسلمين إلا بعد فتح مكة في العام الثامن الهجري، ولذا فمن البدهي أن تحاول قريش في كل مرة القضاء على قوة المسلمين التي ترى فيها تهديداً مستمراً لطرق قوافلها وخطراً على مكانتها بين العرب.

أرادت قريش في هذه المرة أن تحسم هذا الصراع مع المسلمين لصالحها، فحشدت له أكبر قوة ممكنة حيث لجأت إلى التحالف مع كل من له مصلحة في القضاء على المسلمين. ووجدوا أكبر ضالتهم في قريش، فقد التقت أهداف الفريقين، وهو القضاء على المسلمين.

كان أول ما فكر فيه زعماء بني النضير الذين خرجوا إلى خيبر أن يتصلوا بقريش والقبائل الأخرى للثأر لأنفسهم والطمع في العودة إلى ديارهم وأملاكهم في المدينة. فخرج وفد منهم إلى مكة ، منهم : سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق النضريون ، وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان ، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل ، فدعوا قريشاً إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدهم بالقتال معهم ، حتى يستأصلوه ، وأفتوهم بأن دينهم خير من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنهم أولى بالحق منهم ، وفيهم أنزل الله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ). ثم اتجهوا بعد هذا إلى قبيلة غطفان النجدية الكبرى وأغروها بالتحالف معهم ومع قريش على حرب المسلمين، على أن يكون لهم نصف ثمر خيبر، إذا اشتركت معهم في الحرب، وكان وافدهم إلى غطفان كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك.

وكتب المشركون إلى حلفائهم من بني أسد، فأقبل إليهم طلحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بقريش ومن اتبعه من قبائل العرب، فنزلوا بمر الظهران، فجاءهم من أجابهم من بني سليم مدداً لهم بقيادة سفيان بن عبد شمس والد أبي الأعور وبنو مرة بقيادة الحارث بن عوف وأشجع بقيادة مسعر بن رخيلة ، فصاروا في جمع عظيم ، فهم الذين سماهم الله تعالى الأحزاب ، وذكر ابن إسحاق أن عدتهم عشرة آلاف بينما كان المسلمون ثلاثة آلاف.

تحرك هذا الجيش العرموم من مر الظهران في طريقة إلى المدينة. فنزلت قريش ومن سار معها بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجُرُف وغابة. ونزلت غطفان بذنب نقمي إلى جانب أحد، ونزل معهم بنوأسد.

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له من الأمر ، استشار أصحابه ، وقد أشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق في المنطقة الوحيدة المكشوفة أمام الغزاة ، أما الجهات الأخرى فكانت كالحصن تتشابك فيها الأبنية وأشجار النخيل وتحيطها الحرات التي يصعب على الإبل والمشاة التحرك فيها.

ووافق الجميع على هذه الفكرة لعلمهم بكثرة الجموع القادمة لحربهم ، وشرعوا في حفر الخندق الذي يمتد من أجم الشيخين طرف بن حارثة شرقاً حتى المذاذ غرباً ، وكان طوله خمسة آلاف ذراع ، وعرضه تسعة أذرع ، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة. وكان على كل عشرة من المسلمين حفر أربعين ذراعاً ، والأنصار من حصن ذباب إلى جبل عبيد في الغرب.

وعمل المسلمون في الحفر على عجل، يبادرون قدوم القوم، وقد تراوحت مدة الحفر ما بين ستة أيام وأربعة وعشرين يوماً. فعند ابن عقبة استغرق قريباً من عشرين ليلة ، وعند الواقدي أربعاً وعشرين ليلة ، وفي الروضة للنووي خمسة عشر يوماً ، وعند ابن سعد ستة أيام.

وكان طعامهم القليل من الشعير يخلط بدهن متغير الرائحة لقدمه، ويطبخ فيأكلونه على الرغم من بشاعة طعمه في الحلق ورائحته المنتنة، وذلك لشدة جوعهم. حتى هذا لا يجدونه أحياناً فيأكلون التمر ، وأحياناً لا يجدون هذا ولا ذاك لمدة ثلاثة أيام متتالية ، إلى الحد الذي يعصب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بطنه بحجر من شدة الجوع.

وشارك جميع المسلمين في الحفر، لا فرق بين غني وفقير ومولى وأمير، وأسوتهم في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حمل التراب حتى اغبر بطنه ووارى التراب جلده، وكان الصحابة يستعينون به في تفتيت الصخرة التي تعترضهم ويعجزون عنها، فيفتتها لهم. ويردد معهم الأهازيج والأرجاز لتنشيطهم للعمل ، فيقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا.......................... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا...............................وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا...........................وإن أرادوا فتنة أبينا

وكان يمد بها صوته بآخرها، ويرتجز المسلمون وهم يعملون:
(نحن الذين بايعوا محمداً......................على الإسلام ما بقينا أبدا)
فيجيبهم بقوله:
(اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فبارك في الأنصار والمهاجرة). وربما يبدؤهم بقوله فيردون عليه بقولهم.

من دلائل النبوة أثناء حفر الخندق :

أجرى الله سبحانه وتعالى على يدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عدة معجزات أثناء حفر الخندق، ومن ذلك:

1- عندما لحظ جابر بن عبد الله رضي الله عنه ما يعانيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الجوع، استأذنه وذهب إلى زوجته وأخبرها بما رأى من المخمصة على الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منها أن تصنع له طعاماً، فذبح عناقاً له وطحنت زوجة صاعاً من شعير بقي لهما ، وصنعت برمة ، وذهب جابر فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطعام وساوره بكمية الطعام ، وانه طعيم يكفي لرجل أو رجلين ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم كل من كان حاضراً وعددهم ألف ، وتحير جابر وزوجته ، لكن النبي صل الله عليه وسلم بارك في البرمة ، فأكل منها كل الناس حتى شبعوا وتركوا فيها الكثير الذي أكل منه أهل جابر وأهدوا.

2- أخبر عمار بن ياسر، وهو يحفر معهم الخندق، بأن ستقتله الفئة الباغية، فقتل في صفين وكان في جيش علي.

3- وعندما اعترضت صخرة للصحابة وهو يحفرون ، ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات فتفتت. قال إثر الضربة الأولى : (الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ،والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة ، ثم ضربها الثانية فقال : الله أكبر ، أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض ، ثم ضرب الثالثة ، وقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة) .

وفي هذا الحديث بشارة بأن هذه المناطق سيفتحها المسلمون مستقبلاً ، وكان موقف المؤمنين من هذه البشارة ما حكاه القرآن الكريم (هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ) ، وموقف المنافقين الذين سخروا من البشارة : ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً).

وصورت الآيات من 13 إلى 20 من سورة الأحزاب نفسية المنافقين تصويرًا دقيقاً، وحكت أقوالهم في الإرجاف والتخذيل، وأساليبهم في التهرب من العمل في حفر الخندق وجهاد العدو.

وعلى الرغم من تخذيل المنافقين وقلة الطعام وشدة البرد فقد تم حفر الخندق ليكون خط دفاع متيناً ثم جمع النساء والأطفال وأصحاب الأعذار في حصن فارع ، وهو لبني حارثة ، لأنه كان أمنع حصون المسلمين آنذاك.

وكانت خطة المسلمين أن يكون ظهرهم إلى جبل سلع داخل المدينة ووجوههم إلى الخندق الذي يحجز بينهم وبين المشركين الذين نزلوا رومة بني الجرف والغابة ونقمى.

وعندما نظر الرسول صلى الله عليه وسلم في حال العدو وحال المسلمين ورأى ضعف المسلمين وقوة المشركين ، أراد أن يكسر شوكة المشركين ، فبعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة زعيمي الأنصار ، فاستشارهما في الصلح الذي عرضته عليه قبيلة غطفان ، وهو أن يعطوا ثلث ثمار المدينة لعام كي ينصرفوا عن قتال المسلمين ، ولم يبق إلا التوقيع على صحيفة الصلح ، فقال له : (لا والله ما أعطينا الدنية من أنفسنا في الجاهلية فكيف وقد جاء الله بالإسلام). وفي رواية الطبراني أنهما قالا: (يا رسول الله: أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك أو هواك ؟ فرأينا تبع هواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا، فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى). فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاوضة مع الأعراب الذين كان يمثلهم الحارث الغطفاني، قائد بني مرة.

وفي الجانب الآخر أراد يهود بني النضير أن يجروا معهم إخوانهم يهود بني قريظة إلى نقض العهد والغدر بالمسلمين والوقوف مع الأحزاب. فأوفدوا حيياً ابن أخطب للقيام بهذه المهمة. فجاء حيي إلى كعب بن أسد القرظي. وبعد حوار طويل بينهما أقنعه بنقض العهد مع المسلمين بحجة قوة الأحزاب ومقدرتهم على استئصال المسلمين ، وأغراه بأن يدخل معه حصنه عندما ينصرف الأحزاب ، بعد أداء مهمتهم.

وكان يوما عصيباً من الدهر ، ذلك اليوم الذي علم فيه المسلمون نقض بني قريظة ما بينهم وبين المسلمين من عهد. وتكمن خطورة ذلك في موقعهم الذي يمكنهم من تسديد ضربة غادرة للمسلمين من الخلف. فقد كانت ديارهم في العوالي، إلى الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور.

لقد أتاه الزبير بما يدل على غدرهم، ويومها قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (فداك أبي وأمي، إن لكل نبي حوارياً ، وحواري الزبير).

لزيادة الحيطة والحذر والتأكد من مثل هذه الأمور الخطيرة ، أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير ، فجاءوا إلى بني قريظة وتحدثوا معهم ، ووجدوهم قد نكثوا العهد ومزقوا الصحيفة التي بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بني سعية ، فإنهم جاؤوا إلى المسلمين وفاء بالعهد. وعاد رسل المسلمين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالخبر اليقين.

وعندما شاع هذا الخبر خاف المسلمون على ذراريهم من بني قريظة، ومروا بوقت عصيب وابتلاء عظيم. ونزل القرآن واصفاً هذه الحالة: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً).

فالذين جاؤوهم من فوقهم هم الأحزاب، وبنو قريظة من أسفل منهم، والذين ظنوا بالله الظنونا هم المنافقون. أما المؤمنون فقد صمدوا لهذا الامتحان. واتخذوا كل الوسائل الممكنة لاجتياز الامتحان، فنظموا فرقاً للحراسة، فكان سلمة بن أسلم الأوسي أمير لمائتي فارس وزيد بن حارثة أمير لثلاثمائة فارس ، يطوفون المدينة ويكبرون لإشعار بني قريظة باليقظة حتى لا تحدثهم أنفسهم بأن يغدروا بالذرية التي في الحصون.



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، للدكتور مهدي رزق الله ، ص443

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:30 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى : غزوة الخندق ( الأحـزاب ) [2]


عندما وصلت الأحزاب المدينة فوجئوا بوجود الخندق ، فقاموا بعدة محاولات لاقتحامه ، ولكنهم فشلوا لأن المسلمين كانوا يمطرونهم بوابل سهامهم كلما هموا بذلك ، ولذا استمر الحصار لمدة أربع وعشرين ليلة.

وذكر ابن إسحاق وابن سعد أن بعض المشركين اقتحموا الخندق ، وعد ابن إسحاق منهم : عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب والشاعر بن مرداس ، وزاد ابن سعد واحدا على هؤلاء وهو : نوفل بن عبد الله. وذكر أن عليا بارز عمرو بن عبد ود – فارس قريش – وقتله ، وأن الزبير قتل نوفلاً وأن ثلاثة الآخرين فروا إلى معسكرهم.

وظلت مناوشات المشركين للمسلمين وتراشقهم معهم بالنبل دون انقطاع طيلة مدة الحصار ، حتى إنهم شغلوا المسلمين يوماً عن أداء صلاة العصر ، فصلوها بعد الغروب ، وذلك قبل أن تشرع صلاة الخوف ، حيث شرعت في غزوة ذات الرقاع على رأي من يرى أن ذات الرقاع كانت بعد غزوة الخندق.

وقتل في هذه المناوشات ثلاثة من المشركين واستشهد ستة من المسلمين منهم سعد بن معاذ ، الذي أصيب في أكحله – عرق في وسط الذراع – رماه حبان بن العرِقة. وقد نصبت له خيمة في المسجد ليعوده الرسول صلى الله عليه وسلم من قريب ، ثم مات بعد غزوة بني قريظة ، حين انتقض جرحه وكانت تقوم على تمريضه رفيدة الاسلمية.

وكان شعارأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبني قريظة ( حم ، لا ينصرون).

لقد كفى الله المؤمنين القتال فهزم الأحزاب بوسيلتين : الأولى : تسخير الله نعيم بن مسعود ليخذل الأحزاب ، والثانية : الرياح الهوجاء الباردة.

1- دور نعيم بن مسعود :

روى ابن إسحاق والواقدي وعبدالرزاق وموسى بن عقبة أن نعيم بن مسعود الغطفاني ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما وعرض عليه أن يقوم بتنفيذ أي أمر يريده النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : (إنما أنت رجل واحد فينا ، ولكن خذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة ).

وقبل أن يعرف إسلام نعيم ، أتى بني قريظة ، فأقنعهم بعد التورط مع قريش في قتال حتى يأخذوا منهم رهائن ، لكيلا يولوا الأدبار ، ويتركوهم وحدهم يواجهون مصيرهم مع المسلمين بالمدينة. ثم أتى قريشا فأخبرهم أن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا ، وأنهم قد اتفقوا سرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يختطفوا عددا من أشراف قريش وغطفان فيسلموهم له ليقتلهم دليلا على ندمهم ، وقال لهم : فإن أرسلت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فإياكم أن تسلموهم رجلا منكم. ثم أتى غطفان وقال لهم مثل الذي قاله لقريش. وبذلك زرع بذور الشك بينهم. وأخذ كل فريق يتهم الفريق الآخر بالخيانة.

2- معجزة الرياح :

هبت ريح هوجاء في ليلة مظلمة باردة ، فقلبت قدور المشركين واقتلعت خيامهم وأطفأت نيرانهم ودفنت رحالهم ، فما كان من أبي سفيان إلا أن ضاق بها ذرعا فنادى في الأحزاب بالرحيل. وكانت هذه الريح من جنود الله الذين أرسلهم على المشركين ، وفي ذلك يقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا).

وروى مسلم بسنده عن حذيفة بن اليمان طرفا مما حدث في تلك الليلة الحاسمة ، قال حذيفة : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب ، وأخذتنا ريح شديدة وقر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا رجل يأتني بخبر القوم ، جعله الله معي يوم القيامة) ، فسكتنا فلم يجبه منا أحد ، … (ردد ذلك ثلاثا) ثم قال : ( قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ) ، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال : ( اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي ) . فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام ، حتى أتيتهم ، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار ، فوضعت سهما في كبد القوس ، فأردت أن أرميه ، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ولا تذعرهم علي) ، ولو رميته لأصبته ، فرجعت ، وأنا أمشي في مثل الحمام. فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها. فلم أزل نائما حتى أصبحت فقال : قم يا نومان).

وزاد ابن إسحاق في روايته لهذا الخبر : (… فدخلت في القوم ، والريح جنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا إناء ولا بناء ، فقام أبو سفيان ، فقال : يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه ؟ فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جانبي فقلت له : من أنت ؟ قال : فلان بن فلان. ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون … فارتحلوا فإني مرتحل). وفي رواية الحاكم والبزار : ( … فانطلقت إلى عسكرهم فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله ، قد تفرق الأحزاب عنه ، حتى إذا جلست فيهم فحسب أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم ، قال : ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه ، فضربت بيدي على الذي على يميني وأخذت بيده ، ثم ضربت بيدي على الذي عن يساري فأخذت بيده ، فلبثت هنيهة ، ثم قمت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم … قلت: يا رسول الله : تفرق الناس عن أبي سفيان فلم يبق إلا عصبة توقد النار قد صب الله عليه من البرد مثل الذي صب علينا ولكنا نرجو من الله ما لا يرجون).

وختم الله هذا الامتحان الرهيب بهذه النهاية السعيدة ، وجنب المسلمين شر القتال ، قال تعالى معلقا على هذه الخاتمة : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خير وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا). وكانت هذه الخاتمة استجابة لضراعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله أثناء محنة الحصار : (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم).

لقد بذلت الأحزاب أقصى ما يمكنهم لاستئصال المسلمين ، ولكن الله ردهم خائبين ، وهذا يعني أنهم لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئا في المستقبل ، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحن نسير إليهم) ؛ هذا علم من أعلام النبوة ، لأن الذي حدث بعد هذا هو ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم.

حكم وعبر في غزوة الخندق:

1- إن حفر الخندق يدخل في مفهوم المسلمين لقوله تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) فينبغي على المسلمين اتخاذ وسائل القوة المتاحة مهما كان مصدرها ، لأن الحكمة ضالة المؤمن ، فحيثما وجدها التقطها.

2- لقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للحكام والمحكومين في العدالة والمساواة وعدم الاستئثار بالراحة يوم وقف جنبا إلى جنب مع أفراد جيشه ليعمل بيده في حفر الخندق. وهذه هي صفة العبودية الحقة التي تجلت في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

3- أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا آخر على رأفته بالمؤمنين ، يوم شاركهم في حفر الخندق ويوم أشركهم معه في طعيم جابر ، ولم يستأثر به مع قلة من الصحابة. وفي ضوء هذه المعاني يفهم قول الله تعالى : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).

4- إن مجموعة المعجزات التي أجرها الله على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أيام الخندق ، سواء التي كانت في حفر الخندق أو تكثير طعيم جابر أو الرياح التي كانت نقمة على المشركين ، لهي مجموعة أخرى في سلسلة المعجزات الكثيرة التي أيد الله بها نبيه ، ليقطع الحجة لدى المعاندين من المنافقين والمشركين وكل صنف من أصناف أعداء الدين.

5- إن الحكمة في استشاراته لبعض أصحابه في الصلح الذي اقترحته غطفان على الرسول صلى الله عليه وسلم ، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يطمئن إلى مدى ما يتمتع به أصحابه من القوة المعنوية والاعتماد على نصر الله وتوفيقه على الرغم من ذلك الذي فوجئوا به من اجتماع أشتات المشركين عليهم في كثرة ساحقة ، إلى جانب خذلان بني قريظة للمسلمين ونقض مواثيقهم معهم.

6- وأما الدلالة التشريعية في هذه الاستشارة ، فهي محصورة في مجرد مشروعية مبدأ الشورى في كل ما لا نص فيه. وهي بعد ذلك لا تحمل أي دلالة على جواز صرف المسلمين أعداءهم عن ديارهم إذا ما اقتحموها ، باقتطاع شيء من أرضهم أو خيراتهم لهم. إذ إن مما هو متفق عليه في أصول الشريعة الإسلامية أن الذي يحتج به من تصرفاته صلى الله عليه وسلم إنما هو أقواله ، وأفعاله التي قام بها ، ثم لم يرد اعتراض عليها من الله في كتابة العزيز.

وليس في هذه الاستشارة دليل على جواز دفع المسلمين الجزية إلى أعدائهم. أما إذ ألجئوا إلى اقتطاع جزء من أموالهم فعليهم التربص بأعدائهم لاسترداد حقهم المسلوب.

7- عندما شغل المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة، صلوها قضاء بعد المغرب ، وفي هذا دليل على مشروعية قضاء الفائتة.



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 451

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:33 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى : غزوة بني قريظة


وقعت هذه الغزوة بعد غزوة الأحزاب مباشرة ، في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة الهجرية.

وواضح من سير الأحداث أن سبب الغزوة كان نقض بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، بتحريض من حيي بن أخطب النضري.

وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير لمعرفة نيتهم ، ثم أتبعه بالسعدين وابن رواحة وخوات لذات الهدف ليتأكد من غدرهم.

ولأن هذا النقض وهذه الخيانة قد جاءت في وقت عصيب ، فقد أمر الله تعالى نبيه بقتالهم بعد عودته من الخندق ووضعه السلاح ، وامتثالاً لأمر الله أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتوجهوا إلى بني قريظة ، وتوكيدا لطلب السرعة أوصاهم قائلاً : ( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة ) كما في رواية البخاري ، أو الظهر كما في رواية مسلم.

وعندما أدركهم الوقت في الطريق ، قال بعضهم : لا نصلى حتى نأتي قريظة ، وقال البعض الآخر : بل نصلى ، لم يرد منا ذلك ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم. وهذا اجتهاد منهم في مراد الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حجر : ( … وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين – البخاري ومسلم – باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر ، وبعضهم لم يصلها ، فقيل لمن لم يصلها : لا يصلين أحد الظهر ، ولمن صلاها : لا يصلين أحد العصر. وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة فقيل للطائفة الأولى الظهر وقيل للطائفة التي بعدها العصر ، وكلاهما جمع لا بأس به …).

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف مقاتل معهم ستة وثلاثون فرساً وضرب الحصار على بني قريظة لمدة خمس وعشرين ليلة على الأرجح ، وضيق عليهم الخناق حتى عظم عليهم البلاء ، فرغبوا أخيرا في الاستسلام ، وقبول حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم. واستشاروا في ذلك حليفهم أبا لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه ، فأشار إلى أن ذلك يعني الذبح. وندم على هذه الإشارة، فربط نفسه إلى إحدى سواري المسجد النبوي ، حتى قبل الله توبته.

وعندما نزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن يكل الحكم عليهم إلى واحد من رؤساء الأوس ، لأنهم كانوا حلفاء بني قريظة ، فجعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ ، فلما دنا من المسلمين قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار : ( قوموا إلى سيدكم أو خيركم ، ثم قال : إن هؤلاء نزلوا على حكمك ). قال : تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( قضيت بحكم الله تعالى .

ونفذ الرسول صلى الله عليه وسلم حكم الله فيهم ، وكانوا أربعمائة على الأرجح . و لم ينج إلا بعضهم ، وهم ثلاثة ، لأنهم أسلموا ، فأحرزوا أموالهم ، وربما نجا اثنان آخران منهم بحصولهم على الأمان من بعض الصحابة ، أو لما أبدوه من التزام بالعهد أثناء الحصار. وربما نجا آخرون لا يتجاوزن عدد أفراد أسرة واحدة ، إذ يفهم من رواية عند ابن إسحاق وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهب لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن باطا القرظي ، فاستحياهم ، منهم عبد الرحمن بن الزبير ، الذي أسلم ، وله صحبة.

وجمعت الأسرى في دار بنت الحارث النجارية ، ودار أسامة بن زيد ، وحفرت لهم الأخاديد في سوق المدينة ، فسيقوا إليها المجموعة تلو الأخرى لتضرب أعناقهم فيها. وقتلت امرأة واحدة منهم ، لقتلها خلاد بن سويد رضي الله عنه، حيث ألقت عليه ، جرحى ، ولم يقتل الغلمان ممن لم يبلغوا سن البلوغ. ثم قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أموالهم وذراريهم بين المسلمين.

مصير بعض سيي بني قريظة :
ذكر ابن إسحاق وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن زيد الأنصاري بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا.

وذكر الواقدي في المغازي في شأن بيع سبايا بني قريظة قولين آخرين إضافة إلى ما ذكره ابن إسحاق ، والقولان هما :
1- بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة إلى الشام بسبايا ليبيعهم ويشتري بهم سلاحاً وخيلاً.
2- اشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما جملة من السبايا … إلخ. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بأن ذلك كله قد حدث.

واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة ، وأسلمت. وقد توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في ملك يمينه ، وكان ذلك باختيارها.

أحكام وحكم ودروس وعبر من غزوة بني قريظة :

1- جواز قتل من نقض العهد. ولا زالت الدول تحكم بقتل الخونة الذين يتواطؤون مع الأعداء حتى زماننا هذا.

2- جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم. كما في تحكيم ابن معاذ.

3- مشروعية الاجتهاد في الفروع ، ورفع الحرج إذا وقع الخلاف فيها. فقد اجتهد الصحابة في تفسير قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (ألا لا يصلين أحد العصر أو الظهر إلا في بني قريظة) ، ولم يخطئ الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا منهم.

4- ذكر النووي أن جماهير العلماء احتجوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى سيدكم أو خيركم) وغيره على استحباب القيام لأهل الفضل ، وليس هذا من القيام المنهي عنه ، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه هو جالس ويمثلون قياما طوال جلوسه ، وقد وافق النووي جماهير العلماء في هذا ، ثم قال : ( القيام للقادم من أهل الفضل مستحب ، وقد جاء في أحاديث ، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح. وقد جمعت كل ذلك مع كلام العلماء عليه في جزء وأجبت فيها عما توهم النهي عنه).

5- قال الدكتور البوطي : واعلم أن هذا كله لا يتنافى مع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار) ، لأن مشروعية إكرام الفضلاء لا تستدعي السعي منهم إلى ذلك أو تعلق قلوبهم بمحبته ، بل إن من أبرز صفات الصالحين أن يكونوا متواضعين لإخوانهم زهادا في طلب هذا الشيء … (غير أن من أهم ما ينبغي أن تعلمه في هذا الصدد أن لهذا الإكرام المشروع حدود إذا تجاوزها ، انقلب الأمر محرما ، واشترك في الإثم كل من مقترفة والساكت عليه. فمن ذلك ما قد تجده في مجالس بعض المتصوفة من وقوف المريدين عليهم وهم جلوس ، يقف الواحد منهم أمام شيخه في انكسار وذل … ومنه ما يفعله بعضهم من السجود على ركبة الشيخ أو يده عند قدومه عليه ، أو ما يفعله من الحبو إليه عندما يغشى المجلس … فالإسلام قد شرح مناهج للتربية وحظر على المسلمين الخروج عليها ، وليس بعد الأسلوب النبوي في التربية من أسلوب يقر).



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، مهدي رزق الله ، ص459

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:34 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى : صلح الحديبية (1)


المبحث الأول: أحداث الحديبية:

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأداء العمرة في يوم الاثنين هلال ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية .

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن تعرض له قريش بحرب أو يصدوه عن البيت الحرام ، لذلك استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، فأبطؤوا عليه ، فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار وبمن لحق به من العرب.

وقد كشف القرآن عن حقيقة نوايا الأعراب، فقال: { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا. يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أردا بكم نفعاً ، بل كان الله بما تعملون خبيراً. بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا).

وقد ذكر مجاهد أن الأعراب الذي عنتهم الآية هم أعراب جهينة ومزينة ، وذكر الواقدي أن الأعراب الذي تشاغلوا بأموالهم وأولادهم وذراريهم هو بنو بكر ومزينة وجهينة.

ويفهم من رواية البخاري أن المسلمين كانوا يحملون أسلحتهم استعداد للدفاع عن أنفسهم في حالة الاعتداء عليهم.

لقد اتفق خمسة من الذين كانوا في هذه الغزوة على أن عدد من خرج فيها كانوا ألفا وأربعمائة رجل.

ولقد صلى المسلمون وأحرموا بالعمرة عندما وصلوا إلى ذي الحليفة ، وقلد الرسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره ، وعددها سبعون بدنة. وبعث بين يديه بسر بن سفيان الخزاعي الكعبي عينا له إلى قريش ليأتيه بخبرهم.

وعندما وصل المسلمون الروحاء جاءه نبأ عدو بضيقة ، فأرسل إليهم طائفة من أصحابه ، فيهم أبو قتادة الأنصاري ، ولم يكن محرماً ، فرأى حماراً وحشياً ، فحمل عليه فطعنه ، ورفض أصحابه أن يعينوه عليه ، ولكنهم أكلوا منه وهم حرم ، ثم شكوا في حل ذلك ، فعندما التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في السقيا ، استفتوه في الأمر ، فأذن لأصحابه بأكل ما جاؤوه به من بقية اللحم ما داموا لم يعينوا على صيده.

وعندما وصلوا عسفان جاءهم بسر بن سفيان الكعبي بخبر قريش فقال: ( يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموا كراع الغميم). فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أن يغيروا على ديار الذين ناصروا قريشاً واجتمعوا معها ليدعوا قريشاً ويعودوا للدفاع عن ديارهم ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ( يا رسول الله ، خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( امضوا على اسم الله).

وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب خيل المشركين منهم صلى بأصحابه صلاة الخوف بعسفان.

ولتفادي الاشتباك مع المشركين ، سلك الرسول صلى الله عليه وسلم طريقاً وعرة عبر ثنية المرار ، وهي مهبط الحديبية ، وقال عندما وصلها : (من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل) ، فكان أول من صعدها خيل بني الخزرج ، ثم تتام الناس.

وعندما أحس بتغيير المسلمين خط سيرهم رجع إلى مكة ، وخرجت قريش للقاء المسلمين ، فعسكرت ببلدح ، وسبقوا المسلمين إلى الماء هنا.

وعندما اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية بركت ناقته القصواء ، فقال الصحابة رضي الله عنهم : (خلأت القصواء) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل). ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت، ثم عدل عن دخول مكة وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد – بئر – قليل الماء، ما لبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فجاش لهم بالري فارتووا جميعاً ، وفي رواية أنه جلس على شقة البئر فدعا بماء فمضمض ومج في البئر. ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معا وقعاً ، كما ذكر ابن حجر. ويؤيده ما ذكره الواقدي وعروة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم تمضمض في دلو وصبه في البئر ونزع سهماً من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت.

ولخصائص قريش ومكانتها بين العرب ، وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إسلامهم ، وتحسر على عنادهم وخسارة أرواحها في الحروب مع المسلمين ، فها هو يعبر عن هذه الحسرة بقوله : ( يا ويح قريش ، أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ، فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهو وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش ، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة …).

بذل الرسول صلى الله عليه وسلم ما في وسعه لإفهام قريش أنه لا يريد حرباً معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه، وهو حق المسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه ويتعرف على قوة المسلمين ومدة عزمهم على القتال إذا ألجئوا إليه، وطمعاً في صد المسلمين عن البيت بالطرق السليمة من جهة ثالثة.

فأتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، وبينوا أن قريشاً تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب مجيئه وذكر لهم الضرر الذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنة إلى وقت معلوم حتى يتضح لهم الأمر، وإن أبوا فلا مناص من الحرب ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريش، وقالوا لهم: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال وإنما جاء زائراً هذا البيت، فاتهموهم وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله ولا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تتحدث بذلك العرب.

وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤكد هدفه من هذه الزيارة ويشهد على ذلك كل العرب،لذا أرسل إلى قريش خراش بن أمية الخزاعي على جمله( الثعلب) ولكنهم عقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، لأنهم من قومه.

ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال عمر : (يا رسول الله ، إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان).

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إليهم. فنزل عثمان في حماية وجوار أبان بن سعيد بن العاص الأموي حتى أدى رسالته ، وأذنوا له بالطواف بالبيت ، فقال : (ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم) واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل. ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للبيعة تحت شجر سمرة ، فبايعوه جميعاً على الموت ، سوى الجد بن قيس ، وذلك لنفاقه.و في رواية أن البيعة كانت على الصبر ، وفي رواية على عدم الفرار ، ولا تعارض في ذلك لأن المبايعة على الموت تعنى الصبر عند اللقاء وعدم الفرار.

وكان أول من بايعه على ذلك أبو سنان عبد الله بن وهب الأسدي ، فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته ، فأثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( أنتم خير أهل الأرض) ، وقال : ( لا يدخل النار إن شاء الله ، من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها).

وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يده اليمنى ، وقال (هذه يد عثمان) ، فضرب بها على يده اليسرى ، وقال : (هذه لعثمان). فنال عثمان بذلك فضل البيعة.
وقبل أن تتطور الأمور عاد عثمان رضي الله عنه بعد البيعة مباشرة.

وعرفت هذه البيعة بـ (بيعة الرضوان) ، لأن الله تعالى أخبر بأنه رضي عن أصحابها ، في قوله : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}.

أرسلت قريش عدداً من السفراء للتفاوض مع المسلمين ، بعد سفارة بديل بن ورقاء. فقد أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي ، وقبل أن يتحرك خشي أن يناله من التعنيف وسوء المقالة ما نال من سبقه ، فبين لهم موقفه منهم ، وأقروا له بأنه غير متهم عندهم ، وذكر لهم أن الذي عرضه عليهم محمد هو خطة رشد. ودعاهم إلى قبولها، فوافقوا على رأيه.

وعندما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له ما قال لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى ، فإني والله لا أرى وجوهاً وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ … وكان كلما تكلم كلمة أخذ بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس البني صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ، فيضربه بنعل السيف ويقول : أخّر عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم … ولحظ عروة تعظيم الصحابة للرسول صلى الله عليه سلم وحبهم له وتفانيهم في طاعته ، فلما رجع إلى قريش ، قال لهم : (أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً).

ثم بعثوا الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه) ، فلما رأى الحليس الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، رجع إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك إعظاماً لما رأى ، وقال لقريش : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت ، فقالوا : اجلس ، إنما أنت أعرابي لا علم لك. فغضب وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له !! والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، قالوا : مه ، كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( هذا مكرز وهو رجل فاجر) … فجعل يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو رسولاً من قبل قريش ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم متفائلاً : ( لقد سهل لكم أمركم). وقال : ( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل) ، وكانت قريش قد قالت لسهيل بن عمرو : ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.




السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص481

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:36 PM
الغــزوات النبـويـة الكبرى : صلح الحديبيـة (2)


وعندما بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في إملاء شروط الصلح على علي بن أبي طالب ، كاتب الصحيفة ، اعترض سهيل على كتابة كلمة (الرحمن) في البسملة ، وأراد بدلاً عنها أن يكتب (باسمك اللهم) ، لأنها عبارة الجاهليين ، ورفض المسلمون ذلك ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وافق على اعتراض سهيل. ثم اعترض سهيل على عبارة (محمد رسول الله) ، وأراد بدلاً عنها عبارة : ( محمد بن عبد الله) ، فوافقه أيضاً على هذا الاعتراض.

وعندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) اعترض سهيل قائلاً : لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة قهراً ولكن ذلك في العام المقبل ، فنخرج عنك فتدخلها بأصحابك فأقمت فيها ثلاثاً معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب . فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الشرط .

ثم قال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله ! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! فبينما هو كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا لم نقض الكتاب بعد) ، فقال سهيل : والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً.

وألح الرسول صلى الله عليه وسلم على سهيل أن يستثني أبا جندل ، فرفض على الرغم من موافقة مكرز على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بداً من إمضاء ذلك لسهيل.

ثم بعد هذا تم الاتفاق على بقية الشروط وهي : ( على وضع الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، وأن بينهم عيبة مكفوفة ، فلا إسلال - سرقة - ولا إغلال – خيانة- ، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ). فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم.

لقد تبرم كثير من الصحابة من معظم هذه الشروط. ومن الأدلة على ذلك أن علياً اعتذر عن محو كلمة ( رسول الله) التي اعترض عليها سهيل بن عمرو ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أرني مكانها) ، فأراه مكانها فمحاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتب على مكانها (ابن عبد الله). وغضبوا لشرط رد المسلمين الفارين من قريش إلى المسلمين ، فقالوا : ( يا رسول الله ، نكتب هذا؟ ) قال : ( نعم إنه من ذهب إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً).

ويحكي عمر بن الخطاب مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضباً عند كتابة ذلك الصلح ، قال : ( فأتيت نبي الله ، فقلت : ألست نبي الله حقاً ؟ قال : بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى ، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قال : قلت : لا . قال: فإنك آتيه ومطوف به). وأتى عمر أبا بكر وقال له مثل ما قال للرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو بكر : إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فوالله إنه على الحق ، وقال عمر : ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً ) ولم تطب نفس عمر إلا عندما نزل القرآن مبشراً بالفتح.

وعندما كان أبو جندل يستنجد بالمسلمين قائلاً : يا معشر المسلمين ، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني ؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( يا أبا جندل ، اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجاً) ، كان عمر يمشي بجنب أبي جندل يغريه بأبيه ويقرب إليه سيفه ، لكن أبا جندل لم يفعل ، فأعيد إلى المشركين ، وذلك لحكمة تجلت للناس فيما بعد ، يوم كان أبو جندل وأصحابه سبباً في إلغاء شرط رد المسلمين إلى الكفار ، وفي إسلام سهيل وموقفه يوم كاد أهل مكة أن يرتدوا عندما مات الرسول صلى الله عليه وسلم فثبتهم على الإسلام بكلام بليغ.

وقال سهل بن حنيف يوم صفين : (اتهموا رأيكم ، رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته).

وعندما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ينحروا الهدي ويحلقوا رؤوسهم ، لم يقم منهم أحد إلى ذلك ، فكرر الأمر ثلاث مرات ، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها وحكى لها ما حدث من المسلمين ، فأشارت إليه بأن يبدأ هو بما يريد ، ففعل ، فقاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غماً ، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم لمن حلق منهم ثلاثاً ولمن قصر لمرة واحدة. وكان عدد ما نحروه سبعين بدنة ، كل بدنة عن سبعة أشخاص.

وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ جملاً لأبي جهل من غنائم بدر ، نحره ليغيظ بذلك المشركين . ونحروا بعض الهدي في الحديبية في الحل والبعض الآخر نحره ناجية بن جندب داخل منطقة الحرم.

ولا شك أن هذا التصرف من عمر وغيره من المسلمين ما هو إلا اجتهاد منهم ورغبة في إذلال المشركين.

ولم تتوقف قريش عن التحرش بالمسلمين واستفزازهم خلال مفاوضات كتابة الصلح وبعد كتابته ، وقد تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بانضباط شديد إزاء هذه الأفعال. فعندما حاول ثمانون من رجال مكة مهاجمة معسكر المسلمين في غرة ، أسرهم المسلمين وعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكرر المحاولة ثلاثون آخرون من قريش أثناء إبرام الصلح ، فأسروا ، وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا سراحهم.

وبعد إبرام الصلح حاول سبعون من المشركين استفزاز المسلمين، فأسروهم وقبض سلمة بن الأكوع على أربعة من المشركين أساءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد إبرام الصلح ، فعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد نزلت في ذلك الآية { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم}.

ثم رجع المسلمون إلى المدينة بعد أن غابوا عنها شهراً ونصف الشهر ، منها بضعة عشر يوماً ، ويقال عشرين يوماً ، مكثوها بالحديبية.

وفي طريق العودة تكررت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام والماء ، مثلما حدث في طعام جابر يوم الخندق ، وتكثير ماء بئر الحديبية ، فقد ذكر سلمة بن الأكوع أنهم عندما أصابهم الجوع وكادوا أن يذبحوا رواحلهم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بأزواد الجيش ، فلم يتجاوز ربضة العنز ، وهم أربع عشرة مائة ، فأكلوا حتى شبعوا جميعاً وحشوا جربهم ، ثم جيء له بأداوة وضوء فيها نطفة ماء فأفرغها في قدح ، فتوضأ منها كل الجيش.

ونزلت سورة الفتح ، وهم في طريق العودة : {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} وقال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس). وقال عمر متعجباً: أو فتح هو ؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ( نعم) ، فطابت نفسه ورجع ، وفي رواية : ( نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح) وفرح المسلمون بذلك فرحاً غامراً ، وانجلت تلك السحابة من الغم ، وأدركوا قصورهم عن إدراك كل الأسباب والنتائج ، وأن الخير في التسليم لأمر الله ورسوله.

وعندما جاءته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة لم يردها إلى أهلها عندما طلبوها لما أنزل الله في النساء { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن … ولا هم يحلون لهن) فكان الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا يختبرهن ، فإن كن خرجن بسبب الإسلام استبقاهن مع دفع مهورهن لأزواجهن ، وكان قبل الصلح لا يعيد إليهم مهور الزوجات.

وهذه الآية الواردة في عدم رد المهاجرات المسلمات إلى الكفار هي التي استثنت من شرط الرد وحرمت المسلمات على المشركين { ولا تمسكوا بعصم الكوافر}.



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 488

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:37 PM
الغـزوات النبـوية الكبرى : فقـه وحـكم في صلح الحديبية (3)


المبحث الثاني : فقه وحكم ودروس في صلح الحديبية:

1- عندما وجد سبب مانع من أداء المسلمين لعمرتهم التي أحرموا لها تحللوا ، وبذلك شرع التحلل للمعتمر وأنه لا يلزمه القضاء.

2- أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة أن يحلق رأسه وهو محرم ، لأذى أصابه ، على أن يذبح شاة فدية أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين ونزلت الأية { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}.

3- إذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالصلاة في منازلهم عندما نزل المطر.

4- وقعت تطبيقات عملية لمبدأ الشورى في الإسلام ، حيث استشارهم في الإغارة على ذراري المشركين الذين يساندون قريشاً ، واستشار أم سلمة في أمر الناس عندما أبطؤوا في التحلل ، وأخذ برأيها.

5- ويستنتج من مدة الصلح أن الحد الأعلى لمهادنة الكفار عشر سنين ، لأن أصل العلاقة معهم الحرب وليس الهدنة.

6- جواز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلماً.

7- استحباب التفاؤل لقوله صلى الله عليه وسلم : ( سهل أمركم) وذلك عندما قدم عليهم سهيل بن عمرو مفاوضاً.

8- كفر من يقول : ( مطرنا بنوء كذا وكذا) والصواب أن يقول : ( مطرنا بفضل الله ورحمته ). قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة عندما صلى بهم الصبح إثر مطر هطل ليلاً.

9- جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم مثل التوضؤ بماء وضؤئه صلى الله عليه وسلم ، وهو خاص به خلافاً لآثار الصالحين من أمته.

10- السنة لمن نام عن صلاته أو نسيها أن يصليها وإن خرج وقتها ، وذلك لأن المسلمين ناموا عن صلاة الفجر وهم في طريق عودتهم من الحديبية ولم يوقظهم إلا حر الشمس ، ونام حارسهم بلال ، فصلوها حين استيقظوا.

11- في الصلح اعتراف من قريش بكيان المسلمين لأول مرة ، فعاملتهم معاملة الند للند.

12- ذهاب هيبة قريش ، بدليل مبادرة خزاعة الانضمام إلى حلف المسلمين دون خشية من قريش كما كان في السابق.

13- أتاح الصلح للمسلمين التفرغ ليهود خيبر خاصة ويهود تيماء وفدك بصفة عامة.

14- أتيح للمسلمين مضاعفة جهودهم لنشر الإسلام ، وفي ذلك قال الزهـري : ( فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب ، وآمن الناس بعضهم بعضاً ، والتقوا فتفاضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل إلا دخل فيه ، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك) وعلق ابن هشام على هذا قائلاً :(والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر ، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف).

15- جاءت نتائج بعض الشروط في مصالح المسلمين من ذلك أن أبا بصير عندما فر من المشركين ولجأ إلى المسلمين رده الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم عندما طلبوه ، فعدا على حارسيه فقتل أحدهما ، وفر الآخر ، وعاد أبو بصير إلى المدينة ، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم : ( قد والله أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويل أمه مِسْعر حرب لو كان له أحد) ، ففهم أبو بصير نية الرسول صلى الله عليه وسلم في رده إلى المشركين ، فلجأ إلى سيف البحر، وفهم المستضعفون المسلمون في مكة إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مسعر حرب ولو كان له أحدا) ، ففروا من مكة ولحقوا بأبي بصير ، وعلى رأسهم أبو جندل. وتكونت منهم عصابة ، أخذت تتعرض لقوافل قريش ، فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناشده أن يعطيهم الأمان بالمدينة ، فأرسل إليهم ، وهم بناحية العيص ، فجاؤوا ، وكانوا قريبا من الستين أو السبعين رجلاً.

16- في قصة أبي بصير وأبي جندل ورفقائهم في العيص ، نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها وعدم الاستكانة للطغاة.




السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 488

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:39 PM
الغزوات النبـوية الكبرى : غزوة خيبر


لم يبد يهود خيبر عداء سافراً للمسلمين حتى لحق بهم زعماء بني النضير عندما أجلوا عن المدينة. وكما سبق وأن ذكرنا فقد كان أبرز زعماء بني النضير الذين غادروا المدينة ونزلوا خيبر : سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب ، فلما نزلوها دان لهم أهلها.

لقد نزلوا بأحقادهم ضد المسلمين ، ولذا كانوا كلما وجدوا فرصة للانتقام من المسلمين انتهزوها ، ووجدوا في قريش وبعض قبائل العرب حصان طروادة الذي سيدخلون به المدينة مرة أخرى ، فألبوهم ضد المسلمين ، ثم جروهم إلى غزوة الخندق ، وسعوا في إقناع بني قريظة للانضمام إليهم والغدر بالمسلمين. ولذا كانت تلك العقوبة الرادعة التي أنزلها المسلمون بهم عندما صرف الله الأحزاب ، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية عبد الله بن عتيك للقضاء على رأس من رؤوسهم أفلت من العقاب يوم قريظة ، وهو سلام ابن أبي الحقيق ، فقتلوه.

وكانت هدنة الحديبية فرصة أمام المسلمين لتصفية هذا الجيب الذي يشكل خطورة على أمن المسلمين ، وقد وعد الله المسلمين بمغانم كثيرة يأخذونها إذا هزموا يهود خيبر ، وإلى ذلك أشارت سورة الفتح التي نزلت في طريق العودة من الحديبية ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ، ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان الله عزيزاً حكيماً ، وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً ، وأخرى لم تقدروا عليها ، قد أحاط الله بها ، وكان الله على كل شيء قديراً).

تاريخ الغزوة :

ذكر ابن إسحاق أنها كانت في المحرم من السنة السابعة الهجرية ، وذكر الواقدي أنها كانت في صفر أو ربيع الأول من السنة السابعة بعد العودة من غزوة الحديبية ، وذهب ابن سعد إلى أنها في جمادى الأولى سنة سبع ، وقال الإمامان الزهري ومالك إنها في المحرم من السنة السادسة. وظاهر أن الخلاف بين ابن إسحاق والواقدي يسير ، وهو نحو الشهرين ، وكذلك فإن الخلاف بينهما وبين الإمامين الزهري ومالك مرجعه إلى الاختلاف في ابتداء السنة الهجرية الأولى كما سبق الإشارة إلى ذلك. وقد رجح ابن حجر قول ابن إسحاق على قول الواقدي.

أحداث الغزوة :

سار الجيش إلى خبير بروح إيمانية عالية على الرغم من علمهم بمنعة حصون خيبر وشدة وبأس رجالها وعتادهم الحربي. وكانوا يكبرون ويهللون بأصوات مرتفعة ، فطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفقوا بأنفسهم قائلاً : (إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم). وسلكوا طريقا بين خيبر وغطفان ليحولوا بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر لأنهم كانوا أعداء للمسلمين.

ونزل المسلمون بساحة اليهود قبل بزوغ الفجر ، وقد صلى المسلمون الفجر قرب خيبر ، ثم هجموا عليها بعد بزوغ الشمس ، وفوجئ أهلها بهم وهم في طريقهم إلى أعمالهم ، فقالوا : محمد والخميس !! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).

وهرب اليهود إلى حصونهم وحاصرهم المسلمون. وقد حاولت غطفان نجدة حلفائهم يهود خيبر ، حتى إذا ساروا مرحلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حساً فظنوا أن المسلمين قد خالفوا إليهم فرجعوا ، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر ، فأخذ المسلمون في افتتاح حصونهم واحداً تلو الآخر.

وكان أول ما سقط من حصونهم ناعم والصعب بمنطقة النطاة وأبي النزار بمنطقة الشق ، وكانت هاتان المنطقتان في الشمال الشرقي من خيبر ، ثم حصن القموص المنيع في منطقة الكتيبة ، وهو حصن ابن أبي الحقيق ، ثم اسقطوا حصني منطقة الوطيح والسلالم.

وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة عند فتح بعض هذه الحصون ، منها حصن ناعم الذي استشهد تحته محمود بن مسلمة الأنصاري ، حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن ، والذي استغرق فتحه عشرة أيام ، فقد حمل راية المسلمين عند حصاره أبو بكر الصديق ، ولم يفتح الله عليه ، وعندما جهد الناس ، قال رسول الله إنه سيدفع اللواء غداً إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله و رسوله ، ولا يرجع حتى يفتح له ، فطابت نفوس المسلمين ، فلما صلى الفجر في اليوم التالي دفع اللواء إلى علي ، ففتح الله على يديه.

وكان علي يشتكي من رمد في عينيه عندما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له ، فبرئ.

ولقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم علياً بأن يدعو اليهود إلى الإسلام قبل أن يداهمهم ، وقال له : ( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم). وعندما سأله علي : يا رسول الله ، على ماذا أقاتل الناس ؟ قال : ( قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).

وعند حصار المسلمين لهذا الحصن برز لهم سيده وبطلهم مرحب ، وكان سبباً في استشهاد عامر بن الأكوع ، ثم بارزه علي فقتله ، مما أثر سلبياً في معنويات اليهود ومن ثم هزيمتهم.

وقد أبلى علي بلاء حسناً في هذه الحرب. ومن دلائل ذلك : روى ابن إسحاق من حديث أبي رافع – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن علياً عندما دنا من الحصن خرج إليه أهله ، فقاتلهم ، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ.

قال الراوي – أبو رافع : فلقد رأيتني في نفر سبعة معي ، أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه.

وروى البيهقي من طريقين مرفوعين إلى جابر رضي الله عنه قصة علي والباب ويوم خيبر. ففي الطريق الأول أن عليا رضي الله عنه حمل الباب حتى صعد عليه المسلمون فافتتحوها ، ولم يستطع أربعون رجلاً أن يحملوا هذا الباب. وفي الطريق الثانية أنه اجتمع عليه سبعون رجلاً ، فأعادوه إلى مكانه بعد أن أجهدهم.

وتوجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ بعد فتح حصن ناعم ، وأبلى حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسناً حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام ، ووجدوا فيه الكثير من الطعام والمتاع ، يوم كانوا في ضائقة من قلة الطعام ، ثم توجهوا بعده إلى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من حصون يهود – فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه ، فاضطروهم إلى النزول للقتال ، فهزموهم بعد ثلاثة أيام ، وبذلك تمت السيطرة على آخر صحون منطقة النطاة التي كان فيها أشد اليهود.

ثم توجهوا إلى حصون الشق ، وبدأوا بحصن أبيّ ، فاقتحموه ، وأفلت بعض مقاتلته إلى حصن نزار ، وتوجه إليهم المسلمون فحاصروهم ثم افتتحوا الحصن ، وفر بقية أهل الشق من حصونهم وتجمعوا في حصن القَمُوص المنيع وحصن الوطيح وحصن السلالم ، فحاصرهم المسلمون لمدة أربعة عشر يوماً حتى طلبوا الصلح.

نتائج الغزوة :

وهكذا فتحت خيبر عنوة ، استناداً إلى النظر في مجريات الأحداث التي سقناها ، وما روى البخاري ، ومسلم وأبو داود من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر وافتتحها عنوة.

فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك فقبل ذلك منهم. فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.

وقتل من اليهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعون رجلاً. وسبيت النساء والذراري ، منهن صفيه بنت حيي بن أخطب ، التي اشتراها الرسول صلى الله عليه وسلم من دحية حيث وقعت في سهمه فأعتقها وتزوجها. وقد دخل عليها في طريق العودة إلى المدينة ، وتطوع لحراسته في تلك الليلة أبو أيوب الأنصاري.

واستشهد من المسلمين عشرون رجلاً فيما ذكر ابن إسحاق وخمسة عشر فيما ذكر الواقدي.

وممن استشهد من المسلمين راعي غنم أسود كان أجيراً لرجل من يهود. وخلاصة قصته أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ومعه غنم يرعاها لبعض يهود خيبر ، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليه الإسلام ، فعرضه عليه ، فأسلم ، ثم استفتاه في أمر الغنم ، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب وجوهها ، فسترجع إلى أصحابها ، فأخذ الراعي حفنة من الحصى فرمى بها في وجوهها ، فرجعت إلى أصحابها ، وتقدم ليقاتل فأصابه حجر فقتله ، وما صلى لله صلاة قط ، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجي بشملة ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعرض عنه ، وعندما سئل عن إعراضه قال:(إن معه الآن زوجتيه من الحور العين).

واستشهد أعرابي له قصة دلت على وجود نماذج فريدة من المجاهدين. وخلاصة قصته أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ، وطلب أن يهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما كانت غزوة خيبر – وقيل حنين – غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج له سهمه ، وكان غائباً حين القسمة ويرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوا إليه سهمه ، فأخذه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ما هذا يا محمد؟ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قسم قسمته لك). قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا ، وأشار إلى حلقه بسهم ، فأدخل الجنة ، قال : (إن تصدق الله يصدقك) ، ولم يلبث قليلاً حتى جيء به وقد أصابه سهم حيث أشار ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (صدق الله فصدقه) ، فكفنه الرسول صلى الله عليه وسلم في جبة للنبي صلى الله عليه وسلم ودفنه.


وبعد الفراغ من هذه الغزوة حاول اليهود قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بالسم. فقد أهدته امرأة منهم شاة مشوية مسمومة ، وأكثرت السم في ذراع الشاة عندما عرفت أنه يحبه ، فلما أكل من الذراع أخبرته الذراع أنه مسموم فلفظ اللقمة ، واستجوب المرأة ، فاعترفت بجريمتها ، فلم يعاقبها في حينها ، ولكنه قتلها عندما مات بشر بن البراء بن معرور من أثر السم الذي ابتلعه مع الطعام عندما أكل مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

وتم الصلح في النهاية بين الطرفين وفق الأمور الآتية :

- بالنسبة للأراضي والنخيل – أي الأموال الثابتة : دفعها لهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعملوا عليها ولهم شطر ما يخرج منها.
- أن ينفقوا من أموالهم على خدمة الأرض.
- أما بالنسبة لوضعهم القانوني فقد تم الاتفاق على أن بقاءهم بخيبر مرهون بمشيئة المسلمين ، فمتى شاؤوا أخرجوهم منها.

وقد أخرجهم عمر بن الخطاب إلى تيماء وأريحاء ، استناداً إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في مرض موته : (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وتكرر منهم الاعتداء على المسلمين. ففي المرة الأولى اتهمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل عبد الله بن سهل ، فأنكروا فلم يعاقبهم ، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده. وفي هذه المرة الثانية أكدت الأولى – كما أشار عمر – أنهم اعتدوا على عبد الله بن عمر ، وفدعوا يديه.

- واتفقوا على إيفاد مبعوث من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر ليخرص ويقبض حصة المسلمين.

أما بالنسبة للأموال المنقولة ، فقد صالحوه على أن له الذهب والفضة والسلاح والدروع ، لهم ما حملت ركائبهم على ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً ، فإن فعلوه فلا ذمة لهم ولا عهد. فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب ، وقد كان قتل في غزوة خيبر ، وكان قد احتمله معه يوم بني النظير حين أجليت.

وعندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم سعية – عم حيي – عن المسك ، قال : (أذهبته الحروب والنفقات) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (العهد قريب المال أكثر من ذلك) ، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب ، فاعترف بأنه رأى حيياً يطوف في خربة ها هنا ، فوجدوا المسك فيها ، فقتل لذلك ابني أبي الحقيق ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وقتل محمد بن مسلمة ابن عم كنانة هذا الذي دل على المال ، قتله بأخيه محمود بن مسلمة.

وبالنسبة للطعام فقد كان الرجل يأخذ حاجته منه دون أن يقسم بين المسلمين أو يخرج منه الخمس ما دام قليلاً ، وكانت غنائم خيبر خاصة بمن شهد الحديبية من المسلمين ، كما في قوله تعالى : ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم ، يريدون أن يبدلوا كلام الله. قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ، فسيقولون بل تحسدوننا ، بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً ).

ولم يغب عن فتح خيبر من أصحاب بيعة الرضوان أحد سوى جابر بن عبد الله ، ومع ذلك أعطي سهماً مثل من حضر الغزوة – غزوة الحديبية.

وأعطى أهل السفينة من مهاجرة الحبشة الذين عادوا منها إلى المدينة ، ووصلوا خيبر بعد الفتح ، أعطاهم من الغنائم. وكانوا ثلاثة وخمسين رجلاً وامرأة بقيادة جعفر بن أبي طالب. وتقول الرواية : إنه لم يقسم لأحد لم يشهد الفتح سواهم. وهم الذين فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بقدومهم ، وقبل جعفر بين عينيه والتزمه ، وقال : (ما أدري بأيهما أنا أسر ، بفتح خيبر أو بقدوم جعفر).

وربما يرجع سبب استثنائهم إلى أنهم حبسهم العذر عن شهود بيعة الحديبية ، ولعله استرضى أصحاب الحق من الغانمين في الإسهام لهم ، ولعله رأى ما كانوا عليه من الصدق وما عانوه في الغربة ، وهم أصحاب الهجرتين.

وأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم أبا هريرة وبعض الدوسيين من الغنائم برضاء الغانمين ، حيث قدموا عليه بعد فتح خيبر.

وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء مسلمات فأعطاهن من الفيء ولم يضرب لهن بسهم.

وكذلك أعطى من شهدها من العبيد ، فقد أعطى عميرًا ، مولى أبي اللحم ، شيئاً من الأثاث.

وأوصى صلى الله عليه وسلم من مال خيبر لنفر من الداريين ، سماهم ابن إسحاق.

وكان كفار قريش يتحسسون أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر ، ويسألون الركبان عن نتيجة المعركة ، وقد فرحوا عندما خدعهم الحجاج بن علاط السلمي وقال لهم : إن المسلمين قد هزموا شر هزيمة وإن اليهود أسرت محمداً ، وستأتي به ليقتل بين ظهراني أهل مكة ثأراً لمن كان أصيب من رجالهم ، وما لبثوا قليلا حتى علموا بأن الأمر خدعة من الحجاج بن علاط ليحرز ماله الذي بمكة ويهاجر مسلماً. فحزنوا لتلك النتيجة التي كانوا يراهنون على عكسها.

وبعد الفراغ من أمر خيبر توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى ، وحاصرهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم ، وحسابهم على الله ، فبرز رجل منهم ، فبرز له الزبير فقتله ، ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله ، ثم برز آخر فبرز إليه أبو دجانة فقتله ، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً ، ثم قاتلهم حتى أمسوا ، وفي الصباح استسلموا ، ففتحت عنوة. وأقام فيها ثلاثة أيام ، وقسم ما أصاب على أصحابه ، وترك الأرض والنخل بأيدي يهود ، وعاملهم عليها.

فلما بلغ يهود تيماء ما حدث لأهل فدك ووادي القرى ، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية ، وأقاموا بأيديهم أموالهم. فلما كان عهد عمر أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام ، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز ، وأن ما وراء ذلك من الشام.

وثبت في الصحيح أن مدعماً – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – أصابه سهم فقتله وذلك حين كان يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصلوا وادي القرى ، فقال الناس : هنيئاً له بالجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( كلا والذي نفسي بيده ، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه ناراً . فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين ، فقال : هذا شيء كنت أصبته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( شراك أو شراكان من نار).

بعض فقه وحكم ودروس غزوة خيبر :

1- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلول : وأن من يموت وهو غال يدخل النار. وقد جاء ذلك في خبر الرجل الذي قال عنه الصحابة إنه شهيد ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (كلا ! إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة …) وخبر مدعم مع الشملة.

2- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية.

3- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم البغال.

4- النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن أكل كل ذي مخلب من الطير.

5- النهي عن وطء الحبالي من السبايا حتى يضعن.

6- النهي عن ركوب الجلالة والنهي عن أكل لحمها وشرب لبنها.

7- النهي عن النهبة من الغنيمة قبل قسمتها.

8- وأجرى الله على نبيه بعض المعجزات دليلاً على نبوته وعبرة لمن يعتبر ، فإضافة إلى ما ذكرنا من قصة بصقه على عيني علي فصحتا ، وإخبار ذراع الشاة المسمومة إياه بأنها مسمومة ، فقد ثبت أنه نفت ثلاث نفثات في موضع ضربة أصابت ركبة سلمة بن الأكوع يوم خيبر ، فما اشتكى بعدها.

9- وفي خبر الإسهام لأهل السفينة أنه إذا لحق مدد الجيش بعد انقضاء الحرب ، فلا سهم لهم إلا بإذن الجيش ورضاه.

10- جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض من تمر أو زروع ، كما عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على ذلك ، وهو من باب المشاركة ، وهو نظير المضاربة ، فمن أباح المضاربة ، وحرم ذلك ، فقد فرق بين متماثلين.

11- عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع إليهم الأرض على أن يعملوها من مالهم.

12- خرص الثمار على رؤوس النخيل وقسمتها كذلك ، وأن القسمة ليست بيعاً ، والاكتفاء بخارص واحد وقاسم واحد.

13- جواز عقد المهادنة عقداً جائزاً للإمام فسخه متى شاء.

14- جواز تعليق عقد الصلح والأمان بالشرط ، كما عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط ألا يغيبوا ولا يكتموا ، كما في قصة مسك حيي.

15- الأخذ في الأحكام بالقرائن والإمارات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكنانة : (المال كثير والعهد قريب) ، فاستدل بذلك على كذبه في قوله : (أذهبته الحروب والنفقة).

16- جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استغنى عنهم ، وقد أجلاهم عمر رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

17- لم يكن عدم أخذ الجزية من يهود خيبر لأنهم ليسوا أهل ذمة ، بل لأنها لم تكن نزل فرضها بعد.

18- سريان نقض العهد في حق النساء والذرية ، وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب كما في حالة كنانة وابني ابن الحقيق ، على أن يكون الناقضون طائفة لهم شوكة ومنعة ، أم إذا كان الناقض واحداً من طائفة لم يوافقه بقيتهم ، فهذا لا يسري النقض إلى زوجته وأولاده.

19- جواز عتق الرجل أمته ، وجعل عتقها صداقها ، ويجعلها زوجته بغير إذنها ولا شهود ولا ولي غيره ، ولا لفظ نكاح ولا تزويج ، كما فعل صلى الله عليه وسلم بصفية.

20- جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره ، إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير ، إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه ، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين والمشركين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك بالكذب.

21- إن من قتل غيره بسم يقتل مثله قصاصاً ، كما قتلت اليهودية ببشر بن البراء.

22- جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب وحل طعامهم وقبول هديتهم ، كما في حادثة الشاة المسمومة.

23- الإمام مخير في الأرض التي تفتح عنوة إن شاء قسمها وإن شاء وقفها وإن شاء قسم البعض ووقف البعض الآخر ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنواع الثلاثة ، فقسم قريظة والنضير ، ولم يقسم مكة ، وقسم شطراً من خيبر وترك شطرها الآخر.



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 499

د.فالح العمره
26-09-2006, 09:41 PM
رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والزعماء (1)


تمهيد :

أتيحت الفرصة للرسول صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية لتوسيع نطاق الدعوة إلى الإسلام داخل الجزيرة العربية وخارجها ، لأن الإسلام رسالة عالمية غير محدودة المكان ، كما جاء التصريح بذلك في بعض الآيات القرآنية الكريمة ، مثل : (وما أرسلناك إلا كافة للناس) ، و (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) ، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
ولذا كان من البدهي أن يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بإرسال الرسائل إلى زعماء العالم المعاصرين له.

هناك اضطراب في الروايات التي تناولت تواريخ إرسال الرسائل. فقد روى ابن سعد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام ، وكتب إليهم كتاباً ، فخرج ستة نفر في يوم واحد ، وذلك في المحرم سنة سبع.

ويذكر الطبري أن بعث هؤلاء النفر الست كان في ذي الحجة. وهي من رواية الواقدي. وواضح من نص خبر الواقدي عند ابن سعد أن رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية كان في ذي الحجة ، وأن إرسال النفر الستة كان في المحرم من العام السابع ، فيكون الوهم في النقل من قبل الطبري. أما ابن إسحاق فلا يحدد تاريخا دقيقا لإرسال الرسل ، بل جعل ذلك ما بين الحديبية ووفاته ، قال في رواية : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرق رجالا من أصحابه إلى ملوك العرب والعجم دعاة إلى الله عز وجل فيما بين الحديبية ووفاته). واستدرك عليه ابن هشام في زيادات السيرة قائلاً بأن إرساله الرسل كان بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية.

ويؤرخ ابن سعد لرسالة كسرى قبل ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادي الأولى سنة سبع ، التي قتل فيها كسرى. وذكر البخاري رسالة كسرى في أعقاب غزوة تبوك في العام التاسع الهجري ، لكن من الواضح أن البخاري لم يراع عنصر الزمن في سرد محتويات (صحيحه) ، لأنه يجمع ما يقع على شرطه من البعوث والسرايا والوفود ولو تباينت تواريخهم ، وقد نبه ابن حجر إلى احتمال تصرف بعض رواة صحيح البخاري في تقديم وتأخير بعض التراجم ، مثل تقديم حجة الوداع على غزوة تبوك.

إن الدراسة التفصيلية لتلك الرسائل تجعل النفس تميل إلى قبول ما ذكره ابن إسحاق.

المبحث الأول : كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي :
صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي : ( تعال إلى كلمة سواء بيننا وبينك أن نعبد إلا الله ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أربابا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). فآمن ومن كان عنده ، وأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية حلة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اتركوه ما ترككم).

وكان الذي حمل الرسالة إلى النجاشي ، عمرو بن أمية الضمري.

وذكر الزيلعي وغيره عن الواقدي أن الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي مع عمرو بن أمية الضمري صورته : (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله ، إلى النجاشي ملك الحبشة ، أسلم أنت ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ، فحملت به ، فخلقه من روحه ، ونفخه كما خلق آدم بيده ، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة عن طاعته ، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله ، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل ، وقد بلغت ونصحت ، فاقبلوا نصيحتي ، والسلام على من اتبع الهدى).

وذكر أبو موسى المديني في التتمة لكتاب ابن منده في الصحابة ، بإسناد معلق ، أن النجاشي كتب مع ولده كتاباً جواباً لكتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأورد نصه ، وفيه إقراره بالإسلام ، وإن شاء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأتيه بالمدينة المنورة لأتاه ، وأنه بعث إليه بابنه أرها بن الأصحم ، وأن ابنه خرج في ستين نفساً من الحبشة فغرقت بهم سفينتهم في البحر.
وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الغائب عندما أخبره جبريل بوفاة النجاشي ، وذلك في العام التاسع الهجري.

المبحث الثاني : كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى :
روى البخاري بسنده إلى ابن عباس : (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى كسرى مع عبدالله بن حذافة السهمي ، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين ، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى. فلما قرأه مزقه ، قال الراوي – الزهري- : فحسبت أن ابن المسبب قال : ( فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق).

وكتب كسرى إلى باذان عامله باليمن أن ابعث من عندك رجلين جلدين إلى هذا الرجل الذي بالحجاز ، فليأتياني ، بخبره ، فبعث باذان قهرمانه – اسمه بابويه ، وهو الكاتب الحاسب - ورجلا آخر ، وكتب معهما كتابا ، فقدما بالمدينة ، فدفعا كتاب باذان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهما إلى الإسلام وفرائصهما ترعد ، وقال : (ارجعا عني يومكما هذا حتى تأتياني الغد فأخبركما بما أريد). فجاءاه من الغد ، فقال لهما : (أبلغا صاحبكما أن ربي قتل ربه كسرى في هذه الليلة) ، لسبع ساعات مضت منها ، وهي ليلة الثلاثاء لعشر ليال مضين من جمادى الأولى سنة سبع ، وأن الله تبارك وتعالى سلط عليه ابنه شيرويه ، فقتله ، فرجعا إلى باذان بذلك ، فأسلم هو والأبناء الذين باليمن.

ويذكر أن كسرى المعني هو إبرويز بن هرمز ، ويؤكد بتلر أن موت كسرى إبرويز حدث في مارس عام 628م ، مما يجعل وصول الرسالة قبل موته بشهور توكيداً لرواية الواقدي.

وروى الطبري نص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ، وكذلك رواها ابن طولون ، وغيرهما ، وهو : (بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى ، وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأدعوك بدعاء الله ، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ، فأسلم تسلم ، فإن أبيت ، فإن إثم المجوس عليك).

المبحث الثالث : كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر :
ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى هرقل مع دحية بن خليفة الكلبي يدعوه إلى الإسلام. وذلك في مدة هدنة الحديبية ، وهو النص الثاني الذي ثبتت صحته وفق شروط المحدثين من بين سائر نصوص الكتب التي وجهت إلى الزعماء ، ونصه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فعليك إثم الأريسيين. ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا. ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).

ولعل في إيراد البخاري ومسلم نص خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ما يشير إلى ترجيحهما للروايات القائلة بتقدم نزول الآية المذكورة ، أي قبل تاريخ إرسال هذه الرسالة ، وليس في العام التاسع كما ورد في روايات ضعيفة.

وعندما قرأ قيصر رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أرسل يبحث عن بعض المتصلين بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وفضل أن يكونوا من قومه وعشيرته ، فعلم بوجود جماعة من التجار فيهم أبو سفيان ، فدعاهم لمجلسه مع الترجمان ، فقال : (أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟) فقال أبو سفيان : (أنا أقربهم نسبا) ، فأدناه منه وقرب أصحابه منه لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب ، فأخذ يسأله عن جميع أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الطويل المشهور ، حديث هرقل مع أبي سفيان ، والمروي في الصحيحين ، واستنتج من أجوبة أبي سفيان أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي ، وقال في ختام كلامه مع أبي سفيان : ( فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم ، فلو أني أعلم أني أخلص لتجشمت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه).

ثم قال للرسول (دحية الكلبي) : (إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل ، والذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا ، ولكني أخاف الروم على نفسي ولولا ذلك لاتبعنه) ، ثم صرفه إلى ضغاطر ، الأسقف صاحب الفتوى عندهم بحجة أنه أعلم الروم بهذا الشأن.

وروى ابن حبان أن دحية عندما جاء وافى قيصر ببيت المقدس ، فرمى بالكتاب على بساطه وتنحى ، فلما انتهى قيصر من الكتاب ، أخذه ، وأمّن من جاء به فظهر له دحية ، فطلب من دحية أن يأتيه في عاصمته ، فلما جاءه ، أمر بأبواب قصره فغلقت ، ثم أمر مناديا ينادي : ألا إن قيصر قد اتبع محمداً وترك النصرانية ، فأقبل جنده وقد تسلحوا حتى أطافوا به ، فقال لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد ترى أني خائف على مملكتي) ، ثم أمر مناديه فنادى : (ألا إن قيصر قد رضي عنكم وإنما اختبركم لينظر كيف صبركم على دينكم ، فارجعوا) ، فانصرفوا ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني مسلم ، وبعث إليه بدنانير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كذب عدو الله ، وهو على دين النصرانية) ، وقسم الدنانير.

وفي عدم إسلام قيصر دليل على أنه قد شح بالملك وطلب الرئاسة وآثرهما على الإسلام ، ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي ، فإنه لما أسلم ما زالت عن الرياسة.

المبحث الرابع : كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني :
روى الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ، مع شجاع بن وهب ، وأورد نصه. وقد امتعض الحارث ولم يوافق على الإسلام وحشد قواته للزحف على المدينة ، ولكن هرقل تدخل ودعاه إلى إيلياء – بيت المقدس.

وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاعاً إليه حين مرجعه من الحديبية ، ومن خلال رواية شجاع في قصته معه يظهر أنه كتب إليه في نفس الوقت الذي كتب فيه إلى هرقل مع دحية ، لأن شجاعاً عندما جاء إلى الحارث وجد دحية مع القصير في إيلياء.

وتقول رواية شجاع : إن حاجب الحارث – وهو رومي اسمه مري – أسلم عندما أخبره شجاع بالرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام.



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص513

د.فالح العمره
28-09-2006, 04:35 PM
تحليل نوعي وكمّي
لغزوات النبي صلى الله عليه وسلم
اللواء الركن محمد جمال الدين محفوظ

--------------------------------------------------------------------------------

بلغ عدد العمليات الحربية في عصر النبوة أكثر من ستين عملية ما بين غزوة وسرية، وقاد الرسول القائد صلى الله عليه وسلم بنفسه من هذه العمليات ثماني وعشرين غزوة..

وإذا تناولنا هذه الغزوات بالتحليل الإحصائي، من حيث النوع والكمية والتوزيع الزمني، فسوف تتكشف لنا عدة مبادئ في القيادة الحربية في غاية الفائدة للأمة الإسلامية، وتعد من أبرز خصائص العسكرية الإسلامية..

أولاً- تحليل التوزيع الزمني والكمي:

ولعل أول ما يسترعي الانتباه، التوزيع الزمني للغزوات خلال الفترة التي دار فيها الصراع المسلح بين المسلمين وأعدائهم في عصر النبوة، والتي امتدت سبع سنوات تقريباً من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة (من صفر سنة 2 هـ، إلى رجب سنة 9 هـ) حيث يتضح التوزيع كما يلي:

عدد الغزوات في السنة الثانية للهجرة: 8

عدد الغزوات في السنة الثالثة للهجرة: 4

عدد الغزوات في السنة الرابعة للهجرة: 3

عدد الغزوات في السنة الخامسة للهجرة: 4

عدد الغزوات في السنة السادسة للهجرة: 3

عدد الغزوات في السنة السابعة للهجرة: 2

عدد الغزوات في السنة الثامنة للهجرة: 3

عدد الغزوات في السنة التاسعة للهجرة: 1

ومن ذلك نلاحظ ما يلي:

1- أن الرسول القائد صلى الله عليه وسلم حرص على مباشرة القيادة بنفسه طوال فترة الصراع كلها. (من السنة الثانية إلى السنة التاسعة للهجرة) وفي كل سنة من سنواتها بلا استثناء، مع إتاحة الفرصة –في الوقت نفسه- لأصحابه أن يتولوا قيادة الأعمال الحربية المختلفة تحت إشرافه وتوجيهه بصفته القائد الأعلى، وهذه العمليات تسمى بالسرايا التي بلغ عددها خلال نفس الفترة أكثر من ثلاثين سرية.

2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاد في السنة الثانية للهجرة –وهي أول سنوات الصراع- أكبر عدد من العلميات الحربية، وهو ثماني غزوات بينما لم يزد عدد العمليات التي قادها في كل سنة بعد ذلك عن ثلاث أو أربع عمليات في المتوسط. هذا التركيز في قيادة عمليات أولى سنوات الصراع له دلالاته التي لا تفوت القائد المحنك الخبير بفن الحرب، ويعد في نظر العلم العسكري والاستراتيجية الحربية من علامات القيادة الحربية الفذة.

· فهو يتيح للقائد –في بداية الصراع وقبل تصاعده- الفرصة لدراسة مسرح العلميات دراسة شخصية من الناحية "الطبوغرافية" (مثل طبيعة الأرض والطرق وموارد المياه والتضاريس.. الخ) ومن الناحية "الديموغرافية" (وهي الأهداف التي تسبب للعدو من الأضرار ما يؤدي إلى إحداث تغييرات حادة في الموقفين العسكري والسياسي ويؤثر تأثيراً بالغاً على تطور الصراع المسلح عامة).

· ويتيح للقائد كذلك الفرصة لدراسة عدوه عن طريق الاحتكاك المباشر، وتقييم كفاءته القتالية مادياً ومعنوياً، ودراسة أساليبه في القتال، وأسلحته التي يستخدمها، وكل ذلك يكسب القائد ما يسمى "بالخبرة القتالية".

· هذه الدراسة الشخصية الشاملة تمكن القائد من التخطيط السليم لجميع العمليات الحربية المقبلة، كما تمكنه من إدارة المعارك بكفاية تامة، ومن توجيه المقاتلين إلى ما يحقق لهم النصر على أعدائهم.

· ونتيجة لذلك تنمو لدى القائد ثقته بنفسه وبكفاءاته وقدراته، كما تنمو لدى سائر أفراد الجيش ثقتهم بأنفسهم وقائدهم، فيواجهون تحديات الصراع المقبلة واثقين من النصر.

3- ونلاحظ أيضاً من تحليلنا لهذا التوزيع الكمي والزمني للغزوات: أنه يكشف عن مبدأ من أهم مبادئ إعداد القادة العسكريين لتولي القيادة، وهو أن يتولى قادة المستقبل قيادة الوحدات الفرعية للجيش تحت قيادة القائد العام، وهذا الأسلوب يفيد القدة من عدة نواح نذكر منها:

· مباشرة القيادة عملياً تحت إشراف القائد الأكبر، والإفادة من ملاحظاته وتوجيهاته.

· إتاحة الفرصة لهم لملاحظة أسلوب القائد "المعلم" في القيادة الحربية من حيث التخطيط للمعركة وإدارتها، وتصرفه في مواقفها المختلفة، وهي فرصة ممتازة للتعليم على الطبيعة واكتساب الخبرة القتالية في الوقت نفسه.

· تدريب قادة المستقبل على فن التفكير واستخدام العقل والتعبير عن الرأي وذلك من خلال اشتراكهم مع القائد الأكبر في مرحلة التخطيط للمعارك، ويدخل ذلك في نطاق مبدأ الشورى الذي أمر به الإسلام وطبّقه القئاد صلى الله عليه وسلم خير ما يكون التطبيق حتى قال عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما رأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقد استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في كافة غزواته، ففي غزوة بدر مثلاً استشارهم في مبدأ دخول المعركة ضد قريش، واستقر الرأي على قبول المعركة، وعندما وصل جيش المسلمين إلى مكان المعركة نزل الرسول عليه الصلاة والسلام على رأي الحباب بن المنذر الذي أشار بأن ينتقل الجيش إلى مكان آخر أفضل من الأول، لأنه قريب من ماء بدر ويتحكم فيها. وفي غزوة أحد استشار عليه الصلاة والسلام أصحابه في مبدأ البقاء في المدينة ولقاء قريش فيها، أو لقائهم خارجها، فاستقر الرأي على الخروج، واستجاب صلى الله عليه وسلم لذلك الرأي وقال لهم: "لكم النصر ما صبرتم".

· ثم إن هذا الأسلوب بقيد قادة المستقبل من حديث أنه يكسبهم القدرة على إصدار القرارات السليمة، وفي وقتها المناسب، مما يعد من أهم خصائص القيادة الناجحة، ذلك لأن مشاركتهم في مرحلة التخطيط تتيح لهم معرفة واسعة بفكر القائد ونواياه وأهدافه، وإحاطة وافية بجوانب الموضوعات، والقضايا تمكنهم من اتخاذ القرارات السليمة في المواقف التي يواجهونها في المستقبل بهدي تفكيرهم وحده، ودون حاجة إلى الرجوع إلى القيادة العليا، وخاصة في المواقف المفاجئة أو التي لا تحتمل التأخير.

ثانياً: التحليل النوعي للغزوات:

وإذا تناولنا الغزوات بالتحليل من حيث النوع أو الطابع، فسوف تتكشف لنا جوانب أخرى في القيادة الحربية، وفي إعداد القادة وتدريبهم.

فقد احتوت الغزوات على شتى صور وأشكال العمليات الحربية كما يلي:

عمليات الإغارة ودوريات القتال والردع والتأثير المعنوي مثل:
غزوة ودان – بواط – العشيرة – بدر الأولى – بني سليم – ذي أمر – بحران – ذات الرقاع – بدر الآخرة – دومة الجندل – بني المصطلق – بني لحيان – الحديبية – عمرة القضاء.

العمليات الدفاعية مثل: غزوة بدر الكبرى – أحد – الخندق.
العمليات الهجومية مثل: غزوة فتح مكة – غزوة حنين – تبوك.
عمليات المطاردة مثل: غزوة السويق – حمراء الأسد – ذي قرد.
عمليات الحصار والقتال في القرى الحصينة مثل: غزوة بني قينقاع – بني النضير – بني قريظة – خيبر – الطائف.
ومن هذا التحليل نستخلص أن جيش الإسلام الأول (قادة وجنداً) قد تعلموا ومارسوا عملياً كل أشكال العمليات الحربية تحت قيادة القائد المعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنهم اكتسبوا بذلك خبرة قتالية فائقة.

كما نستخلص أنهم اكتسبوا خبرة حربية في مواجهة التنظيمات الحربية والنظريات القتالية المختلفة، فهم قد حاربوا المشركين من العرب الذي كانوا يقاتلون بأسلوب الكر والفر، وحاربوا اليهود الذين كانوا يحاربون "من وراء جدر" ومن داخل حصونهم وقراهم المحصنة.

فإذا ما أضفنا إلى ذلك المعارك التي دارت في مواجهة الروم في عصر النبوة "مؤتة وتبوك" يكون جيش الإسلام قد اكتسب الخبرة القتالية في مواجهة الجيوش المنظمة، بالإضافة إلى خبرته في قتال الجيوش غير المنظمة (قريش والقبائل العربية الأخرى).

وبعد، فإنه يبقى لنا من هذا التحليل درس عظيم، وهو أن نمط "القائد المعلم" هو النمط الذي يدعو إليه الإسلام والذي لا يرتضي عنه القائد المسلم بديلاً، وأن القائد في الإسلام "صاحب مدرسة ورسالة" يدرك تماماً أن قيامه بإعداد أجيال من القادة من أسمى واجباته لها، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، قال تعالى: )لقد كانَ لكم في رسولِ الله أسوة حسنة( صدق الله العظيم.



مجلة الأمة، العدد 6، جمادى الأولى 1401 هـ

د.فالح العمره
28-09-2006, 04:37 PM
فتح مكة وعبرته لحاضر المسلمين ومستقبلهم

اللواء الركن محمود شيث خطاب


--------------------------------------------------------------------------------

الموقف العام
1. المسلمون:

كانت هناك هدنة الحديبية خيراً على المسلمين، فقد قضوا خلالها على يهود في المدينة المنورة وخارجها عسكريا، فلم يعد لهم أي خطر عسكري يهدد المسلمين. كما أتاحت للمسلمين السيطرة على القبائل العربية في شمالي المدينة حتى حدود الشام والعراق، وانتشر الإسلام بين القبائل العربية كلها، فأصبح المسلمون القوة الضاربة الأولى في شبه الجزيرة العربية كلها.

ولم يبق أمام المسلمين غير فتح مكة، تلك المدينة المقدسة التي انتشر الإسلام فيها أيضاً، ولم يحل دون فتحها وعودة المستضعفين الذين أخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، إليها، غير صلح الحديبية الذي يحرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الوفاء به.

2. المشركون:

أدى انتشار الإسلام بين قسم كبير من القبائل ومن ضمنها قريش وبقاء القسم الآخر على الشرك إلى تفرق كلمة القبائل واستحالة جمع تلك الكلمة على حرب المسلمين. ولم يبق في قريش زعيم مسيطر يستطيع توجيهها إلى ما يريد حين يريد: المسلمون فيها لا يخضعون إلا لأوامر الإسلام، والمشركون فيها بين متطرف يدعو للحرب مهما تكن نتائجها، ومعتدل يعتبر الحرب كارثة تحيق بقريش.

إعلان الحرب:

أراد بنو بكر حلفاء قريش أن يأخذوا بثاراتهم من بني خزاعة حلفاء المسلمين، وحرضهم على ذلك متطرفو قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل وقسم من سادات قريش، وأمدوهم سراً بالرجال والسلاح. وقامت بكر بالهجوم المباغت على خزاعة فكبدوهم خسائر بالأرواح والأموال، والتجأت خزاعة إلى البيت الحرام فطاردتهم بكر مصممة على القضاء عليهم غير مكترثة بصلح الحديبية، فانتهت الهدنة بين قريش وحلفائها من جهة وبين المسلمين وحلفائهم من جهة أخرى، وكان الذي نقض هذه الهدنة قريش وبكر.

وسارع عمرو بن سالم الخزاعي بالتوجه إلى المدينة حاملاً أنباء نقض صلح الحديبية، فلما وصل إلى المدينة قصد المسجد وقص على النبي صلى الله عليه وسلم ما أصاب خزاعة من بكر وقريش في مكة وخارجها، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: »نصرتَ يا عمرو بن سالم!«

وخرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا المدينة، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما أصابهم فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على فتح مكة.

وقدر قادة قريش المعتدلون وعقلاؤهم ماذا يعنيه انتهاء الهدنة بين قريش والمسلمين، فقرروا إيفاد أبي سفيان بن حرب إلى المدينة للتشبث بتثبيت العهد وإطالة مدته.

ولما وصل أبو سفيان »عسفان« في طريقه إلى المدينة لاقى بديل بن ورقة وأصحابه عائدين من المدينة، فخاف أن يكونوا جاؤوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما حدث بين بكر وخزاعة، مما يزيد مهمته التي جاء من أجلها تعقيداً، إلا أن بديلاً نفى مقابلته للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا سفيان فحص فضلات راحلة بديل فوجد فيه نوى التمر، فعرف أنه كان في المدينة.

ووصل أبو سفيان إلى المدينة، فقصد دار ابنته أم حبيبة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يجلس على الفراش فطوته دونه فقال لها: »يا بنية! أما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عني؟« فقالت: »بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس.« فقال: »والله لقد أصابكِ بعدي شر.«

واستشفع أبو سفيان بأبي بكر الصديق رضي الله عنه ليكلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأبى.. واستشفع بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأغلظ له في الرد وقال: »أأنا أشفع لكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ واللهِ لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به.«

ودخل أبو سفيان على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعنده فاطمة رضي الله عنها، فقال علي: »والله يا أبا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه.«

واستشفع أبو سفيان بفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أن يجير ابنها الحسن بين الناس، فقالت: »ما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم.«

واستنصح أبو سفيان علياً بعد أن اشتدت عليه الأمور فنصحه أن يعود من حيث أتى، فقفل أبو سفيان عائداً إلى قريش ليخبرهم بما لقي من صدود، ولم يبق هناك شك في إعلان الحرب.

الاستعدادات للحرب:

أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه بإنجاز استعداداتهم للحركة، وبعث من يخبر قبائل المسلمين خارج المدينة بإنجاز استعداداتهم للحركة أيضاً، كما أمر أهله أن يجهزوه، ولكنه لم يخبر أحداً بنياته الحقيقية ولا باتجاهه حركته، بل أخفى هذه النيات حتى عن أقرب المقربين إليه، ثم أرسل سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم ليزيد من اسدال الستار الكثيف على نياته الحقيقية.

ودخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على ابنته عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أي بنية! أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز. فقال: فأين ترينه يريد؟ قالت: والله لا أدري.

ولما اقترب موعد الحركة، صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سائر إلى مكة. وبث عيونه ليحول دون وصول أنباء اتجاه حركته إلى قريش، ولكن حاطب بن أبي بلتعة كتب رسالة أعطاها امرأة متوجهة إلى مكة، يخبرهم فيها بنيّات المسلمين، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الرسالة، وبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما، فأدركاها وأخذا منها تلك الرسالة التي كانت معها.

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً يسأله: ما حمله على ذلك؟ قال: يا رسول الله بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »أمَا إنه قد صدقكم؛ وما يدريك، لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم«. وشفع لحالطب ماضيه الحافل بالجهاد، فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين أن يذكروه بأفضل ما فيه.

قوات الجانبين
المسلمون: عشرة آلاف رجل، بقيادة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام.
المشركون: قريش وبنو بكر، كل قبيلة منهما لها قائدها الخاص.
في الطريق إلى مكة المكرمة:

غادر المسلمون المدينة المنورة في رمضان من السنة الثامنة الهجرية قاصدين فتح مكة، وكان جيش المسلمين مؤلفاً من الأنصار والمهاجرين وسليم ومزينة وغطفان وغفار وأسلم.. وطوائف من قيس وأسد وتميم وغيرهم من القبائل الأخرى، في عدد وعُدد لم تعرفه الجزيرة العربية من قبل، وكلما تقدم الجيش من هدفه ازداد عدده بانضمام مسلمي القبائل التي تسكن على جانبي الطريق إليه. ومع كثافة هذا الجيش وقوته وأهميته، فقد بقي سر حركته مكتوماً لا تعرف قريش عنه شيئاً. فبالرغم من اعتقاد قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم في حل من مهاجمتهم، ولكنها لم تكن تعرف متى وأين وكيف سيجري الهجوم المتوقع. ولشعور قريش بالخطر المحدق بها، أسرع كثير من رجالها بالخروج إلى المسلمين لإعلان إسلامهم، فصادف بعض هؤلاء، ومنهم العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، جيشَ المسلمين في طريقه إلى مكة المكرمة.

ووصل جيش المسلمين إلى موضع مرّ الظهران على مسافة أربعة فراسخ من مكة، فعسكر المسلمون هناك. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقد كل مسلم في جيشه ناراً، حتى ترى قريش ضخم الجيش دون أن تعرف هويته فيؤثر ذلك في معنوياتها فتستسلم للمسلمين دون قتال، وبذلك يحقق النبي صلى الله عليه وسلم هدفه السلمي في فتح مكة بدون إراقة دماء.

وأوقد عشرة آلاف مسلم نيرانهم، ورأت قريش تلك النيران تملأ الأفق البعيد، فأسرع أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام بالخروج باتجاه النيران، ليعرفوا مصدرها ونيات أصحابها، فلما اقتربوا من موضع معسكر المسلمين قال أبو سفيان: هذه والله خزاعة حمشتها [جمعتها] الحربُ. فلم يقتنع أبو سفيان بهذا الجواب، فقال: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.

وكان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من معسكر المسلمين راكباً بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ليخبر قريشاً بالجيش العظيم الذي جاء لقتالها والذي لا قبل لها به، حتى يؤثر في معنوياتها ويضطرها على التسليم دون قتال، فيحقن بذلك دماءها ويؤمن لها صلحاً شريفاً ويخلصها من معركة خاسرة معروفة النتائج سلفاً، فسمع وهو في طريقه محاورة أبي سفيان وبديل بن ورقة، فعرف العباس صوت أبي سفيان، فناداه وأخبره بوصول جيش المسلمين ونصحه بأن يلجأ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينظر في أمره قبل أن يدخل الجيش فاتحاً صباح غد، فيحيق به وبقومه ما يستحقونه من عقاب.

وأردف العباس أبا سفيان على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجّها نحو معسكر المسلمين، فلما وصلا إلى المعسكر ودخلاه أخذا يمران بنيران الجيش في طريقهما إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرّا ينار عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع عمر إلى خيمة النبي صلى الله عليه وسلم وسأله أن يأمره بضرب عنق أبي سفيان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمه أن يستصحب أبا سفيان إلى خيمته، ثم يحضره إليه صباح غد، فلما كان الصباح وجيء بأبي سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلمَ ليحقن دمه، فقال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوثق من سير الأمور كما يحب بعيداً عن وقوع الحرب، فأوصى العباس باحتجاز أبي سفيان في مضيق الوادي حتى يستعرض الجيش الزاحف كله، فلا تبقى في نفسه أية فكرة للمقاومة.

قال العباس: خرجتُ بأبي سفيان حتى حبسته بمضيق الوادي حيث أمرني رسول الله، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: سليم. فيقول: مالي ولسليم! ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: ومالي ولمزينة! حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته قال: مالي ولنبي فلان! حتى مرّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منها إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله، يا عباس! من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة! والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: نعم إذن. عند ذلك قال العباس لأبي سفيان: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان إلى مكة.

قبل دخول مكة المكرمة:

دخل أبو سفيان مكة مبهوراً مذعوراً، وهو يحس أن من ورائه إعصاراً إذا انطلق اجتاح قريشاً وقضى عليها. ورأى أهل ملكة قوات المسلمين تقترب منهم، ولم يكونوا حتى ذلك الوقت قد قرروا قراراً حاسماً بشأن القتال ولا اتخذوا تدابير القتال الضرورية، فاجتمعوا إلى ساداتهم ينتظرون الرأي الأخير، فإذا بصوت أبي سفيان ينطلق مجلجلاً جازماً: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان كان آمناً.

وسمعت هند بنت عتبة بن ربيعة زوج أبي سفيان التي كانت تشايع المتطرفين من مشركي قريش ما قاله زوجها، فوثبت إليه وأخذت بشاربه وصاحت: اقتلوا هذا الحميت الدسم الأحمس [أي هذا الزق المنتفخ]، قبّح من طليعة قوم.

ولم يكترث أبو سفيان بسباب امرأته، فعاود تحذيره: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

وقالت قريش: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.

وأصحبت مكة المكرمة تنتظر دخول المسلمين: اختفى الرجال وراء الأبواب الموصدة، واجتمع بعضهم في المسجد الحرام، وبقى المتطرفون مصرون على القتال.

خطة الفتح:

كانت مجمل خطة الفتح تتلخص: الميسرة بقيادة الزبير بن العوام، واجبها دخول مكة من شماليها.

والميمنة بقيادة خالد بن الوليد، واجبها دخول مكة من جنوبها، وقوات الأنصار بقيادة سعد بن عبادة، واجبها دخول مكة من غربيها، وقوات المهاجرين بقيادة أبي عبيدة بن الجراح واجبها دخول مكة من شماليها الغربي من اتجاه جبل هند. ومثابة اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند. وكان اجتماع قوات المسلمين بعد إنجاز الفتح في منطقة جبل هند.

وكانت أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لقادته تنص: بألا يقاتلوا إلا إذا اضطروا اضطراراً على القتال، لغرض أن يتمّ الفتح سلمياً وبدون قتال.

الفتح:

قبل شروع أرتال المسلمين بدخول مكة المكرمة، سمع قسم من المسلمين سعد بن عبادة يقول: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة.. لذلك رأي النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه ما قال سعد، أن يأخذ الراية ويدفعها إلى ابنه قيس بن سعد، إذ كان قيس أهدأ أعصاباً من أبيه وأكثر سيطرة على نفسه، لكي يحول عليه الصلاة والسلام دون اندفاع سعد لإثارة الحرب وسفك الدماء دون مسوغ.

ودخلت قوات المسلمين مكة فلم تلق مقاومة، إلا جيش خالد بن الوليد، فقد تجمع متطرفو قريش مع بعض حلفائهم من بني بكر في منطقة الخندفة، فلما وصلها رتل خالد أمطروه بوابل من نبالهم، ولكن خالداً لم يلبث أن فرّقهم بعد أن قتل رجلان من رجاله ضلا طريقهما وانفصلا عنه، ولم يلبث صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل حين رأوا الدائرة تدور عليهم أن تركوا مواضعهم في الخندمة وفروا مع قواتهم، واستسلمت المدينة المقدسة للمسلمين، وفتحت أبوابها لهم، وعاد المستضعفون الذين أخرجوا منها بغير حق إ لى ديارهم وأموالهم.

في مكة المكرمة:

عسكر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في منطقة جبل هند، بعد أن سيطر المسلمون على جميع مداخل مكة، فلما استراح وتجمعت أرتال الجيش، نهض والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت العتيق وحول البيت، وكان في الكعبة ستون وثلاثمائة صنم، يطعنها بالقوس وهو يقول: )جاء الحق وزهق الباطلُ إن الباطل كان زهوقاً( )جاء الحق وما يُبدِئُ الباطل وما يعيد( ثم دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ودخلها، فرأى الصور تملؤها، ومن بينها صورتان لإبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فمحا ما في الكعبة من صور، ثم صلى ودار في البيت يكبر، ولما انتهى تطهير البيت من الأصنام والصور، وقف على باب الكعبة، وقريش تنظر ماذا يصنع، فقال: »لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. إلا كل مأثرة أو مال فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهبَ عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء: الناس من آدم، وآدم من تراب )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللهِ أتقاكم إن الله عليم خبير(. يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟« قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: »فإني أقول كما قال يوسف لإخوته: )لا تثريب عليكم اليوم(، اذهبوا فأنتم الطلقاء.«

طهر المسلمون البيت من الأصنام، وأتم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في أول يوم من أيام فتح مكة ما دعا إليه منذ عشرين سنة: أتم تحطيم الأصنام والقضاء على الوثنية في البيت الحرام بمشهد من قريش، ترى أصنامها التي كانت تعبد ويعبد آباؤها، وهي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً.

وأقام النبي صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوماً، نظّم خلالها شؤون مكة، وفقّه أهلها في الدين، وأرسل بعض السرايا للدعوة إلى الإسلام وتحطيم الأصنام، من غير سفك للدماء.

عبرة الفتح:

1. الكتمان:

ما أحوج المسلمين اليوم أن يتعلموا الكتمان من هذه الغزوة، فأمورهم كلها مكشوفة، بل مكشفة، وأعداؤهم يعرفون عنهم كل شيء، لا تكاد تخفى عليهم، فلا سر لدى المسلمين يبقى مكتوماً.

لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحرص علىألا يكشف نياته لفتح مكة لأي إنسان، عندما اعتزم الحركة إلى مكة وكان سبيله إلى ذلك الكتمان الشديد.

لم يبح بنياته لأقرب أصحابه عن نفسه: أبي بكر الصديق، بل لم يبح بنياته لأحب النساء إليه عائشة بنت أبي بكر الصديق، وبقيت نياته مكتومة حتى أنجز هو وأصحابه جميع استعدادات الحركة، وحتى وصل أمر الاستحضار إلى المسلمين كافة خارج المدينة وداخلها، ولكنه كشف نياته في الحركة إلى مكة قبيل موعد خروجه من المدينة، حيث لم يبق هناك مسوغ للكتمان، لأن الحركة أصبحت وشيكة الوقوع.

ومع ذلك، بث عيونه وأرصاده، لتحول دون تسرب المعلومات عن حركته إلى قريش.

بث عيونه داخل المدينة ليقضي على كل محاولة لتسريب الأخبار من أهلها إلى قريش، وقد رأيتَ كيف اطلع على إرسال حاطب بن أبي بلتعة برسالته إلى مكة، فاستطاع حجز تلك الرسالة.

وبث عيونه وأرصاده داخل المدينة وخارجها ليحرم قريشاً من الحصول على المعلومات عن نيات المسلمين، وليحرم المنافقين والموالين لقريش من إرسال المعلومات إليها.

وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يقظاً كل اليقظة، حذراً كل الحذر، حتى وصل إلى ضواحي مكة، ونجح بترتيباته في حرمان قريش من معرفة نيات المسلمين أعظم نجاح.

ولكي يلقي النبي صلى الله عليه وسلم ظلاً كثيفاً من الكتمان على نياته، بعث سرية أبي قتادة الأنصاري إلى بطن إضم، شمالي المدينة المنورة، بينما كان يستعد لفتح مكة في جنوب المدينة المنورة، فسارت أخبار المسلمين بأنهم يتجهون شمالاً لكتمان اتجاههم نحو الجنوب.

ولو انكشفت نيات المسلمين لقريش في وقت مبكر، لاستطاعت حشد حلفائها وتنظيم قواتها وإعداد خطة مناسبة لمقابلة المسلمين، ولاستطاعت مقاومة المسلمين أطول مدة ممكنة دفاعاً عن مكة المكرمة ولأوقعت بهم خسائر في الأرواح والأموال، وكانت قريش قد استطاعت حشد عشرة آلاف مقاتل في غزوة الأحزاب كما هو معروف، وباستطاعتها أن تحشد مثل هذا الحشد وأكثر دفاعاً عن مكة.

وليس من السهل أن يتحرك جيش ضخم تعداده عشرة آلاف مقاتل من المدينة إلى مكة بالمراحل دون أن تعرف قريش وقت حركته وموعد وصوله ونياته، حتى يصل ذلك الجيش اللجب إلى ضواحي مكة القريبة، فيفلت الأمر من قريش، ولا تعرف ما تصنع إلا اللجوء إلى الاستسلام دون مقاومة.

إن تدابير النبي صلى الله عليه وسلم في الكتمان أمّنت له مباغتة كاملة لقريش، وأجبرتها على الرضوخ للأمر الواقع: الاستسلام.

وهذا الكتمان لا مثيل له في سائر الحروب، ما أحرانا أن نتعلمه ونقتدي به ونسير على منواله.

2. بعد النظر:
القائد المتميز هو الذي يتسم ببعد النظر، بالإضافة إلى مزاياه الأخرى، ويتخذ لكل أمر محتمل الوقوع التدابير الضرورية لمعالجته، دون أن يترك مصائر قواته للاحتمالات بدون إعداد كامل.

إن النصر من عند الله، يؤتيه من يشاء، ولكن الله سبحانه وتعالى ينصر من أعدّ عدّته واحتاط لكل احتمال كبير أو صغير قد يصادفه، لذلك يشدد العسكريون على إدخال أسوأ الاحتمالات في حسابهم في أية عملية عسكرية.

لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحبس أبو سفيان في مدخل الجبل إلى مكة، حتى تمر عليه جنود المسلمين، فيحدث قومه عن بينة ويقين،ولكي لا يتكون إسراعه في العودة إلى قريش قبل أن تنهار معنوياته تماماً، سبباً لاحتمال وقوع أية مقاومة من قريش، مهما تكن نوعها ودرجة خطورتها. وفعلاً اقتنع أبو سفيان بعد أن رأى قوات المسلمين كلها، أن قريشاً لا قبل لها بالمقاومة.

وقد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في حساباته أسوأ الاحتمالات أيضاً، عند تنظيمه خطة الفتح، فكانت تلك الخطة تؤمن تطويق البلد من جهاته الأربع بقوات مكتفية بذاتها، بإمكانها العمل مستقلة عن القوات الأخرى عند الحاجة، وبذلك تستطيع القضاء على أية مقاومة في أية جهة من جهات مكة، كما تؤمن توزيع قوات قريش إلى أقسام لمقاومة كل رتل من أرتال المسلمين على انفراد، فتكون قوات قريش ضعيفة في كل مكان.

واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم هذه التدابير الفاعلة بالرغم من اعتقاده بأن احتمال مقاومة قريش للمسلمين ضعيف جداً، وذلك ليحول دون مباغتة قواته وإيقاع الخسائر لها، مهما تكن الظروف والأحوال.

فما أحرى أن يتعلم المسلمون هذا الدرس ويطبقوه في إعداد خططهم المصيرية!

3. العقيدة:
كان جيش الفتح مؤلفاً من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل العربية المعروفة في حينه، لا يوحد بينه غير العقيدة الواحدة، التي يضحي الجميع من أجلها، وتشيع بينهم الانسجام الفكري الذي يجعل التعاون الوثيق بيهم سائداً.

لقد كانت انتصارات المسلمين الأولين انتصارات عقيدة بلا مراء، وكان النصر من أول ثمرات هذه العقيدة على النطاق الجماعي.

أما على النطاق الفردي، فقد رأيت كيف طوت أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها أبي سفيان، وقد جاء من سفر قاصد بعد غياب طويل ذلك لأنها رغبت به عن مشرك نجس، ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.

وعندما جاء أبو سفيان مع العباس ليواجه النبي صلى الله عليه وسلم، رآه عمر بن الخطاب، فغادر خيمته واشتد نحو خيمة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل إليها قال: يا رسول الله! دعني اضرب عنقه. قال العباس: يا رسول الله! إني قد أجرته، فلما أكثر عمر قال العباس: مهلاً يا عمر، ما تصنع هذا إلا لأنه من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي ما قلت هذه المقالة، فقال عمر: مهلا يا عباس، فوالله إسلامك يوم أسلمت كان أحب لي من إسلام الخطاب لو أسلم. لقد كان يمثل عقيدة المسلمين الأولين، بينما كان العباس حديث عهد بالإسلام.

وكيف نعلل إقدام المهاجرين على المشاركة في غزوة الفتح، التي لم يكن من المستبعد أن تصطرع فيها قوات المسلمين وقوات قريش؟

إن عقيدة المسلمين لا تخضع للمصالح الشخصية، بل هي رهن المصالح العامة وحدها، وقد انتصر المسلمون بالعقيدة الراسخة، وهي اليوم غائبة عنهم فذلوا وهزموا، فما أحراهم أن يعودوا إلى عقيدتهم ليستعيدوا مكانتهم بين الأمم، ولينتصروا على أعدائهم، فقد غاب عنهم النصر منذ غاب عنهم الإسلام.

4. المعنويات:
لم تكن معنويات المسلمين في وقت من الأوقات أعلى وأقوى مما كانت عليه أيام فتح مكة، البلد المقدس عند المسلمين الذين يتوجهون إليه في صلاتهم كل يوم، ويحجون بيته كل سنة. وكانت أهمية مكة للمهاجرين أكثر من أنها بلد مقدس، فهي بلدهم الذي هاجروا منه فراراً بدينهم وخلفوا فيها أموالهم وذويهم وكل عزيز عليهم.

لذلك لم يتخلف أحد من المسلمين عن هذه الغزوة إلا القليل من ذوي الأعذار القاهرة الصعبة.

أما معنويات قريش، فقد كانت متردية للغاية، فقد أثرت فيهم عمرة القضاء، كما أثر فيهم انتشار الإسلام في كل بيت من بيوت مكة تقريباً، وبذلك فقدت مكة روح المقاومة وروح القتال. ومما زاد في انهيار معنويات قريش، ما اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم من إيقاد عشرة آلاف نار في ليلة الفتح، ومرور الجيش كله بأبي سفيان قائد قريش أو أكبر قادتها، ودخول أرتال المسلمين في كل جوانب مكة.

لقد كانت غزوة الفتح معركة معنويات بالدرجة الأولى، ما أحرانا أن نتعلمها لحاضرنا ومستقبلنا.

5. السلم:
حرص النبي صلى الله عليه وسلم من خروجه لفتح مكة على نياته السلمية، ليؤلف بذلك قلوب المشركين، ويجعلها تقبل على الإسلام.

وقد عهد عليه الصلاة والسلام إلى قادته حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم. وبقي النبي صلى الله عليه وسلم مصراً على نياته السلمية بعد الفتح أيضاً، فقد أصدر العفو العام عن قريش قائلاً: »اذهبوا فأنتم الطلقاء«.

وكما حرص النبي صلى الله عليه وسلم الجماعي، حرص كذلك على السلم الفردي، فمنع القتل حتى لفرد واحد من المشركين، مهما تكن الأسباب والأعذار.

فقد قتلت خزاعة حلفاء المسلمين رجلاً من هذيل غداة يوم الفتح لثأر سابق لها عنده، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب، وقام في الناس خطيباً، ومما قاله: »يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر إن نفع، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين، إن شاؤوا قدم قاتله، وإن شاؤوا فعقله«، أي ديته، ثم ودي بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة.

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل رجلاً من المشركين أراد اغتياله شخصياً وهو يطوف في البيت، بل تلطف معه. فقد اقترب فضالة بن عمير يريد أن يجد له فرصة ليقتله، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عرف بها طويته، فاستدعاه وسأله: »ماذا كنت تحدث به نفسك؟« قال: لا شيء، كنتُ أذكر الله! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلطف معه ووضع يده على صدره، فانصرف الرجل وهو يقول: ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه.

ورأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مفتاح الكعبة بيد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، فقال عليه الصلاة والسلام: »أين عثمان بن طلحة؟« فلما جاء عثمان قال له: »يا ابن طلحة، هاكَ مفتاحك، اليوم يوم بر ووفاء«.

وقد رأى المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح يتواضع لله، حتى رأوه يوم ذلك ورأسه قد انحنى على رحله، وبدا عليه التواضع الجم، حتى كادت لحيته تمس واسطة راحلته خشوعاً، وترقرقت في عينيه الدموع تواضعاً لله وشكراً.

تلك هي سمات الخلُق الإسلامي الرفيع في السلم والوفاء والتواضع، ولكنه سلم الأقوياء لا سلم الضعفاء، ووفاء القادرين لا وفاء العاجزين، وتواضع العزة لا تواضع الذلة.

إن سلم الأقوياء القادرين هو السلام الذي يأمر به الإسلام، أما سلم الضعفاء العاجزين فهو الاستسلام الذي ينهى عنه الإسلام.

ذلك ما ينبغي أن نتعلمه من فتح مكة، لحاضر المسلمين ومستقبلهم، لحاضر أفضل ومستقبل أحس، وهي عبر لمن يعتبر.
مجلة الأمة - العدد 12 - عام 1401 هـ

د.فالح العمره
28-09-2006, 04:39 PM
محمد صلى الله عليه وسلم

محرر الإنسان والزمان والمكان

د. محمد أحمد العزب


--------------------------------------------------------------------------------

[1]
حين يحدق الباحث في ملامح الحركة التاريخية قبل وبعد ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحتاج إلى معاناة ليستجلي حقيقة موضوعية أكبر من أن تتوارى في غياهب الجدل، هذه الحقيقة الموضوعية هي أن هذا الميلاد العظيم كان إيذاناً بثورة كونية شاملة عملت عملها في تغيير علاقات الأشياء بعضها مع بعض، وفي تغيير علاقات الأحياء بعضهم مع بعض، حتى ليمكن القول بأن ما حدث كان تحريراً كاملاً لوضعية الإنسان في الأرض، ووضعية الأرض في الكون، ووضعية الزمان في التاريخ.

أجل، كان هذا الميلاد العظيم إيذاناً ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات كثيرة كانت تعتاق انطلاقها جميعاً، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة فجرت عناصر الخير في كل شيء كان احتجاجاً قبلياً على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليلهم ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!

ولكن كيف؟

كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان من ربقة عبودياته المتعددة؟

كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الزمان من قبضة كونه إطاراً للحركة التاريخية الهابطة؟

كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم المكانَ من وضعية كونه صنماً أو مناطاً لصنم معبود على الأرض؟

القضية جرت بها أقلام كثير من الباحثين، ولكنهم تناولوها من منظور كمي إذا جاز أن يقال، بمعنى أنهم رصدوا كمَّ التحول التاريخي على مستوى سياسي واجتماعي وثقافي وعقائدي، دون أن يفطنوا إلى جدل هذه المستويات وإشعاعاتها التي تشكل خلفياتها الحقيقية، وهو ما نحاول تجليته في هذه السطور..

ولكن.. كيف.. مرة أخرى؟

[2]
التاريخ هنا لا يتسطيع أن يكذب على نفسه.. فإن ثورة محمد صلى الله عليه وسلم من أجل إنسانية الإنسان تكاد تشكل كل ملامح رسالته الشامخة، لأن القيم والأعراف والمبادئ والنواميس والأحكام والشرائع والقضايا والمقولات التي يمكن أن تشكل في النهاية مجموع الرسالة الإسلامية ليست بذات بال إن هي فقدت محور وجودها الصميمي الذي هو الإنسان.

إن قيام الإنسان بهذه المواضعات الإسلامية هو ما يعطيها معقولية وجودها على الأرض، ومن هنا نستطيع أن نفهم أن نزول القرآن »منجماً« كان ترتيباً طبيعياً على مقدمة أساسية وهي أن معاناة البشر الكادحين هي بالضرورة محور تنزل الوحي من السماء إلى الأرض، أي أن وجود الشرائع والرسالات هو وجود متوقف على وجود آخر قَبْلي ومسبق وهو الوجود الإنساني، فما لم يوجد الإنسان كان لا يمكن أن توجد الشرائع، وما لم يحفر البشر تاريخهم الحلولي على أخاديد الصخور وأعراف الجبال كان لا يمكن للرسالات أن تحفر تاريخها الحلولي على أخاديد الورق أو في أعراف الطبائع والنفوس!

وإذن فقد كان تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للإنسان تحريراً مقصوداً وقَبْلياً، ولذلك فإن حجم هذا التحرير يعطي قناعة أن كل الجراح التي نزفت من محمد صلى الله عليه وسلم كانت جراحاً حميمة إلى قلبه، لأنها نزفت دماً هنا ورقَأَتْ دماً بلا حدود هناك، أعنى أن كل قطرة دم أو عرق نزفت من جبين محمد القائد الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحالت في تاريخ الإنسان على امتداد هذا التاريخ إلى يد برة حانية تمسح عن جبينه طوفان الدم وشلال الدموع. إن الجراح التي نزفت هناك من جبين محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعدل مسار الكون والتاريخ والإنسان، هي التي تتيح لهذا الإنسان أن يقبض في رحاب الكون والتاريخ على إنسانيته بيديه، غير غارق في طوفان الرجعة الذاهلة إلى حرب الأعراق الفاجرة، أو إلى انحناء الجذع الإنساني أمام حجم حجري بليد، أو إلى انصياع في مسارب اللذات غير مبدع ما يبقى على التاريخ عنواناً على عظمة البشر ومجد الإنسان في الأرض!

كان الإنسان –قبل محمد صلى الله عليه وسلم- يتكئ في قناعته على مسلّمات كثيرة، فأطلق محمد صلى الله عليه وسلم فيه ثورة العقل وثورة الجسد وثورة الروح.. لقد زلزل هذا الإنسان بثورة العقل معاقل الخرافة، وأسوار التجمد، وحوائط الانغلاق، فأطلق لفكره العنان يجول في أبهاء الزمن والتاريخ والكون والثقافات، يشيد من بعضها ما يراه موائماً لطبائع التطور، ويشيد علىأنقاض بعضها الآخر ما يراه عاجزاً عن مواكبة الطموح البشري في اندفاعه مع تيار التواصل الكوني والإنساني.. وزلزل هذا ا لإنسان بثورة الجسد مقاصير العنت، ومناطق الخوف، وأحراش الرهبوت، فأطلق للإبداع الإنساني آفاق طموحه المشروعة، وأمّن لخطوات التاريخ على طرائق الخير والحق، وجعل من »القيمة« وحدها مقياس التوافق مع الوجود الإنساني النبيل الذي يرفض أن يشارك في مهزلة الأعلى والأدنى على ضوء مقاييس البطش والإرهاب.. وزلزل هذا الإنسان أخيراً بثورة الروح تاريخ الهمجية على الأرض، فأطلق لأشواقه العليا أن تلوذ بمناطها الطبيعي، وأن تستريح من قرّها إلى دفء الألوهية.

وهكذا يتوافق إيقاع ثورات العقل والجسد والروح تلك التي أطلق شرارتها الأولى محمد صلى الله عليه وسلم لتؤلف في النهاية هذا الكون المسلم الذي يرفض إنسانه أن يوجد على الأرض بليداً بلا عقل، وكاسداً بلا فعل، ومعطلاً بلا أشواق، وهذا هو حجم التحول الذي قاده هذا الإنسان النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك فترات التاريخ قتامة وجهامة وانطفاء!

[3]
وليس فعل محمد صلى الله عليه وسلم في تحرير الزمان بأقل من فعله في تحرير الإنسان، وإن كنا نلاحظ منذ البدء أن الفصل بين الإنسان والزمان فصل عشوائي وغير مبرر على الإطلاق، إلا أن التقسيم المرحلي لقيمة الفعل البطولي الذي قاده النبي محمد صلى الله عليه وسلم يحتم أن نقف عند كل مرحلة على مشارف لا نتعدى إطارها إلى إطار آخر حتى لا تختلط التخوم والأبعاد.. إن تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للزمان يتوهج في حقيقة أولية توشك أن لا تلمحها البدائِهُ العَجلى، وهي اقتداره العظيم على اقتلاع حركة الزمان بما هو تاريخ من فوضى التدفق العشوائي إلى تحديد الملامح وتجسيد الهويات، بمعنى أن التاريخ الزمني كان إطاراً سائباً لا تجري داخله حركة عقائدية محددة تبدع للإنسان شوطاً يجريه، أو هدفاً يحققه، أو إنجازه يضعه على الأرض.. فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليجعل من هذا التاريخ الزمني إطاراً لحركة تبدأ تخومها من الأرض لتنتهي في السماء، أي أن حجم هذه الحركة العقائدية التي أعطاها محمد صلى الله عليه وسلم للتاريخ الزمني محتوىً ومضموناً، تبدأ بمفردات الوجود الإنساني على الأرض لتتوافق في نهاية الرحلة مع كلية الوجود الإلهي في الأشياء وما قبل الأشياء وما وراء الأشياء!

هذا شيء.. وشيء آخر لا يقل عن ذلك تأصلاً وإشعاعاً.. ذلك هو انتقال محمد صلى الله عليه وسلم بالتاريخ الزمني من شواطئ المواجهة للإنسان إلى شواطئ العناق للإنسان، بمعنى أن التاريخ الزمني كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم عدواً للإنسان يتربص كل واحد منهما بالآخر في محاولة لإجهاض وجوده على الأرض، ولذلك نرى المساحة الكبرى من الإبداع العقلي والفني لإنسان ما قبل التاريخ الإسلامي تغص بقتل الإنسان لزمنه التاريخي في قصف هنا، أو لهوٍ هناك، أو حرب غير مبررة هنالك، ربما لإحساس هذا الإنسان بأن الزمن التاريخي يتربص به، فهو يحاول قتله قبل أن يستطيع هو أن يقتله، وكلاهما قاتل ومقتول في نفس اللحظة وعلى نفس التراب! حتى إذا جاء محمد صلى الله عليه وسلم انتقل بالتاريخ الزمني من شواطئ المواجهة إلى شواطئ المعانقة، وشكل للإنسان حاسة تاريخية ترى في اللحظة الآنية إثراءً طبيعياً للحظة الحاضرة، وفي الآن الماضي تربة طبيعية لتشكيل الآن المستقبل، استطاع الإنسان بعدها أن يفيق على حقيقة أن الزمن هو إطاره الطبيعي، وأن تدمير الإطار يعني على الفور تدمير الذات الساكنة في هذا الإطار، فعزف عن مناوأة تاريخه الزمني، وعقدا معاً ما يشبه الحلف المقدس، فأحس الإنسان المسلم دائماً أن الزمن ثروة ينبغي أن تستغل، وعمر يجب أن يمتلئ، وتاريخ لا بد أن يحتوي أروع ما في الإنسان من طاقات وإبداعات!

وما لنا لا نحاول أن نفهم من المواقيت الزمنية الصارمة للصلاة والصيام والحج والزكاة فوق حكمة مشروعيتها حكمة حلولها في وقت معين وزمن بذاته ربما لتحرك في أعماق الطبيعة الإنسانية قيمة الزمن والإحساس بتاريخية كل الأشياء؟

الحق أن حجم التحول الذي قاده النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم في مجال تحرير الإنسان والزمان حجم يجب أن يظل في مناطق الضوء، لأن به وحده يمكن التعرف على ضخامة العطاء الإنساني والرسالي الذي وهبه لنا هذا النبي الإنسان صلى الله عليه وسلم، الذي حمل في عينيه أحلام مستقبل البشر.

[4]
فإذا انتقلنا إلى تأمل ملامح الحركة الثالثة وهي تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للمكان، لراعنا أن قوة الفعل هنا لا تقل عن روعة الفعل هناك، فإذا تخطينا ملاحظة أن الفصل هنا كذلك بين الإنسان والزمان والمكان فصل مرحلي تحتمه طبيعة التأمل والفهم ولا تحتمه طبائع الأشياء لأن طبائع الأشياء ترفض هذا الفصل ولا تزكيه، إذا تخطينا ذلك كله إلى محاولة تأمل قيمة الفعل الذي أعطاه محمد صلى الله عليه وسلم لتحرير المكان تتميماً لتحرير الإنسان والزمان، لبدهنا على الفور أن علاقة الإنسان هنا بالمكان غير علاقة الإنسان هناك بنفس المكان –بمعنى أن المسرح المكاني الذي جرت عليه أحداث الحياة قبل البعثة المحمدية، ولكن علاقة إنسان الجاهلية بهذا المكان غير علاقة إنسان الحركة الإسلامية بنفس هذا المكان، لأن طبيعة الجدل بين الإنسان وإطاره الطبيعي الذي هو المكان قد وضعت في المنظور الإسلامي على مستوى آخر يرى في الأشياء صديقاً وملهماً ومحراباً، إن الأرض هنا تصبح »مسجداً وطهوراً«.. ويصبح »المكان« قبلة وكعبة ومنسكاً وبيتاً وحقلاً وميداناً وملاعب ذكريات.. وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد حرر جبين الأرض من أن تصبح مجرد صنم أو مجرد مناط لصنم، فإن ذلك يعني أن قد حررها من أن تكون بوضعيتها المكانية غير قادرة على الإلهام والعطاء، لأن صنمية الأشياء تعني رفض تعقل الأشياء، أن أن الصنم يتطلب عقلاً صنماً لا يفكر، لأنه إذا تحرك بالفكر رفض على الفور مقولة أن يخرّ لحجرة الصنم.. فإذا حرر محمد صلى الله عليه وسلم هذا التاريخ الطبيعي الذي نسميه الأرض، أو نسميه المكان من أن يكون صنماً أو مناطاً لصنم، فإن ذلك يعني أن أعطى هذا التاريخ الطبيعي اقتداره الطبيعي على أن يلهم ويحرك ويستثير، بمعنى أن الأرض بهذه الوضعية تصبح مجالاً لتأمل الفكر، وطموح العقل، وجسارة الاستشفاف، وما دام ذلك كذلك، فإن رحلة العروج الإيماني قد تبدأ من نبتة طالعة في الصخر، أو نبع متدفق في الرمال، أو شفق هائم على صدر الأفق، أو مضيق متعرج بين جبلين.. وهنا لا بد أن نفطن إلى نداءات محمد صلى الله عليه وسلم المتواصلة التي كان يعقد فيها صداقة كونية بين مظاهر الطبيعة وإنسان هذه الطبيعة، حتى لنراه يدمع وهو يفارق مكة، ونراه ينحني على الزرع الطالع في تعاطف حميم، ونراه يقبل الحجر الأسود، ونراه يميط الأذى عن الطريق.. إن هذا الفعل الرسولي ليس فعلاً عشوائياً يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار في عفوية ساذجة ولكنه يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار ليشكل هذا التواصل الوجداني بين الكون والإنسان، ربما ليستحيل الإنسان في الكون إلى طاقة متلقية وواهبة تعطي الكون معنى أن كان ومعنى أن يكون، وهذه هي قيمة الفعل في تجاوب النقائض والأضداد!

لا أدري بعد.. هل يمكن أن تغيم مقولة أن محمداً صلى الله عليه وسلم حرر الإنسان والزمان والمكان منذ لحظة وجوده على الأرض فاعلاً وغلاباً؟ أم أن هذه المقولة بعد تأمل كل هذه المفردات يمكن أن تكون كما يكون طلوع الشمس في أعقاب ليل بهيم، حركة كونية لها ثقل الحركة بكل أبعادها الهائلة، ولها جلال الكون بكل أسراره وغوامضه وضوافيه؟

أعرف أن الاختيار الأخير هو الأصوب، وأن ما عداه خرافة يجب أن نهزمها في عقل التاريخ!


مجلة الأمة - العدد 15 - ربيع الأول 1402 هـ

د.فالح العمره
28-09-2006, 04:41 PM
حملة رسالة الإسلام الأولون

وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير

وكيف شَوَّه المغرضون جمال سيرتهم

محب الدين الخطيب


--------------------------------------------------------------------------------

روى الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، (قال عمران بن حصين: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً) "ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن".

وروى البخاري مثله بعده عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث ابن مسعود هذا عند الإمام أحمد أيضاً في مسنده، وفي صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي. وروى مسلم مثله في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

فالهدى كل الهدى، مما لم تر الإنسانية مثله -قبله ولا بعده- هو الذي تلقاه الصحابة عن معلِّم الناس الخير. وكان الصحابة به خيَر أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم بشهادته هُوَ لَهم؛ وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدَّعون خلاف ذلك فهم الكاذبون.

إن الخير كل الخير فيما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الدين كل الدين ما اتبعهم عليه صالحو التابعين، ثم نشأ على آثارهم التابعون لهم بإحسان.

ومن أحطِّ أكاذيب التاريخ زَعْمُ الزاعمين أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضمر العداوة بعضهم لبعض، بل هم كما قال الله سبحانه عنهم في سورة الفتح: (أِشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم) وكما خاطبهم رَبُّنا في سورة الحديد: (وَلِلَّهِ مِيراثُ السماواتِ والأرضِ لا يَسْتَوي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنى) ولا يخلف الله وعده. وهل بعد قول الله عز وجل في سورة آل عمران: (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) يبقى مسلماً من يكذِّب ربَّه في هذا، ثم يكذِّب رسولَه في قوله: “خَيرُ أمَّتي قرني، ثم الذين يلونهم ..”؟!

في صدر هذه الأمة حفظ الله كتابه بحفظته أميناً على أمين، حتى أدوا أمانة ربهم بعناية لم يسبق لها نظير في أمة من الأمم، فلم يفرطوا في شيء من ألفاظ الكتاب على اختلاف الألسنة العربية في تلاوتها ونبرات حروفها، وتنوّع مدودها وإمالاتها، إلى أدق ما يمكن أن يتصوره المتصور، فتم بذلك وعدُ الله عز وجل في سورة الحجر: (إنَّا نحنُ نزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لحافِظون).

ومن صدر هذه الأمة تفرّغ فريق من الصحابة فالتابعين وتلاميذهم لحمل أمانة السنة، فكانوا يمحِّصون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذرعون أقطار الدنيا ليدركوا الذين سمعوها من فم النبي صلى الله عليه وسلم فيتلقوها عنهم كما يتلقون أثمن كنوز الدنيا. بل كانت دار الإمارة في المدينة المنورة منتدى الفقهاء الأولين في صدر الإسلام يجتمعون إلى أميرهم مروان بن الحكم، فإذا عزيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة غير الذي كان معروفاً عندهم أرسل مروان في تحقيق ذلك إلى من نسبت تلك السنة إليه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أزواجه، حتى يرد الحق إلى نصابه.

وبينما كان حفظة القرآن وحملة السنة المحمدية يجاهدون في حفظ أصول الشريعة الكاملة، كان آخرون من أبناء الصحابة وأبطال التابعين يحملون أمانة الإمامة والرعاية والجهاد والفتوح، ويعملون على نقل الأمم إلى الإسلام: يعربون ألسنتهم، ويطهرون نفوسها، ويسلكونها في سلك الأخوة الإسلامية لتتعاون معهم على توحيد الإنسانية تحت راية الهدى، وتوجيهها إلى أهداف السعادة.

وقد بارك الله لهؤلاء وأولئك بأوقاتهم، وأتمَّ على أيديهم في مائة سنة ما يستحيل على غيرهم -من أهل الطرائق والأساليب الأخرى- أن يعملوه في آلاف السنين.

هؤلاء هم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أمته، وقد صح ما أخبر به، فإن الإسلام إنما رأى الخير على أيديهم، فبهم حفظَ اللهُ أصولَه، وبهم هدى الله الأمم. والبلاد التي دخلت في الإسلام على أيديهم نبغ منها في ظل طريقتهم وعلى أساليبهم كبار الأئمة كالإمام البخاري والإمام أبو حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك، فكانت الأمم تقبل على هذه الهداية بشغف وتقدير وإخلاص، لما ترى من إخلاص دعاتها وصدقهم وإيثارهم الآجلة على العاجلة، والأمة التي تولت الدعاية لهذه الهداية تستقبل نوابغ المهتدين بصدر رحب، وتبوىء المستأهلين منهم المكانة التي هم أهلٌ لها.

هكذا كانت الحال في البطون الثلاثة الأولى التي امتدحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفها بأنها خير أمته. أما العصور التي أتت بعدهم فإن المسلمين يتميزون فيها بمقدار اتباعهم للصدر الأول فيما كان عليه من حق وخير. وهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره." رواه أحمد في مسنده و الترمذي في سننه عن أنس، ورواه ابن حبان والإمام أحمد في مسنده أيضاً من حديث عمار، ورواه أبو ليلى في مسنده عن علي بن أبي طالب، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو، كل هؤلاء الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى خير في كل زمان ومكان ما تحرَّت الطريق الذي مشى فيه هداة القرون الثلاثة الأولى وتابعوهم فيه. بل يرجى لمن يقيم الحق في أزماننا كما أقامه الصحابة والتابعون في أزمنتهم أن يبلغوا منزلتهم عند الله ويعدوا في بقيتهم، ولعلهم المعنيون بقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجهدنا معك. فقال صلى الله عليه وسلم: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يَروني." وإسناده حسن، وصححه الحاكم. واحتج الحافظ أبو عمر بن عبد البر بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار في الأرض، وصبرهم على الهدى وتمسكهم به، إلى أن عَمَّ بهم في أرجائها. قال ابن عبد البر: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء."

ومن غربة الإسلام بعد البطون الثلاثة الأولى ظهور مؤلِّفين شوَّهوا التاريخ تقرباً للشيطان أو الحكام؛ فزعموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا إخواناً في الله، ولم يكونوا رحماء بينهم، وإنما كانوا أعداء يلعن بعضهم بعضاً، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، ويتآمر بعضهم على بعض، بغياً وعدواناً. لقد كذبوا. وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامهما ورحمهما وقرابتهما وأوثق صلة وأعظم تعاوناً على الحق والخير.

حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلاً في سجن الإنجليز سنة 1332هـ أن رجلاً من العرب يعرفونه كان يتنقل بين بعض قرى إيران فقتله القرويون لما علموا أن اسمه (عمر)! قلت: وأي بأس يرونه باسم (عمر)؟ قالوا: حباً بأمير المؤمنين علي. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن علياً سمى أبناءه -بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله (أبي بكر) و(عمر) و(عثمان) رضوان الله عليهم جميعاً، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر بن الخطاب ولدت له زيداً ورقية، وبعد مقتل عمر تزوجها ابن عمها محمد بن جعفر بن أبي طالب ومات عنها فتزوجها بعده أخوه عون بن جعفر فماتت عنده. وعبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم (أبي بكر) وسمى ابناً آخر له باسم (معاوية)، ومعاوية هذا -أي ابن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب- سمى أحد بنيه (يزيد). وعمر بن علي بن أبي طالب كان من نسل عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب اشتهر بالمبارك العلوي وكان يكنى (أبا بكر). والحسن السبط بن علي ابن أبي طالب سمى أحد أولاده باسم أمير المؤمنين (عمر) تيمناً وتبركاً. ولِعمر هذا ذرية مباركة منهم العلماء والشرفاء. والحسن السبط كان مصاهراً لطلحة بن عبيد الله، وإن أم إسحاق بنت طلحة هي أم فاطمة بنت الحسين بن علي. وسكينة بنت الحسين السبط كانت زوجاً لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان الأموي. وعقد لها قبله على الأسبغ ابن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كانت زوجة عبد الله الأكبر بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت قبل ذلك زوجة الحسن المثنى، وله منها جدُّنا عبد الله المحض. وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بن أبي طالب كانت زوجة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم تزوجها علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب. وأم كلثوم بنت جعفر ذي الجناحين كانت زوجة للحجاج بن يوسف وتزوجها بعد ذلك أبان بن عثمان بن عفان. والسيدة نفيسة المدفونة في مصر (وهي بنت حسن الأنور بن زيد بن الحسن السبط) كانت زوجة لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وولدت له. وعلي الأكبر ابن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب أمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي وأمها ميمونة بنت أبي سفيان بن حرب الأموي. والحسن المثنى بن الحسن السبط أمه خولة بنت منظور الفزارية وكانت زوجة لمحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلما قتل يوم الجمل -ولها منه أولاد- تزوجها الحسن السبط فولدت له الحسن المثنى. وميمونة بنت أبي سفيان بن حرب جدة علي الأكبر ابن الحسين ابن علي لأمه. ولما توفيت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تزوج علي بعدها أمامة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية.

فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم، ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام، والمحبة في الله، والتعاون علىالبر والتقوى؟

لقد تواتر عن أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أنه كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر". روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجهاً، ورواه البخاري وغيره، ولا يوجد في تاريخ في الدنيا، لا تاريخ الإسكندر المقدوني، ولا تاريخ نابليون، صحت أخباره كصحة هذا القول -من الوجهة العلمية التاريخية- عن علي بن أبي طالب. وكان كرم الله وجهه يقول: "لا أُوتَى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حدَّ المفتري" أي أن هذه الفرية توجب على صاحبها الحدَّ الشرعي، ولهذا كان الشيعة المتقدمون متقفين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): سأل سائل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً. والله لقد رقي هذه الأعواد علي فقال: “ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر” فكيف نردّ قوله؟ وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً. وفي ترجمة يحيى بن يعمر العدواني من (وفيات الأعيان) للقاضي ابن خلكان أن يحيى بن يعمر كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم، وكان شيعياً من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل آل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم. ثم ذكر قصة له مع الحجاج، وإقامته الحجة على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم من آية (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) إلى قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى). قال يحيى بن يعمر: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد صلى الله عليه وسلم فأقرّه الحجاج على ذلك وكبر في نظره وولاه القضاء على خراسان مع علمه بتشيعه. وأنت تعلم أن الحجاج هو ما هو، ومع ذلك فقد كان -مع فاضل متجاهر بشيعيته المعتدلة محتج للحق بالحق- أكثرَ إنصافاً من هؤلاء الكذبة الفجرة الذي جاءوا في زمن السوء، فصاروا كلما تعرضوا لأهل السابقة والخير في الإٍسلام، ومن فُتحت أقطار الأرض على أيديهم، ودخلت الأمم في الإسلام بسعيهم ودعوتهم وبركتهم، وكلهم من أهل خير القرون بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وما منهم إلا من يتصل ببني هاشم وآل البيت بالخؤولة أو الرحم أو المصاهرة؛ وبالرغم من كل ذلك يتعرضون لسيرتهم بالمساءة كذباً وعدواناً، ويرضون لأنفسهم بأن يكونوا أقل إنصافاً وإذعاناً للحق حتى من الحجاج بن يوسف. وإني أخشى عليهم لو أنهم كانوا في مثل مركز الحجاج بن يوسف كانت فيهم مآخذ كل الصالحين عليه، مع التجرد من كل مزاياه وفضائله وفتوحه التي بلغت تحت رايات كبار قواده وصغارهم إلى أقصى أقطار السند، وغشيت جبال الهند وما صاقبها.

وإن خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في نعت صديقه وإمامه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر يوم وفاته من بليغ ما كان يستظهره الناس في الأجيال الماضية. وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته أيضاً وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، وقد علمتَ أنه بعد أخيه وصهره سمّى ولدين من أولاده باسميهما ثم سمى ثالثاً بعثمان لعظيم مكانته عنده، ولأنه كان إمامه ما عاش، ولولا أن عثمان -بعد أن أقام الحجة على الذين ثاروا عليه بتحريض أعداء الله رجال عبد الله بن سبأ اليهودي- منع الصحابة من الدفاع عنه حقناً لدماء المسلمين، وتضييقاً لدائرة الفتنة، ولما يعلمه من بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم به بالشهادة والجنة، لولا كل ذلك لكان علي في مقدمة من في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا كلهم على استعداد للدفاع عنه ولو ماتوا في سبيل ذلك جميعاً. ومع ذلك فإن علياً جعل وليده الحسن والحسين على باب عثمان، وأمرهما بأن يكونا طوع إشارته في كل ما يأمرهما به ولو أدى ذلك إلى سفك دمهما، و أوعز إليهما بأن يخبرا أباهما بكل ما يحب عثمان أن يقوم له به. وكذبٌ على الله وعلى التاريخ كلُّ ما اخترعه الكاذبون مما يخالف ذلك ويناقض وقوف الحسن والحسين في بابه واستعدادهما لطاعته في كل ما يأمر. ولقد كان من عادة سلفنا أن يدوِّنوا أخبار تلك الأزمان منسوبة إلى رواتها، ومن أراد معرفة قيمة كل خبر على طريقة (أنَّى لكَ هذا؟) فرجع إلى ترجمة كل راوٍ في كل سند لتمحَّصت له الأخبار، وعلم أن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وأن الأخبار التي تشوِّه سيرة الصحابة وتُوهِمُ أنهم كانوا صغار النفوس هي التي رواها الكذبة من المجوس الذين تسموا بأسماء المسلمين.

ولعلك تسألني: إذن ما هو أصل التشيع، وهل لم يكن لعلي شيع ة في الصدر الأول؟ وما هي وقعة الجمل، وما الباعث على وقوعها؟ وما هي حقيقة التحكيم؟

إن الجواب على هذه الأسئلة بالأسانيد التي ترتاح إليها قلوب المنصفين مهما اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، يحتاج إلى كتابة تاريخ المسلمين من جديد، وإلى أخذه -عند كتابته- من ينابيعه الصافية، ولا سيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخَرِبَة من ملفِّقي الأخبار. وأعيد هنا ما قلته غير مرة، وهو أن الأمة الإسلامية أغنى أمم الأرض بالمادة السليمة التي تستطيع أن تبني بها كيان تاريخها، إلا أنها لا تزال أقل أهل أمم الأرض عناية ببناء تاريخها من تلك المواد السليمة، والناس الآن بين قارئ لكتب قديمة أراد مؤلفوها أن يتداركوا الأخبار قبل ضياعها فجمعوا فيها كل ما وصلت إليه أيديهم من غثّ وسمين، منبهين على مصادر هذه الأخبار وأسماء رواتها ليكون القارئ على بينة من صحيحها وسقيمها، ولكن لبعد الزمن وجهل أكثر القراء بمراتب هؤلاء الرواة ودرجتهم في الصدق والكذب، وفي الوفاء للحق أو الميل مع الهوى، تراهم لا يستفيدون من هذه المصادر، ولا من الكتب التي اعتمدت عليها بلا تمحيص وتحقيق. وهنالك كتب قديمة أيضاً ولكنها دون هذه الكتب، لأن أصحابها من أهل الهوى، وممن لهم صبغات حزبية يصبغون أخبارهم بألوانها، فهي أعظم ضرراً، ولعلها أوسع من تلك انتشاراً. أما الكتب الحديثة كمؤلفات جرجي زيدان، والبحوث التي يستقيها حملة الأقلام من مؤلفات المستشرقين على غير بصيرة بدسائسهم، فإنها ثالثة الأثافي وعظيمة العظائم، ولذلك باتت هذه الأمة محرومة أغزر ينابيع قوتها وهو الإيمان بعظمة ماضيها، في حين أنها سليلة سلف لم ير التاريخ سيرة أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته.

ومع أن كثيراً من أمهات الكتب النفيسة فُقِدَت في كارثة هولاكو، ثم في الحروب الصليبية واكتساح الأندلس، وما تلا ذلك كله من انحطاط المستوى العلمي في القرون الأخيرة، إلا أن كثيراً من تحقيقات لمحققين لا تزال منبثة في مطاوي الكتب الإسلامية. والأمل عظيم في قيام نهضة جديدة لبعث ماضي هذه الأمة المجيد على ضوء ما تركه علماؤها من نصوص وتوجبهات.

وأعود بعد هذا إلى الأسئلة التي تقدمت آنفاً عن أصل الفتن والتشيع، فقد زعم الزاعمون لعليٍّ -كرم الله وجهه- ما لم يكن له به علم: زعموا أن النبي e عيّنه للخلافة بعده يوم استخلفه على المدينة وهو متجه إلى الشام في غزوة تبوك، وقال له يومئذ: “أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي”. ورجال الحديث مختلفون في درجة هذا الخبر من الصحة، فبعضهم يراه صحيحاً، وبعضهم يراه ضعيفاً، وذهب الإمام أبو الفرج بن الجوزي إلى أنه موضوع مكذوب. ونحن إذا رجعنا إلى الظروف التي قالوا إنها لابست هذا الحديث نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله له أن يتوجّه نحو تبوك- أمر علياً بأن يتخلف في المدينة، وكان رجالها والقادرون على الحرب من الصحابة قد خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد علي في نفسه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "أتجعلني مع الناس والأطفال والضعفة؟” فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفسه: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟” أي في استخلاف موسى أخاه هارونَ لما ذهب إلى الجبل ليعود بالألواح. فهذا الاستخلاف لم يكن في نظر سيدنا علي -كرم الله وجهه- هذا المعنى الوهمي الذي اخترعه المتحزبون فيما بعد، بل هو على عكس ذلك كان يراه حرماناً له من مكانة أعلى وهي مشاركة إخوانه الصحابة في ثواب الجهاد لتكوين الكيان الإسلامي المنشود. زِدْ على ذلك أن هذا النوع من الاستخلاف لم ينفرد به علي كرم الله وجهه، بل تكرر من النبي صلى الله عليه وسلم استخلاف ابن أم مكتوم على المدينة نفسها، وكان ابن أم مكتوم يتولى الإمامة بالناس في المدينة مدة خلافته عليها. وقد ناظر كبارُ الشيعة في هذا الحديث علاَّمةَ العراق السيد عبد الله السويدي عندما جمعه بهم نادر شاه في النجف سنة 1156 هـ فأفحمهم السويدي وخذل باطلهم، كما ترى ذلك فيما دوَّنه رحمه الله بقلمه عن هذه الواقعة وأثبتناه في رسالة طبعناها بعنوان (مؤتمر النجف).

فالإمام علي كرم الله وجهه كان يعلم أن الخلافة الحقة هي التي انضوى فيها إلى إجماع إخوانه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قدَّر الله لها بحكمته ما شاء، وقضي فيها بعدله ما أراد. وما كان لمسلم من عامة المسلمين -فضلاً عن مثل علي في عظيم مكانته في الأولين والآخرين- أن يسخط لقدر الله، أو يتمرد على قضاءه، أو يرضى غير الذي ارتضاه إخوانه من الصحابة، أو يداجي في إجماعه معهم على ما فيه صلاح المسلمين. ومن الافتئات عليه والانتقاص من قدره والتشويه لجمال الإسلام وتاريخه الشكُّ في إخلاص علي أو في اغتباطه بما بايع عليه خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق وصاحبيه من بعده عمرَ وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.

ومن المزايا التي تفرّد بها عليّ وطبقته ممن ولي الخلافة أو دخل في بيعتها في الصدر الأول أنهم كانوا يرون ولاية هذا الأمر واجباً يقوم به الواحد منهم إذا وجب عليه كما يقوم بسائر واجباته، ولا يرونها حقاً لأحدهم يعادي عليه المسلمين، ويعرّض دماءهم للخطر والشر، ليستأثر بها على غيره.

وجميع الوقائع -إذا جرِّدت من زيادات أهل الأهواء- تدل على هذه المكانة السامية لعلي وإخوانه، فلما شُوِّهت الوقائع وأخبارها بما دسَّه فيها المتزيِّدون من أكاذيب لا مصلحة فيها لعلي وآله، كانت بها لعلي وبنيه صورة قبيحة لا تنطبق على الحقيقة والواقع، وظن المخدوعون بها أن تلك الطبقة -الممتازة على جميع أمم الأرض بعفَّتها وطهارة نفوسها وترفُّعِها عن الصغائر- إنما كانت على عكس ذلك: تتنازع كالأطفال والرعاع على توافه الدنيا وسفاسف العاجلة. فالخلافة كانت في نظر الراشدين عِبئاً يتولَّى الواحد منهم حمله بتكليف من المسلمين أداءً للواجب، ولم تكن عند أحد منهم متاعاً ولا مأكلة حتى يتنازع غيره عليها. ولما تآمرت المجوسية واليهودية على سفك دم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وأبقى الله من حياته بقيَّة يدبر فيها للمسلمين أمرهم بعده، جعل الأمر شورى، واقترح عليه بعض الصحابة أن يريح المسلمين من ذلك فيعهد إلى ابنه عبد الله بن عمر -ولم يكن عبد الله بن عمر دون أبيه في علم أو حزم أو بعد نظر أو إخلاص لله ورسوله والمؤمنين- رفض عمر ذلك وقال: "بحسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم؛ فإن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان رزءاً فقد قمنا بنصيبنا فيه." وعبد الله بن عمر نفسه عرضت عليه الإمامة فيمن عرضت عليهم عند مقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35 هـ فهرب منها كما كان يهرب منها طلحة والزبير وعلي، ولم يتولَّها عليٌّ إلا قياماً بواجب، ولم يستمدَّها من خرافات المتحزِّبين وسخافاتهم، بل من إرادة الأمة في ذينك اليومين (الخميس ذي الحجة والجمعة منه) ما أعلن ذلك على رءوس الأشهاد وهو واقف على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعليٌّ إلى تلك الساعة لم تكن له شيعة خاصة به يعرفها وتتصل به، ولم يخطر على باله أن يجعل أحداً من الناس شيعة له، لأنه هو نفسه وسائر إخوانه من الصحابة كانوا شيعة الإسلام الملتفَّة حول خلفاء نبيها صلى الله عليه وسلم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان. ولو حدَّثته نفسه باتخاذ شيعة خاصة به غير جمهور الأمة الذي يتشيع للبيعة العامة لكان ذلك نقضاً منه لما عقد عليه صفقة يمينه لإمامه، وما طُوِّق به عنقه من بيعة الإسلام لأصحابها. ولا شك أنه استمر على ذلك إلى عشية الخميس 24هـ من ذي الحجة سنة 35 للهجرة، وكان أهلاً لأن يستمر على ذلك بأمانة وإخلاص. ولو لم يكن علي كذلك لما كان في هذه المنزلة السامية عند الله والناس. ومن الثابت عنه في عشية ذلك اليوم أنه كان يدافع الخلافة عن نفسه، ويحاول أن يقنع أخاه طلحة بن عبيد الله - أحد العشرة المبشرين بالجنة- بأن يتولى هو هذا الأمر عن المسلمين، بينما طلحة أيضاً كان يدافعها عن نفسه ويحاول إقناع علي بأن يكون هو حاملَ هذا العبء القائمَ على المسلمين بهذا الواجب. وانظر الحوار بينهما في ذلك كما رواه عالم من كبار علماء التابعين وهو الإمام محمد بن سيرين على ما أورده أبو جعفر الطبري في تاريخه: فيقول علي لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك. فيقول له طلحة: أنت أحق، فأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك. وكاد الثائرون من جماعة الفسطاط والكوفة والبصرة يثبون بعلي وطلحة والزبير فيقتلونهم لهربهم من ولاية الأمر وتعففهم جميعاً عن قبول الخلافة، فانتهى الأمر بقبول علي، وارتقى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي (الجمعة 25 من ذي الحجة سنة 35هـ) فخطب خطبة حفظ الطبري لنا نصها، فقال: أيها الناس عن ملأ وأذن، إن هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلا من أمَّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر (أي على البيعة له) فإن شئتم قعدتُ لكم، وإلا فلا أجد على أحد. وبذلك أعلن أنه لا يستمد الخلافة من شيء سبق، بل يستمدها من البيعة إذا ارتضتها الأمة.

ومن مزايا الطبقة الأولى في الإسلام التي صحبت النبي صلى الله عليه وسلم وتأدبت بأدبه وتشبعت بسنته أنها كانت ترى الاعتدال ميزان الدين، والرفق جمال الإسلام؛ لأن نبيها صلى الله عليه وسلم كان يقول لها: إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزِع من شيء إلا شانه. وكان يقول لها: من يحرَم الرفق يحرَم الخير كله. ويقول: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق. ويقول: إياكم والغلوّ في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ فيه. فلما نشأت الطبقة الثانية في حياة الطبقة الأولى أدَّب الآباء بنيهم بهذا الأدب. ولكن أكثر ما كانت هذه الطريقة ناجحة في الحجاز ونجد والشام. وكان في ناشئة الكوفة والبصرة والفسطاط من أخذ بهذه الطريقة، كما أن فيهم من شبَّ على الغلوِّ في الدين. ومن أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسلُّط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لها بالإسلام وادَّعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله، وبدأ يرمي شبكته في الحجاز والشام فلم يعلق بشيء بسبب تشبُّعهم بفطرة الإسلام في اعتداله ورفقه، وحذَرِهم من طرفي الإفراط والتفريط. فذهب الملعون يتنقل بين الكوفة والبصرة والفسطاط ويقول لحديثي السن وقليلي التجربة من شبابها: عجباً لمن يزعم أن عيسى يرجع ويكذِّب بأن محمداً يرجع، وقد قال عز وجل: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وكان يقول لهؤلاء الشبان: كان فيما مضى ألف نبي، ولكل نبي وصي، وإن علياً وصي محمد. ويقول لهم: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. ثم يقول لهم محرضاً على عثمان، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان سنة 30: ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، وممن يثب على عليّ وصيِّ رسول الله وينتزع منه أمر الأمة. ويقول لهم: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهنالك علي وصي رسول الله فانهضوا فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس.

إن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء، وكان يسمى ابن السوداء وكان يبث دعوته بخبث وتدرُّج ودهاء. واستجاب له ناس من مختلف الطبقات، فاتخذ بعضهم دعاة فهموا أغراضه وعوَّلوا على تحقيقها. واستكثر أتباعه بآخرين من البلهاء الصالحين المتشددين في الدين المتنطعين في العبادة ممن يظنون الغلوَّ فضيلة والاعتدال تقصيراً. فلما انتهى ابن سبأ من تربية نفر من الدعاة الذين يحسنون الخداع ويتقنون تزوير الرسائل واختراع الأكاذيب ومخاطبة الناس من ناحية أهوائهم، بث هؤلاء الدعاة في الأمصار -ولا سيما الفسطاط والكوفة والبصرة- وعُني بالتأثير على أبناء الزعماء من قادة القبائل وأعيان المدن الذين اشترك آباؤهم في الجهاد والفتح، فاستجاب له من بلهاء الصالحين وأهل الغلوّ من المتنطعين جماعاتٌ كان على رأسهم في الفسطاط الغافقي بن حرب العكي، وعبد الرحمن بن عديس البَلَوي التُّجيبي الشاعر، وكنانة بن بشر بن عتاب التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وعبد الله بن زيد بن ورقاء الخزاعي، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وعروة بن النباع الليثي، وقتيرة السكوني. وكان على رأس من استغواهم ابنُ سبأ في الكوفة عمرو بن الأصم، وزيد بن صوحان العبدي، والأشتر مالك بن الحارث النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم. ومن البصرة حرقوص بن زهير السعدي، وحُكيم بن جبلة العبدي، وذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح، والحطم بن ضبيعة القيسي، وابن المحرش بن عبد عمرو الحنفي. أما المدينة فلم يندفع في هذا الأمر من أهلها إلا ثلاثة نفر وهم: محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ابن عبد شمس، وعمار بن ياسر. ومن دعاء ابن سبأ ومكره أنه كان يبثُّ في جماعة الفسطاط الدعوة لعلي (وعلي لا يعلم ذلك)، وفي جماعة الكوفة الدعوةَ لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير، وليس هنا موضع تحليل نفسيات المخدوعين بدعوة هذا الشيطان، ولا نريد أن ننقل ذمَّ علي وطلحة والزبير لهم وما قالوه فيهم يوم نزل الثائرون في ذي خُشُب والأعوص وذي المروة، وكيف زوَّر ابنُ سبأ وشياطينه رسالة على لسان علي بدعوة جماعة الفسطاط إلى الثورة في المدينة، فلما واجهوا علياً بذلك قالوا له: أنت الذي كتبتَ إلينا تدعونا، فأنكر عليهم أنه كتب لهم، وكان ينبغي أن يكون ذلك سبباً ليقظتهم ويقظة علي أيضاً إلى أن بين المسلمين شيطاناً يزوِّر عليهم الفساد لخطة مرسومة تنطوي على الشر الدائم والشرر المستطير، وكان ذلك كافياً لإيقاظهم إلى أن هذه اليد الشريرة هي التي زوَّرت الكتاب على عثمان إلى عامله بمصر بدليل إن حامله كان يتراءى لهم متعمِّداً ثم يتظاهر بأنه يتكتم عنهم ليثير ريبتهم فيه، فراح المسلمون إلى يومنا هذا ضحيةَ سلامة قلوبهم في ذلك الحين. إن دراسة هذا الموضوع الآن على ضوء القرائن القليلة التي بقيت لنا بعد مضي ثلاثة عشر قرناً تحتاج إلى من يتفرغ لها من شباب المسلمين، وسيجدون مستندات الحق في تاريخهم كافية لوضع كل شيء في موضعه إن شاء الله.

فأول فتنة وقعت في الإسلام هي فتنة المسلمين بمقتل خليفتهم وصهر نبيهم الإمام العادل الكريم الشهيد ذي النورين عثمان بن عفان رضوان الله عليه. وقد علمتَ أن الذين قاموا بها وجنوا جنايتها فريقان: خادعون ومخدَعون. وقد وقعت هذه الكارثة في شهر الحج، وكان عائشة أم المؤمنين قد خرجت إلى مكة مع حجاج بيت الله ذلك العام، فلما علمت بما حدث في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أحزنها بغي البغاة على خليفة نبيهم. وعلمت أن عثمان كان حريصاً على تضييق دائرة الفتنة، فمنع الصحابة من الدفاع عنه، بعد أن أقام الحجة على الثائرين في كل ما ادعوه عليه وعلى عمَّاله، كان الحق معه في كل ذلك وهم على الباطل، وكان هو المثل الإنساني الأعلى في العدل وكرم النفس والنزول على قواعد الإسلام واتباع سننه، وكان في مدة خلافته أكرم وأصلح وأكثر إنصافاً بالحق واتباعاً للخير مما كان هو عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعت عائشة بكبار الصحابة، وتداولت الرأي معهم فيما ينبغي عمله -وقد عرف القراء ما كانوا عليه من نزاهة، وفرار من الولاية، وترفُّع عن شهوات النفس- فرأوا أن يسيروا مع عائشة إلى العراق ليتفقوا مع أمير المؤمنين علي على الاقتصاص من السبئيين الذي اشتركوا في دم عثمان وأوجب الإسلام عليهم الحد فيه، ولم يكن يخطر على بال عائشة وكل الذين كانوا معها -وفي مقدمتهم طلحة والزبير المشهود لهما من النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة- أنهم سائرون ليحاربوا علياً، ولم يكن يخطر ببال علي أن هؤلاء أعداء له وأنهم حرب عليهم. وكل ما في الأمر أن أولئك المتنطعين الغلاة الذين انخدعوا بدعوة عبد الله ابن سبأ واشتركوا في قتل عثمان انغمروا في جماعة علي، وكان فيهم الذين تلقنوا الدعوة له وتتلمذوا على ذلك الشيطان اليهودي في دسيسة أوصياء الأنبياء ودعوى خاتم الأوصياء، فجاءت عائشة ومن معها للمطالبة بإقامة الحد على الذين اشتركوا في جناية قتل عثمان، وكان علي -وهو ما هو في دينه وخلقه- ليتأخر عن ذلك، إلا أنه كان ينتظر أن يتحاكم إليه أولياء عثمان. وقبل أن يتفق الفريقان على ذلك شعر قتلةُ عثمان بأن الدائرة ستدور عليهم، وهم على يقين بأن علياً لن يحميهم من الحق عند ظهوره، فأنشب هؤلاء حرب الجمل، فكانت الفتنة الثانية بعد الفتنة الأولى. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري معتمداً على كتاب (أخبار البصرة) لعمر بن شبة، وعلى غيره من الوثائق القديمة التي جاء فيها عن ابن بطال قولُ الملهب: ... إن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعَه مِن قَتْلِ قتلة عثمان وترك القصاص منهم. وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتصَّ منه، فاختلفوا بحسب ذلك وخشي من نُسِبَ إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم (أي بين فريقي عائشة وعلي) إلى أن كان ما كان.

ونجح قتلة عثمان في إثارة الفتنة بوقعة الجمل، فترتب عليها نجاتهم وسفك دماء المسلمين من الفريقين، وإنك لتجد الأسماء التي سجلها التاريخ في فتنة عثمان يتردد كثير منها في وقعة الجمل، وفيما بين الجمل وصفِّين، ثم في وقعة صفين وحادثة التحكيم، وفي هذه الحادثة الأخيرة اتسعت دائرة الغلوّ في الدين، فكثر المصابون بوبائه، وتفننوا في مذاهبه، إلى أن انتهى بانشقاق الخوارج عن علي، وتميَّز فريق من المتخلِّفين مع علي باسم الشيعة، ولم يقع نظري على اسم للشيعة في حياة علي كلها إلا في هذا الوقت سنة 37 هـ. ومن الظواهر التي تسترعي الأنظار في تاريخ هذه الفترة أن الغلاة من الفريقين -فريق الشيعة وفريق الخوارج- كانوا سواء في الحرمة للشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، تبعاً لما كان عليه أمير المؤمين علي نفسه، وما كان يعلنه على منبر الكوفة من الثناء عليهما والتنويه بفضلهما. أما الخوارج فإنهم والإباضية ظلوا على ذلك لم يتغيروا أبداً، فأبو بكر وعمر كانا عندهم أفضل الأمة بعد نبيها، استرسالاً منهم فيما كانوا عليه مع علي قبل أن يفارقوه. وأما الشيعة فإنهم عندما جددوا بيعتهم لعلي بعد خروج الخوارج إلى حروراء والنهروان قالوا له أوَّلاً: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت. فشرط لهم -كرم الله وجهه- سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي يوالوا من والى على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعادوا من عادى على سنته صلى الله عليه وسلم، فجاء ربيعة بن أبي شداد الخثعمي -وكان صاحب راية خثعم في جيش علي أيام الجمل وصفين- فقال له علي: بايِع على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال ربيعة: وعلى سنة أبي بكر وعمر. فقال علي: لو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونا على شيء من الحق. أي أن سنة أبي بكر وعمر إنما كانت محمودة ومرغوباً فيها لأنها قائمة على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، فبيعتكم الآن على كتاب الله وسنة رسوله تدخل فيها سنة أبي بكر وعمر.

هكذا كان أمير المؤمنين من أخويه وحبيبيه خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر في حياته كلها، وهكذا كانت شيعته الأولى: من خرج عليه، ومن جدد البيعة له بعد التحكيم.

وحكاية التحكيم هذه كانت مادة دسمة للمغرضين من مجوس هذه الأمة أتاحت لهم دسَّ السموم في تاريخنا على اختلاف العصور، وأول من شمَّر عن ساعديه للعبث بها وتشويه وقائعها أبو مخنف لوط بن يحى، ثم خلف خلْفٌ بعد أبي مخنف بلغوا من الكذب ما جعل أبا مخنف في منزلة الملائكة بالنسبة إلى هؤلاء الأبالسة، وأبو مخنف معروف عند ممحِّصي الأخبار وصيارفة الرجال بأنه أخباريٌّ تالف لا يُوثَق به. نقل الحافظ الذهبي في (ميزان الاعتدال) عن حافظ إيران ورأس المحققين من رجالها الرازي رحمه الله أنه تركه وحذَّر الأمة من أخباره، وأن الدار قطني أعلن ضعفه، وأن ابن معين حكم عليه بأنه ليس بثقة، وأن ابن عدي وصفه بأنه شيعيٌّ محتَرق.

ومن براعة هؤلاء المغرضين في تحريف الوقائع ودس أغراضهم فيها، وتوجيهها بحسب أهوائهم، لا كما وقعت بالفعل، أنهم كانوا يعمدون إل حادثة وقعت بالفعل فيوردون منها ما كان يعرفه الناس، ثم يلصقون بها لصيقاً من الكذب والإفك يوهمون أنه من أصل الخبر ومن جملة عناصره، فيأتي الذين من بعدهم فيجدون الخبر القديم مختصراً فيحكمون عليه بأنه ناقص، ويقولون: من حَفِظَ حُجَّةٌ على من لم يحفظ. ويتناولون الخبر بما لصق به من لصيق مفترى، حتى تكون الرواية الجديدة وما في بطنها من الإثم هي المتداولة بين الناس. وقد يعمد هؤلاء المغرضون إلى موهبة من مواهب النبوغ عرف بها أحد أبطال التاريخ الإسلامي وعظماء الدعاة الفاتحين، ولم يعرف عنه استعمالها إلا في سبيل الحق والخير، فيطلعون على الناس بأكاذيب يرتبونها على تلك الموهبة، ويوهمون أن رجل الحق والخير الذي حلاَّه الله بتلك الموهبة ولم يستعملها إلا في نشر دين الله وتوسيع نطاق الوطن الإسلامي، قد انقلب بزعمهم مع الزمن، وسخَّر نبوغه للباطل والشر؛ فإذا أخذ المحققون في تمحيص ذلك، وتحرِّي مصادر هذه التهم التي لا تلتئم مع ما تقدمها من سيرة ذلك البطل المجاهد، وجدوها من بضاعة الكذَّابين ومفترياتهم، ولكن قلَّما يُجدي ذلك بعد أن يكون (قد قيل ما قيل إن صِدقاً وإن كَذباً).

هذا أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي بطل أجنادين، وفاتح مصر، وأول حاكم ألغى نظام الطبقات فيها، وكان السبب الأول في عروبتها وإسلام أهلها، وشريك مسلميها في حسناتهم من زمنه إلى الآن لأنه الساعي في دخولهم في الإسلام - هذه الرجل العظيم عرفه التاريخ بالدهاء ونضوج العقل وسرعة البادرة، وكان نضوج عقله سبب انصرافه عن الشرك ترجيحاً لجانب الحق واختياراً لما دلَّه عليه دهاؤه من سبيل الخير، فجاء مزيِّفو الأخبار من مجوس هذه الأمة وضحاياهم من البلهاء فاستغلُّوا ما اشتُهر به عمرو من الدهاء استغلالاً تقرُّ به عين عبد الله بن سبأ في طبقات الجحيم.

يقول قاضي قضاة أشبيلية بالأندلس الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري (المولود في أشبيلية سنة 468 والمتوفَّى بالمغرب سنة 543) في كتابه (العواصم من القواصم) ص177 بعد أن ذكر ما شاع بين الناس في مسألة تحكيم عمرو وأبي موسى، وما زعموه من أن أبا موسى كان أبله وأن عمْراً كان محتالاً: هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع. وإنما الذي روى الأئمة الأثبات أنهما -يعني عمراً وأبا موسى- لما اجتمعا للنظر في الأمر، في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر، عزَل عمروٌ معاوية. ذكر الدار قطني بسنده عن حضين بن المنذر أنه لما عزل عمرو معاويةَ جاء (أي حضين) ضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا (يعني عمرو بن العاص) كذا وكذا (يعني اتفاقه مع أبي موسى على عزل الأميرين المتنازعين لحقن دماء المسلمين وردَّاً للأمر إليهم يختارون من يكون به صلاح أمرهم). فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه. قال حضين: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولقد قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يُسْتَعَنْ بكما ففيكما معونة، وإن يُسْتَغْنَ عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. فقال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه. فأتيته (أي أن حضيناً أتى معاوية) فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. أي أن الذي بلغ معاوية من أن عمراً وأبا موسى عزلاه هو كما بلغه، وأنهما رأيا أن يرجع في الاختيار من جديد إلى النفر الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. ثم ذكر القاضي أبو بكر بن العربي بقية خبر الدارقطني عن إرسال معاوية رسولاً -وهو أبو الأعور الذكواني- إلى عمرو بن العاص يعاتبه، وأن عمراً أتى معاوية وجرى بينهما حوار وعتاب، فقال عمرو لمعاوية: إن الضجور قد يحتلب العلبة. وهو مثل معناه أن الناقة الضجور التي لا تسكن للحالب قد ينال الحالب من لبنها ما يملأ العلبة. فقال له معاوية: وتربذ الحالب فتدق عنقه وتكفأ إناءه.

فرواية الدار قطني هذه -وهو من أعلام الحديث- عن رجال عدول معروفين بالتثبت، ويقدرون مسئولية النقل، هي التي تتناسب مع ماضي عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وموضعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجربين. وأما الافتئات على أبي موسى والإيهام بأنه كان أبله فهو أشبه بالرقعة الغريبة في ردائه السابغ الجميل. يقول القاضي أبو بكر بن العربي (ص174): وكان أبو موسى رجلاً تقياً ثقفاً فقيهاً عالماً أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ، وقدَّمه عمر بن الخطاب وأثنى عليه بالفهم. وزعمت الطائفة التاريخية أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول. ثم ردَّ هذه الأكاذيب وأحال في تفصيل الرد على كتاب له اسمه سراج المريدين.

وبعد فإن صحائف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهراً. وما نتمناه من تمحيص التاريخ أول ما يشترط له فيمن يتولاه أن يكون سليم الطوية لأهل الحق والخير، عارفاً بهم كما لو كان معاصراً لهم، بارعاً في التمييز بين حملة الأخبار: من عاش منهم بالكذب والدس والهوى، ومن كان منهم يدين لله بالصدق والأمانة والتحرز عن تشويه صحائف المجاهدين الفاتحين الذي لولاهم لكنا نحن وأهل أوطاننا جميعاً لا نزال كفرة ضالين.

د.فالح العمره
28-09-2006, 04:45 PM
درسان حيويان مقتبسان من قادة النبي صلى الله عليه وسلم

لحاضر المسلمين ومستقبلهم

بقلم اللواء الركن

محمود شيث خطاب


--------------------------------------------------------------------------------

(1) الغزوات والسرايا

التفرغ للعلم نعمة عظيمة من نعم الله، يقصر الحمد والشكر عن الوفاء بحقها لله، وعلى المر ء الذي يقدر مثل هذه النعمة العظيمة أن يحمد الله عز وجل عليها بالأعمال لا بالأقوال.

وشغلت نفسي في تفرغي الكامل بدراسة (قادة النبي صلى الله عليه وسلم) الذين قادوا السرايا في حياته المباركة، فاكتشفتُ درسين حيويين من مصائر أولئك القادة، لم أكن أعرفهما من قبل، ولم أقرأ عنهما شيئاً، فأحببت أن أشارك القراء نشوة هذا الاكتشاف.

كان النبي صلى الله عليه وسلم هو قائد المسلمين في الغزوات، وهي ثماني وعشرون غزوة، نشب القتال في تسع غزوات منها، وحققت تسع عشرة غزوة من غزواته عليه الصلاة والسلام أهدافها دون قتال.

واستغرق جهاد النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته كافة سبع سنين بعد الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فقد خرج إلى غزوة ودّان وهي أول غزوة قادها النبي صلى الله عليه وسلم في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة، وكانت غزوة تبوك وهي آخر غزواته عليه الصلاة والسلام في رجب من السنة التاسعة الهجرية.

ولكن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على الغزوات فحسب، بل شمل الغزوات والسرايا أيضاً، والفرق بين الغزوة والسرية، أن الغزوة تكون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم، أما السرية فتكون بقيادة أحد الصحابة عليهم جميعاً رضوان الله.

وكان عدد سرايا النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً وأربعين سرية، وفي رواية أنه بعث عدداً أكثر من السرايا، والأول أصح.

وقد استغرق بعث هذه السرايا تسع سنين، ابتداءً من سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه التي بعثها إلى (العيص) في شهر رمضان من السنة الأولى الهجرية، وانتهاء بسرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه التي بعثها إلى بلاد (مذحج) في اليمن في شهر رمضان من السنة العاشرة الهجرية.

وكان من ثمرات جهاد سبع سنوات في الغزوات، وتسع سنوات في السرايا، توحيد شبه الجزيرة العربية لأول مرة في التاريخ تحت لواء الإسلام، بقيادة أبنائها من العرب المسلمين، وتطهيرها من الأجنبي الدخيل، وتحطيم الأصنام والأوثان في أرجائها، وهي آلهة العرب قبل الإسلام، بعد أن أصبح العرب يعبدون إلهاً واحداً لا شريك له، بفضل الإسلام دين التوحيد والوحدة، ودين الله الذي ارتضاه للناس كافة.

وكان عدد قادة سرايا النبي صلى الله عليه وسلم سبعاً وثلاثين قائداً، بإضافة عبد الله بن جبير الأوسي الأنصاري الذي كان قائد الرماة في غزوة (أحد) إلى قادة سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، إكباراً لمزاياه القيادية، وتقديراً لسجاياه البطولية، وليكن أسوة حسنة لكل قائد وجندي من قادة العرب والمسلمين وجنودهم في مزاياه وسجاياه، فيصبح تعداد القادة ثمانية وثلاثين قائداً.

وليس عبد الله بن جبير رضي الله عنه من قادة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنه ليس أقل منهم كفاية واقتداراً، وقدراً وجلالاً.

لقد كانت ثمرات الجهاد في الغزوات والسرايا ثمرات يانعة حقاً، وكانت لقيادة النبي صلى الله عليه وسلم الفذة آثار حاسمة في نتائج غزواته وسراياه: بصورة مباشرة في غزواته لأنها بقيادته المباشرة، وبصورة غير مباشرة في سراياه لأنها بقيادة مَن أحسن اختيارهم.

واختيار النبي صلى الله عليه وسلم لقادة سراياه: في أسلوب اختياره الذي يضع الرجل المناسب بالمكان المناسب، وفي حرصه على الالتزام بشروط القيادة المتميزة في الاختيار لفائدة الإسلام والمسلمين، درس ينبغي أن نتعلمه حكاماً ومحكومين، إذا أردنا أن ننتصر في الحرب ونتفوق في السلام، فقد عزّ النصر على العرب والمسلمين وعزّ النجاح، وأصبحوا أهل الهزائم والإخفاق.

وربما نعود إلى تفصيل هذا الدرس الحيوي في موعد قريب بإذن الله، فهو الدرس الحيوي الذي ينبغي أن نتعلمه من النبي صلى الله عليه وسلم: درس اختيار القادة. أما اليوم، فسأقتصر على درسين حيويين نتعلمهما من قادته عليهم رضوان الله.

مصائر قادة النبي صلى الله عليه وسلم..

والدليل القاطع على تمتع قادة النبي صلى الله عليه وسلم بالكفاية القيادية العالية، هو ما أحرزوه من انتصارات باهرة على أعداء الإسلام والمسلمين، المتفوقين عليهم عدداً وعُدداً في كل معركة خاضوها دون استثناء.

الشجاعة..

والشجاعة الفائقة هي إحدى مزايا الواجب توفرها في الكفاية القيادية، وكانت الشجاعة الفائقة هي القاسم المشترك بين مزايا قادة النبي صلى الله عليه وسلم كافة.

والدليل القاطع على الشجاعة الفائقة لقادة النبي صلى الله عليه وسلم، أن اثنين وعشرين قائداً منهم قضى شهيداً، وخمسة عشر قائداً منهم مات على فراشه، أي أن ستين بالمائة من القادة استشهدوا، وأربعين بالمائة منهم ماتوا خارج ميدان القتال.

ولا أعرف نسبة عالية من الشهداء في القادة كنسبة الشهداء في قادة النبي صلى الله عليه وسلم في تاريخ الحروب القديمة والحديثة، فالخسائر في القادة (اعتيادياً) أقل بكثير من الخسائر في غير القادة من الجنود وضباط الصف والضباط، وقد لا تكوّن واحداً بالمائة في أحسن الأحوال وفي أعلى تقدير.

والقول بأن هذه النسبة العالية في الشهداء بين قادة النبي صلى الله عليه وسلم سببها شجاعتهم الفائقة والإيمان العميق، وليس كالإيمان العميق حافز من حوافز الإقدام والاستقتال في طلب الشهادة، تخلصاً من الحياة المؤقتة للأحياء إلى الحياة الدائمة للشهداء..

ونسبة الشهداء من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم قادة وجنوداً، ثمانون بالمائة كما فصلنا ذلك في بحث »الإسلام والحرب الإجماعية«، فقد استشهد أربعة من الصحابة من كل حمسة عليهم رضوان الله، لأن إيمانهم العميق الذي كان أعلى نسبة ممن جاء بعدهم، هو الذي حقق لهم أمنياتهم في الاستشهاد، إذ كان كل واحد منهم يتمنى أن يستشهد قبل أخيه.

والمبدأ الذي جاء به الإسلام في اختصاص الشهداء بالحياة الباقية مبدأ لا مثيل له في تعاليم القتال التي جاءت بها الأديان السماوية الأخرى وتعاليم القتال في المذاهب الوضعية البائدة والسائدة: (ولا تحسبنّ الذين قتِلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياء عندَ ربّهم يرزَقون) [آل عمران: 169].

ولا تجد مثل هذا المبدأ القتالي: مبدأ الحياة الباقية للشهيد، في أية عقيدة قتالية قديمة أو حديثة، إلا في العقيدة العسكرية الإسلامية، ولكن ياليت قومي يعلمون.

كما أن ارتفاع نسبة الشهداء في قادة النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على طلبهم للشهادة وحرصهم على الاستشهاد، فكانت الشهادة من أغلى أماني المجاهدين الصادقين، وقادة النبي صلى الله عليه وسلم منهم بدون شك.

القيادة من الأمام..

وارتفاع نسبة الشهداء في قادة النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على أنهم كانوا يقودون رجالهم من الأمام، يقولون لهم: اتبعونا! ويضربون لرجالهم أروع الأمثال في الشجاعة والبسالة، وأنهم كانوا يستأثرون دون رجالهم بمواطن الخطر، ويؤثرونهم بمواطن الأمن، وهكذا يكون القادة الذين يحوزون على ثقة رجالهم عن جدارة واستحقاق.

وارتفاع نسبة الشهداء في قادة النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على أن أولئك القادة لا يقودون رجالهم من الخلف، يقولون لرجالهم: تقدموا! ثم يبقون قابعين في مواقع أمينة في الخلف، كما يفعل القادة الذين يؤثرون مصالحهم الذاتية على مصالح رجالهم ومصلحة أمتهم العليا.

لقد كان شعارهم في الجهاد: (قل: هل تربصونَ بها إلا إحدى الحُسنيين) [التوبة: 52] النصر أو الشهادة.

ذلك هو الدرس الأول الذي يبرز من دراسة السير التفصيلية لقادة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو:

أن نسبة الشهداء منهم كانت ستين بالمائة، وهي أعلى نسبة لاستشهاد القادة في تاريخ الحرب القديم والحديث وفي تاريخ البشرية من مختلف الأمم والألوان والأجناس في مختلف الحروب قديماً وحديثاً، وهذا برهان ساطع على صدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم: »خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم.. « الحديث الشريف [رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد..]، وهو برهان من الناحية العسكرية خاصة، وبإمكان كل مختص في علم من العلوم أن يدلل حسب اختصاصه على صدق هذا الحديث الشريف.

فلا يسأل متسائل: كيف انتصر النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه القليلين على أعدائه الكثيرين؟ وكيف استطاع أن يوحّد شبه الجزيرة العربية لأول مرة في التاريخ تحت ظل التوحيد خلال تسع سنين؟

ولكن الدرس الثاني الذي نتعلمه من قادة النبي صلى الله عليه وسلم هو أعجب من الدرس الأول وأغرب، وهو أن قادة النبي صلى الله عليه وسلم المتميزين بالشجاعة الفائقة استُشهدوا بآجالهم في ساحات الجهاد، والقادة المتميزين بالشجاعة النادرة منهم ماتوا بآجالهم في بيوتهم على فراشهم!

وبتعبير آخر، إن القادة الشجعان استشهدوا، والقادة الذين هم أكثر شجاعة ماتوا على فراشهم، وتفصيل هذا الدرس في الحديث الآتي بإذن الله.

ومن حقي ومن حق كل مسلم أن يسأل المبهورين بالعسكرية الغربية الحديثة أو بالعسكرية الشرقية الحديثة، أو بالعسكرية الغرابية التي هي مزيج من العسكرية الشرقية والعسكرية الغربية: ما نسبة الذين قتِلوا من القادة الغربيين أو الشرقيين في الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) وما بعدهما من حروب موضعية؟

أعلى نسبة من قتلى القادة لم تبلغ واحد بالمائة في العسكرية الغربية والعسكرية الشرقية والعسكرية الغرابية!

فلماذا نستبدل العسكرية الشرقية أو الغربية أو الغرابية بالعسكرية الإسلامية؟ ولمصلحة مَن ينبهر بها العرب والمسلمون؟ ولماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟

لقد قادت العقيدة العسكرية الإسلامية النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى النصر، وإلى توحيد الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام خلال تسع سنين فقط من عمر الزمان.

وقادت الخلفاء الراشدين الهادين المهديين من بعده على عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، والصدر الأول من عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقادت قادة الفتح الإسلامي وجنوده إلى فتح العراق وبلاد الشام ومصر وليبيا وبلاد فارس وخراسان، وتوحيد هذه البلاد الشاسعة تحت لواء الإسلام خلال أقل من عشرين سنة.

فلمّا تخلى العرب والمسلون عن العقيدة الإسلامية، وطبقوا العسكرية الغربية أو الشرقية أو الغرابية، قادتهم هذه العقائد الدخيلة إلى الهزائم المنكرة، وخسروا حتى بلادهم، وقادتهم تلك العقائد العسكرية الأجنبية إلى الذل والهوان.

ولعل ما حدث في بيروت من قِبل العدو الصهيوني، هو قمة ما بلغه العرب والمسلمون من ذل وهوان، دون أن تقودهم العقائد العسكرية الدخيلة إلى الوحدة أو إلى النصر.

فمتى تعرف هذه الحقائق الناصعة، ومتى نعود إلى الإسلام من جديد، فقد انتصرنا بالإسلام، ولن ننتصر بغيره على أعدائنا، وواقعنا المرير أوضح دليل؟

*قادة السرايا سبعة وثلاثون قائداً، ومع عبد الله بن جبير قائد الرماة في غزوة أحد، أصبح مجموعهم ثمانية وثلاثين قائداً.

\

مجلة الأمة، العدد 37، محرم 1404 هـ

د.فالح العمره
28-09-2006, 05:02 PM
نسخة مصورة عن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى رضي الله عنه. اقرأ نصها أسفل الصورة.


http://www.fustat.com/image3/munzir_ibn_sawa.jpg
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، ومن يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن ينصح لهم فقد نصح لي، وإنّ رسلي قد أثنوا عليك خيراً، وإني قد شفعتُكَ في قومكَ، فاتركْ للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوتُ عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح، فلن نعزلكَ عن عملك، ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية.

النص منقول من كتاب: إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لمحمد بن طولون الدمشقي ص59-60 طبعة مؤسسة الرسالة 1407 هـ. والرسالة وردت بصيغ مختلفة يسيراً في روايات أخرى.

د.فالح العمره
28-09-2006, 05:08 PM
الهجرة النبوية

معناها وأهدافها

بقلم الأستاذ: نبيه عبد ربه


--------------------------------------------------------------------------------

يعتبر حادث الهجرة فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، هما المرحلة المكية والمرحلة المدنية، ولقد كان لهذه الحادث آثار جليلة على المسلمين، ليس فقط في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن آثاره الخيرة قد امتدت لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثاره شملت الإنسانية أيضاً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، ولا زالت تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته.

فسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تحد آثارها بحدود الزمان والمكان، وخاصة أنها سيرة القدوة الحسنة والقيادة الراشدة قيادة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وما نتج عن هذه الهجرة من أحكام ليست منسوخة ولكنها تصلح للتطبيق في كل زمان ومكان ما دام حال المسلمين مشابهاً للحال التي كانت عليها حالهم أيام الهجرة إلى يثرب.

وعلى هذا فإن من معاني الهجرة يمكن أن يأخذ بها المسلمون في زماننا هذا، بل إن الأخذ بها ضرورة حياتية، لأن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال، إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة، ومن حالة الجمود إلى الحركة.

فالهجرة تعني لغة ترك شي إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال، أو من بلد إلى بلد، يقول تعالى: »والرجزَ فاهجرْ« (المزمل 5)، وقال أيضاً: »واهجرهم هجراً جميلاً« (المزمل 10)، وتعني بمعناها الاصطلاحي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وهذه هي الهجرة المادية، أما الهجرة الشعورية فتعني الانتقال بالنفسية الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة أخرى بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى كالانتقال من حالة التفرقة إلى حالة الوحدة، أو تعتبر مكملة لها كالانتقال بالدعوة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.

فالهجرة المادية من بلد لا يحكم بالإسلام إلى بلد تحكمه شريعة القرآن ليست منسوخة، بل هي واجبة على جميع المسلمين إذا خشوا أن يفتنهم الذين كفروا في دينهم وعقيدتهم، لأن هدف المسلم في الحياة أن يعيش في مجتمع يساعده على طاعة الله والالتزام بأوامره وأحكامه، أو على الأقل لا يحارب بعقيدته، لأن الفتنة في الدين هي الفتنة الكبرى، فالله تبارك وتعالى يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولكن لا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، أو كمال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتتم هجرة المسلم من بلد إلى آخر لعدة أهداف:

- فقد يهاجر المسلم فراراً بدينه وعقيدته، حتى لا يرده الحكام الكافرون إلى الكفر، كما فعل بعض مسلمي الجمهوريات الإسلامية حينما هاجروا من بلادهم فراراً من الشيوعية الملحدة. يقول تعالى: »يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون« (العنكبوت 56)، ويقول صلى الله عليه وسلم: »من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبراً منها وجبت له الجنة وكان رفيقاً لأبيه إبراهيم.«

- وقد يهاجر المسلم فراراً من ظلم اجتماعي أو اقتصادي لحق به وخشي إن لم يهاجر أن يمتد ذلك الظلم إلى دينه، يقول تعالى: »والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون« (النحل 41) وقال تعالى: »ومن يهاجر في سبيل الله يجدْ في الأرض مراغماً كثيراً وسعة، ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموتُ فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً« (النساء 100).

وروى الإمام أحمد عن أبي يحيى مولى الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »البلاد بلادُ الله والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيراً فأقم.« وقد توعد القرآن الكريم المسلمين الذين لم يهاجروا إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما توعد الأعراب الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة حرصاً على أموالهم وديارهم، فقال تعالى: »إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً« (النساء 98). وكانت نتيجة ذلك أن بعض هؤلاء فتن في دينه واضطر إلى إظهار التقية، ولكن هذه التقية كانت جائزة يوم أن لم تكن للإسلام دولة، أما بعد أن هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأقام فيها دولة الإسلام، فلم يعد لهؤلاء عذر، بل وجبت عليهم الهجرة، ولهذا نجد القرآن الكريم لا يفرض علىالمسلمين ولاية هؤلاء، لأنهم ليسوا أعضاء في المجتمع الإسلامي، وإذا كانت تربطهم بالمسلمين رابطة العقيدة، فإن نصرتهم تكون بناء على طلب منهم، يقول تعالى: »والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق« (الأنفال 72).

ويتحتم على المسلم أن يهاجر من أرض الشرك إلى أرض الإسلام حينما تقوم الدولة الإسلامية ويتكون المجتمع الإسلامي، والهجرة هنا حسب مقتضيات الحال، إذ أن الهدف هنا تدعيم الدولة الإسلامية الجديدة بقوى بشرية وتقنية وعلمية، ولكن تقدير هذا كله متروك لقادة هذه الدولة، لأن الهجرة العشوائية قد تترك آثاراً سلبية على هذه الدولة فتصبح عقبة في طريق قوتها وانطلاقها.

أما الهجرة الشعورية، فتعني اصطلاحاً انكار ومعاداة كل ما لا يرضي الله أو يخالف شريعة الله، ويظهر المسلم هذا العداء بكل الوسائل الممكنة، بالجوارح أو باللسان أو بالقلب، ويعمل على تغييرها بكل الامكانات المتاحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: »من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان.« وأساس هذه الهجرة النية، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: »إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه«. ومن هذا نرى الشارع الحكيم قد حدد نوعين من الهجرة لا ثالث لهما: هجرة إلى الله، وهجرة لغير الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: »الهجرة خصلتان، إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرة أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة.«

إذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة الشعورية واجبة على كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة. ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم: »قد مضت الهجرةُ بأهلها« قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »على الإسلام والجهاد والخير«. ويقول صلى الله عليه وسلم: »لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها«. أما قوله صلى الله عليه وسلم: »لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية« فالمراد بها هنا أن لا هجرة واجبة بعد الفتح، وقد زاد مسلم »وإذا استنفرتم فانفروا«.

والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحل اله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: »وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون« (الذاريات 56)، وهل العبادة إلا طاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟ ولهذا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: »المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه«. (رواه البخاري) وفي رواية (ابن حبان): »المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده«.

والمعنى الذي حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية، فتقيمها على أسس قويمة، أسس تقوم على أساس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية، ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية المعذبة إلى شاطئ الأمان والاطمئنان. فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية منها والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد، ولهذا أكد الحديث على (كف اللسان واليد) إذ أنهما الأعضاء التي تصدر عنها المفاسد القولية والفعلية، وإذا كانت هذه الأعضاء سلاحاً ذا حديثن يمكن أن يصدر عنها الخير كما يمكن أن يصدر عنها الشر، فإن إمكانية صدور الشر عنها أرجح من صدور الخير، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: »من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت« (متفق عليه).

واللسان اسم العضو الذي يصدر عنه الكلام، وعبر الحديث باللسان عن الكلام ليندرج تحته كل أنواع الكلام، وقدم الحديث اللسان على اليد لأن الإيذاء باللسان أسهل وأشد تأثيراً على النفس من الإيذاء باليد. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: »اهجُ المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبال«. ورحم الله من قال:

جراحاتُ السنانِ لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسانُ

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللهُ تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه« (رواه مالك والترمذي).

واليد اسم العضو الذي تصدر عنه الأفعال، حسية كانت أم معنوية، فالحسية: كالضرب والسرقة والكتابة والاشارة. والمعنوية: كأكل مال الناس بالباطل، والاستيلاء على حقوق الآخرين بغير حق، واليد مظهر السلطة الفعلية، ففيها يحدث الأخذ والمنع، والبطش والقهر، فإذا أضفنا إلى هذين العضوين عضواً ثالثاً هو (الفرج) نجد أن الإسلام أقام الحياة الإنسانية على دعائم قوية من تقوى الله والخلق الحسن والأمان والاطمئنان. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: »تقوى الله وحسن الخلق«. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: »الفم والفرج« (رواه الترمذي وابن حبان والبيهقي).

وكان الهدف من الهجرة هدفاً عظيماً، وهو الانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، والمؤرخون يقسمون سيرة الدعوة الإسلامية إلى مرحلتين متميزتين: العهد المكي الذي يمثل مرحلة الدعوة، والعهد المدني الذي مثل مرحلة الدولة. ولكنني أرى أن بين هاتين المرحلتين مرحلة انتقالية تمثل مرحلة الثورة، لأنها نقلت الدعوة الإسلامية نقلة هائلة سريعة من مؤحلة كان هدفها تربية الفرد المسلم إلى مرحلة أصبح هدفها تكوين المجتمع المسلم. ومن دعوة كانت مجرد عقيدة وفكرة إلى دعوة أصبحت شريعة ودولة، ومن حركة محدودة الآثار إلى حركة عالمية الأهداف، ومن دعوةأتباعها قلة مستضعفون إلى دعوة أتباعها سادة فاتحون. ولهذا كانت الهجرة ثورة عقائدية، بكل ما تحمله هذه العبارة من معان إيجابية، لأنها غيرت أحوال المسلمين تغييراً جذرياً، فنقلتهم من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الانحصار إلى الانتشار، ومن الاندحار إلى الانتصار، ولم تقف آثارها عند هذا الحد بل كانت ثورة على كل ما يخالف شريعة السماء وفطرة الإنسان السليمة، فشملت آثارها النواحي العقائدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

لقد كان هدف المصطفى صلى الله عليه وسلم من هجرته إلى المدينة إيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولقد كانت هذا الهدف أملاً يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مرة لأصحابه: »رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب ظني إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب«.

كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة، لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود ويذلل في طريقها الكثير من الصعاب، والمجال الخصب الذي تتحقق فيه الأهداف، والمنطلق الذي تنطلق من الطاقات، ولهذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث (مصعب بن عمير) إلى المدينة ليعلم الأنصار الإسلام وينشر دعوة الله فيها. ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة حثّ أصحابه إلى الهجرة إليها وقال لهم: »هاجروا إلى يثرب فقد جعل الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها«.

كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة، فقد كان وضعاً أن يكون الرسول القائد في مكة، والأنصار والمهاجرون في المدينة، ولهذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بين ظهراني أتباعه، لأن الجماعة بدون قائد كالجسد بلا رأس، ولأن تحقيق أهداف الإسلام الكبرى لا يتم إلا بوجود جماعة مؤمنة منظمة، تغذ السير إلى أهدافها بخطى وئيدة.

فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرة إلى الله ورسوله: هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، باتباع سنته، والاقتداء بسيرته، فإن فعلوا ذلك فقد بدأوا السسير في الطريق الصحيح، وبدأوا يأخذون بأسباب النصر، وما النصر إلى من عند الله.

ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً.


مجلة الأمة، العدد الأول، محرم 1401 هـ

أغراب
28-09-2006, 05:59 PM
أحسنت يابو بدر والله لا يهينك...

فزاع
28-09-2006, 06:17 PM
جزاك الله الف خير أخي ابو بدر
دراسة وبحث رائع وممتع الله يجعل
ما أوردت في موازين اعمالك يوم الحشر.

د.فالح العمره
28-09-2006, 08:05 PM
اغراب

فزاع

مرحبابكم وعسى الله ينفع بما نكتب

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:45 PM
تاريخ مولده صلى الله عليه وسلم
ولد صلوات الله وسلامه عليه صباح يوم الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول الموافق 20-4-571 م حسبما حققه العالم الفلكي محمود باشا .. وقد ولد عليه السلام بشعب بني هاشم بمكة المكرمة ..
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث غيلان عن أبي قتادة : أن أعرابياً قال : يا رسول الله، ما تقول في صوم يوم الإثنين؟ فقال : (ذاك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه).
وعن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، واستنبئ يوم الإثنين وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الإثنين وقدم المدينة يوم الإثنين وتوفي يوم الإثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الإثنين..
وعن كريب عن ابن عباس قال : ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين وتوفي يوم الإثنين .. وهكذا روى من غير هذا الوجه عن ابن عباس: أنه ولد يوم الإثنين .. وهذا ما لا خلاف فيه أنه ولد صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين على أن ذلك كان في شهر ربيع الأول لثمان وقيل: لعشر وقيل : لاثنتي عشرة وخلت منه نص عليه ابن إسحاق ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الإثنين الثامن عشر من شهر ربيع الأول وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء وفيه هاجر وفيه مات وهذا هو المشهور عند الجمهور.
والصحيح عن ابن حزم الأول: أنه لثمان مضت منه كما نقله الحميدي وهو أثبت. ذكر السهيلي : أن مولده عليه الصلاة والسلام كان في العشرين من نيسان (إبريل) من عام الفيل.
قال ابن إسحاق: وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل وهذا هو المشهور عن الجمهور ..
قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: وهو الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا أنه عليه الصلاة والسلام ولد عام الفيل وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل.
وقد رواه البهيقي من حديث أبي إسحاق حدثني المطلب بن عبدالله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، كنا لدين (خصمين) قال: وسأل عثمان رضي الله عنه قباث ابن أشيم أخا بني يعمر بن ليث: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد رواه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق.
وقال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عكاظ ابن عشرين سنة.
وقال ابن إسحاق: كان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة، وكان بناء الكعبة بعد الفجار بخمس عشرة سنة والمبعث بعد بنائها بخمس سنين.
وقال محمد بن جبير بن مطعم: كان عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وبناء الكعبة بعد عكاظ بعشر سنين، والمبعث بعد بنائها بخمس عشرة سنة.
وروى الحافظ البهيقي من حديث عبدالعزيز بن أبي ثابت المديني حدثنا الزبير بن موسى عن أبي الحويرث قال: سمعت عبدالملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني ثم الليثي: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن.
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة.
وقال يعقوب بن سفيان حدثنا يحيى بن عبدالله بن بكير حدثنا نعيم - يعني ابن ميسرة عن بعضهم عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا لدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت عام الفيل.
قال البيهقي وقد روىعن سويد بن غفلة أنه قال: أنا أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين.
قال يعقوب: وحدثنا إبراهيم عن المنذر حدثنا عبدالعزيز بن أبي ثابت حدثني عبدالله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة من الفيل.
(نلخص من هذا) إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل - على قول الجمهور - فقيل: بعده بشهر، وقيل: بأربعين يوماً، وقيل بخمسين يوماً . وهو أشهر.
وعن أبي جعفر الباقر: كان قدوم الفيل للنصف من المحرم، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة.


ذكر أن عبدالمطلب لما ذبح الإبل المائة عن ولده عبدالله حين كان نذر بذبحه فسلمه الله تعالى لما كان قدر في الأزل من ظهور النبي الأمي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وسيد ولد آدم من صلبه فذهب فزوجه أشرف عقيلة في قريش وهي السيدة آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية، وحين دخل بها وأفضي إليها حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل توسمت ما كان بين عيني عبدالله قبل أن يدخل بآمنة من النور، فودت أن يكون ذلك متصلاً بها لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه وسلم وأنه قد أزف زمانه فعرضت نفسها عليه - قال بعضهم: ليتزوجه وهو أظهر .. والله أعلم - فامتنع عليها وانتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة.
وهذه الصيانة إنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كما قال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:47 PM
وفاة والده عبدالله بن عبدالمطلب
حين حملت به أمه به توفي أبوه عبدالله وهو حمل في بطنها على المشهور.
قال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر - وهو الواقدي - حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي وحدثنا سعيد بن أبي زيد عن أيوب بن عبدالرحمن بن أبي صعصعة قال: خرج عبدالله بن عبدالمطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران قريش يحملونه تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا فمروا بالمدينة وعبدالله بن عبدالمطلب يومئذ مريض ، فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فاقام عندهم مريضاً شهراً ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبدالمطلب عن ابنه عبدالله؟ فقالوا: خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض فبعث إليه عبدالمطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد (حزن) عليه عبدالمطلب وأخوته وأخواته وجداً شديداً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حمل ولعبدالله بن عبدالمطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة.
قال الواقدي: هذا هو أثبت الأقاويل في وفاة عبدالله وسنه عندنا.
قال الواقدي: وحدثني معمر عن الزهري: أن عبدالمطلب بعث عبدالله إلى المدينة يمتاز (يجمع) لهم تمراً فمات. قال محمد بن سعد: وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه وعن عوانة بن الحكم قالا: توفي عبدالله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهراً، قيل: سبعة أشهر.
وقال محمد بن سعد: والأول أثبت: أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن حسن عن عبدالسلام عن ابن خربوذ قال: توفي عبدالله و ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن شهرين، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين ومات جده وهو ابن ثماني سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب.
والذي رجحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد: أنه عليه الصلاة والسلام توفي أبوه وهو جنين في بطن أمه وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه.

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:49 PM
الحمل به وولادته صلى الله عليه وسلم
وفي الحديث: (ورؤيا أمي التي رأت حين حمل بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام)..
وقال محمد بن إسحاق: فكانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث: (أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، ومن كل بر عاهد وكل عبد رائد، يذود عني زائد، فإنه عنه الحميد الماجد، حتى أراه قد أتى المشاهد. وآية ذلك: أنه يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمداً فإن اسمه في التوراة أحمد يحمده أهل السماء والأرض.
واسمه في الإنجيل أحمد يحمده أهل السماء وأهل الأرض .. واسمه في القرآن محمد).
عن ابن عباس أن آمنة بنت وهب قالت : لقد علقت به - تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل منى خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمداً على يديه، ثم أخذ قبضة من تراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.
وقال بعضهم: وقع جاثياً على ركبتيه، وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى رافعاً رأسه إلى السماء.
عن عثمان بن أبي العاص حدثتني أمي: أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ولدته، قالت: فما شيء أنظره في البيت إلا نور وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول: ليقعن علي.
وذكر القاضي عياض عن الشفاء أم عبدالرحمن بن عوف: أنها كانت قابلته وأنها أخبرت به حين سقط على يديها واستهل سمعت قائلاً يقول: يرحمك الله، وإنه سطع منه نور رؤيت منه قصور الروم.

عن ابن عباس عن أبيه العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنهما قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً (مقطوع السرة من بطن أمه). قال: فأعجب جده عبدالمطلب وحظي عنده وقال: ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن.
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كرامتي على الله أني ولدت مختوناً ولم ير سوأتي أحد).
عن نافع عن ابن عمر قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسروراً مختوناً.
عن عائشة رضي الله عنها قال: كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقال القوم: والله ما نعلمه فقال: الله أكبر، أما إذا أخطأتم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقول لكم: ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا: قد والله ولد لعبدالله بن عبدالمطلب غلام سموه محمداً.

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:51 PM
اهتزاز عرش كسرى وانخماد نار فارس
في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس (رجف) إيوان (مجلس كبير يجلس فيه القوم) كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام كما غاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان: إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم، فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فتصبر عليه تشجيعاً، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره ثم بعث إليهم فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ قالوا: لا إلا أن يخبرنا الملك ... فبينما هم كذلك أن ورد عليهم كتاب خمود النيران فازداد غماً إلى غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله، فقال الموبذان: وأنا - أصلح الله الملك - قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الإبل، فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ قال: حدث يكون في ناحية العرب - وكان أعلمهم من أنفسهم - فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أما بعد: فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه.
فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان ابن نفيلة الغساني فلما ورد عليه قال له: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه؟
قال: لتخبرني أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم.
فأخبره بالذي وجه به إليه فيه قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له: سطيح.
قال: فائته فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره.
فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح وقد أشفى على الضريح فسلم عليه وكلمه فلم يرد إليه سطيح جواباً فأنشأ يقول:
أصم أم يسمع غطريف اليمن ...... أم فاد فاز لم به شأو العنن

يا فاصل الخطة أعيت من ومن ...... أتاك شيخ الحي من آل سنن

قال: فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول: عبدالمسيح، على جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بن ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران ورؤيا الموبذان، رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاماً يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات وكلما هو آت آت.
ثم قضى سطيح مكانة فنهض عبد المسيح إلى راحلته قال: فلما قدم عبدالمسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح، فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكاً كانت أمور أمور، فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه.
أما سطيح هذا فقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه هو الربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن ابن ذئب بن عدي بن مازن بن الأسد.
ويقال الربيع بن مسعود وأمه ردعا بنت سعد بن الحارث الحجوري وذكر غير ذلك في نسبه.
قال: وكان يسكن الجابية، ثم روى عن أبي حاتم السجستاني قال: سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا: وكان من بعد لقمان بن عاد، ولد في زمن سيل العرم وعاش إلى ملك ذي نواس وذلك نحو من ثلاثين قرناً وكان مسكنه البحرين وزعمت عبد القيس أنه منهم وتزعم الأزد أنه منهم وأكثر المحدثين يقولون: هو من الأزد ولا ندري ممن هو؟ غير أن ولده يقولون: إنه من الأزد.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لم يكن شيء من بني آدم يشبه سطيح إنما كان لحماً على وضم ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعينيه وكفيه وكان يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه. وقال غيره: إنه إذا غضب انتفخ وجلس. ثم ذكر ابن عباس: أنه قدم مكة فتلقاه جماعة من رؤسائهم منهم عبد شمس وعبد مناف أبناء قصي فامتحنوه في أشياء فأجابهم فيها بالصدق.

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:52 PM
حليمة السعدية مرضعة الرسول
وبركة أم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم
قالت حليمة غفر الله لها : قام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا هي لحافل، فحلب ما شرب وشربت حتى روينا فبتنا بخير ليلة.
فقال صاحبي حين أصبحنا: يا حليمة والله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة ألم ترى ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه؟! فلم يزل الله عزوجل يزيدنا خيراً.
ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا فوالله لقطعت أتان بالركب حتى ما يتعلق بها حمار حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك يا بنت أبي ذؤيب هذه أتانك التي خرجت عليها معنا؟! فأقول: نعم والله إنها لهي.
فقلنا: والله إن لها لشأناً .. حتى قدمنا أرض بني سعد وما أعلم أرض من أرض الله أجدب منها فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعاً لبناً فتحلب ما شئنا وما حوالينا - أو حولنا - أحد تبض له شاة بقطرة لبن وإن أغنامهم لتروح جياعاً حتى إنهم ليقولون لرعاتهم - أو لرعيانهم - ويحكم! انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم فيسرحون مع غنمي حيث تسرح فتروح أغنامهم جياعاً ما فيها قطرة لبن وتروح أغنامي شباعاً لبناً نحلب ماشئنا فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين فكان يشب شباباً لا تشبه الغلمان والله ما بلغ السنتين حتى كان غلاماً جفراً (مقبل على الأكل) فقدمنا به على أمه ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة.
فلما رأته أمه قلت لها: دعينا نرجع بإبننا هذه السنة الأخرى فإنا نخشى عليه وباء مكة فوالله ما زلنا بها حتى قالت: نعم فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة.
فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا جاء أخوه ذلك يشتد فقال: ذاك أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده قائماً منتقعاً لونه فاعتنقه أبوه وقال: يا بني ما شأنك؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض أضجعاني وشقا بطني ثم استخرجا منه شيئاً فطرحاه ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف.
قالت حليمة: فاحتملناه فلم ترع أمه إلا به .. فقدمنا به عليهما فقالت: ما ردكما به يا ظئر (المرضع) فقد كنتما عليه حريصين؟ فقالا: لا والله إلا أن الله قد أدى عنا وقضينا الذي علينا وقلنا: نخشى الإتلاف والإحداث نرده إلى أهله.
فقالت: ما ذاك بكما فأصدقاني شأنكما؟ فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره.
فقالت: أخشيتما عليه من الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل والله إنه لكائن لابني هذا شأن ألا أخبركما خبره؟ قلنا: بلى!
قالت: حملت به فما حملت به فما حملاً قط أخف منه فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام ثم وقع حين ولدته وقوعاً ما يقعه المولود، معتمداً على يديه رافعاً رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما.
قال الواقدي: حدثني معاذ بن محمد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: قال خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجدت إلبهم تقيل فوجدته مع أخته فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حراً رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع.
قال ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم قالوا له: أخبرنا عن نفسك. قال: (نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، واستعرضت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوءاً ثلجاً فاضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا ألقياه رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه : وزنه بعشرة من أمته فوزنني بعشرة فوزنتهم..
ثم قال زنه بمائة من أمته فوزني بمائة فوزنتهم..
ثم قال: زنه بألف من أمته فوزنني بألف فوزنتهم..
فقال: دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنهم!!
كانت أم أيمن واسمها: بركة تحضن الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد ورثها عليه الصلاة والسلام عن أبيه فلما كبر أعتقها وزوجها مولاه زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنهم وأرضعته مع أمه عليه الصلاة والسلام: مولاة عمه أبي لهب : ثوبية قبل حليمة السعدية.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما: من حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: يا رسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان - ولمسلم: عزة بنت أبي سفيان - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو تحبين ذلك؟) قلت: نعم لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن ذلك لا يحل لي) قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة - وفي رواية درة بنت أبي سلمة - قال: (بنت أبي سلمة)؟ قلت: نعم. قال: (إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثوبية فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) زاد البخاري: قال عروة وثوبية مولاة لأبي لهب أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة فقال له: ماذا لقيت؟ فقال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيراً غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثوبية - وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها من الأصابع.
وذكر السهيلي وغيره: أن الرائي له هو أخوه العباس، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر. وفيه: أن أبا لهب قال للعباس: أنه ليخفف علي في مثل يوم الإثنين.
قالوا: لأنه لما بشرته ثوبية بميلاد ابن أخيه محمد بن عبدالله أعتقها من ساعته فجوزي بذلك لذلك.

قال محمد بن إسحاق: استرضع له عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيت، واسمه: عبدالله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن ابن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر. قال: واسم زوج حليمة: الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن. وأخوته عليه الصلاة والسلام - يعني من الرضاعة - : عبدالله بن الحارث وأنيسة بنت الحارث وحذافة بنت الحارث - وذكروا أنها كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه إذ كان عندهم.
قال ابن إسحاق: حدثني جهم بن أبي جهم مولى لإمرأة من بني تميم كانت عند الحارث ابن حاطب ويقال له: مولى الحارث بن حاطب قال: حدثني من سمع عبدالله بن جعفر بن أبي طالب قال: حدثت حليمة بنت الحارث أنها قالت: قدمت مكة في نسوة ذكر الواقدي بإسناده أنهن كن عشر سيدات من بني سعد بن بكر يلتمس بها الرضعاء من بني سعد نلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء (ذات قحط وجدب) فقدمت على أتان لي قمراء كانت أذمت بالركب ومعي صبي لنا وشارف (الشارف من الدواب: المسن) لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلتنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك ما نجد في ثديي ما يغنيه ولا في شارفنا ما يغذيه ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً فقدمنا مكة فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل: إنه يتيم تركناه قلنا: ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه؟ إنما نرجو المعروف من أبي الولد فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا؟ فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعاً غيري فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق قلت لزوجي الحارث ابن عبد العزى: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. فقال: لا عليك أن تفعلي فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة.. فذهبت فأخذته فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره. فما هو إلا أن أخذته فجئت به رحلي. فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روى وشرب أخوه حتى روى.

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:53 PM
الرسول وبحيرى الراهب
قال ابن إسحاق: خرج أبو طالب في ركب تاجراً إلى الشام فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير صب (لزمه) به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي ولا أفارقه ولا يفارقني أبداً، أو كما قال - فخرج به فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له: بحيرا في صومعة له وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب فيها إليه يصير علمهم عن كتاب - فيما يزعمون - يتوارثونه كابراً عن كابر، فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا - وكانوا كثيراً ما يمرون به فلا يكلمهم ولا يعرض لهم - حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريباً من صومعته صنع لهم طعاماً كثيراً وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه هو في صومعته: يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريباً منه فنظر إلى الغمامه حين أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها فلما رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال: إني صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، وعبدكم وحركم، فقال له رجل منهم: والله يا بحيرا إن لك لشأناً اليوم! ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم؟
قال له بحيرا: صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم طعاماً فتأكلون منه كلكم .. فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في حال القوم تحت الشجرة فلما رآهم بحيرا لم ير الصفة التي يعرف ويجده عنده فقال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي قالوا: يا بحيرا ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام وهو أحدثنا سناً فتخلف في رحالنا ..
قال: لا تفعلوا أدعوه فليحضر هذا الطعام معكم..
قال: فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم..
فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرا وقال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه - وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما - فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئاً فوالله ما أبغضت شيئاً قط بغضهما.
فقال له بحيرا: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال له: سلني عما بدا لك .. فجعل يسأله عن أشياء من حاله ومن نومه وهيئته وأموره فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه موضعه من صفته التي عنده .. فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال: ما هذا الغلام منك؟
قال: ابني ..
قال بحيرا: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً ..
قال: فإنه ابن أخي.
قال: فما فعل أبوه؟
قال مات وأمه حبلى به.
قال: صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده.
فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
قال ابن اسحاق فزعموا فيما روى الناس: أن زريراً وثماماً، ودريسما - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما رأى بحيرا في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأراده فردهم عنه بحيرا فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما أقل فتركوه وانصرفوا عنه.

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:53 PM
قال ابن إسحاق : هاجت (نشبت - حدثت) حرب الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة وإنما سمي يوم الفجار بما استحل فيه هذان الحيان - كنانة وقيس عيلان - من المحارم بينهما وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس.
وقال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة - أو خمسة عشرة سنة - هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان وكان الذي هاجها: أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة - أي تجارة - للنعمان بن المنذر فقال البراض بن قيس - أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة - أتجيزها على كنانة؟
قال: نعم وعلى الخلق فخرج عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سمي الفجار.
قال ابن هشام: فأتى آت قريشاً فقال: إن البراض قد قتل عروة وهو في الشهر الحرام بعكاظ.
فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم ثم بلغهم الخبر فأمسكت هوازن عنهم، ثم التقو بعد هذا اليوم أياماً والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم.
قال وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم أخرجه أعمامه معهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كنت أنبل على أعمامي) أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.
وقال السهيلي: والفجار بكسر الفاء على وزن قتال وكانت الفجارات في العرب أربعاً وذكرها المسعودي وآخرها: فجار البراض هذا وكان القتال فيه أربعة أيام: يوم شمطة، ويوم العبلاء، وهما عند عكاظ. ويوم الشرب وهو أعظمها يوماً وهو الذي حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قيدا رئيس قريش وبني كنانة - وهما حرب بن أمية وأخوه سفيان - أنفسهما لئلا يفروا وانهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر فإنهم ثبتوا. ويوم الحريرة عند نخلة .. ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ فلما توافوا الموعد ركب عتبة بن ربيعة جمله ونادى: يا معشر مضر علام تقاتلون؟! فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح. قالوا: وكيف؟ قال ندى قتلاكم ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا. قالواك ومن لنا بذلك؟ قالك أنا. قالوا: ومن أنت؟ قال: عتبة بن ربيعة. فوقع الصلح على ذلك وبعثوا إليهم أربعين رجلاً فيهم حكيم بن حزام فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن دياتهم وانقضت حرب الفجار.
قال الحافظ البيهقي عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شهدت مع مومتي حلف المطيبين فما أحب أن أنكثه - أو كلمة نحوها - وإن لي حمر النعم) قال: وكذلك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما شهدت حلفاً لقريش إلا حلف المطيبين، وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته) قال: والمطيبون: هاشم، وأمية وزهرة، ومخزوم. قال البيهقي: كذا روى هذا التفسير مدرجاً في الحديث ولا أدرى قائله. وزعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين.

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:54 PM
الرسول يتزوج خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
قال ابن إسحاق: كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال على مالها فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجراً إلى الشام وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وخرج في مالها ذاك وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبة من صومعة راهب من الرهبان، فطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة، فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب: ما نزل تحت إلا نبي !!
ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته - يعني تجارته - التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلاً (راجعاً) إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - في يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قريباً، وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى في ظلال الملائكة إياه .. وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: - فيما يزعمون - يابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك .. ثم عرضت نفسها عليه وكانت أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهن شرفاً وأكثرهن مالاً وكان كل قومها حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه .. فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة والسلام.
قال ابن هشام: فأصدقها عشرين بكرة (ناقة صغيرة) وكانت أول تزوجها ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:55 PM
أبناء النبي عليه السلام
قال ابن إسحاق: فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولده كلهم إلا إبراهيم (فمن مارية القبطية): القاسم (وكان بن يكنى)، والطيب، والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
قال ابن هشام: أكبرهم القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر، وأكبر بناته رقية، ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة.
قال البيهقي عن الحاكم: قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة حدثنا مصعب بن عبدالله الزبيري قال: أكبر ولده عليه الصلاة والسلام القاسم، ثم زينب، ثم عبدالله، ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية .. وكان أول من مات من ولده: القاسم، ثم عبدالله، وبلغت خديجة خمساً وستين سنة.
وقال غيره: بلغ القاسم أن يركب الدابة ونجيبه ثم مات بعد النبوة. وقيل: مات وهو رضيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن له مرضعاً في الجنة يستكمل رضاعه) والمعروف أن هذا في حق إبراهيم.
وقال يونس بن بكير: حدثنا إبراهيم بن عثمان عن القاسم عن ابن عباس قال: ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع سيدات: القاسم، وعبدالله، وفاطمة، وأم كلثوم، وزينب، ورقية.
وقال الزبير بن بكار: عبدالله هو الطيب وهو الطاهر، سمي بذلك لأنه ولد بعد النبوة، فماتوا قبل البعثة وأما بناته فأدركن البعثة، ودخلن في الإسلام وهاجرن معه صلى الله عليه وسلم. قال ابن هشام: وأما إبراهيم فمن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب الاسكندرية من قرية حفن بكورة (الكورة: الإقليم) أنصنا (مدينة بصعيد مصر شرقي النيل).
قال ابن هشام وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمساً وعشرين سنة فيما حدثني غير واحد من أهل العلم، منهم أبو عمرو المدني.

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:56 PM
النبي عليه السلام يتاجر ويرعى الغنم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله نبياً إلا راعي غنم) فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: (وأنا رعيتهما لأهل مكة بقراريط).
عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص)
(القلوص من الإبل: الفتية المجتمعة الخلق، وذلك من حين تركب إلى التاسعة من عمرها، ثم هي ناقة)..





الرسول يشارك في بـنــاء الكعـبـة




ثبت في الصحيحين عن أبي ذر قالك قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: (المسجد الحرام) قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى). قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة). وفي الصحيحين: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.
عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتاً، فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أجابه الماء نودي من تحته: حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت. ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه).
سأل رجل علياً كرم الله وجهه عن قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين) أهو أول بيت بني في الأرض؟ قال: لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس والهدى مقام إبراهيم ومن دخله كان ىمناً وإن شئت نبأتك كيف بناؤه. إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتاً في الأرض فضاق به ذرعاً فارسل إليه السكينة وهي: ريح خجوج لها رأس فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية، فبنى إبراهيم حتى بلغ مكان الحجر قال لابنه: أبغني حجراً: فالتمس حجراً حتى أتاه به فوجد الحجر الأسود قد ركب فقال لأبيه: من أين لك هذا؟ قال: جاء به من لا يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء فأتمه. قال: فمر عليه الدهر فانهدم فبنته العمالقة، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ رجل شاب فلا أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا: نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط (كساء من خز أو صوف أو كتان، يؤتزر به وتتلفع به المرأة) ثم ترفعه جميع القبائل كلها. عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل فخذ (أحد فصائل البطن من العشيرة) أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه.
عن ابن شهاب قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلم جمرت (بخرت) امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن أي القبائل تلي رفعه؟ فقالوا: تعالوا نحكم أول من يطلع علينا. فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم خرج سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فكان هو يضعه فكان لا يزداد على السن إلا رضى حتى دعوه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي، فطفقوا لا ينحرون جزوراً إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.
قال موسى بن عقبة: كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة. وهكذا قال مجاهد وعروة، ومحمد بن جبير بن مطعم وغيرهم. فالله أعلم.

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:57 PM
دعــوة إبـراهيم وبشارة عيسى
قال محمد بن إسحاق رحمه الله: كانت الأحبار من اليهود والكهان من النصارى ومن العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه قال تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل) (الأعراف 157).
عن ابن عباس قال: (ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه) يعلم من هذا أم جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه.
وقد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لأهل مكة: (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك) (البقرة 129).
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج بن فضالة حدثنا لقمان بن عامر: سمعت ابا أمامة قال: قلت: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟ قال: (دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت امي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام). ومعنى هذا: أنه أراد بدء أمره بين الناس واشتهار ذكره وانتشاره فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب عليه العرب، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل ودل هذا على أن من بينهما من الانبياء بشروا به أيضاً.
عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني عبدالله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل (في أول خلقه) في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمتي التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين).
وقد رواه الليث عن معاوية بن صالح وقال: إن أمه رأت حين وضعته نوراً أضاءت منه قصور الشام.
وقال الإمام أحمد أيضاً حدثنا عبدالرحمن حدثنا منصور بن سعد بن بديل بن ميسرة عن عبدالله بن شفيق عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد).
عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: (بين خلق آدم ونفخ الروح فيه) ورواه من وجه آخر عن الأوزاعي به وقال: (وآدم منجدل في طينته) وروى عن البغوي عن أبي هريرة - مرفوعاً - في قول الله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) (الأحزاب 7) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كنت أول النبيين في الخلق ولآخرهم في البعث) ومن حديث أبي مزاحم: عن ابن عباس: قيل: يا رسول الله متى كنت نبياً؟ قال: (وآدم بين الروح والجسد).
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع، إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما بعض ذكر أموره ولا يلقى العرب لذلك فيه بالاً حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها، فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر زمان مبعثه حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها، فرموا بالنجوم فعرفت الشياطين أن ذلك لأمر حدث من أمر الله عزوجل.
قال: وفي ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا فرآناً عجباَ * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً) (الجن 1-2).

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:58 PM
اليهود يستبشرون ويستفتحون بالنبي وبعدها يكفرون به
قال ورقاء: عن ابن أبي نجيح عن علي الأزدي: كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس (يستفتحون به - أي يستنصرون به).
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: كانت اليهود بخيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالوا: اللهم نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم.
قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به فأنزل الله عزوجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) وروى عطيه عن ابن عباس نحوه وروى عن عكرمة من قوله نحو ذلك أيضاً.
قال ابن إسحاق: حدثني صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلام بن وقش - وكان من أهل بدر - قال: كان لنا جار من يهود في بني عبدالأشهل. قال: فخرج علينا يوماً من بيته حتى وقف على بني عبدالأشهل.
قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سناً على فروة لي مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار.
قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان أو ترى هذا كائناً؟ إن الناسيبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلف به ويود أن له تحطة من تلك النار أعظم تنور في الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه وإن ينجون من تلك النار غداً.
قالوا له: ويحك يا فلان! فما آية ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد - وأشار بيده إلي نحو مكة - قالوا ومتى نراه؟
قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سناً فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله ورسوله: وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً، قال: فقلنا له ويحك يا فلان! ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت!
قال: بلى ولكن ليس به. رواه أحمد عن يعقوب عن أبيه عن ابن عباس.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: قال لي: هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد - نفر من بني هدل - أخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: فإن رجلاً من اليهود من أرض الشام يقال له: ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين فحل بين أظهرنا لا والله ما رأينا رجلاً قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا لهك اخرج يابن الهيبان فاستسق لنا. فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة. فنقول له: كم؟ فيقول: صاعاً من تمر أو مدين من شعير. قال: فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا فيستسقس لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقس قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً: قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: أنت أعلم. قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف (أتوقع) خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجرة فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية - وكانوا شباباً أحداثاً - يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان. قالوا: ليس به. قالوا بلى والله لهو بصفته فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم.

د.فالح العمره
24-11-2006, 10:59 PM
نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم
كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وله من العمر أربعون سنة وحكى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب: أنه كان عمره إذ ذاك ثلاثاً وأربعين سنة.
قال البخاري: عن عائشة رضي الله عنها. أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل (فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - في الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك، فقال اقرأ. فقالك ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ: فأخذني، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم) (العلق 1-5).
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة - وأخبرها الخبر -: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرؤ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.
فقالت له خديجة: يابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى ياليتني فيها جذعاً (الشاب الحدث)، ليتني أكون حياً، إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجي هم؟) فقال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر (تأخر - توقف) الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزناً غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه، تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقاً. فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا كمثل ذلك. قال: فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك. هكذا وقع مطولاً في باب التعبير من البخاري. قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن، أن جابر بن عبدالله الأنصاري قال - وهو يحدث عن فترة الوحي - فقال في حديثه: (بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني وملونين فأنزل الله (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر) (المدثر 1-5) فحمى الوحي وتتابع).
فتقول أم المؤمنين عائشة: (أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار عن عبيد بن عمر الليثي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقرأ، فقلت ما أقرأ؟ فغتني (ضغط ضغطاً شديداً) حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني).

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:02 PM
عمره عندما أوتي النبوة
قال الإمام أحمد: عن عامر الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل من القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشراً بمكة، وعشراً بالمدينة، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة.
أما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قال: حديث عائشة لا ينافي هذا، فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا، ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء، فكان يلقى إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه، تدريجياً له وتمريناً، إلى أن جاءه جبريل فعلمه بعد ما غطه ثلاث مرات، فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل، ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل، اختصاراً للحديث، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن هشام عن عكرمة عن ابن عباس: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشراً، وبالمدينة عشراً، ومات وهو ابن ثلاث وستين عن عكرمة عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وهو ابن أربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة، والمدينة عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة. وقال الإمام أحمد: عن ابن عباس قالك أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة، سبع سنين يرى الضوء، ويسمع الصوت، وثماني سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشر سنين.







النبي يحب الخلاء في غار حراء




كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الخلاء والانفراد عن قومه، لما يراهم عليه من الضلال المبين، من عبادة الأوثان والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد ذكر محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى حراء في كل عام شهراً من السنة يتنسك فيه، وكان نسك قريش في الجاهلية، يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة.
وهكذا روى عن وهب بن كيسان: أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبدالله بن الزبير مثل ذلك. وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش، أنهم يجاورون في حراء للعبادة.
وحراء يقصر ويمد، ويصرف ويمنع، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها، عن يسار المار إلى منى، له قلة (أعلى الجبل) مشرفة على الكعبة منحنية، والغار في تلك الحنية وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج:
فلا ورب الآمنات القطن .... ورب ركن من حراء منحنى
اختلف العلماء في تعبده عليه الصلاة والسلام قبل البعثة: هل كان على شرع، أم لا؟ وما ذاك الشرع؟ فقيل: شرع نوحز وقيل: شرع إبراهيم - وهو الأشبه الأقوى - وقيل: موسى. وقيل عيسى. وقيل: كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:03 PM
عندما نزل الوحي على نبينا الكريم
عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الإثنين؟ فقالك (ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل علي فيه) وقال ابن عباس: ولد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، ونبئ يوم الإثنين. وهكذا قال عبيد ابن عمير وأبو جعفر الباقر وغير واحد من العلماء: أنه عليه الصلاة والسلام أوحى إليه يوم الإثنين، وهذا مالا خلاف فيه بينهم.
قال ابن إسحاق مستدلاً على ما قال الله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس) (البقرة 185). فقيل: في عشرة.
وروى الواقدي عن أبي جعفر الباقر أنه قال: كان ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان وقيل: في الرابع والعشرين منه. قال الإمام أحمد: عن واثلة بن الأسقع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان).
أما قول جبريل (إقرأ) فقال: (ما أنا بقارئ) فالصحيح أن قوله (ما أنا بقارئ) نفي، أي لست ممن يحسن القراءة، وممن رجحه النووي، وقبله الشيخ أبو شامة. ومن قالك أنها استفهامية، فقوله بعيد، لأن الباء لا تزاد في الإثبات. ويؤيد الأول رواية أبي نعيم فمن حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خائف يرعد: (ما قرأت كتاباً قط، ولا أحسنه، وما أكتب وما أقرأ) فأخذه جبريل، فغته غتاً شديداً، ثم تركه فقال له: إقرأ فقال محمد صلى الله عليه وسلم (ما أرى شيئاً أقرأه، وما أقرأ وما أكتب) يروي: (فغطني) كما في الصحيحين: (وغتني) ويروي: (قد غتني) أي خنقني) حتى بلغ مني الجهد) يروي بضم الجيم وفتحها، وفعل به ذلك ثلاثاً.
قال أبو سليمان الخطابيك وإنما فعل ذلك به لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة. ولذلك كان يعتريه مثل خال المحموم، وتأخذه الرحضاء: أي البهر والعرق. وقال غيره: إنما فعل ذلك لأمور: منها: أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إلأيه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس، كما قال تعالى: (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) (المزمل 5). ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمر وجهه ويتفصد جبينه عرقاً في اليوم الشديد البرد.
وقوله: فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة يرجف فؤاده. وفي رواية: بوادره. جمع بادرة، قال أبو عبيدة: وهي لحمة بين المنكب والعنق. وقال غيره: هو عروق تضطرب عند الفرع. وفي بعض الروايات: ترجف بآدله، واحدتها بادلة، وقيل بادل، وهو ما بين العنق والترقوة. وقيل: أصل الثدي. وقيل: لحم الثديين. وقيل: غير ذلك.
فقال: (زملوني زملوني) فلما ذهب عنه الروع، قال لخديجة: (مالي؟ أني شيء عرض لي؟) وأخبرها ما كان من الأمر، ثم قال صلى الله عليه وسلم (لقد خشيت على نفسي) وذلك لأنه شاهد أمراً لم يعهده قبل ذلك، ولا كان في خلده ولهذا قالت خديجة أبشر كلا والله لا يخزيك الله أبداً. قيل من الخزي وقيل: من الحزن. وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه، أن من كان متصفاً بصفات الخير لا يخزى في الدنيا ولا في الآخرة. ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة، فقالت: إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث - وقد كان مشهوراً ذلك صلوات الله وسلاه عليه عند الموافق والمفارق - وتحمل الكل (أي: عن غيرك) نعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤونة عياله، وتكسب المعدوم (أي تسبق إلى فعل الخير، فتبادر إلى إعطاء الفقير، فتكسب حسنته قبل غيرك) ويسمى الفقير معدوماً لن حياته ناقصة، فوجوده وعدمه سواء كما قال بعضهم

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:04 PM
ورقة بن نوفل رضي الله عنه

قال الإمام أحمد: حدثنا حسن عن ابن لهيعة حدثني أبو الأسود عن عروة عن عائشة: أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل؟ فقال: (قد رأيته، فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض) عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل؟ فقال: (قد رأيته، فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان (وسط) الجنة وعليه السندس). وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل؟ فقال: (يبعث يوم القيامة أمة وحده).
وسئل عن خديجة - لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن - فقال: (أبصرتها على نهر في الجنة، في بيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب) عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنة أو جنتين) ..





ما كان من أمر الجن والشياطين



قال تعالى: (وما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون، إنهم عن السمع لمعزولون) (الشعراء 210 212). عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي، فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعاً، فأما الكلمة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فتكون باطلاً، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم نعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: هذا لأمر قد حدث في الارض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين، فاتوه فأخبروه، فقال: هذا الأمر الذي قد حدث في الارض. وقال أبو عوانة عن ابي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قالك انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليه الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: مالكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب!
فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الارض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخل عامين إلى سوق كعاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الصبح، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: (إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً) (الجن 1-2).
فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) (الجن 1).
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فإن كان مما يكون في السماء قالوا الحق وهو العلي الكبير، وإن كان مما يكون في الأرض من أمر الغيب أو موت أو شيء مما يكون في الارض، تكلموا به فقالوا: يكون كذا وكذا، فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم، فلما بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم دحروا النجوم فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة، وذا الإبل ينحر كل يوم بعيراً، فأسرع الناس في أموالهم، فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوان فإن كانت النجوم التي يهتدون بها، وإلا فإنه لأمر حدث، فنظروا فإذا النجوم التي يهتدي بها كما هي لم يزل منها شيء، فكفوا وصرف الله الجن، فسمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا. وانطلق الشياطين إلى إبليس فأخبروهن فقال: هذا حدث الارض، فأتوني من كل أرض بتربة، فأتوه بتربة تهامة، فقال: هنا الحدث.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:05 PM
نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم
(إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلا)
عن عائشة رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال: (أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس - وهو أشده علي - فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً يكلمني فأعي ما يقول).
قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وأن جبينه ليتفصد عرقاً.
عن عبادة بن الصامت، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كربه ذلك وتربد (تعبس) وجهه - وفي رواية وغمض عينيه - وكنا نعرف ذلك منه.
وفي الصحيحين مة حديث زيد بن ثابت حين نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) (النساء 95) فلما اشتكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت: (غير أولي الضرر) قال: وكانت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي وأنا اكتب، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض (تكسر) فخذي.
وفي صحيح مسلم من حديث همام بن يحيى عن عطاء عن يعلى بن أمية، قال: قال لي عمر: أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه؟ فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بالجعرانة، فإذا هو محمر الوجه، وهو يغط (النخير) كما يغط البكر.
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة: لما نزل الحجاب وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلاً، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده، فأوحى الله إليه والعرق في يده، ثم رفع رأسه فقال (إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن) فدل هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية، بدليل أنه جالس ولم يسقط العرق أيضاً من يده، صلوات الله وسلامه دائماً عليه.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عباد بن منصور حدثنا عكرمة عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي تربد لذلك جسده ووجهه، وأمسك عن أصحابه، ولم يكلمه أحد منهم.
وفي مسند أحمد وغيره من حديث ابن لهيعة حدثني يزيد بن ابي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبدالله ابن عمرو: قلت: يا رسول الله، هل تحس بالوحي؟ قال: نعم، أسمع صلاصل، ثم أثبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تفيض (تموت) منه).
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن الحجاج حدثنا عبدالواحد بن زياد حدثنا عاصم بن كليب حدثنا أبي عن خاله العليان بن عاصم، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه، وكان إذا انزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة، وفرغ سمعه وقبله لما يأتيه من الله عزوجل.
عن أسماء بنت يزيد، قال: إني لآخذة بزمام العضباء - ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
قال الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو، قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها.
وروى ابن مردويه من حديث صباح بن سهل عن عاصم الأحول: حدثتني أم عمرو عن عمها: أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الاحلة من ثقلها.
ثم قد ثبت في الصحيحين نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مرجعه من الحديبية، وهو على راحلته، فكان يكون تارة وتارة، بحسب الحال، والله أعلم.
كان عليه الصلاة والسلام من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحى إليه عن الله عز وجل ليساوقه في التلاوة فأمره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحي، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه تلاوته وتبليغه، وأن يبينه له، ويفسره ويوضحه ويوقفه على المراد منه.
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه) قال: جمعه في صدرك، ثم تقرأه (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) فاستمع له وأنصت (ثم إن علينا بيانه) قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه، كما وعده الله عزوجل.
قال ابن إسحاق: ثم تتابع الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصدق بما جاءه منه، قد قبله بقبوله، وتحمل منه ما حمله - على رضا العباد وسخطهم - وللنبوة أثقال ومؤونة لا يحملها ولا يستضلع (يتحملها) بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل، بعون الله وتوفيقه، لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله عزوجل فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أمر الله، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:07 PM
خديجة رضي الله عنها .. نعم الزوجة المؤمنة الصالحة
أول ما فرضت الصلاة
قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله، وازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء منهن فخفف الله بذلك على رسوله، لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها، تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، رضي الله عنها وأرضاها.
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن جعفر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب). قال ابن هشام: القصب هنا اللؤلؤ المجوف.
قال إبن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر جميع ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة سراً إلى من يطمئن إليه من أهله.
وقال موسى بن عقبة عن الزهريك كانت خديجة أول من آمن بالله، وصدق رسوله، قبل أن تفرض الصلاة.
يعني الصلوات الخمس ليلة الإسراء، فأما الصلاة فقد وجب في حياة خديجة رضي الله عنها.
وقال ابن إسحاق: وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به. ثم إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افترضت عليه الصلاة، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له عين من ماء زمزم، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام، ثم صلى ركعتين، وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقر الله عينه، وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله، فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصليان سراً.
صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبين له أوقات الصلوات الخمس، أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الإسراء.





وأنذر عشيرتك الأقربين

قال تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) (القصص85) .. أي إن الذي فرض عليك وأوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إلى دار الآخرة - وهي المعاد - فيسألك عن ذلك.
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: لما أنزل الله: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (الشعراء 114) .. أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه، ثم نادى: (يا صباحاه) فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا بني عبدالمطلب يا بني فهر، يا بني كعب، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم! قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد) فقال أبو لهب - لعنه الله - تباً لك سائر اليوم! أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله عزوجل: (تبت يدا أبي لهب وتب) (المسد 1).
عن ابي هريرة. قال: لما نزلت هذه الآية: (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فعم وخص .. فقال: (يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار، فجاءني .. يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار. فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً، ألا إن لكم رحماً سأبلها ببلائها) عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم (وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت، فجاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار) قال: فدعاني فقال: (يا علي، إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام، وأعد لنا عس (قدح كبير) لبن، ثم اجمع لي بني عبدالمطلب) ففعلت، فاجتمعوا له يومئذ وهم أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصون، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة والعباس، وأبو لهب - الكافر الخبيث - فقدمت إليهم الجفنة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حذية فشقها بأسنانها، ثم رمى بها في نواحيها، وقال (كلوا باسم الله) فأكل القوم حتى نهلوا عنه، ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استقم يا علي) فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب - لعنه الله - فقال: لهد ما سحركم صاحبكم! فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كان الغد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عد لنا مثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدر إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم) ففعلت، ثم جمعتهم له، وصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس، فأكلوا حتى نهلوا عنه، وأيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسقهم يا علي) فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني عبدالمطلبن إني والله ما اعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتم به، إني قد جئتكم بامر الدنيا والآخرة).

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:08 PM
الرسول يدعوا أهل مكة
فيلقى صدودهم فيحميه عمه أبو طالب
واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك راد ولا يصده عن ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهمن ومحافلهم، وفي المواسم، ومواقف الحج، يدعو من لقيه من حر وعبد، وضعيف وقوي وغني وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء وتسلط عليه وعلى من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية، وكان أشد الناس عليه عمه أبو لهب- واسمه عبدالعزى بن عبدالمطلب - وامرأته أم جميل - أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان - وعن ربيعة الديلين قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي المجاز (سوق) يتبع الناس في منازلهم، يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس، لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم قلت: من هذا؟ قيل: هذا أبو لهب.
عن طلحة بن يحيى عن عبدالله بن موسى بن طلحة أخبرني عقيل بن أبي طالب، قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فقال: يا عقيل، انطلق فأتني بمحمد.
فانطلقت إليه فاستخرجته من بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال: (ترون هذه الشمس؟) قالوا: نعم! قالك (فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منه بشعلة) فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا.
عن ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدث أن قريشاً حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يابن أخي، إن قومك قد جاءوني وقالوا: كذا وكذا، فابق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق أنا ولا أنت، فكفف عن قومك ما يكرهون من قولك .. فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه فيه، وانا خاذله ومسلمه، وضعف عن القيام معهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ياعم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه) ثم استعبر (جرى دمعه) رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم: يابن أخي، فأقبل عليه، فقال: امض على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء ابداً.
قال ابن إسحاق: ثم قال أبو طالب في ذلك:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم ..... حتى أوسد في التراب دفينا

فامضي لأمرك ما عليك غضاضة ..... أبشر وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وعلمت أنك ناصحي ..... فلقد صدقت وكنت قدم أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه ..... من خير أديان البرية دينا

قال البيهقي: وذكر ابن إسحاق لأبي طالب في ذلك إشعاراً، وفي ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء، لا معقب لحكمته.
وقال يونس بن كبير: حدثني محمد بن إسحاق حدثني رجل من أهل مصر قديماً منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس، في قصة طويلة جرت بين مشركي مكة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام رسول الله قال أبو جهل بن هشام: يا معشر قريش، إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم أبائنا وتسفيه أحلامنا وسب آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلس له غذاً بحجر، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.
فلما أصبح ابو جهل - لعنه الله - أخذ حجراً ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو وكان قبلته الشام (سوريا - الأردن - فلسطين - لبنان)، فكان إذا صلى صلى بين الركنين الأسود واليماني، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منبهتاً ممتقعاً لونه مرعوباً قد يبست يده على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقام إليه رجال من قريش، فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم؟ فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته (القصرة: أصل العنق) ولا أنيابه، لفحل قط، فهم أن يأكلني !!
قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذلك جبريل، ولو دنا منه لأخذه).
عن أبان بن صالح عن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن عباس بن عبدالمطلبن قال: كنت يوماً في المسجد، فأقبل أبو جهل - لعنه الله- فقال: إن لله علي إن رأيت محمداً ساجداً أن أطأ على رقبته، فخرجت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبي جهل، فخرج غضباناً حتى جاء المسجد، فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم الحائط، فقلت: هذا يوم شر، فأتزرت ثم اتبعته، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق) (العلق 1-2). فلما بلغ شأن أبي جهل: (كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى) (العلق 6-7). فقال إنسان لأبي جهل: يا ابا الحكم هذا محمد؟ فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى؟ والله لقد سد أفق السماء علي.
عن سعيد بن وهب عن خباب. قال: شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شدة الرمضاء، فما أشاكنا - يعني في الصلاة، وقال ابن جعفر: فلم يشكنا. وقال أيضاً. حدثنا سليمان بن داود حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت سعيد بن وهب يقول سمعت خباباً يقول: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرمضاء فلم يشكنا. قال شعبة: يعني في الظهيرة ورواه مسلم والنسائي والبيهقي من حديث أبي إسحاق البيعي عن سعيد بن وهب عن خباب، قالك شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء - زاد البيهقي: في وجوهنا وأكفنا - فلم يشكنا وفي رواية: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا ورورى ابن ماجة عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع عن الأعمش عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب العبدي عن خباب، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء، لم يشكنا. وهو أنهم شكو إليه صلى الله عليه وسلم ما يلقون من المشركين من التعذيب بحر الرمضاء، وأنهم يسحبونهم على وجوههم فيتقون بأكفهم، وغير ذلك من أنواع العذاب وسألوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم على المشركين أو يستنصر عليهم، فوعدهم ذلك ولم ينجزه لهم في الحالة الراهنة، وأخبرهم عمن كان قبلهم أنهم يلقون من العذاب ما هو أشد مما أصابهم ولا يصرفهم ذلك عن دينهم، ويبشرهم أن الله سيتم هذا الأمر ويظهره ويعلنه، وينشره وينصره في الأقاليم والآفاق، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عزوجل والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون .. ولهذا قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء في وجوهنا وأكفنا، فلم يشكنا - أي لم يدع لنا في الساعة الراهنة.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:10 PM
وفاة أبو طالب واشتداد أذى قريش
قال ابن إسحاق: فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحده.
عن محمد بن كعب القرظي قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة: عبدياليل، ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف .. وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط (يسقط) ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الآخر: أما وجد الله أحداً أرسله غيرك؟
وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ولأئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم (يجرئهم) ذلك عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس والجأوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، ورجع عنه سفهاء ثقيف من كان يتبعه فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها: ماذا لقينا من احمائك. فلما اطمأن قال - فيما ذكر - (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتهجمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك) .. قال: فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له: عداس وقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه .. ففعل عداس ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كل ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه قال: (بسم الله) ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى (إحدى محافظات العراق) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى.
فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي .. فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. قال: يقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟
قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.
وقد ذكر موسى بن عقبة نحواً من هذا السياق إلا أنه لم يذكر الدعاء وزاد وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه فخلص منهم وهما يسيلان الدماء فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعه، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله.
عند موت أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان ناصراً له وقائماً في صفه ومدافعاً عنه بكل ما يقدر عليه من نفس ومال ومقال وفعال ، اجترأ سفهاء قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونالوا منه مالم يكونوا يصلون إليه ولا يقدرون عليه.
عن عروة بن الزبير عن عبدالله بن جعفر قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه تراباً، فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول: (أي بنية لا تبكين فإن الله مانع أباك) ويقول ما بين ذلك: (ما نالت قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا) عن هشام بن عروة عن ابيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما زالت قريش كاعين (كاع عن الشيء: هابه وجبن عنه) حتى مات أبو طالب).
عن ثعلبة بن صعير وحكيم بن حزام أنهما قالا: لما توفي أبو طالب وخديجة - وكان بينهما خمسة أيام - اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان ولزم بيته وأقل الخروج، ونالت منه قريش مالم تكن تنال ولا تطمع فيه، فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال: يا محمد تمض لما أردت وما كنت صانعاً لإذ كان أبو طالب حياً فاصنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت وسب ابن الغيطة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولى يصيح يا معشر قريش صبأ أبو عتبة، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال: ما فارقت دين عبدالمطلب ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد.
فقالوا: لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم.
فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياماً يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إذ جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ فقال له أبو لهب: يا محمد أين مدخل عبدالمطلب؟ قال: مع قومه. فخرج إليهما فقال: قد سألته فقال: (مع قومه). فقالا: يزعم أنه في النار.
فقال: يا محمد أيدخل عبدالمطلب النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن مات على ما مات عليه عبدالمطلب دخل النار) فقال أبو لهب - لعنه الله - والله لا برحت لك إلا عدواً أبداً وأنت تزعم أن عبدالمطلب في النار.. واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه.
قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن امية، وعقبة بن معيط، وعدي بن الحمراء، وابن الأصداد الهزلي. وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص. وكان أحدهم - فيما ذكر لي - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته (القدر من الحجارة) إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً يستتر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا شيئاً من ذلك يحمله على عود ثم يقف به على بابه ثم يقول: يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق.
وأن غالب ما روي مما تقدم من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي كما رواه ابن مسعود وفيه: أن فاطمة جاءت فطرحته عنه وأقبلت عليهم فشتمتهم، ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على سبعة منهم وكذلك ما أخبر به عبدالله بن عمرو بن العاص نت خنقهم له عليه السلام خنقاً شديداً حتى حال دونه أبو بكر الصديق قائلاً: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وكذلك عزم أبي جهل - لعنه الله - على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك. وما أشبه ذلك كان بعد وفاة أبي طالب والله أعلم.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:10 PM
وفاة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
عن الزهري أنه قال: توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقبل أن تفرض الصلاة.
وقال محمد بن إسحاق: ماتت خديجة وأبو طالب في عام واحد.
عن ابي هريرة. قال: أتى جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه غدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومنى وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان. لا صخب فيه ولا نصب لأنها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتعبه يوماً من الدهر فلم تصخب عليه يوماً ولا أذته أبداً.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما غرت على امراة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وماتت قبل ان يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها، وأمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن. لفظ البخاري، وفي لفظ عن عائشة: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وأمره ربه - أو جبرائيل - أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب.
وفي لفظ له قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة فيقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة. فربما قلتك كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: (إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد) .
عن عائشة قال: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع فقال: (اللهم هالة) فغرت فقلت: ما تذكر عن عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين ماتت في الدهر أبدلك الله خيراً منها. قال: (ما ابدلني الله خيراً منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني، وآستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء) - كان قبل أن يولد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية. وقبل مقدمها بالكلية وهذا معين فإن جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم - كما تقدم وكما سيأتي - من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية المصرية رضي الله عنها.
عن عبدالله بن جعفر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد) أخير زمانهما. وروى شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قرة بن إياس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث مريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).
والقدر المشترك بين الثلاثة نسوة - آسية ومريم وخديجة - أن كلاً منهن كفلت نبياً مرسلاً وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته. فآسية ربت موسى وأحسنت إليه وصدقته حين بعث، ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل وخديجة رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها وبذلك في ذلك أموالها - كما تقدم - وصدقته حين نزل الوحي من الله عزوجل.
ويحمل قوله: (وفضل عائشة على النساء) أن يكون محفوظاً فيعم المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاماً فيما عداهن ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوفاً يحتمل التسوية بينهن فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل والله أعلم.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:12 PM
عندما انشق القمر
جعل الله آية على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدي ودين الحق حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة حيث قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: (اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر) (الفجر 1-3) وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
عن قتادة عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فاراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما.
عن ابن عباس في قوله: (اقتربت الساعة وانشق القمر) قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وابو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والنضر بن الحارث ونظراؤهم فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم (إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين نصفاً على ابي قبيس ونصفاً على قعيقعان. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (عن فعلت تؤمنوا؟!) قالوا: نعم! وكانت ليلة بدر. فسأل الله عزوجل أن يعطيه ما سالوا، فأمسى القمر قد سلب نصفاً على أبي قبيس ونصفاً على قعيقعان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا.
عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول فهبط جبرائيل فقال: يا محمد قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبرائيل فخرجوالليلة الشق ليلة أربع عشرة فانشق نصفين نصفاً على الصفا ونصفاً على المروة فنظروا .. فقالوا: يا محمد ما هذا إلا سحر واهب.
فأنزل الله (اقتربت الساعة وانشق القمر) ثم روى الضحاك عن ابن عباس قال: جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أرنا آية حتى نؤمن بها، فسال ربه فأراهم القمر قد انشق جزءين أحدهما على الصفا والآخر عل المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب فقالوا هذا سحر مفترى.
عن مسروق عن عبدالله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش: هذا سحر ابن ابي كبشة فقالواك انظروا ما يأتيكم به السفار؟ فغن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم. قال: فجاء السفار فقالوا ذلك. عن مسروق عن عبدالله قال: اشق القمر بمكة حتى صار فرقتين فقال كفار قريش لأهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار فإن كانوا رأوا ما رايتم فقد صدق وإن لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به. قالك فسئل السفار. قال - وقدموا من كل وجهة - فقالوا: رأينا.
قال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل حدثنا إسرائيل عن سماك عن إبراهيم عن الأسود عن عبدالله - وهو ابن مسعود - قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رايت الجبل بين فرجتي القمر.
عن زيد بن وهب عن عبدالله بن مسعود قال: رايت القمر والله منشقاً باثنتين بينهما حراء.
وروى ابو نعيم من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابي صالح عن ابن عباس قال: انشق القمر فلقتين: فلقة ذهبت وفلقة بقيت.
قال ابن مسعود: لقد رايت جبل حراء بين فلقتي القمر، فذهب فلقة فتعجب أهل مكة من ذلك وقالوا هذا سحر مصنوع سيذهب.
وقال ليث بن ابي سليم: عن مجاهد قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: (فاشهد يا ابا بكر) وقال المشركون: سحر القمر حتى انشق.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:13 PM
ليلة الإسراء والمعراج
اختلف العلماء في أن الإسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة؟ أو كل في ليلة على حدة؟ فمنهم من يزعم أن الإسراء في اليقظة، والمعراج في المنام. وقد حكى المهلب بن أبي صفرة في شرحه البخاري عن طائفة: أنهم ذهبوا إلى أن الإسراء مرتين: مرة بروحه مناماً، ومرة ببدنه وروحه يقظة.
وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي الفقيه .. قال السهيلي: وهذا القول يجمع الأحاديث فإن في حديث شريك عن أنس وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبهن وقال في آخره: ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر وهذا منام. ودل غيره على اليقظة.
ومنهم من يدعى تعدد الإسراء في اليقظة أيضاً حتى قال بعضهم: أنها أربعة إسراءات.
عن أنس بن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسرى به قال: بينما أنا في الحطيم - وربما قال: في الحجر مضجعاً إذ أتاني آت) فقال: وسمعته يقول: (فشق ما بين هذه إلى هذه) (فاستخرج قلبي) ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيماناً فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض) فقال الجارود: وهو البراق يا أبا حمزة؟ قال: أنس: نعم!: (يضع خطوة عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بي جبرائيل حتى أتي السماء الدنيا فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد أرسل إليه. قال: نعم! قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال هذا أبوك آدم فسلم عليه. فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحباً بالإبن الصالح والنبي الصالح .. ثم صعد إلى السماء الثانية فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال محمد. وقد أرسل إليه؟ قال: نعم! قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح. فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت عليهما فردا ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح جبرائيل قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال محمد. وقد أرسل إليه؟ قال: نعم! قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح. فلما خلصت إذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال محمد. وقد أرسل إليه؟ قال: نعم! قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت إذا إدريس قال: هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال محمد. وقد أرسل إليه؟ قال: نعم! قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت إذا هارون قال: هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال محمد. وقد أرسل إليه؟ قال: نعم! قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت إذا موسى قال: هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت بكى فقيل له ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من ما يدخلها من أمتى. ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبرائيل قيل: من هذا؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال محمد. وقد أرسل إليه؟ قال: نعم! قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت إذا إبراهيم قالك هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فسلمت عليه فرد السلام ثم قالك مرحباً بالإبن الصالح والنبي الصالح.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت: ما هذا يا جبرائيل؟ قال: أما الباطنان: فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات ثم رفع لي البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من عسل، فأخذت اللبن قال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك. ثم فرض علي الصلوات خمسون صلاة كل يوم فرجعت فمررت على موسى فقال: بم أمرت قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. فرجعت فوضع عني عشراً فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشراً فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشراً فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ فقلت بخمس صلوات كل يوم.
قال إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. قال: سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضي وأسلم قال: فلما جاوزت ناداني مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي.
قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، والشجرة الملعونة في القرآن قال: هي شجرة الزقوم.
لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم من صبيحة ليلة الإسراء جاءه جبرائيل عند الزوال فبين له كيفية الصلاة وأوقاتها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاجتمعوا وصلى به جبرائيل في ذلك اليوم إلى الغد والمسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقتدي بجبرائيل.
كما جاء في الحديث عن ابن عباس وجابر (أمني جبرائيل عند البيت مرتين) فبين له الوقتين الأول والآخر، فهما وما بينهما الوقت الموسع ولم يذكر توسعة في وقت المغرب وقد ثبت ذلك في حديث أبي موسى وبريدة وعبدالله بن عمرو وكلها في صحيح مسلم. فأما ما ثبت في صحيح البخاري عن معمر عن عمرو وكلها في صحيح مسلم. فأما ما ثبت في صحيح البخاري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر . وكذا رواه الأوزاعي عن الزهري ورواه الشعبي عن مسروق عنها. وهذا من جهة أن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر، وكذا عثمان بن عفان. وقد قال تعالى (وإذا ضربتم الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) قال البيهقي: وقد ذهب الحسن البصري إلى صلاة الحضر أول ما فرضت أربعاً كما ذكره مرسلاً من صلاته عليه السلام صبيحة الإسراء الظهر أربعاً، والعصر أربعاً والمغرب ثلاثاً يجهر في الأوليين، والعشاء أربعاً يجهر في الأوليين والصبح ركعتين يجهر فيهما.
فلعل عائشة أرادن أن الصلاة كانت قبل الإسراء تكون ركعتين ركعتين ثم فرضت الخمس حضراً على ما هي عليه، ورخص في السفر أن يصلي ركعتين كما كان الأمر عليه قديماً.

ومن هنا نرى أنه فرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته الصلوات ليلتئذ خمسين صلاة في كل يوم ولية، ثم لم يزل يختلف (يتردد) بين موسى وبين ربه عزوجل حتى وضعها الرب جل جلاله وله الحمد والمنة خمساً وقال: هي خمس وهي خمسون ، الحسنة بعشر أمثالها، فحصل له التكليم من الرب عز وجل ليلتئذ، وأئمة السنة كالمطبقين على هذا. واختلفوا في الرؤية: فقال بعضهم رآه بفؤاده مرتين، قاله ابن عباس وطائفة، وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد.
وممن أطلق الرؤية أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما ، وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين واختاره ابن جرير وبالغ فيه وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين. وممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في فتاويه.
وقالت طائفة: لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم: قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: (نوراني آراه) وفي رواية (رأيت نوراً). قالوا: ولم يكن رؤيةالباقي بالعين الفانية ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روي في بعض الكتب الإلهية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده. والخلاف في هذه المسأله مشهور بين السلف والخلف والله أعلم.
ثم هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس والظاهر أن الأنبياء هبطوا معه تكريماً له وتعظيماً عند رجوعه من الحضرة الإلهية العظيمة، كما هي عادة الوافدين لا يجتمعون بأحد قبل الذي طلبوا إليه، ولهذا كان كلما مر علي واحد منهم يقول له جبريل - عندما يتقدم ذلك للسلام عليه - هذا فلان فسلم عليه، فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى التعرف بهم مرة ثانية. ومما يدل على ذلك أنه قال: (فلما حانت الصلاة أممتهم) ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر فتقدم إماماً بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عزوجل، فاستفاد بعضهم من هذا أن الإمام الأعظم يقدم الإمامة على رب المنزل حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار إقامتهم، ثم خرج منه فركب البراق وعاد إلى مكة فأصبح بها وهو غاية الثبات والسكينة والوقار. وقد كاين في تلك الليلة من الآيات والأمور التي لو رآها - أو بعضها - غيره لأصبح مندهشاً أو طائش العقل، ولكنه صلى الله عليه وسلم أصبح واجماً - أي ساكناً - يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه، فتلطف بإخبارهم أولاً بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة وذلك أن أبا جهل - لعنه الله - رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو جالس واجم فقال له: هل من خبر؟ فقال: نعم! قال: وما هو؟ فقال: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس.
قال: إلى بيت المقدس؟ قال: نعم! قال: أرايت إن دعوت قومك لك لتخبرهم أتخبرهم بما أخبرتني به؟ قال نعم! فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم ليخبرهم ذلك ويبلغهم.
فقال أبوجهل: هيا معشر قريش وقد اجتمعوا من أنديتهم فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به. فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه، فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيباً له واستبعاداً لخبره وطار الخبر بمكة وجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فأخبروه أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا فقال: إنكم تكذبون عليه. فقالوا: والله إنه ليقوله .. فقال: إن كان قاله فلقد صدق ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله بعض مشركي قريش فسأله عن ذلك فأخبره فاستعلمه عن صفات بيت المقدس ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به. وفي الصحيح: أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قال: فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس علي بعض الشيء، فجلى الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم) فقالك أما الصفة فقد أصاب.

فقال وآية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوداي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة فند لهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بصحنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياماً ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان وآية ذلك: أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء.
قال: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم، وسألوهم عن الإناء وعن البعير فأخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.
وذكر يونس بن بكير عن اسباط عن إسماعيل السدي: أن الشمس كادت تغرب قبل أن يقدم ذلك العير، فدعا الله عزوجل فحبسها حتى قاموا كما وصف لهم. قال: فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون. رواه البيهقي.
قال ابن إسحاق: واخبرني من لا أتهم عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج ولم أر شيئاً قط أحسن منه وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني فيه صاحبي حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة عليه بريد من الملائكة يقال له: إسماعيل تحت يده إثنا عشر ألف ملك، تحت يد كل ملك منهم إثنا عشر ألف ملك. قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حدث بهذا الحديث: (وما يعلم جنود رب إلا هو).
لما فرغ صلى الله عليه وسلم من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السلم فصعد فيه إلى السماء ولم يكن الصعود على البراق كما قد يتوهمه بعض الناس بل كان البراق مربوطاً على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة فصعد من سماء إلى سماء في المعراج حتى جاوز السابعة وكلما جاء سماء تلقته منها مقربوها ومن فيها من أكابر الملائكة والأنبياء.
وذكر أعيان من رآه من المرسلين كآدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية وإدريس في الرابعة وموسى في السادسة - على الصحيح - وإبراهيم في السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه صلاة وطوافاً ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ثم جاوز مراتبهم كلهم حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام.
ورفعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى وإذ ورقها كآذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة أوان متعددة باهرة، وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة وفراش من ذهب وغشيها نور الرب جل جلاله.
ورأى هناك جبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض وهو الذي يقول الله تعالى (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى) (النجم 13 - 17). أي مازاغ يميناً ولا شمالاَ ولا ارتفع عن المكان الذي حد له النظر إليه وهذا هو الثبات العظيم والأدب الكريم وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبوذر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين. والأولى هي قوله تعالى: (علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلى عبده ما أوحى) (النجم 5 - 10). وكان ذلك بالأبطح، تدلى جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساداً عظيم خلقه ما بين السماء والأرض حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى، هذا هو الصحيح كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضي الله عنهم.

وعن سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات.
عن ابن إسحاق قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو بيت المقدس من إيلياء - وقد فشا الإسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها.
قال: وكان من الحديث فيما بلغني من مسراه صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود وأبي سعيد وعائشة ومعاوية وأم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنهم والحسن ابن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث كل يحدث عنه بعض ما ذكر لي من أمره وكان في مسراه صلى الله عليه وسلم وما ذكر لي منه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله وقدرته وسلطانه فيه عبرة لأولي الألباب، وهدي ورحمة وثبات لمن أمن وصدق وكان من أمر الله على يقين، فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم وقدرته التي يصنع بها ما يريد.
وكان عبدالله بن مسعود فيما بلغني يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في موضع منتهى طرفها فحمل عليها ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم ثم أتى بثلاث أوان من لبن وخمر وماء فذكر أنه شرب إناء اللبن، فقال لي جبريل: هديت وهديت أمتك.
وذكر ابن إسحاق في سياق الحسن البصري مرسلاً أن جبريل أيقظه ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام فأركبه البراق وهو دابة أبيض بين البغل والحمار وفي فخذيه جناحان يحفر بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه ثم حملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته.
عن قتادة فيما ذكره ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد ركوب البراق شمس (جمح وجنح) به فوضع جبريل يده على معرفته (وجهه) ثم قال: ألا تستحي يا براق مما تصرع؟ فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه. قال: فانحى حتى ارفض عرقاً ثم قر ختى ركبته.
قال الحسن في حديثه فمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضي معه جبريل حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم. ثم ذكر اختياره إناء اللبن على إناء الخمر. وقول جبريل له هديت وهديت أمتك، وحرمت عليكم الخمر. قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فأصبح يخبر قريشاً بذلك فذكر أنه كذبه أكثر الناس وارتدت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصديق إلى التصديق وقال: إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية أفلا أصدقه في بيت المقدس؟! وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس فذكرها له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيومئذ سمى أبوبكر الصديق.
قال الحسن: وأنزل الله في ذلك (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) (الإسراء 6) وذكر ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانئ أنها قالت: ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من بيتي نام عندي تلك الليلة بعدما صلى العشاء الآخرة فلما كان قبيل الفجر أهبنا فلما كان الصبح وصلينا معه قال: (يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي ثم جئت ببيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم الآن كما ترين) ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فقلت: يا نبي الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبوك ويؤذونك. قال: (والله لأحدثنهموه) فأخبرهم فكذبوه.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:14 PM
تابع : اشتداد أذى قريش ومقاطعتها بني هاشم
فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم منهم أبو البحتري والمطعم ابن عدي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وزمعة بن الأسود وهشام بن عمرو - وكانت الصحيفة عنده وهو من بني عامر بن لؤي - في رجال في أشرافهم ووجوههم: نحن برءاء مما في هذه الصحيفة.
فقال أبو جهل لعنه الله: هذا أمر قضي بليل وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم .. ويمدح النفر الذين تبرءوا منها ونفضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي.

قال ابن إسحاق: لما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذي صنعوا قال أبو طالب:

ألا أبلغا عني على ذات بيننا .... لؤيا وخصا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا .... نبياً كموسى خط في أول الكتب

قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا ولم يصل إليهم شيء إلا سراً مستخفياً به من أراد صلتهم من قريش .. وقد كان أبو جهل بن هشام، فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد وهي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب فتعلق به وقال أتذهب بالطعام إلى بني هشام بن الحارث بن أسد فقال: مالك وله.

فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم فقال له أبو البحتري: طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خل سبيل الرجل.
قال فأبى أبوجهل - لعنه الله - حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ البحتري لحى بعير فضربه فشجه ووطئه وطئاً شديداً، وحمزة ابن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيشتمون بهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً منادياً بأمر الله تعالى لا يتقي فيه أحداً من الناس.
فجعلت قريش - حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به - يهمزونه ويستهزئون به ويخاصمونه وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم وفيمن نصب لعداوته، منهم من سمي ومنهم من نزل القرآن في عامة ذكر الله من الكفار.
فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه. وأمية بن خلف ونزول قوله تعالى: (ويل لكل همزة لمزة) (الهمزة 1) السورة بكاملها فيه.

قال ابن إسحاق : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا - يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه، ثم تلا عليه وعليهم: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون. لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل ما فيها خالدون. لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون) (الأنبياء 98 - 100).
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبدالله بن الزبعري السهمي حتى جلس فقال الوليد بن المغيرة له والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبدالمطلب آنفاً وما قعد، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم فقال عبدالله الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمداً أكل من نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيزاً والنصارى تعبد عيسى؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار أنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته).

قال موسى بن عقبة عن الزهري: ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا محمد صلى الله عليه وسلم علانية فلما رأى أبوطالب عمل القوم جمع بني عبدالمطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعه إيماناً ويقيناً.
فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا على ذلك اجتمع المشركون من قريش فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق ولايقبلوا من بني هاشم صلحاً أبداً ولا يأخذوهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد وقطعوا عنهم الأسواق فلا يتركوا لهم طعاماً يقدم مكة ولا بيعها إلا بادروهم إليه فاشتروه يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضجع على فراشه حتى يري ذلك من أراد به مكراً واغتيالاً له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمه فاضجعوا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه. فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم في ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه، وبعث الله على صحيفتهم الأرض فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق.
ويقال: كانت معلقة في سقف البيت وأطلع الله رسوله على الذي صنع بصحيفتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب.
لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابته (أهله) من بني عبدالمطلب حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء فأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فاتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فعله أن تكون بيننا وبينك صلح - وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها - فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفوعاً إليهم فوضعها بينهم وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطراً لأهلك قومكم وعشيرتم وفسادهم..
فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لاعطيكم أمراً لكم فيه نصف: إن ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني - أن الله برأ من هذه الصحيفة التي في أيديكم ومحا كل اسم هو له فيه وترك في غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم عليها بالظلم فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا والله لا نسلمه أبداً حتى يموت من عندنا آخرنا، وإن كان الذي قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه ان استحييتم (استحيا السير: تركه حياً فلم يقتله) قالوا: قد رضينا بالذي تقول ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا: والله إن كان هذا قط الأسحر من صاحبكم فارتكسوا (ارتدوا) وعادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم والشدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه.
فقال أولئك النفر من بني عبدالمطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون فإنا نعلم ان الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم طمس ما كان فيها من اسمه وما كان فيها من بغي تركه أفنحن السحرة أم أنتم؟

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:15 PM
الهجرة إلى الحبشة
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله عزوجل، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة؟ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه) فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، وكان أول من خرج من المسلمين: عثمان بن عفان، وزوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو حذيفة بن عتبة، وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبدالرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبدالأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم - ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو - وسهيل بن بيضاء، وعبدالله بن مسعود، رضي الله عنهم أجمعين. قال ابن جرير: وقال آخرون: بل كانوا اثنين وثمانين رجلاً، سوى نسائهم وأبنائهم، وعمار بن ياسر نشك فإن كان فيهم فقد كانوا ثلاثة وثمانين رجلاً.
روى الواقدي أن خروجهم إليها في رجب سنة خمس من البعثة، قال ابن إسحاق: ثم خرج جعفر بن أبو طالب ومعه امرأته أسماء بنت عميس، وولدت له بها عبدالله بن جعفر، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة، وسرد اسحاق الخارجين صحبة جعفر رضي الله عنهم، وهم: عمرو بن سعيد بن العاص، وامرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث بن شق الكناني. وأخوه خالد، وامرأته أمينة بنت خلف ابن أسعد الخزاعي - وولدت له بها سعيداً - وأمه التي تزوجها بعد ذلك الزبير، فولدت له عمراً وخالداً: قال: وعبدالله بن جحش بن رئاب، وأخوه عبيد الله، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وقيس بن عبدالله من بني أسد بن خزيمة، وامرأته بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان، ومعيقيب بن أبي فاطمةن وهو من موالي سعيد بن العاص قال ابن هشام: وهو من دوس: قال: وأبو موسى الأشعري عبدالله بن قيس حليف ىل عتبة بن ربيعة وعتبة بن غزوان، ويزيد بن زمعة بن الأسود، وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد، وطليب بن عمير بن وهب بن أبي كثير بن عبد، وسويبط بن سعد بن حريملة، وجهم بن قيس العبدوي، ومعه امرأته ام حرملة بنت عبد الاسود بن خزيمة وولداه عمرو بن جهم وخزيمة بن جهم، وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبدمناف، وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة، وعامر بن أبي وقاص أخو سعد، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف بن ضبيرة - وولدت بها عبدالله - وعبدالله بن مسعود، وأخوه عتبة، والمقداد بن الأسود، والحارث بن خالد بن صخر التيمي، وامرأة ريطة بنت الحارث بن جبيلة، وولدت له بها موسى وعائشة وزينب وفاطمة، وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، شماس بن عثمان - وهبار بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي، وأخوه عبدالله، وهشام بن أبي حذيفة بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم، وسلمة بن هشام بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة، ومعتب بن عوف بن عامر - ويقال له عيهامة - وهو من خلفاء بني مخزوم.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:16 PM
صور من إعراض رؤوس الكفر عن الحق
عن المغيرة بن شعبة، قال: إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أمشي أنا وابو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل (يا أبا الحكم، هلم إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله).
فقال أبو جهل: يا محمد. هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت؟ فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأقبل علي فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن يمنعني شيء، أن بني قصي قالوا: فينا الحجابة. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا السقاية. فقلنا: نعم. ثم قالوا: فينا الندوة. فقلنا نعم ثم قالوا: فينا اللواء. فقلنا: نعم. ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبي، والله لا أفعل - عن أبي إسحاق. قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي جهل وأبي سفيان، وهما جالسان .. فقال أبو جهل: هذا نبيكم يا بني عبد شمس. قال أبو سفيان: وتعجب أن يكون منا نبي؟ فالنبي يكون فيمن أقل منا وأذل. ف
قال أبو جهل: أعجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبياً. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع، فأتاهمان فقال: (أما أنت يا أبا سفيان، فما لله ورسوله غضبت، ولكنك حميت للأصل. وأما أنت يا ابا الحكم، فوالله لتضحكن قليلاً ولتبكين كثيراً) فقال: بئسما تعدني يابن أخي من نبوتك.
وقول أبي جهل - لعنه الله - كما قال الله تعالى مخبراً عنه وعن إضرابه: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولاً إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) (الفرقان: 41 - 42).
----------------------------------

وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة: (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) (الإسراء 110) قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (ولا تجهر بصلاتك) أي بقراءتك)، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن: (ولا تخافت بها) عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك (وابتغ بين ذلك سبيلاً).
وقال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم . لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئاً فأنزل الله تعالى: (ولا تجهر بصلاتك) فيتفرقوا عنك (ولا تخافت بها) فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك، لعله يرعوى إلى بعض ما يسمع فينتفع به (وابتغ بين ذلك سبيلاً).

----------------------------------

قالت قريش للرسول عليه السلام : أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباه (الزواج) فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فرغت؟) قال: نعم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم (حم تنزيل من الرحمن الرحيم. كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون) (فصلت 1 - 3) إلى أن بلغ: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود).
فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته. قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم ثم قال: لا، والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.
قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا والله، ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة.
وعنده: أنه لما قال: (فإن أعرضوا فقل أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) أمسك عقبة على فيه، وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله، واحتبس عنهم.
فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة اصابته، انطلقوا بنا إليه فأتوه.
فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد. فغضب، وأقسم بالله لا يكلم محمداً أبداً، وقال: لقد علمتم إني من أكثر قريش مالاً، ولكني أتيته - وقص عليهم القصة - فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة، قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (حم. تنزيل من الرحمن الرحيم) حتى بلغ (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) فأمسكت بفيه، وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتهم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.

----------------------------------

عن ابن إسحاق حدثني الزهري، قال: حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل منهم مجلساً ليستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، قال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا.
فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود، فتعاهدوا على ذلك، ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق، أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها.
فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نسمع به أبداً ولا نصدقه. فقام عنه الأخنس بن شريق.

----------------------------------

عن عكرمة عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، قال لم؟
قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمداً لتعرض ما قبله.
قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً.
قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
قال قف عني حتى أفكر فيه،
فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر، يؤثره عن غيره، فنزلت (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً) (المدثر 11 - 13).

----------------------------------

عن عكرمة عن ابن عباس. أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر المواسم، فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قول بعضكم بعضاً.
فقيل: يا أبا عبد شمس، فقل، وأقم لنا رأياً نقوم به.
فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع.
فقالوا: نقول كاهن؟
فقال: ما هو بكاهن، رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكهان.
فقالوا: نقول مجنون؟
فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
فقال نقول شاعر؟
فقال: ما هو بشاعر، وقد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: فنقول هو ساحر؟ قال: ما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا بعقده.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟
قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: هذا ساحر فتقولوا: هو ساحر يفرق بين المرء ودينه وبين المرء وزوجته وبين المرء وأخيه وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس حتى قدموا المواسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره، وأنزل الله في الوليد: (ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً) وفي أولئك النفر الذين جعلوا القرآن عضين (فوربك لنسألهم أجمعين عما كانوا يعملون) (الحجر 92 - 93).
وفي ذلك قال الله تعالى أخباراً عن جهلهم وقلة عقلهم: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فيأتنا بآية كما أرسل الأولون) (الأنبياء 5).
فحاروا ماذا يقولون فيه، فكل شيء يقولونه باطل، لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ، قال الله تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً) (الإسراء 48).
عن جابر بن عبدالله، قال: اجتمع قريش يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟
فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة.
فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فآتاه عتبة، فقال: يا محمد أنت خير أم عبدالله؟
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أنت خير أم عبدالمطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبدت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلي أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:17 PM
الرسول يعقد الألوية ويأمّر القواد
قال ابن إسحاق: ثم لم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ وادياً يقال له : سفوان من ناحية بدر، وهي غزوة بدر الأولى، وفاته كرز فلم يدركه وقال الواقدي: وكان لواؤه مع علي بن أبي طالب. قال ابن هشام والواقدي: وكان قد استخلف على المدينة زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام جمادى ورجب وشعبان وقد كان بعث بين يدي ذلك سعداً في ثمانية من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرار من أرض الحجاز.
قال ابن هشام: ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة في رمضان، وبعث عبيدة في شوال، وبعث سعد في ذي القعدة كلها في السنة الأولى.
عن سعد بن أبي وقاص قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق حتى نأتيك وقومنا، فأوثق لهم فأسلموا.
قال: فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب ولا نكون مائة وأمرنا أن نغير على حي من بني كنانة إلى جنب جهينة فأغرنا عليهم وكانوا كثيراً فلجأنا إلى جهينة فمنعونا وقالوا: لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ نأتي نبي الله فنخبره. وقال قوم: لا بل نقيم ههنا. وقلت أنا في أنا معي: لا بل نأتي عير قريش فنقتطعها. وكان الفيء إذ ذاك من أخذ شيئاً فهو له، فانطلقنا إلى العير وانطلق أصحابنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فقام غضبان محمر الوجه فقال: (أذهبتم من عندي جمعياً ورجعتم متفرقين؟! إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة، لأبعثن عليكم رجلاً ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش) فبعث علينا عبدالله بن جحش الأسدي فكان أول أمير في الإسلام.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفله (مرجعه) من بدر الأولى وبعث معه ثمانية من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن بن حرثان حليف بني أسد بن خزيمة، وعتبة بن غزوان حليف بني نوفل، وسعد بن أبي وقاص الزهري، وعامر بن ربيعة الوائلي حليف بني عدي، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع التميمي حليف بني عدي ايضاُ، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف بني عدي أيضاً، وسهل بن بيضاء الفهري فهؤلاء سبعة ثامنهم أميرهم عبدالله بن جحش رضي الله عنه.
وقال يونس عن ابن إسحاق: كانوا ثمانية وأميرهم التاسع فالله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً. فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر في الكتاب قالك سمعاً وطاعة، وأخبر أصحابه بما في الكتاب وقال: قد نهاني استكره أحداً منكم فمن يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع أما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال لهك بحران، اضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه فتخلفا في طلبه ومضى عبدالله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزلوا نخلة، فمر عير قريش فيقم عمرو بن الحضرمي فلما رآهم القوم خافوهم، وقد نزلوا قريباً منهم، فرأوا عكاشة بن محض فأمنوا، وقال: عمار لا بأس عليكم منهم.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:18 PM
تغـيـيـر القـبـلة
عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر - أو سبعة عشر - شهراً، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة فأنزل الله: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) (البقرة 144).
قال: فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس - وهم اليهود - : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟!
فأنزل الله: (قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (البقرة 142).
والأمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه - كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنه - فلما هاجر إلى المدينة واستدبر الكعبة ستة عشر شهراً - أو سبعة عشر شهراً - وهذا يقتضي أن يكون ذلك إلى رجب من السنة الثانية والله أعلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يحب أن يصرف قبلته نحو الكعبة قبلة إبراهيم وكان يكثر الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله عزوجل فكان مما يرفع يديه وطرفه إلى السماء سائلاً ذلك فأنزل الله عزوجل: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) فلما نزل الأمر بتحويل القبلة خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وأعلمهم بذلك - كما رواه النسائي عن أبي سعيد بن المعلي - وأن ذلك كان وقت الظهر - وقال بعض الناس: نزل تحويلها بين الصلاتين. قاله مجاهد وغيره.
ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين عن البراء: أن أول صلاة صلاها عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة بالمدينة العصر .. وأن أهل قباء لم يبلغهم خبر ذلك إلى صلاة الصبح من اليوم الثاني كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك نحو ذلك، أنه لما نزل تحويل القبلة إلى الكعبة ونسخ به الله تعالى حكم الصلاة إلى بيت المقدس طعن طاعنون من السفهاء والجهلة الأغبياء قالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟!
هذا والكفرة من أهل الكتاب يعلمون أن ذلك من الله لما يجدونه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم من أن المدينة مهاجرة وأنه سيؤمر بالاستقبال إلى الكعبة كما قال: (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم) وقد أجابهم الله تعالى مع هذا كله عن سؤالهم ونعتهم فقال: (سيقول السفهاء من الناس وما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) أي هو المالك المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه الذي يفعل ما يشاء في خلقه ويحكم ما يريد في شرعه وهو الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويضل من يشاء عن الطريق القويم وله في ذلك الحكمة التي يجب لها الرضا والتسليم ثم قال تعالى: (وكذلك جعلناهم امة وسطا) أي خياراً (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول شهيداً عليكم) أي وكما احترنا لكم أفضل الجهات في صلاتكم وهديناكم إلى قبلة أبيكم إبراهيم والد الأنبياء بعد التي كان يصلي بها موسى فمن قبله من المرسلين كذلك جعلناكم خيار الأمم وخلاصة العالم وأشرف الطوائف وأكرم التالد (القديم الأصلي وهو عكس الطارف) والطارف لتكونوا يوم القيامة (شهداء على الناس) لإجماعهم عليكم وإشارتهم يومئذ بالفضيلة إليكم كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد مرفوعاً من استشهاد نوح بهذه الأمة يوم القيامة وإذا استشهد بهم نوح مع تقدم زمانه فمن بعده بطريق الأولى والأحرى.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:18 PM
غزوة الأبواء
قال ابن هشام: وهي أول غزوة غزاها عليه السلام. قال الواقدي وكان لواؤه مع عمه حمزة، وكان أبيض. قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقامه ذلك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين - أو ثمانين - راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة فلقي بها جمعاً عظيماً من قريش، فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم، فكان أول سهم رمي به في سبيل الله في الإسلام. ثم انصرف القوم عن القوم وللمسلمين حامية وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان بن جابر المازني حليف بني نوفل بن عبد مناف، وكانا مسلمين، ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار.
قال ابن إسحاق: وكان على المشركين يومئذ عكرمة بن أبي جهل وروى ابن هشام عن أبي عمرو بن العلاء عن أبي عمرو المدني أنه قال: كان عليهم مكرز بن حفص. قلت: وتقدم عن حكاية الواقدي قولان: أحدهما: أنه مكرز والثاني: أنه سفيان صخر بن حرب وأنه رجح أنه أبو سفيان فالله أعلم. وبعث رسول الله عليه وسلم في مقامه ذلك حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان موادعاً للفريقين جميعاً، فانصرف بعض القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال.
قال ابن إسحاق: وبعض الناس يقول : كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معاً فشبه ذلك على الناس.
حكى موسى بن عقبة الزهري أن بعث حمزة قبل عبيدة بن الحارث، ونص على أن بعث حمزة كان قبل غزوة الأبواء. فلما قفل عليه الصلاة والسلام من الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين من المهاجرين، وذكر نحو ما تقدم.
وقد تقدم عن الواقدي أنه قالك كانت سرية حمزة في رمضان من السنة الأولى وبعدها سرية عبيدة في شوال منها والله أعلم. وقد أورد ابن إسحاق عن حمزة رضي الله عنه شعراً يدل على أن رايته أول راية عقدت في الإسلام لكن قال ابن إسحاق : فإن كان حمزة قال ذلك فهو كما اقل، لم يكن يقول إلا حقاً، والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول - يعني في السنة الثانية - يريد قريشاً.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون. وقال الواقدي: استخلف عليها سعد بن معاذ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مائتي راكب، وكان لواؤه مع سعد ابن أبي وقاص وكان مقصده أن يعترض لعير قريش وكان فيه أمية بن خلف ومائة رجل وألفان وخمسمائة بعير.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى.
قال ابن إسحاق: فسلك على نقب بني دينار، ثم على فيفاء الخيار فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر يقال لها: ذات الساق فصلى عندها فثم مسجده، فصنع له عندها طعام فأكل منه وأكل الناس معه، فرسوم أثافي البرمة معلوم هناك، واستسقى له من ماء يقال له: المشيرب ثم ارتحل فترك الخلائق بيسار وسلك شعبة عبدالله، ثم هبط ملل، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة ثم سلم فرش ملل حتى لقي الطريق بصخيرات اليمام ثم اعتدل به الطريق حتى نزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها جمادى الأولى وليال من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:19 PM
غزوات وسرايا الرسول
قال ابن إسحاق: أول ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبواء ثم بواط، ثم العشيرة. ثم روى عن زيد بن أرقم: أنه سئل كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: تسع عشرة ، شهد منها سبع عشرة أولاها العسيرة - أو العشيرة.
عن بريدة قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة ولمسلم عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة.
وفي رواية له عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وقاتل في ثمان منها وقال الحسين بن واقد عن ابن بريدة عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا سبع عشرة غزوة وقاتل في ثمان يوم بدر، وأحد والأحزاب والمريسيع، وقديد، وخيبر، ومكة، وحنين، وبعث أربعاً وعشرين سرية.
عن مكحول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثماني عشرة غزوة قاتل في ثماني غزوات أولاها بدر، ثم أحد ثم الأحزاب، ثم قريظة ثم بئر معونة، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة مكة، ثم حنين والطائف.
عن قتادة: أن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ثلاث وأربعون: أربع وعشرون بعثاً، وتسع عشرة غزوة، خرج في ثمان منها بنفسه: بدر، واحد، والأحزاب، والمريسيع، وخيبر، وفتح مكة، وحنين، وقال موسى بن عقبة عن الزهري: هذه مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها يوم بدر في رمضان سنة اثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق - وهو يوم الأحزاب - وبني قريظة في شوال من سنة أربع، ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس ثم قاتل يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان، ثم قاتل يوم حنين وحاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان، ثم حج أبوبكر سنة تسع، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر، وغزا اثنتي عشرة غزوة ولم يكن فيها قتال، وكانت أول غزوة غزاها: الأبواء. عن الزهري قال: أول آية نزلت في القتال: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) (الحج 39). بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان، إلى أن قال: ثم غزا بني النضير، ثم غزا أحداً في شوال - يعني في سنة ثلاث - ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع، ثم قاتل بني بني لحيان في شعبان سنة خمس، ثم قال يوم خيبر سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في شعبان سنة ثمان، وكانت حنين في رمضان سنة ثمان. وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدى عشرة غزوة لم يقاتل فيها، فكانت أول غزوة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبواء. ثم العشيرة، ثم غزوة غطفان ثم غزوة الصفراء ثم غزوة تبوك آخر غزوة.

قال محمد بن إسحاق قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الإثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل لإثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثلاث وحمسين سنة، وذلك بعد أن بعثه الله بثلاث عشرة سنة فأقام بقية شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادين ورجباً وشعبان وشهر رمضان وشوالاً وذا القعدة وذا الحجة وولى تلك الحجة المشركون والمحرم، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً في صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمة المدينة. قال ابن هشام: واستعمل على المدينة سعد بن عبادة.
قال ابن إسحاق: حتى بلغ ودان وهي غزوة الأبواء.
قال ابن جرير: ويقال لها: غزوة ودان أيضاً، يريد قريشاً وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كناة، فوادعته فيها بنو ضمرة وكان الذي وادعه منهم مخشى ابن عمرو الضمري، وكان سيدهم في زمانه ذلك.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيداً فاقام بها بقية صفر وصدراً من شهر ربيع الأول.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:20 PM
الأذان للصلاة والإقامة
قال ابن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين واجتمع أمر الأنصار استحكم أمر الإسلام فقامت الصلاة، وفرضت الزكاة والصيام، وقامت الحدود وفرض الحلال والحرام وتبوأ الإسلام بين أظهركم وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوأوا الدار والإيمان وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل بوقاً كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم ثم كرهه، ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة، فبينما هم على ذلك رأى عبدالله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أخو بلحارث بن الخزرج النداء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه طاف بي هذه الليلة طائف مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً في يده فقلت: يا عبدالله أتبيع هذا الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قلت: وما هو؟
قال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمد رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتاً منك) فلما أذن بها بلال سمعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في بيته فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجر رداءه وهو يقول: يا نبي الله والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله الحمد.
وعند أبي داود أنه علمه الإقامة قال: ثم تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
عن عبدالله بن زيد الأنصاري قال في ذلك:

الحمد لله ذي الجلال وذي الإ ... كرام حمداً على الأذان كبيرا

إذ أتاني به البشير من الله ... فأكرم به لدي يشيرا

في ليال والى بهن ثلاث ... كلما جاء زادني توقيرا

قال ابن هشام: وذكر ابن جريج قال: قال لي عطاء سمعت عبيد بن عمير يقول: ائتمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الناقوس للإجتماع للصلاة، فبينا عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى عمر في المنام: لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا للصلاة.
فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بما رأى وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك فما ارع عمر إلا بلال يؤذن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبره ذلك: (قد سبقك بذلك الوحي) وهذا يدل على أنه قد جاء الوحي بتقرير ما رآه عبدالله بن زيد بن عبد ربه كما صرح به بعضهم والله تعالى أعلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه للفجر كل غداة فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر، فإذا رآه تمطى (نهض ومد يديه) ثم قال: اللهم أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك.
قالت: ثم يؤذن: قالت: والله ما علمته كان تركها ليلة واحدة - يعني هذه الكلمات - ورواه أبو داود من حديثه منفرداً به.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:22 PM
بناء المسجد الأول
عن أنس بن مالك قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم: بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا متقلدي سيوفهم. قال: وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر ردفه، وملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب.
قال: فكان يصلي حيث أدركته الصلاة، قال: ثم إنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى ملاء بني النجار فجاءوا فقال: (يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا) فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عزوجل، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخرب فسويت، وبالنخل فقط.
قال: فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه (جانبيه) حجارة.
قال: فجعلوا ينقلون ذلك الصخر وهم يرتجزون (ينشدون) ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم يقول: (اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة).
عن الزهري عن عروة: أن المسجد الذي كان مربداً - وهو بيدر التمر - ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة وهما: سهل وسهيل، فساومهما فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله فأبى حتى ابتاعه منهما وبناه مسجداً.
وعن الحسن قال: لما بني رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه عليه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره، فقال: (ابنوه عريشاً كعريش موسى فقلت للحسن: ما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يديه بلغ العريش - يعني السقف - .
وعن ابن عمر: أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كانت سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخيل، اعلاه مظلل بجريد النخل. ثم إنها تخربت في خلافة أبي بكر، فبناها بجذوع وبجريد النخيل. ثم إنها تخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر، فما زالت ثابتة حتى الآن. ولم يكن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بني منبر يخطب الناس عليه، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس مستنداً إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي فلما اتخذ له عليه السلام المنبر - كما سيأتي بيانه في موضعه - وعدل إليه ليخطب عليه، فلما جاوز ذلك الجذع خار ذلك الجذع وحن حنين النوق العشار لما كان يسمع من خطب الرسول عليه السلام عنده، فرجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتضنه حتى سكن.

د.فالح العمره
24-11-2006, 11:23 PM
التاريخ الإسلامي الهجري
اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة - وقيل: سنة سبع عشرة، أو ثماني عشرة - في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع إليه صك - أي حجة - لرجل على آخر وفيه أنه يحل عليه في شعبان.
فقال عمر: أي شعبان؟ اشعبان هذه السنة التي نحن فيها، أو السنة الماضية، أو الآتية؟
ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الدين وغير ذلك.
فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس. فكره ذلك، وكانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحداً بعد واحد.
وقال قائل: أرخو بتاريخ الروم. وكانوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس المقدوني فكره ذلك.
وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وقال آخرون: بل بمبعثه..
وقال آخرون: بل بهجرته.
وقال آخرون: بل وفاته عليه السلام.
فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره .. واتفقوا معه على ذلك.
ثم قالوا: وأي الشهور نبدأ؟
قالوا: رمضان.
ثم قالوا: المحرم فهو مصرف الناس من حججهم، وهو شهر حرام، فاجتمعوا على المحرم.

ابو عبدالله العجمي
25-11-2006, 01:18 AM
لا هنت فالح العمره على ذا الموضوع الطيب الي ذكر فيه اطيب البشر وابركهم محمد صلى الله عليه وسلم

والله يجزااك الف خير

د.فالح العمره
26-11-2006, 03:41 PM
يامرحبا بك يا الذيب ولا هنت على حضورك

د.فالح العمره
27-11-2006, 03:34 PM
معركة الخندق واستنطاق التجربة في الحاضر



يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً* إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا* هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً* وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً* وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً* ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سُئِلوا الفتنة لأتوْها وما تلبثوا بها إلا يسيراً* ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار وكان عهد الله مسؤولاً* قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذاً لا تمتّعون إلا قليلاً " [الأحزاب:9ـ16]. " ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً* من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلاً" [الأحزاب:22ـ23].




نزلت هذه الآيات لتتحدث عن معركة فاصلة حاسمة بين المشركين والمسلمين، وهي معركة الخندق، وتسمى بمعركة الأحزاب، والتي حدثت في شهر شوّال، ونحن إذ نستعرض بشكل سريع هذه المعركة فمن أجل أن نقارن بين واقع المسلمين في الماضي وبين واقعهم في الحاضر، وطبيعة الأوضاع التي كانت تسيطر على تلك المرحلة من حياة المسلمين، سواء لجهة الدور الذي لعبه أعداء الإسلام والجهات المندسّة في داخل المجتمع الإسلامي من المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، ممن كانوا يمثلون القوة النفاقية التي تنسق مع المشركين ، وتعمل على إثارة الفتنة في داخل الواقع الإسلامي، أو لجهة نصر الله المسلمين بعد أن أصيبوا بزلزال نفسي وخوف حقيقي، ومن بعد حصار لم يشهدوا له مثيلاً في كل تاريخ صراعهم مع المشركين، لكن الله سبحانه وتعالى كان معهم وهيّأ لهم العوامل الطبيعية التي ساهمت في تحقيق الانتصار، في حين كانت مفاجأة للمشركين وصدمة كبيرة لهم.



الإمداد الغيبـي :



فالله تعالى يبدأ هذه الآيات بعرض الواقعة: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها"، عندما هاجمتهم جنود المشركين وحلفاؤهم من اليهود كانت النتيجة أن أرسل الله عليهم ريحاً قاسية شاتية أثارت الرمال، فأضحى الإنسان معها لا يرى صاحبه، مما أفقدهم التماسك، وجعل أبو سفيان يأمر جنوده بالرحيل.



ويحدّثنا الله سبحانه وتعالى أنه أرسل جنوداً لم يروها، وهي كناية عن الملائكة التي عملت على إيجاد نوع من التوازن في الموقف، ولم يبين الله لنا الطريقة، لأنه غيب من غيب الله أخبرنا الله به ولا نملك تفاصيله، ولذلك فإن علينا أن نؤمن به وإن لم نعرف كلَّ مفرداته ودقائقه ، ويصوِّر القرآن الكريم لنا كيف كانت حالة المسلمين، لأنه يريد أن يعطينا الصورة حتى نتمثلها في المستقبل في كل صراعاتنا مع أعداء الله، وهذه هي قيمة القصة القرآنية التي لا تريد أن تدخلنا في التفاصيل كلها على طريقة القصص التي يلهو بها الناس، ولكنها تريد أن تركز على مفاصل القضايا التي يمكن أن تحدث في أية حالة من الحالات، ليتعلم المسلمون على مدى التاريخ كيف يواجهون الحالات المماثلة، وبالطريقة التي لا يسقطون فيها أمام الحصار والضغط، بل يتطلعون إلى غيب الله بالإضافة إلى ما يتحركون فيه.



إنّ المشكلة التي قد يعيشها المسلمون وغيرهم من الناس أنهم يرتبطون بالجانب الحسي من الأشياء، يعني دائماً أننا نُدخل في الحسابات ما يملك العدو وما نملك نحن، العدو أقوى منّا سلاحاً ونحن أضعف منه، العدوّ يملك امتدادات في الساحة الدولية ، ونحن لا نملك مثل هذه الامتدادات، العدو يجتمع على باطله ونحن نتفرق عن حقنا، فالله سبحانه وتعالى لا يمنعنا من أن ندخل في الحسابات المادية، ولكنه يعرّفنا أن هنالك حالة غيبية إلهية، يجب أن ننفتح من خلالها على الله، ولكن بعد أن نصبح على أتمِّ حالات الاستعداد لنقول له انصرنا على القوم الكافرين، لنقول له أعطنا من غيبك، كما فعل المسلمون في بدر: "إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدّكم بألفٍ من الملائكة مردفين" [الأنفال:9].



ومن هنا، علينا كمسلمين، ومن خلال إيماننا بالله سبحانه وتعالى، في كل تاريخ صراعاتنا، أن لا نغفل الإمداد الغيبي الذي يمد الله به عباده المؤمنين إذا أخلصوا له ، ولو فكّر كل واحد منّا في كل تاريخ حياته، لرأى أن الله سبحانه وتعالى كان يرعاه بطريقة لم يحسب لها حساباً، وكان يرزقه من حيث لا يحتسب، وكان يحرسه من حيث لا يحترس، وكان يخلّصه من البلاء في الوقت الذي يظن فيه أنه ليس هناك خلاصٌ من البلاء، ليدرس كل واحد منكم تاريخ حياته، وسيجد أن في حياته إمداداً غيبياً إلهياً لا يعرف من أين أتى، وكيف تحرك.



هذا الإمداد الغيبي الإلهي هو أمرٌ يمثل الحقيقة، إن على مستوى واقع المسلمين الفردي، أو على مستوى واقعهم الجماعي، ولهذا نجد أن الله يقول: " ومن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً* ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " [الطلاق:2ـ3]، قد يبتلينا الله، ولكنّه في الوقت نفسه يخرجنا من مآزق كثيرة ومن مشاكل كبيرة، لا ندري عوامل نشوئها والمؤثرات التي تركتها؟!



لقد أودع الله في الحياة سنناً كونية وقوانين طبيعية، ولكن الله لم يجعل الناس يعيشون تحت ضغط هذه السنن والقوانين بشكل حديدي، بل إنه سبحانه وتعالى يهيىء لهم سبيل الفرج والرحمة "سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً " [الطلاق:7] "إن مع العسر يسرا " [الشرح:6] " لا تقنطوا من رحمة الله " [الزمر:53] " ولا تيأسوا من روح الله" [يوسف:87].



ويركِّز سبحانه وتعالى دائماً على هذا المعنى، وأن على الإنسان أن يعيش على أساس أن لا تضغط عليه الأشياء المادية ، ولهذا لا يمكن لمؤمن أن ينتحر، لأن مسألة الانتحار إنما تنطلق عندما يختنق الإنسان في ظروفه من كل جهة، والإنسان المؤمن لا يمكن أن يختنق أبداً " يا بنيّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون" [يوسف:87].



ولهذا أحب أن أخاطب الشباب قبل الكبار، لأن تجارب الكبار في الحياة تجعلهم يحسون بسعتها أكثر من الشباب، خصوصاً من كان منهم في سنّ المراهقة، ولم يملك تجربة كبيرة في الحياة، فيتصور أنها محصورة في جانب دون غيره من الجوانب، فيما الحياة تتسع لكل المراحل، من الضيق إلى السعة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الشقاء إلى السعادة، ولذلك فإن عملية اليأس ليست واقعية من خلال طبيعة الحياة، لكن بعض الناس هو من يسجن نفسه في دائرة لا يسعى للخروج منها إلى دائرة أخرى، على الرغم من توفر الفرص والظروف.



وفي مسألة الإيمان بالله، فإن الكون كله يتسع لك، لأن "الله على كل شيء قدير "، إذ لا مشكلة إلا ولها حلّ، فالله لا يمكن أن يبتلينا دون أن يوجد لنا حلولاً لمشاكلنا، لكنه سبحانه وتعالى لا يتصرف في الكون على أساس مصلحة الفرد، وإنما يتصرف على أساس المصلحة العامة والحكمة العامة للناس ، وقد يرى سبحانه أن من المصلحة العامة أن يبتليك دون أن يحل لك المشكلة، وفي هذا الإطار لا تستطيع أن تقول إن هذه المشكلة لا حلّ لها، لأن "الله على كل شيء قدير"، وأن يعمل الله أو لا يعمل فهذا راجع إلى حكمته سبحانه وتعالى.



الزلـزال الشديـد :



كانت وقعة الخندق تمثل مشكلة من أصعب المشاكل التي مرت على المسلمين، ولذلك سنحاول أن نرسم صورة الواقع الذي سبق وقوعها، لنلج بعد ذلك إلى الآيات لنعيش أجواءها، حيث كان مجتمع المدينة يضم في تشكيلته ـ عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إلى جانب الأوس والخزرج عدداً من القبائل اليهودية من بني قريظة وبني القينقاع وبني النضير، وكان هؤلاء يمتلكون مواقع استراتيجية مهمة، كما كان يوجد خارج المدينة اليهود من غطفان وخيبر والمشركين من القبائل، خاصة قريش.



ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأولوية في صراعه للمشركين، فإنه عندما دخل المدينة أقام معاهدة بين اليهود وبين المهاجرين ومختلف عوائل المدينة، وكانت بذلك أوّل وثيقة تركز معنى الدولة، وعلى هذا الأساس دخل اليهود في عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عندما يخرج إلى الغزوات يشعر بالاطمئنان لوجود هذا العهد، بحيث لا ينقضه هؤلاء، لأن هناك تعايشاً بينهم وبين المسلمين آنذاك، ولكن بعض اليهود من بني النضير أو من آخرين فكّر أن بمستطاعه أن يخلق حرباً جديدة بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم حسب رواية، أو كما جاء في رواية أخرى، حيث كان المشركون يفكرون بالهجوم على المدينة واقتلاع الإسلام من مواقعه الأساسية، وجاء اليهود ليثيروهم، أو لينسِّقوا معهم، ورحبت قريش باليهود الذين لعبوا دوراً مثيراً في قضية الصراع، حتى إنه يقال بأن قريشاً عندما سألت اليهود عن الأهدى، فجاء رد اليهود بأنكم الأهدى، وقد قال تعالى عن هذه المسألة: " ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً" [النساء:51].



وقد زجّت قريش كلّ طاقاتها في المعركة، يعضدها أحلافها في الجزيرة العربية، بعد أن انضمّت إليها جماعات اليهود، ولم يبق إلا بنو قريظة خارج هذا التحالف، لأنها كانت مرتبطة بميثاقٍ مع المسلمين، ولذا حاول اليهود من بني النضير دفع قريظة إلى نقض العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم فامتنعت عن ذلك، ولكن الاستمرار في حالات الإقناع مكّنهم أخيراً من إقناعها بنقضه، بعد أن أغروهم بأن محمداً سيسقط جراء الحشد الهائل الذي تقدمت به قريش وأحلافها في المدينة.



سمع النبي صلى الله عليه وسلم بالذي حصل، فأرسل شخصاً ليتأكد من صحة القضية التي سرعان ما اكتشف بأنها صحيحة، وهنا أصبح الاحتراز واجباً "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم"، ما جعل المسلمين يعيشون حالةً من الإرباك، لأنهم أصبحوا محاصرين من جميع الجهات، وعاشوا الرعب والخوف "وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر"، حيث كان يشعر الشخص عندما يرتجف قلبه ويخفق خفقات سريعة، كأن قلبه وصل إلى حنجرته من شدة الاهتزاز، وهذا ما أدخل المسلمين في حالة من الظن بالله "وتظنون بالله الظنونا "، إذ فقدوا كل أمل لهم بالنصر وهم على هذه الحال من الحصار المستحكم، كما فقدوا الأمل بالبقاء.



حـرج المنافقيـن :



كانت هذه محطة ابتلاء "هنالك ابتلي المؤمنون ـ في هذا الواقع الجديد ـ وزلزلوا زلزالاً شديداً ـ زلزالاً نفسياً ـ وإذ يقول المنافقون ـ الذين وقعوا في حرج شديد، ما جعلهم يستغيثون بهذا وذاك ليركزوا مفاهيمهم ويخربوا الحالة الإيمانية في نفوس المؤمنين إن استطاعوا ـ والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً ـ فهم عندما وجدوا أنهم لا يستطيعون حراكاً من بيوتهم شككوا بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعدهم بأنهم سيصلون إلى مدائن كسرى وقيصر ـ وإذ قالت طائفة منهم ـ من هؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض ـ يا أهل يثرب ـ وهو اسم المدينة قبل أن تسمى بالمدينة ـ لا مقام لكم ـ لا مجال لكم ـ فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي ـ تحت ستار أن البيوت مكشوفة، لكي يسمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج من المعركة ـ يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ـ .



وقد كانوا يبغون من ذلك الفرار ـ إن يريدون إلا فراراً* ولو دخلت عليهم من أقطارها ـ يعني جاءوا من جميع الجوانب ـ ثم سئلوا الفتنة لأتوها ـ أما في حال طلب منهم أن يخلقوا الفتنة في داخل المجتمع المسلم للتنسيق مع المشركين لجاءوا مسرعين ـ وما تلبثوا بها إلا يسيراً ـ يقول هؤلاء الناس الذين يخافون ويستأذنون النبي ـ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار ـ أن يبقوا صامدين في وجه التحديات ـ وكان عهد الله مسؤولاً* قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ـ فلو فررتم من الموت أو القتل فإن الموت ملاقيكم "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" [آل عمران:154] ـ "وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً".



الأسـوة الحسنـة :



ويعطينا الله سبحانه وتعالى صورة الجانب الآخر: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " كيف كان صامداً وقوياً وصلباً، فلم يهتز ولم يسقط، مع إنه كان هو المقصود بالدرجة الأولى من كل هذه الأحزاب، وعليكم أن تقتدوا به لتكونوا الأقوياء كما هو قوي، وتكونوا في مواقع الصلابة والشجاعة كما كان هو في مواقع الصلابة والشجاعة " لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً* ولما رأى المؤمنون الأحزاب" هذه الأحزاب التي اجتمعت من كل البلاد "قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله"، بأننا سنجابه كل المشركين وكل أعداء الله، لأنه سبحانه وتعالى كتب علينا الجهاد، لذلك قال ستدعون إلى قوم "أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون" [الفتح:16]. وفي مواجهة التحديات "وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً"، إذ لا يسقط المؤمن أمام كل التحديات، لانفتاحه على الله سبحانه وتعالى، على طريقة نبي المؤمنين وإمامهم الذي يقول لصاحبه: "لا تحزن إن الله معنا".



مواجهة الاختراق بحفر الخندق :



قدّم القرآن الكريم لنا الصورة التي استطاع فيها المشركون أن يخترقوا المسلمين، ومواجهة المسلمين لهذا الاختراق، وهذه حالة موجودة في حياة كل المؤمنين المجاهدين الذين قد يخترق العدو صفوفهم من خلال بعض نقاط الضعف، فيسيطر على مواقعهم، وهنا لا بد أن يستعدوا ليواجهوا هذا الاختراق بطريقة يجعلون فيها العدو يلاقي الهزيمة ، وهذا ما واجهه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه، كما كان الله سبحانه وتعالى يأمر بذلك "وشاورهم في الأمر" [آل عمران:159] فأشار عليهم سلمان الفارسي بحفر الخندق لعدم الالتحام مع العدو كما كان متبعاً في بلاد فارس، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الفكرة، وبدأ المسلمون بحفر الخندق وهو على رأسهم، واستكمل حفر الخندق، وما إن وصل المشركون إلى المدينة حتى فوجئوا به، لأن هذه الطريقة في الحرب لم تكن مألوفة من قبل لدى العرب.



بدأ المشركون يفكرون باقتحامه، خاصة وأن القتال اقتصر على النبل والحجارة التي كان يرميها كل فريق على الآخر، ولكن كان هناك منطقة ضيقة في الخندق سمحت لعمرو بن عبد ود ومعه عدة أشخاص من اجتياز الخندق، ولكن بعضهم سقط في الخندق فرماه المسلمون وقتلوه.



وعمرو هذا كان أحد أبطال العرب، وربما جرح في بدر، ونذر أنه سينتقم ويقتل محمداً صلى الله عليه وسلم وقد لبث طوال هذه المدة يداوي جراحاته، أو أن هناك ظروفاً قد حالت دون اشتراكه في الحروب التي سبقت الخندق.



ولعلّ ـ عمراً كما كل المشركين ـ كان يتصور أن المسلمين لا يستطيعون مقاومة هذه الحملة، وبذلك يتحقق ما قطعه على نفسه من قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ما إن اجتاز الخندق حتى وقف قائلاً للمسلمين بسخرية، إذا كنتم تقولون إن مَنْ يُقْتل منكم يذهب إلى الجنة، فمن يحب أن يذهب إلى الجنة، فأنا مستعد أن أقتله، وهو يصول ويجول ويرتجز ويقول: لقد بححت من النداء بجمعكم هل من مبارز



معركة الإيمان والشرك :



والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من لعمرٍ وقد ضمنت له على الله الجنة"، فلا يقوم أحدٌ إلا علي، فقال له: اجلس، ثم قال: أنا له يا رسول الله، وهكذا كان ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقوم أحدٌ إلا علي، والنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بالجلوس، حتى قال له في المرة الثالثة: "أنت له" ....وانطلق علي، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: لقد كان أبوك صديقاً لي وأنا لا أحب أن أقتلك، فليبرز لي غيرك، قال له: ولكني أحب أن أقتلك، لأن الموقع ليس موقع علاقات شخصية، بل موقع رسالة، واشتدت العصبية بعمرو.



ويقال إن الإمام علي قال له: "إن كنت تقول ما دعاني أحد من العرب ممن أريد أن أبارزه إلى ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة، قال له: نعم، فقال علي: أولاً: أن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لأننا لا نريد أن نقاتل أحداً إلا بعد أن ندعوه إلى الإسلام ونقيم عليه الحجة، قال له: دع هذه، لو أردنا أن نقولها لقلناها بمكة، قال : إذاً أن ترجع بهذا الجيش من حيث أتيت، قال: ماذا تقول عني نساء قريش، بأني جئت ولم أفِ بنذري، هذا ليس وارداً، ثم قال: أن تنزل للبراز، أنت فارس وأنا راجل، وذلك حتى نكون في وضع متكافئ.



وكانت النتيجة أن صرع علي عمراً وقتله وفرّ من كان معه من الرجال ووقع بعضهم في الخندق، ثم جاءت الريح العاتية الشاتية القوية العاصفة، وخرّبت كل تشكيلات قريش والأحزاب، "وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال". ..



اكتسب المسلمون قوة بذلك، ما مكّن النبي صلى الله عليه وسلم أن يندفع فيما بعد إلى بني قريظة فيجليهم عن المدينة، وبذلك لم يبقَ فيها أحد من اليهود، أما الذين كانوا في خيبر فقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يهزمهم بعد ذلك.



نقض العهود :



أما إيحاءات هذه القضية، فالإيحاء الأول هو أن اليهود لا عهد لهم، وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك "أوَكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم" [البقرة:100] "ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" [البقرة:27]، وإذ خاطبهم الله "وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم" [البقرة:40] ولكن اليهود لا يعاهدون إلا إذا كانوا في موقع الضعف، وعندما يجدون من أنفسهم القوة ينقضون عهدهم، وهذا ما حصل عندما رأوا المشركين جاهزين للهجوم على المدينة لإسقاطها، وأبدوا استعدادهم للتنسيق مع أيٍّ كان، لأنهم يعتبرون الإسلام في كل مواقعه يختزن حيوية في فكره وفي سياسته وفي اقتصاده، الأمر الذي يمنعهم من تحقيق أهدافهم والوصول إلى أطماعهم وتأكيد شخصيتهم، سيما وأنهم يرون أنفسهم شعب الله المختار المؤهّل للسيطرة على العالم.



وهذا ما يجب أن نعيشه ونتحسَّب له أمام كلِّ دعوات "السلام" مع "إسرائيل" ومع يهود العالم، لأنه إذا لم نقل إن كل يهود العالم ينسّقون مع "إسرائيل" ويحاربون كل المسلمين اقتصادياً وسياسياً وثقافياً لمصلحة "إسرائيل"، فعلى الأقلّ فإن أكثرية اليهود كذلك.



... ولو سلمنا جدلاً بأن الصلح يشكل مسألة واقعية على المستوى السياسي، كما يقول بعض الناس الذين يتحدثون عن الواقعية، فإن هذا بخلاف ما ينطق به تاريخنا الإسلامي، وقرآننا الكريم الذي يقول : إنه ليس لليهود عهد، لأنهم " ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه" . وإذا كانوا يتحدثون الآن عن "السلام" ويزايدون في بعض الحالات، فهم يتحدّثون عن القوى الإسلامية التي تقف ضدّ "إسرائيل"، لأنها لا تعترف بشرعية وجودها ولا تهادنها بشيء، سواء كان الإسلاميون في فلسطين من أبطال الانتفاضة أو الإسلاميون في لبنان من أبطال المقاومة، أو الإسلاميون في سائر أنحاء العالم، لأن مشكلة هؤلاء ـ حسب زعمها ـ أنهم ضد "السلام"، وهي حمامة "السلام"، قاصدة من وراء كل ذلك إثارة الغرب والرأي العام الدولي، بأن هؤلاء هم دعاة حرب لا دعاة "سلام".



لذلك لا بد لنا كمسلمين أن نحمل في عقولنا وفي قلوبنا هذه الفكرة القرآنية عن اليهود، وقد بيّن الله تعالى ذلك: " لتجدنّ أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا" [المائدة:82].



بناءً لما تقدم، علينا أن نعي حقيقة التحالف الذي وقع بين المشركين واليهود في وقعة الأحزاب، لأن هذه حقيقة قرآنية وسياسية على مستوى الزمن كلِّه، ولذا يجب أن نستوحي مفاهيمنا السياسية في علاقاتنا بكل المحاور الموجودة في العالم من الحقائق القرآنية، والقرآن عندما يحدثنا عن اليهود يحدثنا عن تجربة من زمن موسى عليه السلام إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ناهيك عن التجارب الأخرى التي يتحدث عنها التاريخ، ما يجعلنا نرتكز على قاعدة مفادها أن حالة العنصرية والعدوانية متجذِّرة في الشخصية اليهودية.



إزاء هذا الواقع علينا أن نثقف أولادنا على أساس أن اليهود يشكلون خطراً حقيقياً على الإسلام وعلى المسلمين في كل قضاياهم، لأنه إذا قدّر للعبة الدولية أن تحقق أهدافها من خلال عملية الصلح بين العرب وإسرائيل، فإن أمريكا سوف تُدخل إسرائيل في كل الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والمالي والأمني من خلال المفاوضات المتعددة الجنسيات، أو من خلال المفاوضات الثنائية، وذلك عن طريق فرض الأنظمة، وعندما يدخلون إلى بلادنا تحت عنوان "السلم"، فإنهم سيحققون بذلك ما عجزوا عن تحقيقه بالحرب.



هذه المسألة هي برسم كلّ المسلمين في العالم، فمثلاً إذا كنت ملتزماً إسلامياً، هل تشتري الخمر لتشربه؟ هل تأكل لحم الخنزير؟ هل تأكل لحم الميتة؟ إنك تقول : لا يمكن ذلك، إن التعامل مع إسرائيل وإيجاد حالة تطبيعية معها هو تماماً كأكل لحم الخنـزير، وكشرب الخمر، لذلك نقول حتى للناس الذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها "إسرائيل"، أو الناس الذين تدفعهم إلى أن يهرّبوا البضائع "الإسرائيلية"، إن ذلك حرام وإن المال الذي تأكلونه من ذلك سحت.



وبما أن المسألة لا تقتصر على الجانب السياسي فحسب، فإننا نكون بذلك قد عملنا على تقوية "إسرائيل" من الناحية الاقتصادية، وهذا يعني أننا نمدها بالقوة اللازمة لتهزم قوتنا، وبالقوة العسكرية لتقتل أهلنا وأطفالنا ونساءنا وشيوخنا، وهذا ما يقوم به الذين يتجندون "لإسرائيل" عسكرياً.



والنقطة الثانية التي نستطيع أن نستفيدها من موقعة الخندق، هي أن المشركين كانوا في موقع الكثرة المحاصرة للمسلمين، بينما كان المسلمون أقلّ عدداً وعدة ومحاصرين، ومع ذلك فإن الله هزم الكثرة وأعز القلة، وشرّد المحاصِرين وأعزّ المحاصَرين، وهذه هي الحالة التي نقرأ خلاصتها دائماً في التعقيب: "لا إله إلا الله وحده وحده وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".



ومن خلال هذه الصورة، علينا أن نفهم أنّه ليس من الضروري أن تولد لنا الهزيمة يأساً، لأننا إذا أخذنا بأسباب القوة فيما نريد أن نحقق لأنفسنا القوة، فقد نستطيع أن نهزمهم بطريقة وبأخرى، فإذا استطعنا أن نهزمهم في المواقع الصغيرة، فإن ذلك يعني أننا طوّرنا قوتنا، ونستطيع أن نهزمهم في المواقع الكبيرة.



ولذلك علينا دائماً أن نفكر كأمة ولا نفكر كأفراد، لأننا إذا فكرنا كأفراد نشعر بالضعف، أما إذا فكرنا كأمة فإننا لا ريب سنشعر بالقوة، وعلينا أن لا نفكر فقط بالجانب المادي من حياتنا، بل أن نفكر بالجانب الروحي أيضاً الذي يربطنا بالله سبحانه وتعالى.



وعلى هذا الأساس، ينبغي أن نفكر ونمتلك الوعي السياسي الذي نحيط من خلاله بخلفيات الأمور وعمق القضايا والأشخاص، علينا أن لا نفكر لحظة واحدة أن الذين يسيطرون على الواقع العربي وعلى كثير من الواقع الإسلامي يمثلون الضمانة للعرب وللمسلمين في قضايا الحرية والعزة والكرامة والعدالة، لأن الكثيرين منهم موظفون لدى الاستكبار العالمي، بحيث لا يعتبرون أن إسرائيل تشكل خطراً عليهم، إنما يجدون الخطر كل الخطر في الإسلام ـ الذي يحكمون باسمه ـ إذا تحرك من أجل أن يؤكد مفاهيمه وشريعته.



المصدر : موقع بينات

د.فالح العمره
27-11-2006, 06:55 PM
إن من أسباب هذه السرية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بكتاب إلى ملك بصرى ، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقتله صبراً ، وكانت الرسل لا تقتل. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل هذه السرية إلى مؤتة ، في جمادى الأولى من سنة ثمان الهجرية.




وكان عدة هذه السرية ثلاثة آلاف مقاتل ، وأمّر عليها زيد بن حارثة ، ثم قال : إن قُتل زيد فجعفر ، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة ، وزاد الواقدي ، وابن سعد : (فإن أصيب عبدالله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلا فيجعلوه عليهم).



وعندما تهيأ الجيش وتجهزوا للخروج ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينها بكى ابن رواحة ، فسألوه عن السبب ، فقال : (أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار : (وإن منكم إلا واردها ، كان على ربك حتماً مقضياً) ، فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود) ، فقال المسلمون : صحبكم الله ودفع عنكم ، وردكم صالحين ، فقال ابن رواحة :



ولكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرغ تقذف الزبد



أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا



حتى يقال إذا مروا على جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشدا



ذات فرغ : أي ذات سعة.



الزبد : هنا هو رغوة الدم.



ثم مضوا حتى نزلوا مَعَان من أرض الشام ، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب ، من أرض البلقاء ، في مائة ألف من الروم ، وانضم إليهم من لخْم وجُذام وبَلَقَين وبهراء وبَلِي مائة ألف ، عليهم رجل من بَليّ ، يقال له مالك بن رافلة ، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم ، وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره ، فنمضي له ، فشجع ابن رواحة الناس ، وقال : (يا قوم ، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون : الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذين أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور وإما شهادة) فقال الناس : ( قد والله صدق ابن رواحة)..



فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء ، لقيهم جموع هرقل ، من الروم والعرب، بقرية مَشَارِف من قرى البلقاء ، ثم دنا العدو ، وانحاز المسلمون إلى قرية مؤتة، وعبؤوا أنفسهم فيها ، جعلوا على الميمنة قُطبة بن قتادة العذري ، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري ، ثم التقى الناس واقتتلوا ، فاستشهد زيد، وأخذ الراية جعفر ، فاقتحم عن فرس له شقراء ، ثم عقرها ، ثم قاتل حتى أكرمه الله بالشهادة ، وهو ينشد :



يا حبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارداً شرابها



والروم روم قد دنا عذابها * كافرة بعيدة أنسابها



علي إذ لاقيتها ضرابها



وروى ابن هشام أن جعفراً أخذ اللواء بيمينه فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه حتى قتل ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء.



ثم قال ابن هشام : (ويقال إن رجلاً من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين). وقد ذكر الواقدي وابن سعد عدة روايات في الحالة التي وجد عليها جعفر بعد استشهاده ففي رواية أنه وجد في أحد نصفيه ثلاثون أو بضعة وثلاثون جرحاً ، وفي رواية ثالثة أنه وجد في بدنه أكثر من ستين جرحاً وطعنة ، قد أنفذته. وثبت في الصحيح أنه قد وجد في جسده بضع وتسعون من طعنة ورمية.



روى ابن إسحاق وغيره أنه لما قتل جعفر أخذ ابن رواحة الراية ، ثم تقدم بها وهو على فرسه ، ثم تردد بعض التردد ، ثم قال مرتجزاً :



أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه



إن أجلب الناس وشدوا الرنة * مالي أراك تكرهين الجنة



قد طال ما قد كنت مطمئنة * هل أنت إلا نطفة في شنه



إن أجلب الناس : أي صاحوا واجتمعوا.



الرنة : صوت فيه ترجيع شبه البكاء.



نطفة : الماء القليل الصافي.



شنة : القربة القديمة.



وقال أيضاً :



يا نفس إلا تقتلي تموتي * هذا حمام الموت قد صُلِيت



وما تمنيت فقد أعطــيت * إن تفعلي فعلهمــــــا هديت



ثم نزل ساحة الوغى. فلما نزل أتاه ابن عم له بعظم عليه بعض اللحم وطلب منه أن يشُد به صلبه لما لاقاه من أيامه تلك من الشدة ، فلما أخذ من هذا العظم شيئاً يسيراً ، سمع الكسرة من ناحية الناس فقال : وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل ، فنال الشهادة التي كان يتمناها ، وقد ظهر ذلك في موقفه عندما حث الناس على لقاء العدو ، على الرغم من كثرته ، وعندما ترجم مشاعره في أشعاره التي ذكرنا ، وفي قوله لربيبه الذي كان في حجره ورديفه إلى مؤتة ، زيد بن أرقم، الذي سمعه يترنم بأبيات من الشعر ، ويشتهي فيها الشهادة ، فبكى زيد ، فخفقه ابن رواحة بالدرة ، وقال له : (ما عليك يالكع أن يرزقني الله شهادة وترجع بين شعبتي الرحل).



ثم أخذ الراية بعده ثابت بن أقرم ، وطلب من المسلمين أن يصطلحوا على رجل منهم ، فرشحوه فرفض ، فاصطلحوا على ابن الوليد ، فأخذ الراية ، وتمكن من الانسحاب.



وروي أنه لما قتل ابن رواحة مساء بات خالد ، فلما أصبح غدا ، وقد جعل مقدمته ساقته ، وساقته مقدمته ، وميمنته ميسرته ، وميسرته ميمنته ، فأنكر الأعداء ما كانوا يعرفون من رايات وهيئة المسلمين ، وقالوا : قد جاءهم مدد ، فرعبوا ، فانكشفوا منهزمين ، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم ، وانكسرت يومئذ في يد خالد بن الوليد تسعة أسياف ، مما يدل على شدة القتال قبل أن ينسحب من ميدان القتال.



ومما يؤكد مباشرة المسلمين القتال قبل الانسحاب ما رواه مسلم وغيره من حديث عوف بن مالك أن رجلاً من أهل اليمن رافقه في هذه السرية ، فقتل رومياً وأخذ سلبه ، فاستكثره خالد ، فشكاه اليمني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.



ومما ظهر من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر هذه السرية أنه صلى الله عليه وسلم نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة قبل أن يأتيه خبرهم ، وعيناه تذرفان الدموع ، وأخبرهم بأخذ خالد للراية وبشرهم بالفتح على يديه ، وسماه يومئذ سيف الله .



وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع لهم ، ثم بعد ذلك قدم بخبرهم يعلى بن أمية ولم يزد ما جاء به عما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه . وفي رواية أن عامر الأشعري هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمصابهم.



وعلى الرغم من ضراوة هذه المعركة وكثرة أعداد جيش العدو إلا أنه لم يستشهد من المسلمين سوى اثني عشر رجلاً كحد أقصى ، أما الأعداء فلم يعرف عدد قتلاهم، غير أن وصف المعركة يدل على كثرتهم.



وكان لشهداء مؤتة مكانة عظيمة عند الله تعالى ، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (ما يسرني أو قال ما يسرهم أنهم عندنا).



أما ما روى ابن إسحاق من أن الناس قالوا لجيش مؤتة : (يا فرار ، فررتم في سبيل الله) فقد قال ابن كثير عن هذه الرواية : (وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق ، فظن أن هذا الجمهور الجيش ، وإنما كان للذين فروا حين التقى الجمعان ، وأما بقيتهم فلم يفروا ، بل نصروا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين ، وهو على المنبر في قوله : (ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ، ففتح الله على يديه) ، فما كان المسلمون ليسموهم فرارا بعد ذلك ، وإنما تلقوهم إكراماً وإعظاماً ، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هناك ، وكان فيهم عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.



وساق ابن كثير أدلة على أن جمهور المسلمين لم يفروا ، بل فرت مجموعة من المسلمين ، من ذلك حديث عبدالله بن عمر عند أحمد ، الذي فيه أنه كان ممن فر وخشوا القتل إن هم دخلوا المدينة ، فهموا أن يركبوا البحر ، ثم أخيراً قرروا عرض أنفسهم على الرسول صلى الله عليه وسلم ، واعترفوا بفرارهم ، فقال لهم : (لا بل أنتم العكارون ، أنا فيئتكم ، وأنا فيئة المسلمين) وفي رواية قال لهم : (لا بل أنتم الكرارون).



وجيء بأبناء جعفر رضي الله عنه ، فداعبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بحلق رؤوسهم ، ودعا لهم ، وقال لأمهم عندما جاءته تذكر يتمهم : (العيلة تخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ؟).



ولما جاء نعي جعفر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اصنعوا لآل جعفر طعاماً ، فقد أتاهم أمر يشغلهم ، أو أتاهم ما يشغلهم).



أحكام وحكم ودروس وعبر من أحداث هذه السرية :



1- إن في تعيين الرسول صلى الله عليه وسلم لثلاثة أمراء على جيش سرية مؤتة ، لدليل على جواز تعليق الإمارة بشرط ، تولية عدة أمراء بالترتيب.



2- في نعي الرسول صلى الله عليه وسلم الأمراء الثلاثة قبل مجيء خبرهم ، فيه جواز الإعلام بموت الميت ، ولا يكون ذلك من النعي المنهي عنه ، وفيه علم ظاهر من أعلام النبوة.



3- في تأمير المسلمين لخالد بعد استشهاد الأمراء الثلاثة دليل على جواز الاجتهاد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.



4- إن ظهور الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءه خبر استشهاد الأمراء الثلاثة لدليل على ما جعله الله فيه من الرحمة ولا ينافي ذلك الرضا بالقضاء ، ويؤخذ منه ظهور الحزن على الإنسان إذا أصيب بمصيبة لا يخرجه عن كونه صابراً راضياً إذا كان قلبه مطمئناً ، بل قد يقال إن من كان ينزعج بالمصيبة ويعالج نفسه على الرضا والصبر أرفع رتبة ممن لا يبالي بوقوع المصيبة أصلاً.



5- أفاد المسلمون دروساً وخبرات عظيمة من هذا اللقاء الأول مع الروم في مستقبل جهادهم معهم، حيث تعرفوا على عددهم وعدتهم وخططهم العسكرية وطبيعة أرضهم التي وقع فيها القتال.



6- إن في مواقف الأمراء الثلاثة دليل على مدى قوة الإيمان الذي يحرك الصحابة رضي الله عنهم نحو ميادين الجهاد.

د.فالح العمره
27-11-2006, 06:56 PM
المبحث الأول : سرية ابن أبي العوجاء السلمي :






عندما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء بعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين فارساً ، وكان معهم عين لبني سليم ، فلما فصل من المدينة خرج العين إلى قومه فأخبرهم ، فجمعوا جمعاً غفيراً واستعدوا للقاء المسلمين.




وعندما جاءهم المسلمون دعوهم إلى الإسلام فرفضوا ، وأحدقوا بالمسلمين ، فقتلوا عامتهم ، وأصابوا ابن أبي العوجاء وتركوه جريحاً بين القتلى ، ثم تحامل حتى بلغوا المدينة في أول يوم من صفر سنة ثمان من الهجرة.






المبحث الثاني : إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد (رضي الله عنهما) :






وروى أحمد وابن إسحاق أن عمرو بن العاص عندما رأى علو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث مع من يسمعون له من رجال قريش في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأقنعهم بالخروج معه إلى النجاشي ، فهو أحب إليهم أن يكونوا عنده من أن يكونوا تحت يدي محمد إذا ظهر ، وإن ظهر قومهم فلن يأتيهم منهم إلا الخير لمعرفتهم بهم. وجمعوا جلوداً ليهدوها إلى النجاشي لأن ذلك أحب ما يهدى إليه من أرض الحجاز. واتفق أن جاؤوا النجاشي وعنده عمرو بن أمية الضمري رسولاً من النبي صلى الله عليه وسلم ، فعندما خرج من عند النجاشي دخل عليه عمرو وطلب منه أن يعطيه إياه ليقتله لأنه من عدوه ، فغضب منه النجاشي وضربه على أنفه ، فخاف واعتذر ، ثم قذف الله في قلبه الإسلام لما رأى حماسة الناس حتى العجم في الإيمان بمحمد والدفاع عنه. ولم يتردد عمرو في مبايعة النجاشي على الإسلام عندما اقترح عليه النجاشي ذلك ، ثم خرج وكتم إسلامه عن أصحابه وعاد إلى بلاده.






وقبيل الفتح خرج عمرو بن العاص عامداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ليسلم ، فلقيه خالد بن الوليد يريد ما يريد عمرو فقدما سوياً على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبايعا على الإسلام.






ومما يؤكد أن إسلام عمرو وخالد كان في التاريخ الذي ذكره ابن إسحاق والواقدي أن اسم خالد ظهر في سرية مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة وأن اسم عمرو بن العاص ظهر في سرية ذات السلاسل في جمادى الثانية سنة ثمان من الهجرة.






أما قصة إسلام خالد فقد رواها الواقدي ، وخلاصتها أن خالداً عندما أراد الله به ما أراد من الخير وقذف في قلبه الإيمان ، كان ينصرف بعد كل موطن شهده ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفكر ، فيرى في نفسه أنه في موضع غير موضعه وأن محمد سيظهر ، وفي غزوة الحديبية بالذات تأكد له أن الرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع ، لأنه عندما هم أن يغير بخيله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ما في أنفسهم فصلى بأصحابه صلاة الخوف ، ولم يترك لهم فرصة. وعندما تم الصلح بالحديبية رأى أنه لم يبق شيء ، ففكر في الذهاب إلى النجاشي وهرقل ، وبينما هو يقلب هذا الأمر في ذهنه ، دخل رسول الله في عمرة القضاء ، فتغيب ، ودخل أخوه الوليد في الإسلام في هذه العمرة ، وطلبه فلم يجده ، فكتب إليه كتاباً فيه تعجبه من مثله في ذهاب عقله عن الإسلام ، وذكر له سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله عنه : (ما مثله جهل الإسلام ، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين كان خيراً له ولقدمناه على غيره) ، فلما جاءه كتاب أخيه نشط للهجرة ، وزاده رغبة في الإسلام أنه رأى في المنام كأنه في بلاد ضيقة جدبة ، فخرج منها إلى بلاد خضراء واسعة ، فقال : إن هذه لرؤيا ، فذكرها لأبي بكر عندما قدم المدينة ، فقال : هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام والضيق هو الشرك.






وعندما أجمع الهجرة أراد أن يرافقه رجال في مكانته ، فاتصل بصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل ، فرفضا ، فتركهما فخرج ، وعند خروجه التقى بصديقه عثمان بن طلحة فذكر له ما يريد ، فعلم منه أنه يريد ما يريد ، فاتعدا بيأجج ، وخرجا سحراً والتقيا عند الفجر بيأجج وسارا حتى انتهيا إلى الهدة ، فوجدا عمرو بن العاص بها ، فتعارفوا ثم ساروا سوياً إلى المدينة فأسلموا ، وكان ذلك في صفر سنة ثمان من الهجرة.






المبحث الثالث : سرية غالب بن عبد الله إلى الكديد :






أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشن الغارة على بني الملوح ، وهم بالكديد [ وهي منطقة بين عسفان وقديد] ، وفي طريقه إليهم ، وفي منطقة قديد [ وهي قرية جامعة بين مكة والمدينة كثيرة المياه ] لقوا الحارث بن مالك ، وهو ابن البرصاء الليثي ، فأخذوه ، فأخبرهم أنه في طريقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم ، فلم يطمئنوا إليه فأوثقوه واعتذروا إليه بأن رباط ليلة لن يضيره ، وتركوه مع رجل أسود من أصحابه ، وأوصوه أن يقتله إذا غالبه. وأتوا الكديد عند الغروب ، فكمنوا وأرسلوا جندب بن مكيث الجهني طليعة لهم ، فأتى تلاً مشرفاً على الحاضر ، فرأى رجل من الأعداء أن هناك شيئاً مريباً فأصابه بسهم فلم يتحرك حتى لا يكشف أمر أصحابه ، ونزع السهم من جسده ووضعه ، وفي السحر شنوا الغارة على الأعداء واستاقوا النعم ، ومضوا بها ، ومروا بابن البرصاء وصاحبه فاحتملوهما معهم ، وفي هذا الأثناء استغاث القوم فجاءهم جمع غفير لا قبل للمسلمين به ، فساروا في إثرهم حتى قربوا منهم ، ولم يكن بينهم وبين المسلمين إلا وادي قديد ، فأرسل الله الوادي بالسيل من غير سحاب ولا مطر ، فلم يستطيعوا تجاوزه ، ونجا المسلمون منهم.






وكانت هذه السرية في صفر ثمان من الهجرة ، وكانوا بضعة عشر رجلاً.






المبحث الرابع : دروس وعبر من أحداث هذه السرية :






1- إن إرسال الله تعالى الوادي بالسيل ليمنع الأعداء من الإيقاع بالمسلمين كرامة لهم.



2- وفي خبر إصابة جندب بسهم في جسده ومع ذلك لم يتحرك ، لدليل على تفاني المسلمين الأوائل وتحملهم أشد أنواع الأذى في سبيل هذه الدعوة.



3- إن في خبر ربط المسلمين ابن البرصاء دليلاً على أهمية أخذ الحذر من الأعداء.



4- وفي إرسال الطلائع للتجسس على أخبار الأعداء دليل على أهمية اتخاذ العيون أخذاً بالأسباب في المحافظة على أرواحهم والإيقاع بالعدو ، وأخذه على حين غرة ما دامت قد بلغته الدعوة ، وأخذ في تهديد أمن المسلمين.






المبحث الخامس : سرية غالب بن عبد الله الليثي أيضاً إلى مُصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك :






هيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام في مائتي رجل ليسير إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفدك. وعندما عاد غالب من سرية الكديد أرسله مكان الزبير ، وقيل خرج معه في هذه السرية أسامة بن زيد وعلبة بن زيد ، فأصابوا منهم نعماً ، وقتلوا منهم قتلى. وقيل كان ذلك في صفر سنة ثمان من الهجرة.






وذكر الواقدي أن أسامة بن زيد قتل في هذه السرية نهيك بن مرداس وهو يقول : لا إله إلا الله ، وعنفه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا المسلك. وروى بإسناده إلى المقداد بن عمرو أنه قتل رجلاً شهد أن لا إله إلا الله ، فعنفه الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك ، ولما يذكر أن ذلك كان في هذه السرية.






ويبدو الاختلاف ظاهراً في قصة الرجل الذي قال : لا إله إلا الله فقتله أحد الصحابة، فمرة أنه أسامة ، ومرة أن المقداد ، ومرة في سرية الحرقة ويسمى المقاتل ولا يسمى المقتول ، ومرة في سرية الكديد ، ومرة ثالثة في سرية الميفعة ، والراجح كما قلنا ، وكما هو ثابت في الصحيحين أن قصة قتل أسامة لرجل شهد أن لا إله إلا الله قد وقعت في سرية الحرقة من جهينة ، وسمى ابن إسحاق الرجل المقتول ، وهو مرداس بن نهيك ، وإسناده صحيح.






المبحث السادس : سرية كعب بن عمير إلى قضاعة بذات أطلاح :






أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام ، من وراء وادي القرى ، وذلك في ربيع الأول من العام الثامن الهجري ، فكان يسير الليل ويكمن النهار ، حتى دنا منهم ، فرآه عين لهم فأخبرهم بقلة عددهم فجاءوهم على الخيول فقتلوهم إلا رجلاً واحداً أفلت منهم فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث ، فهم بالبعث إليهم ، ولكنه بلغه أنهم ساروا إلى موضع آخر ، فتركهم.






المبحث السابع : دروس وعبر :






في هذه السرية درس بليغ للناس عما كان يقع للصحابة المجاهدين في سبيل الدعوة الإسلامية. وقد تكرر مثل هذه الحادثة كثيراً كما هو واضح من سردنا لأحداث هذه السرايا الصغيرة.






المبحث الثامن : سرية شجاع بن وهب إلى السي من أرض بني عامر :






في ربيع الأول من العام الثامن الهجري بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمع من هوازن بالسي ، من أرض بني عامر ، ناحية ركبة ، فأغاروا عليهم ، فأصابوا نعماً كثيراً وشاء ، فعادوا بها بعد غياب دام خمس عشرة ليلة ، وجاء في أثرهم وفدهم إلى المدينة وأعلنوا إسلامهم، فرد المسلمون إليهم السبي. وكان في السبي جارية وضيئة اختارت المقام مع شجاع بن وهب.






وفي قصة هذه الجارية دليل على مدى أثر أخلاق المسلمين في غيرهم ، حتى ولو كان هذا الغير هم ممن حاربوهم وأرادوا القضاء عليهم.






وقد تكون هذه السرية هي التي أشار إليها البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد ، فغنموا إبلاً كثيرة فكانت سهامهم اثني عشر بعير أو أحد عشر بعيراً ، ونفلوا بعيراً بعيراً.






وقد تكون سرية نجد التي أشار إليها البخاري ومسلم وغيرهما هي ذاتها سرية أبي قتادة بن ربعي الأنصاري إلى خضرة ، وهي أرض محارب – من غطفان – بنجد ، في شعبان سنة ثمان من الهجرة ، وكان معه خمسة عشر رجلاً ، فهجم على حاضر منهم عظيم ، فقتلوا من أشرف لهم واستاقوا النعم والسبي ، وكان نصيب كل رجل منهم اثني عشر بعيراً ، فصارت في سهم أبي قتادة جارية وضيئة ، فاستوهبها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوهبها له ، فوهبها النبي صلى الله عليه وسلم لمحمية بن جزء.






وغابوا في هذه السرية خمس عشرة ليلة.






المبحث التاسع : سرية زيد بن حارثة إلى مدين :






بعثه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ضميرة مولى علي بن أبي طالب ، وأخ له ، فأصاب سبياً من أهل ميناء ، وهي السواحل ، وفيها جماعات من الناس مختلطين ، فبيعوا ، ففرق بينهم الأمهات والأولاد ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وهم يبكون ، فقال : (مالهم ؟) فقيل : (يا رسول الله ، فرق بينهم) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ولا تبيعوهم إلا جميعاً).






ولم تذكر المصادر التي بين يدي تاريخاً معيناً لهذه السرية. ويستنتج أنها وقعت قبل سرية مؤتة ، لأن زيداً استشهد في سرية مؤتة.









كتاب السيرة النبوية في ضوء مصادرها الأصلية، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 531 .

د.فالح العمره
27-11-2006, 06:57 PM
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى مكة في ذي القعدة من العام السابع الهجري لأداء العمرة حسب الشروط التي تمت في صلح الحديبية؛ فقد روى البيهقي وابن سعد أن المسلمين صحبوا معهم أسلحتهم ، ووضعوها بيأجج – واد قريب من مكة أو مكان من مكة على ثمانية أميال- ، خارج الحرم ، ودخلوا بسلاح الراكب ، السيوف ، كما هو الشرط.

لقد بلغ عدد من شهد عمرة القضاء ألفين سوى النساء والصبيان ، منهم الذين شهدوا الحديبية.

وعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كان عبد الله بن رواحة ينشد بين يديه :

خلوا بني الكفار عن سبيله*اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله* ويذهل الخليل عن خليله

وعندما أشاعت قريش أن المسلمين ضعفاء بسبب حمى يثرب ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ويسارعوا بالعدو في الأشواط الثلاثة الأولى من طوافهم ، وأن يسعوا بين الصفا والمروة مهرولين ليرى المشركون قوتهم.

ففعلوا ما أمروا به ، فرأتهم قريش وهي مصطفة على جبل قيقعان في مواجهة ما بين الركنين ، فتعجبوا من قوتهم ، وقالوا : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وقد وهنتهم ، هؤلاء أجلد من كذا وكذا.

وعندما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أداء مناسك العمرة أمر جماعة من الصحابة أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقيموا على السلاح ، ويأتي الآخرون الذين كانوا في حراسة السلاح ليقضوا نسكهم ، ففعلوا ، ثم دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة ومكث بها إلى الظهر ، ثم أمر بلال فأذن على ظهر الكعبة.

وعندما انقضت الأيام الثلاثة ، جاءت قريش في صباح اليوم الرابع إلى علي رضي الله عنه ، فقالوا : ( قل لصاحبك : اخرج عنا فقد مضى الأجل). فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونزل بسرف ، فأقام بها إلى أن تتام الناس ، ثم انصرف إلى المدينة المنورة في ذي الحجة.

وفي هذه العمرة تزوج صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية – أخت أم الفضل زوج عمه العباس – فبنى بها صلى الله عليه وسلم بسرف. والراجح أن هذا الزواج كان بعد أن تحلل الرسول صلى الله عليه وسلم من إحرامه.

وكانت ميمونة تحت أبي رهم بن عبد العزى ، وقيل تحت أخيه حويطب ، وقيل سخبرة بن رهم.

ولما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم الخروج من مكة ، تبعتهم الطفلة عمارة ابنة حمزة تنادي : يا عم يا عم ، فأخذها علي ودفعها لفاطمة ، وهي ابنة عمه ، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر ، فقال علي : أنا أخذتها وهي ابنة عمي ، وقال جعفر : ابنة عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد : ابنة أخي ، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها ، وقال : (الخالة بمنزلة الأم) ، وقال لعلي : (أنت مني وأنا منك) ، وقال لجعفر : (أشبهت خَلقي وخُلفي) ، وقال لزيد : (أنت أخونا ومولانا) ، وكان هذا القضاء لأن جعفر محرم لها ، إذ لا يجمع الرجل بين المرأة وخالتها في الزواج.

وفي هذه القصة من الفقه : أن الخالة مقدمة في الحضانة على سائر الأقارب بعد الأبوين .... وفيها حجة لمن قدم الخالة على العمة ، وقرابة الأم على قرابة الأب ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قضى بعمارة لخالتها فقد كانت صفية عمتها موجودة إذ ذاك ، وهذا قول الشافعي ، ومالك وأبي حنيفة ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وفي الرواية الثانية : إن العمة مقدمة على الخالة ، وهو اختيار الشيخ ابن القيم.


السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية دراسة تحليلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 531

د.فالح العمره
27-11-2006, 06:58 PM
المبحث الأول : سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة :
بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثين راكبا إلى بني نضر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جشم بن بكر بن هوازن الذين كانوا بتربة ، وهو موضع قريب من مكة ، وعندما علموا بمسير المسلمين إليهم هربوا ، فعاد عمر وأصحابه وبنو نضر وبنو جشم هم عجز هوازن. وكان ذلك في شعبان سنة سبع من الهجرة .

المبحث الثاني : سرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى نجد :
بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني فزازة في أرض نجد ، فشن عليهم الغارة ، فقتل منهم من قتل ، وكان معه في السرية سلمة بن الأكوع ، حيث تمكن من أسر مجموعة من الذراري ، فنفله أبو بكر منهم جارية جميلة ، طلبها منه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفدى بها أسرى من المسلمين بمكة . وكانت هذه السرية في شعبان سنة سبع من الهجرة.

المبحث الثالث : سرية بشير بن سعد إلى ناحية فدك :
أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثين رجلا إلى بني مرة بفدك ، فتمكن من استياق نعمهم بينما كانوا في بواديهم. وعندما علموا بالخبر أدركوه ، وأصابوا أصحابه ، وولى منهم من ولى ، وقاتل بشير ببسالة حتى سقط ، وظنوه قد مات. ورجعوا بأنعامهم. وفي المساء تمكن بشير من اللجوء إلى فدك ، وأقام عند يهودي أياما حتى ضمدت جراحه ، فرجع إلى المدينة. ونقل خبر مصابهم إلى المدينة علبة بن زيد الحارثي. وكان ذلك في شعبان سنة سبع من الهجرة.

المبحث الرابع : سرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة :
الراجح أن هذه السرية هي التي عناها البخاري ومسلم وابن إسحاق في روايتهم من حديث أسامة بن زيد. قال أسامة : (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة ، فصبحنا القوم فهزمناهم ، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم ، فلما غشيناه قال : لا إله إلا الله ، فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته ، فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ؟ قلت : يا رسول الله ، إنما كان متعوذا ، قال : أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت من قبل ذلك اليوم).

وعند ابن إسحاق أن اسم الرجل المقتول (مرداس بن نهيك ، من الحرقة ، من جهينة ، وحليف لبني مرة. وعند الواقدي أن اسمه نهيك بن مرداس ، ولكن السرية عنده هي سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب بشير وأصحابه ، وعند ابن أبي عاصم أن اسمه مرداس الفدكي ، وأنه مات في المعركة. والراجح أن اسمه مرداس بن نهيك كما هو عند إسحاق ، وأن الذي قتله هو أسامة بن زيد.

أما الواقدي وابن سعد فقد ذكر أن سرية غالب بن عبد الله التي وقعت فيها قصة أسامة مع الرجل الذي قال لا إله إلا الله فقتله على الرغم من ذلك ، كانت إلى الميفعة ، وأن عدتها مائة وثلاثون راكبا بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني عبد بن ثعلبة وبني عوال ، وفيهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي قادهم إلى مكان العدو ، حيث أوقعوا به واستاقوا نعمه وشاءه ، وقتلوا من أشرف إليهم ، وذلك في رمضان سنة سبع من الهجرة.

وذكر ابن سعد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأسامة عندما بلغه خبر قتله الرجل الذي نطق الشهادتين : (ألا شققت قبله فتعلم صادق هو أم كاذب ؟ فقال أسامة : لا أقاتل أحداً يشهد أن لا إله الله). إن في هذا اللوم تعليما وبلاغا في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد ، وإنما كلف الإنسان بالعمل الظاهر وما ينطق به اللسان ، وأما القلب فليس للإنسان طريق إلى ما فيه. وفيه دليل على ترتيب الأحكام على الأسباب الظاهرة دون الباطنة.

المبحث الخامس : سرية بشير بن سعد إلى الجناب :
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان بالجناب قد واعدهم عيينة بن حصن ليكون معهم ليزحفوا على المدينة ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد فعقد له لواء وبعث معه ثلاثمائة رجل ، حتى أتوا إلى يمن وجبار وهم نحو الجناب ، والجناب يعارض سلاح وخيبر ووادي القرى ، فنزلوا بسلاح ، ثم دنوا على القوم ، فأصابوا لهم نعما كثيرا ، وتفرق الرعاء وحذروا القوم ، فتفرقوا ولحقوا بعلياء بلادهم. ولذا لم يجد بشير عندما حل بديارهم ومحالهم إلا رجلين ، فأسرهما وقدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما ، فأرسلهما. وكان ذلك في شوال سنة سبع من الهجرة. وفي رواية أنهم عندما أتوا أسفل خيبر أغاروا على المشركين وقتلوا عينا لعيينة ، ثم لقوا جمع عيينة فناوشوهم ، ثم انكشف جمع عيينة ، وأسر منهم رجلان.

وكانت هذه السرية سببا في أن يفكر عيينة في أمر الإسلام لحوار دار بينه وبين حليفه الحارث بن عوف المري وفروة بن هبيرة القشيري. وكانت خلاصة الحوار أن أخذوا يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى ، ثم أصبح من المؤلفة قلوبهم كما استفاضت الأخبار في ذلك. فقد ثبت أنه حضر حنينا مع الرسول صلى الله عليه وسلم كما في رواية ابن إسحاق.

المرجع :السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، صفحة 527

د.فالح العمره
27-11-2006, 07:01 PM
لم يبد يهود خيبر عداء سافراً للمسلمين حتى لحق بهم زعماء بني النضير عندما أجلوا عن المدينة. وكما سبق وأن ذكرنا فقد كان أبرز زعماء بني النضير الذين غادروا المدينة ونزلوا خيبر : سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب ، فلما نزلوها دان لهم أهلها.

لقد نزلوا بأحقادهم ضد المسلمين ، ولذا كانوا كلما وجدوا فرصة للانتقام من المسلمين انتهزوها ، ووجدوا في قريش وبعض قبائل العرب حصان طروادة الذي سيدخلون به المدينة مرة أخرى ، فألبوهم ضد المسلمين ، ثم جروهم إلى غزوة الخندق ، وسعوا في إقناع بني قريظة للانضمام إليهم والغدر بالمسلمين. ولذا كانت تلك العقوبة الرادعة التي أنزلها المسلمون بهم عندما صرف الله الأحزاب ، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية عبد الله بن عتيك للقضاء على رأس من رؤوسهم أفلت من العقاب يوم قريظة ، وهو سلام ابن أبي الحقيق ، فقتلوه.

وكانت هدنة الحديبية فرصة أمام المسلمين لتصفية هذا الجيب الذي يشكل خطورة على أمن المسلمين ، وقد وعد الله المسلمين بمغانم كثيرة يأخذونها إذا هزموا يهود خيبر ، وإلى ذلك أشارت سورة الفتح التي نزلت في طريق العودة من الحديبية ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ، فعلم ما في قلوبهم ، فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ، ومغانم كثيرة يأخذونها ، وكان الله عزيزاً حكيماً ، وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً ، وأخرى لم تقدروا عليها ، قد أحاط الله بها ، وكان الله على كل شيء قديراً).

تاريخ الغزوة :

ذكر ابن إسحاق أنها كانت في المحرم من السنة السابعة الهجرية ، وذكر الواقدي أنها كانت في صفر أو ربيع الأول من السنة السابعة بعد العودة من غزوة الحديبية ، وذهب ابن سعد إلى أنها في جمادى الأولى سنة سبع ، وقال الإمامان الزهري ومالك إنها في المحرم من السنة السادسة. وظاهر أن الخلاف بين ابن إسحاق والواقدي يسير ، وهو نحو الشهرين ، وكذلك فإن الخلاف بينهما وبين الإمامين الزهري ومالك مرجعه إلى الاختلاف في ابتداء السنة الهجرية الأولى كما سبق الإشارة إلى ذلك. وقد رجح ابن حجر قول ابن إسحاق على قول الواقدي.

أحداث الغزوة :

سار الجيش إلى خبير بروح إيمانية عالية على الرغم من علمهم بمنعة حصون خيبر وشدة وبأس رجالها وعتادهم الحربي. وكانوا يكبرون ويهللون بأصوات مرتفعة ، فطلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفقوا بأنفسهم قائلاً : (إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم). وسلكوا طريقا بين خيبر وغطفان ليحولوا بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر لأنهم كانوا أعداء للمسلمين.

ونزل المسلمون بساحة اليهود قبل بزوغ الفجر ، وقد صلى المسلمون الفجر قرب خيبر ، ثم هجموا عليها بعد بزوغ الشمس ، وفوجئ أهلها بهم وهم في طريقهم إلى أعمالهم ، فقالوا : محمد والخميس !! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).

وهرب اليهود إلى حصونهم وحاصرهم المسلمون. وقد حاولت غطفان نجدة حلفائهم يهود خيبر ، حتى إذا ساروا مرحلة سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حساً فظنوا أن المسلمين قد خالفوا إليهم فرجعوا ، وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر ، فأخذ المسلمون في افتتاح حصونهم واحداً تلو الآخر.

وكان أول ما سقط من حصونهم ناعم والصعب بمنطقة النطاة وأبي النزار بمنطقة الشق ، وكانت هاتان المنطقتان في الشمال الشرقي من خيبر ، ثم حصن القموص المنيع في منطقة الكتيبة ، وهو حصن ابن أبي الحقيق ، ثم اسقطوا حصني منطقة الوطيح والسلالم.

وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة عند فتح بعض هذه الحصون ، منها حصن ناعم الذي استشهد تحته محمود بن مسلمة الأنصاري ، حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن ، والذي استغرق فتحه عشرة أيام ، فقد حمل راية المسلمين عند حصاره أبو بكر الصديق ، ولم يفتح الله عليه ، وعندما جهد الناس ، قال رسول الله إنه سيدفع اللواء غداً إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله و رسوله ، ولا يرجع حتى يفتح له ، فطابت نفوس المسلمين ، فلما صلى الفجر في اليوم التالي دفع اللواء إلى علي ، ففتح الله على يديه.

وكان علي يشتكي من رمد في عينيه عندما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له ، فبرئ.

ولقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم علياً بأن يدعو اليهود إلى الإسلام قبل أن يداهمهم ، وقال له : ( فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم). وعندما سأله علي : يا رسول الله ، على ماذا أقاتل الناس ؟ قال : ( قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).

وعند حصار المسلمين لهذا الحصن برز لهم سيده وبطلهم مرحب ، وكان سبباً في استشهاد عامر بن الأكوع ، ثم بارزه علي فقتله ، مما أثر سلبياً في معنويات اليهود ومن ثم هزيمتهم.

وقد أبلى علي بلاء حسناً في هذه الحرب. ومن دلائل ذلك : روى ابن إسحاق من حديث أبي رافع – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن علياً عندما دنا من الحصن خرج إليه أهله ، فقاتلهم ، فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده ، فتناول علي باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده حين فرغ.

قال الراوي – أبو رافع : فلقد رأيتني في نفر سبعة معي ، أنا ثامنهم ، نجهد على أن نقلب ذلك الباب ، فما نقلبه.

وروى البيهقي من طريقين مرفوعين إلى جابر رضي الله عنه قصة علي والباب ويوم خيبر. ففي الطريق الأول أن عليا رضي الله عنه حمل الباب حتى صعد عليه المسلمون فافتتحوها ، ولم يستطع أربعون رجلاً أن يحملوا هذا الباب. وفي الطريق الثانية أنه اجتمع عليه سبعون رجلاً ، فأعادوه إلى مكانه بعد أن أجهدهم.

وتوجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ بعد فتح حصن ناعم ، وأبلى حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسناً حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام ، ووجدوا فيه الكثير من الطعام والمتاع ، يوم كانوا في ضائقة من قلة الطعام ، ثم توجهوا بعده إلى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من حصون يهود – فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه ، فاضطروهم إلى النزول للقتال ، فهزموهم بعد ثلاثة أيام ، وبذلك تمت السيطرة على آخر صحون منطقة النطاة التي كان فيها أشد اليهود.

ثم توجهوا إلى حصون الشق ، وبدأوا بحصن أبيّ ، فاقتحموه ، وأفلت بعض مقاتلته إلى حصن نزار ، وتوجه إليهم المسلمون فحاصروهم ثم افتتحوا الحصن ، وفر بقية أهل الشق من حصونهم وتجمعوا في حصن القَمُوص المنيع وحصن الوطيح وحصن السلالم ، فحاصرهم المسلمون لمدة أربعة عشر يوماً حتى طلبوا الصلح.

نتائج الغزوة :

وهكذا فتحت خيبر عنوة ، استناداً إلى النظر في مجريات الأحداث التي سقناها ، وما روى البخاري ، ومسلم وأبو داود من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر وافتتحها عنوة.

فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك فقبل ذلك منهم. فكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.

وقتل من اليهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعون رجلاً. وسبيت النساء والذراري ، منهن صفيه بنت حيي بن أخطب ، التي اشتراها الرسول صلى الله عليه وسلم من دحية حيث وقعت في سهمه فأعتقها وتزوجها. وقد دخل عليها في طريق العودة إلى المدينة ، وتطوع لحراسته في تلك الليلة أبو أيوب الأنصاري.

واستشهد من المسلمين عشرون رجلاً فيما ذكر ابن إسحاق وخمسة عشر فيما ذكر الواقدي.

وممن استشهد من المسلمين راعي غنم أسود كان أجيراً لرجل من يهود. وخلاصة قصته أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر ومعه غنم يرعاها لبعض يهود خيبر ، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليه الإسلام ، فعرضه عليه ، فأسلم ، ثم استفتاه في أمر الغنم ، فطلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب وجوهها ، فسترجع إلى أصحابها ، فأخذ الراعي حفنة من الحصى فرمى بها في وجوهها ، فرجعت إلى أصحابها ، وتقدم ليقاتل فأصابه حجر فقتله ، وما صلى لله صلاة قط ، فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجي بشملة ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعرض عنه ، وعندما سئل عن إعراضه قال:(إن معه الآن زوجتيه من الحور العين).

واستشهد أعرابي له قصة دلت على وجود نماذج فريدة من المجاهدين. وخلاصة قصته أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم ، وطلب أن يهاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما كانت غزوة خيبر – وقيل حنين – غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج له سهمه ، وكان غائباً حين القسمة ويرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوا إليه سهمه ، فأخذه وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ما هذا يا محمد؟ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قسم قسمته لك). قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا ، وأشار إلى حلقه بسهم ، فأدخل الجنة ، قال : (إن تصدق الله يصدقك) ، ولم يلبث قليلاً حتى جيء به وقد أصابه سهم حيث أشار ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (صدق الله فصدقه) ، فكفنه الرسول صلى الله عليه وسلم في جبة للنبي صلى الله عليه وسلم ودفنه.


وبعد الفراغ من هذه الغزوة حاول اليهود قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بالسم. فقد أهدته امرأة منهم شاة مشوية مسمومة ، وأكثرت السم في ذراع الشاة عندما عرفت أنه يحبه ، فلما أكل من الذراع أخبرته الذراع أنه مسموم فلفظ اللقمة ، واستجوب المرأة ، فاعترفت بجريمتها ، فلم يعاقبها في حينها ، ولكنه قتلها عندما مات بشر بن البراء بن معرور من أثر السم الذي ابتلعه مع الطعام عندما أكل مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

وتم الصلح في النهاية بين الطرفين وفق الأمور الآتية :

- بالنسبة للأراضي والنخيل – أي الأموال الثابتة : دفعها لهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يعملوا عليها ولهم شطر ما يخرج منها.
- أن ينفقوا من أموالهم على خدمة الأرض.
- أما بالنسبة لوضعهم القانوني فقد تم الاتفاق على أن بقاءهم بخيبر مرهون بمشيئة المسلمين ، فمتى شاؤوا أخرجوهم منها.

وقد أخرجهم عمر بن الخطاب إلى تيماء وأريحاء ، استناداً إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في مرض موته : (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وتكرر منهم الاعتداء على المسلمين. ففي المرة الأولى اتهمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في قتل عبد الله بن سهل ، فأنكروا فلم يعاقبهم ، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده. وفي هذه المرة الثانية أكدت الأولى – كما أشار عمر – أنهم اعتدوا على عبد الله بن عمر ، وفدعوا يديه.

- واتفقوا على إيفاد مبعوث من قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر ليخرص ويقبض حصة المسلمين.

أما بالنسبة للأموال المنقولة ، فقد صالحوه على أن له الذهب والفضة والسلاح والدروع ، لهم ما حملت ركائبهم على ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً ، فإن فعلوه فلا ذمة لهم ولا عهد. فغيبوا مسكاً لحيي بن أخطب ، وقد كان قتل في غزوة خيبر ، وكان قد احتمله معه يوم بني النظير حين أجليت.

وعندما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم سعية – عم حيي – عن المسك ، قال : (أذهبته الحروب والنفقات) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (العهد قريب المال أكثر من ذلك) ، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب ، فاعترف بأنه رأى حيياً يطوف في خربة ها هنا ، فوجدوا المسك فيها ، فقتل لذلك ابني أبي الحقيق ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وقتل محمد بن مسلمة ابن عم كنانة هذا الذي دل على المال ، قتله بأخيه محمود بن مسلمة.

وبالنسبة للطعام فقد كان الرجل يأخذ حاجته منه دون أن يقسم بين المسلمين أو يخرج منه الخمس ما دام قليلاً ، وكانت غنائم خيبر خاصة بمن شهد الحديبية من المسلمين ، كما في قوله تعالى : ( سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم ، يريدون أن يبدلوا كلام الله. قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ، فسيقولون بل تحسدوننا ، بل كانوا لا يفقهون إلا قليلاً ).

ولم يغب عن فتح خيبر من أصحاب بيعة الرضوان أحد سوى جابر بن عبد الله ، ومع ذلك أعطي سهماً مثل من حضر الغزوة – غزوة الحديبية.

وأعطى أهل السفينة من مهاجرة الحبشة الذين عادوا منها إلى المدينة ، ووصلوا خيبر بعد الفتح ، أعطاهم من الغنائم. وكانوا ثلاثة وخمسين رجلاً وامرأة بقيادة جعفر بن أبي طالب. وتقول الرواية : إنه لم يقسم لأحد لم يشهد الفتح سواهم. وهم الذين فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بقدومهم ، وقبل جعفر بين عينيه والتزمه ، وقال : (ما أدري بأيهما أنا أسر ، بفتح خيبر أو بقدوم جعفر).

وربما يرجع سبب استثنائهم إلى أنهم حبسهم العذر عن شهود بيعة الحديبية ، ولعله استرضى أصحاب الحق من الغانمين في الإسهام لهم ، ولعله رأى ما كانوا عليه من الصدق وما عانوه في الغربة ، وهم أصحاب الهجرتين.

وأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم أبا هريرة وبعض الدوسيين من الغنائم برضاء الغانمين ، حيث قدموا عليه بعد فتح خيبر.

وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء مسلمات فأعطاهن من الفيء ولم يضرب لهن بسهم.

وكذلك أعطى من شهدها من العبيد ، فقد أعطى عميرًا ، مولى أبي اللحم ، شيئاً من الأثاث.

وأوصى صلى الله عليه وسلم من مال خيبر لنفر من الداريين ، سماهم ابن إسحاق.

وكان كفار قريش يتحسسون أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر ، ويسألون الركبان عن نتيجة المعركة ، وقد فرحوا عندما خدعهم الحجاج بن علاط السلمي وقال لهم : إن المسلمين قد هزموا شر هزيمة وإن اليهود أسرت محمداً ، وستأتي به ليقتل بين ظهراني أهل مكة ثأراً لمن كان أصيب من رجالهم ، وما لبثوا قليلا حتى علموا بأن الأمر خدعة من الحجاج بن علاط ليحرز ماله الذي بمكة ويهاجر مسلماً. فحزنوا لتلك النتيجة التي كانوا يراهنون على عكسها.

وبعد الفراغ من أمر خيبر توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى ، وحاصرهم ، ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم أنهم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم ، وحسابهم على الله ، فبرز رجل منهم ، فبرز له الزبير فقتله ، ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله ، ثم برز آخر فبرز إليه أبو دجانة فقتله ، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً ، ثم قاتلهم حتى أمسوا ، وفي الصباح استسلموا ، ففتحت عنوة. وأقام فيها ثلاثة أيام ، وقسم ما أصاب على أصحابه ، وترك الأرض والنخل بأيدي يهود ، وعاملهم عليها.

فلما بلغ يهود تيماء ما حدث لأهل فدك ووادي القرى ، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية ، وأقاموا بأيديهم أموالهم. فلما كان عهد عمر أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام ، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز ، وأن ما وراء ذلك من الشام.

وثبت في الصحيح أن مدعماً – مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم – أصابه سهم فقتله وذلك حين كان يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصلوا وادي القرى ، فقال الناس : هنيئاً له بالجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( كلا والذي نفسي بيده ، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه ناراً . فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بشراك أو بشراكين ، فقال : هذا شيء كنت أصبته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( شراك أو شراكان من نار).

بعض فقه وحكم ودروس غزوة خيبر :

1- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلول : وأن من يموت وهو غال يدخل النار. وقد جاء ذلك في خبر الرجل الذي قال عنه الصحابة إنه شهيد ، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : (كلا ! إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة …) وخبر مدعم مع الشملة.

2- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية.

3- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم البغال.

4- النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن أكل كل ذي مخلب من الطير.

5- النهي عن وطء الحبالي من السبايا حتى يضعن.

6- النهي عن ركوب الجلالة والنهي عن أكل لحمها وشرب لبنها.

7- النهي عن النهبة من الغنيمة قبل قسمتها.

8- وأجرى الله على نبيه بعض المعجزات دليلاً على نبوته وعبرة لمن يعتبر ، فإضافة إلى ما ذكرنا من قصة بصقه على عيني علي فصحتا ، وإخبار ذراع الشاة المسمومة إياه بأنها مسمومة ، فقد ثبت أنه نفت ثلاث نفثات في موضع ضربة أصابت ركبة سلمة بن الأكوع يوم خيبر ، فما اشتكى بعدها.

9- وفي خبر الإسهام لأهل السفينة أنه إذا لحق مدد الجيش بعد انقضاء الحرب ، فلا سهم لهم إلا بإذن الجيش ورضاه.

10- جواز المساقاة والمزارعة بجزء مما يخرج من الأرض من تمر أو زروع ، كما عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على ذلك ، وهو من باب المشاركة ، وهو نظير المضاربة ، فمن أباح المضاربة ، وحرم ذلك ، فقد فرق بين متماثلين.

11- عدم اشتراط كون البذر من رب الأرض ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع إليهم الأرض على أن يعملوها من مالهم.

12- خرص الثمار على رؤوس النخيل وقسمتها كذلك ، وأن القسمة ليست بيعاً ، والاكتفاء بخارص واحد وقاسم واحد.

13- جواز عقد المهادنة عقداً جائزاً للإمام فسخه متى شاء.

14- جواز تعليق عقد الصلح والأمان بالشرط ، كما عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط ألا يغيبوا ولا يكتموا ، كما في قصة مسك حيي.

15- الأخذ في الأحكام بالقرائن والإمارات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكنانة : (المال كثير والعهد قريب) ، فاستدل بذلك على كذبه في قوله : (أذهبته الحروب والنفقة).

16- جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استغنى عنهم ، وقد أجلاهم عمر رضي الله عنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.

17- لم يكن عدم أخذ الجزية من يهود خيبر لأنهم ليسوا أهل ذمة ، بل لأنها لم تكن نزل فرضها بعد.

18- سريان نقض العهد في حق النساء والذرية ، وجعل حكم الساكت والمقر حكم الناقض والمحارب كما في حالة كنانة وابني ابن الحقيق ، على أن يكون الناقضون طائفة لهم شوكة ومنعة ، أم إذا كان الناقض واحداً من طائفة لم يوافقه بقيتهم ، فهذا لا يسري النقض إلى زوجته وأولاده.

19- جواز عتق الرجل أمته ، وجعل عتقها صداقها ، ويجعلها زوجته بغير إذنها ولا شهود ولا ولي غيره ، ولا لفظ نكاح ولا تزويج ، كما فعل صلى الله عليه وسلم بصفية.

20- جواز كذب الإنسان على نفسه وعلى غيره ، إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير ، إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه ، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين والمشركين حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك بالكذب.

21- إن من قتل غيره بسم يقتل مثله قصاصاً ، كما قتلت اليهودية ببشر بن البراء.

22- جواز الأكل من ذبائح أهل الكتاب وحل طعامهم وقبول هديتهم ، كما في حادثة الشاة المسمومة.

23- الإمام مخير في الأرض التي تفتح عنوة إن شاء قسمها وإن شاء وقفها وإن شاء قسم البعض ووقف البعض الآخر ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنواع الثلاثة ، فقسم قريظة والنضير ، ولم يقسم مكة ، وقسم شطراً من خيبر وترك شطرها الآخر.



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 499

د.فالح العمره
27-11-2006, 07:03 PM
المبحث الأول: أحداث الحديبية:

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأداء العمرة في يوم الاثنين هلال ذي القعدة من السنة السادسة الهجرية .

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى أن تعرض له قريش بحرب أو يصدوه عن البيت الحرام ، لذلك استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه ، فأبطؤوا عليه ، فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار وبمن لحق به من العرب.

وقد كشف القرآن عن حقيقة نوايا الأعراب، فقال: { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا. يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أردا بكم نفعاً ، بل كان الله بما تعملون خبيراً. بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا).

وقد ذكر مجاهد أن الأعراب الذي عنتهم الآية هم أعراب جهينة ومزينة ، وذكر الواقدي أن الأعراب الذي تشاغلوا بأموالهم وأولادهم وذراريهم هو بنو بكر ومزينة وجهينة.

ويفهم من رواية البخاري أن المسلمين كانوا يحملون أسلحتهم استعداد للدفاع عن أنفسهم في حالة الاعتداء عليهم.

لقد اتفق خمسة من الذين كانوا في هذه الغزوة على أن عدد من خرج فيها كانوا ألفا وأربعمائة رجل.

ولقد صلى المسلمون وأحرموا بالعمرة عندما وصلوا إلى ذي الحليفة ، وقلد الرسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره ، وعددها سبعون بدنة. وبعث بين يديه بسر بن سفيان الخزاعي الكعبي عينا له إلى قريش ليأتيه بخبرهم.

وعندما وصل المسلمون الروحاء جاءه نبأ عدو بضيقة ، فأرسل إليهم طائفة من أصحابه ، فيهم أبو قتادة الأنصاري ، ولم يكن محرماً ، فرأى حماراً وحشياً ، فحمل عليه فطعنه ، ورفض أصحابه أن يعينوه عليه ، ولكنهم أكلوا منه وهم حرم ، ثم شكوا في حل ذلك ، فعندما التقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم في السقيا ، استفتوه في الأمر ، فأذن لأصحابه بأكل ما جاؤوه به من بقية اللحم ما داموا لم يعينوا على صيده.

وعندما وصلوا عسفان جاءهم بسر بن سفيان الكعبي بخبر قريش فقال: ( يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قدموا كراع الغميم). فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أن يغيروا على ديار الذين ناصروا قريشاً واجتمعوا معها ليدعوا قريشاً ويعودوا للدفاع عن ديارهم ، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ( يا رسول الله ، خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( امضوا على اسم الله).

وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب خيل المشركين منهم صلى بأصحابه صلاة الخوف بعسفان.

ولتفادي الاشتباك مع المشركين ، سلك الرسول صلى الله عليه وسلم طريقاً وعرة عبر ثنية المرار ، وهي مهبط الحديبية ، وقال عندما وصلها : (من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل) ، فكان أول من صعدها خيل بني الخزرج ، ثم تتام الناس.

وعندما أحس بتغيير المسلمين خط سيرهم رجع إلى مكة ، وخرجت قريش للقاء المسلمين ، فعسكرت ببلدح ، وسبقوا المسلمين إلى الماء هنا.

وعندما اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية بركت ناقته القصواء ، فقال الصحابة رضي الله عنهم : (خلأت القصواء) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل). ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت، ثم عدل عن دخول مكة وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد – بئر – قليل الماء، ما لبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فجاش لهم بالري فارتووا جميعاً ، وفي رواية أنه جلس على شقة البئر فدعا بماء فمضمض ومج في البئر. ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معا وقعاً ، كما ذكر ابن حجر. ويؤيده ما ذكره الواقدي وعروة من أن الرسول صلى الله عليه وسلم تمضمض في دلو وصبه في البئر ونزع سهماً من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت.

ولخصائص قريش ومكانتها بين العرب ، وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إسلامهم ، وتحسر على عنادهم وخسارة أرواحها في الحروب مع المسلمين ، فها هو يعبر عن هذه الحسرة بقوله : ( يا ويح قريش ، أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ، فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهو وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش ، والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة …).

بذل الرسول صلى الله عليه وسلم ما في وسعه لإفهام قريش أنه لا يريد حرباً معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه، وهو حق المسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه ويتعرف على قوة المسلمين ومدة عزمهم على القتال إذا ألجئوا إليه، وطمعاً في صد المسلمين عن البيت بالطرق السليمة من جهة ثالثة.

فأتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة، وبينوا أن قريشاً تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب مجيئه وذكر لهم الضرر الذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنة إلى وقت معلوم حتى يتضح لهم الأمر، وإن أبوا فلا مناص من الحرب ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريش، وقالوا لهم: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال وإنما جاء زائراً هذا البيت، فاتهموهم وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله ولا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تتحدث بذلك العرب.

وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤكد هدفه من هذه الزيارة ويشهد على ذلك كل العرب،لذا أرسل إلى قريش خراش بن أمية الخزاعي على جمله( الثعلب) ولكنهم عقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، لأنهم من قومه.

ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال عمر : (يا رسول الله ، إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها ، وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان).

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فبعثه إليهم. فنزل عثمان في حماية وجوار أبان بن سعيد بن العاص الأموي حتى أدى رسالته ، وأذنوا له بالطواف بالبيت ، فقال : (ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم) واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل. ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للبيعة تحت شجر سمرة ، فبايعوه جميعاً على الموت ، سوى الجد بن قيس ، وذلك لنفاقه.و في رواية أن البيعة كانت على الصبر ، وفي رواية على عدم الفرار ، ولا تعارض في ذلك لأن المبايعة على الموت تعنى الصبر عند اللقاء وعدم الفرار.

وكان أول من بايعه على ذلك أبو سنان عبد الله بن وهب الأسدي ، فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته ، فأثنى عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( أنتم خير أهل الأرض) ، وقال : ( لا يدخل النار إن شاء الله ، من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها).

وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يده اليمنى ، وقال (هذه يد عثمان) ، فضرب بها على يده اليسرى ، وقال : (هذه لعثمان). فنال عثمان بذلك فضل البيعة.
وقبل أن تتطور الأمور عاد عثمان رضي الله عنه بعد البيعة مباشرة.

وعرفت هذه البيعة بـ (بيعة الرضوان) ، لأن الله تعالى أخبر بأنه رضي عن أصحابها ، في قوله : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}.

أرسلت قريش عدداً من السفراء للتفاوض مع المسلمين ، بعد سفارة بديل بن ورقاء. فقد أرسلوا عروة بن مسعود الثقفي ، وقبل أن يتحرك خشي أن يناله من التعنيف وسوء المقالة ما نال من سبقه ، فبين لهم موقفه منهم ، وأقروا له بأنه غير متهم عندهم ، وذكر لهم أن الذي عرضه عليهم محمد هو خطة رشد. ودعاهم إلى قبولها، فوافقوا على رأيه.

وعندما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له ما قال لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى ، فإني والله لا أرى وجوهاً وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال له أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ … وكان كلما تكلم كلمة أخذ بلحية الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس البني صلى الله عليه وسلم ومعه السيف ، فيضربه بنعل السيف ويقول : أخّر عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم … ولحظ عروة تعظيم الصحابة للرسول صلى الله عليه سلم وحبهم له وتفانيهم في طاعته ، فلما رجع إلى قريش ، قال لهم : (أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً).

ثم بعثوا الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه) ، فلما رأى الحليس الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، رجع إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك إعظاماً لما رأى ، وقال لقريش : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت ، فقالوا : اجلس ، إنما أنت أعرابي لا علم لك. فغضب وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، أيصد عن بيت الله من جاءه معظما له !! والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، قالوا : مه ، كف عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( هذا مكرز وهو رجل فاجر) … فجعل يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو رسولاً من قبل قريش ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم متفائلاً : ( لقد سهل لكم أمركم). وقال : ( قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل) ، وكانت قريش قد قالت لسهيل بن عمرو : ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً . فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.

وعندما بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في إملاء شروط الصلح على علي بن أبي طالب ، كاتب الصحيفة ، اعترض سهيل على كتابة كلمة (الرحمن) في البسملة ، وأراد بدلاً عنها أن يكتب (باسمك اللهم) ، لأنها عبارة الجاهليين ، ورفض المسلمون ذلك ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وافق على اعتراض سهيل. ثم اعترض سهيل على عبارة (محمد رسول الله) ، وأراد بدلاً عنها عبارة : ( محمد بن عبد الله) ، فوافقه أيضاً على هذا الاعتراض.

وعندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) اعترض سهيل قائلاً : لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة قهراً ولكن ذلك في العام المقبل ، فنخرج عنك فتدخلها بأصحابك فأقمت فيها ثلاثاً معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب . فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الشرط .

ثم قال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله ! كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! فبينما هو كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا لم نقض الكتاب بعد) ، فقال سهيل : والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً.

وألح الرسول صلى الله عليه وسلم على سهيل أن يستثني أبا جندل ، فرفض على الرغم من موافقة مكرز على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بداً من إمضاء ذلك لسهيل.

ثم بعد هذا تم الاتفاق على بقية الشروط وهي : ( على وضع الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، وأن بينهم عيبة مكفوفة ، فلا إسلال - سرقة - ولا إغلال – خيانة- ، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ). فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن مع عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم.

لقد تبرم كثير من الصحابة من معظم هذه الشروط. ومن الأدلة على ذلك أن علياً اعتذر عن محو كلمة ( رسول الله) التي اعترض عليها سهيل بن عمرو ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أرني مكانها) ، فأراه مكانها فمحاها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتب على مكانها (ابن عبد الله). وغضبوا لشرط رد المسلمين الفارين من قريش إلى المسلمين ، فقالوا : ( يا رسول الله ، نكتب هذا؟ ) قال : ( نعم إنه من ذهب إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً).

ويحكي عمر بن الخطاب مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضباً عند كتابة ذلك الصلح ، قال : ( فأتيت نبي الله ، فقلت : ألست نبي الله حقاً ؟ قال : بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى ، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قال : قلت : لا . قال: فإنك آتيه ومطوف به). وأتى عمر أبا بكر وقال له مثل ما قال للرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو بكر : إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فوالله إنه على الحق ، وقال عمر : ما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً ) ولم تطب نفس عمر إلا عندما نزل القرآن مبشراً بالفتح.

وعندما كان أبو جندل يستنجد بالمسلمين قائلاً : يا معشر المسلمين ، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني ؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( يا أبا جندل ، اصبر واحتسب فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجاً) ، كان عمر يمشي بجنب أبي جندل يغريه بأبيه ويقرب إليه سيفه ، لكن أبا جندل لم يفعل ، فأعيد إلى المشركين ، وذلك لحكمة تجلت للناس فيما بعد ، يوم كان أبو جندل وأصحابه سبباً في إلغاء شرط رد المسلمين إلى الكفار ، وفي إسلام سهيل وموقفه يوم كاد أهل مكة أن يرتدوا عندما مات الرسول صلى الله عليه وسلم فثبتهم على الإسلام بكلام بليغ.

وقال سهل بن حنيف يوم صفين : (اتهموا رأيكم ، رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته).

وعندما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ينحروا الهدي ويحلقوا رؤوسهم ، لم يقم منهم أحد إلى ذلك ، فكرر الأمر ثلاث مرات ، فدخل على أم سلمة رضي الله عنها وحكى لها ما حدث من المسلمين ، فأشارت إليه بأن يبدأ هو بما يريد ، ففعل ، فقاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غماً ، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم لمن حلق منهم ثلاثاً ولمن قصر لمرة واحدة. وكان عدد ما نحروه سبعين بدنة ، كل بدنة عن سبعة أشخاص.

وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ جملاً لأبي جهل من غنائم بدر ، نحره ليغيظ بذلك المشركين . ونحروا بعض الهدي في الحديبية في الحل والبعض الآخر نحره ناجية بن جندب داخل منطقة الحرم.

ولا شك أن هذا التصرف من عمر وغيره من المسلمين ما هو إلا اجتهاد منهم ورغبة في إذلال المشركين.

ولم تتوقف قريش عن التحرش بالمسلمين واستفزازهم خلال مفاوضات كتابة الصلح وبعد كتابته ، وقد تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة بانضباط شديد إزاء هذه الأفعال. فعندما حاول ثمانون من رجال مكة مهاجمة معسكر المسلمين في غرة ، أسرهم المسلمين وعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكرر المحاولة ثلاثون آخرون من قريش أثناء إبرام الصلح ، فأسروا ، وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا سراحهم.

وبعد إبرام الصلح حاول سبعون من المشركين استفزاز المسلمين، فأسروهم وقبض سلمة بن الأكوع على أربعة من المشركين أساءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد إبرام الصلح ، فعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد نزلت في ذلك الآية { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم}.

ثم رجع المسلمون إلى المدينة بعد أن غابوا عنها شهراً ونصف الشهر ، منها بضعة عشر يوماً ، ويقال عشرين يوماً ، مكثوها بالحديبية.

وفي طريق العودة تكررت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام والماء ، مثلما حدث في طعام جابر يوم الخندق ، وتكثير ماء بئر الحديبية ، فقد ذكر سلمة بن الأكوع أنهم عندما أصابهم الجوع وكادوا أن يذبحوا رواحلهم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بأزواد الجيش ، فلم يتجاوز ربضة العنز ، وهم أربع عشرة مائة ، فأكلوا حتى شبعوا جميعاً وحشوا جربهم ، ثم جيء له بأداوة وضوء فيها نطفة ماء فأفرغها في قدح ، فتوضأ منها كل الجيش.

ونزلت سورة الفتح ، وهم في طريق العودة : {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} وقال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس). وقال عمر متعجباً: أو فتح هو ؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ( نعم) ، فطابت نفسه ورجع ، وفي رواية : ( نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح) وفرح المسلمون بذلك فرحاً غامراً ، وانجلت تلك السحابة من الغم ، وأدركوا قصورهم عن إدراك كل الأسباب والنتائج ، وأن الخير في التسليم لأمر الله ورسوله.

وعندما جاءته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة لم يردها إلى أهلها عندما طلبوها لما أنزل الله في النساء { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن … ولا هم يحلون لهن) فكان الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا يختبرهن ، فإن كن خرجن بسبب الإسلام استبقاهن مع دفع مهورهن لأزواجهن ، وكان قبل الصلح لا يعيد إليهم مهور الزوجات.

وهذه الآية الواردة في عدم رد المهاجرات المسلمات إلى الكفار هي التي استثنت من شرط الرد وحرمت المسلمات على المشركين { ولا تمسكوا بعصم الكوافر}.






السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص481

د.فالح العمره
27-11-2006, 07:04 PM
المبحث الثاني : فقه وحكم ودروس في صلح الحديبية:

1- عندما وجد سبب مانع من أداء المسلمين لعمرتهم التي أحرموا لها تحللوا ، وبذلك شرع التحلل للمعتمر وأنه لا يلزمه القضاء.

2- أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة أن يحلق رأسه وهو محرم ، لأذى أصابه ، على أن يذبح شاة فدية أو يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين ونزلت الأية { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}.

3- إذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالصلاة في منازلهم عندما نزل المطر.

4- وقعت تطبيقات عملية لمبدأ الشورى في الإسلام ، حيث استشارهم في الإغارة على ذراري المشركين الذين يساندون قريشاً ، واستشار أم سلمة في أمر الناس عندما أبطؤوا في التحلل ، وأخذ برأيها.

5- ويستنتج من مدة الصلح أن الحد الأعلى لمهادنة الكفار عشر سنين ، لأن أصل العلاقة معهم الحرب وليس الهدنة.

6- جواز مصالحة الكفار على رد من جاء من قبلهم مسلماً.

7- استحباب التفاؤل لقوله صلى الله عليه وسلم : ( سهل أمركم) وذلك عندما قدم عليهم سهيل بن عمرو مفاوضاً.

8- كفر من يقول : ( مطرنا بنوء كذا وكذا) والصواب أن يقول : ( مطرنا بفضل الله ورحمته ). قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة عندما صلى بهم الصبح إثر مطر هطل ليلاً.

9- جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم مثل التوضؤ بماء وضؤئه صلى الله عليه وسلم ، وهو خاص به خلافاً لآثار الصالحين من أمته.

10- السنة لمن نام عن صلاته أو نسيها أن يصليها وإن خرج وقتها ، وذلك لأن المسلمين ناموا عن صلاة الفجر وهم في طريق عودتهم من الحديبية ولم يوقظهم إلا حر الشمس ، ونام حارسهم بلال ، فصلوها حين استيقظوا.

11- في الصلح اعتراف من قريش بكيان المسلمين لأول مرة ، فعاملتهم معاملة الند للند.

12- ذهاب هيبة قريش ، بدليل مبادرة خزاعة الانضمام إلى حلف المسلمين دون خشية من قريش كما كان في السابق.

13- أتاح الصلح للمسلمين التفرغ ليهود خيبر خاصة ويهود تيماء وفدك بصفة عامة.

14- أتيح للمسلمين مضاعفة جهودهم لنشر الإسلام ، وفي ذلك قال الزهـري : ( فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب ، وآمن الناس بعضهم بعضاً ، والتقوا فتفاضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل إلا دخل فيه ، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك) وعلق ابن هشام على هذا قائلاً :(والدليل على قول الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر ، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف).

15- جاءت نتائج بعض الشروط في مصالح المسلمين من ذلك أن أبا بصير عندما فر من المشركين ولجأ إلى المسلمين رده الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم عندما طلبوه ، فعدا على حارسيه فقتل أحدهما ، وفر الآخر ، وعاد أبو بصير إلى المدينة ، وقال للرسول صلى الله عليه وسلم : ( قد والله أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويل أمه مِسْعر حرب لو كان له أحد) ، ففهم أبو بصير نية الرسول صلى الله عليه وسلم في رده إلى المشركين ، فلجأ إلى سيف البحر، وفهم المستضعفون المسلمون في مكة إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مسعر حرب ولو كان له أحدا) ، ففروا من مكة ولحقوا بأبي بصير ، وعلى رأسهم أبو جندل. وتكونت منهم عصابة ، أخذت تتعرض لقوافل قريش ، فأرسلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تناشده أن يعطيهم الأمان بالمدينة ، فأرسل إليهم ، وهم بناحية العيص ، فجاؤوا ، وكانوا قريبا من الستين أو السبعين رجلاً.

16- في قصة أبي بصير وأبي جندل ورفقائهم في العيص ، نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها وعدم الاستكانة للطغاة.




السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 488

د.فالح العمره
27-11-2006, 07:05 PM
وقعت هذه الغزوة بعد غزوة الأحزاب مباشرة ، في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة الهجرية.

وواضح من سير الأحداث أن سبب الغزوة كان نقض بني قريظة العهد الذي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، بتحريض من حيي بن أخطب النضري.

وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير لمعرفة نيتهم ، ثم أتبعه بالسعدين وابن رواحة وخوات لذات الهدف ليتأكد من غدرهم.

ولأن هذا النقض وهذه الخيانة قد جاءت في وقت عصيب ، فقد أمر الله تعالى نبيه بقتالهم بعد عودته من الخندق ووضعه السلاح ، وامتثالاً لأمر الله أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتوجهوا إلى بني قريظة ، وتوكيدا لطلب السرعة أوصاهم قائلاً : ( لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة ) كما في رواية البخاري ، أو الظهر كما في رواية مسلم.

وعندما أدركهم الوقت في الطريق ، قال بعضهم : لا نصلى حتى نأتي قريظة ، وقال البعض الآخر : بل نصلى ، لم يرد منا ذلك ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم. وهذا اجتهاد منهم في مراد الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حجر : ( … وقد جمع بعض العلماء بين الروايتين – البخاري ومسلم – باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان صلى الظهر ، وبعضهم لم يصلها ، فقيل لمن لم يصلها : لا يصلين أحد الظهر ، ولمن صلاها : لا يصلين أحد العصر. وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة فقيل للطائفة الأولى الظهر وقيل للطائفة التي بعدها العصر ، وكلاهما جمع لا بأس به …).

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف مقاتل معهم ستة وثلاثون فرساً وضرب الحصار على بني قريظة لمدة خمس وعشرين ليلة على الأرجح ، وضيق عليهم الخناق حتى عظم عليهم البلاء ، فرغبوا أخيرا في الاستسلام ، وقبول حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم. واستشاروا في ذلك حليفهم أبا لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه ، فأشار إلى أن ذلك يعني الذبح. وندم على هذه الإشارة، فربط نفسه إلى إحدى سواري المسجد النبوي ، حتى قبل الله توبته.

وعندما نزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن يكل الحكم عليهم إلى واحد من رؤساء الأوس ، لأنهم كانوا حلفاء بني قريظة ، فجعل الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ ، فلما دنا من المسلمين قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار : ( قوموا إلى سيدكم أو خيركم ، ثم قال : إن هؤلاء نزلوا على حكمك ). قال : تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( قضيت بحكم الله تعالى .

ونفذ الرسول صلى الله عليه وسلم حكم الله فيهم ، وكانوا أربعمائة على الأرجح . و لم ينج إلا بعضهم ، وهم ثلاثة ، لأنهم أسلموا ، فأحرزوا أموالهم ، وربما نجا اثنان آخران منهم بحصولهم على الأمان من بعض الصحابة ، أو لما أبدوه من التزام بالعهد أثناء الحصار. وربما نجا آخرون لا يتجاوزن عدد أفراد أسرة واحدة ، إذ يفهم من رواية عند ابن إسحاق وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهب لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن باطا القرظي ، فاستحياهم ، منهم عبد الرحمن بن الزبير ، الذي أسلم ، وله صحبة.

وجمعت الأسرى في دار بنت الحارث النجارية ، ودار أسامة بن زيد ، وحفرت لهم الأخاديد في سوق المدينة ، فسيقوا إليها المجموعة تلو الأخرى لتضرب أعناقهم فيها. وقتلت امرأة واحدة منهم ، لقتلها خلاد بن سويد رضي الله عنه، حيث ألقت عليه ، جرحى ، ولم يقتل الغلمان ممن لم يبلغوا سن البلوغ. ثم قسم الرسول صلى الله عليه وسلم أموالهم وذراريهم بين المسلمين.

مصير بعض سيي بني قريظة :
ذكر ابن إسحاق وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن زيد الأنصاري بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا.

وذكر الواقدي في المغازي في شأن بيع سبايا بني قريظة قولين آخرين إضافة إلى ما ذكره ابن إسحاق ، والقولان هما :
1- بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة إلى الشام بسبايا ليبيعهم ويشتري بهم سلاحاً وخيلاً.
2- اشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما جملة من السبايا … إلخ. ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بأن ذلك كله قد حدث.

واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة ، وأسلمت. وقد توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في ملك يمينه ، وكان ذلك باختيارها.

أحكام وحكم ودروس وعبر من غزوة بني قريظة :

1- جواز قتل من نقض العهد. ولا زالت الدول تحكم بقتل الخونة الذين يتواطؤون مع الأعداء حتى زماننا هذا.

2- جواز التحكيم في أمور المسلمين ومهامهم. كما في تحكيم ابن معاذ.

3- مشروعية الاجتهاد في الفروع ، ورفع الحرج إذا وقع الخلاف فيها. فقد اجتهد الصحابة في تفسير قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (ألا لا يصلين أحد العصر أو الظهر إلا في بني قريظة) ، ولم يخطئ الرسول صلى الله عليه وسلم أحدا منهم.

4- ذكر النووي أن جماهير العلماء احتجوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى سيدكم أو خيركم) وغيره على استحباب القيام لأهل الفضل ، وليس هذا من القيام المنهي عنه ، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه هو جالس ويمثلون قياما طوال جلوسه ، وقد وافق النووي جماهير العلماء في هذا ، ثم قال : ( القيام للقادم من أهل الفضل مستحب ، وقد جاء في أحاديث ، ولم يصح في النهي عنه شيء صريح. وقد جمعت كل ذلك مع كلام العلماء عليه في جزء وأجبت فيها عما توهم النهي عنه).

5- قال الدكتور البوطي : واعلم أن هذا كله لا يتنافى مع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار) ، لأن مشروعية إكرام الفضلاء لا تستدعي السعي منهم إلى ذلك أو تعلق قلوبهم بمحبته ، بل إن من أبرز صفات الصالحين أن يكونوا متواضعين لإخوانهم زهادا في طلب هذا الشيء … (غير أن من أهم ما ينبغي أن تعلمه في هذا الصدد أن لهذا الإكرام المشروع حدود إذا تجاوزها ، انقلب الأمر محرما ، واشترك في الإثم كل من مقترفة والساكت عليه. فمن ذلك ما قد تجده في مجالس بعض المتصوفة من وقوف المريدين عليهم وهم جلوس ، يقف الواحد منهم أمام شيخه في انكسار وذل … ومنه ما يفعله بعضهم من السجود على ركبة الشيخ أو يده عند قدومه عليه ، أو ما يفعله من الحبو إليه عندما يغشى المجلس … فالإسلام قد شرح مناهج للتربية وحظر على المسلمين الخروج عليها ، وليس بعد الأسلوب النبوي في التربية من أسلوب يقر).



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية،مهدي رزق الله ، ص459

د.فالح العمره
27-11-2006, 07:07 PM
عندما سمع الرسول عليه الصلاة والسلام بأبي سفيان مقبلاً من الشام في تجارة لقريش، ندب المسلمين إليه، وقال لهم : ((هذه عير قريش ، فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها)).

وفي رواية عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: ((إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنهامقبلة، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير،لعل الله يغنمناها؟ قلنا: نعم. فخرج وخرجنا معه)).



ولم يستنفر الرسول صلى الله عليه وسلم كل الناس، بل طلب أن يخرج معها من كان ظهره حاضراً، ولم يأذن لمن أردا أن يأتي بظهره من علو المدينة، لذا لم يعاتب أحداً تخلف عنها. وكان عددهم ما بين 313 والـ 317 رجلاً، منهم ما بين الـ 82 والـ 86 من المهاجرين و 61 من الأوس و 170 من الخزرج، معهم فَرَسان وسبعون بعيراً، يتعقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد.

وكان أبو لبابة وعلي بن إبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعندما جاء دوره في المشي ، قالا له: ((نحن نمشي عنك)). فقال لهما : ((ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)).

وفي الطريق ، عندما بلغوا الروحاء ، رد الرسول صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وأمّره على المدينة ، وسبق ذلك أن جعل عبدالله بن أم مكتوم على الصلاة ، وأصبح مكانه في زمالة الرسول صلى الله عليه وسلم على البعير ، مرثد بن أبي مرثد. ولذلك فلا خلاف بين رواية ابن إسحاق ورواية أحمد.

وعندما علم أبو سفيان بالخطر المحدق بقافلته ، أرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستنجد بقريش.

وجاء ضمضم مسرعاً إلى مكة ، وعندما دخلها وقف على بعيره ، وقد جدع أنفه ، وحول رحله، وشق قميصه ، وهو يصيح : ((يا معشر قريش ، اللطيمة اللطيمة , أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث ، الغوث)).

وخرجت قريش مسرعة لإنقاذ عيرها ورجالها ، ولتلقي بالمسلمين في حرب تراها قاضية على قوة المسلمين التي ظلت تهدد تجارتهم. ولم يتخلف من أشرافهم سوى أبي لهب ، فإنه أرسل مكانه العاص بن هشام ، مقابل دين كان عليه ، مقداره أربعة آلاف درهم. و لم يتخلف من بطون قريش سوى بني عدي.

وبلغ عددهم في بداية مسيرهم نحو ألف وثلثمائة محارب، معهم مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة، بقيادة أبي جهل.

وعندما خشوا أن تغدر بهم بنوبكر لعدواتها معهم ، كادوا أن يرجعوا عماأرادو ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي ، سيد بني كنانة ، وقال لهم : ((أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه. فخرجوا من ديارهم كما حكى عنهم القرآن (بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله)).

رأت عاتكة بنت عبدالمطلب فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم بن عمرو بخبر أبي سفيان بثلاث ليال ، فقالت : رأيت رجلاً أقبل على بعير له فوقف بالأبطح ، فقال : انفروا يا آل بدر لمصارعكم في ثلاث ، فذكرت المنام وفيه : ثم أخذ صخرة فأرسلها من رأس الجبل ، فأقبلت تهوي حتى ترضضت فما بقيت دار ولا بنية إلا ودخل فيها بعضها. وفي القصة إنكار العباس على أبي جهل قوله : ((حتى حدثت فيكم هذه النبية)) ، وإرادة العباس أن يشاتمه ، واشتغال أبي جهل عنه بمجيئ ضمضم يستنفر قريشاً لصد المسلمين عن عيرهم ، فتجهزوا وخرجوا إلى بدر ، فصدق الله رؤيا عاتكة.

لقد كان أبو سفيان متيقظاً للخطر المتكرر من جانب المسلمين. ولذا عندما اقترب من بدر لقى مجدي بن عمرو وسأله عن جيش الرسول صلى الله عليه وسلم، فأفاده مجدي بأنه رأى راكبين أناخا إلى تل، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا ، فبادر أبو سفيان إلى مناخيهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففته ، فعرف منه أنه من علائف المدينة ، فأسرع تاركاً الطريق الرئيس الذي يمر على يسار بدر ، واتجه إلى طريق الساحل غرباً ، ونجا من الخطر. ثم أرسل رسالة أخرى إلى جيش قريش ، وهم بالجحفة ، يخبرهم فيها بنجاته ، ويطلب منهم الرجوع إلى مكة.

وهم جيش مكة بالرجوع ، ولكن أبا جهل رفض ذلك ، قائلا : ((والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم بها ثلاثا ، فننحر الجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف لنا القيان ، وتسمع بنا العرب وبميسرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا. فامضوا)).

فأطاعه القوم ما عدا الأخنس بن شريق ، حيث رجع بقومه بني زهرة ، وطالب بن أبي طالب ، لأن قريشاً في حوارها معه ، اتهمت بني هاشم بأن هواهم مع محمد صلى الله عليه وسلم. وساروا حتى نزلوا قريباً من بدر ، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى ، على حدود وادي بدر.

وبلغ خبر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستشار أصحابه. وخشي فريق منهم المواجهة في وقت لم يتوقعوا فيه حربا كبيرة ، ولم يستعدوا لها بكامل عدتهم وعتادهم ، فجادلوا الرسول صلى الله عليه وسلم ليقنعوه بوجهة نظرهم. وفيهم نزل قول الله تعالى: ((كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهو ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين)).

وتكلم قادة المهاجرين، وأيدوا الرأي القائل بالسير لملاقاة العدو، منهم أبوبكر وعمر والمقداد بن عمرو.و مما قاله المقداد: (( يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ههنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه)). وفي رواية قال : ((لا نقول كما قال قوم موسى : اذهب أنت وربك فقاتلا ، ولكننا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك)) ، وسر النبي صلى الله عليه وسلم من قوله.

وبعد سماعه كلام قادة المهاجرين ، قال : ((أشيروا علي أيها الناس)) ، وكان بذلك يريد أن يسمع رأي قادة الأنصار ، لأنهم غالبية جنده ، ولأن نصوص بيعة العقبة الكبرى لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم خارج المدينة ، وأدرك سعد بن معاذ – حامل لواء الأنصاء – مراد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنهض قائلا : ((والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل. قال : فقد آمنا بك فصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله)).

فسر رسول صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا وأبشروا: فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم)).

وفي الطريق وعند بحرة الوبرة أدركه رجل من المشركين ، قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ، أراد أن يحارب معه ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : ((ارجع فلن أستعين بمشرك)) ، ثم عرض له مرة ثانية بالشجرة ، ومرة ثالثة بالبيداء ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ما قاله أول مرة ، وأخيراًأقرالإسلام ، فقبله والرسول صلى الله عليه وسلم.

وعندما وصل قريباً من الصفراء ، بعث بسبس بن الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتحسسان له الأخبار عن أبي سفيان وعيره.

ويروى أنه خرج هو وأبوبكر لهذا الغرض ، ولقيا شيخا فسألاه عن جيش قريش ، فاشترط عليهما أن يخبراه ممن هما ، فوافقا ، وطلبا منه أن يخبرهما هو أولاً ، فأخبرهما بأنه قد بلغه أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن صدق الذي أخبره فم اليوم بمكان كذا وكذا – للمكان الذي به جيش المسلمين – وإن صدق الذي أخبره بجيش قريش فهم اليوم بمكان كذا – للمكان الذي به جيش قريش.

ولما فرغ من كلامه قال : ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن من ماء ، ثم انصرفا عنه، وتركاه يقول : من ماء ؟ أمن ماء العراق ؟

وفي مساء ذلك اليوم أرسل علياً والزبير وسعداً بن أبي وقاص في نفر من أصحابه لجمع المعلومات عن العدو ، فوجدوا على ماء بدر غلامين يستقيان لجيش مكة ، فأتوا بهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، وأخذوا في استجوابهما. فأفادا أنهما سقاة جيش قريش، فلم يصدقوهما ، وكرهوا هذا الجواب ، ظنا منهم أنهما لأبي سفيان ، إذ لا يزال الأمل يحدوهم في الحصول على العير. وضربوهما حتى قالا إنهما لأبي سفيان.

وعندما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من صلاته عاتب أصحابه لأنهم يضربونهما إذا صدقا، ويتركونهما إذا كذبا. ثم سألهما الرسول صلى الله عليه وسلم عن مكان الجيش المكي ، فقال : هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.
وعندما سألهما عن عدد جيش مكة وعدته لم يستطيعا تحديد ذلك ، لكنهما حددا عدد الجزور التي تنحر يومياً بأنها ما بين التسعة والعشرة ، فاستنتج الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم بين التسعمائة والألف ، وذكرا له من بالجيش من أشراف مكة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ((هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها)). وأشار إلى مكان مصارع جماعة من زعماء قريش ، فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأنزل الله تعالى في هذه الليلة مطراً طهر به المؤمنين وثبت به الأرض تحت أقدامهم ، وجعله وبالاً شديدًا على المشركين. وفي هذا قال تعالى : ((وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم له ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام)).

ومن نعمة على المسلمين يوم بدر أيضاً أن غشيهم النعاس أمنة منه ، كما في صدر آية نعمة إنزال المطر : ((إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام)).

روى في ذلك الإمام أحمد بسنده إلى أنس بن مالك أن أبا طلحة ، قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم بدر ، فكنت فيمن غشيه النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه.

وزاد الله المؤمنين فضلاً بان أوقع الخلاف في صفوف عدوهم. فقد روى أحمد أن عتبة بن ربيعة أخذ يثني قومه عن القتال محذرا من مغبته ، لأنه علم أن المسلمين سوف يستميتون، فاتهمه أبو جهل بالخوف. وروى البزار ، أن عتبة قال لقومه يومذاك : إن الأقارب سوف تقتل بعضهم بعضاً ، مما يورث في القلوب مرارة لن تزول، فاتهمه أبو جهل بالخوف ، وليريه شجاعته ، دعا أخاه وابنه وخرج بينهما داعياً إلى المبارزة.

وكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى عتبة على جمل أحمر ، فقال : ((إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا)). وشاء الله أن يعصوه ، وضاع رأيه وسط إثارة أبي جهل الثارات القديمة.

سبق الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين إلى ماء بدر، ليحول بينهم وبين الماء. وهنا أبدى الحباب بن المنذر رأيه قائلاً : ((يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ؟ أم هو الرأي والحـرب والمكيدة ؟))قال : (( بل هو الرأي والحرب والمكيدة )) ، قال : ((يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم – قريش – فننزله ونغور – نخرب – ما وراءه من القلب – الآبار ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون )) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لقد أشرت بالرأي)). وفعل ما أشار به الحباب بن المنذر.

وعندما استقروا في المكان ، قال سعد بن معاذ مقترحاً : ((يا نبي الله ، ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا ، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك)) ، فوافق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الاقتراح.

ويفهم من النصوص الواردة في شأن القتال ببدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم شارك في القتال ، ولم يمض كل وقته داخل هذا العريش أو في الدعاء ، كما فهم بعض كتاب السيرة.

فقد روى الإمام أحمد عن علي ، قال : ((لقد رأيتنا في يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا من العدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً)) ، وفي موضع آخر بالسند نفسه : ((لما حضر البأس يوم بدر ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من أشد الناس ، ما كان أو لم يكن أحد أقرب إلى المشركين منه)).

وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : ((لا يتقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه)). وقال ابن كثير: ((وقد قاتل بنفسه الكريمة قتالاً شديداً ببدنه ، وكذلك أبوبكر الصديق ، كما كانا في العربش يجاهدان بالدعاء والتضرع ، ثم نزلا فحرضا وحثا على القتال ، وقاتلا بالأبدان جمعاً بين المقامين الشريفين)).

بعد أن اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كل الوسائل المادية الممكنة للنصر في حدود الطاقة البشرية ، بات ليلته يتضرع إلى الله تعالى أن ينصره ، ومن دعائه كما جاء في رواية عند مسلم : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آت ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل السلام لا تعبد في الأرض) وتقول الرواية : ( فما زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبوبكر ، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه ، وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين).

ومما رواه البخاري من دعائه في ذلك اليوم : ( اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم) ، وتقول الرواية : ( فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله ، ألححت على ربك ، وهو يثب في الدرع فخرج وهو يقول : (سيهزم الجمع ويولون الدبر).

وروى ابن حاتم بإسناده إلى عكرمة أنه قال : لما نزلت ( سيهزم الجمع ويولون الدبر) ، قال عمر : أي جمع يهزم ؟ أي جمع يغلب ؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ، وهو يقول : (سيهزم الجمع ويولون الدبر)) فعرفت تأويلها يومئذ.

وفي صباح يوم الجمعة ، السابع عشر من رمضان – السنة الثانية من الهجرة وعندما تراءى الجمعان ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه قائلاً : (اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة).

وعندما وقف المسلمون في صفوف القتال ، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في تعديل صفوفهم وفي يده قدح ، فطعن به سواد بن غزية في بطنه ، لأنه كان متنصلا من الصف ، وقال له : ( استو يا سواد ، فقال سواد : يا رسول الله : أوجعتني فأقدني ، فكشف عن بطنه ؟ قال : استقد ، فاعتنقه سواد وقبل بطنه ، فقال : ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال : يا رسول الله ، قد حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدك جلدي). فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير.

ثم أخذ في توجيههم في أمر الحرب ، قائلا : إذا أكثبوكم – أي قربوا منكم - فارموهم واستبقوا نبلكم. ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم. وحرضهم على القتال ، قائلا : ( والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ) ، وفي رواية عند مسلم أنه عندما دنا المشركون قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض). عندما سمع ذلك عمير بن الحمام الأنصاري ، قال : يا رسول الله ! أجنة عرضها السموات والأرض ؟ قال : ( نعم) قال : بخ بخ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما يحملك على قولك بخ بخ) قال : لا ، والله ! يا رسول الله ! إلا رجاءه أن أكون من أهلها. قال : ( فإنك من أهلها ) ، فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن. ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال : فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل.

وقال عوف بن الحارث – بن عفراء - : يا رسول الله ، ما يضحك الرب من عبده ، قال : (غمسه يده في العدو حاسراً ) ، فنزع درعا كانت عليه ، فقذفها ، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل.

وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، قبل بدء المعركة ، ألا يقتلوا نفرا من بني هاشم وغيرهم لأنهم خرجوا مكرهين ، وسمى منهم أبا البختري بن هشام – الذي كان ممن سعى لنقض صحيفة المقاطعة ولم يؤذ النبي صلى الله عليه وسلم – والعباس بن عبدالمطلب. وعندما سمع أبو حذيفة ذلك قال : (أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوننا وعشيرتنا ونترك العباس ، والله لئن لقيته لألحمنه – أو لألجمنه – بالسيف) ، فبلغت مقالته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمر : ( يا أبا حفص ؟ أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالسيف ؟ ) فقال عمر : يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه بالسيف ، فوالله لقد نافق). فكان أبو حذيفة يقول : (ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة) ، فقتل يوم اليمامة شهيداً.

وقبل ابتداء القتال خرج الأسود بن عبدالأسد المخزومي ، فقال : ( أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه) ، وتصدى له حمزة ، وضربه ضربة أطارت قدمه بنصف ساقه ، ثم حبا إلى الحوض مضرجا بدمائه ليبر قسمه ، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

المبارزة:

بعد هذا خرج ثلاثة فرسان قريش يطلبون المبارزة وهو عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة والوليد بن عتبة ، فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث – وأمهما عفراء – وعبدالله بن رواحة ، فلم يقبل فرسان قريش بغير بني أعمامهم من المهاجرين ، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبيدة بن الحارث وحمزة وعلي أن يبارزوهم. وكان حمزة لعتبة ، وعبيدة للوليد ، وعلي لشيبة. وقتل علي وحمزة صاحبيهما وأعانا عبيدة على قتل الوليد ، واحتملا عبيدة الذي أثخنه الوليد بالجراح. وفي هؤلاء الستة نزل قول الله تعالى : (هذان خصمان اختصموا في ربهم ، فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يُصب من فوق رؤوسهم الحميم).
ثم طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من علي أن يناوله كفا من حصى ، فناوله ذلك ، فرمى به وجه القوم ، فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء ، فنزلت الآية الكريمة (وما رميت إذ ميت ولكن الله رمى).

والملائكة تشهد بدراً :

ونزل المسلمون ساحة المعركة بقوة إيمانية كبيرة ، وشدوا على المشركين ، وأخذوا في اقتطاف رؤوسهم، وأمدهم الله بالملائكة لينصرهم على عدوهم ، كما في قوله تعالى : (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) الآيات ، و (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) و (إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم ، فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب). الآية .

وكما روى من الأحاديث في هذا الشأن. فقد روى مسلم في هذا : ( بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم ، فنظر إلى المشرك أمامه ، فخر مستلقيا ، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه ، وشق وجهه كضربة السوط ، فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (صدقت. ذلك من مدد السماء الثالثة). وروى أحمد أن رجلا من الأنصار قصير القامة جاء بالعباس أسيراً ، فقال العباس : ( يا رسول الله ، إن هذا والله ما أسرني ، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها ، على فرس أبلق ، ما أراه في القوم) ، فقال الأنصاري : (أنا أسرته يا رسول الله. فقال : (اسكت ، فقد أيدك الله تعالى بملك كريم). وروي الأموي أن الرسول صلى الله عليه وسلم خفق خفقة في العريش ثم انتبه ، فقال : ( أبشر أبا بكر ، أتاك نصر الله ، هذا جبريل معتجر بعمامة ، آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع ، أتاك نصر الله وعدته).

ورويت أحاديث في مشاركة الملائكة المسلمين يوم بدر ولم تصرح بالقتال. فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : (هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب) ، وقال في رواية أخرى : (جاء جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها – قال : وكذلك من شهد بدراً من الملائكة). وروى الحاكم أنه كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء معتجر بها ، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر.

لقد أكرم الله عباده المؤمنين يوم بدر ببعض الكرامات. فقد روى أن عكاشة بن محصن قاتل بسيفه يوم بدر حتى انقطع في يده ، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم جذلاً من حطب ليقاتل به ، فإذا هو في يده سيفاً طويلاً شديد المتن أبيض الحديدة ، فقاتل به يوم ذاك وفي المعارك الأخرى التي شهدها بعد ذلك ، وآخرها يوم اليمامة – أحد أيام حروب الردة – حين قتل شهيداً.

وعندما رأى إبليس – وكان في صورة سراقة بن مالك – ما تفعل الملائكة والمؤمنين بالمشركين ، فر ناكصاً على عقبيه ، حتى ألقى بنفسه في البحر.

مصرع الطغاة :

أ) أبو جهل : روى البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه قال : ( إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن ، فكأني لم آمن بمكانهما ، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه : يا عم ، أرني أبا جهل ، فقلت : يا ابن أخي ، فما تصنع به ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، فتعجبت لذلك. قال : وغمزني الآخر فقال لي مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس ، فقلت : ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه ، قال : فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيكما قتله ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته ، قال : هل مسحتما سيفكما ؟ فقالا : لا . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين ، فقال : كلاكما قتله ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء).

وروى ابن إسحاق ، من حديث معاذ بن الجموح أنه قال : ( سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة – أي الشجرة الكثيرة الأغصان - ، وهم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه ، قال : فلما سمعتها جعلته من شأني ، فصمدت نحوه ، فلما أمكنني حملت عليه ، فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه … وضربني ابنه عكرمة على عاتقي ، فطرح يدي ، فتعلقت بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه ، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي ، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها ، ثم مر بأبي جهل – وهو عقير – معوذ بن عفراء – فضربه حتى ثبته فتركه وبه رمق ، وقاتل معوذ حتى قتل).

وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عندما انجلت المعركة : ( من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد ، قال : أنت أبوجهل ؟ قال : فأخذ بلحيته ، قال : وهل فوق رجل قتلتموه أو رجل قتله قومه ؟ ) وفي رواية أحمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب مع ابن مسعود ليرى جسد أبي جهل ، وقال : ( كان هذا فرعون هذه الأمة ) . وفي رواية ابن إسحاق إن أبا جهل قال لابن مسعود عندما جثا عليه : (لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم).

ب) أمية بن خلف : تمكن عبد الرحمن بن عوف من أسر أمية ، وعندما رآه بلال معه ، قال : ( رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا ) ،وحاول عبد الرحمن أن يثنيه عن عزمه فلم يستطع ، بل استنفر بلال الأنصار فلحقوا به معه وقتلوه على الرغم من أن ابن عوف ألقى عليه نفسه وأمية بارك.
وعندما طرح قتلى المشركين في القليب ، لم يطرح معهم ، لأنه انتفخ في درعه فملأها ، وعندما ذهبوا ليحركوه تفرقت أعضاؤه ، فتركوه في مكانه ، وألقوا عليه ما غيبه من الحجارة والتراب .

ج) العاص بن هشام بن المغيرة : كان العاص بن هشام بن المغيرة خال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولذا حرص عمر على قتله ، فقتله حتى يعلم أن ليس في قلبه ولاء إلا لله وحده.

لقد انجلت معركة بدر عن نصر كبير للمسلمين. إذ قتلوا سبعين من المشركين ، وأسروا سبعين ، ولم يقتل من المسلمين سوى أربعة عشر رجلا ، ستة من قريش وثمانية من الأنصار.




السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية دراسة تحليلية ، لمهدي رزق الله ، ص 337

د.فالح العمره
27-11-2006, 07:09 PM
تاريخ الغزوة:

وقعت هذه الغزوة في شوال سنة خمس كما قال ابن إسحاق ومن تابعه، وهو قول الجمهور، وقال الواقدي: إنها وقعت في يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة في العام الخامس الهجري، وقال ابن سعد: إن الله استجاب لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فهزم الأحزاب يوم أربعاء من شهر ذي القعدة سنة خمس من مهاجره. ونقل الزهري ومالك بن أنس وموسى بن عقبة أنها وقعت سنة أربع هجرية.



ويرى العلماء أن القائلين بأنها وقعت سنة أربع كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، فتكون غزوة بدر عندهم في السنة الأولى، وأحد في الثانية والخندق في الرابعة، وهو مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة. وجزم ابن جزم أنها وقعت سنة أربع لقول ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رده يوم أحد وهي في السنة الثالثة باتفاق وهو ابن أربع عشرة سنة. ولكن البيهقي وابن حجر وغيرهما فسروا ذلك بأن ابن عمر كان يوم أحد في بداية الرابعة عشرة ويوم الخندق في نهاية الخامسة عشرة وهو الموافق لقول جمهور العلماء.

سبب الغزوة:

لم تضع الحرب أوزارها بين مشركي مكة والمسلمين إلا بعد فتح مكة في العام الثامن الهجري، ولذا فمن البدهي أن تحاول قريش في كل مرة القضاء على قوة المسلمين التي ترى فيها تهديداً مستمراً لطرق قوافلها وخطراً على مكانتها بين العرب.

أرادت قريش في هذه المرة أن تحسم هذا الصراع مع المسلمين لصالحها، فحشدت له أكبر قوة ممكنة حيث لجأت إلى التحالف مع كل من له مصلحة في القضاء على المسلمين. ووجدوا أكبر ضالتهم في قريش، فقد التقت أهداف الفريقين، وهو القضاء على المسلمين.

كان أول ما فكر فيه زعماء بني النضير الذين خرجوا إلى خيبر أن يتصلوا بقريش والقبائل الأخرى للثأر لأنفسهم والطمع في العودة إلى ديارهم وأملاكهم في المدينة. فخرج وفد منهم إلى مكة ، منهم : سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق النضريون ، وهوذة بن قيس وأبو عمار الوائليان ، في نفر من بني النضير ونفر من بني وائل ، فدعوا قريشاً إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدهم بالقتال معهم ، حتى يستأصلوه ، وأفتوهم بأن دينهم خير من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنهم أولى بالحق منهم ، وفيهم أنزل الله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ). ثم اتجهوا بعد هذا إلى قبيلة غطفان النجدية الكبرى وأغروها بالتحالف معهم ومع قريش على حرب المسلمين، على أن يكون لهم نصف ثمر خيبر، إذا اشتركت معهم في الحرب، وكان وافدهم إلى غطفان كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فأجابه عيينة بن حصن الفزاري إلى ذلك.

وكتب المشركون إلى حلفائهم من بني أسد، فأقبل إليهم طلحة بن خويلد فيمن أطاعه، وخرج أبو سفيان بقريش ومن اتبعه من قبائل العرب، فنزلوا بمر الظهران، فجاءهم من أجابهم من بني سليم مدداً لهم بقيادة سفيان بن عبد شمس والد أبي الأعور وبنو مرة بقيادة الحارث بن عوف وأشجع بقيادة مسعر بن رخيلة ، فصاروا في جمع عظيم ، فهم الذين سماهم الله تعالى الأحزاب ، وذكر ابن إسحاق أن عدتهم عشرة آلاف بينما كان المسلمون ثلاثة آلاف.

تحرك هذا الجيش العرموم من مر الظهران في طريقة إلى المدينة. فنزلت قريش ومن سار معها بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجُرُف وغابة. ونزلت غطفان بذنب نقمي إلى جانب أحد، ونزل معهم بنوأسد.

فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له من الأمر ، استشار أصحابه ، وقد أشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق في المنطقة الوحيدة المكشوفة أمام الغزاة ، أما الجهات الأخرى فكانت كالحصن تتشابك فيها الأبنية وأشجار النخيل وتحيطها الحرات التي يصعب على الإبل والمشاة التحرك فيها.

ووافق الجميع على هذه الفكرة لعلمهم بكثرة الجموع القادمة لحربهم ، وشرعوا في حفر الخندق الذي يمتد من أجم الشيخين طرف بن حارثة شرقاً حتى المذاذ غرباً ، وكان طوله خمسة آلاف ذراع ، وعرضه تسعة أذرع ، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة. وكان على كل عشرة من المسلمين حفر أربعين ذراعاً ، والأنصار من حصن ذباب إلى جبل عبيد في الغرب.

وعمل المسلمون في الحفر على عجل، يبادرون قدوم القوم، وقد تراوحت مدة الحفر ما بين ستة أيام وأربعة وعشرين يوماً. فعند ابن عقبة استغرق قريباً من عشرين ليلة ، وعند الواقدي أربعاً وعشرين ليلة ، وفي الروضة للنووي خمسة عشر يوماً ، وعند ابن سعد ستة أيام.

وكان طعامهم القليل من الشعير يخلط بدهن متغير الرائحة لقدمه، ويطبخ فيأكلونه على الرغم من بشاعة طعمه في الحلق ورائحته المنتنة، وذلك لشدة جوعهم. حتى هذا لا يجدونه أحياناً فيأكلون التمر ، وأحياناً لا يجدون هذا ولا ذاك لمدة ثلاثة أيام متتالية ، إلى الحد الذي يعصب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بطنه بحجر من شدة الجوع.

وشارك جميع المسلمين في الحفر، لا فرق بين غني وفقير ومولى وأمير، وأسوتهم في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي حمل التراب حتى اغبر بطنه ووارى التراب جلده، وكان الصحابة يستعينون به في تفتيت الصخرة التي تعترضهم ويعجزون عنها، فيفتتها لهم. ويردد معهم الأهازيج والأرجاز لتنشيطهم للعمل ، فيقول :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا.......ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا...........وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الألى قد بغوا علينا.......وإن أرادوا فتنة أبينا

وكان يمد بها صوته بآخرها، ويرتجز المسلمون وهم يعملون:
(نحن الذين بايعوا محمداً..على الإسلام ما بقينا أبدا)
فيجيبهم بقوله:
(اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فبارك في الأنصار والمهاجرة). وربما يبدؤهم بقوله فيردون عليه بقولهم.

من دلائل النبوة أثناء حفر الخندق :

أجرى الله سبحانه وتعالى على يدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عدة معجزات أثناء حفر الخندق، ومن ذلك:

1- عندما لحظ جابر بن عبد الله رضي الله عنه ما يعانيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الجوع، استأذنه وذهب إلى زوجته وأخبرها بما رأى من المخمصة على الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منها أن تصنع له طعاماً، فذبح عناقاً له وطحنت زوجة صاعاً من شعير بقي لهما ، وصنعت برمة ، وذهب جابر فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطعام وساوره بكمية الطعام ، وانه طعيم يكفي لرجل أو رجلين ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم كل من كان حاضراً وعددهم ألف ، وتحير جابر وزوجته ، لكن النبي صل الله عليه وسلم بارك في البرمة ، فأكل منها كل الناس حتى شبعوا وتركوا فيها الكثير الذي أكل منه أهل جابر وأهدوا.

2- أخبر عمار بن ياسر، وهو يحفر معهم الخندق، بأن ستقتله الفئة الباغية، فقتل في صفين وكان في جيش علي.

3- وعندما اعترضت صخرة للصحابة وهو يحفرون ، ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات فتفتت. قال إثر الضربة الأولى : (الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ،والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة ، ثم ضربها الثانية فقال : الله أكبر ، أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض ، ثم ضرب الثالثة ، وقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة) .

وفي هذا الحديث بشارة بأن هذه المناطق سيفتحها المسلمون مستقبلاً ، وكان موقف المؤمنين من هذه البشارة ما حكاه القرآن الكريم (هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ) ، وموقف المنافقين الذين سخروا من البشارة : ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً).

وصورت الآيات من 13 إلى 20 من سورة الأحزاب نفسية المنافقين تصويرًا دقيقاً، وحكت أقوالهم في الإرجاف والتخذيل، وأساليبهم في التهرب من العمل في حفر الخندق وجهاد العدو.

وعلى الرغم من تخذيل المنافقين وقلة الطعام وشدة البرد فقد تم حفر الخندق ليكون خط دفاع متيناً ثم جمع النساء والأطفال وأصحاب الأعذار في حصن فارع ، وهو لبني حارثة ، لأنه كان أمنع حصون المسلمين آنذاك.

وكانت خطة المسلمين أن يكون ظهرهم إلى جبل سلع داخل المدينة ووجوههم إلى الخندق الذي يحجز بينهم وبين المشركين الذين نزلوا رومة بني الجرف والغابة ونقمى.

وعندما نظر الرسول صلى الله عليه وسلم في حال العدو وحال المسلمين ورأى ضعف المسلمين وقوة المشركين ، أراد أن يكسر شوكة المشركين ، فبعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة زعيمي الأنصار ، فاستشارهما في الصلح الذي عرضته عليه قبيلة غطفان ، وهو أن يعطوا ثلث ثمار المدينة لعام كي ينصرفوا عن قتال المسلمين ، ولم يبق إلا التوقيع على صحيفة الصلح ، فقال له : (لا والله ما أعطينا الدنية من أنفسنا في الجاهلية فكيف وقد جاء الله بالإسلام). وفي رواية الطبراني أنهما قالا: (يا رسول الله: أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك أو هواك ؟ فرأينا تبع هواك ورأيك، فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا، فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى). فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاوضة مع الأعراب الذين كان يمثلهم الحارث الغطفاني، قائد بني مرة.

وفي الجانب الآخر أراد يهود بني النضير أن يجروا معهم إخوانهم يهود بني قريظة إلى نقض العهد والغدر بالمسلمين والوقوف مع الأحزاب. فأوفدوا حيياً ابن أخطب للقيام بهذه المهمة. فجاء حيي إلى كعب بن أسد القرظي. وبعد حوار طويل بينهما أقنعه بنقض العهد مع المسلمين بحجة قوة الأحزاب ومقدرتهم على استئصال المسلمين ، وأغراه بأن يدخل معه حصنه عندما ينصرف الأحزاب ، بعد أداء مهمتهم.

وكان يوما عصيباً من الدهر ، ذلك اليوم الذي علم فيه المسلمون نقض بني قريظة ما بينهم وبين المسلمين من عهد. وتكمن خطورة ذلك في موقعهم الذي يمكنهم من تسديد ضربة غادرة للمسلمين من الخلف. فقد كانت ديارهم في العوالي، إلى الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور.

لقد أتاه الزبير بما يدل على غدرهم، ويومها قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (فداك أبي وأمي، إن لكل نبي حوارياً ، وحواري الزبير).

لزيادة الحيطة والحذر والتأكد من مثل هذه الأمور الخطيرة ، أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير ، فجاءوا إلى بني قريظة وتحدثوا معهم ، ووجدوهم قد نكثوا العهد ومزقوا الصحيفة التي بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بني سعية ، فإنهم جاؤوا إلى المسلمين وفاء بالعهد. وعاد رسل المسلمين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالخبر اليقين.

وعندما شاع هذا الخبر خاف المسلمون على ذراريهم من بني قريظة، ومروا بوقت عصيب وابتلاء عظيم. ونزل القرآن واصفاً هذه الحالة: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً).

فالذين جاؤوهم من فوقهم هم الأحزاب، وبنو قريظة من أسفل منهم، والذين ظنوا بالله الظنونا هم المنافقون. أما المؤمنون فقد صمدوا لهذا الامتحان. واتخذوا كل الوسائل الممكنة لاجتياز الامتحان، فنظموا فرقاً للحراسة، فكان سلمة بن أسلم الأوسي أمير لمائتي فارس وزيد بن حارثة أمير لثلاثمائة فارس ، يطوفون المدينة ويكبرون لإشعار بني قريظة باليقظة حتى لا تحدثهم أنفسهم بأن يغدروا بالذرية التي في الحصون.

عندما وصلت الأحزاب المدينة فوجئوا بوجود الخندق ، فقاموا بعدة محاولات لاقتحامه ، ولكنهم فشلوا لأن المسلمين كانوا يمطرونهم بوابل سهامهم كلما هموا بذلك ، ولذا استمر الحصار لمدة أربع وعشرين ليلة.

وذكر ابن إسحاق وابن سعد أن بعض المشركين اقتحموا الخندق ، وعد ابن إسحاق منهم : عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب والشاعر بن مرداس ، وزاد ابن سعد واحدا على هؤلاء وهو : نوفل بن عبد الله. وذكر أن عليا بارز عمرو بن عبد ود – فارس قريش – وقتله ، وأن الزبير قتل نوفلاً وأن ثلاثة الآخرين فروا إلى معسكرهم.

وظلت مناوشات المشركين للمسلمين وتراشقهم معهم بالنبل دون انقطاع طيلة مدة الحصار ، حتى إنهم شغلوا المسلمين يوماً عن أداء صلاة العصر ، فصلوها بعد الغروب ، وذلك قبل أن تشرع صلاة الخوف ، حيث شرعت في غزوة ذات الرقاع على رأي من يرى أن ذات الرقاع كانت بعد غزوة الخندق.

وقتل في هذه المناوشات ثلاثة من المشركين واستشهد ستة من المسلمين منهم سعد بن معاذ ، الذي أصيب في أكحله – عرق في وسط الذراع – رماه حبان بن العرِقة. وقد نصبت له خيمة في المسجد ليعوده الرسول صلى الله عليه وسلم من قريب ، ثم مات بعد غزوة بني قريظة ، حين انتقض جرحه وكانت تقوم على تمريضه رفيدة الاسلمية.

وكان شعارأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وبني قريظة ( حم ، لا ينصرون).

لقد كفى الله المؤمنين القتال فهزم الأحزاب بوسيلتين : الأولى : تسخير الله نعيم بن مسعود ليخذل الأحزاب ، والثانية : الرياح الهوجاء الباردة.

1- دور نعيم بن مسعود :

روى ابن إسحاق والواقدي وعبدالرزاق وموسى بن عقبة أن نعيم بن مسعود الغطفاني ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما وعرض عليه أن يقوم بتنفيذ أي أمر يريده النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : (إنما أنت رجل واحد فينا ، ولكن خذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة ).

وقبل أن يعرف إسلام نعيم ، أتى بني قريظة ، فأقنعهم بعد التورط مع قريش في قتال حتى يأخذوا منهم رهائن ، لكيلا يولوا الأدبار ، ويتركوهم وحدهم يواجهون مصيرهم مع المسلمين بالمدينة. ثم أتى قريشا فأخبرهم أن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوا ، وأنهم قد اتفقوا سرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يختطفوا عددا من أشراف قريش وغطفان فيسلموهم له ليقتلهم دليلا على ندمهم ، وقال لهم : فإن أرسلت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فإياكم أن تسلموهم رجلا منكم. ثم أتى غطفان وقال لهم مثل الذي قاله لقريش. وبذلك زرع بذور الشك بينهم. وأخذ كل فريق يتهم الفريق الآخر بالخيانة.

2- معجزة الرياح :

هبت ريح هوجاء في ليلة مظلمة باردة ، فقلبت قدور المشركين واقتلعت خيامهم وأطفأت نيرانهم ودفنت رحالهم ، فما كان من أبي سفيان إلا أن ضاق بها ذرعا فنادى في الأحزاب بالرحيل. وكانت هذه الريح من جنود الله الذين أرسلهم على المشركين ، وفي ذلك يقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا).

وروى مسلم بسنده عن حذيفة بن اليمان طرفا مما حدث في تلك الليلة الحاسمة ، قال حذيفة : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب ، وأخذتنا ريح شديدة وقر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا رجل يأتني بخبر القوم ، جعله الله معي يوم القيامة) ، فسكتنا فلم يجبه منا أحد ، … (ردد ذلك ثلاثا) ثم قال : ( قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ) ، فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال : ( اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي ) . فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام ، حتى أتيتهم ، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار ، فوضعت سهما في كبد القوس ، فأردت أن أرميه ، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ولا تذعرهم علي) ، ولو رميته لأصبته ، فرجعت ، وأنا أمشي في مثل الحمام. فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها. فلم أزل نائما حتى أصبحت فقال : قم يا نومان).

وزاد ابن إسحاق في روايته لهذا الخبر : (… فدخلت في القوم ، والريح جنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا إناء ولا بناء ، فقام أبو سفيان ، فقال : يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه ؟ فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جانبي فقلت له : من أنت ؟ قال : فلان بن فلان. ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون … فارتحلوا فإني مرتحل). وفي رواية الحاكم والبزار : ( … فانطلقت إلى عسكرهم فوجدت أبا سفيان يوقد النار في عصبة حوله ، قد تفرق الأحزاب عنه ، حتى إذا جلست فيهم فحسب أبو سفيان أنه دخل فيهم من غيرهم ، قال : ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه ، فضربت بيدي على الذي على يميني وأخذت بيده ، ثم ضربت بيدي على الذي عن يساري فأخذت بيده ، فلبثت هنيهة ، ثم قمت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم … قلت: يا رسول الله : تفرق الناس عن أبي سفيان فلم يبق إلا عصبة توقد النار قد صب الله عليه من البرد مثل الذي صب علينا ولكنا نرجو من الله ما لا يرجون).

وختم الله هذا الامتحان الرهيب بهذه النهاية السعيدة ، وجنب المسلمين شر القتال ، قال تعالى معلقا على هذه الخاتمة : ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خير وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا). وكانت هذه الخاتمة استجابة لضراعة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله أثناء محنة الحصار : (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وزلزلهم).

لقد بذلت الأحزاب أقصى ما يمكنهم لاستئصال المسلمين ، ولكن الله ردهم خائبين ، وهذا يعني أنهم لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئا في المستقبل ، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (الآن نغزوهم ولا يغزوننا ، نحن نسير إليهم) ؛ هذا علم من أعلام النبوة ، لأن الذي حدث بعد هذا هو ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم.

حكم وعبر في غزوة الخندق:

1- إن حفر الخندق يدخل في مفهوم المسلمين لقوله تعالى : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) فينبغي على المسلمين اتخاذ وسائل القوة المتاحة مهما كان مصدرها ، لأن الحكمة ضالة المؤمن ، فحيثما وجدها التقطها.

2- لقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للحكام والمحكومين في العدالة والمساواة وعدم الاستئثار بالراحة يوم وقف جنبا إلى جنب مع أفراد جيشه ليعمل بيده في حفر الخندق. وهذه هي صفة العبودية الحقة التي تجلت في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم.

3- أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا آخر على رأفته بالمؤمنين ، يوم شاركهم في حفر الخندق ويوم أشركهم معه في طعيم جابر ، ولم يستأثر به مع قلة من الصحابة. وفي ضوء هذه المعاني يفهم قول الله تعالى : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).

4- إن مجموعة المعجزات التي أجرها الله على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أيام الخندق ، سواء التي كانت في حفر الخندق أو تكثير طعيم جابر أو الرياح التي كانت نقمة على المشركين ، لهي مجموعة أخرى في سلسلة المعجزات الكثيرة التي أيد الله بها نبيه ، ليقطع الحجة لدى المعاندين من المنافقين والمشركين وكل صنف من أصناف أعداء الدين.

5- إن الحكمة في استشاراته لبعض أصحابه في الصلح الذي اقترحته غطفان على الرسول صلى الله عليه وسلم ، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يطمئن إلى مدى ما يتمتع به أصحابه من القوة المعنوية والاعتماد على نصر الله وتوفيقه على الرغم من ذلك الذي فوجئوا به من اجتماع أشتات المشركين عليهم في كثرة ساحقة ، إلى جانب خذلان بني قريظة للمسلمين ونقض مواثيقهم معهم.

6- وأما الدلالة التشريعية في هذه الاستشارة ، فهي محصورة في مجرد مشروعية مبدأ الشورى في كل ما لا نص فيه. وهي بعد ذلك لا تحمل أي دلالة على جواز صرف المسلمين أعداءهم عن ديارهم إذا ما اقتحموها ، باقتطاع شيء من أرضهم أو خيراتهم لهم. إذ إن مما هو متفق عليه في أصول الشريعة الإسلامية أن الذي يحتج به من تصرفاته صلى الله عليه وسلم إنما هو أقواله ، وأفعاله التي قام بها ، ثم لم يرد اعتراض عليها من الله في كتابة العزيز.

وليس في هذه الاستشارة دليل على جواز دفع المسلمين الجزية إلى أعدائهم. أما إذ ألجئوا إلى اقتطاع جزء من أموالهم فعليهم التربص بأعدائهم لاسترداد حقهم المسلوب.

7- عندما شغل المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة، صلوها قضاء بعد المغرب ، وفي هذا دليل على مشروعية قضاء الفائتة.



السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله ، ص 443

الجنادري
27-11-2006, 07:44 PM
فالح يذكرونك أبو بدر

جزاك الله كل خير على مانقلت

وجعل ما نشرته في ميزان حسناتك

والله لا يهينك على كل حال

تقبل مروري

د.فالح العمره
28-11-2006, 10:11 AM
يا مرحبابك اخي افاضل

ولا هنت على حضورك

د.فالح العمره
28-11-2006, 07:06 PM
دفن قتلى المشركين في القليب :

روى البخاري ومسلم وأحمد وابن إسحاق وغيرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث

وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفة الركية فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : ( يا فلان ابن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ ) فقال عمر : ( يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم).

وعندما ألقوا في القليب ، وفيهم عتبة بن ربيعة ، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجه ابنه أبي حذيفة ، فإذا هو كئيب قد تغير لونه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء ) ، فقال : لا والله يا رسول الله ، ما شككت في أبي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر ، بعد الذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك. فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيراً.

وبعد نهاية المعركة وانتصار المسلمين وأخذ الأسرى ، قيل للرسول صلى الله عليه وسلم : (عليك بالعير ، ليس دونها شيء). فناداه العباس أن ذلك لا يصلح له ، قال : ( ولم ؟ ) قال : لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك.

الغنائم :
وقع خلاف بين المسلمين حول الغنائم ، لأن حكمها لم يكن قد شرع يومذاك. وقد حكى عبادة بن الصامت ما حدث ، قائلا : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا. فالتقى الناس ، فهزم الله تبارك وتعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم ، يهزمون ويقتلون ، وأكبت طائفة على المعسكر يحوونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، فنحن نفينا عنها العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا ، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة ، واشتغلنا به ، فنزلت : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فُوَاق المسلمين – أي بالتساوي.

ومما يدل على أن الغنائم قد خمست ووزعت على المشاركين فيها ما رواه البخاري عن علي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه مما أفاء الله عليه من الخمس يومئذ.

وقد أسهم الرسول صلى الله عليه وسلم لتسعة من الصحابة لم يشهدوا بدرا لأعمال كلفوا بها في المدينة أو لأعذار مباحة ، منهم عثمان بن عفان ، لأنه كان يمرض زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان تقسيم الغنائم في منطقة الصفراء في طريق العودة إلى المدينة وأخذت الأسرى إلى المدينة. وقد أرسل زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة ليزفا البشرى إلى أهل المدينة. وقد تلقوا النبأ بسرور بالغ مشوب بالحذر من أن لا يكون مؤكداً ، قال أسامة بن زيد : فوالله ما صدقت حتى رأينا الأسارى . ودهشت سودة رضي الله عنها عندما رأت سهيل بن عمرو ويداه معقودتان إلى عنقه بحبل فقالت : أبا يزيد ، أعطيتم بأيديكم ، ألا متم كراما !! ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أعلى الله وعلى رسوله) ؟ !! أي تؤلبين – فقالت : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ما ملكت حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بالحبل أن قلت ما قلت.

الأسرى :
استشار الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة في أمر الأسرى. فأشار أبوبكر بأخذ الفدية منهم بحجة أن في ذلك قوة للمسلمين على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم للإسلام. ورأى عمر قتلهم ، لأنهم أئمة الكفر. ومال الرسول صلى الله عليه وسلم لرأي أبي بكر. فنزل القرآن موافقا لرأي عمر ، وهو قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم ، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) إلى قوله تعالى : {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا}.

وكان أخذ الفداء حلالا في أول الإسلام، ثم جعل فيما بعد الخيار للإمام بين القتل أو الفداء أو المنّ ما عدا الأطفال والنساء ، إذ لا يجوز قتلهم ، ما داموا غير محاربين. قال تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها}.

وقد تباين فداء الأسرى. فمن كان ذا مال أخذ فداؤه أربعة آلاف درهم. وممن أخذ منه أربعة آلاف درهم أبو وداعة. وأخذوا من العباس مائة أوقية. ومن عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية ، ودفعها عنه العباس ، وأخذوا من آخرين أربعين أوقية فقط.

وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم سراح عمرو بن أبي سفيان مقابل أن يطلقوا سراح سعد بن النعمان بن أكال ، الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر.

ومن لم يكن لديهم مقدرة على الفداء ، وكانوا يعرفون الكتابة ، جعل فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة. فقد روى أحمد عن ابن عباس ، قال : ( كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة ، فجاء غلام يوما يبكي إلى أبيه ، فقال : ما شأنك ؟ قال: ضربني معلمي ، قال : الخبيث ! يطلب بذحل بدر ! – أي بالثأر والعداوة - والله لا تأتيه أبدا) .

وكانوا يقبلون من بعض الأسارى ما عندهم إذا تعذر المفروض ، فقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة لها لتفدي زوجها أبا العاص بن الربيع ، فردوها لها ، وأطلقوا لها أسيرها لمكانتها عند والدها محمد صلى الله عليه وسلم ، وبهذا كان ابن الربيع ممن أطلق بدون فداء ، وأطلق الرسول صلى الله عليه وسلم من لم يقدر على الفداء بأي شكل من الأشكال ، منهم : المطلب بن حنطب المخزومي وصيفي بن أبي رفاعة وأبو عزة الشاعر.

ومما يدل على أنه كان بالإمكان إطلاق سراحهم جميعا بدون فداء ، قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له). وذلك لما قام به من حماية للرسول صلى الله عليه وسلم عندما عاد من هجرته إلى الطائف ، ودوره في تمزيق صحيفة المقاطعة.

وعندما استأذن رجال من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم في ترك فداء العباس قال : ( والله لا تذرون منه درهما ) وذلك على الرغم من أن العباس ذكر أنه كان مسلما وأنه خرج مستكرها.

وفي طريق العودة إلى المدينة ، قتل النضر بن الحارث بمنطقة الصفراء – قتله علي – وقتل عقبة بن أبي معيط بمنطقة عرق الظبية – قتله عاصم بن ثابت ، ويقال : قتله علي. وذلك لعدواتهما الشديدة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتلك نهاية الجبروت والشجاعة الزائفة. فقد رأينا عقبة ، لصيق قريش ، واليهودي الأصل ، يعود إلى حقيقته عندما قال للرسول صلى الله عليه وسلم مسترحما : ( من للصبية يا رسول الله ؟ فأجابه : النار) .

أما بقية الأسرى فقد استوصى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم خيراً ، فقد حكى أبو عزيز – شقيق مصعب بن عمير – وهو بين رهط من آسريه الأنصار – أن آسريه كانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوه بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسرى ، حتى ما تقع في يد أحد هم خبزة إلا ناوله إياها ، فيستحي فيردها على أحدهم ، فيردها عليه ما يمسها.

وأسلم كثير من هؤلاء الأسرى على فترات مختلفة قبل فتح مكة وبعدها ، منهم : العباس ، عقيل بن أبي طالب ، نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، خالد بن هشام ، عبد الله بن السائب ، المطلب بن حنطب بن الحارث ، أو وداعة الحارث بن صبيرة ، الحجاج بن الحارث بن قيس ، عبد الله بن أبي خلف ، وهب بن عمير ، سهيل بن عمرو ، عبد بن زمعة ، قيس بين السائب ، نسطاس مولى أمية بن خلف ...

كانت موقعة بدر ذات أثر كبير في إعلاء شأن الإسلام ، ولذا سميت في القرآن بيوم الفرقان. وأوضحت الأحاديث فضل البدريين وعلو مقامهم في الجنة. فقد عقد البخاري بابا في فضل من شهدها. وفيه قصة حارثة بن سراقة الذي أصابه سهم طائش يوم بدر ، وهو غلام ، وجاءت أمه تسأل عن مصيره يوم القيامة ، فبشرها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن له جنانا كثيرة وأنه في جنة الفردوس.

وفيه قصة حاطب بن أبي بلتعة الذي أرسل إلى قريش يخبرهم بنية الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، فكشفه الوحي ، وعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال لعمر حين طالب بقتله : ( لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ، أو فقد غفرت لكم). ولما قال عبد من عبيد حاطب : ( يا رسول الله ، ليدخلن حاطب النار) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كذبت ، ولا يدخلها ، فإنه شهيد بدرا والحديبية ).

وكان لبدر الأثر العميق في المدينة وبقية حواضر وبوادي الجزيرة العربية ، وكان لبدر الأثر العميق في المدينة على اليهود وبقايا المشركين. فانخذل اليهود ، وجاهروا بالعداوة مما كان سببا في إجلاء بني قينقاع عن المدينة.
وأسلم من زالت الغشاوة عن عينيه ، ونافق من أضله الله حفاظا على مصالحة الخاصة ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول ، الذي قال حينذاك : ( هذا أمر قد توجه – أي استقر- فلا مطمع في إزالته ).

أحكام وحكم من غزوة بدر :

لقد تضمنت أحداث عزوة بدر أحكاماً وحكما كثيرة ، من أهمها :

1-جواز النكاية بالعدو ، بقتل رجالهم وأخذ أموالهم وإخافة طرقهم التي يسلكونها ، لما في ذلك من إضعافهم معنويا واقتصاديا.

2-جواز استخدام العيون لكشف أحوال العدو وإفشال خططه.

3-تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على مبدأ الشورى لأهل الحل والعقد وعامة المسلمين ، وقد وردت أدلة على حجية الشورى في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وسنة الخلفاء الراشدين.

4-جواز المبارزة بإذن الأمير ، وهذا قول عامة أهل العلم.

5-المساواة بين الجندي وقائده في السلم والحرب سواء ، وقد اتضح ذلك من قصة سواد مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ كشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليقتاد منه سواد.

6-جواز فداء الأسارى أو المن عليهم.

7-لا حرج من قتل الأسير قبل أن يصل إلى يد الإمام ، كما فعل بلال ومن معه من الأنصار عندما قتلوا أمية بن خلف وهو في أسر عبد الرحمن بن عوف.

8-أحلت الغنيمة لهذه الأمة ، وقسمتها على المقاتلين بعد تخميسها.

9-من قتل قتيلا فله سلبه ، على شرط : أن يكون المقتول من المقائلة وليس ممن نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتلهم ، وهم النساء والصبيان والشيوخ الفانون … إلخ ، وأن يكون في المقتول منفعة وغير مثخن بالجراح ، أن يقتله أو يثخنه بجراح تجعله في حكم المقتول ، وأن يقرر بنفسه في قتله فأما إن رماه بسهم من صف المسلمين فقتله فلا سلب له.

10-دلت واقعة قضية الأسرى على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له أن يجتهد ، والذين ذهبوا إلى هذا استدلوا على ذلك بمسألة أسرى بدر. وإذا صح للرسول صلى الله عليه وسلم أن يجتهد ، صح منه بناء على ذلك أن يخطئ في الاجتهاد ويصيب. غير أن الخطأ لا يستمر ، بل لا بد من أن تنزل آية من القرآن تصحح له اجتهاده ، فإذا لم تنزل آية فهو دليل على صحة اجتهاده صلى الله عليه وسلم.

11- الأصل أن يبذل المسلمون كافة جهودهم في الإعداد للمعركة وفي مجابهة العدو ، قال تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل …) ومع ذلك فان الله يؤيد جنده بخوارق لتعينهم على النصر ، إذا كانوا أهلاً له ، كما حصل بإمداد الملائكة في بدر ، وبأن غشى النعاس عيون المؤمنين ، وأنزل عليهم المطر.

12- نبه الله المؤمنين إلى حقيقة هامة وهي أن لا يجعلوا حب المال يسيطر عليهم عند النظر في قضاياهم الكبرى التي قامت على أساس النظرة الدينية وحدها ، مهما كانت الحال والظروف ، ولذا عالج الله تجربة رؤية الغنائم مع الحاجة والفقر واختلافهم فيها ، ومسألة الأسرى ، بوسائل تربوية دقيقة ، كما في قوله تعالى : (يسألونك عن الأنفال ، قل الأنفال لله والرسول ، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم …)،و ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى … تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة…).

13- إن أهل بدر مغفور لهم يوم القيامة ، أما أحكام الدنيا فإنها تؤخذ منهم ، ويعاقبون عليها إن أتوها كما وقع لقدامة بن مظعون ، عندما حد في الخمر.

14- إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء المعركة أن يقيم في العرصة – مكانها – ثلاثة أيام.

15- السنة في الشهداء أن يدفنوا في مضاجعهم ، كما حدث لشهداء بدر وأحد ولا يصلي عليهم كما ثبت بالنسبة لشهدا أحد ، ولم يذكر أنه صلى على شهداء بدر.

16- لقد تجلت في بدر بطولات إيمانية كثيرة : على سبيل المثال ما روي من أن أبا عبيدة عامر بن الجراح قتل والده الجراح يوم بدر. فقد جعل والد أبي عبيدة يتصدى لابنه أبي عبيدة يومذاك فيحيد عنه الابن ، فلما أكثر قصده قتله ، فنزلت الآية : (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله…).

وروى ابن إسحاق من حديث أبي عزيز بن عمير ، قال : مر بي أخي معصب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني ، فقال : شد يديك به فإن أمه ذات متاع ، لعلها تفديه منك ! … وزاد ابن هشام على هذه الرواية فقال : فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليسر ، وهو الذي أسره ، ما قال ، قال له أبو عزيز : يا أخي ، هذه وصاتك بي ! فقال له مصعب : إنه أخي دونك.

السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية للدكتور مهدي رزق الله ، ص355
|

سهيل الجنوب
25-10-2010, 01:06 PM
موضوع قيم بارك الله فيك اخي الفاضل الدكتور فالح العمره على ما اسهبت من طرح